الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البدايات والأصول
أولا: المرجئة الفقهاء
لا شك أن البذور والبدايات الأولى للإرجاء وجدت بعد صفين، إما من المعادين للخوارج أو من المنشقين عنهم، كالشأن فى ردود الأفعال، ولكن بروز الرأى والمجادلة فيه وبه تأخرت عن ذلك، وكان ظهورها فى وقت الفتنة والاضطراب الكبير الذى عم البلاد، حين كان للأمويين دولة، ولابن الزبير دولة، وللخوارج دولة - كما سبق في حديث أبى برزة الأسلمى -.
برز الإرجاء حينئذ نتيجة المجادلات المستمرة بين الفرق - لا سيما بين الخوارج وغيرهم - وكانت الفتنة من أسباب التسرع فى الرد وقدح الرأى؛ إذ لم يكن المجال ميسورا للسؤال والتأكد والأمور هائجة والأحداث متلاحقة.
وكان هذا فى أواخر عصر الصحابة؛ وقد كان بعض قدماء المرجئة من صغار التابعين - كما سيأتى فى تراجمهم -.
وأوثق نص ورد فيه هذا الاصطلاح هو الجامع الصحيح للإمام البخارى، فقد قال رحمه الله فى كتاب الإيمان منه:" باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ".
وقال إبراهيم التيمى: ما عرضت قولى على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا.
وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويذكر عن الحسن: وما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى «ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون» .
حدثنا محمد بن عرعرة؛ حدثنا شعبة عن زبيد؛ قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "(1) .
فالآثار التي ذكرها البخارى فى الترجمة تدل على أنه عقد هذا الباب للرد على المرجئة القائلين: أن الإيمان قول بلا عمل، وأن الناس يتساوون فيه، وهذا هو إرجاء الفقهاء - كما سيأتى بيانه - ثم ذكر الحديث الذى يعطينا أقرب تحديد لنشأة هذه الفرقة فالمسئول عنهم هو أبو وائل، شقيق ابن سلمى التابعى المشهور، من خيار أصحاب عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه، وقد توفى قبل نهاية القرن الأول - مع الخلاف فى تحديد تاريخ وفاته -؛ فقد قال محمد بن عثمان بن أبى شيبة: مات فى زمان الحجاج، بعد الجماجم، وقال الخليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدى: مات فى خلافة عمر بن عبد العزيز، وكذلك روى عن أبى نعيم قال المذى: والمحفوظ الأول (2) .
قال الحافظ فى الفتح: " قوله: سألت أبا وائل عن المرجئة أى عن مقالة المرجئة، ولأبى داود الطيالسى، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له. فظهر من هذا أن سؤاله كان معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبى وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين، ففى ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة "(3) .
هذا، وفى رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى زبيد قال: " لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل فسألته
…
الحديث، وذكر عن شعبه أنه قال: وحدثنيه الأعمش ومنصور، سمع أبا وائل عن عبد الله
…
" (4) .
وأبو وائل عَمَّر طويلا، فقد أدرك النبى صلى الله عليه وسلم، ودفع لعامله الصدقة، لكنه لم يظفر بشرف رؤيته. وأما السائل " زبيد "، فهو زبيد بن الحارث اليامى المتوفى سنة 122 هجرى، وهو من صغار التابعين، رأى عددا من الصحابة، ذكر أبو نعيم منهم ابن عمر وأنس (5) .
(1) الفتح (1/110) .
(2)
تهذيب الكمال (1/587) .
(3)
الفتح (1/112) .
(4)
السنة، ص77.
(5)
انظر: سير أعلام النبلاء (15 / 296) ، وطبقات ابن سعد (6/ 216) .
ومن السؤال والجواب نستطيع أن نستنبط حقيقة القضية المسئول عنها ووجه الجواب، إذ لا ريب أن أبا وائل أفاد وشفى، وأن زبيدا فهم واكتفى!!
فالقضية التي كانت تشغل أذهان الناس يومئذ - فى موضوع الإيمان - هى حكم مرتكب الكبيرة، وبناء على الأصل الفاسد المشترك بين الخوارج والمرجئة معا - وهو أن الإيمان شئ واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه - قال الخوارج: أن مرتكب الكبيرة قد ذهب إيمانه فهو كافر، وقالت المرجئة: بل هو كامل الإيمان مهما فعل!! كما يدل عيه آثر ابن أبى مليكة والحسن، وكلام إبراهيم واستدلال البخاري بها.
فلما ذكر زبيد ذلك لشيخه أبى وائل، أجابه بأفضل أنواع الأجوبة وأعلاها؛ وهو أن يجيب المفتى من سأله بنص من النواحي فى محل الإشكال.
فالحديث بمنطوقه يدل على التفاوت فى الإيمان، وعلى ما يستحق أن يسمى به مرتكب الكبيرة.
