المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهات النقلية والاجتهادية - ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

- ‌مقدمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

- ‌ السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

- ‌ السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

- ‌حقيقة النفس الإنسانية

- ‌تمهيد:

- ‌ الإرادات والغايات:

- ‌ الأسباب والوسائط

- ‌ الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

- ‌الخاتمة

- ‌حقيقية الإيمان الشرعية

- ‌المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

- ‌المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

- ‌الباب الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌الفتنة الأولى

- ‌براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

- ‌الفتنة الثانية

- ‌الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

- ‌توطئة:

- ‌البدايات والأصول

- ‌أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌الأثر المنطقي

- ‌حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

- ‌الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

- ‌العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

- ‌توطئة:

- ‌الإيمان حقيقة مركبة

- ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

الفصل: ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

‌الشبهات النقلية والاجتهادية

يستدل المرجئة - قدماؤهم ومعاصروهم - على أن العمل ليس من الإيمان، وأن تركه بالكلية لا ينفى الإيمان بالكلية، بشبهات نقلية وآراء اجتهادية استنباطية، سبق إيراد بعضها ضمن ما نقلنا من كلامهم.

وبالرغم من الرد العام المؤصل على مذهبهم، من خلال بيان علاقة العمل بالإيمان فإن مناقشة هذه الشبهات تفصيلا ضرورية لأسباب منها:

1-

بيان أن مذهب السلف محكم لا مطعن فيه ولا ثغرة لناقد، فهو يجمع الأدلة كلها ولا يعارض نصا صحيحاً قط.

2-

بيان أن مذهب المرجئة من جهة كونه توفيقياً - كما سبق - يجتزئ من نصوص الإيمان ما يراه موفقاً لأصوله، التي يكون أكثرها مقرراً من غير اعتماد على النصوص فى الأصل، ويلبس بذلك على المناظر مدعياً أنه مذهب أهل الحق والسنة.

فإذا ما ناقشنا هذه الأدلة، وأخرجنا منها الباطل المكذوب، ورددنا الصحيح إلى موضعه، من بناء مذهب السلف المحكم المتسق، زالت كل شبهة، وقامت الحجة بإذن الله تعالى.

وأصل الشبهات النقلية عند المرجئة، هو وقوع الجهل والخطأ فى الاستدلال بالنصوص، من جهتين:

أولا: من جهة الثبوت:

افترى وضاعوا المرجئة أحاديث وضعوها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤيد مذهبهم، وقد كشف ذلك علماء الحديث والرجال المتخصصون، وبالجملة فكل حديث ينفى ما سبق نقل الإجماع عليه، من أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص فهو موضوع ولا حاجة للبحث فى سنده (1) . وهذه أمثلة يقاس عليها ما وراءها:

(1) ومن أراد التفصيل فليراجع كتب الموضوعات "كتاب الإيمان" من كل منها.

ص: 499

1-

الحديث المروى عن أبى سعيد الخدرى قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن، فارقوا دين الله، وانتحلوا الكفر، وخاضوا فى الله، طهر الله الأرض منهم، ألا ولا صلاة لهم، ألا ولا صوم لهم، ألا ولا زكاة لهم، ألا ولا حج لهم، ألا ولا بر لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله براء منهم".

فهذا الحديث وضعه أحد المرجئة من أصحاب الرأي، يدعى "محمد بن القاسم الطاياكاني"، قال عنه ابن حبان:"يأتى من الأخبار ما تشهد الأمة على بطلانها وعدم الصحة فى ثبوتها" وأورد هذا الحديث مثالا لذلك (1) .

2-

الحديث المروى عن أبى هريرة رضى الله عنه " أن وفد ثقيف جاءوا النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد وينقص؟ فقال لا، زيادته كفر ونقصانه شرك"(2) .

فهذا الحديث وضعه "الحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي" قال عنه ابن حبان: وكان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها وهو من كبار أصحاب الرأى أيضاً، والعجيب أن أحد أصحاب الرأى سرقه من أبى مطيع وادعاه لنفسه وهو المدعو:"عثمان بن عبد الله المغربى الأموى".

فقد روى عن حماد بن سلمه عن أبى المهزم عن أبى هريرة قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله جئناك نسألك عن الإيمان، أيزيد أو ينقص؟ قال: الإيمان مثبت فى القلوب كالجبال الرواسى، وزيادته ونقصانه كفر".

قال ابن حبان: (وهذا شئ وضعه أبو مطيع البلخى على حماد بن سلمة، فسرقه هذا الشيخ وحدث عنه" (3) .

ومما يدل على أمانة شارح الطحاوية، العلامة على بن على بن محمد بن أبى العز رحمه الله، وتجرده عن الهوى والتعصب، أنه مع كونه حنفيا قد بين بطلان هذا الحديث نقلا عن شيخه المحدث الحافظ ابن كثير، وبين فيه علة

(1) كتاب المجروحين، ابن حبان (2/311) .

(2)

المصدر السابق (1/250) .

(3)

كتاب المجروحين (2/103) .

ص: 500

أخرى غير أبى المطيع، وهو أبو المهزم الذى قال عنه شعبة:"لو أعطوه فلسين - لحدثهم - سبعين حديثاً "(1) .

3-

الحديث المروى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان قول، والعمل شرائعه، لا يزيد ولا ينقص".

فهذا الكلام وضعه أحمد بن عبد الله المعروف بالجويبارى، قال عنه ابن حبان: "دجال من الدجاجلة، كذاب

"، وقال: "شهرته عند أصحاب الحديث قاطبة بالوضع على الثقات ما لم يحدثوا" (2) .

وقال الذهبى: "يضرب المثل بكذبه".

وقال: "قال ابن عدى: كان يضع الحديث لابن كرام على ما يريد، فكان ابن كرام يخرجها فى كتبه عنه"(3) .

وبهذا يتبين اشتراك المنتسبين إلى المرجئة الفقهاء، والمنتسبين إلى الكرامية فى هذه الصفة الشنيعة (4) .

ثانياً: من جهة الفهم والاستنباط:

بغض النظر عن سوء القصد، واتباع الهوى، اللذين لا يخلو منهما مبتدع، نقول: إن الخطأ يمكن أن يقع فى فهم نصوص الإيمان من المرجئ وغير المرجئ، وذلك لسبب واقع فى مدلولات النصوص نفسها وفى مواردها.

وإيضاح ذلك أن الإيمان من حيث هو لفظ شرعى، ورد استعماله فى نصوص الشارع كثيرا جدا لا غرابة فى ذلك.

ومع هذه الكثرة تأتى النصوص فى الإيمان مرة مطلقة، ومرة مقيدة، وتطلق مرة على الإيمان الباطن، ومرة على الإيمان الظاهر، ومرة عليهما معا.

وتأتي في بيان الأحكام الدنيوية المترتبة على الإيمان من الحقوق والحدود دةن تعرض لحقيقته وعاقبته عند الله تعالى.

(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص321 - 322، تحقيق شعيب الأرناؤوط.

(2)

1/142) .

(3)

الميزان (1/106- 107)، وانظر عن الجويبارى: درء تعارض العقل والنقل (7/92) .

(4)

ومن الإنصاف أن نقول: إن بعض الوضاعين المنتسبين للسنة قد وضعوا أحاديث فى ذم المرجئة، أو رفعوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم بعض ما قاله علماء السلف عنهم، ولكن علماء الحديث بينوا ذلك، كما بينوا الآخر، سواء بسواء فجزاهم الله خيرا" على إنصافهم، وقيامهم بالقسط.

ص: 501

وتأتى أحيانا فى خطاب الوعيد والذم للدلالة على وجوب ترك المذموم، دون أن يكون المراد منها الأحكام التطبيقية

وهكذا مما هو ظاهر لمن جمع النصوص فى الإيمان من مصادرها الصحيحة.

فالإيمان له مبدأ وكمال وله ظاهر وباطن، وله أحكام دنيوية تترتب عليه، وله أحكام أخرى أخروية وكثيرا ما خلط الناس بين هذه الأمور، فجعلوا النصوص الدالة على أصل الإيمان ومبدئه (كالآيات والأحاديث الدالة على أن القلب محل الإيمان، نحو حديث "التقوى هاهنا" فى موضع الإيمان الكامل المطلق، فقالوا: إن عمل الجوارح ليس من الإيمان، كله في القلب فقط.

