المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإيمان حقيقة مركبة - ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

- ‌مقدمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

- ‌ السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

- ‌ السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

- ‌حقيقة النفس الإنسانية

- ‌تمهيد:

- ‌ الإرادات والغايات:

- ‌ الأسباب والوسائط

- ‌ الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

- ‌الخاتمة

- ‌حقيقية الإيمان الشرعية

- ‌المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

- ‌المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

- ‌الباب الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌الفتنة الأولى

- ‌براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

- ‌الفتنة الثانية

- ‌الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

- ‌توطئة:

- ‌البدايات والأصول

- ‌أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌الأثر المنطقي

- ‌حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

- ‌الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

- ‌العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

- ‌توطئة:

- ‌الإيمان حقيقة مركبة

- ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

الفصل: ‌الإيمان حقيقة مركبة

‌الإيمان حقيقة مركبة

سبق إيضاح أن حقيقة الإيمان هي أنه: " قول وعمل "، وأن ذلك مجمع عليه بين السلف، متواترة على تأييده النصوص، متضافرة عليه الأدلة، لم يخالف فيه إلا مبتدع متنكب طريق الحق، معرض عن دلالات نصوص الوحي وشواهد العقل والفطرة إلى ما نضحت به أذهان الفلاسفة والمناطقة، وتعمقت فيه أوهام المتكلمين والمجادلين.

كما سبقت الإشارة - أولا الإشارات - إلى إن هذين الركنين -أو الشطرين - " القول والعمل " تتكون منهما حقيقة واحدة جامعة لأمور متعددة، مثلما تتركب حقيقة الإنسان من الجسد والروح، بحيث يكون فقدان إحداهما بالكلية نفياً للحقيقة ذاتها.

ومن هنا كان القول والعمل بالمعنى الذي سبق شرحه في موضعه شطرين متمازجين متساويين في ضرورة الوجود وقوة الاشتراط، فكما أنه لا يصح وجود عمل لا قول معه قط، لا يصح كذلك وجود قول لا عمل معه قط.

وهذا ما تضمنته الفصول التي عقدت لبيان علاقة عمل القلب بقول اللسان، وعلاقة عمل الجوارح بأعمال القلب، واثر كل منهما في الآخر، وهو ما نريد إيضاحه هنا منفردا، فنقول:

إن أصل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في موضوع العمل هو أن المرجئة لا يقرون بهذه التركيبية، بل يعتقدون أن الإيمان شيء واحد؛ هو تصديق القلب دون سائر أعمال القلب والجوارح - كما سبق مراراً - وهم يوافقون على أن من أتى بجميع أعمال الجوارح الواجبة والمستحبة ظاهراً، لكن قلبه مع ذلك خال من الإيمان إنه لا يكون مؤمنا - وذلك باستثناء الخلاف اللفظي الذي شذت به الكرامية، حيث يطلق عليه اسم الإيمان - مع إقرارها أنه كافر مخلد فى النار، فخالفوا فى الاسم لا فى الحكم - ولكنهم يخالفون فى عكس هذه القضية وهي أن أحداً لم يعمل

ص: 435

عملاً من الأعمال الواجبة والظاهرة قط، حتى أنه لم ينطق بكلمة الشهادة (1) ؛ وهو مع ذلك مؤمن كامل الإيمان (2) .

وهي القضية التي ينفى أهل السنة وجودها في الواقع أصلا - كما سنرى -، والفرق بينهما وبين القضية الأولى والتي يقر بها المرجئة من حيث الوجود والعدم يرجع إلى الفرق بين مفهوم الإيمان المفترض وجوده عند الطائفتين، فلما كان الإيمان عند المرجئة هو التصديق على النحو الذي فسروه به - لم يصعب عليهم تصور وجوده مع فقد كل الأعمال الواجبة، لكنه لما كان عند أهل السنة له معنى أخر مركب، لم تصوروا أن يوجد باطن الإيمان ولا يوجد شيء من ظاهره؛ لأن ذلك من قبيل افتراض وجود الأصل اللازم والعلة التامة، مع انتفاء المجزوم والمعلوم، فهو نفى لتلك العلامة التركيبية المزجية.

وهذا ما قرره السلف كثيراً؛ كقول أبى ثور في إلزام المرجئة: " أرأيتم أن رجلاً قال: أعمل ما أمر الله به ولا أقر به، أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعلم منه شيئا أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون الآخر مؤمناً - إذا عمل ولم يقر - لا فرق بين ذلك (3) .

وسيأتى ما يؤيده من نصوص وآثار، والمقصود هو بيان أصل النزاع في المسألة، ويمكن تحرير ذلك باستخدام السبر والتقسيم فيقال:

إن تعلق العمل بالإيمان منحصر في أربع حالات لا خامس لها (4) :

أن يجتمعا معاً - أى إيمان القلب وعمل الجوارح.

أن ينتفيا معا.

أن توجد أعمال الجوارح مع انتفاء إيمان القلب.

أن يوجد إيمان القلب مع انتفاء عمل الجوارح.

فأما القضية الأولى فمتفق عليها " مؤمن ".

(1) كما سبق من أن مذهب الأكثرية - هو الذي أصبح ظاهرة فكرية عامة - وهو أن النطق علامة لإجراء الأحكام الدنيوية فقط.

(2)

وناج عند الله في الأخرة، وإن كنا لا نجرى عليه أحام الإيمان الدنيوية لعدم العلامة - كما يقولون

(3)

أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي (3 / 851)

(4)

وهي قسمة نظرية فقط، وإلا فعلى الحقيقة لا وجود للقسم الرابع.

ص: 436

فأما القضية الثانية فمتفق عليها " كافر ".

أما القضية الثالثة فمتفق عليها "منافق"

وأما القضية الرابعة فمختلف فيها.

فالمرجئة يلحقون حكمها بحكم الأولى،بل يقولون: إن إيمان من تنطبق عليه القضية الأولى كإيمان من تنطبق عليه القضية الرابعة سواء بسواء؛إذ الأعمال عندهم خارجة عن الإيمان، والإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه -كما سبق بيانه، فهو لدى الاثنين سواء،بل قالوا ما هو أسوء من ذلك؛وهو إن ارتكاب جميع المحرمات وترك جميع الطاعات لا يذهب شيئاً من الإيمان؛إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء (1) .