فإيمان من قاتل مسلما ليس كإيمان من سبه، ومفهوم منه أن من سلم من هذا وذاك فهو أكثر إيمانا، وقتال المسلم وسبابه معصية تذهب عن صاحبها اسم الإيمان المطلق، فيستحق اسم الفسق إن سبه واسم الكفر إن قاتله (1) ، ولا يسمى مؤمنا بإطلاق إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم، كما دلت النصوص الأخرى.
وفى هذا دليل على خطر المعاصى التي تهون المرجئة من شأنها؛ إما نصا وإما لزوما.
ومما يوضح هذا الأمر وموقف أبى وائل منه - ما رواه عنه الطبرى بسنده، قال: قوم يسألونى عن السنة فأقرأ عليهم: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب
…
» حتى قوله: «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» يعرض المرجئة (2) .
وإذا كان هذا النص يعطينا مفهوما عن الفكرة، فإن نصا آخر يقدم تاريخا" أكثر تحديدا"، وهو ما رواه ابن بطة من طريق الإمام احمد عن قتادة أنه قال:" إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث "(3) .
(1) مع عدم سلب مطلق الإيمان عنه (أى الإسلام) ، وإنما يسلب الإيمان المطلق.
(2)
1 تهذيب الآثار (2/ 182)، وقوله:" يسألونى " كذا بالأصل.
(3)
الإبانة، لوحة 169 المخطوط.
والحقيقة أن هذا النص يقدم لنا ما هو أعم من ذلك، وهو ردة الفعل النفسية تجاه الهزيمة.
فابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندى، أحد ولاة بنى أمية أيام الحجاج، استعمله الحجاج فى الوقت الذى كانت مظالمه تملأ البلاد، وكانت الخوارج تثير الناس بذلك وتتذرع به لنشر ضلالها، وكان العلماء والصالحون حيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج، حتى أنه لما قام بعضهم يدعو الخوارج إلى السلم والدخول فى الطاعة أنكر عليهم آخرون - على سبيل اليأس - قائلين:" إلى من تدعوهم؟ إلى الحجاج؟! "(1) .
في هذا الجو الحالك أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج، ودعا الناس إلى النهوض معه لإقامة العدل ورفع الظلم وتحكيم الكتاب والسنة، وفعلا " قام معه علماء وصلحاء لله تعالى؛ لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته "(2) .
ولم يكن معروفا عنه بدعة، وإنما هو ثائر سياسي، فرأى فيه هؤلاء العلماء والقراء منفذا بين نارين، واستعجلوا الأمر، ورفضوا ما أشار به الحسن وغيره من الصبر والدفع بالتي هي أحسن، وتجنب سفك الدماء ما أمكن - كما هو مذهب سائر أهل السنة والجماعة في مثل هذا - ولكن هذا الاندفاع والتحمس سرعان ما تبدد، وأنتج أسوأ النتائج حين ظهر الحجاج على بن الأشعث وقضى عليه، وأخذ في ملاحقة العلماء واحدا واحدا، وكان أشهرهم سعيد بن جبير الذي كان مقتله فاجعة.
وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل وندم بقية القراء الثائرين على ما تركوا من رأي الحسن وأمثاله.
وكانت الكوفة مركز إمارة الحجاج ومصب جوره، كما كانت هدف هجمات الخوارج ومطمع قادتهم، ولهذا كان طبيعيا أن تكون أيضا بيئة الإرجاء ومركزه، لا سيما والتشيع سمة عامة لها.
(1) انظر: الطبقات (6 / 195) بعث إليهم إبراهيم التيمى، فأنكر عليه إبراهيم النخعى.
(2)
سير أعلام النبلاء (4 / 183) .
وبلا شك قام أهل السنة والجماعة وأئمة العلم بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها، ولم يقدر لها انتشار عام حقيقي إلا زمن بني العباس، حين تبنت الدولة رسميا مذهب أهل الرأي؛ الذي يدين فقهاؤه بهذه العقيدة كما سنرى (1) ، ومع ذلك صمد لها أهل السنة، ولا سيما الإمام أحمد وتلميذه أبو داود، ثم سار على منهجه علماء النقد والرجال وغيرهم.
وإن مما يعطينا تحديدا أدق لتاريخ هذه الفرقة وانتشارها، وفي الوقت نفسه موقف أهل السنة والجماعة منها، أن نستعرض بعض أقوال الأئمة المعاصرين لنشوئها فيها:
1-
إبراهيم النخعي:
التابعى المشهور، فقيه الكوفة الأكبر فى عصره، ومن تلاميذه كان مرجئة الفقهاء، وقد عاصر تلك الأحداث، وتوفى بعد الحجاج، ببضعة أشهر سنة 96 هجرى باتفاق (2) .
ومن أقواله فيهم:
" الإرجاء بدعة ".
" إياكم وأهل هذا الرأى المحدث " - يعنى الإرجاء -.
وكان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم فى الإرجاء، فقال له إبراهيم:" لا تجالسنا ".
" ودخل عليه قوم من المرجئة فكلموه، فغضب وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي ".