أو جعلوا النصوص الدالة على بعض أحكام الإيمان الدنيوية فى موضع الإيمان من حيث حقيقته الشرعية، (كالنصوص الواردة فى كف اليد عمن أقر بالإسلام، أو أظهر بعض شعائره، وعصمة ماله ودمه بذلك أو الحكم له بالإسلام المقتضى ترتب حكم شرعى عليه، كحديث الجارية التي قال النبى صلى الله عليه وسلم لمولاها: أعتقها فإنها مؤمنة) .

أو جعلوا النصوص الواردة فى خطاب الذم والوعيد (كالأحاديث الواردة فى نفى الإيمان عن الزانى والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه وأمثالها) فى خطاب الأحكام التنفيذية كما فعلت الخوارج.

أو يقعون فى عكس ذلك، فيجعلون النصوص الواردة فى الأحكام فى موضع الذم والوعيد، كالنصوص الثابتة الصريحة في تكفير تارك الصلاة التي انعقد عليها إجماع الصحابة، لكن المرجئة جعلوها من قبيل الوعيد والتغليظ، فقالوا: إن التارك المصر الذي يعرض على السيف ويستتاب ثلاثة أيام، ثم يقتل ممتنعا عن أدائها - إنه مسلم يقتل حدا (1) .

وهكذا مما سبق إيراد كثير منه، فى نصوص المرجئة المنقولة سابقا.

فهذا الأصل العظيم، من فطن له واطلع على مذهب السلف، علم يقينا أنه المذهب الحق الذى لا تناقض فيه، ولا تعارض بين نص وآخر، وعلم كثيرا من أسباب وقوع الخلاف بين الناس فى الإيمان، وأنه لا مخلص له ولا لهم من الخطأ والتناقض، إلا باقتفاء أثر السلف الصالح في كل ذلك.

(1) ووافقهم على ذلك بعض الفقهاء، دون تفطن لأصل المسألة عند المرجئة.

ص: 502

وهذه أمثلة من النصوص أو الاستنباطات، التي استدل بها المرجئة على أن ترك العمل مطلقا لا ينافى الإيمان، وجواب أهل السنة والجماعة عنها:

1-

حديث جارية معاوية بن الحكم السلمى رضى الله عنه، الذى فيه: "كانت لى جارية ترعى غنما قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون، لكنى صككتها صكة (1) .

فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك على.

قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟

قال: ائتنى بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟

قالت: فى السماء.

قال: من أنا؟

قالت: أنت رسول الله.

قال: أعتقها فإنها مؤمنة؟ (2) .

ووجه الاستدلال أن النبى صلى الله عليه وسلم شهد لها بالإيمان دون أن يشترط العمل، فالإيمان يثبت بمجرد الإقرار، فهو قول فقط وليس قولا وعملا.

والجواب عن ذلك:

أن مورد الحديث وموضعه، هو بيان الحكم الدنيوى المترتب على الإيمان وليس بيان حقيقة الإيمان الشرعية، المبينة فى نحو قول الله تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(3)(الحجرات: 15) .

وفرق كبير بين أن يقول النبى صلى الله عليه وسلم عن أحد إنه مؤمن، بمعنى أنه داخل فى أحكام المؤمنين الظاهرة، من المناكحة، والتوارث وحل الذبيحة، والصلاة على

(1) أى لطمها على وجهها.

(2)

صحيح مسلم رقم (537) ، والمسند (5/447) ، والنسائى (2/14) ، وأبو داود رقم (930) ، طبعة الدعاس.

(3)

وقد جاءت الآية تكملة لإنكار الله تعالى على الأعراب فى دعوى أنهم مؤمنون وقوله (لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) لأنهم أرادوا حقيقة الإيمان فنفاها الله عنهم، وأثبت لهم الإسلام الذى يعنى مطلق الإيمان، لا الإيمان المطلق الحقيقى، والذى تترتب عليه الأحكام الظاهرة، وهو الوجه الصحيح فى الآية.

ص: 503

الجنازة، والأجزاء فى العتق، ونحو ذلك وبين أن يقول عن أحد إنه مؤمن، فى موضع الشهادة له بتحقيق الإيمان، واستكمال صفات المؤمنين، ولهذا أراد النبى صلى الله عليه وسلم سعد بن أبى وقاص حين قال له:"يا رسول الله، مالك عن فلان؟ (1) فوالله إنى لأراه مؤمنا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أو مسلما"، ثلاث مرات" (2) .

ومن المعلوم أن هذه الجارية ليست معدودة فى السابقين ولا من أفاضل الصحابة المشهود لهم بالإيمان، بل غاية ما دل عليه الحديث أنها مسلمة لا أكثر وهو الحكم الظاهر الذي يستحقه كل من أظهر الإيمان.

وقد دلت على هذا المعنى الروايات والأحاديث الأخرى فى هذه الجارية، أو جارية مثلها، فقد جاء الحديث عن أبى هريرة، والشريد بن سويد الثقفي، ورجل من الأنصار مبهم (3) ، وفى كل منها يسأله السائل قائلا إن علي - أو على أمى - عتق رقبة مؤمنة، ويستفتى النبى صلى الله عليه وسلم أهذه الجارية مؤمنة فيعتقها، أم أنها لا تجزئ؟ فيستجوبها النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: "أعتقها فإنها مؤمنة، أو أعتقها فقط، أى أنها تجزئ فى العتق.

ولهذا قال الإمام أحمد رضى الله عنه فى جواب هذا الحديث: ليس كل أحد يقول فيه: فإنها مؤمنة، يقولون: أعتقها.

قال: ومالك سمع من هذا الشيخ هلال بن على الدين لا يقول: فإنها مؤمنة، وقد قال بعضهم: فإنها مؤمنة، فهى حين تقر بذلك فحكمها حكم المؤمنة، هذا معناه (4) .

وقد علق الشيخ المحدث الألباني على كلام الإمام أحمد هذا، بأن الزيادة صحيحة فلا وجه للتردد فيها (5) ، وهذا صحيح، لكن مراد الإمام أحمد ليس تضعيف الرواية، وإنما هو إثبات خطأ المرجئة في الاستدلال بالحديث من جهتين:

أ- أن بعض الروايات ليس فيها القول بأنها مؤمنة، وهى رواية مالك - وهو من هو فى الحفظ والإتقان - وقد حصل بها الجواب كاملا، فالسائل سأل أتجزئ

(1)

أى لماذا لم تعطه كما أعطيت غيره؟

(2)

البخارى كتاب الإيمان (1/79) .

(3)

حديث أبى هريرة فى المسند (2/291) ، وحديث الشريد فى المسند (4/388، 389) ، والنسائى (6/252) وأخرجهما أبو داود فى موضع واحد مع حديث معاوية بن الحكم (3/587- 589) ، وحديث الرجل المبهم فى المسند (3/451) ، وسيأتى نصه.

(4)

الخلال، لوحة 97.

(5)

انظر تعليقه على كتاب "الإيمان" لابن تيمية، ص 243.

ص: 504

هذه الجارية فى العتق - المشروط فيه أن تكون الرقبة مؤمنة - فأجابه النبى صلى الله عليه وسلم بعد استجوابها بقوله: أعتقها، أي هي مجزئة، فالموضوع لا علاقة له ببيان حقيقة الإيمان الشرعى أصلا.

ب- أن بعض الروايات ورد فيها القول بأنها مؤمنة:

ومعنى ذلك أنها لما كانت مقرة بما سألها عنه فهى تأخذ حكم المؤمنين وهو العتق، لأن شرط الحكم يتحقق فيها وهو هذا الإيمان الذى يكفي لإجراء الأحكام الظاهرة على من جاء به، دون أن يعنى ذلك أنه محقق للإيمان الشرعى ظاهرا وباطنا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا لا حجة فيه، لأن الإيمان الظاهر الذى تجرى عليه الأحكام فى الدنيا، لا يستلزم الإيمان فى الباطن الذى يكون صاحبه من أهل السعادة فى الآخرة، فإن المنافقين الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين، هم فى الظاهر مؤمنون، يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "(1) .

