المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الخاتمة تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان - ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

- ‌مقدمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

- ‌ السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

- ‌ السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

- ‌حقيقة النفس الإنسانية

- ‌تمهيد:

- ‌ الإرادات والغايات:

- ‌ الأسباب والوسائط

- ‌ الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

- ‌الخاتمة

- ‌حقيقية الإيمان الشرعية

- ‌المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

- ‌المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

- ‌الباب الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌الفتنة الأولى

- ‌براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

- ‌الفتنة الثانية

- ‌الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

- ‌توطئة:

- ‌البدايات والأصول

- ‌أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌الأثر المنطقي

- ‌حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

- ‌الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

- ‌العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

- ‌توطئة:

- ‌الإيمان حقيقة مركبة

- ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

الفصل: ‌ ‌الخاتمة تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان

‌الخاتمة

تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان همام - أي مريد ومفكر - وأن كل همام حارث - أي عامل كادح -، وأن كل عامل له غاية ومراد ينتهي إليها همه وإرادته ويقصدها بكدحه وعمله، فهو عامل لها أي عابد ولا بد!

وتقرر قبله ومعه أن الإسلام هو دين الفطرة القويمة أنزله الله متسقا مع حقيقة الإنسان مستوعبا كل نشاطه وحركته - هما وحرثا وفكرا وعملا - ومن ثم جاء منهجا متكاملا لإصلاح النشاط الإنساني كله؛ إصلاح الخواطر والأفكار بالاعتقادات الحقة والإرادات الصحيحة والنية الخالصة، وإصلاح الأعمال بأنواع الطاعات والبر والمعروف.

وتكفل ببيان ضد ذلك من الاعتقادات الباطلة والإرادات الفاسدة والأعمال السيئة والتحذير منها.

وكما أن الإنسان لا يمكن أن يكون هماما ولا يكون حارثا؛ فإن الإيمان لا يمكن أن يكون اعتقادا ولا يكون عملا.

ومن هنا نستطيع أن نتبين أي المذهبين في الإيمان هو الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة أم مذهب المرجئة؟

ومعيار الحكم في هذا يبدأ من أصل الخلاف، وهو اختلاف مصدري التلقي والاستمداد عند الفريقين؛ فمن يستقي من مصدر الوحي المعصوم فضروري أن يكون مذهبه هو الحق المتفق مع حقيقة الإنسان تبعا لما تقرر من اتفاق دين الله ووحيه مع خلقه وفطرته، ومن استقى من مصدر آخر - أياًّ كان - فلا بد أن يقع في التناقض، وأن يصادم حقيقة الإنسان تبعا لمخالفته لصريح القرآن!

وبنظرة عامة لما سبق نستطيع أن نستخرج بسهولة هذه النتيجة: أن أهل السنة والجماعة في اعتقادهم الجازم أن الإيمان عمل، والعمل إيمان - على ما سيأتي إيضاحه - إنما يستقون من معين الوحي المعصوم - كتابا وسنة - ما هو منسجم قطعا مع حقيقة النفس الإنسانية.

ص: 126

أما ما تعتقده المرجئة من التفريق بين الإيمان والعمل، وإثبات الإيمان كاملا في القلب مع وقوع عمل الجوارح على خلافه (1) ، فهو فصل اعتباطي للحقيقة النفسية الواحدة، يجعل أحد شقيها ذاهبا ذات اليمين والآخر ذاهبا ذات الشمال في وقت واحد، وهو ما لا يقع أبدا، بل هذا الفصل يشبه من الناحية العضوية فصل القلب عن الجسد وفصل الطاقة عن الحركة.

حقيقة الأمر أن المرجئة تعتبر الإيمان قضية ذهنية مجردة - تسمها تصديقا أو معرفة - تعلق هذه القضية بالقلب كمادة جامدة ومعزولة لا تزيد ولا تنقص، توجد كاملة أو تذهب كاملة، ولا تستلزم أي أثر في الوجدان والشعور أو الحركة والكدح، بل هي مثل أي معلومة رياضية أو مقولة فلسفية!!

وهي حين تعتقد ذلك يغيب عنها حقيقة بالغة الأهمية، وهي كيف إذن يفسر العمل الإنساني الدائب الذي لا يتوقف إلا لحظة الموت؟ ما مصدره؟ ما طاقته؟ ما دوافعه إن لم يكن الإيمان؟ أياً كان هذا الإيمان!!

حقا لقد جهدت كثيرا لكي أعثر على وجهة نظر القوم في هذه القضية الكبرى بلسان مقالهم لا بلسان حالهم، وتساءلت أيستطيع هؤلاء أن يلتزموا القول بأن المؤمن - على زعمهم - مصاب بانفصام الشخصية؛ فهو يعتقد غير ما يعمل، ويعمل غير ما يعتقد (2) ؟!

