المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حقيقية الإيمان الشرعية - ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

- ‌مقدمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

- ‌ السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

- ‌ السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

- ‌حقيقة النفس الإنسانية

- ‌تمهيد:

- ‌ الإرادات والغايات:

- ‌ الأسباب والوسائط

- ‌ الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

- ‌الخاتمة

- ‌حقيقية الإيمان الشرعية

- ‌المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

- ‌المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

- ‌الباب الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌الفتنة الأولى

- ‌براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

- ‌الفتنة الثانية

- ‌الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

- ‌توطئة:

- ‌البدايات والأصول

- ‌أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌الأثر المنطقي

- ‌حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

- ‌الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

- ‌العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

- ‌توطئة:

- ‌الإيمان حقيقة مركبة

- ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

الفصل: ‌حقيقية الإيمان الشرعية

‌حقيقية الإيمان الشرعية

مضى الحديث عن الجيل الأول الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الجيل الذي كانت حياته الواقعية حقيقة حية للإيمان كما فهموه وتربوا عليه، وهذا ما جعلهم أبعد شيء عن النظريات المجردة في أي مجال، فما بالك ببعدهم عنها في دينهم وإيمانهم الذي يعيشون حقيقته ويتحركون به وله.

حتى العلم الشرعي نفسه لم يكونوا يتلقونه معلومات تراكمية كما صنعت الأجيال من بعد، بل كانوا كما قال بعضهم:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا به إيمانا"(1) .

هذا الإيمان الذي تلقوه لم يكن - على الإطلاق - درسا يسمى "درس العقيدة" يقال فيه: "إن الإيمان قول وعمل، وإن الطاعات كلها داخلة في الإيمان" - كما يصنع أكثر متأخري أهل السنة الذين أهملوا كثيرا من حقائق الإيمان واحتفظوا برسمه ولفظه - فضلا عن أن يكون درساً كلامياً أو فلسفياً يقال فيه: "الإيمان هو التصديق، والتصديق اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر بدلالة المعجزة، والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي

إلخ" كما هو الحال في دروس العقيدة في أكثر العالم الإسلامي اليوم وفي القرون الأخيرة الماضية.

إن معايشة الجيل الأول للوحي وصاحبه صلى الله عليه وسلم مع ما آتاهم الله من سلامة الفطرة وصحة الفهم وحضور البديهة، جعلتهم أصدق الناس نظرا وأقلهم تكلفا وأحسنهم هديا.

فإن سئلوا عن أمر كان جوابهم أوجز بيان وأشفاه وأبينه، إن لم يكن من ذات نور الوحي فهو قبس من مشكاته.

وإن في مسألة الإيمان - تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء وتنافرت فيها الفرق وتقاتلت عليها الأمة - لأصدق دليل على هذا.

(1) رواه ابن ماجه رقم (61) ، عن جندب بن عبد الله، والحزور الغلام الناضج النمو، ورواه عبد الله بن أحمد، السنة (1/97) بسند صحيح.

ص: 129

فقد ذهبت الفرق الضالة كل مذهب لتأتي بتعريف للإيمان كما تريد، فمنهم من صرف نظره عن نصوص الوحي كلها، ومنهم من أخذ بعضها وغلا فيه وتعسف في تأويل الباقي أو إنكاره، ومنهم من ظل حائرا متناقضا لا يستقر له قرار.

أما الجماعة - الذين هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان - فما حادوا عن منهجهم المأمون قط، فكانوا إذا سئلوا عن الإيمان أجابوا بالوحي لا بالهوى، جوابا يراعى فيه حال السائل ومقام السؤال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.

فمرة يجيبون السائل بآية جامعة من كتاب الله تعالى، مثل جواب بعضهم بقوله تعالى:

«ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون» الآية (1) .

ومرة يجيبون بحديث كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أو وفد عبد القيس (2) .

ومرة يعرفونه بفهم فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال بعضهم:(الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله)(3) ونحو ذلك.