وهذا القدر المشترك بينهم كاف في الرد عليهم جميعا رداً واحداً -أي من يعتبر النطق ومن لا يعتبره-.

وأما أهل السنة والجماعة فينفون وجود الحالة الرابعة في الواقع أصلاً؛بناء على مفهومهم الخاص للإيمان.

فتبين إن فساد تصور المرجئة للإيمان أدى إلى تصور هذه الحالة،وعليه: فبيان خطا قولهم هذا يستلزم فساد تصورهم للإيمان بلا ريب،وإن الإيمان الذي يتكلمون عنه ويصفونه ليس الإيمان الشرعي بحال.

كما إنه يدل على تناقض من وافقهم من الفقهاء المنتسبين إلى السنة والأئمة في بعض الأحكام الظاهرة -كالقول بأن تارك الصلاة المصر على تركها حتى ضربت عنقه بالسيف إنما قتل حدا؛إذ إن مذهب المرجئة في حكم تارك الصلاة يتفق ومفهوم الإيمان عندهم،لكن من يعتقد قد أن الإيمان قول وعمل -ويكون ذلك مذهب إمامه -كيف يوافقهم على إن تارك جميع العمل لا يكفر،إلا إذا انتفى منهم تصديق القلب أي كان مستحلاً أو غير مقر بالوجوب ويوافقهم على أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ومهين المصحف عمداً وقاتل النبي كافر ظاهراً،ويجوز أن يكون مؤمناً في الباطن؟! (2)

وأهل السنة حين يقرون أن ترك العمل ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به، لا يعتمدون على تفلسف أو نظريات ذهنية، وإنما ينطلقون من منطلق واقعي

(1) وهذا ما اتفقت عليه فرقهم،كلها كما سبق بيانه في فصل" أصول مذاهب المرجئة" السابق.

(2)

انظر عن هذه الأخيرة: الإيمان، صلى الله عليه وسلم 384 - 386، ولهذا تجد كلام أحدهم باعتباره فقيها - كما إذا كتب فى الردة من المصنفات الفقهية - يغاير كلامه إذا كتب باعتباره متكلما!!

ص: 437

وعلمي في غاية الوضوح؛ وهو أن هذه الحالة الرابعة لا وجود لها في مواقع الجيل الأول، ولا في تصوره، وكذا لا وجود لها في الواقع النفسي المحسوس، - كما لا يمكن أن تتفق مع حقيقة الإيمان الشرعية التي تشهد النصوص بأنها مركبة من القول والعمل معاً، كما لا تتفق مع النصوص الأخرى الكثيرة في حكم التولي عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الامتثال لأوامره، والتخاذل عن القيام بفرائضه.

وهو كذلك مناقض لما ورد عن السلف الأخيار، والأئمة الأعلام في هذا الأمر.

ومع تقدم إيضاح بعض الاستدلالات نزيد هنا بإيضاح البعض الآخر - مع التذكير بما سبق، فنقول:

أولا: ترك العمل في ضوء واقع الجيل الأول، وحقيقة النفس الإنسانية:

إنه مع غض النظر مطلقا عن جدل الفرق في النصوص، وتعارضها - في نظرهم - وخلافات الفقهاء المتأخرين في فهمها، يظل المعيار الحقيقي للحكم على أي حالة هو معيار الصدر الأول، وواقع السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا المعيار - على وضوحه - هو أيسر المعايير وأصدقها، والفطرة الإيمانية تعرفه أكثر مما يعرف الذهن الجدل الكلامي والخلافات المتشعبة.

وذلك أن ينظر المؤمن إلى الحالة المراد معرفة حكمها، متصوراً أنها وقعت في الصدر الأول، ويفكر ويتدبر ماذا يمكن أن يحكم به عليها ذلك الجيل القدوة، أو ماذا يمكن أن يكون وضعها لو وجدت فيه وعاشت معه؟

وسيجد الجواب بإذن الله أيسر وأقرب مما يجده في عويص الخلافات ودقائق الترجيحات التي لا يستطيع أن يخوض غمارها كل أحد.

فما حكم ترك العمل في ضوء ذلك؟

أي ما حكم رجل عاش في ذلك الجيل الحي العامل المجاهد منتسبا إليه بالاسم، مقراً بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم باللسان ولكنه مع ذلك لا يؤدي فريضة من فرائض الله، ولا يجتنب معصية من معاصيه، ولا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله يأتي ويدع من أعمال، فلا يصلى، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يوالي

ص: 438

المؤمنين ولا يجاهد معهم، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يشارك بأي مشاركة إيمانية في ذلك المجتمع الأول، إلا أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وآيات صدق نبوته الباهرة، فأقر في قلبه، وزاد على ذلك بالتلفظ بالشهادتين بلسانه؟ (1)

الحق أنه لا يصح أن يسأل عن موقع هذا الرجل في صفوف المؤمنين، بل الصحيح أن يسأل أيمكن أن يوجد في صفوف المنافقين؟!

فالمنافقون - كما أشرنا - سلفاً، وكما هو صريح القرآن - كانوا يجاهدون وينفقون ويصلون، ويشهدون مواقف الرعب والهول التي تكتنف الجماعة المسلمة الناشئة، فهل عاش أو يتصور أن يعيش بينهم هذا الذي لا صلاة له، ولا جهاد، ولا نفقة، ولا مشاركة للمؤمنين في عمل قط، ولو في الظاهر؟

بل نقول: أنه وجدت حالة أفضل من حالة هذا الرجل بكثير: وهي حكاية رجل دافع عن الدعوة وحمى صاحبها صلى الله عليه وسلم، وشاركه في مواقف الصبر والاضطهاد، معترفا في قرارة نفسه بصدق نبوته وصحة ما جاء به في شعره، ومع ذلك مات كافرا، وهو من أهل النار بنص الخبر الصحيح.. أعني أبا طالب عمه صلى الله عليه وسلم.

فإن قالت المرجئة: إنما كفر أبو طالب لامتناعه عن قول الشهادة عند الموت، وقوله: هو على ملة عبد المطلب.

قلنا: ما تزال الحجة قائمة عليكم، وذلك أنه لو كان مؤمناً من قبل، ناجيا عند الله في الآخرة - كما يقولون في حكم من لم ينطق الشهادة - لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه ذلك قائلا:" يا عم، قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله "(2) .

