الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفتنة الثانية
(1)
ليست الفتنة الثانية إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة.
ويمكن اعتبار واقعة "صفين" المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها.
لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت - وما تزال - لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد.
هذان المنهجان هما "التشيع والخروج" وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي "الغلو"، ولكنه غلو متضاد.
ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره.
وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم - في كثير من الأحيان - من التفاعل المادي.
وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى، ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول ولكنها تختلف عنها كثيرا في الشكل والحقيقة.
وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه.
(1) أي ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
وإن من أعظم المطالب العقدية ومن أهم أصول المنهج التاريخي السليم - معاً - أن نعرف الأسباب الحقيقية لتفرق الأمة الإسلامية وخط السير الواقعي لنمو هذه الفرق وتشعبها وهو ما سوف نحاول إيضاحه بقدر ما يسمح المقام.
إن معركة صفين نشبت والأمة على منهج اعتقادي واحد يدين به كلاً المعسكرين المتحاربين وهو منهج أهل السنة والجماعة، أي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ثبتوا جميعاً على الهدى وما بدلوا تبديلاً "وإنما كانت النخالة فيمن بعدهم".
ولكنها انتهت بظهور معسكر ثالث ذي بدعة اعتقادية ضالة، وهو معسكر المارقة الخوارج، وفي الوقت نفسه كان مثيرو الفتنة الأولى قد أحكموا الخطة لتأسيس دين جديد يكون بمثابة "حصان طروادة" لهدم الإسلام، وهو دين التشيع الذي أسهم ظهور الخوارج في تبرير خروجه وانتشاره، حيث كان غلو إحدى الطائفتين مبرراً لغلو الأخرى في الاتجاه المعاكس.
وإذ أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: "أهل العراق- أهل الشام- الخوارج"؛ فقد أصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: "السنة - وعليها المعسكران المتحاربان - الخروج، التشيع".
وهذا التفرق وما صحبه من صراع أدى إلى نمو بذرة الإرجاء، التي تكونت في الفتنة الأولى لتصبح منهجاً رابعاً فيما بعد (1) .
وقبل الحديث عن هذين المنهجين "الخروج والتشيع" وأثرهما في نشأة الإرجاء وتطوره لا بد من التنبيه إلى قضيتين كبريين:
الأولى: أن بعض كتب الفرق وما اقتفاها من كتب المستشرقين والمحدَثين قد وقعت في خطأ بالغ حين جعلت ما جرى يوم السقيفة هو أصل الانشقاقات والتفرق، وهولت من هذه الواقعة العادية العابرة، واستجازت تبعاً لذلك أن تنسب التشيع والإرجاء والخروج إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهذا عين
(1) وفي الوقت الذي ظهر فيه الإرجاء ظهر القول بالقدر، وذلك في أواخر عهد الصحابة، وبهذا ظهرت أصول فرق الضلالة الأربع وهي:"الشيعة، الخوارج، المرجئة، القدرية".
انظر: درء التعارض (5/224- 302) ، ومنهاج السنة (3/184) ، ومجموع الفتاوى (13/27) فصاعدا.
الافتراء ومحض الاختلاف، وإن قال به من قد يكون حسن النية - كما سبق بعض الحديث عن هذا -.
إن تصوير المسألة على هذا النحو لا يهدر المنزلة السامية للصحابة فحسب، بل ينسف غاية الدين ومهمة الإسلام من أساسها، إذ يتفق مع الرأي الاستشراقي القائل بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو إلا زعيم عبقري وحد قبائل العرب المتناحرة، فلما توفي سرعان ما عاد الخلاف القبلي بين أحياء قريش وغيرها متستراً بالصبغة الدينية!!
وإذا كان هذا الرسول لم يستطع تزكية نفوس الخاصة من أصحابه ويرفعها عن مستوى الإحن والأحقاد الشخصية والصراع السياسي فما فعل إذن ومن ربى؟!!
كما أنه يغفل أصلاً عظيماً من أصول الشريعة وهو الفقه السياسي الإسلامي وأصول الحكم والشورى، التي تتبوأ مركزاً مهماً في الشريعة الكاملة الخالدة.
فإذا كانت هذه الشريعة لم تأت من ذلك بما تسير عليه، وتعرفه الصفوة من الصحابة وارثوا منصب القيادة بعد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما الذي جاءت به إذن في هذا المجال؟!
وإليك - من بين عشرات الأمثلة - هذا المثال مما كتبه أحد أساتذة التاريخ في عصرنا، الذي يشغل أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة القاهرة (1) :
فهذا الأستاذ يتحدث عما جرى يوم السقيفة وكأنه سلسلة ضخمة من الصراع السياسي، على النمط الذي تشهده الحكومات المعاصرة بل هو أعمق وأعظم، لأنه حسب تصوره أنتج فرقاً تمتد على طول التاريخ الإسلامي!!
وهو لا يكتفي بأن يعتبر تلك الحادثة "المشكلة الخطيرة الكبرى التي واجهت الأمة الإسلامية الفتية"(2)، بل يرجع إليها أصل نشأة الفرق حين يقول: "ويبدأ التاريخ السياسي للشيعة بذلك النفر من كبار الصحابة، الذي رأى عند اجتماع سقيفة بني ساعدة وبعدها أن علي بن أبي طالب أحق الناس بالخلافة بعد
(1) الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه: تاريخ العالم الإسلامي، طبعة 1984م.
(2)
ص 177، وانظر: ص 178.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقرابته من بيت النبوة، واشتهر من هذا النفر أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والعباس وبنوه. وإذ رأوا أن علياً يفضل كلاً من أبي بكر وعمر في تولي منصب الخلافة" (1) .
وهذا الكلام يتعارض وبدهيات التاريخ وحقائقه الثابتة سواء في بيعة الصديق (2) أوفي نشأة التشيع، اللهم إلا أن يكون مستقى من مصادر الشيعة وكفى بها كذباً وبهتاً.
ومع ذلك فقد ورد في كتب بعض الباحثين!! وعلى رأسهم الأستاذ الكبير المتخصص علي سامي النشار (3) .
الثانية: أن انقسام الأمة حينئذ إلى سنة وشيعة وخوارج - كما أسلفنا - لا يعني أبداً تكافؤ هذه المناهج والفرق، سواء من جهة الكم أو الكيف كما يريد المستشرقون وأشياعهم أن يصوروا.
فهذه القسمة النظرية شيء والواقع شيء آخر، وذلك أن الخارجين عن السنة والجماعة لم يكونوا إلا شراذم شاذة وأفراداً معدودين، لا سيما في أول الأمر ولم يكن فيهم ذو فضل أو سابقة قط، بل كانوا كلهم من الأعراب وحديثي العهد بالإسلام، أو المنافقين من أبناء الأمم المفتوحة وأشباههم.
وعلى امتداد الثلاثة القرون المفضلة لم يكن أصحاب البدع إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار الإسلام الضخم، ولم يكن فيها أحد من أئمة الإسلام المتبوعين ورجاله المعدودين قط.
بل إن البدع مهما نمت أو طفرت تظل كالشجرة الخبيثة، لا تكاد تهب عليها ريح السنة حتى تجتثها إلى قرار سحيق، ومن أعظم الأدلة على ذلك ما جري في فتنة الإمام أحمد وبعدها، من تبديل تام في موقف الدولة والعلماء حتى ذل المبتدعة واندحروا بعد الظهور والتمكين.
(1) ص 186
(2)
الثابت في الروايات الصحيحة والمعلوم لدى الأمة تواترا أنه لم يكن يوم السقيفة لا شيعة ولا خوارج، بل لم يكن هناك خلاف بالعمق والضخامة التي يصورها هؤلاء، وإنما كان تداولا للرأي ونقاشا بين المهاجرين والأنصار، سرعان ما انتهى في لقاء واحد ووقت وجيز إلى الإجماع الذي لم يشهد تاريخ الحكومات في العالم مثله، تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)
(3)
انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/228) .
ومهما يكن من ظهور البدع في بعض العصور، فإن الحقيقة الثابتة هي أن نقاء المنهج السلفي في ذاته لم يتكدر قط، وأن الطائفة المنصورة القائمة عليه لم تزل وستظل إلى أن يأتي أمر الله.
والمقصود من هذا هو بيان ضلال المستشرقين ومن اتبعهم أو سبقهم من الحاقدين على الإسلام حين يحسبون أن الإسلام مرت به الحال نفسها التي مرت باليهودية والنصرانية في عصورها الأولى، حيث صدعتها الانشقاقات واستعلت البدع والمحدثات حتى طغت وسادت إلى أن لم يبق للحق الخاص من يمثله إلا أفراد، لا يكاد يحس بهم أحد، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وكما تشهد به التجربة الحية التي خاضها سلمان الفارسي رضي الله عنه بحثا عن الحق (1) .
1 -
الخوارج "الظاهرة المضادة":
كلمة الخوارج علم مشهور على تلك الفرقة المعروفة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين وتميزت عن سائر الفرق بالغلو والإفراط والشطط والتنطع، كما تميزت في منهجها الحركي بالاندفاع والتهور والثورية العمياء، والقابلية السريعة للتمزق والاشتعال.
فالجلافة طبعهم، وضيق الأفق سمتهم، ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أعسرهما، وما رأوا طريقين إلا سلكوا أشقهما، وما صادفوا احتمالين إلا انحازوا لأبعدهما.
وقد امتلأت صفحات تاريخهم بنماذج غريبة لعقيدتهم ومنهجهم، فهم يقيمون الدنيا ويقعدونها، ويثورون ويحجمون من أجل إثبات قضية، قد لا تكون ذات شأن، لكنهم يرون أن عدم إثباتها كفر وضلال، فإذا ما تحقق لهم ذلك نكصوا ونكسوا على رؤوسهم وقالوا: قد كنا مخطئين - بل كافرين - حين فعلنا ذلك، فيثورون ويشتطون
(1) بل نقول: إن هذا الدين هو دين الفطرة السليمة لدى كل مخلوق فكيف بعامة المسلمين؟ أما ما نراه اليوم من كثرة البدع فيهم فإن من أعظم أسبابها الجهل وخفاء الحق وتلبيس علماء السوء، ومع ذلك فما تزال الطائفة المنصورة تجاهد في كل مكان ولن يكون النصر إلا لها بإذن الله.
أشد من الأول من أجل إبطال ما أثبتوه، والتراجع عما قرروه ويرون ضد ذلك كفراً!!
وليس هذا فحسب، بل جرى شأنهم أنه خلال هاتين الثورتين الجامحتين ينشق عنهم بعضهم ويشتطون في التهجم على الطائفة الأصل، ويكفرونها بسبب التردد والتقلب، أو بسبب أحد الرأيين - إما السابق - وإما الآخر، ويحدث عندئذ أن ترد عليهم تلك الطائفة بلا تورع ناسبة الكفر إليهم، بسبب مفارقة الجماعة أو بأي سبب تراه.
ثم إنه غالباً ما ينشأ من حدة هذا الخلاف فرقة ثالثة تتوسط بين الطائفتين، وتتوقف عن كلا الرأيين، فما تلبث أن تعنف منهما، وتوصم بالكفر، لأن كلاً منهما يوجب عليها أن تكون معه وإلا فهي كافرة.. وهكذا دواليك، سلسلة من تضخيم المواقف أو الاجتهادات والتكفير بها، يصاحبها سلسلة من الانشقاقات الجذرية والمفاصلات الكاملة.
فقد ابتدأ أمرهم يوم صفين، حين قالوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه عليك أن تقبل تحكيم كتاب الله وإلا فأنت كافر.
فلما وافقهم على التحكيم كارهاً مرغماً، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، فأنت كافر، لأنه لا حكم إلا لله!!
فلما قال لهم: ما حكمت مخلوقاً، إنما حكمت كتاب الله، والكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال، وما فعلت ذلك إلا برأيكم، قالوا: قد كنا لما رضينا بالتحكيم كافرين، والآن نتوب من الكفر، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت عدنا إلى طاعتك، فقال: أبعد إيماني بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهجرتي وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد على نفسي بالكفر؛ قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين (1) .