ومن الواضح أنه ليس في شيء من هذا تحديد مجرد للإيمان على المنهج المنطقي المتكلف.

وعندما اتسع الخلاف بين الفرق وانتقلت الأمة من البحث في أعمال الإيمان وفرائضه ليحققوه بكماله إلى البحث في ماهيته المجردة وحده المنطقي - ليتجادلوا فيها - ظهرت الحاجة إلى قول فصل وأصل جامع يعرف به الناس هذا المفهوم في كتاب ربهم وسنة نبيهم، فتواردت أذهان علماء الجماعة وتواطأت أقوالهم وتواترت

(1) كما ورد عن أبي ذر والحسن بن علي رضي الله عنهما، وفي بعض الطرق رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتفصيل الكلام في أسانيده يطول، لكن انظر: الطبري (2/94) ، المصنف (11/128) ، الدر المنثور (1/169) ، فتح القدير (1/173) ، ابن كثير (1/296) ،فتح الباري (1/50) .

(2)

حديث وفد عبدقيس متفق عليه. البخاري (1/129) ، مسلم رقم (18،17) . وفيه: "أتدرون ما الإيمان..... شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.." الحديث

(3)

علق البخاري الجملة الأخيرة، وذكر الحافظ تخريجه كاملا. الفتح (1/48) ، وهو في السنة لعبد الله ابن أحمد (1/98) .

ص: 130

أخبارهم - الحجازي منهم والعراقي والشامي والخراساني والمصري والمغربي، ومن كان وراء النهر أو بالأندلس - على معنى موجز شاف كاف ليس في التعريفات أوضح ولا أيسر منه؛ مقتبس من الكتاب والسنة، وموافق للعقل والفطرة، ومترجم لواقع الجيل الأول، وهو:"أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص".

وأكثرهم لم يزد عن هذه العبارة ولم ينقص، ومنهم من اختلفت عبارته قليلا أو أضاف إليها قيدا إيضاحيا، لكن المعنى الذي أرادوه جميعا واحد؛ فلم يكن اختلافهم في بعض الألفاظ إلا كما يختلف الصادقون عادة في التعبير عن أمر واحد محسوس ظاهر.

وهذا وحده دليل كاف لمن كانت له بصيرة على أن هؤلاء هم الجماعة حقا، وأن من عداهم فرق زيغ وضلالة، من اقتفاها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.

وهذا الإجماع نقله كثير من المؤلفين الثقات؛ وها هي ذي نماذج منهم:

1 -

يقول الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم؛ أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرات قرنا بعد قرن ثم قرن بعد قرن (1) أدركتهم وهم متوافرون أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، وبالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد، مع محدثي أهل خراسان، منهم: المكي بن إبراهيم، ويحيى بن يحيى، وعلي بن الحسن بن شقيق، وقتيبة بن سعيد، وشهاب بن معمر.

وبالشام: محمد بن يوسف الفريابي، وأبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر، وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وأبا اليمان الحكم بن نافع. ومن بعدهم عدة كثيرة.

وبمصر: يحيى بن كثير، وأبا صالح - كاتب الليث بن سعد - وسعيد بن أبي مريم، وأصبغ بن الفرح، ونعيم بن حماد.

(1) المراد بالقرن: الطبقة من العلماء.

ص: 131

وبمكة: عبد الله بن يزيد المقري، والحميدي، وسليمان بن حرب - قاضي مكة - وأحمد بن محمد الأزرقي.

وبالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس، ومطرف بن عبد الله، وعبد الله بن نافع الزبيري، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي.

وبالبصرة: أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني.

وبالكوفة: أبا نعيم الفضل بن دكين، وعبيد بن موسى، وأحمد بن يونس، وقبيصة بن عقبة، وابن نمير، وعبد الله وعثمان ابني أبي شيبة.

وببغداد: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبا معمر، وأبا خيثمة، وأبا عبيد القاسم بن سلام.

ومن أهل الجزيرة: عمرو بن خالد الحراني.