وقال: " تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابرى ".
وقال له بعض تلاميذه: " إنهم يقولون لنا: مؤمنون أنتم؟ وقال: إذا سألوكم فقولوا: «ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم
…
» إلى آخر الآية " (3) .
وقال: " لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ".
(1) حتى أصبح يطلق على هذا النوع من الإرجاء " إرجاء الخفية ".
(2)
انظر: الطبقات (6 / 199)
(3)
الطبقات (6 / 191)
أو: " لفقوا قولا، فأنا أخاف على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم "(1) .
2 -
سعيد بن جبير: وهو كبير القراء الثائرين على الحجاج، قال:" المرجئة يهود القبلة "(2) .
وقال: " المرجئة مثل الصابئين ".
ويشرح ذلك فى رواية أخرى، مبينا وقوفهم فى الوسط بين أهل السنة والخوارج - بزعمهم -، قال: " مثلهم كمثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة.
ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبع دينكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين ذين " (3) .
3 -
الزهري:
الإمام المشهور المعاصر لهؤلاء، قال:" ما ابتدعت فى الإسلام بدعة هى أضر على أهله من هذه - يعنى الإرجاء - "(4) .
4 -
شهاب بن خراش:
" قال هشام: لقيت شهابا وأنا شاب فى سنة أربع وسبعين، فقال لي: إن لم تكن قدريا ولا مرجئا حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما في من هذين شئ "(5) .
5 -
يحيى وقتادة: " قال الأوزاعي: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من أهل الأهواء شئ أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء "(6) .
(1) الإبانة الكبرى، ابن بطة، لوحة 169 / 170، والعبارة الأخيرة فى الخلال أيضا، لوحة 94.
(2)
أى مثلما قال اليهود: «وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة» ، وكونهم «يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا» !!
(3)
ابن بطة، لوحة 168، 169
(4)
ابن بطة، لوحة 168.
(5)
سير أعلام النبلاء (8 / 285) .
(6)
ابن بطة، لوحة 168.
وسيأتى بقية من هذا ضمن تراجم المرجئة القدماء، والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت فى ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدا فى مقاومتها، وكان نظرهم بعيدا وصائبا حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة، مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عبادا وزهادا فى الغالب.
وعلى هذا فلا غرابة فى تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع وابن المبارك والسفيانين، وابن مهدى، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز.
والقضية التي لا ينبغى أن تفوتنا هى أن كلمة المرجئة فى اصطلاح هؤلاء العلماء إنما تعنى هذا الإرجاء - أي إرجاء الفقهاء -، وظل هذا قائما حتى بعد ظهور الجهمية - كما سنرى - فكل ذنب أو عيب قيل فى المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثانى تقريبا، بل هو الأغلب على القرن الثالث، ولهذا نجد من المصنفين من لم يطلق اسم الإرجاء على سواهم؛ كابن عبد البر في " التمهيد "؛ فإنه لم يذكر المرجئة الجهمية الأشعرية، ولعله تبع أبا عبيد فى ذلك (1) .
ومن علماء السنة الكبار من فرق بين مسمى المرجئة ومسمى الجهمية؛ وذلك لأن المرجئة عندهم مبتدعة، والجهمية كفار (2) .
يقول الفضيل بن عياض: " أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل "(3) .
ويقول وكيع بن الجراح: " ليس بين كلام الجهمية والمرجئة كبير فرق؛ قالت الجهمية: الإيمان المعرفة بالقلب، وقال المرجئة: الإقرار باللسان "(4) .
(1) انظر: التمهيد (9 / 238 - 258) ، وكتاب الإيمان لأبى عبيد - ضمن الرسائل الأربعة التي حققها الشيخ الألبانى، مع ملاحظة أن أبا عبيد ذكر الجهمية، لكن صرح بأن قولهم شاذ لا يعتد به ولا يحتاج لرد وجدل، بل هو منسلخ عن قول أهل الملل الحنيفية، انظر ص79.
(2)
انظر فصل " الجهم بن صفوان " الآتى.
(3)
تهذيب الآثار (2 / 182) .
(4)
أي مع الاعتقاد، المصدر السابق (2 / 182) ، ومثله عنه فى خلق أفعال العباد، وسيأتى فى فصل " الجهم ابن صفوان ".
وكذلك قال الإمام أحمد: قال حمدان بن علي الوراق: " سألت أحمد، وذكر عنده المرجئة، فقلت له: أنهم يقولون: إذا عرف الرجل ربه بقلبه فهو مؤمن، فقال: المرجئة لا تقول هذا، الجهمية تقول بهذا، المرجئة تقول: حتى يتكلم بلسانه وتعمل جوارحه، والجهمية تقول إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه، وهذا كفر؛ إبليس قد عرف ربه، فقال: رب بما أغويتنى "(1) .