وقال:"والله تعالى لما أمر فى الكفارة بعتق رقبة مؤمنة، لم يكن على الناس ألا يعتقوا إلا من يعلمون أن الإيمان فى قلبه، فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان فى قلبه، وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلا يظهر الإيمان جاز لهم عتقه.

وصاحب الجارية لما سأل النبى صلى الله عليه وسلم هل هى مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر، الذى يفرق بين المسلم والكافر.

وكذلك من عليه نذر، لم يلزمه أن يعتق (2) إلا من علم أن الإيمان فى قلبه، فإنه لا يعلم ذلك مطلقا، بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق والله يقول له:(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين)(التوبة: 101) .

(1)"الإيمان" ص197 - 198.

(2)

كذا، ولعله: ألا يعتق.

ص: 505

فأولئك إنما كان النبى صلى الله عليه وسلم يحكم فيهم كحكمه فى سائر المؤمنين، ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها، ولم يكن منهيا" عن الصلاة إلا على من علم نفاقه، وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم، وهذا لا يقدر عليه بشر"(1) .

ثم قال: "والمقصود أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر، الذى علقت به الأحكام الظاهرة، وإلا فقد ثبت عنه أن سعدا لما شهد لرجل أنه مؤمن قال: "أو مسلم؟ "، وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأمة وزيادة.

فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة، التي يحكم فيها الناس (2) فى الدنيا، وبين حكمهم فى الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمنا فى الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنا

ولهذا أكثر ما اشترط الفقهاء فى الرقبة التي تجزئ فى الكفارة العمل الظاهر، فتنازعوا هل يجزئ الصغير؟ على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن أحمد: لا يجزى عتقه، لأن الإيمان قول وعمل والصغير لم يؤمن بنفسه، إنما إيمانه تبع لأبويه فى أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم أنه مؤمن فى الباطن.

وقيل: بل يجزئ عتقه، لأن العتق من الأحكام الظاهرة وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما، ويصلى عليه، ولا يصلى إلا على مؤمن، فإنه يعتق" (3)

هذا وقد ذكر الخلال عن الإمام أحمد رواية أخرى فى الجواب عن هذا الحديث هى أنه "قال يوما، وذكر عنده هذا الحديث - يعنى حديث الجارية التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يحتجون به يعني المرجئة - وهو حجة عليهم يقولون: الإيمان قول، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يرض منها حتى قال: "تؤمنين بكذا، تؤمنين بكذا" (4) .

ولعل هذا الجواب ذكره الإمام عند ذكر الحديث الذى رواه فى المسند عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء، وقال: "يا رسول الله، إن عليَّ رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها؟

(1)"الإيمان" ص201- 202.

(2)

كذا، وصواب العبارة: التي يحكم بها الناس.

(3)

"الإيمان"، 203 - 204، ومما يدل لذلك أن أبا داود أورد الأحاديث الثلاثة فى كتاب الأيمان والنذور، لا فى كتاب الإيمان من سنته، لأن هذا هو موضعها.

(4)

لوحة 97.

ص: 506

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت نعم: قال: أتشهدين أنى رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال أعتقها"(1) .

ومعنى قول الإمام: إنه حجة عليهم، أن المرجئة كما هو معلوم تقول إن الإيمان شئ واحد، لا يزيد ولا ينقص، وفى الحديث سألها النبى صلى الله عليه وسلم عن أمور متعددة، فدل على أن الإقرار نفسه يتنوع ويتعدد، فهو متبعض، وكذلك الإيمان كله.

وعلى كلام المرجئة، كان يكفى النبى صلى الله عليه وسلم أن يسألها: هل أنت مؤمنة؟ فإذا قالت: نعم، قال: أعتقها، أو نحو ذلك من الأمثلة التي تدل على حصول مجرد الإقرار الذى هو شطر الإيمان عند بعض المرجئة، وشرط عند آخرين، ومجرد علامة عند أكثر المتأخرين - كما سبق تفصيله.

لكن لما كان الإيمان له أصل وكمال، وظهر منها ما يدل على أن عندها أصل الإيمان، الذى يكفى مثله للدخول فى الإسلام، ويتحقق به الحكم المسؤول عنه، حكم لها به صلى الله عليه وسلم.

فإذا كان هذا القدر من الإيمان يتنوع ويتعدد، فكيف باستكمال حقيقة الإيمان، الذى لم يقع عنه هنا سؤال ولا له جواب فى الحديث، ومعرفته تقتضى أن تمتحن فى جميع شعب الإيمان الواجبة، وأن يكون معلوما أن باطنها فى ذلك كظاهرها، وهذا هو المحال، كما سبق فى كلام شيخ الإسلام.

فظهر بذلك أن استدلال المرجئة به على أن حقيقة الإيمان هى مجرد التصديق والإقرار باطل، وأن الحديث حجة عليهم لا لهم.

وهذا الحديث وسائر الأحاديث المماثلة دليل على استجواب مجهول الحال، ليعلم أهو داخل فى أحكام الإسلام ويشمله اسم الإيمان أم هو كافر (2) .

ومعلوم لدى الفقهاء جميعا - السنى منهم والمرجئ - أن من أتى بمبدأ الإسلام، وهو الإقرار بالشهادتين، فقد أعلن دخوله فى الإسلام والتزامه بأحكامه، وهذا القدر الذى جاء به إنما هو ببعض الواجب عليه، ولهذا لابد له من الإتيان بالإيمان الواجب، أى عمل سائر شعب الإيمان الواجبة وأهمها الأركان الأربعة، ويجبر على ذلك عند الجميع، حتى إنه لو امتنع عن الصلاة مثلا، وأصر فإنه يقتل،

(1) المسند (3/451) .

(2)

انظر كلام الخطابى فى ذلك على سنن أبى داود، المختصر مع تهذيب ابن القيم الحديث رقم (893) .

ص: 507

إما كفرا على مذهب السلف، وإما حدا على مذهب المرجئة، ومن وافقهم من المتأخرين.

والسؤال: لو قدرنا أن تلك الجارية لم تلتزم بلوازم ذلك الإقرار، وأصرت على ترك الصلاة - مثلا - فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعها على ذلك الإقرار الأول ويسميها مؤمنة؟

إن هذا هو موضع النزاع فى قضية إثبات الإيمان لتارك العمل، وليس هو الكلام فى الحكم بإسلام من ظهر منه ما يدل على إسلامه.

نعم، هذا الحديث ونحوه، يصلح حجة على الخوارج القدماء والمعاصرين، الذين يشترطون للحكم لأحد بالإسلام شروطا خاصة، هى فى حقيقتها شروط لقبول توبة المرتد وإسلامه، لا للحكم بإسلام الكافر الأصلى، فضلا عن الحكم لمن يظهر الإسلام فى دار الإسلام، ولم يظهر منه ناقض لإسلامه، وذلك مبنى على نظرتهم فى أن الأصل فى الناس ابتداء هو الكفر، إلا من علموا هم إسلامه بيقين!!

بقى أن يقال:

إنه إن كان فى الحديث شبهة للمرجئة الفقهاء، فلا شبهة قط للمرجئة الغلاة من الجهمية والأشعرية والماتريدية، الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد تصديق القلب، وإن المصدق بقلبه ناج عند الله!!

بل هو حجة عليهم، فإن مجرد ذلك لا يترتب عليه أى حكم من أحكام الإيمان، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولو أن الكرامية استدلت به على مذهبها فى أن الإيمان هو النطق، لكان أقرب منهم، فكيف ونحن متفقون على بطلان مذهب الكرامية فظهر أن مذهبهم أشد بطلانا منه، (لا سيما وأن التصديق فى لغة العرب، إنما يطلق على من قال بلسانه: صدقت، أما مجرد انعقاد القلب على صحة أمر ما دون إظهار ذلك باللسان، فلا يسمى فى لغة العرب تصديقا" (1) .

(1) هناك جواب ثالث للإمام أحمد ذكره الخلال لوحة 97، وهو أنه يمكن أن يكون هذا قبل أن تنزل الفرائض، ولا أحسب هذا يصح عن الإمام، فإن الحديث فى المدينة قطعا"، والعتق نفسه هو من الأحكام، فكيف يقال إنه قبل نزولها؟!!