وبواسط: عمرو بن عون، وعاصم بن علي بن عاصم.

وبمرو: صدقة بن الفضل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي.

واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرا (1) ، وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء:

أن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله (2) :

«وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» .... " (3) .

ثم ذكر عقيدة قيمة جاء فيها - أيضا - مما يتعلق بموضوعنا: "لم يكونوا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب لقوله: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» "(4) .

(1) يلاحظ أن هؤلاء هم أئمة العلم في عصرهم - كل في بلده -.

(2)

معلوم أن الإجماع لا بد له من مستند، ومستند الإجماع في هذه المسألة نصوص كثيرة منها هذه الآية.

(3)

هذا النص المنقول هو أول اعتقاد الإمام البخاري، رواه عنه اللالكائي بسنده. انظر:(1/172) ، وعنه نقل الحافظ في الفتح وصحح سنده إلى البخاري (1/47) .

(4)

المصدر السابق (1/175) .

ص: 132

2 -

وقال الإمامان الجليلان الثقتان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، فيما رواه عنهما الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم قال:"سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار - حجازا وعراقا وشاما ويمنا - فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص".

ثم ذكر عقيدة عظيمة أيضا جاء فيها: "وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل. ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل". "والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ولا ندري ما هم عند الله عز وجل، فمن قال: إنه مؤمن حقا فهو مبتدع، ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال: هو مؤمن بالله حقا فهو مصيب (1) ، والمرجئة المبتدعة ضلال".

"وعلامة المرجئة: تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية"(2) .

3 -

وروى أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف عن موسى بن هارون الحمال قال: أملى علينا إسحاق بن راهويه أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا.

وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد (3) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وهلم جرا على ذلك. وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام وسفيان الثوري بالعراق ومالك بن أنس بالحجاز، ومعمر باليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص

(4) .

(1) لأن قوله: أنا مؤمن بالله حقا معناه أنه مسلم، والإسلام لا يستثنى فيه إلا إذا أريد به الإيمان الخاص.

(2)

المخالفة: لعلها من الخلاف، كأنهم خالفوا الحق بزعمهم، والنقصانية: لأنهم يقولون: إن الإيمان ينقص، ونقصه عند المرجئة كفر؛ لأنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص كما سيأتي تفصيله عنهم. وهذه العقيدة من اللالكائي أيضا (1/176- 179) .

(3)

ليس المراد بالآحاد هنا ما يقابل الإجماع أو التواتر، وإنما مراده أن كل واحد من الصحابة والتابعين كان على ذلك.

(4)

ثم استطرد فذكر حكم تارك الصلاة وأنه يقتل كفرا.

ص: 133

قال إسحاق: واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم إلا من باين الجماعة واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة" (1) .

4 -

و "قال أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام، وله كتاب مصنف في الإيمان، قال: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:

من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبر، ابن أبي مليكة، عمرو بن دينار، ابن أبي نجيح، عبيد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان، عبد الملك بن جريج، نافع بن جبير، داود بن عبد الرحمن العطار، عبد الله بن رجاء.

ومن أهل المدينة: محمد بن شهاب الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، أبو حازم الأعرج، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يحيى بن سعيد الأنصاري، هشام بن عروة بن الزبير، عبد الله بن عمر العمري، مالك بن أنس، محمد بن أبي ذئب، سليمان بن بلال، عبد العزيز بن عبد الله - يعني الماجشون-، عبد العزيز بن أبي حازم.

ومن أهل اليمن: طاوس اليماني، وهب بن منبه، معمر بن راشد، عبد الرزاق بن همام.

ومن أهل مصر والشام: مكحول، الأوزاعي، سعيد بن عبد العزيز، الوليد بن مسلم، يونس بن يزيد الأيلي، يزيد بن أبي حبيب، يزيد بن شريح، سعيد بن أبي أيوب، الليث بن سعد، عبد الله بن أبي جعفر، معاوية بن أبي صالح، حيوة بن شريح، عبد الله بن وهب.

وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مهران، يحيى بن عبد الكريم، معقل بن عبيد الله، عبيد الله بن عمرو الرقي، عبد الملك (2) بن مالك، المعافى بن عمران، محمد بن سلمة الحراني، أبو إسحاق الفزاري، مخلد بن الحسين، علي بن بكار، يوسف بن أسباط، عطاء بن مسلم، محمد بن كثير، الهيثم بن جميل.

(1) عن الإيمان لشيخ الإسلام، ص 292 - 293.

(2)

أو هو عبد الكريم بن مالك، انظر ص 328.

ص: 134

ومن أهل الكوفة: علقمة، الأسود بن يزيد، أبو وائل، سعيد بن جبير، والربيع بن خثيم، عامر الشعبي، إبراهيم النخعي، الحكم بن عتيبة، طلحة بن مصرف، منصور بن المعتمر، سلمة بن كهيل، مغيرة الضبي، عطاء بن السائب، إسماعيل بن أبي خالد، أبو حيان، يحيى بن سعيد، سليمان بن مهران الأعمش، يزيد بن أبي زياد، سفيان بن سعيد الثوري، سفيان بن عيينة، الفضيل بن عياض، أبو المقدام، ثابت بن العجلان، ابن شبرمة، ابن أبى ليلى، زهير، شريك بن عبد الله، الحسن بن صالح، حفص بن غياث، أبو بكر بن عياش، أبو الأحوص، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، أبو أسامة، عبد الله بن إدريس، زيد بن الحباب، الحسين بن علي الجعفي، محمد بن بشر العبدي، يحيى بن آدم، ومحمد ويعلى وعمرو بنو عبيد.

ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، قتادة بن دعامة، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يونس بن عبيد، عبد الله بن عون، سليمان التيمي، هشام بن حسان الدستوائي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، أبو الأشهب، يزيد بن إبراهيم، أبو عوانة، وهيب بن خالد، عبد الوارث بن سعيد، معتمر بن سليمان التيمي، يحيى بن سعيد القطان، عبد الرحمن بن مهدي، بشر بن المفضل، يزيد بن زريع، المؤمل بن إسماعيل، خالد بن الحارث، معاذ بن معاذ، أبو عبد الرحمن المقري.

ومن أهل واسط: هشيم بن بشير، خالد بن عبد الله، علي بن عاصم، يزيد ابن هارون، صالح بن عمر، عاصم بن علي.

ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم، أبو جمرة، نصر بن عمران، عبد الله ابن المبارك، النضر بن شميل، جرير بن عبد الحميد الضبي.

قال أبو عبيد: هؤلاء جميعا يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا " (1) .

(1) الإيمان لشيخ الإسلام، ص 293 - 295، وهو ليس في كتاب الإيمان المطبوع لأبي عبيد، فإما أنه طبع على أنه نسخ غير كاملة أو أن عبيد هذا في مصنف غيره. قال شيخ الإسلام تعليقا على هذا النقل:(قلت: ذكر من الكوفيين من قال ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم، لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولا فيهم أكثر، وكان أول من قاله "حماد بن أبي سليمان" فاحتاج علماؤهم أن يظهروا إنكار ذلك فكثر منهم من قال ذلك) وشبه ذلك بكثرة من أنكر على الجهمية من أهل خراسان لأنه ظهر هناك، ص 295.

ص: 135

5 -

ويقول الإمام البغوي في شرح السنة: "اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان؛ لقوله سبحانه وتعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» . إلى قوله: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» .

فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة (يعني حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة) .

ثم قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء (يعني ناقصات عقل ودين)

ثم قال: واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان وتباينهم في درجاته" (1) .

6 -

ويقول الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان".

ثم ذكر خلاف أبي حنيفة وأصحابه في هذا، وقال:"وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي (الظاهري) ، وأبو جعفر البصري، ومن سلك سبيلهم فقالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم. . . "(2) .

(1) 1/38 - 40) .

(2)

التمهيد (9/238 - 243) .

