الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
الإقرار بالافتقار من حال إلى حال
وأما الإقرار بالافتقار فمن أجلى الأدلة على التوحيد وحقيقة الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلا منهما عن الآخر، ثم هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من المؤمنين.
فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل لحظة عين، ومن كان شاكرا لأنعمه ذاكرا لآلائه في حال الرخاء والشدة معا، يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته.
وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى مولاه يدعوه صباحاً ومساء بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها: "يا حي يا قيوم برحمتك استغثت، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"(1)
بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعز ساعات الانتظار والتمكين.
وقد قص الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان وقدوة؛ فهذا يوسف عليه السلام (في اللحظة التي تم فيها كل شيء تحققت رؤياه: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» .
في هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام:«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»
(1) صحيح الترغيب والترهيب رقم (654)، قال: رواه النسائي والبزار بإسناد صحيح والحاكم، وقال: على شرطهما.
وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضراً بين يديه (من وراء آلاف الأميال) من قبل أن يرتد إليه طرفه: «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (1)
وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحا منصورا؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يرجع (2) ، ونزل بيت أم هانئ فصلى فيه ثماني ركعات (3)، وظل مكثرا من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله تأويلا لقوله تعالى:
ولهذا قال أشياخ بدر لعمر رضي الله عنه: "أمرنا أن نحمد ربنا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا"(4) ، وهكذا فعل سعد بي أبي وقاص يوم فتح المدائن، وجعلها بعض العلماء سنة فقالوا: يستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات (5) .
فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة الطمأنينة.
وأما الكافر فإنه مستكبر على ربه متمرد عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه، يطغى إذا استغنى ويفسق إذا أترف. حتى إذا ما نزلت به نازلة وأحدقت به كربة وأحاطت به مصيبة سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن الفطرة المكبوتة، فأيقن حينئذ أنه لا يملك حولا ولا طولا، وضلت عنه الأرباب المزعومة التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء وأظهر له من الافتقار والضراعة مالم يكن ليخطر له ببال حال الأمن والعافية.
(1) الظلال، ص 3697
(2)
البخاري (8/13)
(3)
البخاري (8/19)
(4)
البخاري (8/735) ، وذلك ضمن قصتهم معه بشأن تقديم ابن عباس، ولا خلاف في الحقيقة بين قولهم وقوله في تفسير السورة، فإنهم نظروا إلى ظاهر دلالتها ومنطوقها، وهو نظر إلى مضمونها وفحواها. وهو ما أراده عمر رضي الله عنه بالسؤال.
(5)
انظر ابن كثير (8/532) .
ومن أشد المواقف التي يظهر فيها ذلك جليا موقف الرعب الحاصل لراكب البحر حين يكون الهلاك قاب قوسين أو أدنى.
وهذا أعظم ما ألزم به القرآن المشركين، فإنه أقبح ما يكون الإنكار بعد الإقرار، وأقبح ما يكون الاستكبار بعد التذلل والتضرع.
وبين سبحانه أن كل نعمة هي منه؛ فالافتقار إليه ذاتي وغناه تعالى مطلق.
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» [فاطر:15] .
«أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» [الملك:21] .
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ» [الملك:30]
وحتى هذه الحالة بخصوصها - حالة ركوب البحر - بيّن الله لهم ضلال نظرتهم القاصرة حين يجعلون حاجتهم إليه محصورة في زمن اشتداد العاصفة، وكأنما خلوصهم إلى البر استغناء عنه ومأمنة من عقابه.
ومن أعجب ما قصه الله تعالى في ذلك ما وقع لفرعون وملئه؛ فقد سلط الله تعالى عليهم صنوفا من العذاب؛ " الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم "، وكلما اشتد عليهم وطأة عذاب «قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» [الأعراف:134] ، ولكن ما يكاد العذاب ينكشف حتى يعودوا للكفر والجحود فتأتي الآية الآخرى من العذاب وهكذا حتى لهم تسع آيات انتهت بإغراقهم أبدا!! .