ص: 508

2-

حديث الجهنميين (أو حديث الشفاعة) :

وهو الحديث الوارد فى شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأمته، وتحنن الله تعالى عليهم بإخراج من كان فى قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأصرح لفظ استدلت به المرجئة فى إحدى روايات أبى سعيد الخدرى وهى "

فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما (1) فيلقيهم فى نهر من أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة فى حميل السيل

" (2) .

قال: فيخرجون كاللؤلؤ فى رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله (3) ، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه" (4) .

وهذه إحدى روايات مسلم للحديث، ولم ترد هذه اللفظة عند البخارى على كثرة رواياته له عن أبى سعيد وأنس وأبى هريرة، إلا أن الجملة الأخيرة وهى قول أهل الجنة: "أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه

" الخ، وردت فى إحدى رواياته عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد أيضا"(5) .

أما الإمام أحمد فقد رواه مختصرا ومطولا عن أبى هريرة وأنس وأبى سعيد وجابر وحذيفة (6) ، ولم ترد هذه اللفظة عنده إلا فى رواية عطاء بن يسار عن أبى سعيد أيضا.

ووجه الاستدلال منه:

أنه أخرج من النار قوما جاءوا بتصديق مجرد، لا عمل معه، فدل ذلك على أن العمل ليس ركنا فى الإيمان كما يقول أهل السنة والجماعة، إذ الركن لا يحتمل السقوط إلا بإنتفاء الحقيقة، وهؤلاء حقيقة الإيمان ثابتة لهم، بل قال قائل منهم: إن قلبه طافح بالإيمان (7) .

(1) أى فحما".

(2)

حميل السيل: ما يحتمله السيل من الغثاء والطين.

(3)

أى يقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله

كما بينتها روايات البخارى (13/422) .

(4)

مسلم رقم (302) .

(5)

البخارى (13/422) .

(6)

انظر المسند (2/276،534) عن أبى هريرة وأبى سعيد، و (3/56) عن أبى سعيد مختصرا"، (3/144) عن أنس، (3/325) عن جابر، (5/391،402) عن حذيفة مختصرا"، ورواية عطاء المذكور أخيرا" (3/94) .

(7)

وهو أبو حامد الغزالى وتبعه الزبيدى، شرح الإحياء (5/243) ، وقد قالها فيمن لم ينطق باللسان، أما من نطق وصدق، فقد جعل تكفيره هو مذهب المعتزلة.

ص: 509

والجواب على هذا الاستدلال يمكن من أوجه كثيرة نوجزها بالآتي:

أ- إن هذا الحديث من الأدلة على المرجئة فى زيادة الإيمان ونقصانه، وهم يؤولونه ولا يأخذون به فى ذلك فمن التحكم أن يردوا أول الحديث ويستدلوا بآخره، مع أن هذا الذى فى آخره ليس إلا فى رواية واحدة من رواياته.

فالمرجئة - كما سبق بيانه - تقول إن الإيمان شئ واحد لا يزيد ولا ينقص، وإن الإنسان يكون كامل الإيمان وإن لم يعمل خيرا" قط، والحديث يرد عليهم فى ذلك أصرح رد:

قال الإمام البخارى رحمه الله: "باب تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال (1) ".

وذكر سنده إلى أبى سعيد رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون فى نهر الحيا - أو: الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل"(2) .

وقال أيضا": "باب زيادة الإيمان ونقصانه

الخ ".

عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن شعيرة من خير، يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن ذرة من خير".

ثم ذكر أن فى رواية أخرى: "من إيمان "بدل "من خير"(3) .

وبهذا أيضا" استدل الإمام أبو بكر بن خزيمة على من يزعمون (أن الناس إنما يتفاضلون فى إيمان الجوارح، الذى هو كسب الأبدان، فإنهم زعموا أنهم متساوون فى إيمان القلب، الذى هو التصديق وإيمان اللسان الذى هو الإقرار)(4) .

ب- إن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة، بل هى مصرحة بأن الجهميين هم من أهل الصلاة ومن العاملين، فإذا ضممنا هذه الروايات إلى

(1) لاحظ هذه الكلمة فلها دلالتها عند البخارى المعروف بدقته فى تراجمه.

(2)

1/72) .

(3)

انظر: (1/103) .

(4)

التوحيد، ص294.

ص: 510

النصوص الصريحة فى تكفير تارك الصلاة، لم تنهض تلك الزيادة على معارضتها، فوجب أن تفهم كما تفهم الألفاظ المعارضة للأدلة الصحيحة الصريحة، مما هو معلوم في أبواب التعارض والترجيح والجمع.

أولا: من جهة الترجيح:

أن يقال: إن الروايات التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، أرجح من تلك، من حيث كثرتها وموافقتها للأصول القطعية في أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الإيمان قول وعمل.

فمثلا" رواية أبى هريرة عند البخاري هذا نصها:

"حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا"، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا (1) ، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة فى حميل السيل" (2)

فهذه رواية متفق عليها بين الشيخين، وفى رواية البخارى فى الأذان، يشترك سعيد بن المسيب سيد التابعين فى روايتها مع عطاء بن يزيد، ومن الاتفاق الحسن أن التابعى الراوى عن أبى هريرة، وهو عطاء بن يزيد، قال بعد تمام الحديث:

"وأبو سعيد الخدرى جالس مع أبى هريرة لا يغير عليه شيئا من حديثه - ورواية مسلم لا يرد عليه من حديثه شيئا - حتى انتهى إلى قوله (آخر الحديث) : هذا لك (3) ومثله معه، قال أبو سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا لك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: حفظت مثله معه ".

وفي رواية مسلم والبخاري في التوحيد حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل ومثله معه قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال ابو هريرة ما حفظت إلا قوله لك ذلك ومثله معه.. قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك لك وعشرة أمثاله.

(1) أى صاروا فحما، كما بينته الروايات الأخرى.

(2)

البخارى (11/445)(كتاب الرقاق) ، (13/420)(التوحيد) ، وكتاب الأذان، ومسلم رقم (299) .

(3)

الخطاب للرجل الذى هو آخر رجال الجنة دخولا" للجنة.

ص: 511

فهذا ما يرجح هذه الرواية، لاتفاق كلا الصحابيين عليها، وتصريح التابعى بأن أبا سعيد لم يغير، أو لم يرد على أبى هريرة إلا ما ذكر، فلديه زيادة علم ترجح روايته على رواية عطاء بن يسار بن أبى سعيد منفردا، لا سيما وقد شاركه فيها سعيد بن المسيب، كما فى رواية البخارى فى كتاب الأذان.

ومما يقويه أن رواية عطاء بن يسار نفسه عند البخارى، لم يرد فيها قوله "لم يعملوا خيرا قط وهذا لفظها:

"

فما أنتم بأشد لى مناشدة فى الحق قد تبين لكم، من المؤمن يومئذ للجبار (1) ، إذا رأوا أنهم قد نجوا، فى إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى:"اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ويحرم الله صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غاب فى النار إلى قدمه، والى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ".

"قال أبو سعيد: فإن لم تصدقونى فاقرؤوا: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها"، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتى، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون فى نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون فى حافتيه كما تنبت الحبة فى حميل السيل..".

ثم يذكر ما سبق من قول أهل الحنة: "هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه "(2) .

فلم يرد فيه ما يدل على عدم العمل إلا قول أهل الجنة، وهم إنما يقولون حسب ظاهر ما يعملون كما جاء فيه:"فيخرجون من عرفوا". فإن كانت المعرفة بحسب علمهم بهم فى الدنيا، فلا يخفى أن من الناس من لا يعرف المؤمنين أن فيه خيرا وإن كانت بحسب أثر السجود - كما فى الرواية الأخرى - فلا يبعد أن يكون فى بعض المصلين من إساءة الصلاة، والإهمال الشديد فى أدائها، ما لا يحصل له معه علامة ظاهرة للمؤمنين. والله أعلم.

(1) أى من مناشدة المؤمنين يومئذ للجبار سبحانه وتعالى يناشدونه إخراج إخوانهم العصاة من النار،

(2)

البخارى (13/421- 422) .