* مؤسس هذه الطائفة:
اختلف العلماء فى أول من أسس هذا المذهب - أي أفصح عنه وأعلنه ودعا إليه - وإلا فبذوره متقدمة - كما سبق - فقيل هو:
1 -
ذر بن عبد الله الهمدانى: وهو تابعى متعبد، توفى قبل نهاية القرن الأول، روى حديثه الجماعة.
قال إسحاق ابن إبراهيم: " قلت لأبى عبد الله - يعنى الإمام احمد -: أول من تكلم فى الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر "(2) ؛ وهكذا نقل الذهبي فى " الميزان "(3) عن الإمام.
ويبدو أن ذرا قد عرضت عليه الشبهة، وكان شاكا فيها، ثم جزم بها وأصر عليها لما لاقت رواجا - وهكذا شأن أصحاب البدع -.
قال سلمة بن كهيل: " وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيه، ثم قال أنى أخاف أن يتخذ هذا دينا، فلما أتته الكتب فى الآفاق، قال: فسمعته يقول: وهل أمر غير هذا "(4) .
ونقل عنه الأعمش أول مرة قوله: " لقد أشرعت رأيا خفت أن يتخذ دينا "(5) .
(1) الخلال، لوحة 96.
(2)
مسائل الإمام أحمد لإسحاق ابن إبراهيم (2 / 162) ، وهو فى الخلال، لوحة 94.
(3)
2 / 32)
(4)
السنة لعبد الله بن أحمد، ص81، وابن بطة، لوحة 170.
(5)
السنة لعبد الله بن أحمد، ص83.
وعن الحسن بن عبيد الله قال: " سمعت إبراهيم - النخعي - يقول لذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذى جئت به؟
قال ذر: ما هو إلا رأى رأيته! قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذى بعث به نوح " (1) !!
وقد تعرض ذر لنقد العلماء المعاصرين؛ فقد ذمه إبراهيم النخعى بما سبق، وكان يعيبه ولا يرد عليه إذا سلم (2) .
وكان سعيد بن جبير شديدا عليه، حتى أن ذرا أتاه يوما فى حاجة فقال:" لا، حتى تخبرنى على أي دين أنت اليوم - أو رأي أنت اليوم -، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأى أنت أكبر منه؟ "(3) .
وشكاه ذر إلى أبي البختري الطائى؛ إنه لا يرد عليه إذا سلم، فقال سعيد:" إن هذا يحدث - أو يجدد - كل يوم دينا، والله لا كلمته أبدا "(4) .
هذا وقد نقل الحافظ أن ذرا شهد مع ابن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين (5) .
2 -
وقيل: إن أول من أحدثه هو قيس الماصر:
نقل الحافظ ذلك عن الأوزاعي؛ قال: أول من تكلم فى الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس الماصر (6) .
ولم أعثر له على ترجمة، إلا أن أبا حاتم الرافضى صاحب كتاب الزينة السابق ذكره، قال ضمن فرق المرجئة الذين هم عنده أهل السنة: " ومنهم الماضرية (7) ، نسبه إلى قيس بن عمرو الماضرى، ويقال لهم مرجئة أهل العراق، وهم أبو حنيفة ونظراؤه
…
" (8) .
(1) المصدر السابق، ص84.
(2)
انظر: ابن بطة، لوحه (169) ، والميزان (2/32) .
(3)
ابن بطة، لوحة (169) .
(4)
المصدر السابق، والميزان (2/32) ، وتهذيب الكمال (1/396) .
(5)
تهذيب التهذيب (3/218) .
(6)
تهذيب التهذيب (7/490) ، ترجمة عمر بن قيس الماصر.
(7)
هكذا بالضاد المعجمة، وهو خطأ.
(8)
ص269 "الغلو والفرق الغالية".
3 -
وقيل: إن أول من أحدثه حماد ابن أبي سليمان: المتوفى سنة 120 هجري، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم. وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (1) .
ولا شك أن حمادا كان مرجئا وأنه كان معاصرا لذر، فقد روى عبد الله بن أحمد أن إبراهيم النخعى - شيخ حماد - قال: لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي، بعد ما تكلم في الإرجاء - يعنى حمادا (2) -.
ومع ذلك فقد ادعى حماد غير هذا، إلا أن يقال أنه كان مستترا خائفا، ثم أظهر وأعلن.
قال أبو هاشم: " أتيت حماد بن أبى سليمان، فقلت: ما هذا الرأي الذى أحدثت لم يكن على عهد إبراهيم النخعي؟ فقال: لو كان حيا لتابعني عليه - يعنى الإرجاء - "(3) .
وفي هذا ما يدل على أولية حماد، لكن النص الأتى يدل على أنه اتبع غيره، إلا أن يقال أنه دليل فقط لما قررناه من أن الجذور متقدمة، وهو ما ذكره الذهبي عن معمر، قال: " كنا نأتى أبا إسحاق - يعني السبيعى - فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟
قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا؟
قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل.