فلما عرض عليه ذلك وألح عليه علمنا أنه لم يكن قبل ذلك مؤمناً ولا موعوداً بالنجاة قط، ولو كان كذلك لكان امتناعه عن الشهادة معصية فقط - كما قد صرح بعضكم (3) في حق الممتنع عنها!!

فإذا كان هذا حاله، فكيف من لم يعمل شيئاً قط إلا التصديق القلبي بصدق الرسول، أو أضاف إلي ذلك كلمة الشهادة مجردة من أعمال القلب والجوارح؟!

(1) انظر كلام شيخ الإسلام في هذا (7 / 287) ، وسنذكر إن شاء الله في أخر الكلام عن الاستحلال وترك الإقرار.

(2)

انظر صحيح مسلم،كتاب الإيمان رقم (39 - 42) .

(3)

ومنهم أبو حامد الغزالى في الأحياء وشارحه الزبيدي الماتريدي، انظر: إتحاف السادة المتقين (5 / 255) .

ص: 439

وإن في أقسام الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما قررناه بجلاء؛ وذلك أنهم لم يكونوا سوى ثلاثة أقسام:

1-

عامل بجوارحه مؤمن بقلبه وهم المؤمنون.

2-

عامل بجوارحه كافر بقلبه وهم المنافقون

3-

كافر بجوارحه وبقلبه وهم الكافرون.

روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان بسند صحيح إلى أبي قلابة التابعي أنه قال: حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود (1)، فقال: " أنشدك بالله أتعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف:

مؤمن السريرة مؤمن العلانية.

وكافر السريرة كافر العلانية.

ومؤمن العلانية كافر السريرة.

فقال عبد الله: اللهم نعم " (2) .

فلم يكن في واقع الجيل الأول ولا في تصوره وجود لمؤمن السريرة كافر العلانية، أي التارك للإيمان بجوارحه المؤمن بقلبه، كما تزعم المرجئة (3) .

وانطلاقا من هذا يقول الخطابي:

" قد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد الظاهر "(4) .

ولهذا ينقد شيخ الإسلام ابن تيمية بقوة العبارة التي يستخدمها بعض الفقهاء في حق من صدرت منهم أعمال كفرية صريحة، وهي قولهم:" كافر ظاهرا مؤمنا باطنا "، مبينا أنها لوثة من لوثات الإرجاء (5) .

(1) هو رسول معاذ إلى ابن مسعود - رضى الله عنهما -كما بينته رواية أبي عبيد، ص69، ضمن الرسائل الأربع بتحقيق الشيخ الألباني.

(2)

ص23 من الرسائل الأربع، وقد ضعفه الشيخ الألباني بجهالة رسول معاذ، غير أن القدر الذي استشهدنا به منه يعتضد بالأثر الذي أخرجه ابن أبي شيبة من عمر قبله، صلى الله عليه وسلم 19، وصحته واقعياً لا شك فيها.

(3)

أي في الحالات السوية بطبيعة الحال، وأما في حالة الأكراد مثلا فهي عارضة، ولا تدخل في مجال البحث هنا، بل هي من الأدلة على مذهب السلف؛ لأنها استثناء من الأصل.

(4)

نقلها البغوي في شرح السنة (1/ 11) هكذا، وهو الصحيح، وأما ما نقله عن النووى في شرح مسلم (1 / 145) وآخرها: وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر، فهو خطأ؛ إذ تكون العبارة حينئذ متناقضة مع ما قبلها وما بعدها، لكن قد يكون الخطأ من الناسخ أو الطابع.

(5)

انظر الإيمان، صلى الله عليه وسلم 386، وقد أفاض في ذلك الصارم المسلول، وكذلك في الإيمان الأوسط؛ الجزء السابع من مجموع الفتاوى.

ص: 440

وأما حقيقة النفس الإنسانية، فغني عن البيان والإعادة أن نقول ان الإنسان لا يمكن أن ينفصل عمله عن همه وإرادته بحال؛ إذ الأعمال ما هى إلا الأثر الظاهر للهم والإرادة، ولا يتصور منافاتها لذلك مطلقا.

غير أن من المهم هنا أن نعرج على الحالة المعاكسة - أي حالة المنافق الذي يستسلم ظاهراً وهو غير منقاد باطناً -؛ لنبين أن ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة؛ وذلك أن أعمال المنافق هي بلا ريب أثر ما في قلبه؛ فقد يقال: لم لم يتلازم الظاهر والباطن في حقه، إذ نراه على ظاهر يخالف باطنه؟

والجواب: إن القاعدة صحيحة، وأن التلازم ثابت؛ فإن الالتواء أو التذبذب الخارجي هو أثر الالتواء والتذبذب الباطني المطابق له، والمنافق في الواقع ونفس الأمر ليس منقاداً لا ظاهراً ولا باطناً، فهذا هو حكمه عند الله الذي يعلم الأمور على حقائقها.

ومخالفة ظاهره لباطنه إنما هي في علمنا البشرى القاصر، حيث يمكن أن يحجبنا بتصنعه وتكلفة أعمال الإيمان الظاهرة عما في قلبه من الكفر، ومع ذلك فليس الأمر على إطلاقه، فبصيرة المؤمنين لها أثر في معرفة المنافق، ولحن القول لا ينفك ينبئ عن المنافقين بين الحين والحين، كما أن اعوجاج المظهر من لوازمهم المعلمة عن حقيقة المخبر، ولولا وجود ضعاف الإيمان من غير المنافقين لكان أمرهم أجلى حداً، فأعمال المنافقين لا تشتبه وأعمال السابقين، وإنما تشتبه بأعمال هؤلاء.

ثانيا: بعض النصوص الشرعية في حكم ترك العمل:

وردت آيات وأحاديث كثيرة في أن العمل لا ينفك عن الإيمان الباطن، وأن العمل الصالح هو مناط النجاة فى الدنيا والآخرة، فهو الذي ينجي في الدنيا من سيف أهل الإيمان، وينجي يوم القيامة من عذاب النيران، ولم يعلق ذلك بأحد ركني الإيمان دون الآخر، إلا أن المنافق ينجو من السيف مادام نفاقه سراً، فإذا أظهره فهو الزنديق الذي تكلم العلماء في أحكامه بما لا يسعه المقام، وهذا دليل على التلازم والتركيب.