وعندما كتبت وثيقة الصلح، وطلب أهل الشام منه أن يمحو كلمة أمير المؤمنين، محاها رضي الله عنه رغبة في الصلح وتصديقاً لما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل (2) .
(1) انظر: الطبري (5/83)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، والفتح (12/284) ، ومقالات الإسلاميين، ص 4، تحقيق ريتر.
(2)
في قصة الحديبية.
فقال الخوارج: قد محوت عن نفسك إمرة المؤمنين فأنت إذن أمير الكافرين! وعندما قيل لهم: عودوا إلى طاعة أمير المؤمنين ولا تشقوا العصا، قالوا: إذا جئتمونا بمثل عمر فعلنا (1) ،ولما لم يأتهم أحد بمثل عمر اختاروا لإمرة المؤمنين عبد الله بن وهب الراسبي!! وهو أعرابي بوال على عقبيه، لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه. ولا شهد الله له بخير قط (2) . وتجرأ أشقاهم واغتال أمير المؤمنين، وهو أفضل من على وجه الأرض يومئذ، فما ندم ولا جزع ولما قطع لسانه جزع لفوات ذكر الله عنه كما قال (3) .
ومر عليهم عبد الله بن خباب، فقالوا له: أنت ابن خباب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك، فحدثهم بحديث:"يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن". فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها، وكانوا قد مروا على ساقية فأخذ واحد منهم تمرة فوضعها في فيه فقالوا له: تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من التمرة، فلم يبالوا بأن يقتلوه كما بالوا بحرمة تمرة النصراني (4) !!
ومن النماذج الكثيرة لذلك قصة طويلة، أصلها فتوى فقهية فرعية، لكن تشعب عنها من الآراء والفرق ما يدعو إلى العجب.
وذلك أنه "كان رجل من الإباضية (5) يقال له "إبراهيم" أفتى بأن بيع الإماء من مخالفيهم جائز، فبرئ منه رجل يقال له: "ميمون" وممن استحل ذلك.
ووقف قوم منهم فلم يقولوا بتحليل ولا بتحريم، وكتبوا يستفتون العلماء منهم في ذلك فأفتوا:
أ - بأن بيعهن حلال وهبتهن حلال في دار التقية.
ب - ويستتاب أهل الوقف من وقفتهم في ولاية إبراهيم ومن أجاز ذلك.
ج - وأن يستتاب ميمون من قوله.
(1) انظر: الطبري (5/84) ، والفتح - المصدر السابق -.
(2)
الفصل، ابن حزم (4/157) .
(3)
تلبيس إبليس، ص 95.
(4)
انظر: الفتح (12/297) ، والكامل (7/241) ، مع شرحه رغبة الآمل.
(5)
فرقة منهم منسوبة إلى عبد الله بن إباض، وهي على غلوها ومروقها تعد من أخف فرقهم، وما يزالون إلى اليوم في عمان وبلاد المغرب وزنجبار.
د - وأن يبرأوا من امرأة كانت معهم وقفت فماتت قبل ورود الفتوى (1) .
هـ - وأن يستتاب إبراهيم من عذره لأهل الوقف في جحدهم الولاية عنه، وهو مسلم يظهر إسلامه.
و وأن يستتاب أهل الوقف من جحدهم البراءة عن ميمون، وهو كافر يظهر كفره" (2) .
قال صاحب المقالات: "فأما الذين وقفوا ولم يتوبوا من الوقف وثبتوا عليه، فسموا (الواقفة) ، وبرئت الخوارج منهم وثبت إبراهيم على رأيه في التحليل لبيع الإماء من المخالفين، وتاب ميمون"(3) .
لكن الأمر لم يقف عند هذا، بل تشعب الخلاف وتطور "فافترقت فرقة من الواقفة وهم (الضحاكية) فأجازوا أن يزوجوا المرأة المسلمة عندهم من كفار قومهم في دار التقية، كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية، فأما في دار العلانية - وقد جاز حكمهم فيها - فإنهم لا يستحلون ذلك فيها".
ومن الضحاكية هذه انشقت أيضاً "فرقة وقفت فلم تبرأ ممن فعله - أي التزوج والتزويج - وقالوا: لا نعطي هذه المرأة المتزوجة من كفار قومنا شيئاً من حقوق المسلمين، ولا نصلي عليها إن ماتت ونقف فيها، ومنهم من برئ منها"(4) .
وهكذا "صارت الواقفة من (الضحاكية) فرقتين: فرقة تولوا الناكحة، وفرقة ينسبون إلى عبد الجبار بن سليمان، وهم الذين يتبرأون من المرأة الناكحة من كفار قومهم"(5) .
ولم يقف الأمر أيضاً عند هذا، بل حدث داخل فرقة عبد الجبار انشقاق آخر جعلها تتفرق فرقاً، وأشعل قضية مشكلة تفرقت الخوارج فيها، وطال خلافهم وهي قضية (حكم الأطفال)"أطفال المسلمين وأطفال المشركين في الدنيا وفي الآخرة؛ في دار التقية ودار العلانية!! "
(1) لأنه لا يمكن استتابتها بعد الوفاة، فعملوا بالأحوط وهو البراءة منها؛ لأنها توقفت في هذه المسألة وذلك يعني تكفيرها. نعوذ بالله من الضلالة.
(2)
مقالات الإسلاميين، ص 110.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه، ص 111.
(5)
المصدر نفسه، ص 113.
وذلك أن عبد الجبار خطب إلى أحد أصحابه - ويدعى ثعلبة - ابنته، فسأله ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم، فأرسل - أي عبد الجبار - الخاطب إلى أم الجارية مع امرأة يقال لها أم سعيد، يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا؟ وقال: إن كانت بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها.
فلما بلغتها أم سعيد ذلك قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ ولا تحتاج أن تدعى إذا بلغت. فرد مرة أخرى ذلك عليها، ودخل ثعلبة على تلك الحال، فسمع بتنازعهما فنهاهما عنه، ثم دخل عبد الكريم بن عجرد وهما على تلك الحال فأخبره ثعلبة الخبر، فزعم عبد الكريم أنه يجب دعاؤها إذا بلغت، وتجب البراءة منها حتى تدعى إلى الإسلام، فرد عليه ثعلبة ذلك وقال: لا بل نثبت على ولايتها.... فبرئ بعضهم من بعض على ذلك (1) .
ومع انشقاق الضحاكية في مسألة المرأة، وما بني عليها من الفتوى انشقت أيضا فرقة تدعى (البيهسية) (2) وقد كان رأيها:
أ - أن ميمونا كفر حين حرم بيع المملوكة في دار كفار قومنا، وحين برئ ممن استحل ذلك.
ب - وكفر أهل الثبت حين لم يعرفوا كفر ميمون وصواب إبراهيم - وأهل الثبت الواقفة -.
ج - وكفر إبراهيم حين لم يتبرأ من أهل الوقف لوقفهم في أمرهم، وجحدهم الولاية عنه، وجحدهم الولاية من ميمون" (3) .
هكذا آل أمرهم في هذه المسألة، والمسائل مثلها كثير، وهو ما يعطي الحقيقة الواضحة عن منهج القوم الفكري وجبلتهم النفسية.
وهو المطلوب هنا ولنا عودة إلى هذا التشقق ونتائجه.
(1) المقالات، ص 113.
(2)
نسبة إلى أبي بيهس هيصم بن جابر الصنبغي. انظر: رغبة الآمل شرح الكامل (7/241)
(3)
المقالات، ص 113، ثم ذكر كيف تشققت البيهسية فرقا يتبرأ بعضها من بعض!!
* الخروج بين الحدث التاريخي والظاهرة العقدية:
إن القضية المهمة في دراسة مذهب الخوارج وتحليله، هي معرفة الحقيقة في كون الخوارج فرقة تاريخية ظهرت في عصر من العصور، متأثرة بعوامل بيئية وخارجية، أم ظاهرة عقدية وفكرية تتجدد - أو يمكن أن تتجدد - على مر العصور، وهي تحمل دائما سمات معينة وملامح محددة.
والبحث في هذه الحقيقة يقودنا إلى أصل نشأة الخوارج؛ لأنه يفسر لنا الواقعة التاريخية الأولى من جهة، ويعين على تحديد السمات والملامح من جهة أخرى.
والباحثون العصريون والمحدثون، هم الذين أفاضوا في تحليل قضية الخروج، ولكن بمعايير عصرية وبمنهج مستورد - غالبا - فجاءوا بآراء لا بد من مناقشتها، وأهم هذه الآراء شيوعا - حسبما رأيت - هو الرأي القائل بأن أصل الخروج هو موضوع "الخلافة" وأن التعصب القبلي ومنافسة قريش على هذا المنصب، هو السبب الذي يفسر خروج الخوارج، ومن توابع هذا الرأي القول بأن ظلم بني أمية والعباس وجورهم هو السبب.
والحق أن القائلين بهذا الرأي - رغم اعتمادهم على بعض المأثورات التاريخية - متأثرون بواقع العصر وروحه أكثر من تأثرهم بالحقائق التاريخية المجردة.
فإن موضوع "الخلافة" لا يبدو للباحث المنصف المتعمق إلا مسألة جزئية أو تطبيقية عند أكثر الفرق، وليس هو أصل نشأة جميع الفرق كما يصور هؤلاء؛ بل إن الشيعة وهي الفرقة التي تجعل الخلافة ركنا من أركان الدين، لم يكن أصل نشأتها هي قضية الخلافة نفسها كما سنرى.
وكون التعصب القبلي سبب ذلك مردود بالحقيقة التاريخية، التي تبين أن أغلب الخوارج هم من بني تميم؛ أي من مضر لا من ربيعة ولا من اليمن، وهذا يستلزم أن يكون تعصبهم لقريش لا لمناوئيها؛ فإن قريشا مضرية كما هو متواتر عند أهل النسب، بل ثابت بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
(1) من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، سمعته يقول: هم أشد أمتي على الدجال. قال: وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه صدقات قومنا. وكانت سبية منهم عند عائشة فقال: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" البخاري (5/172) .
وأما اعتماد مؤلفي "ضحى الإسلام" ومن تابعهم كالشيخ أبي زهرة، على قول المأمون:"وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، وما خرج اثنان إلا كان أحدهما شاريا"(1) فليس في محله؛ لأن العبارة إن صحت فهي تتحدث عن خصوص قبيلة ربيعة، لا عن الخوارج عامة، وقد نظرت في أسماء قادة الخوارج وزعمائهم بالنهروان فلم أجد فيها ربيعا (2) .
أما قبيلة بني تميم في الجملة فالمشهور عنها الفخر بكون النبوة والخلافة في مضر، وقد كان الفرزدق وجرير، وهما أشهر شعراء ذلك العصر، يفتخران بذلك وكلاهما من تميم - ويعيران الأخطل كل منهما من جهته - بأن قبيلته ربيعة محرومة من هذا الشرف.
وفي نونية جرير المشهورة:
إن الذي حرم المكارم تغلبا جعل النبوة والخلافة فينا (3)
وهذا ما يتفق وعبارة المأمون.
ولا يضير هذه الحقيقة أن يكون دافع الردة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو التعصب القبلي - أومن دوافعها - وأن يشترك المرتدون والخوارج أحيانا في النسب؛ فإن أي باحث منصف لا يمكن أن يصنف القراء المتعمقين (4) والمرتدين في صنف واحد، بجامع العصبية القبلية ضد قريش.
إذ يستحيل تصور اللقاء بين فكر متشدد في الدين متعمق فيه إلى حد اعتبار الخطأ أو المعصية كفرا، وبين دعوة تجاهر بادعاء النبوة وإسقاط بعض الفرائض.
والحق أن الذي جعل دافع الفريقين وغرضهما واحدا، مستدلا باشتراكهما في النسب، قد جازف مجازفة يمنعها العدل والإنصاف، حتى لو كان حرقوص بن زهير
(1) أي خارجيا وهذه العبارة التي نقلوها أوردها ابن طيفور في تاريخ بغداد المحقق باسم بغداد في تاريخ الخلافة العباسية، ص 146.