ص: 512

أما سائر روايات الحديث عن الصحابة الآخرين، وعن أبى سعيد فى غير تلك الرواية، فلا ذكر فيها لنفى العمل، بل هى كما رأينا مصرحة بأنهم من أهل الصلاة.

وعليه فإن لم نقل: إن تلك الرواية غير محفوظة، نقول: لابد من توجيهها وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى.

ومن ذلك: ما قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله:

قال: "هذه اللفظة: "لم يعملوا خيرا قط، من الجنس الذي تقول العرب بنفى الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه وأمر به".

قال: "وقد بينت هذا المعنى فى مواضع من كتبى"(1) .

أقول: وهذا التوجيه يشهد له حديث المسيء صلاته، حين قال له النبى صلى الله عليه وسلم، "ارجع فصل فإنك لم تصل"(2) ، فنفى صلاته مع وقوعها، والمراد نفى صحة أدائها وبه استدل أبو عبيد رحمه الله فى مثل هذا (3) .

وكذلك حديث قاتل المائة نفس الذى جاء فيه: "أنه لم يعمل خيرا قط (4) ، لأنه توجه تلقاء الأرض الصالحة، فمات قبل أن يصلها، فرأت ملائكة العذاب أنه لم يعمل خيرا قط بعد، إذ لم يزد على أن شرع فى سبيل التوبة، ولهذا حكم الله تعالى بينها وبين ملائكة الرحمة، بقياس الأرض وإلحاقه بأقرب الدارين، ثم قبض هذه وباعد تلك، رحمة منه وإلا كان يهلك.

وفى حديث الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد وفاته خوفا من الله: "قال رجل لم يعمل خيرا قط: إذا مات فحرقوه

"

ولمسلم: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فأحرقوه

" (5) .

وقد فسرتها الرواية التي بعدها: " أسرف رجل على نفسه أو أسرف عبد على نفسه ".

(1) التوحيد، ص309.

(2)

البخارى (2/277) .

(3)

انظر: الإيمان، ص41 فصاعدا".

(4)

مسلم رقم 2766.

(5)

البخارى (13/466) ، ومسلم رقم 2756.

ص: 513

ومما يؤيد ذلك أنه قد ورد فى بعض روايات حديث الجهنميين هذا، أن هذا الرجل منهم، حيث ذكرت أنه آخر أهل النار خروجا منها" (1) .

ثانيا: من جهة الجمع:

وقبل بيان ذلك نقول: إن الجمع مقتضاه صحة الاستدلال، فهل هذا الحديث يصلح لما استدلت به المرجئة بإطلاق، أي دعوى أن الإيمان تصديق مجرد؟

الجواب:

أما المرجئة الغلاة، أي القائلون بأن الإيمان محله كله القلب وهو التصديق القلبي دون سائر أعمال القلب والجوارح كما هو مذهب الأشعرية والماتريدية والظاهرة عموما، والقائلين إن من صدق بقلبه نجا عند الله، وإن لم يشهد بلسانه كما نقلنا عن بعضهم فلا حجة لهم فيه بحال، إذ روايات الحديث فضلا عن الأصل القطعى الثابت دالة على أن الجهنميين هم من أهل شهادة أن لا إله إلا الله، فالإجماع قائم على أنه لا يدخل الجنة كافر قط ولا شفاعة له بحال وعلى أن من امتنع عن شهادة أن لا إله إلا الله ليس بمؤمن لا فى أحكام الدنيا ولا فى أحكام الآخرة كما قد سبق نقله. فمن الخطأ البين استدلال أبى حامد الغزالى بقوله فى الحديث:"من كان فى قلبه مثقال ذرة " على أن من قدر على الشهادة فأخرها فمات، فيحتمل أن يكون امتناعه عن النطق بمنزله امتناعه عن الصلاة، فيكون غير مخلد فى النار (2) .

فإن مثل هذا الاحتمال لا يعارض فى الإجماع، وقياسه على الممتنع عن الصلاة فاسد من وجوه كثيرة، منها: أن الشهادة أعظم من الصلاة، إذ لا تصح الصلاة ولا غيرها بدونها، ومنها أن الإجماع على تكفير الممتنع عن الصلاة ثابت عن الصحابة.

وقد أوردنا رواية أنس التي فيها: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفى قلبه وزن شعيرة من خير

الحديث" فقول لا إله إلا الله - قيد لابد منه -، ولا يصح أن يقال: أن عموم (من لم يعملوا خيرا قط) يشمل هذا.

(1) انظر: الفتح (11/313) ، ونسبها لأبى عوانة، وأما حكم الحافظ عليها بالشذوذ فلعله لما بينه ص314 ولا مجال لتفصيل ذلك.

(2)

نقله عنه فى الفتح (11/430) .

ص: 514

وأما قول بعضهم: "إن المراد بالقول هنا القول النفسي"(1) ، فمن التأويل الفاسد، إذ لا يصح حمل القول على القول النفسى، إلا إذا قيد بذلك، أما إذا أطلق فهو ممتنع عند جميع العقلاء.

إذا تبين هذا لم يبق فى هذه الرواية حجة، إلا للمرجئة الفقهاء القائلين: إن الإيمان ركنان- القول والإقرار فقط، ولبعض العلماء الذين يرون أن تارك الصلاة لا يخلد فى النار، فهو إذن ليس بكافر الكفر المخرج من الملة.

وعليه ينحصر النزاع فى المسألة مع هؤلاء ويتحرر موضع الخلاف، بأنه رجل شهد شهادة الحق، ولم يعمل خيرا قط، فهل يكون من المؤمنين ويدخل الجنة؟

إن أصول أهل السنة والجماعة تنفى هذا (وإن تردد فيه بعض علمائهم المتأخرين)(2) فإن لم نرد تلك الرواية بإطلاق ونستدل بالإجماع الثابت على تكفير تارك الصلاة، فالجمع بين هذه الرواية وتلك الأصول ممكن، بأن يقال:

إن هذه الروايات تدل على حالة غيبية مخصوصة، لا تعارض الأصل الثابت، بل غاية ما في الدليل الصحيح المعارض لأصل كلي، أن يكون مخصصا لعمومة.

وهذه الرواية نفسها تدل على ذلك، ألا تراه يقول في لفظ مسلم:"يقولون: ربنا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا" فيأذن الله لهم أن يخرجوهم حتى إذا انتهوا، وقالوا له تعالى:"ربنا لم نذر فيها خيرا" أي صاحب خير، يأتي علام الغيوب سبحانه فيخرج أقواما من أهل الإيمان لم يكن أحد يعلم عنهم إيمانا" ولا يحكم لهم به، أو لم تكن فيهم علامة السجود التي يعرفهم بها إخوانهم أهل الجنة المؤمنون.

ويقول تعالى كما في رواية جابر في المسند: "أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي، قال: فيخرج أضعاف ما أخرجه (3) .

فإذا كانت هذه حالة غيبية مخصوصة لا ندركها لا في الدنيا ولا في الآخرة، فنحن نكلها إلى علام الغيوب، ولا نعارض بها ما ندركه ونعلمه من الأدلة البينة على

(1) انظر: الفتح (1/104) .

(2)

كالشوكانى وشيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطى، انظر: نيل الأوطار (1/364- 377) وأضواء البيان (4/322- 348) . وذلك فى حكم تارك الصلاة، لا فى ترك مطلق العمل، وقد سبق بيان عدم تلازمهما عند من لا يرى تكفيره.

(3)

(3/325) .

ص: 515

قتل الممتنع عن الصلاة كفرا وإجراء أحكام المرتد عليه، فإن هذا مما قام دليله وأمرنا بتنفيذه، ولم نؤمر بشق قلوب الناس ومعرفة ما إذا كان يحتمل أن يكون من الجهنميين أم لا؟

ولو أننا تركنا إقامة الأحكام الظاهرة واعتقاد مدلول الأدلة القطعية، لأجل احتمالات أو حالات خاصة، لما ثبت لنا أصل ولا أقمنا من شرعنا شيئا".