قال الذهبي: قلتُ: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء؛ وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان: إقرار باللسان ويقين في القلب.
والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء؛ من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية " (4) .
(1) الإيمان، ص281.
(2)
السنة، ص96.
(3)
سير أعلام النبلاء (5/235) .
(4)
المصدر السابق (5/233)، وقوله: النزاع لفظى، صحيح فى حق من يقول: الإيمان يشمل عمل القلب كله، أما من خصصه بالتصديق - وهو المشهور عنه - وأخرج سائر الأعمال، فلا، وسيأتى تفصيل ذلك، وانظر ص415 وما بعدها.
ويبدو الخلاف بين هذه الأقوال غير مؤثر، فكلهم متعاصرون، وكلهم فى بلد واحد، وقولهم فى الإرجاء واحد.
ويستفاد من بعض الآثار أن للفكرة وجودا غير خاف، فهذا سالم بن أبى الجعد التابعى المحدث المتوفى سنة 100 هجرى أو حولها - كان له ستة بنين؛ " فاثنان شيعيان، واثنان مرجئيان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم "(1) !! وهذا دليل على نمو البدع حينئذ لاسيما فى الكوفة.
وهناك رجل آخر لا شك أنه من أوائل القوم الدعاة؛ وهو سالم الأفطس، وفيه قصة تستحق الإيراد، لا سيما وقد ذكرها مصدران متقدمان بسندين مختلفين هما:" السنة " لعبد الله بن أحمد، و" تهذيب الآثار " للطبري، كلاهما عن معقل بن عبيد الله الجزرى العبسي قال: " قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء (2) ، فعرضه فنفر منه أصحابنا نفارا شديدا، وكان أشدهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك، فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله لا يأويه وإياه سقف بيت إلا فى المسجد.
قال معقل: فحججت، فدخلت على عطاء بن أبى رباح فى نفر من أصحابي، قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف، قال: فسمعته قرأ هذا الحرف «حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا» مخففة.
قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أو ليس يقول الله: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» .
فالصلاة والزكاة من الدين.
قال: فقلت له: إنهم يقولون: ليس فى الإيمان زيادة. قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزله: «فزادهم إيمانا» ، فما هذا الإيمان الذي زادهم؟!
(1) سير أعلام النبلاء (5/109) ، الطبقات (6/204) .
(2)
هذا ما فى السنة واللفظ كله لها، وفى التهذيب:(أول من قدم علينا بالإرجاء سالم الأفطس) .ولعله يقصد أول من قدم به الجزيرة - التي هى موطن معقل وميمون بن مهران - جلبه من الكوفة.
قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وأبلغنى أن ذرا دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذى لا إله إلا هو ما كان هذا - مرتين أو ثلاثة.
قال: ثم قدمت المدينة، فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبد الله، إن لي إليك حاجة، قال سر أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر، قال: رب سر لا خير فيه!
فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي، وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدو قولهم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله ". قال: قلتُ: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلى، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر.
قال معقل: ثم لقيت الزهري، فأخبرته بقولهم، فقال سبحان الله!! أو قد أخذ الناس فى هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميمونا وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قوله.
قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلتُ: لا.
قال: دخل علي منهم اثنى عشر رجلا، وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتشهدين أن لا إله إلا الله " قالت: نعم، قال:" وتشهدين أني رسول الله " قالت: نعم، قال:" وتشهدين أن الجنة حق وأن النار حق " قالت: نعم، قال: " أتشهدين أن الله يبعثك
من بعد الموت " قالت: نعم، قال: " فأعتقها فإنها مؤمنة " (1) قال: فخرجوا وهم ينتحلوني.
قال: ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقيل له: يا أبا أيوب: لو قرأت لنا سورة نفسرها، قال: فقرأ أو قرأت: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» ، حتى إذا بلغ:«مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» ، قال: ذاك جبريل والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل " (2) .
ويروي ابن بطة بسنده عن المبارك ابن حسان قصة أخرى، " قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان فى الإيمان؟
قال: لا
قال: فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب أم (3) خبيث؟ فإن الله تعالى قال: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (4) .
فقال النحات (5) : إنما الإيمان منطق وليس معه عمل! ، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سبحان الله! أما تقرؤون الآية التي فى سورة البقرة: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ» .
(1) وسيأتى إيضاح شبهتهم هذه والرد عليها ص716.
(2)
السنة، ص104 - 105، وتهذيب الآثار (مختصرا)(2/173) ، وما يجدر التنبيه إليه أن شيخ الإمام أحمد فى هذا السند هو خالد ابن حيان، وليس خلف بن حيان - كما فى الإيمان لابن تيمية، ص192، وهذا يزيل الإشكال الذى وقع فيه مخرج أحاديثه الشيخ الألبانى.
(3)
زيادة ضرورية.