(2)
مع أن فيهم من غير بني تميم من هو خثعمي أو سلمي، انظر الطبري (5/85،76)
(3)
ديوان جرير، تحقيق كرم البستاني، ص 476، وتغلب المنسوب إليها الأخطل فرع من ربيعة كما هو معلوم.
(4)
هذا هو أصل تسمية الخوارج قبل صفين، وبقي يطلق عليهم بعدها.
هو حرقوص بن مسيلمة، ولكن أنى لهؤلاء الباحثين أن ينصفوا وهم مقلدون للمستشرقين بلا بصيرة.
ومن الآراء العصرية غير ذلك ما ذهب إليه نفر من الماركسيين والبعثيين، والمتأثرين عموما بالنظرة المادية الغربية، أو الناقلين نصا عن المستشرقين، من أن علة ظهور الخوارج هي بيئتهم الصحراوية المجدبة، وواقعهم المادي المسحوق بالمميزات الطبقية التي كان الخلفاء ومن لف لفهم يتنعمون بها. وليس الرد على هذا بأن الخوارج كانوا أزهد الناس في دنيا معروضة عليهم مبذولة لهم فحسب؛ بل إن الحديث الصحيح في نشأة فكرهم ينقضه ويرده.
فقد روى الإمام البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: دعه؛ فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث الدم. آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال: ثدييه - مثل ثدي المرأة - أو قال -: مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس".
قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
فهذا ما وقع قبل أن يوجد الظلم وجور الحكام بالفعل، فليس الجور هو أصل النشأة، وإن كان مما يعزز الفكرة ويسوغها، ولكنها المثالية المجنحة التي لا تقيم للمصالح والملابسات أي اعتبار، وإنما تنطلق محلقة في الفضاء، لكن سرعان ما يهوي بها الواقع في قرار سحيق (2) .
مثالية تنتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنها بما حدث زمن عثمان، فما ظنها بما جرى زمن حكام أمية والعباس؟؟!!
(1) الفتح (12/290) .
(2)
وذلك أن هذا الرجل اعتبر إعطاء زعماء الأعراب، ومنع فقراء المهاجرين والأنصار خروجا عن العدل، دون نظر منه للمصالح والاعتبارات التي قسم النبي صلى الله عليه وسلم مراعيا إياها، ومن أدلة هذه المثالية ما تقدم من مطالبتهم بخليفة مثل عمر فلما اختاروا هم إماما لم يكن سوى الأعرابي السالف الذكر!!
صحيح أن رفض انحصار الخلافة في قريش، ورفض جور بني أمية والعباس أصبحا من مميزات الخوارج فكرا وحركة، ولكن هذا ناشئ عن التطور الطبيعي للفكرة والحركة؛ وذلك أن أول أمرهم كان المطالبة بمثل عمر في سيرته وعدله، ولم يكن المطالبة بأن الخليفة منهم، ولكنهم لما رأوا إنكار الأمة عليهم ما فعلوه من اختيار أمير للمؤمنين من أعراب بني تميم، دافعوا عما صنعوا دفاعا قادهم إلى القول بأن الخلافة جائزة لكل مسلم صالح لها قرشيا أو غير قرشي.
فالفكرة فلسفة تبريرية لما وقع، وليست أساسا اعتقاديا بني عليه الواقع.
والعلة الحقيقية لظهور الخوارج هي علة نفسية جبلية، وهي أن النفوس البشرية لا تنضبط دائما على المنهج العدل الوسط، بل تجنح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال؛ إما الإيغال المهلك، وإما التفريط المسرف، وقد وقعت الخوارج في الأول كما وقعت المرجئة في الآخر.
وإنما تنضبط النفوس بالتزكية المستمرة والتقويم الدائب كما حصل للجيل الأول (1) ، ولهذا تمثلت فيه حقيقة الأمة الوسط في كل شيء.
* وقد تجلت فطرية هذا الدين وكماله وتوازنه في معالجة كلا الانحرافين:
فإنه لما كان الغلو بطبيعته لا تطيقه إلا نفوس قلائل تنطلق من تصور فاسد، وكثيرا ما تحظى بالإعجاب والإكبار لما تلزم به أنفسها فيظن الرائي أنها تمثل حقيقة الدين وسموه، جاءت الأحاديث الصحيحة تبين صفات هذه النفوس وشبهات ذلك التصور، فكان التحذير من الخوارج واضحا باعتبارها فرقة مارقة ذات منهج عقدي متميز.
ولما كان التفريط بطبعه غالبا على أكثر النفوس؛ جاء التحذير منه متمثلا في الأوامر والنواهي عامة، والتذكير بها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرورة التناصح بين الأمة، والوعيد للمفرطين.
والمقصود بيان خطأ النظرة إلى الخوارج باعتبارها حدثا تاريخيا له تفسيراته المحلية المحدودة، وضرورة النظر إليها على أنها فكرة عقائدية يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان؛ أي أنها "ظاهرة تدين" توجد في كل دين وفي كل عصر، وهذا
(1) مثلما ضبط النبي صلى الله عليه وسلم غلو الثلاثة الذين قال أحدهم: أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم!!
الذي يستشفه المرء من النصوص الواردة فيهم، ومن تبويب كتب السنة والفقه لأحكامهم استقلالا.
فالغلو في دائرته الواسعة ظاهرة كبرى في تاريخ الديانات قبلنا، حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"(1) .
وما تأليه المسيح - أو عزير - ورهبانية النصارى إلا مثال لذلك.
أما هذه الملة فقد ظهر الخوارج في أولها ووسطها وآخرها، وما يزال خروجهم في المستقبل واردا.
ومن هنا كان لا بد من معرفتهم ودراسة فكرهم ومنهجهم؛ ليحذر ويجتنب أولا، ولضمان عدم نشوء رد الفعل المقابل وهو الإرجاء ثانيا.
وهذه الحقائق النصية والمصالح الشرعية، تضيع منا إذا استسلمنا لمنهج أكثر الباحثين المعاصرين والمحدثين، في دراسة الفرق الإسلامية ونشأتها.
وإذا أحسنا الظن بهؤلاء وغضضنا الطرف عما لديهم من التقليد الأعمى أو التحريف المتعمد، فإننا نقول: إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على العصور السابقة مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي يسمونها "روح العصر"!
فلأننا في عصر تغلب عليه الصراعات السياسية والتكتلات الحزبية المجردة، والأغراض النفعية الخالصة؛ قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع على ذلك العصر، الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الطوائف والفرق، وإن ما قدمته الفرق المنحرفة من تضحيات ضخمة، وجهود هائلة تتجرد عن أي غرض مصلحي؛ لهو أحد الأدلة على ذلك.
ومن هنا اصطبغت الكتابة التاريخية المعاصرة - إلا ما قل - بالمنهج الغربي، الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته التي تتمرغ في أوحال المادة، وتعاني مرارة الصراع النفعي، ولا تؤمن بما يسمى "القيم المجردة"، ثم هي بعد ذلك وقبله غارقة حتى الثمالة في النظرة العصبية الحاقدة على الإسلام.
(1) صحيح، رواه الإمام أحمد (1/347،215) ، والنسائي (5/268) .
ويستوي في ذلك من تبنى المنهج الاستشراقي بصراحة؛ مثل أحمد أمين وزميليه (1) ، ومن سلك مسلك اليساريين مثل شاكر مصطفى وزاهية قدورة، ومن نقل بلا روية وتفكر مثل أبي زهرة والنشار.
وإذا كان أكثر الكتاب المعاصرين يعتبرون ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، خلافا دنيويا سياسيا؛ فلا عجب أن يجعلوا علة ظهور الخوارج والمرجئة دوافع عصبية أو نفعية.
وحسبنا أن نورد مصطلحا واحدا من مصطلحات العصر، لنرى كيف كانت نتيجة تطبيقه على تاريخ الفرق ونشأتها؛ ألا وهو مصطلح "السياسة"؛ وذلك لارتباطه الواضح بالعلمانية الفكرية التي يعتقدها هؤلاء.
فالناظر في كتابات هؤلاء، لا يكتم عجبه من التضاد المفتعل بين مفهومي الدين والسياسة، ذلك التضاد الذي أربك آرائهم، وذبذب نظراتهم حول نشأة الفرق الإسلامية، حين يتجادلون ويتساءلون: أكان الخوارج حزبا دينيا أو سياسيا، وكذلك المرجئة والشيعة؟
فالذين اعتبروا الخوارج فرقة سياسية؛ جعلوا التعصب القبلي وما أسموه "الديكتاتورية" في الخلافة هو السبب في وجودها والدافع لحركتها، وحاولوا دحض كل ما يخالف ذلك من الآراء.
أما الذين عدوها فرقة دينية؛ فقد جعلوا الحماس الديني والزهد المتطرف هو العلة الحقيقية وتنكروا لما عدا ذلك.
ونسي هؤلاء وهؤلاء أن السياسة باعتبارها جانبا أساسيا مهما من جوانب الإسلام، لا يمكن فصلها كلية عن أي اتجاه عقائدي داخل الحياة الإسلامية، وغاية ما في الأمر أن بعض الطوائف يبرز لديها هذا الجانب أو ذاك وأكثر ما يظهر ذلك من المسار الحركي والتطبيقي، لا في الأصول النظرية التي الأصل فيها هو العقيدة والمبدأ (2) .
(1) طه حسين والعبادي، وانظر عن اعترافه بتبني آراء المستشرقين: ضحى الإسلام، ص 3. وقد تبعه ابنه حسين أحمد أمين في كتابه دليل المسلم الحزين، وهو أحد أصحاب الاتجاه العصري الذي سبق له إشارة.
(2)
حتى نظرية الإمامة عند الشيعة لا تسوغ اعتبار الشيعة فرقة سياسية بمفهوم هؤلاء، بل هي مما يؤيد قولنا: إن العقيدة هي الأصل؛ ولهذا جعلتها الشيعة أصلا من أصول دينها.
ومع أنه لا مانع من استخدام هذه المصطلحات للتقسيم الفني، أو الوصف التغليبي؛ فإنه يجب أن يحذر من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الفصل الاعتباطي بين الدين والسياسة، وأن ينبه إلى خلط التطبيق التعسفي لمعايير العصر ومقاييسه على الإسلام وتاريخه المتميز (1) .
وبخصوص موضوع الخوارج يستطيع الإنسان أن ينقض كلا طرفي الرأي بسهولة، بأن يقال:
إن المصادر التاريخية مطبقة على أن الخوارج منذ خروجهم يوم صفين، قد اعتقدوا كفر علي رضي الله عنه، لأنه حكم الرجال في دين الله - بزعمهم - ثم تجمعوا وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، وسموه "أمير المؤمنين".
فعلى الذين يرونها فرقة سياسية مجردة؛ أن يفسروا: كيف قامت هذه الفرقة على مبدأ التكفير بالمعصية؟
وتحت أي فصل من فصول السياسة - كما يفهمونها عصريا - نجعل قضية التكفير بالمعصية؟
وعلى الذين يرونها فرقة دينية أن يفسروا: لماذا اجتمع هؤلاء في "ثورة مسلحة"، وبايعوا رجلا منهم أميرا للمؤمنين، في حين أنها فرقة "دينية" حسب مفهومهم العصري للدين؟
وتحت أي طقس من طقوس الدين - حسب تصورهم - نضع هذا التصرف الذي نشأ مع الحركة منذ ولادتها؟
* الخوارج ونشأة الإرجاء:
بعد اتضاح أن الخروج "ظاهرة" وليس "حادثة"، وبمعرفة السبب الحقيقي لها، نستطيع أن نصل إلى معرفة الظاهرة المضادة التي سلكت منهج الغلو في التفريط، مقابل غلو تلك في الإفراط.