وهذه الحالة المخصوصة التي دلت عليها هذه الرواية، لا يصعب علينا تكييفها وتعليلها دون إخلال بالقاعدة والأصل في تركب الإيمان من القول والعمل معا"، وذلك بأن نقول: إن هذا الإيمان المركب أصله في القلب وجزؤه الظاهر على الجوارح، وبحسب قوة الباطن تكون قوة الظاهر، فقد يقع أن يضعف ذلك الأصل حتى ينزل عن أدنى مثقال ذرة، وهو الحد الأدنى للإيمان الذي نصت عليه الأحاديث، أعني الإيمان الذي يعلمه أهل الجنة ويعرفونه.

لكن ذلك لا يقتضي نفي ما هو أقل منه بأضعاف كثيرة مما يعلمه الله، وهذا الإيمان الذي يكون على تلك الدرجة من الضعف، لا يحرك صاحبه على عمل خير قط (1) ، وهذا لا يعارض الأصل الكلي الذي سبق تقريره وهو أن إيمان القلب مستلزم لإيمان الجوارح، ويتركب منهما معا حقيقة الإيمان الشرعية، لأن هذه حالة عارضة خفية تشبه حسب المثال السابق - الذي شبهنا فيه تركيب حقيقة الإيمان من القول والعمل، بتركيب الإنسان من الجسد والروح - حالة صاحب الغيبوبة العميقة الذي هو ميت حكما"، وإن كان فيه ذلك القدر الضئيل جدا" من الحياة، الذي لا يشعر به الناس.

فلا أحد يقول بإخضاع أحكام الأحياء الأصحاء لحكم مثل هذه الحالة الشاذة، أو يعارض بها السنن الثابتة المعلومة في الحياة والأحياء.

ونخلص من هذا إلى أنه مع حفظ عموم دلالة الأصول الكلية، توجد حالات خاصة يكون فيها تارك جنس العمل أو تارك الصلاة غير مخلد في النار، وقد لا يدخلها أصلا.

وإذا نظرنا إلى أحوال المنتسبين للإسلام لوجدنا أمثلة لمن يمكن أن تنطبق عليهم هذه الحالات الخاصة مثل:

(1) إلا أنه يشهد أن لا إله إلا الله كم سبق بينا سابقا".

ص: 516

أ- سكان الأطراف البعيدة والجزر النائية، ممن لم يصلهم من الإسلام إلا اسمه، وينتشر فيهم الشرك والجهل بالدين، فهم غافلون عنه أو معرضون عمن تعلمه، ولا يعرفون من أحكامه شيئا، فهؤلاء لا شك أن فيهم المعذور، وفيهم المؤاخذ.

والمؤاخذون درجات، فقد يخرج بعضهم عن حكم الإسلام بمرة، وقد يكون ممن لا يخلد في النار

وهكذا مما لا يعلم حقيقته إلا علام الغيوب.

ب- بعض شرار الناس آخر الزمان، حين يفشوا الجهل، ويندرس الدين، وعلى هذا جاء حديث حذيفة مرفوعا يدرس الإسلام - كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويسري على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها".

قال صلة بن زفر لحذيفة: فم تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار (1) .

(1) رواه الحاكم (4/473) وقال: صحيح على شرط مسلم. وسكت عنه الذهبى، وصححه. زاد العلامة الألبانى فى سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 87 (1/127) لكنه زاد فيه:"ولا صلاة" فى قوله: "وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك" وهى ليست فى المستدرك، وأما استدلال الشيخ به على عدم تكفير تارك الصلاة فيرده ما أوضحنا أعلاه.

تنبيه:وردت زيادة "ولا صلاة" عند ابن ماجه فى أول الحديث، لكن ليس عنده سؤال صلة الذى هو موضع الشاهد.

أما رسالة "حكم تارك الصلاة" المنسوبة للشيخ الألبانى - حفظه الله - فيتبين من أول هذه الرسالة أن الشيخ لم يقصد التأليف المستقل فى المسألة، ولم يستقص القول فيها من جميع أطرافه فهى فى الأصل تعليق على حديث استعجله فى إخراجه بعض إخوانه، ولذلك فإننى اقترح على فضيلته - أمد الله فى عمره - أن يعيد النظر فى المسألة، وأن يكتب فيها بإسهاب وتفصيل، مع مراعاة بعض الأصول اللازمة للكتابة فى مثل هذه المسألة الخطيرة ومنها:

أولا: الرجوع لكتب العقيدة السلفية والشيخ من أعلم الناس بها مطبوعة أو مخطوطة وأخذ عقيدة أهل السنة والجماعة منها لا من مجرد كتب الخلاف والفقه وشروح كتب السنة فهذه ليست مصادر أصلية للعقيدة لا فى موضوع الصفات ولا الإيمان ولا غيرها، فإن رجع الباحث إلى هذه فمع الحذر والتوقى مما تسرب إليها من كلام أهل الكلام المذموم التي لم يرد بها نص من كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف مثل "الأعمال شرط كمال" وعبارة "وإن تركها كسلا يقتل حدا" وعبارة "لا يكفر إلا بجحود ما أقر به" وعبارة "يكفر ظاهرا لا باطنا" الخ.

ثانيا: الرجوع لكتب الفرق أو أقوال الفرق كما كتب فيها أهل السنة والجماعة ليعرف الفرق جليا بين مذهبهم ومذهب الخوارج والمعتزلة فى باب الإيمان والأسماء والأحكام، ليغرف حقيقة الإرجاء فلا يقع فى بعض أصوله وهو لا يشعر وليتأكد أن الكفر يكون بالعمل كما يكون بالاعتقاد ويكون بالإباء وترك الانقياد كما يكون بترك الإقرار. =

ص: 517

....................................................................................................................

= بل من تدبر كتاب الله فى هذه المسألة كفاه، فقد ورد فيه التكفير بالإباء وترك الانقياد وهو كفر إبليس وفرعون وأكثر الأمم وورد فيه التكفير بالاعتقاد وهو كفر المنافقين وورد فيه التكفير بالعمل مع إقرار مرتكبه أنه كفر كتكفير معلمى السحر ومتعاطيه، والتكفير بالأقوال كتكفير المستهزئين بالقراء من المنافقين، وتكفير من قال الكفر من غير إكراه، وتكفير من غيروا حكم الله إلى الجلد والتحميم مع إقرارهم حكم الله، وتكفير من أرادوا التحاكم إلى الطاغوت مع إقرارهم أن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم افضل لكنه لا يأخذ الرشوة، كما جاء فيه التكفير بالشك والتكفير بالإعراض والتولى.

ثالثا: جمع النصوص المتعلقة بالموضوع وإرجاع المتشابه منها (كحديث الشفاعة) إلى المحكم والظني الدلالة إلى القطعي والاستنارة بأقوال السلف فى ذلك لا أن يعمد الباحث إلى نص واحد يحتمل أكثر من وجه فيجعله عماد بحثه ويبني عليه رأيه ويؤول كل ما خالفه.

رابعا: فنبذ طريقة الخلف فى تأويل النصوص الصريحة عن ظاهرها والاعتراض عليها بلوازم متوهمة أو باطلة وإن أشكل ذلك فليراجع جواب علماء السنة عن هذه اللوازم، فإن تأويل ما جاء من النصوص فى هذه المسألة وهو من جنس التأويلات المعطلة والمفوضة كما أن تأويل إجماع الصحابة (على حكم تارك الصلاة) وقد صححه الشيخ فى أكثر من كتاب وتسويغ مخالفته يفتح بابا لنسخ كل أصول العقيدة المتلقاة عنهم المستندة إلى إجماعهم.

خامسا: الموازنة بين ما ذكره فضيلته من الاحتراز من التكفير وبين ضرورة تحذير الأمة من الوقوع فى المكفرات فلأن يخطئ أحد فيتجنب ما هو معصية ظنا منه أنه كفر خير من أن يخطئ فيرتكب الكفر ظنا منه أنه مجرد معصية.

سادسا: فهم العلاقة التلازمية بين الظاهر والباطن، والعلاقة التركيبية بين القول والعمل من حيث هي وبيانها للقارئ مع تبيين أنه لا يلزم من إجراء أحكام الإسلام ظاهرا ثبوت الإيمان باطنا.

سابعا: التفريق بين "السلفية" و"الظاهرية" فى الفهم والاستنباط والاستدلال، وإثبات أن السلفية تجمع بين الضبط والدقة والإحكام من جهة وبين الرحابة والسعة والتنوع فى الرأي من جهة أخرى، وإثبات أن الاعتبار فيها بالحق لا بالرجال.