(4)
وجه الاستدلال: إنه إذا كان الإيمان واحدا لا يتفاضل فيلزم أنه خبيث لدخوله النار والنار لا يدخلها طيب وإنما يدخلها الخبيث وإن قال: إنه حين دخولها ليس معه الإيمان فقد كفره، لأن الإيمان عنده شئ واحد فزواله يكون بالكلية، وهذا عكس مذهبه.
(5)
لم أجد له ترجمه إلا أن يكون وصفا وليس علما
قال: ثم وصف الله هذا الإسم فألزمه العمل، فقال:
«وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ» .... إلى قوله: «صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» .
قال: سلهم هل دخل هذا العمل فى هذا الاسم؟
وقال: «وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» .
فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم " (1) .
هذا الجدل المبكر (زمن التابعين) فى موضوع العمل يعطينا فكرة واضحة عن مذهب المرجئة الفقهاء فيه، وحقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منذ نشأتهم، كما بين لنا منهج السلف العلمي فى مجادلتهم، وهو أن أهم جانب فى القضية شغل أذهان السلف هو موضوع عمل الجوارح؛ أى أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وأن حقيقة الإيمان لا تكون إلا به مع عمل القلب، فإذا انتفى أحدهما انتفى الإيمان (2) .
* الجهم بن صفوان:
أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وَأُسُّ البليات، جعله الله فتنة للناس وسببا للإضلال، كما جعل السامرى في بني إسرائيل.
وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني قد ترك من الأثر فى الفرق الإسلامية الثنتين والسبعين ما لا يعادله أثر أحد غيره (3) .
هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه، ولا شهد له أحد بخير!!
وقد جمع المصنفون من السلف فى سيرته الشىء الكثير، وكله ذم وتكفير وتشنيع من أئمة الإسلام ورجال النقد، جمع ذلك الإمام أحمد، وابنه عبد
(1) لوحة 173.
(2)
وسيأتى لهذا مزيد إيضاح بإذن الله فى الباب الأخير.
(3)
حتى إن الشيعة والخوارج والقدرية كلها قد تأثرت به فى قليل أو كثير، ولا سيما فى الصفات، أما المنتسبون للسنة - وأهمهم الأشعرية والماتريدية - وهم على أصوله فى كثير أصول الاعتقاد، ولو لم يكن إلا متابعتهم له فى الإيمان كما سنذكر لكفى.
الله، وأبو عبيد، والبخاري، والدارمي، وابن خزيمة، وابن أبى حاتم، وسائر من ألف فى الفرق أو الصفات أو الإيمان؛ كالبيهقى، والأشعري، والبغدادي، واللالكائي، وكذا المؤرخون وأصحاب التراجم.
وهذا ما سنورد بعضه مقتصرين على ما يهمنا هنا؛ وهو مذهبه في الإيمان.
والأصل الذي ينبغى معرفته في هذا، هو أن الجهم لم يبتدع مذهبه في الإيمان اعتمادا على شبهة نقلية أو أثارة من علم، وإنما كان رجلا لسنا مجادلا، مجبولا على المحادة والاعتراض والمراء، ومع ذلك لم يقدر له أن يجلس إلى عالم أو يتفقه على إمام، بل شهد عليه بعض من عاصره بجهل بالغ في معرفة الأحكام الشرعية - حتى الجلي منها - وقالوا: إنه لم يحج البيت، ولم يجالس العلماء قط (1) .
وإنما جالس جهم أصحاب الأهواء (2) وبعض الملاحدة، من المنتسبين إلى فلسفات الأمم الجاهلية الموتورة، ولما أراد الله فتنته اتصل بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم:" السمنية "، وأولئك قوم لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية مؤصلة، قد أعدوا لكل عقيدة لدى غيرهم شبهة، وأعدوا لكل سؤال جوابه، ولكل مأزق مخرجا.
وتجشم جهم وتكلف أن يجادلهم ويخوض معهم، وهو صفر من العلم خلو من الحجة فما رآه بعقله المجرد ورأيه القاصر، وكان مجرد خوضه معهم نذيرا بالشر وشؤم العاقبة.
فقد ابتدءوا معه الجدال بالحديث عن مصدر المعرفة الصحيح المتيقن (وهى أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر) وكانت فلسفتهم تقوم على أن المصدر للمعرفة الحواس الخمس، ولما نازلهم جهم وهو جاهل بدينه خال من مصدر اليقين الأصلى - وهو الوحي - حصروه وأفحموه بسؤال هو: صف لنا ربك هذا الذى تعبده يا جهم، وبأي حاسة أدركته من الحواس، أرأيته أم لمسته - أم
…
الخ؟!
(1) انظر: خلق أفعال العباد للبخارى، ص32، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة والفتح (13/345) .
(2)
وعلى رأسهم شيخه الجعد بن درهم، الذى قتله الوالى الأموى خالد بن عبد الله القسرى، بسبب إنكاره الصفات.
وسقط فى يد هذا الضال المسكين، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه.