وكيف يجيبون على كثير من الأسئلة البدهية التي يفجؤهم بها مناظرهم قبل الدخول في تفصيلات النقاش العلمي والخوض الجدلي مثل:

كيف يمتلئ القلب بالحب وتعمل الجوارح أعمالا كلها عداء وانتقام؟!

وكيف يمتلئ القلب بالرحمة وتعمل الجوارح أعمالا كلها غلط وفظاظة؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتصديق وتعمل الجوارح أعمالا كلها تكذيب وإعراض؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتقوى وتعمل الجوارح أعمالا كلها فجور وآثام (3) ؟ .

(1) وهذا مما أجمعت عليه جميع المرجئة. انظر: الإيمان، ص 347 لشيخ الإسلام، وتفصيل أقوالهم يأتي في موضعه بإذن الله. والمراد هنا جنس العمل لا آحاده.

(2)

والواقع أنه حتى انفصام الشخصية لا ينطبق في حقيقته على ما تعتقده المرجئة؛ لأن السلوك المتناقض فيه نتيجة شخصيتين قائمتين فعلا في شخص واحد بالتعاقب.

(3)

إذا كان هذا مذهب المرجئة - أو لازم قول بعضهم وإن لم يلتزمه - وهو عجيب، فيحق لنا أن نعجب أيضا لأقوام ينتسبون إلى العلم ولا يقرون الإرجاء نظريا، ولكنهم يجادلون عن أناس وقفوا أنفسهم على حرب الله ورسوله ومعاداة الدين وأهله، وطمس معالم الحق والهدى ومحاربة أحكام الشريعة وموالاة أعداء الله، وجعلوا ذلك شغلهم الشاغل وعملهم الدائب وهمهم الأكبر لا يشذ عنه إلا أعمال من التلبيس يذرون بها الرماد في العيون، وقد كان أهل الجاهلية الأولى يتنسكون بمثلها أو أكثر منها، وقد قال الله تعالى:«إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما» [النساء: 105- 107]

ص: 127

ولما لم أجد لهذا ذكراً عندهم خرجت بنتيجة وضعتها أول الأمر على أنها افتراض ثم صدقها البحث التاريخي المستقصي؛ وهي أن عقيدة المرجئة لم تكن على الإطلاق ثمرة نظر في النصوص الشرعية ولا وليدة اجتهاد عقلي سوي، وإنما هي وليدة مواقف انفعالية جدلية أفرزتها المعارك الكلامية الطاحنة بين الفرق البدعية، تلك الفرق التي كان جهلها بالشرع وإعراضها عنه سببا في تعلقها لدفع خصومها بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة منقولة عن مصادر وثنية (1) ، ولهذا جاءت أصولها الاعتقادية - لا سيما المرجئة - مجافية تماما للدين والفطرة والعقل والحقيقة الإنسانية.

ولست أدري أي الخيالين كان أسبق إلى عقول المرجئة وهي تؤسس هذه النظرية الهلامية: أهو تخيل أن الإنسان تمثال شاخص لا علم له ولا إرادة ولا إحساس، أم تخيل أن الإيمان قطعة جامدة هامدة لا تنتج إحساسا ولا إرادة ولا عملا؟

فعلى الخيال الأول يريدون إرغام العقول السوية على أن تتصور قلبا بشريا مزروعا في جسد تمثال! وعلى الخيال الآخر يريدون إرغامها على أن تتصور إنسانا حيا يعيش بقلب من الخشب أو الفخار الصامت!

والمهم أنه على كلا الحالين لا نجد خارج أذهان المرجئة إنسانا - أي لا نجد إيمانا - هذه صفته.

أما الإنسان ذاك الذي خلقه الله تعالى بطبيعته حارثا همّاماً حيا حساسا مريدا عاملا، فإنه لا يمكن - في الحالة السوية - أن يؤمن بشيء ولا يعمله، أو يعمل شيئا وهو لا يؤمن به.

فالصلة بين الإيمان - أيا كان - وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة.

ولا مخرج للمرجئة من هذه الإلزامات جميعها إلا أن تقر بأن ما تتحدث عنه مسمية إياه إيمانا ليس هو الإيمان الشرعي، ولتسميه بعد ذلك ما شاءت!!

(1) وأخيرا - بعد استقرار النظرية - يبحثون لها عن مستند من النصوص يتعسفونها تعسفا. بل وصل الأمر بهم إلى أن يضعوا الأحاديث في فضل الإرجاء وأهله وذم المخالفين لهم، ومن أشهر وضاعيهم: الجويباري. انظر: المجروحين (1/142) ، درء تعارض العقل والنقل (7/92) .

ص: 128