ص: 441

وأنا أذكر بعض ما أستدل به السلف في ذلك - فهم أعلم الناس بدلالات النصوص - فمن ذلك قوله تعالى:

1-

«وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» (البينة: 5)

وبهذه الآية استدل عليهم التابعي المشهور عطاء بن أبي رباح، وتبعه الشافعي والحميدي والإمام أحمد.

ففي قصة سالم الأفطس المرجئ، التي نقلناها سابقاً (1) يقول الراوي: فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، قلت: إن لنا حاجة فأدخلنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا، وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين (2) .

فقال: أو ليس الله يقول:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» (البينة: 5)

فالصلاة والزكاة من الدين. وتبعه الشافعي فقال للحميدي: ما يحتج عليهم - يعني أهل الأرجاء - بآية أحج من قوله: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ

» (3) الآية.

وتبعه الحميدي والإمام أحمد فقد روى الخلال عن عبد الله بن حنبل عن ابن اسحاق بن حنبل قال: قال الحميدي: " وأخبرت أن أقواماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويظل مسنداً ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن - ما لم يكن جاحداً - إذا علم أن ترك ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقراً بالفرض واستقبال القبلة.

فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين، قال عز وجل:«حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» .

(1) في مبحث مؤسس الطائفة أول الباب الثالث.

(2)

أي من الإيمان، والمراد أنهم يقولون: أن الأقرار بالصلاة والزكاة هو وحده الإيمان دون العمل، كما جاء في آخر القصة حين قال الراوي لنافع: أنهم يقولون: نحن نقر بان الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، قال: فنتر يده من يدي، وقال: من فعل هذا فهو كافر.

(3)

رواه بسند ابن ابي حاتم الشافعي، ونقلها شيخ الإسلام في الإيمان، صلى الله عليه وسلم 196.

ص: 442

قال حنبل: قال أبو عبد الله (يعني الإمام) : من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به.

فانظر إلى هذا الحزم والوضوح مع تصريحهم بأنه مقر غير جاحد، ومع أن الكلام ليس فيمن عُرض على السيف فأصر على الترك!!

وقال الإمام الآجري رحمه الله: " فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضى لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل - لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، فاعلم ذلك.

هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير ذلك فهو مرجئ خبيث، أحذره على دينك، والدليل على هذا قو الله عز وجل:«وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيمون الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» (1) .

2-

ومما استدل به السلف عليهم قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة: 177) .

كما سبق في الاستدلال بها، وقد جعلها البخاري عنوانا لباب أمور الإيمان وقوله تعالى:«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وذكر الآية (2)

(1) اخلاق العلماء، صلى الله عليه وسلم 28.

(2)

وانظر: عن استدلال السلف بما نقله السيوطي عنها من أثار فى الدر المنثور، والفتح (1 / 50) .

ص: 443

3-

ومما استدلوا به آيات سورة التوبة، ومعلوم أنها من أخر ما أنزل، وهي قوله تعالى:

«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» (التوبة: 5) .

ثم قال بعدها: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (*) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) (التوبة: 11 - 12)

فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع الإيمان بالله وترك الشرك - شرطاً في تخليه السبيل، وعصمة الدم، واستحقاق الأخوة من المؤمنين، وجعل نقض ذلك موجباً للقتال على الكفر.

ولهذا قال أنس رضى الله عنه - وهو ممن أدرك ظهور المرجئة -: " هو دين الله الذي جاء به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء؛ وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله:

«فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» (1) .

إلى أن قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى:«فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ» .

قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: " ولهذا اعتمد الصديق رضى الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها؛ حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق لله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء أو المحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة.

(1) رواه الطبري (10 / 78) ، وذكر ابن كثير أنه رواه ابن مردويه ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة - التفسير (4 / 54) ، وذكر عند الآية الأخرى (4 / 58) أن البزار رواه أيضا.

ص: 444

وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة

" الحديث.

وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له.

وقال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه " (1)

إلى آخر ما ذكر رحمه الله من أحاديث وآثار؛ هي مستند الإجماع الذي انعقد بين الصحابة بعد المناظرة الوجيزة بين الفاروق والصديق، ثم ظل من أعظم آحاد الإجماع ثبوتاً، حتى لقد قال الصحابة:" لو أطاعنا أبو بكر كفرنا "، بعد أن تبين لهم الأمر وزالت الشبهة.

لقد كان الصحابة رضى الله عنهم أجل وأفقه من أن يقولوا: نسألهم، فإن كانوا مقرين بوجوبها مع الامتناع عن أدائها بالكلية فهم مسلمون، وإن كانوا جاحدين لوجوبها فهم مرتدون، ولكل حالة أحكامها!!

فقد انعقد إجماعهم على أن الامتناع عن أدائها بالكلية - وهو الواقع من المرتدين - وليس عن دفعها للإمام - هو ردة صريحة، تضمن إسقاط حق الله في المال، والتفريق بين الصلاة والزكاة - وهم لم يخالف أحد منهم قط في تكفير تارك الصلاة (2) -، ولذا ألزمهم الصديق رضى الله عنه وعنهم، حتى انعقد إجماعهم على هذه، كما انعقد على تلك، وبناء على ذلك سموا الممتنعين عن أداء الزكاة مرتدين في كل النصوص الواردة عنهم، وقاتلوهم قتال سائر المرتدين - أى كمن أدعى نبوة مسيلمة وسجاح والأسود، دون تفريق بينهم في شيء من أحكام القتال، وشهد لهذا فقهاء السلف، كمال قال الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله:

(1) التفسير (4/ 54)، وانظر: الطبري - الموضوع السابق.

(2)

ومن الأدلة على إجماعهم على تكفير تارك الصلاة: حديث الصديق والصحابة هذا، وقد ثبت نقل ذلك عن طائفة منهم ومن التابعين - كما هو مفصل في مظانه، ومن ذلك ما حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 227) واظر أيضا: 230، 235، عن جابر رضى الله عنه، وكذلك جاء النقل عن أبى هريرة رضى الله عنه، رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وقال الذهبي:(إسناده صالح) ، كما نقل الشيخ الألباني ولم يعلق عليه، الإيمان لأبن أبي شيبة 46، ولم يقل أن تاركها غير كافر إلا من تأثر بالإرجاء - شعر أو لم يشعر - كما سترى.