وقادته الحيرة إلى الشك فى دينه، فترك الصلاة مدة، ثم استغرق فى التفكير والتأمل، حتى انقدح في ذهنه جواب خرج به عليهم قائلا:" هو هذا الهواء مع كل شئ وفي كل شئ ولا يخلو من شئ "(1) .
وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات، هو قول طائفة من زنادقة الهند الآخرين (2) .
وهذا المنزلق تلاه ما تلاه من هوى ورأي.
وكانت حياة جهم فى آخر عصر بنى أمية، حيث ظهرت البدع وتشعبت أصول الفرق، وكان مقتضى خوضه وجداله أن يخوض فى قضية الإيمان ويدلي بدلوه في هذه المسألة التي كانت الفرق حوله تتجادل فيها كثيرا، وكان طبيعيا أن يخرج جهم بقول لم يسبقه إليه أحد، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح.
والذي يظهر لمن يطالع سيرة الرجل وواقع عصره، أنه ركب هذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال فى الإيمان.
والجديد فى عمل جهم أنه نقل كلام الطائفة الأولى من محيط الفلسفة التي لا صلة لها قط بالإسلام ليدخله في الإسلام متذرعا فى ذلك بلوازم كلام الطائفة الأخرى ومفهومه الذى لم يقصدوه قط، وبذلك أصبح هذا القول الفلسفي
(1) انظر عن هذه المناظرة: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد، ص65، خلق أفعال العباد للبخارى، ص35، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائكى (3/380 - 387) ، الفتح (13/345) ، مقدمة التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية (أى الجزء الخامس من الفتاوى الكبرى بطبعتيها) .
(2)
انظر: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذوله لأبي الريحان البيرونى، ص20 - 24، ومما يستلفت النظر أن بعض ما نسجه البيرونى لكتب ديانة الهند القديمة فى الصفات والقدر، يماثل تماما ما يدين به ورثه جهم من نفات الصفات كلها أو بعضها وما يقولونه فى الكسب.
الشاذ مقالة من مقالات الإسلاميين، وإن كانت الجهمية فى حكم جملة من علماء السلف ليست من فرق (المسلمين)(1) أهل القبلة.
حتى لقد قال الإمام البخاري رحمه الله: " نظرت فى كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في
كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم " (2) .
ومن هنا أضرب أبو عبيد والطبري صفحا عن مناقشة مذهب جهم؛ لأنه ليس من مقالات المجتهدين فى النصوص، بل هو من مذاهب أهل الجدل والتفلسف والكلام، ومنسلخ عن أقوال الملل الحنفية جميعها (3) .
ولكن أسبابا ومؤثرات - يأتي تفصيل الحديث عنها - أفضت في النهاية إلى أن يكون هذا المذهب أكثر المذاهب فى الإيمان انتشارا، مع ما لحقه من تعديل هو لفظى أكثر من كونه حقيقيا، ومن نفي لبعض لوازمه.
فالذى حصل هو أن مذهب المرجئة الفقهاء مهد لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة - مع ما أشرنا إليه من تعديل -.
ولهذا قال وكيع بن الجراح - الإمام الكبير شيخ الإمام أحمد -: " أحدثوا (4) هؤلاء المرجئة الجهمية، والجهمية الكفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة، وهذا كفر، والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة
…
" (5) .
وهذا من أهم ما يجب معرفته والاعتبار به.
أما معرفته فلكي نعلم التطور التاريخي للظاهرة وخط سيرها، وأما الاعتبار به فلأن البدع قد تبدو صغيرة لكنها تؤول إلى أن تصير كبارا، فيجب
(1) بل هى من الفرق خارجه عن الثنتين والسبعين، انظر المصادر السابقة وخاصة: خلق أفعال العباد، صلى الله عليه وسلم33 - 40.
(2)
خلق أفعال العباد ص33 وانظر باب الاحتجاج فى إكفار الجهمية من كتاب الرد على الجهمية للدرامى ص104، تحقيق زهير الشاويش وتعليق الشيخ الألبانى.
(3)
انظر: تهذيب الآثار (2/199) ، والإيمان لأبى عبيد، ص79، 102، ولهذا فصلنا الحديث عن المنطق والكلام عن الحديث عن إرجاء الحنفية - كما سنرى.
(4)
هذا على لغة من يجيز ذلك.
(5)
خلق أفعال العباد ص34.
الحذر من صغيرها وكبيرها، وإلا فإن الأئمة والعباد من المرجئة الفقهاء لم يدر بخلدهم ما صار إليه جهم، ولم يخرجوا الأعمال من الإيمان إلا لفظا فقط، وأما وجوبها والمعاقبة عليها ووجوب ترك المحظورات فأمر لم يخالفوا فيه قط.
ولهذا عد بعض العلماء الخلاف كله لفظيا، وليس كذلك بإطلاق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم:
" وهذه الشبهة التي أوقعتهم - يعنى شبهة عدم التعدد والتبعيض في الإيمان - مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل فى إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء "(1) .