وهنا أتحدث بنعمة الله وأقول: إننى قد جمعت بفضل الله فى مسألة الإيمان وترك العمل ما لا يحصى من النصوص والآثار السلفية فما وجدت قط أي تعارض بينها، وإنما يقع التعارض فى نظر الباحث وبفعله كما لو وضع نصوص الحكم الظاهر فى الحكم الباطن أو العكس (انظر ما سبق فى حديث الجارية) أو عارض الأحكام العامة القطعية بما ورد فى حالات مخصوصة (كما تقدم فى حديث حذيفة وحديث الجهميين) ونحو ذلك.

ثامنا: التزام قاعدة مطردة فى تقوية الحديث بشواهده أو تضعيفه مهما تعددت طرقه، فمثلا إذا كانت رواية:"فمن تركها خرج من الملة" لا تتقوى برواية "فمن تركها فقد كفر" بل نضعف الأولى ونؤول الأخرى فما هو التحكم إذن؟ ولا سيما إذا اقترن بذلك تلفيق المتون وفق رأي الباحث مثل إدخال لفظة (فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه) دون لفظة "فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل ولا تشركون به شيئا" ص 33 التي هي نص موافق لكل النصوص القطعية فى أنه لا يخرج من النار إلا من عبد الله ولم يشرك به شيئا" وتارك الصلاة" ما عبد الله بل هو مشرك بنص الحديث "بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة" وهذا يدعو إلى إعادة النظر فى قضية التلفيق والتركيب من أصلها، فأحيانا يكون نص الحديث متفقا عليه فيدخل الباحث فيه لفظا من خارج الصحيحين بغير دلالته مع أن بعض العلماء ينازع فى ثبوته.

تاسعا: الاحتراز من ذم التقليد بإطلاق لأسباب منها أن ذلك يشمل أيضا من يشتغل بعلم الرجال فى هذا العصر، إذ لا مصدر لهم سوى محض التقليد وهو حجة لمن يرى أن الاستقلال بالتصحيح والتضعيف غير ممكن فى الأعصار المتأخرة

وهنا ننبه إلى أنه لا ينبغي الظن بأن المخالف إنما خالف لكونه حنبليا مثلا.

عاشرا: تحرير المصطلحات السلفية بل والألفاظ الشرعية من قيود واستعمالات أهل الكلام وأشباههم من ذلك ألفاظ (الإقرار، التصديق، الجحود، الاستحلال، كفر العمل) ونحوها مما له معنى عند السلف وآخر عند المتكلمين ومن اتبعهم.

دراسة مدى حاجة الناس إلى بعض أنواع من العلم قد يكون تأخيرها أفضل أتقديم غيرها أوجب كإظهار أن تارك الصلاة لا يكفر فى زمن تكاسل الناس فيه عن الطاعة وفرحوا بزلة العالم وشذوذ المفتى ومثل ذلك مسالة (كفر دون كفر) ونحوها مما يدخل فى فقه الدعوة ومراعاة فائدة العلم وأثره وهو باب واسع، وقد راعاه الشيخ فى قوله: إن الحكم قد خرج من أيدى العلماء.. الخ ص62 وهذا أولى والله أعلم. =

ص: 518

....................................................................................................................

= التثبت فى نسبة الأقوال إلى الأئمة بالرجوع إلى المصادر الأصلية مثل أخذ كلام الإمام أحمد من كتاب الإيمان له ونحوه لا من كتب المذاهب والخلاف.

حادى عشر: مراعاة بعض الأمور فى الأسلوب وهى أقل شأنا مما سبق لكن لا ينبغى إغفالها مثل:

أ- التقليل ما أمكن من عبارة القطع والجزم والتوكيد فهذا مما ينبغى لصاحب الرأي الراجح فكيف بالمرجوح بل الخطأ، ويؤسفنى أن أقول: إن الرسالة وهى تتكون بعد حذف المقدمة من عشرين صفحة قد وردت فيها هذه العبارات فى ثمانية عشر موضعا

ب- تجنب وصف المخالفين ببعض العبارات مثل: الجهل، التعصب، التقليد، الجمود، لا سيما وأن المخالفين فى هذه المسألة إن لم نقل إنهم الصحابة والتابعون فهم من اتبعهم وسار على طرقهم ولعمر الحق ما على متبعهم من حرج.

ج- الاحتراز من العبارات المشعرة بتميز الباحث وسبقه إلى ما لم يصل إليه غيره أو أن ما انتهى إليه لا يوجد عند غيره فربما سبقه غيره إلى ما قال صوابا وربما كان التفرد دليلا على الشذوذ.

د- التجرد للحق ومحبة ظهوره على يد من كان وإن خالف رأى الباحث فلا يفرح بكتاب جمعه باحث معاصر يوافقه فى الرأى بل يفرح بمن يدله على حقيقة عقيدة السلف وأقوالهم فى هذا، وخاصة إذا كان مثل الشيخ الذى رفعه الله باتباع السلف ونصرة مذهبهم لا بانتصار المعاصرين.

وأخيرا أنصح شيخنا الفاضل أن يشرف على كتبه بنفسه ما استطاع أو يكل تهيئه نشرها إلى أكثر من واحد ثم يراجعها قبل النشر فقد يحصل نتيجة ترك ذلك ما لا يرضاه الشيخ، ومن ذلك هذه الرسالة وأنا هنا لن أورد أمثلة لكل ما سبق بل يكفى الإجمال إلا أن يشاء الشيخ التفصيل فأرسله له وأنا واثق من تقبله وسعه صدره بإذن الله - لكننى سأذكر مثالا" لهذه الأخيرة لأن تلاميذ الشيخ قد كثروا فى هذه الأيام وأفهامهم تتفاوت وهو شيخنا جميعا وأولانا به من فهم كلامه وأفاد من علمه وأحب الحق أكثر من حبه له.

فالشيخ حفظه الله يقرر فى هذه الرسالة أن تارك الصلاة المصر على تركها حتى يقتل هو الذى يحكم بكفره وعليه تحمل أدلة المكفرين وأن ما عداه هو من أهل الوعيد ويرى أن ذلك تجتمع به أدلة العلماء المختلفين فى هذه المسألة ويلتقون على كلمة سواء، ويعلل ذلك بأن اختياره القتل على فعل الصلاة دليل على أنه كافر كفرا اعتقاديا لا عمليا، والكفر الاعتقادى هو المخرج من الملة عنده لا العملى، هذه خلاصة كلامه.

فالشيخ وإن وافق المرجئة فى حصر الكفر فى الاعتقاد قد خالفهم فى زعمهم أن المصر على ترك الصلاة حتى يقتل يجوز أن يكون مؤمنا" فى الباطن وتجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويقبر فى مقابر المسلمين ويرث ويورث

ذلك الزعم الذى أنكره شيخ الإسلام وجعله من المحال ووافقه الشيخ، فإن إصراره هذا دليل حال يغنى عن المقال بأنه غير معتقد لوجوبها ولا مقر بفرضيتها وعليه فلا يجوز الاختلاف فى تكفيره ولا يجوز إجراء شئ من أحكام الإسلام عليه.

وإليك نصوص من كلام الشيخ فى الرسالة:

قال ص43: "قلت: وعلى مثل هذا المصر على الترك والامتناع عن الصلاة مع تهديد الحاكم له بالقتل يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك للصلاة".

وقال: "قلت: فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة وإنما بامتناعه عن الصلاة مع علمه بأنه يقتل إن لم يصل، فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة، فهو الذى دل على أن كفره كفر اعتقادى" ص47.

وقال: "فإن تكفير المسلم الموحد بعمل يصدر منه غير جائز حتى يتبين منه أنه جاحد ولو لبعض ما شرع الله كالذى يدعى إلى الصلاة وإلا قتل" ص61.

...

وقال: "فإن قتل التارك للصلاة بعد دعوته إليها إنما كان لحكمة ظاهرة ولعله يتوب إذا كان مؤمنا" بها فإذا آثر القتل عليها دل ذلك على أن تركه كان جحد فيموت والحالة هذه كافرا" كما تقدم عن ابن تيمية فامتناعه فى هذه الحالة هو الدليل على خروجه من الملة" ص63.