ص: 445

" والمصدق لهذا: جهاد أبي بكر الصديق - رحمه الله تعالى - بالمهاجرين والأنصار على منع الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي النساء واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها "(1) .

قال شيخ الإسلام رحمه الله: " والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحداً لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل لقد قال الصديق لعمر رضى الله عنه: والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعاً أهل الردة "(2)

وهذه المعاملة في القتال هي أشد أنواع معاملة المنتسبين للإسلام ممن يجب قتاله أو يجوز؛ لأنه قتال ردة، وكل قتال دونه فهو دون ذلك من المعاملة، حتى إن الخوارج الذين تواترت النصوص في قتالهم بأعينهم وصفاتهم الجلية - كان حكم الصحابة فيهم ومعاملتهم لهم ألا يتبع من أدبر منهم، ولا يجهز على جريح، ولا تسبي نسائهم، أو تخمس أموالهم.

قال شيخ الإسلام: " وأما قتال مانعي الزكاة - إذا كانوا مانعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها - فهو أعظم من قتال الخوارج "(3)

ومن الأدلة على فساد مذهب المرجئة في أن تارك العمل لا يكفر: أن من دخلت عليه شبهة الإرجاء من الفقهاء وشراح كتب السنة - لما لم يجعلوا قتال الصديق والصحابة لهم قتال ردة وكفر، جعلوه من باب قتال البغاة، ومنهم من يسمي

(1) لإيمان لأبي عبيد، صلى الله عليه وسلم 57 / من مجموع الرسائل الأربع التي حققها الشيخ الألباني.

تنبيه: انظر دلالة الآيات الصريحة على أن إيتاء الزكاة شرط في عصمة الدم وثبوت الأخوة في الدين وكيف فهما الصحابة والسلف وفسروها، بل وعملوا بها مجمعين على ما أقسم عليه صديقهم " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " وقالوا " لو أطعنا أبو بكر كفرنا " وقاتلوهم هذه المقاتلة التي فسرها السلف كما ترى، ثم انظر معه ما جاء فى تقديم رسالة حكم تارك الصلاة، صلى الله عليه وسلم 15 " وإن قيل: ليس أخا في الدين!! قلنا: هذا باطل من القول بيقين ليس عليه أى دليل "

(2)

الدرر السنية (8 / 35)

(3)

منهاج السنة (4 / 501)

ص: 446

قتال أهل القبلة بكل أنواعه قتال بغاة (1) ، فكأن الصديق إنما قاتلهم لامتناعهم عن دفع الزكاة إليه، وهو إمام المسلمين وبيده بيت المال، والرد على هؤلاء واضح من وجوه:

أنه لم يثبت أن امتناعهم مخصوص بأدائها إلى الإمام، بل الثابت بالنصوص الصحيحة امتناعهم عند أدائها مطلقا، أما ما ذكر من امتناع بعضهم هذا الامتناع المخصوص، فغايته إن ثبت أن تكون فئة منهم كذلك وليس عامتهم، والحكم إنما هو للأغلب والأعم.

أن وصفهم بالردة والكفر بإطلاق - كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة - يدل على الامتناع المطلق لا على ما ذكروا.

أن هذه المعاملة الشديدة لهم ومساوتهم بأصحاب مسيلمة والأسود ونحوهما لا تناسب إلا الامتناع المطلق.

أن هؤلاء الفقهاء والشراح لا يلتزمون الحكم على من لم يدفع الزكاة للإمام بالكفر والردة ووجوب قتاله ومساواته بمدعي النبوة إلى أخر ما فعل الصحابة، بل غاية حكمه عن بعضهم جواز مقاتلته قتال بغي لا قتال ردة، فهم إما أن يقروا بأن المناط مختلف - وهو الصحيح - وإما أن يلتزموا مخالفة إجماع الصحابة، وهو تناقض!!

(1) قتال أهل القبلة المشروع أنواع، يجمعها كلها قوله صلى الله عليه وسلم:" التارك لدينه المفارق للجماعة " لأن استقراء النصوص يدل على أن الجماعة لها معنيان:

أ- المعنى العام؛ وهو الدين والسنة فمن خرج عنه خرج إلى الكفر والبدعة.

ب- والمعنى الخاص؛ هو مجتمع المسلمين الذي يرأسه إمام شرعى، فمن خرج عنه فهو باغ أو محارب. وتفصيل هذه الأنواع كما يلى:

قتال الردة: وهو قتال الطائفة الممتنعة عن الألتزام بشعيرة من شعائر الإسلام أو حكم من أحكام الشريعة الثابتة،مثل مانعى الزكاة،وكالتتار الذين أصدر فيه شيخ الإسلام فتواه المشهورة التي جمع الله بها الأمة، أما تارك الصلاة فردا أو جماعة، فليس من أهل القبلة أصلا، وقتالهم أولى وأوجب، وكونه قتال ردة لا يجوز الخلاف عليه.

قتال الخوارج وهو كما ذكرنا أعلاه، وهو في الحقيقة أصل في قتال اهل البدع كافة.

وهذان النوعان خارجان عن الجماعة بمفهومهما العام والخاص.

قتال البغاة: وهم الخارجون عن الجماعة بمفهومها الخاص - بتأويل واجتهاد، وهو أصحاب شبة لا أصحاب بدعة.

قتال المحاربين: وهم من جنس البغاة، إلا أنهم أصحاب شهوة لا شبه فهم ليسوا خارجين على الجماعة بإطلاق، بل على أمن الجماعة، مثل قطاع الطريق وعصابات الفساد.

أما النوع الآخر الذي لا شرعية له:

قتال الفتنة: وهو الذي ثبتت السنة في النهي فن الدخول فيه وهو كل قتال بين المسلمين على الملك أو الدنيا أو العصبية أو نحوها.

ومن هنا كان قوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ

... " إلخ من جوامع الكلم.