وقال أيضا: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه (2) ، وعرفوا أن إبليس وفرعون كفار مع تصديق قلوبهم (3) .
لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم " (4) .
(1) الإيمان، ص377.
(2)
وهذا الذى نفوه هو مذهب جهم، فهو مذهب أكثر الأشعرية والماتريدية، والذين يشترطون النطق منهم يعدون الحكم بعدم إيمان من لم ينطق مع القدرة قولا مرجوحا فقط، وسيأتى لذلك بحث خاص بعنوان: حكم ترك العمل عند المرجئة فى الطور النهائى للظاهرة، ص491.
(3)
وهذا من لوازم مذهب جهم التي نفاها متبعوه (الأشعرية والماتريدية)، قائلين: إن من نص الشارع على كفره علمنا انتفاء التصديق من قلبه، وهذا القول واضح المكابره والمناقضة لصريح القرآن، حتى قال عنه شيخ الإسلام: إنه "سفسطة عند جماهير العقلاء" الإيمان، ص142، انظر ص413، 414.
(4)
الإيمان، ص183.
وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبى عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله.
هذا، وبيان الفروق بين مذهب جهم ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالى لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو:
إن مذهب جهم لم يكن له فى حياة صاحبه ولا بعد ذلك بزمن أي أثر بارز في واقع الحياة الإسلامية، إنما ظهرت آثاره وعمت ببروز من تبناه من المتكلمين، وعلى رأسهم بشر المريسى (1) ، وقد عاش متهما محاربا - لكن أقل من حال جهم في هذا - ثم ابن كلاب، وقد كان متهما أيضا - لكن أقل من حال بشر - ثم الأشعري والماتريدي، وهما اللذان نشراه، حتى أصبح ظاهرة عامة فى فكر الأمة وحياتها.
وإنما خصصنا هذا بالذكر مع ما سبق من الإشارة إليه لأهميته في معرفة تطور الظاهرة، ولننبه إلى جسامة الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين - وتبعهم من تبعهم - في زعم أن ثورة الحارث بن سريج كانت قائمة على عقيدة الإرجاء، وكأن جهما قد ربى تلك الآلاف الثائرة على عقيدته، حتى اندفعوا للخروج على الدولة وإقامة مذهبهم.
والواقع يكذب هذا، فإن جهما كان كاتبا لقائد الثورة، وكان إرجاء جهم رأيا خاصا وفكرة شخصية، لا أثر لها فى توجيه الثورة التي لم تكن تمثل أي عقيدة دينية، وإنما كانت حركة تمرد وعصيان على الدولة، ضمت فى صفوفها من كل الطوائف، بل ضمت أهل الذمة ومشركي الترك، وإنما انضم إليهم جهم - على ما يظهر لي - لأنه هو أيضا خارج على الطاعة، ملاحق من الدولة بسبب بدعته في الصفات التي أطاحت برأس شيخه الجعد من قبل، ويدل لذلك الوثائق الرسمية للدولة، ومخاطبة والي مرو له عند قتله.
روى اللالكائى بسنده عن أحدهم: " قرأت فى دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار: أما بعد، فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة،
(1) انظر، تاريخ بغداد (7/61) ، واللالكائى (3/382) ، وسير أعلام النبلاء (10/199) .
يقال له جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله، وإلا فادسس إليه برجال غيلة ليقتلوه " (1) .
ونقل الحافظ عن أبي حاتم أن سلم بن أحوز عامل نصر بن سيار على مرو لما قبض على جهم قال: " يا جهم! إنى لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهدا أن لا أملك إلا قتلتك. فقتله "(2) .
وهذا شبيه بما فعله خالد بن عبد الله القسري مع شيخه الجعد.
وأما ما ذكره الطبري من شعر لنصر بن سيار يتهم فيه الحارث وجيشه بالإرجاء، فلا شك أن كون الجهم كاتبا للحارث يعد سببا كافيا لخصمه السياسي أن يطعن في عقيدته، ويشهر به بين المسلمين، كان المبرر أقوى، على أن المنقول من أخبار نصر يدل على فضل وصلاح فيه (3) .
(1)
…
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/381) .
(2)
الفتح (13/346) .
(3)
ذكر الطبري قصيدة جيدة لنصر بن سيار أولها موعظة بليغة ثم قال:
فامنح جهادك من لم يرج آخرة
…
وكن عدوا لقوم لا يصلونا
واقتل مواليهم منا وناصرهم
…
حينا تكفرهم والعنهم حينا
والعائبين علينا ديننا وهم
…
... شر العباد إذا خابرتهم دينا
والقائلين سبيل الله بغيتنا
…
لبعد ما نكبوا عما يقولونا
فاقتلهم غضبا لله منتصرا
…
منهم به ودع المرتاب مفتونا
إرجاؤكم لزكم والشرك فى قرن
…
فأنتم أهل إشراك ومرجونا
لا يبعد الله فى الأجداث غيركم
…
إذ كان دينكم بالشرك مقرونا