ص: 136

7 -

ويذكر الإمام الحافظ ابن كثير: إن الإيمان "إذا استعمل مطلقا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا، وهكذا ذهب أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"(1) .

8 -

ويقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي: "والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا.

وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولا محدثا: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، والنخعي، والزهري، وإبراهيم، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم.

وقال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره.

وقال الأوزاعي: وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان

" (2) .

9 -

وما ذكره الحافظان ابن كثير وابن رجب عن الشافعي رحمه الله أن الإجماع على ذلك نقله شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: (وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في "الأم":

"وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزيء واحد من الثلاثة إلا بالآخر") (3) .

(1) التفسير (1/62- 63)، وقد علق المحققون على قوله:"إجماعا" بقولهم: "لعله إجماع الفقهاء والمحدثين، وإلا فإن جمهور علماء الكلام يرون أنه الاعتقاد فقط" وهذا التعليق لا وجه له، لأن علماء السنة ومنهم الأئمة الأربعة مجمعون على ذم الكلام وأهله وتعزير أصحابه، فلا يعتد بخلافهم فيما لم يجمع عليه فضلا عما هو أعظم منه، وإنما تذكر أقوالهم على سبيل الذم والإنكار، وكل الكتب التي كتبت في عقيدة أهل السنة مثل كتاب اللالكائي والآجري وعبد الله بن أحمد وابن بطة

إلخ، وكذا كتب تراجم الأئمة ومناقبهم تذكر هذا وتنقله عن أئمة الإسلام المجمع على فضلهم وإمامتهم.

(2)

جامع العلوم والحكم، تحقيق: محمد أبو النور (1/57) .

(3)

الإيمان، ص 292، ولم أستطع العثور عليه في الأم المطبوع، لكن قرأت لابن القيم أنه في "المبسوط". زاد المعاد (3/607) .

ص: 137

10 -

ويقول الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين: "والصواب لدينا من القول أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل"(1) .

11 -

وقد روى الإمام أحمد في الإيمان، وابنه عبد الله بن أحمد في السنة، عن جماعة كثيرة من أهل العلم الذين ذهبوا لما ذكر وذموا الإرجاء وعابوه، نذكر منهم:

"مجاهد، سعيد بن جبير، الحسن البصري، أبو وائل، إبراهيم النخعي، علقمة، عطاء ابن أبي رباح، قتادة، ابن أبي مليكة، هشام بن عروة، عمر بن عبد العزيز، سفيان الثوري، سفيان بن عيينة، وكيع، الفضيل بن عياض، مالك، الشافعي، حماد بن زيد، حماد بن سلمة، الأوزاعي، شريك، أبو بكر بن عياش، أبو البختري، ميسرة، أبو صالح، ضحاك المشرقي، بكير الطائي، يحيى بن سعيد، عبد العزيز بن أبي سلمة، منصور بن المعتمر، عمير بن الحبيب، جرير بن عبد الحميد، عبد الملك بن جرير، يحيى بن سليم، أبو إسحاق الفزاري، عبد الله ابن المبارك، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ميمون بن مهران، خالد بن الحارث، محمد بن مسلم الطائفي، معمر بن راشد، القاسم بن مخيمرة، صدقة المروزي، محمد بن عبد الله بن عمرو عثمان بن عفان، سعيد بن عبد العزيز، عبد الكريم الجزري، خصيف بن عبد الرحمن"(2) .

12 -

"وروى أبو بكر النقاش بإسناده عن عبد الرزاق قال: لقيت اثنين وسبعين شيخا (وذكر جملة من كبار الأئمة) كلهم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"(3) .

وبعض هؤلاء الأعلام صرح بأن قول أهل الإرجاء بدعة محدثة، وأنهم يهود أهل القبلة أو صابئة هذه الأمة، وأن من أدركوه من أهل العم - صحابة وتابعين - كانوا على ما عليه أهل السنة، ونحو ذلك من النقول الدالة على الإجماع، تصريحا أو لزوما واقتضاء. ولولا خشية التطويل لنقلنا ذلك تفصيلا (4) .