وعقدة القضية - أن الظاهرة المضادة إنما انبثقت في الأصل من الظاهرة الأولى نفسها، أي أنهما لم يكونا منذ النشأة منهجين متعاديين، اشتط أحدهما ذات
(1) ومن أبرز هذه التطبيقات؛ القول بأن الحروب الصليبية ليست حروبا دينية، بل هي حروب اقتصادية، هذا مع إجماع التاريخ الأوروبي على أن العصور الوسطى هي:(عصور الإيمان) ، وإطباقها على أن الكنيسة كانت تسيطر على كل شيء، حتى أن تتويج الأباطرة كانت من اختصاصات البابا، فضلا عن اسم الحروب نفسه؛ ولهذا عجز دعاة هذا الرأي عن الإتيان بؤرخ معاصر لتلك الحروب - مسلما أو صليبيا - لا يعتبرها حروبا دينية!!
اليمين والآخر ذات الشمال، وإنما هما منهج واحد في الأصل:" الخروج"، لكن بعضه أشد غلواً من بعض، وتطور الخلاف بين أصحابه في الجانب التطبيقي، ليصبح موضوعه مرتكب الكبيرة الحقيقي من الأمة، بعد أن كان عثمان وعلياً وسائر الصحابة زمن الفتنة.
وبهذا التطور الذي لم يدرك أبعاده أكثر الباحثين، آل الأمر إلى منهجين متضادين على الحقيقة، وتجاوز الخلاف بينهما حدود الوقائع التاريخية حين النشأة، ليصبح خلافاً نظرياً عاماً مؤصلاً.
وقد استوقفتني هذه الحقيقة كثيراً - أعني حقيقة أن أصل المرجئة هم الخوارج لا بطريق التضاد في الغلو بل ذاتاً وحقيقة - وليس سبب ذلك عدم ثبوتها، ولكنه عدم وضوح تعليلها الذي تبين بعد بالتتبع الدقيق لفرق الخوارج.
ومن هنا ظهرت ضرورة التوسع في دراسة إحدى الظاهرتين، لمعرفة حقيقة الأخرى.
وإذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة، فإن علينا أن نعرف تلك الظاهرة البارزة في تاريخ الخوارج، وهي الاختلاف والتشقق إلى أكثر من رأي عادة وفي كل قضية تقريباً، وهو ما أنتج بمجموعه ثلاثة اتجاهات كبرى في مواقف فرق الخوارج، منذ حادثة التحكيم إلى بروز منهج الإرجاء قائماً بنفسه وهي:
1 -
الاتجاه الغالي المطرد في غلوه.
2 -
الاتجاه المتراجع إلى حد التساهل (نسبياً)
3 -
الاتجاه التوسطي، أو المحايد "التوقف والتبين".
والقصة التي سبق إيرادها شاهد على هذه الاتجاهات الثلاثة في المواقف، وفي تاريخ الخوارج أمثلة أخرى، يهمنا منها بالأساس قضية حكم مرتكب الكبيرة عندهم، والدار التي يعيش فيها!!
لقد اشتطت الخوارج، وغلت في النظرة لمرتكب الكبيرة (1) ، وتشعب بها الخلاف في أحكامه، حتى كثر بعض فرقها بعضاً.
لكن ليس هذا فحسب وإنما الرزية كل الرزية أن مرتكب الكبيرة عندهم ليس هو الزاني أو السارق أو الكاذب ونحوهم من عصاة الأمة، وإنما هو علي وعثمان
(1) وهي الأصل الذي انبثقت منه القضايا المنهجية الأخرى، وعلى رأسها قضية الدار كما سنرى.
وطلحة والزبير وعائشة وأبو موسى وعمرو بن العاص ومعاوية، وأمثالهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحكم على هؤلاء بالكفر هو أصل عقيدة الخوارج، وحادثة التحكيم هي التي أثارت ذلك كما سبق.
وهذه هي البداية المهمة في تاريخهم، وفي تاريخ نشأة الإرجاء وانبثاقه من أصولهم، كما ألمحنا.
فمنذ أن خرجت "المحكمة الأولى" على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهي تجاهر بتكفيره، وظل الإجماع بينهم منعقداً على ذلك، وانطلاقاً منه تم الاتفاق على اغتيال رؤساء المختلفين في الفتنة، وهو ما فعله ابن ملجم وأخفق فيه صاحباه.
لكن هذه البدعة الشنيعة، ترعرعت وتطورت واتخذت فيما بعد مجالاً تطبيقياً وتفصيلياً أوسع من مجرد اعتقاد كفر الصحابة المختلفين، ومن هنا كان طبيعياً أن يظهر الخلاف بينهم تبعاً لمنهجهم السابق إيضاحه.
وكان من أعظم أسباب تطور الفكرة واتساع مجالها، نجاحهم في حكم بعض الأقاليم في زمن الخلاف بين ابن الزبير والأمويين، حيث أسسوا لهم "دار إسلام وهجرة" - بزعمهم - ومن هنا ظهرت دواعي الأحكام الفرعية والتطبيقية التي تتخذ عندهم - كما أسلفنا - منزلة الأصول والعقائد.
ولهذا فسوف نتتبع تطور العقائد والخلافات، من خلال العرض التاريخي للأحداث المسببة لها، وبذلك نصل إلى معرفة أشمل وأعمق، لا سيما عن الاتجاهات الثلاثة، وخاصة "الاتجاه التوسطي".
ويبدأ تاريخ الخلاف بينهم بما أحدثه "نافع بن الأزرق الحنفي"، زعيم الخوارج الأزارقة حول الحكم على "الدار" وعلى معاملات أهلها، وهي القضية التي أصبحت أصلاً من أصول الخوارج المنهجية قديماً وحديثاً، إذ سائر الأحكام عندهم مترتبة عليها.
وكان سبب الخلاف الذي أحدثه نافع، أن امرأة من الخوارج عربية تزوجت أحد الخوارج من الموالي، فأنكر أهلها عليها ذلك، فأخبرت زوجها، وخيرته بين اللحاق بمعسكر نافع للدخول في دار الإسلام، أو الاختفاء، أو الطلاق، فخلى سبيلها، وأخذها أهلها فزوجوها ابن عم لها لم يكن على رأيها.
فاختلف الخوارج في حكمها، فعذرها بعضهم بأنها مجبرة وأن الدار بالنسبة لها دار تقية، إذ لا تستطيع إظهار دينها، وترفض الزواج بالمشرك!!
ولكن نافعاً وحزبه لم يعذروها هي وزوجها، وقالوا:"كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأنا اليوم بمنزلة المهاجرين بالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، وبرئوا من القائلين بالتقية".
ثم تطورت المسألة حتى كفروا كل من لم يهاجر إليهم، وإن كان على رأيهم، ولم يعذروه، وإن كانت إقامته تقية، وقالوا: إن كلم من لم يظهر موافقتهم كافر، لا تحل ذبيحته ولا مناكحته، بل لم يقتصروا على الكبار البالغين وإنما صرحوا بأن حكم الأطفال حكم آبائهم.
وقالوا: لا بد من امتحان من قصد دارنا، حتى نعلم صحة إسلامه.
وهكذا برزت قضية "الدار"، وأصبح من أصول الأزارقة المميزة لهم "أن كل كبيرة كفر، وأن الدار دار كفر - يعنون دار مخالفيهم - وأن كل مرتكب كبيرة ففي النار خالداً مخلداً"، و"أن من أقام في دار الكفر فكافر لا يسعه الخروج".
ولم يقفوا عند هذا، بل طبقوا ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا من أصولهم تكفير علي بسبب التحكيم، وتكفير الحكمين أبي موسى وعمرو (1) .
وبالأولى يكفرون معاوية وأهل الشام - رضي الله عن الصحابة أجمعين -.
وهذه الآراء جعلت "نجدة بن عامر الحنفي" يستقل عن نافع، وينشئ دار إسلام خاصة به وأصحابه، ومال إلى التخفيف من حدة هذا الغلو، فقرر أن الجاهل في غير الأصول معذور، حتى تقوم عليه الحجة، وأن المجتهد المخطئ معذور، وأن من خاف العذاب على المجتهد قبل قيام الحجة عليه فهو كافر!!
وأطلق على من لم يهاجر إلى دارهم اسم النفاق - ولم يقل الكفر كنافع - وقال: إن أصحاب الحدود والجنايات - ممن هو على دينهم - لا يستوجب البراءة بل نتولاه، وأن الله يخلده في النار.
ومما أحدثه "نجدة" وأصّله مسألة "الإصرار"، فقال: إن المصر على أي ذنب صغيرة أو كبيرة كافر (2) ، وقد تحولت هذه المسألة إلى أصل منهجي من أصول أكثر الخوارج قديماً وحديثاً.
(1) انظر عما سبق: مقالات الإسلاميين، ص 86- 87، 89، ورغبة الآمل (7/232)
(2)
انظر: المقالات، ص89- 91، أي ليس مجرد الفعل كما تقول الأزارقة.
وكالعادة تفجر الخلاف داخل أصحاب نجدة، فانقسموا ثلاث فرق:"النجدية، والعطوية، والفديكية".
* والعطوية: منسوبة إلى "عطية بن الأسود الحنفي"، الذي فارق نافعاً ونجدة، منتقلاً إلى سجستان بأرض فارس، وهناك انتشر الخوارج وحكموا فترات متقطعة، وتفرقوا أيضاً فرقاً شتى، حيث خرج من العطوية رجل يدعى "عبد الكريم بن عجرد"، فانبثقت من آرائه خمس عشرة فرقة، يطلق عليها جميعاً اسم "العجاردة".
- فمنهم فرقة قالوا: "إنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو" وتميزت بذلك.
- وفرقة أخرى أعادت النظر في مسألة الدار وأهلها، فقالوا: إن الواجب هو "قتال السلطان خاصة، ومن رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا إذا أعان عليهم، أو طعن في دينهم أو صار عوناً للسلطان أو دليلاً له"!
- وفرقة ثالثة تفردت بالقول بالتوقف في الأطفال عامة فقالوا: "ليس لأطفال الكافرين ولا لأطفال المؤمنين ولاية ولا عدواة ولا براءة، حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام، فيقروا به أو ينكروه".
- وفرقة أخرى عممت التوقف فهم "يتوقفون عن جميع من في دار التقية، من منتحلي الإسلام وأهل القبلة، إلا من قد عرفوا منه إيماناً فيتولونه عليه، أو كفراً فيتبرأون منه"(1) .
وإذا تركنا سجستان وخوارجها، وعدنا إلى اليمامة والعراق، فسنجد أن رجلين من مخالفي نجدة ونافع أسسا فرقتين كبيرتين من الخوارج، وكل فرقة منهما تشعبت كالعادة إلى فرق أخرى.
- هاتان الفرقتان هما: "الصفرية" أتباع زياد بن الأصفر، و "الإباضية" أتباع عبد الله بن إباض.
- وفي الوقت نفسه - على ما يبدو - خرجت طائفة لم يسمها الأشعري، لكن قولها مهم وهو أن "ما كان من الأعمال عليه حد واقع، فلا يتعدى بأهله
(1) انظر المصدر السابق، ص92- 98
الاسم الذي لزمهم به الحد، وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافراً، كالزنا والقذف وهم قذفة زناة (1) .
وما كان من الأعمال ليس عليه حد كترك الصلاة والصيام فهو كافر، وأزالوا اسم الإيمان في الوجهين جميعاً" (2)
وهذه الفرقة ينطبق عليها اسم الإرجاء، من حيث أنها لا تقول بإسلام ولا كفر، فيما كان دون الشرك والكفر، فهي إحدى فرق ما يسمى "مرجئة الخوارج" والله أعلم.
* أما الإباضية: فقد مالت إلى مذهب قريب من هذا التوقف أو الإرجاء، وابتعدت عن غلو نافع أكثر مما ابتعد نجدة، وذلك أن جمهور الإباضية يزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين (3) ، حلال مناكحتهم، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، وحرام ما وراء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به.
"وزعموا أن الدار - يعنون دار مخالفيهم - دار توحيد، إلا عسكر السلطان فإنه دار كفر..".
وقالوا: "إن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين"(4) .
وقالوا: "إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها"(5) .