هذا ما قرره الشيخ ولازمه بلا ريب أنه لا تجرى عليه من أحكام الإسلام فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن ى مقابر المسلمين ولا يرث ولا يورث!

غير أن تلميذ الشيخ المقدم للرسالة خالف ذلك - معتمدا" على كلام السخاوى - وجعل قارئ الرسالة يحار بين رأى التلميذ فى المقدمة تبعا للسخاوى وبين رأى الشيخ فى الرسالة تبعا" لشيخ الإسلام، وهما نقيضان لا يجتمعان فإن الذى جعله شيخ الإسلام فرض محال وخبط خيال هو هذا الذى قرره السخاوى وأمثاله بعينه. =

ص: 519

فهؤلاء الذين يكونون حينئذ - نسأل الله العافية - نقول كما قال حذيفة: إن لا إله إلا الله تنجيهم من النار، إذ لا يعلمون غيرها في ذلك الزمان الذي هو أسوأ زمان.

لكن ليس في مقدور أحد أن يجزم بأنهم لن يدخلوا النار بمرة، أو أنهم من الجهنميين الذين لا يعرفهم المؤمنون، وإنما يعلمهم الله ويرحمهم فينجيهم من النار بعد دخولها، أو هم بين ذلك إذ المرجع في هذا التوقيف وإن كان غالب الظن أنهم - أو جلهم - إلى الجهنميين أقرب، من جهة أن أهل ذلك الزمان هم من شرار الخلق، ومن

= وقراء الشيخ الألبانى كلهم لا يختلفون أن الشيخ لا يحتاج إلى من يقدم له لا سيما وقد جرت العادة على تقديم الأعلى للأدنى ثم إن الرسالة صغيرة وموضوعها مطروق ولكن عندما قرأنا قول الشيخ: "فدفعت صورة منه إلى صاحبنا وتلميذنا

ليقوم بتهيئته للنشر وإعداده للطبع مع كتابة مقدمة علمين له تقرب فوائده للقراء "الأفاضل" عذرنا الأخ المقدم وقرأنا بحثا" عن التقريب لكننا وجدنا المخالفة.

دع الملاحظات الأخرى فليس هذا موضعها.! وهذه المخالفة جاءت فى اللب والجوهر حيث كانت فى أهم أمرين فى الرسالة وهما:

1-

مناط الحكم بالتكفير.

2-

حكم من أصر على الترك حتى يقتل.

فأما مناط الحكم فإن الشيخ جعله اختيار القتل على الصلاة ولم يشترط جحد الوجوب اكتفاء منه بهذا الدليل القاطع (كما رأيت فى كلامه) .

أما التلميذ المقدم فإنه جعل مناط الحكم هو أن يكون "جحدا" لوجوبها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين" ص17.

وعلى هذه فى نظره تحمل كل الأدلة الواردة فى تكفير تارك الصلاة، بل "تؤول!! " فناقض ما حملها الشيخ عليه كما ترى.

وأما الحكم على هذا المصر فإن الشيخ جعله الكفر المخرج من الملة، أما التلميذ فقد جعله "الإسلام!! " وإليك ما جاء فى مقدمته:

وأما من تركها بلا عذر بل تكاسلا" فالصحيح أيضا" بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها

يستتاب كما يستتاب المرتد ثم يقتل إن لم يتب ويغسل ويصلى عليه ويدفن فى مقابر المسلمين مع إجراء سائر أحكام الإسلام عليه ويؤول إطلاق الكفر لكونه شارك فى بعض أحكامه

" ص18

وبهذا أثار لدى القراء أسئلة كثيرة، منها:

1-

ما الغرض من التقديم وفيه هذه المخالفة الواضحة؟

2-

أى كسل يبقى والسيف على الرأس؟

3-

هل ترى أن هذا مقر بالوجوب أو جاحد له؟

4-

كيف يستتاب استتابه المرتد ويقتل قتلة المسلمين؟

5-

بماذا تحكم على كلام الشيخ فى الرسالة إذا ما ذكرت هو "الصحيح المنصوص عليه قطع به الجمهور"؟!

6-

هل تقرأ فى التأويل فى نصوص الصفات والقدر؟ ولماذا؟

ص: 520

جهة أنهم ليسوا من أهل الصلاة، فلا علامة لسجودهم، ومن هنا لا يعرفهم المؤمنون في النار، ومن جهة أنهم عتقاء الله يدخلهم الجنة بغير عمل ولا خير.. والله أعلم.

وهذا الحديث بقدر ما يدل على نجاة مخصوصة، هو يدل على الأصل والقاعدة، ألا ترى أن التابعي عجب وألح في سؤال الصحابي، وما ذاك إلا لما علمه التابعون، من إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على أن تارك العمل ليس بمؤمن ولا ينجو في الدنيا من سيف المؤمنين، ولا في الآخرة من عذاب رب العالمين، والله أعلم.

3-

العطف:

في اكثر كتبهم يستدل المرجئة على أن العمل ليس من الإيمان، بأنه قد جاء في القرآن في مواضع كثيرة عطف على الإيمان قالوا:

والمعطوف غير المعطوف عليه، فهذا التغاير والتفريق دليل على ذلك.

وجوابه عند أهل السنة والجماعة بإيجاز هو:

أن الإيمان يأتى في نصوص الشارع مطلقا"، ويأتي مقرونا بالأعمال، فإذا جاء مطلقا" فإن الأعمال تدخل فيه، لأنه حينئذ بمعنى الدين يشمل القول والعمل.

وإذا جاء مقرونا" بالأعمال فله عندهم جوابان:

1-

أن هذا من قبيل عطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى:

(من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال)(البقرة: 98) .

وقوله: (وإذا أخذنا من النبين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم)(الأحزاب: 7) .

وقوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)(البقرة: 238) .

فإن جبريل وميكال من الملائكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم وسائر أولى العزم من الرسل، والصلاة الوسطى من الصلوات.

ص: 521

وأمثال هذا كثير في لغة العرب، فيعطف الخاص على العام للاهتمام به، وتنبيه المخاطب إلى شرفه أو عدم إغفاله.

2-

إن أعمال الجوارح في الأصل ليست من الإيمان، بل الإيمان أصله ما في القلب، والأعمال هي من لوازمه التي تنفك عنه بحال، لكن جاء الشرع فأدخلها فيه، وأصبح اسم الإيمان شاملا" لها على الحقيقة شرعا" فكثر في كلامه عطفها عليه توكيدا" لذلك لكيلا يظن ظان أن الإيمان المطلوب هو ما في القلب فقط، بل يعلم أن لازمه - العمل - ضروري كضرورته، فها هو ذا قد أدخل في اسمه وحقيقته في مواضع الانفراد وقرن بحكمه في مواضع العطف.

وبمراجعة ما سبق قوله عن الحقيقة المركبة يتضح هذا جليا" بإذن الله، فإن الشيء المركب من جزأين لا يمتنع عطف أحدهما على الآخر، وإن كان أحدهما إذا أطلق يشملهما اسمه معا" لا سيما وأن المعطوف عليه هو الأصل الذي أطلق شمل العمل، والمعطوف فرع ولازم له.

فيأتي العطف لبيان وجوب وجودها مجتمعة، إذ انتفاء أحد جزئيها انتفاء لذات الحقيقة كما سبق إيضاحه.

ومن هنا يظهر سر تكرار ذلك العطف في القرآن والله أعلم، فإنه مطابق لإجماع السلف أن الإيمان قول وعمل - أي اعتقاد وانقياد - كما سبق وهو المطابق للأحاديث التي سبق إيرادها في مبحث الحقيقة المركبة، ولا سيما حديث جبريل الذي فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه الإسلام، وفسر الإيمان بالجزء الباطن.

ومعلوم قطعا أن أحدهما لا يغنى عن الآخر منفردا"، بل منهما معا" تتكون حقيقة واحدة هي الدين كما جاء في آخره: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".

وإن كان - الإيمان - أعلى درجة ومرتبة من الإسلام، باعتبار أنه الأصل، كما أن الإحسان أعلى منه، لكن اسمه المطلق يشملهما، والإسلام الذي هو أدنى منه لا يصح إلا به أو بجزء منه.

تم بعون الله تعالى

ص: 522