(1) اللالكائي (1/85) ضمن عقيدة الطبري.

(2)

استخلصت هؤلاء الأعلام من كتاب: الإيمان، من لوحة 94 فصاعدا، ومن كتاب: السنة (1/72- 106) .

(3)

الإيمان لأبي يعلى، لوحة 73، وهناك أسماء كثيرة جمعها الحليمي. انظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/84) . وممن نقل الإجماع: الحافظ ابن عساكر، انظر: تهذيب تاريخ دمشق (3/134) .

(4)

انظر الأبواب والفصول الخاصة بذم المرجئة في الإيمان للإمام أحمد، والسنة لابنه عبد الله، والشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة، ونحوها مما ورد ويرد النقل التفصيلي عنه هنا. وانظر: الفتح (1/47) .

ص: 138

ومعلوم أن أي إجماع لا بد له من مستند نصي، وهذا الإجماع يستند إلى نصوص كثيرة جدا، بل ربما كانت هذه القضية أعظم مسائل الخلاف بين الأمة إجماعا من الصدر الأول، من حيث تواتر النصوص وتواتر نقل الأقوال فيها.

ونظرا للاختصار رأيت الاكتفاء بنصين مفصلين من كلام أئمة السنة مذكور فيهما مستند الإجماع:

1 -

كلام الإمام هشام بن عمار (مقرئ الشام ومحدثها في عصره) المتوفى 245 هـ (1) :

قال رحمه الله: "ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث:

أن الحياء شعبة من شعب الإيمان.

وأن حسن العهد من الإيمان.

وأن الإيمان عرى، وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

وأن للإيمان أركانا ودعائم وذروة وحقيقة ومحضا وصريحا وصدقا وبرا وحلاوة وزينة ولباسا وشطرا".

ثم فصل هذا فقال:

"فمن أركانه: التسليم لأمر الله (الشرعي) ، والرضا بقدر الله (الكوني) ، والتفويض إلى الله والتوكل على الله.

ومن دعائمه: الصبر واليقين والعدل والجهاد.

وصريح الإيمان: أن يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغفر لمن شتمه، ويحسن إلى من أساء إليه.

وذروته: أن يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وأن يكون ذامه وحامده في الحق عنده سواء.

وحقيقته: ما روي من: "ثلاث من كن فيه فقد استوجب حقيقة الإيمان: حب الرجل المرء في الله

" (الحديث) .

(1) وهو شيخ الإسلام البخاري، وقد تتلمذ على يد مالك، وكان معاصرا للإمام أحمد، انظر: سير أعلام النبلاء (11/420 - 435) .

ص: 139

أما استكماله: فما روي: "لا يستكمل عبد الإيمان كله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يقدم الصلاة في اليوم الدجن، وحتى يجتنب الكذب في مزاحه". وما روي: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن لسانه".

وأما طعم الإيمان: فأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولا يقول: لولا، ولو أن، ويدع المراء وهو محق، ويدع الكذب في المزاح، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وأما محض الإيمان: فما روي أنهم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به، قال:"ذلك محض الإيمان".

وأما صدق الإيمان وبره: فما روي عن عبيد بن عمير قال: من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله.

وأما لباسه: فالتقوى، روي ذلك عن وهب بن منبه.

وأما حلاوته: فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".

وأما شطر الإيمان: فما روي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور شطر الإيمان - وفي رواية: إسباغ الوضوء شطر الإيمان -، والحمد لله تملأ الميزان، والتكبير والتسبيح يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".

وأما نصف الإيمان: فروي عن عبد الله (ابن مسعود) رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله (1) . اهـ

(1) هذا النص منقول من كتاب: الحجة في بيان المحجة، لقوام السنة أبي قاسم الأصبهاني، لوحة: 160ب - 161 أ، نسخة مكتبة حكيم أوغلو المنسوخة سنة 559، ولعله منقول في الأصل عن أبي الشيخ الأصبهاني، وأبو الشيخ له كتاب في السنة، انظر: سير أعلام النبلاء (16/278) .