وأما مسألة "الأطفال" فقد توقفت الإباضية - أو أكثرهم - فيها، وقالوا: يجوز أن يعذبهم الله، ويجوز ألا يعذبهم على تفصيل فيه (6) .
وتطورت فكرة التوقف والإرجاء عند الإباضية، بعد حدوث الواقعة التي سبق ذكرها بشأن الإماء والنساء من مخالفيهم، حيث ظهر فيهم فرقة سميت:"الواقفة" - كما سبق -.
(1) أي من ارتكب ما يوجب الحد وأقيم عليه، فإنهم يسمونه بما ارتكب فقط، فيقولون: زان وسارق وقاذف، ولا يقولون مؤمن وكافر.
(2)
المقالات، ص101- 102
(3)
مسألة التفريق بين الشرك والكفر اختلفت فيها فرق الخوارج كثيراً، انظر المقالات، ص102ـ103، 118
(4)
المقالات، ص104- 105، وفي النص سقط طفيف حاولت اصلاحه بإضافة واو العطف قبل كلمتي " غنيمة " و " حرام ما وراء ذلك ".
(5)
المصدر السابق ص110.
وهؤلاء الواقفة - إضافة إلى ما نقلناه من افتراق الضحاكية عنهم، ثم انشقاق الضحاكية - لم يتفقوا على رأي محدد بل "اختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من توقف".
كما اختلفوا "في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلى من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه". (1)
وقد ظهر للواقفة عدو منافس هم فرقة "البيهسية" أصحاب أبي بيهس، الذي كفر الواقفة بسبب المسألة المذكورة كما سبق، وعلل ذلك بالتفريق بين التوقف في الحكم نفسه، والتوقف في حق من ارتكبه قائلاً: "إن الوقف لا يسع (2) على الأبدان، ولكن يسع على الحكم بعينه ما لم يواقعه أحد من المسلمين، فإذا واقعه أحد من المسلمين، لم يسع من حضر ذلك ألا يعرف من أظهر الحق ودان به، ومن أظهر الباطل ودان به. (3)
أي أن الإنسان قد يتوقف عن حكم ما لا يدري أهو كفر أم إيمان، فإذا فعله فاعل وحضر ذلك، فلا بد أن يعرف أهو محق أو مبطل في فعله، ويحكم عليه بالكفر أو الإيمان، بحسب الاجتهاد والعذر ونحو ذلك.
وعابت البيهسية مخالفيهم في ذلك وأسمتهم "الواقفة"(4) .
ثم إنه انشقت عن البيهسية فرقة يقال لها "العوفية" وهي في الحقيقة فرقتان: فرقة تقول: "من رجع من دار هجرتهم، ومن الجهاد إلى حال القعود، نبرأ منهم". وفرقة تقول: " لا نبرأ منهم، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم"(5) . وكلا الفريقين من العوفية يقولون: "إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد"(6) .
(1) المقالات، ص111- 112
(2)
أي لا يصح ولا ينبغي.
(3)
المقالات، ص113
(4)
10) المقالات ص 114.
(5)
لأن الإباضية يجيزون الإقامة بدار التقية!!
(6)
12) المقالات، ص115
وهم بهذا الرأي الأخير يعودون إلى ما قالته المحكمة ونافع من قبل، وإن كان الكفر عندهم يختلف عن الكفر عند أولئك، ولكن غلو هذه الفكرة واضح، حتى في حق من ارتكب الكفر الحقيقي.
ولا أدري ما الفرق بين هذه الفرقة وبين الفرقة الأخرى من البيهسية، التي قال عنها أبو الحسن:"وقالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون، وتركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلت القتل والسبي على كل حال"(1) ، إلا أن يكون ما زاده في هذه لم تذهب إليه تلك، فالله أعلم.
ثم ينقل عن فرقة أخرى من البيهسية أنهم قالوا: "من ارتكب كبيرة لم نشهد عيه بالكفر، حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية إلا أنهم قالوا: نقف فيهم ولا نسميهم مؤمنين ولا كافرين". (2)
وإذا انتقلنا للحديث عن الصفرية نجد هذا الاتجاه - أعني التوقف والإرجاء - لدى فرقة أخرى منهم غير هذه، وهي الفرقة المسماة "الحسينية".
وهم "يرون الدار دار حرب وأنه لا يجوز الإقدام على من فيها إلا بعد المحنة، ويقولون بالإرجاء في موافقيهم خاصة (3) كما حكي عن نجدة"(4)
وما عداه فليس للصفرية قول متميز ذو شأن، إلا إذا صحت نسبة "صالح بن مسرج" إليهم.
وصالح هذا كان من زعمائهم، حكم ببعض أحكام في الغنائم وغيرها، فاختلف عليه الخوارج في ذلك، فبرئت منه فرقة فسميت "الراجعة"، وصوب أكثر الخوارج رأي صالح، ووقف "شبيب" في صالح والراجعة وقال: لا ندري ما حكم به صالح حقاً كان أو باطلاً.
"ويقال: إن أكثر الراجعة عادوا إلى قول صالح.. فأما بعض الإباضية فيذهب إلى أن الذين برئوا من صالح كفروا، وأن من وقف في كفرهم كفر".
(1) المقالات، ص116
(2)
المقالات، ص116
(3)
أي من ارتكب كبيرة ممن هو على دينهم يرجئون أمره إلى الله.
(4)
المقالات، ص119
وأما شبيب فقد انتسب إليه فرقة تسمى "الشبيبية"، وذلك أن شبيباً وقف في صالح وفي الراجعة فقالوا:"لا ندري أحق ما حكم به صالح أم جور؟ وحق ما شهدت به الراجعة أم جور؟ فبرئت الخوارج منهم وسموهم مرجئة الخوارج"(1) .
(1) المقالات، ص122- 123
* الخلاصة والنتيجة:
نخلص من هذا العرض لفرق الخوارج واختلافاتها واتجاهاتها الثلاثة في الخلاف - كما أشرنا - إلى أن الحكم على مرتكب الكبيرة هو أساس أصولهم، ومجمع زمامها، سواء المجمع عليه منها، أو المختلف فيه، وبحسب الحكم عليه يكون الحكم على الدار التي ينتمي إليها.
فإذا ما عدنا إلى منبع الفكرة وسببها، وهو حادثة التحكيم، وعرفنا أن مرتكب الكبيرة عندهم إنما هو بالقصد الأول علي وعثمان ومعاوية وعمرو وأبو موسى وطلحة والزبير.. إلخ، وأن كل من ارتكب كبيرة بعدهم، فالحكم عليه في نظر أي فرقة من الخوارج، إنما هو بحسب حكمها على أولئك الأصحاب السابقين.
إذا علمنا ذلك، برزت لنا حقيقة مهمة، وهي أن طائفة من الخوارج "تشمل فرقاً أو بعض فرق" تقف من الحكم على الأصحاب المختلفين في الفتنة موقفاً وسطاً، بين قول المحكمة والأزارقة، الذين يكفرونهم رأساً، وبين قول الإباضية ونحوهم، ممن يقول: هم كفار نعمة.
وهذا الموقف هو التوقف والإرجاء، أي إرجاء حكمهم في الآخرة إلى الله تعالى، مع إثبات اسم الإيمان لهم في الدنيا، بناء على الأصل الذي اتخذته أكثر فرق التوقف، وهو أن كل معصية دون الكفر لا يطلق على صاحبها اسم الكفر، ولا ينفى عنه اسم الإيمان.
فتكون خلاصة عقيدة هذه الطائفة: "أن كل من ارتكب كبيرة، دون الشرك بالله تعالى، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، أما في الدنيا فنحن نجزم بكفر من أشرك بالله فقط، وما عداه نثبت له اسم الإيمان".
وبغض النظر عن مفهومهم لمصطلحي "الكفر والإيمان"، ومدى موافقته لأهل السنة والجماعة من عدمها، المهم هو أنهم لا يحكمون على مرتكب الكبيرة، كالزنا والقذف والسرقة بالكفر والخلود في النار، كعامة الخوارج، بل يرجئون أمره إلى الله تعالى، فإذا ما أرادوا تطبيق هذا الأصل على ما تقرر لديهم، من كون الصحابة المختلفين في الفتنة مرتكبين للكبائر، كانت النتيجة: أن عثمان وعلياً وطلحة
والزبير ومعاوية.. إلخ مؤمنون (1) ، لأنهم لم يشركوا بالله، فلا ننفي عنهم اسم الإيمان، ولكن لا ولاية لهم ولا محبة، نظراً لما ارتكبوه، ومقتضى ذلك - كما رأينا من واقع انشقاقاتهم - أن يقولوا: إن الخوارج مخطئون في تكفيرهم لهم!!.
وإذا أضفنا إلى هذا ما لاحظناه من براءة الخوارج من مخالفيهم ومنابذتهم لهم، وتصورنا ما لا بد أن تتعرض له هذه الطائفة من مهاجمتهم وعداوتهم، وما سوف تقابلهم به هي بطبيعة الحال، أدركنا أن من الممكن المعقول أن يتعمق العداء بينهما، ليصبح عداء بين منهجين متفاصلين متضادين، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أن هذه العقيدة تتفق مع "الإرجاء"، الذي هو موقف نفسي يمكن أن يقع عند كل خلاف - كما أسلفنا وذكرنا - وجهة نظر أصحابه في الفتنة الأولى.
ويؤكد لنا صحة ما ذهبنا إليه منطوق قصيدة "ثابت قطنة"، المسمى "شاعر المرجئة" وهي ما يوصف بأنه الأثر الإرجائي الوحيد الباقي (2) .
وهذا ما يقودنا تلقائياً إلى الحديث عما سمي تاريخياً "المرجئة الأولى"، والاستقلال عن موضوع الخوارج ابتداءاً من هذه النقطة.
* المرجئة الأولى:
المرجئة الأولى علم على الطائفة التي فصلنا الحديث عن نشأتها في المبحث السابق "أي الاتجاه التوسطي أو التوقفي من الخوارج" ومن وافقها في نظرتها للصحابة خاصة.
وهذه التسمية صحيحة وثابتة، وما حفظه التاريخ عن هذه الطائفة - على قلته - يكفي لإعطاء تصور جيد عنها.
ولن نتبع منهج المؤرخين والباحثين في استقاء فكرتها من قصيدة ثابت قطنة ونحوها، بل نسلك مسلك المحدثين فنأخذ الحديث عنها من مصادره الصحيحة - إن وجدت - ثم نعرج على ما أثر في كتب التاريخ والفرق والأدب.
(1) أي مسلمون.
(2)
أنظر: الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، نعمان القاضي، ص734، وهذا صحيح بالنسبة للإرجاء الخاص بالصحابة.
يقول الإمام الحجة محمد بن جرير الطبري في كتابه "تهذيب الآثار": "فإن قال لنا قائل: ومن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟
قيل: إن المرجئة هم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر؟ فأما إرجاؤه فتأخيره، وهو من قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر فهو يرجئه إرجاء، وهو مرجئه، بهمز. وأرجاه فلان يرجيه أرجا، بغير الهمز فهو مرجيه، ومن قول الله تعالى ذكره:«وآخرون مرجون لأمر الله» .
يقرأ بالهمزة وغير الهمز بمعنى مؤخرون لأمر الله، وقوله مخبراً عن الملأ من قوم فرعون:«قالوا أرجه وأخاه» . بهمز أرجه وبغير الهمز (1) .
فأما الأمر الذي بتأخيره سميت المرجئة مرجئة، فإن ابن عيينة كان يقول فيما حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال: سمعت إبراهيم بن موسى - يعني الفراء الرازي - قال: سئل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهين: قوم أرجوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل. فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولاتصلوا معهم ولا تصلوا عليهم ". (2)
ثم قال الطبري - بعد نقل آثار عنهم-: "والصواب من القول في المعنى الذي من أجله سميت مرجئة أن يقال: إن الإرجاء معناه ما بيناه قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وتارك ولايتهما والبراءة منهما مرجئاً أمرهما فهو مرجئ، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان مرجئهما عنه فهو مرجئ.