ص: 447

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا على طاعته، فإن الزكاة فرض عليهم، فقاتلهم على الإقرار بها وعلى أدائها (1) ، بخلاف من قاتل ليطاع هو، ولهذا قال: الإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما: من قال: أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام، لم يكن للإمام أن يقاتله، وهذا فيه نزاع بين الفقهاء؛ فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء، وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعي رحمه الله، ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على ترك طاعة شخص معين؛ لم يجوز قتال هؤلاء.

وفي الجملة، فالذين قاتلهم الصديق رضى الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به، فلهذا كانوا مرتدين، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين (2) .

أقول: فإذا انعقد الإجماع على عدم التفريق بين الصلاة والزكاة، وهما عملان ظاهران يمكن إنفكاك أحدهما عن الأخر من وجوه عدة، وقال الصديق:

" والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " وأقره عليه الصحابة كلهم قولا وعملا - فما بالك بمن يفرق بين ركني الإيمان الظاهر والباطن، وجزئي الحقيقة الواحدة المركبة؛ فيفرق بين الإيمان القلبى والعمل الظاهر؟!

وسيأتي في شرح حديث جبريل عليه السلام ما يتعلق ببقية الأركان، ويزيد الأمر وضوحا.

(1) لاحظ قوله رحمه الله: " فقاتلهم على الإقرار بها وعلى أدائها " مع قوله السابق: "

إذا كانوا ممتنعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها "؛ فقد أراد بيان اتحاد الحكم فى الحالتين (حالة الامتناع عن الإقرار، وحالة الامتناع عن الأداء بالكلية) ، فلو فرض وجود من أنكر وجوبها - وهو المتفق على تكفيره بين أهل السنة والمرجئة، فإنه لا ينافي مساواة حكم من أقر بوجوبها وامتنع عن أدائها بحكمه فى كل شيء فهذا الذي فعله الصديق ويذهب إليه أهل السنة، بخلاف المرجئة.

فالكفر عند المرجئة لا يكون إلا بالتكذيب والجحود، ولكنه عند أهل السنة يكون بذلك ويكون بغيره؛ مثل الإباء والاستكبار، وحكمهما واحد.

تنبيه: ليس كل من قال: أن تاركي الزكاة أو بعضهم لم يكفروا زمن الصديق يقول إن من امتنع عن أدائها اليوم لا يكفر، ومن ذلك ما نقله ابن القيم في بدائع الفوائد من خط القاضي (أبي يعلى) حيث جعلهم متأولين، ولم يحكم بكفرهم؛ لأن أحكام الإسلام لم تكن قد انتشرت، قال:" ول منعها مانع في وقتنا حكم بكفره "(3 / 104) ، أى لأن أحكام الإسلام قد ظهرت فلا قبول لتأويل كتأويلهم!

(2)

منهاج السنة (4 / 500 - 501)

ص: 448

وبهذا يتبين لطالب الحق أن ترك الأركان الأربعة وسائر عمل الجوارح كفر ظاهراً وباطناً؛ لأنه ترك لجنس العمل الذي هو ركن الحقيقة المركبة للإيمان، التي لا وجود لها إلا به، هذا مما لا يجوز الخلاف فيه، ومن خالف فيه فقد دخلت عليه شبهة المرجئة شعر أو لم يشعر.

وتتميز الأركان الأربعة عن سائر الواجبات، بأن من لم يلتزم فعلها بقلبه ولمن يعزم على ذلك لا يكون مؤمنا أبداً - أى فى الباطن (1) -؛ لأنه تارك لعمل القلب الذي هو ركن الإيمان، وعنه ينشأ العمل الظاهر، وأما من يضعفه عزمه وينخرم التزامه، فهو على حرف الكفر وحافة النفاق.

وما ورد عن فقهاء الأمة من اختلاف بشأن تارك الصلاة - أو غيرها من الأركان - لا يؤثر على ما سبق، وذلك لأمور:

* الأول: أن ترك جنس العمل شيء وترك بعض آحاده شيء آخر، ولا سيما عند من لا يرى كفر تارك الصلاة؛ إذ هى عنده من جملة الواجبات، فيصح لديه أن يأتي العبد ببعض الواجبات وتنفعه عند الله - مع تركه للصلاة، فلا يلزم من قولهم: أن تاركها لا يكفر أنه عمل له صالحا له، وهذا هو ما يهمنا هنا، وإن كان ثبوت كفره واستلزمه لإحباط سائر عمله هو الحق - كما سنبين.

* الثاني: أنه من خالف في تكفير تارك أحد المباني الأربعة - ولا سيما الصلاة - لا ينبغي الاعتداد بخلافه بعد ثبوت الإجماع من الصحابة رضى الله عنهم في تكفير تارك الصلاة والزكاة، وما أشرنا إليه بالنسبة للصيام والحج - فمع كثرة المخالفين من المتأخرين لم يستطع أحد منهم الإتيان بنقل ثابت صريح عن صحابي أو تابعي يخالف ذلك؛ وذلك أن أول من قال به هم المرجئة، ثم تبعهم من تبعهم، ومتى عرف المرء ذلك تبين له أن هذا القول خارج عن أقوال أهل الاجتهاد إلى أهل البدع، وإن لم يكن كل من قال به من أهل البدع، وإيضاح ذلك في الفقرة التالية.

(1) انظر: كلام سفيان بن عيينه الآتي فى أخر هذا المبحث، حيث نص على أن المرجئة جعلوا من شهد أن لا إله إلا الله، - مصرا بقلبه على ترك الفضائل - بمنزلة ركوب المحارم، قال: وليسا سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر كفر. إلخ كلامه.

ص: 449

* الثالث: إن ما تنقله كتب الفقهاء المتأخرين عن بعض الأئمة من خلاف في هذا، لا يخلو من أحوال:

إما أن النقل عنه غير ثابت، وإن ثبت فهو إحدى الروايات عنه (1) ، والموافقة للإجماع هى الأولى بالأخذ.

وإما أن يكون كلامه في مسألة فرعية، كمن ترك فريضة واحدة وليس في التارك المطلق، وسنوضح أهمية التفريق بينهم فى البند الرابع.

وأما أن يكون كلامه ليس صريحا فى الترك، بل في التساهل والتضييع وترك المحافظة، كما سنبين أيضاً.

وإما أن يكون كلامه في حالات مخصوصة، كقول حذيفة رضى الله عنه:" تنجيهم من النار " - أى عند دروس الإسلام واضمحلاله (2) ، فجعله الناقل قولا عاما مطلقا.