ص: 140

أقول: ما ذكره من الأحاديث والآثار ليس على درجة واحدة من الصحة والقبول، لكن الشاهد من مجموعها - وهو الاستدلال على صحة مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة - متحقق، والمطلع على السنة وأقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يمكن أن يزيد على ما ذكر أشياء كثيرة.

وهذه التي ذكرها بعضها أعمال وبعضها أقوال، وبعضها أقوال القلب وأعماله وبعضها أقوال لسان وأعمال جوارح، وبعضها فرائض وواجبات، وبعضها نوافل وكمالات.

ومن تدبرها وتدبر أمثالها في النصوص الأخرى، ثم قابل ذلك بقول المرجئة - الذي عليه أكثر كتب العقيدة في العالم الإسلامي اليوم، وهو أن الإيمان هو التصديق القلبي المجرد من سائر أفعال القلوب والجوارح، على الخلاف في النطق بالشهادتين - عرف شذوذ هذا القول وسقوطه، وأنه بدعة لا يجوز اعتقادها.

2 -

كلام الفضيل بن عياض مع تعليق الإمام أحمد (1) :

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة: "وجدت في كتاب أبي: أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: «أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم»

قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا فهو من أهل الجنة. فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب، أو جاهل لا يعلم. فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.

يا سفيه ما أجهلك لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله

(1) من المتعذر تمييز كلام الفضيل من كلام الإمام، ولهذا أوردتهما معا بدون فصل.

ص: 141

عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك.

ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل. وقرأ:

«وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة»

فقد سمى الله دينا قيمة (1) بالقول والعمل. فالقول: الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ. والعمل: أداء الفرائض واجتناب المحارم. وقرأ:

«واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا»

وقال:

«شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» .

فالدين: التصديق بالعمل كما وصفه الله، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفرق فيه: ترك العمل والتفريق بين القول والعمل. قال الله عز وجل:

«فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين» .

فالتوبة من الشرك جعلها الله قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان، افتراء على الله وخلافا لكتابه وسنة نبيه، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة.

وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد وإنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان. فمن قال ذلك فقد خالف الأثر ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

(1) كذا بالأصل.

ص: 142

وتفسير من يقول: الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان. فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحدا للفرائض رادا على الله أمره.

ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان، وأن فرائض الله من الإيمان، قالوا:«والذين آمنوا وعملوا الصالحات» موصول العمل بالإيمان. ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه مقطوع غير موصول.

وقال أهل السنة: «ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن» فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع.

وقال أهل السنة: «ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن» فهذا موصول.

وكل شيء في القرآن من أشباه هذا فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع (1)، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق. ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(فيه دليل على أن هذا لازم قولهم لا أنه قولهم، فليبحث عن دليل آخر) .

وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه - بعد الشهادة والتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض - صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة.

قيل له - يعني فضيلا -: هذا من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل لم أتكلم به.

وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل، فمن قال: الإيمان قول وعمل، فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل؛ فقد خاطر، لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.

وقال - يعني فضيلا - قد بينت لك، إلا أن تكون أعمى.

(1) أي حقيقة مركبة جامعة للأمرين كما سيأتي في مبحث الحقيقة المركبة (الباب الخامس) .

ص: 143

وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت! وقال: إذا قلت: آمنت بالله فهو يجزيك من أن تقول: أنا مؤمن، وإذا قلت: أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول: آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر، قال الله:«قولوا آمنا بالله» الآية، وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك ألا تقوله، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية.

وقال فضيل: سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا، الله حسيبهم، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا ندري ما لهم عند الله.

قال الفضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله. قال فضيل: الاستثناء ليس بشك.

وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده.

وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال" (1) .

(1) كتاب السنة ص 374 - 377 بتحقيق الأخ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني.

ص: 144