غير أن الأغلب من استعمال أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الديانات في دهرنا هذا الاسم فيمن كان من قوله: الإيمان قول بلا عمل، وفيمن كان مذهبه أن الشرائع ليست من الإيمان، وأن الإيمان إنما هو التصديق بالقول دون العمل المصدق بوجوبه" (3)
(1) هذا هو معنى الإرجاء لغة، والإمام الطبري حجة في اللغة والقراءات، فلم أشأ التطويل بذكر ما أطالت فيه كتب اللغة، وانظر تاج العروس (10/145)
(2)
2/181) ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد وزميله.
(3)
2/185) ولعل في آخر جملة نقصاً، وصحتها:" من المصدق بوجوبه ".
ففي كلام الإمام ابن عيينة وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما - أو أحدهما - وكذا لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما.
والغاية أن الإرجاء عندها ليس في مسألة الكفر والإيمان عامة، وإنما هو في الموقف من الصحابة المختلفين في الفتنة رضي الله عنهم خاصة. فهم مناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفيرهما، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في علي والحط على عثمان أو تكفيره، وكذلك مخالفون لما عليه الجماعة في أمرهما.
ومن هنا كان طبيعياً أن تتعرض هذه الطائفة لنقد وعيب هذه الطوائف جميعاً، وكل طائفة تعيبها وتخالفها من الزاوية التي تراها مخالفة لها فيها، ومن هنا تشعب القول عن المرجئة الأولى واختلف.
فالجماعة يعدونهم من الخوارج - وهم كذلك لمن تأمله - كما قد سبق إيضاح ذلك وإثباته من واقع فرق الخوارج.
والشيعة تعدهم نواصب، ولهذا أدخلت أهل السنة عامة في مسماهم - كما سنرى - فهم يطلقون على كل من لم يغل في علي مرجئاً، إلا إذا كان يكفره فهو خارجي.
والخوارج يعدونهم مرجئة، لأنهم لم يجزموا بكفر علي وعثمان - في أول الأمر - وبالتالي لم يجزموا بتكفير مرتكب الكبيرة عامة بعد تطور النزاع على النحو الذي سبق.
وهذا ما يفسر السر في تضارب الأقوال عنهم، واختلافهم حتى أعيى الكثير من المصنفين والباحثين الجمع بينها، في حين أن من اعتمد على المصادر السلفية وحدها لا يجد أي اختلاف، وعلى هذا نسوق الشواهد:
فمن المرجئة الأولى "محارب بن دثار" قاضي الكوفة، المتوفى حوالي سنة 116، يقول عنه ابن سعد:"كان من المرجئة الأولى، الذين كانوا يرجون علياً وعثمان، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر"(1)
(1) الطبقات (6/307) طبعة الشعب، وانظر تهذيب التهذيب (10/49- 50)
وينقل الذهبي النص مع زيادة: "قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى، الذين يرجون علياً وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر". (1)
وإذا كان هذا يعد عند الجماعة بدعة وجرحاً، فإن الشيعة تعده كفراً بالنسبة لعلي، وقد نسب صاحب الأغاني، وصاحب كتاب الزينة - وكلاهما رافضي - هذه الأبيات إلى محارب:
يعيب علي أقوام سفاها
…
بأن أرجي أبا حسن عليا
وإرجائي أبا حسن صواب
…
عن العمرين براً أو شقيا
فإن قدمت قوماً قال قوم
…
أسأت وكنت كذاباً رديا
إذا أيقنت أن الله ربي
…
وأرسل أحمداً حقاً نبيا
وأن الرسل قد بعثوا بحق
…
وأن الله كان لهم وليا (3)
فليس علي في الإرجاء بأس
…
ولا لبس ولست أخاف شيّا
(1) سير أعلام النبلاء (5/218) . وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر (16/265،267) ، نشر مكتبة الدار بالمدينة النبوية.
والمقصود بالإيمان هنا: المرتبة التي هي فوق الإسلام، لا أنه يخرجهما من الإسلام.
(3)
الأغاني لأبي فرج الأصفهاني (7/275) ، طبعة دار الكتب، تحقيق أحمد زكي صفوت.
(4)
الزينة، أبو حاتم الرافضي (ضمن كتاب: الغلو والفرق الغالية، ص 265) .
(5)
أي جهنم.
(6)
أن يتمنى أن ولدته أمه جروا.
(7)
الأغاني (7/276)
وعند الأخير زيادة بيتين:
وعثمان وماج الناس فيه
…
فقالت فرقة قولاً بذيا
وقال الآخرون إمام صدق
…
وقد قتلوه مظلوماً بريا (4)
فرد عليه أحد شعراء الشيعة سائراً على منهجهم في الغلو والفحش:
يود محارب لو قد رآها (5)
…
وأبصرهم حواليها جثيا
وأن لسانه من ناب أفعى
…
وما أرجى أبا حسن عليا
وأن عجوزه مصعت بكلب
…
وكان دماء ساقيها جريا (6)
متى ترجي أبا حسن عليا
…
فقد أرجيت يا لكع نبيا (7)
ولشاعرهم الحميري الملقب بالسيد، قصيدة في المعنى نفسه قال:
خليلي لا ترجيا واعلما
…
بأن الهدى غير ما تزعمان
وأن عمى الشك بعد اليقين
…
وضعف البصيرة بعد العيان
ضلال فلا تلججا فيهما
…
فبئست لعمركما الخصلتان
أيرجى علي إمام الهدى
…
وعثمان ما اعتدل المرجيان (1)
ويرجى ابن حرب وأشياعه
…
وهوج الخوارج بالنهروان (2)
ويرجى الألى نصروا نعثلاً
…
بأعلى الخريبة والسامران (3)
يكون أمامهم في المعاد
…
خبيث الهوى مؤمن الشيصبان (4)
وهكذا تعرض محارب - ومن كان معه - لهجوم الشيعة في كلا جانبي رأيه وهما: إرجاء علي، إذ كيف يرجى وهو عندهم نبي، كما صرح الأول، أو إمام الهدى الوحيد!!
وإرجاء عثمان، إذ كيف يرجى وهو إمام ضلالة - وكذا معاوية - فالواجب تكفيرهما!!
وعن الشك الذي يظهر في أبيات محارب، وخوفه من لوم الطوائف المعارضة نقول:
إنه لم يسلم من اللوم، بل عرض الحميري ذلك واصفاً له بالضلال، وإن عمى الشك بعد اليقين لضلال حقاً، لكن ليس على ما يرى الحميري.
(1) رواية الأغاني: "ما أعند"، وعليها يكون فيه لحن وما أثبتناه من الزينة
(2)
رواية الزينة: "ابن هند"، والمقصود به معاوية رضي الله عنه.
(3)
نعثل: لقب تلقب به الشيعة عثمان رضي الله عنه وقبحهم
(4)
الظاهر أنه - أخزاه الله - يقصد عثمان رضي الله عنه، والأبيات في الأغاني (7/280) ، والزينة، ص 265- 266.
هذا ولا يصح أن يكون إرجاء محارب هو تأخيره علي إلى الدرجة الرابعة في ترتيب خلافة الراشدين، كما ظن ذلك بعضهم، لأن هذا هو مذهب الجماعة وإجماع الأمة، وإنما إرجاؤه ما سبق، أما مصادر الشيعة فهي تعتبره كذلك، لكن لا عبرة بقولها، فهو فرع عن عقيدتها ودينها.
هذا وقد ذكر صاحب الأغاني أيضاً أن أحد الشيعة أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشماتة به، فقال السيد الحميري قصيدة في مدح الشيعة، وهذا مما يدل على تنافس وعداء (1) .
ولعل ما يؤيد معرفة سفيان بن عيينة لهذا الطائفة، أن أحد شيوخه عاصم بن كليب الجرمي هو تلميذ لمحارب بن دثار، وقد كان على الإرجاء نفسه، كما وصفه بذلك شريك بن عبد الله، ومما يدل عليه قوله لأحدهم:"إنك خشبي"، والخشبية هم الرافضة أو طائفة منهم، فكأنه يدافع عن نفسه بأنه موقفه خير من الغلو في علي (2) .
ونجد إماماً فقيهاً آخر هو "ابراهيم النخعي"، وقد كان معاصراً لمحارب وأعدائه يتكلم عن هذه الطائفة.
فقد ذكر ابن سعد بسنده "أن رجلاً كان يأتي إبراهيم النخعي فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان؟ فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك، فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي"(3) .
أي لست من الشيعة - الذين أسس مذهبهم عبد الله بن سبأ كما هو معلوم - ولا من المرجئة الذين يقابلون غلو الشيعة بالإجحاف وعدم التولي له، يعني فهو من أتباع السلف أهل السنة، وأراد أن يعلم تلميذه أن يجتنب هاتين الفرقتين اللتين كانتا في الكوفة حينئذ.
وفي العصر نفسه نجد إماماً آخر مشهوراً هو "الشعبي" - الذي كان أول أمره خشبياً، ثم ترك ذلك وفضح كثيراً من أصول التشيع، لا سيما علاقته باليهود (4) - ينصح تلميذاً له قائلاً: "أحب صالح المؤمنين وصالح بني هاشم ولا تكن شيعياً، وأرج ما لم
(1) الأغاني (7/275)
(2)
انظر ترجمته في: تهذيب الكمال للمزي، وتهذيب التهذيب (5/55)
(3)
الطبقات (6/192)
(4)
انظر ما رواه عنه مالك بن مغول في ذلك: منهاج السنة (1/6- 8)
تعلم ولا تكن مرجياً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سندياً" (1) .
فهو يحذره من الطوائف الأربع التي كانت معاصرة حينئذ: وهي الشيعة والمرجئة والقدرية والشعوبية، ويبين له أن الإنسان يكل علم ما لم يعلم إلى الله، لكن أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما هو من المعلوم الثابت، وهو الشهادة لهما بالإيمان والجنة، وموالاتهما وعدم البراءة منهما، بخلاف ما تقوله المرجئة فيهما، كما سيأتي في أبيات شاعرهم ثابت قطنة.
وممن نسب إليه الإرجاء على هذا المعنى من رجال الحديث: "خالد بن سلمة الفأفاء"، وهو يروي عن الشعبي ويروي عن سفيان بن عيينة، قيل عنه:"كان مرجئاً يبغض علياً"، وعبارة الذهبي:"كان مرجئاً ينال من علي رضي الله عنه". (2)
ولا شك أن عدم تولي علي هو بغض له.
ولنأت الآن إلى قصيدة ثابت قطنة - شاعر المرجئة المشهور - التي وصفت بأنها الأثر الإرجائي الباقي، الذي يصور عقيدة هذه المرجئة وأفكارها (3)، وهي:
يا هند إني أظن العيش قد نفدا
…
ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا
إني رهينة يوم لست سابقه
…
إلا يكن يومنا هذا فقد أفِدا
بايعت ربي بيعاً إن وفيت به
…
جاورت قتلى كراماً جاوروا أحدا
يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا
…
أن نعبد الله لا نشرك (4) به أحدا
(1) الطبقات (6/173)
(2)
الميزان (1/631) ، وهو من رجال مسلم، والسير (5/374)
(3)
الدكتور نعمان القاضي - الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، ص 734
(4)
في المحققة: " لم نشرك " وهو أبعد عن اللحن، والجزم للضرورة الشعرية
نرجي الأمور إذا كانت مشبهةً.
…
ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم
…
والكافرون استووا (1) في دينهم قددا
ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً
…
م (2) الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا
لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا
…
سفك الدماء طريقاً واحداً جددا
من يتق الله في الدنيا فإن له
…
... أجر الحساب إذا وفي الحساب غدا
وما قضى الله من أمر فليس له
…
رد وما يقضِ من أمر يكن رشدا
كل الخوارج مخطٍ في مقالته
…
ولو تعبد فيما قال واجتهدا
أما علي وعثمان فإنهما
…
عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
وكان بينهما شغب وقد شهدا
…
شق العصا وبعين الله ما شهدا
يجزي علي وعثمان بسعيهما
…
... ولست أدري بحقٍ أيّةً (3) وردا
(1) في المحققة: " اشتووا "، مع حذف حرف الجر.