وإما أن يكون المخالف لم يبلغه الإجماع، أو قال بخلافه قبل أن يبلغه، أو لم يره إجماعاً ونظر إلى النصوص المطلقة؛ كحديث:" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " ونحو ذلك، وهذا لا يؤثر في ثبوت الإجماع وقوته.

وإما أن يكون المنسوب للإمام المتبوع - هو قول مجتهدي المذهب كلهم أو بعضهم لا قول الإمام نفسه، ولاسيما إذا اعتقد التابع أن القول بالتكفير هو مذهب الخوارج والمعتزلة، فينفي عن إمامه القول به، وهذا ما وقع فيه كثير من فقهاء المذاهب، بل وقع فيه من يحارب المذهبية كالشيخ الألباني (3) .

وإما أن يكون الناظر في قول الإمام من الأتباع لم يره التزام لازم القول، فظن أن ذلك رجوع عنه أو تناقض ينبغي تبرئته منه، وربما استدل بعضهم بترك لازم اللازم - وذلك مثل استدلال بعضهم بكون الصحابة وسائر المسلمين بعدهم لم يخصصوا مقبرة لتاركي الصلاة، وفاته أن تخصيص مقبرة لازم لإجراء الحكم الظاهر في الدنيا، وإجراء الحكم لازم للقول بالتكفير.

(1) ويشهد لهذا وما بعده من الفقرات اشتهار القول بعدم تكفير تارك الصلاة عن الشافعي، وإطباق متأخري الشافعية على ذلك، مع أن الإمام الطحاوي نسب إليه القول بتكفيره في مشكل الأثار (4 / 22_ 320) ، وهو ابن أخت المزني صاحب الشافعي، وقد كان شافعيا ثم تحول حنفيا، وهذه يؤكده النقل السابق عن الشافعي فى الاستدلال بأية البينة على المرجئة.

(2)

سيأتي إيضاح ذلك في الكلام عن حديث الجهميين.

(3)

انظر رسالته: حكم تارك الصلاة، صلى الله عليه وسلم 42 - 43 وسيأتي الحديث عن هذه الرسالة عند الكلام عن حديث الجهميين آخر الكتاب.

ص: 450

ولا يشترط التزام اللازم فضلا عن لازمه؛ فإن العالم قد يقول بالتكفير لكن لا يجرى الحكم الظاهر حتى لو كان قاضيا أو إماما لمانع من الموانع، وقد يجرى الحكم الظاهر ولا يرى لازمه؛ كتخصيص مقبرة، فما أبعده من استدلال!!

* الرابع: أن الخلاف في ذلك ليس على إطلاقه وإجماله كما تنقل كتب الخلاف ونحوها، بل تحرير القول وتفصيله في مناط النزاع يظهر حقائق لا يجوز إغفالها، ومن ذلك:

أن المخالف ربما كان كلامه فى الحكم الظاهر وكلام غيره فى الحكم الباطن، وأكثر كلام السلف إنما هو في الحكم الباطن، بعكس كلام الفقهاء المتأخرين - كما سنبين، ولهذا كان الإجماع على تكفير تارك الصلاة أشهر وأظهر والتمثيل بذلك في كتب العقيدة أكثر، لأن المسألة إذا كانت حكمية - فالصلاة هي الركن الوحيد الذي يمكن الحكم على تاركه بيقين؛ بما تختص به من الظهور والتكرار، وعموم جوابها في سائر الأحوال والأوقات.

ولهذا يقولون: " تارك الصلاة " ولا يقولون " تارك الزكاة " غالباً بل " الممتنع عن أدائها " لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بالامتناع، والصيام أخفى من الزكاة، والحج إنما يجب في العمرة مرة.

أن لفظ " الترك " وشبهه هو من الألفاظ التي وقع فيها الإجمال والالتباس. وكثير من الخلاف سببه الألفاظ وإطلاق الأحكام، كما بين شيخ الإسلام وغيره وتبعاً للإمام أحمد، ومتى وجد التفصيل والتقيد ارتفع الخلاف، ومن ذلك أن كتب العقيدة التي صنفها أهل السنة تعني بالتارك تارك الالتزام بالأمر - أي تارك عمل القلب التارك تبعا لذلك عمل الجارحة (1) ، لأنها كلها تقرر أن الإيمان قول وعمل بالقلب والجوارح - كما أسلفنا، وعليه فالتارك عندهم هو من يستحق الاسم بإطلاق، ولذلك لم تختلف هذه الكتب في حكم تارك الصلاة مثل كتب الفروع ولأن مقصود مصنفيها بيان الحقائق الشرعية ذاتها، وبيان ما يضادها من البدع، ودفع اللبس بينهما.

(1) ولهذا قالوا مرة: إذا قال: لا أصلى، فهو كافر، ومرة قالوا: إذا عزم على تركها، ومرة قالوا: متعمدا ومرة قالوا: إذا قاتل عليها. وذلك لأن هذه الأحوال جميعا تدل على شيء واحد؛ وهو عدم الالتزام.

ص: 451

أما كتب الفروع فلكونها تبحث في أحكام أعيان المكلفين وتفصيل أحوالهم،ومقصودها غالبا إجراء الحكم الظاهر - كان التارك عند مصنفيها اسما عاما يتناول آحادا كثيرة، فيتكلمون عن التارك الجاحد للوجوب، والتارك المتكاسل والترك لفريضة واحدة، فيشمل كلامهم من جهة الباطن تارك عمل القلب، وضعيفه، والمتردد بين ضعف الإيمان والنفاق المحض (1) .

والآيات الواردة في ترك الصلاة إنما هي في الكفار، كقوله تعالى:«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ»

وقوله: «فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (*) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى»

وقوله: «مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (*) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (*) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ» .

وفي هذا دليل على أن من تركها كافر لا حظ له في الإسلام وإن ادعاه، وأيضا أن التارك هو من لا يصلى بإطلاق؛ لأن الكافر كذلك، بقوله، فقوله صلى الله عليه وسلم:" من تركها فقد كفر " وغيره من الأحاديث؛ يفسر هذا.