(2)
"من " حذف النون للضرورة، وقال المحققون:" أي بالغ من أحد "، والصحيح " أي بالغ بأحد "
(3)
أي أي من الدارين وردا، الجنة أم النار؟!
الله يعلم ما يحضران به
…
وكل عبد سيلقى الله منفردا (1)
هذه القصيدة التي رواها صاحب الأغاني "وجادة"(2)، ذكر معها سببها قال:"كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة وقوماً من المرجئة، كانوا يجتمعون فيتجادلون بخراسان، فمال إلى قول المرجئة وأحبه، فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء"(3)
والقصيدة من الناحية الشعرية جيدة وتعبر عن عقيدة صاحبها بوضوح ويمكن تلخيصها في الآتي:
1 -
إرجاء الأمور المشتبهة والمختلف فيها إلى الله، وهو تمهيد لما سيقرره عن الخليفتين الراشدين.
2 -
إثبات الإسلام لكل من أظهره (أي ما لم يشرك أو يرتد) .
3 -
أن الذنوب والمعاصي لا تخرج من الملة، فلا يكفر مسلم موحد إلا إذا قارف ذنباً يبلغ به حد الشرك بالله تعالى (وهذا تمهيد لما سيحكم به على الخليفتين، اللذين هما عاصيان فقط في نظره) .
4 -
الأصل الإمساك عن دماء المسلمين، إلا على سبيل الدفاع عن النفس.
5 -
أن المتقين ينالون جزاءهم كاملاً يوم القيامة.
6 -
الإيمان بالقضاء والقدر وحكمة الله فيه.
7 -
تخطئة الخوارج في تكفير المسلمين، (لا سيما عثمان وعلي) ، ولا يشفع لهما تنسكهم واجتهادهم في العبادة، (أي ولو كانوا يظنون أن هذا اجتهاد منهم وعبادة) .
8 -
أن عثمان وعلياً لم يثبت عليهما الشرك منذ أسلما فلا نكفرهما، وإنما كان منهما وبينهما فتنة واختلاف، والله أعلم بسرائرهما، وسيجزيهما بسعيهما، وقد مضيا
(1) الأغاني (13/50)(بولاق) ، وفي الطبع المحققة (14/270)(دار الكتب)
(2)
أي نقلها من كتاب لا بإسناد.
(3)
14/269)
إلى ربهما، ولا ندري أهما من أهل الجنة أم من أهل النار، فالله يعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة حين يحاسب كل إنسان على انفراد.
وأما فهم بعض الباحثين المعاصرين من القصيدة أن المرجئة "يرجئون الحكم على مرتكب الكبيرة، أي يؤخرونه ويجعلونه لله، ويرجئون العمل عن الإيمان، إذ إن الإيمان عندهم ألا يشرك الناس بالله الواحد الصمد، وهو في غنى عن العمل، خلافاً للخوارج الذين يرونهما - يعني العمل والإيمان - شيئاً واحداً لا وزن لأحدهما بدون الآخر، وعلى هذا فإن الخوارج مخطئون في هذا التصور، وعثمان وعلي وغيرهما مؤمنون، ولا يستطيعون الحكم على أحدهم بخطأ وكذلك جميع المسلمين لا يصح التعرض لهم بحكم، إذ يكفي أن يكونوا مسلمين، أما عملهم فذلك موكول إلى ربهم ولو لم يصوموا أو يصلوا أو يحجوا فهم مسلمون ولا يصح أن يطردوا من حظيرة الإسلام"(1) .
فهو بلا شك مبالغ فيه، أراد صاحبه أن يدخل عقيدة المرجئة بمفهوم الإرجاء العام، ضمن مفهوم هذه الأبيات، التي قصد بها قائلها الإرجاء الخاص بالصحابة "إرجاء المرجئة الأولى" الذي هو في أصله شعبة من الفكر الخارجي كما أوضحنا، لكن المؤلف في كتابه كله لم يستطع الفصل بين المفهومين.
وأحسب أن من يقرأ القصيدة دون تصور سابق، لا يفهم منها الاستهانة بالعمل والتفلت من الفرائض، بل العكس هو المنطوق، كيف وقد اعتبر ما وقع من عثمان وعلي من المعاصي - بزعمه - مبرراً لأن يخالف ما هو ثابت مشهور لدى الأمة قاطبة من فضلهما والشهادة لهما بالجنة؟
كما أن سيرة ثابت وحياته التي قضاها على الثغور ومجالدة الأعداء أقرب إلى سير الخوارج منها إلى غيرهم (2) .
والواقع أن اللبس حاصل من منطوق الأبيات فهي في الحقيقة متناقضة، وتناقضها هذا يعطينا شاهداً آخر على تطور بدعة الإرجاء - كما سبق أن قررنا في المبحث السابق - وذلك أن الجدل بين غلاة الخوارج ومتساهليهم (واقفتهم) بشأن ما
(1) الدكتور نعمان القاضي، ص736
(2)
لثابت قطنة سيرة جهادية رائعة، والبيت الثالث يدل على ذلك، وقد قتل فعلاً في معركة مع الترك. انظر الطبري (7/58)
وقع من الصحابة من ذنوب ومعاصي أدى إلى ظهور مرجئة الخوارج، الذين يقولون بإرجاء عثمان وعلي رضي الله عنهما.
وانطلاقاً من القاعدة المتفق عليها عند الخوارج عامة وهي أنهما مرتكبي كبيرة، استمر الجدل بشأن مرتكب الكبيرة، مع تناسي الأشخاص تدريجياً، حتى أصبح موضوعه مرتكب الكبيرة عامة، حيث أصر غلاة الخوارج على تكفيره، وأصر هؤلاء على إرجائه، على ما سبق تفصيله.
فانتقل الأخيرون - ربما وهم لا يشعرون - إلى نقطة بعيدة جداً عن نقطة البداية، حيث تحولوا من الفكر الخارجي إلى نقيضه وبعضهم عادى الخوارج معاداة شديدة كالحال دائماً في الفئات المنشقة، مع أن فيه بذرة أو شعبة منه.
وهذا بدقة هو الحال مع ثابت قطنة فهو يصرح بتخطئة الخوارج، ويقرر أن العاصي الموحد لا يحكم عليه بالكفر، ومع ذلك يصرح بإرجاء علي وعثمان، ويشك في دخولهما الجنة، وهذا عين ما قالته في حقهما مرجئة الخوارج الأولون (1) .
وحال ثابت - مع ما سبق قبله - هو الذي يفسر التناقض المستمر بين أصحاب الإرجاء الأول وبين الشيعة، بخلاف الإرجاء بمفهومه العام المتداول، فبعض الشيعة من الغلاة فيه كما سيأتي، إذ ليس ثمة شك في أن ثابتاً في نظر الشيعة خارجي سافر سواء سموه كذلك أم سموه مرجئاً.
فهو على أيه حال "ناصبي غال" عندهم، كما أنه خارجي واضح في نظر أهل السنة، إذا نظرنا لموقفه من الخليفتين، مجرداً عما قرره من مبدأ في صاحب الكبيرة عامة (البيتين السادس والسابع) .
أما إذا نظرنا نظرة متكاملة - وهو الصواب - فلا شك أنه متناقض، وما كان أصحاب البدع إلا كذلك.
وعلى هذا المعنى للإرجاء نستطيع أن نفهم أبيات بشر بن المعتمر - رئيس معتزلة بغداد أيام الرشيد - فقد بلغ الرشيد عنه أنه رافضي، فسجنه فكتب في الحبس قصيدة رجزية طويلة تبلغ كما قيل أربعين ألف بيت، منها قوله:
(1) فجمع بين التوسط في حكم مرتكب الكبيرة عامة وبين التشدد والشطط في الحكم على الخليفتين. أو فتوسطه في حكم مرتكب الكبيرة عامة مع اعتماد الخليفتين مرتكبي كبيرة أدى إلى الشطط في حكمه عليهما.
لسنا من الرافضة الغلاة
…
ولا من المرجئة الحفاة (1)
لا مفرطين بل نرى الصديقا
…
مقدماً والمرتضى الفاروقا
نبرأ من عمرو ومن معاوية (2)
فالمعتزلة - كما هو معلوم - هم أقرب شيء إلى الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة، إذ قالوا: إنه لا مؤمن ولا فاسق من حيث إطلاق الاسم، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما من حيث العاقبة والمآل، فهم يتفقون مع الخوارج على أنه مخلد في النار أبداً كالكفار (3) !!
فخلافهم مع المرجئة في هذه المسألة خلاف تضاد، ولا موضع لتهمة المعتزلي بالإرجاء في الإيمان.
أما في مسألة الحكم على الصحابة المختلفين في الفتنة، فبعض المعتزلة الكبار كعمرو بن عبيد تبرأ من الطائفتين وقال: إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها (4) ، وهذا قريب من قول الخوارج، بل هو في الأصل قول بعض طوائفهم - كما سبق - لكن بتعديل وتحوير، ومعلوم أنه قول الروافض - أو بعضهم - بالنسبة للشيخين، ولعمرو ومعاوية، وإجمالاً لغير علي وطائفته.
ومن هنا جازت التهمة على بشر بأنه رافضي يتبرأ من الصحابة (أو مرجئي يرجئ أمرهم إلى الله معتبراً إياهم أصحاب كبائر، غير مقر بالشهادة لهم بالجنة) ، وحبسه الرشيد، ودافع بشر عن نفسه بأنه ليس من الرافضة الغلاة - والغلاة هنا وصف لا مفهوم له - وأيضاً ليس من المرجئة الحفاة، المتنقصين لحق الصحابة، مقابل غلو أولئك منهم، بل هو وسط بزعمه غير مفرط، وفسر هذا التوسط بأن عقيدته
(1) كذا بالمهملة ويصح أن يكون الجفاة، وهو أظهر في المراد.
(2)
انظر الصفحة التالية.
(3)
انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي المعزلي عبد الجبار، ص711، 814 - تحقيق عبد الكريم عثمان
(4)
انظر منهاج السنة (4/145)
ومن اتبعه تقديم الشيخين والإقرار بفضلهما والبراءة من بني أمية وأهل الشام والمحاربين لعلي وسكت بشر عن رأيه في عثمان وعلي أو لم تبلغنا الأبيات (1) .
لكن حصل مراده بنفي تهمة الرفض عنه بما قاله عن الشيخين، وإن كان هذا لا يخرجه عن كونه خارجياً، فالخوارج يقدمون الشيخين ويرضونهما، ثم يبرأون ممن بعدهما.
والمقصود أن مفهوم المرجئة في ذلك الزمن، كان يطلق على المرجئة الأولى إيضاً، أي الإرجاء المتعلق بالصحابة.
على أن هناك إشكالاً بين ما تقرر هنا عامة وما ذكره القاضي المعتزلي عبد الجبار وهو قوله: "إن طائفة يقولون: إن الله تعالى يجوز أن يعفو عن الفاسق، ويجوز أن يعاقب، ولا يعلم حقيقة ذلك، وهو الذي تقوله المرجئة الأولى"(2) . فهذا إرجاء عام لا إرجاء المرجئة الأولى.
لكن الإشكال يزول إذا عرفنا أن ما كان يقوله المرجئة الأولى في خصوص الصحابة، قال به المتأخرون - أو بعضهم - في مرتكب الكبيرة عامة، وجعلوهما سواء - كما سبق - فالقاضي نسب القول للأصل، أو أنه الذي عمم ما خصصته المرجئة الأولى، فوضع الفاسق مطلقاً مكان "علي وعثمان" الوارد حكمهما في قصيدة ثابت وهو عدم القطع لهما بالعفو أو العقوبة.
والحاصل أن المرجئة الأولى كانت مقابلة للتشيع من وجه، لا سيما وأهل الشام - كما هو معلوم - لم يكونوا يرون كفر علي، وإنما كانوا - إذا غلوا - يرون البراءة منه وجواز مقاتلته، وهذا في نظر الشيعة يماثل موقف المرجئة منه، ومن هنا أطلقوا عليهم وصف الإرجاء ولا غرابة، فقد أطلقوه على أهل السنة عامة، لمجرد أنهم لا يفضلونه على الشيخين!!
ومن الطبيعي أن تثور الخصومة ويقوم الجدل بين الشيعة وبين حزب بني أمية من أهل الشام وغيرهم، وبهذا يفسر ما يوجد في كتب الأدب، من ذكر وقائع بين
(1) الأبيات أوردها ابن المرتضى اليماني، وهي في الجزء المحقق باسم (المنية والأمل) ، ص153، تحقيق: محمد جواد مشكور، وانظر: الحيوان للجاحظ (4/455)، تحقيق: عبد السلام هارون، حيث أورد طرفاً منها في هجاء الخوارج، ولبشر ترجمة في لسان الميزان (2/33) ، وسير أعلام النبلاء (10/203)
(2)
شرح الأصول الخمسة، ص650
الشيعة والمرجئة، مثل كتاب الأغاني (1) ، وكتاب البيان والتبيين (2) ، لا سيما وصاحباهما رافضي ومعتزلي، والرافضة والمعتزلة اتحدتا منذ القرن الثالث تقريباً (3) .
وعلى ذلك نفهم أيضاً ما أورده الجاحظ من شعر لأحد الشيعة:
إذا المرجيّ سرك أن تراه يموت بدائه من قبل موته
فجدد عنده ذكرى علي وصل على النبي وآل بيته (4)
فالمقصود في هذه كلها هو الإرجاء الخاص.
وإذا رجعنا إلى المصادر الشيعية فسنجد ذلك وأجلى منه. يقول صاحب كتاب الزينة في شرح معنى الإرجاء والمرجئة: "وأما المرجئة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرجئة يهود هذه الأمة" (5) ، وروي عن محمد بن علي عليه السلام أنه قال: "المرجئة بدلوا سنة الله، ظاهرها وباطنها، وهم يهود هذه الأمة، وهم أشد لنا عداوة من اليهود والنصارى".
وقد تأول الناس في هذا اللقب تأويلات كثيرة، فكل فريق يتنصل منه ويلزمه غيره، ويتأول فيه تأويلاً ينتفي به عنه (6) .
(1) انظر: (4/63) الطبعة غير المحققة.
(2)
انظر: (2/230) منه، والحكاية وسابقتها ساقطتان أخلاقياً، والشاهد مجرد وقوع خصومة بين الشيعة ومن يسمون مرجئة
(3)
أدى الانتصار الكبير الذي حققه أهل السنة بقيادة الإمام أحمد، وانقلاب الدولة العباسية إلى التنكيل بالمعتزلة والمبتدعة وظهور حقيقة التشيع وانتساب القرامطة ونحوهم له، إلى تقارب أهل البدع وتمازجهم في مواجهة عودة السنة، والمتعزلة فرقة لها عقل ونظر لكن بلا جمهور، والشيعة لها جمهور ولا عقل لها ولا نظر، فكان أن اندمجت الفرقتان واتفقتا على العدو المشترك (أهل السنة) ، ومن هنا تركت المعتزلة رأي مؤسسيها في علي، كما تركت الشيعة التشبيه الذي كان عقيدة معظم أسلافهم من الفرق، وأصبحت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، وما يزال هذا الاتحاد قائماً إلى اليوم، فالإمامية والزيدية كلاهما يدين بالإعتزال. وإن مما يفسر ذلك الاتحاد أن بعض رؤساء المؤسسين للمذهبين زنادقة، لا يؤمنون بدين وإنما غرضهم هدم الإسلام والثأر منه.
(4)
البيان والتبيين
(5)
كل حديث مرفوع ورد فيه اسم المرجئة لا يصح، ومن أهم المصادر في بيان ذلك المجروحين لابن حبان، والعلل المتناهية لابن الجوزي
(6)
ص262
ثم ذكر قول أهل السنة والجماعة فيهم - نقلاً عن ابن قتيبة - وقول المرجئة الفقهاء وردهما وقال: "والمرجئة هو لقب قد لزم كل من فضّل أبابكر وعمر على علي بن أبي طالب، كما أن التشيع هو لقب لزم كل من فضل علي على أبي بكر وعمر، هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتفقت الأمة عليه"(1)
واستدل على ذلك بإطلاق الاسم: "قيل: فلان مرجئي قدري، وفلان شيعي قدري.. ولم نر أحداً يقال له: هذا مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، هذا محال جداً، كما أنه محال أن يقال: هذا ثوب أبيض أسود، وهذا شيء حلو مر، لا تجتمع صفتان متضادتان في شيء واحد، وهذا حكم بيّن عند الإمامية أن المرجئ لا يكون شيعياً، والشيعي لا يكون مرجئاً.
فالإرجاء - على ما قلنا - هو نعت قد لزم كل من فضل أبا بكر وعمر على علي، كما أن التشيع قد لزم تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وإنما سموا مرجئة، لأنهم أرجأوا علياً، أي أخروه وقدموا أبا بكر عليه، فهذا اللقب لازم لكل من ذهب هذا المذهب، من أي الفرق كان" (2) .
ثم ذكر أبيات محارب بن دثار (3) ، زاعماً أن إرجاءه هو تأخير علي وتقديم أبي بكر، ثم قال:"ومن ألقاب فرقهم، أنهم أهل السنة والجماعة، وهم على أصلين، يقال لهما: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي"(4)
ثم ذكر من فرقهم - بزعمه - الحشوية والمشبهة والشكاك والمالكية والشافعية والجهمية، في خلط يذكرك بخلط المستشرقين (5) .
وما ذكره هذا الشيعي يصحح ما قلناه، من التفريق بين المرجئة الأولى وبين الإرجاء العام، الذي موضوعه الإيمان والكفر، لكنه لما لم يتضح له الفرق بينهما، جاء بهذا الخلط حتى أنه نفى أن يكون للإرجاء علاقة بقضية الإيمان والعمل، وحصره في تأخير علي عن الشيخين فقط، ولكن من عرف ملته لم يفجأه ذلك منه.
(1) انظر إلى تناقضه، حيث يدعي اتفاق الأمة عقيب نقله الخلاف، إلا إذا كانت الأمة عنده هم الشيعة وحدهم!!
(2)
ص264- 265
(3)
السابقة ص322- 323
(4)
ص266
(5)
انظر: ص267- 269
صحيح أنه لا يقال: مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، ولكن على أي معنى من معاني الإرجاء؟!
أما على معنى إرجاء المرجئة الأولى فحق وهذا ما قررناه، وأما على الإرجاء العام فإنه يقال: شيعي مرجئي، ورافضي مرجئي، ولا مانع عقلاً من أن يكون الرجل غالياً في علي، معادياً للشيخين، وهو مع ذلك لا يرى أن العمل من الإيمان أو أن المعاصي تضر صاحبها. وهذا هو حال بعض فرق الشيعة.
يقول الملطي في كتابه، الذي هو منقول عن الإمام خشيش بن أصرم في باب ذكر الروافض وأجناسهم ومذهبهم:"ومنهم صنف يقال لهم: المغيرية، زعموا أنه من ظلم نفسه من عترة علي، فلا حساب عليه ولا عذاب ولا وقوف عليه ولا سؤال، وإن ترك الفرائض وركب العظائم وأشرك بالله، وزعموا أن أبا طالب في الجنة.."(1)
فهؤلاء لا شك يقال فيهم شيعة مرجئة.
والمؤمن عند الشيعة ليس من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس دخول الجنة عندهم مبنياً على فعل الواجبات وترك المحرمات، بل الإيمان عندهم من آمن بعلي إماماً معصوماً، تتلقى منه وحده أحكام الدين وتتبع أقواله وأعماله، وتكفير الخطايا عندهم هو اعتقاد أن علياً هو "باب حطة" تأويلاً لقوله تعالى:«وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم» .
هذه خلاصة ما في كتبهم، التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وما تزال هذه عقيدتهم حتى في هذا العصر.
يقول أحد المصنفين في الإيمان منهم: ".. إن المؤمن الذي يدخل باب حطة على الكيفية التي أمره الله بها، وإن الذي يمتنع من الدخول، أو يدخل على خلاف ما أمره الله فهو كافر.
إذا عرفت هذا فاستمع لما يقوله النبي، استمع أيها المسلم، المصدق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لما يقوله لك نبيك، ويرويه عنه الثقات من العلماء.. " (2)
(1) ص160 من التنبيه والرد.
(2)
من كتاب "المؤمنون في القرآن" تأليف قاسم شبر (1/296) الطبعة الأولى: 1388هـ. النجف
ثم ذكر حديثاً موضوعاً لفظه: "علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً"(1) وقال: "أيها المسلم، قد عرفت معنى باب حطة، وسمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من قوله: أن من اتخذ علياً إماماً بعد النبي، وعمل بأقواله، فهو كالداخل من باب حطة، يعد عند الله وعند الرسول مؤمناً ويغفر الله له ذنوبه، ومن لم يتخذ علياً إماماً، ولم يعمل بأقواله، ولم يتخذ أحكام دينه منه لم يكن من المؤمنين، كما ذكر النبي، فهو عند الله من الكافرين، ولم يغفر له ذنوبه ويعاقبه عليها"(2)
ويقول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر أمته أجمع بالرجوع إلى شخص، ويحثهم على أخذ أحكام دينهم منه، ويحكم بإيمان المتمسك، وكفر المبتعد عنه.. لم يحث على هذا إلا بالنسبة إلى شخص يكون مثله، باتصافه بجميع الأخلاق والصفات الحميدة، وجمعه لجميع العلوم"(3)
ولست في مجال الحديث عن الشيعة، وحقيقة الإيمان عندها، وإنما المقصود أن إطلاقهم وصف المرجئة على أهل السنة عامة - أو على بعضهم - تبع لهذا المبدأ لديهم، فلا بد من معرفة مصطلح كل فرقة، حتى لا يقع المرء فيما وقع فيه من اطلعت على كلامه من المؤرخين والباحثين المعاصرين.
العجب - وكل أمر الشيعة عجب - أن هذا الإرجاء المرفوض في حق علي، الذي يستحق صاحبه عليه الكفر عندهم، هو مشروع محمود في حق الشيخين أبي بكر وعمر، بل هو الدرجة الدنيا من الإيمان عندهم، ويتلوها درجات لا يرتقي إليها إلا من جاز ذلك!! .
وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: "إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان (4) .
ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مفضلاً، ثم يصير سباباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطلاً" (5)
(1) انظر: ضعيف الجامع الصغير (4/53)
(2)
المؤمنون في القرآن، ص297
(3)
المؤمنون في القرآن، ص298
(4)
يعني عبد الله بن سبأ.
(5)
مجموع الفتاوى (04/428- 429)، وتتمة كلامه:"ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدروز، وأمثالهم من طوائف الزندقة والنفاق.. "
فهذا السلم الزندقي يبتدئ سالكه بالتوقف في حق الشيخين، فلا يشهد لهما بأنهما أحق من علي بالخلافة، ولا أن علياً أحق منهما، بل يكل أمر الجميع إلى الله، فلا تزال به الرافضة حتى يصبح مفضلاً يفضل علياً عليهما، كما هو مذهب الزيدية - أو كان مذهبهم (1) - ثم يرتقي إلى سبهما وشتمهما متعبداً بذلك، ثم يصير غالياً يكفرهما، ويعتقد أنهما الجبت والطاغوت وصنما قريش، ثم يخرج من الإسلام كلية ويدخل في دين ابن نصير أو قرمط أو العبيديين وأمثالهم، فيعتقد إنكار الشرائع جملة، ويدين بالفلسفة التي وضعتها كل فرقة.
هذا وسيأتي الحديث عن الحسن بن محمد بن الحنفية، ما يزيد أمر المرجئة الأولى والعلاقة بينها وبين الشيعة وغيرها إيضاحاً.
(1) ثم دخلهم الغلو