فمن ترك الصلاة بالكلية فهو من جنس هؤلاء الكفار، ومن تركها في أكثر أحيانه فهو إليهم أقرب، وحاله بهم أشبه، ومن كان يصلى أحيانا ويدع أحيانا فهو متردد متذبذب بين الكفر والإيمان، والعبرة بالخاتمة.

وقد يلتبس على بعضهم ما جاء في ذلك من ألفاظ النصوص، مثل:

(الإضاعة) و (ترك المحافظة) بالترك الكلى، فالإضاعة كما في قوله تعالى:«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ» ، ولذلك نص ابن مسعود وغيره على أن الإضاعة هى التأخير، ولو تركوها لكانوا كفارا (2) .

(1) والمؤسف مع أن هذا الشيخ الألباني حفظه الله أخذ بكلام أهل الإرجاء المحض من غير تفصيل؛ حيث جعل التارك الكلى مؤمنا من أهل الشفاعة، وركب رسالته كلها على هذا!!

(2)

انظر: الطبرى، وابن كثير، والدر المنثور، وأضواء البيان عن هذه الآية، وأما لفظ التفريط الوارد في مسائل الإمام أحمد فليس هو في الترك، وإنما هو فيمن حسب غير العذر عذراً - كحال كثير من الناس الذين إذا مرضوا تركوا الصلاة، فإذا شفوا سألوا ماذا نفعل؟ أما من تركها غير ملتزم بها فلا يقول أحمد رحمه الله ولا غيره ممن يرة التكفير به أنه يقضيها؛ لأنه كفر، وتوبة الكافر التزامه بالشرائع التي كفر بها بترك الالتزام بها، سواء أكانت الصلاة أم الزكاة أو غيرها، ولو أن الشيخ الألباني حفظه الله تأمل هذا لما ورد فى رسالته، صلى الله عليه وسلم 57، أو لأورده على سبيل الاحتمال لا الجزم.

ص: 452

وترك المحافظة - كما فى حديث عبادة بن الصامت " من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة "(1) ، وهو غير الترك الكلى الذي هو الكفر.

ومن ذلك لفظ (الجحد) ، فهي لا تعني أحيانا عند السلف إلا الترك - كما تقدم -، فيخطئ بعض المتأخرين فيجعلها مقابل التارك ويفترض الخلاف، والواقع أن لا خلاف، وكل تفريق لم يرد في النصوص لا يصح اعتباره، والنصوص المطلقة لا جوز حملها على أحد المعنيين دون الآخر، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليس لهم حجة وإلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عند الجاحد كان جواباً عند التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي "(2) يعني الآيات، والأحاديث أكثرها جاء بلفظ الترك، ولفظ الجحد لم يأت غالبا إلا في كلام السلف، ويقصدون به الترك والتولي لا عدم الإقرار بالوجوب.

وكذلك الكسل والتهاون والسهو عنها لا يعني الترك المطلق، ولهذا تعجب لمن يقول:" إذا تركها كسلا وتهاونا حتى يقتل " ونحوه، إذ يستحيل عقلا وواقعا أن يفضل السيف على الصلاة لمجرد الكسل ونحوه، فأي كسل يبقى والسيف على رأسه؟!

فإن هذا تارك للإقرار والالتزام بها، وليس متكاسلا عن الأداء، والمتكاسل هو المتخاذل المهمل في العمل، الذي متى توافر الداعي للأداء عمل، وإذا ضعف الداعي فتر وأنقطع - كما قال تعالى:«وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى» وقال: «ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى» ، وهذا من

(1) انظر كلام شيخ الإسلام عن الحديث (7 / 578) ، (7 / 641) من مجموع الفتاوى، وكذلك في ج 22، وقد نقله الشيخ الألباني في رسالته حكم تارك الصلاة، صلى الله عليه وسلم 44 - 46، ولكن صاحب التقديم استدل بالحديث على أن تارك الصلاة لا يكفر، بل هو تحت المشيئة، قارن بين صلى الله عليه وسلم 12 منها مع ما سنفصله عند الكىم عن حديث الجهميين.

(2)

7 / 613) من مجموع الفتاوى.

ص: 453

ضعف الهمة في العمل، فإذا أشتد به ضعفها ترك العمل نفسه أو أخره عن وقته ونقرها نقر الغراب، والمقصود أن هذا شيء وترك الالتزام بالأداء شيء أخر.

ومن ذلك لفظة (الامتناع) ، فإنها تطلق على من يتعذر أو يتخلف أو يتلكأ، بخلاف ما يقوله العلماء في الطائفة الممتنعة، وهي التي تجتمع على ترك واجب أو فعل محرم، فهذا الاجتماع والمقاتلة دليل على عدم الالتزام بالأمر، ومن هنا كان قتالها قتال ردة كما سبق.

* الخامس: أن حقيقة الخلاف بين من يرى قتل تارك الصلاة كفرا وبين من يرى قتله حدا؛ لأن القول بأنه يحبس ويضرب مهما أصر على الترك قول شاذ، وصلته بالإرجاء جلية؛ سواء من جهة القائلين به أو من جهة مضمونة.

وعليه إذا تأمل الفقيه وجد أن كل ما أستدل به من يرى قتله حداً يصلح دليلاً لمن يرى قتله كفرا ولا عكس، فاجتمع للقائل بقتله كفراً أدلته وأدلة غيره، وإن شئت فقل: إن الأدلة في قتله والأدلة في تكفيره تجتمع بلا تعارض، فثبت أن قتله كفراً هو وحده الصحيح (1) ، لا سيما مع ما سبق من بيان استحالة أن يرضى مؤمن بأن يقتل ولا يصلي، فهذا لا يفعله إلا كافر معاند.

وعلى هذا يقاس غيرها من الأركان.

ومثل ما جاء من الوعيد في ترك المحافظة على الصلوات - كحديث عبادة - أو إضاعتها أو السهو عنها - ما جاء من الوعيد في ترك الزكاة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرنها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس "(2)

وقد جاء في بعض الروايات: " حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار "،

فقد يستدل على تارك الزكاة بإطلاق داخل تحت المشيئة، فلا يكون كافرا، أو على التفريق بين تارك الصلاة والزكاة (3)، وليس الأمر كذلك لوجوه:

(1) ومما يبين ذلك - من جهة الأصول والاستنباط - أن تارك الصلاة إذا تاب وصلى لا يقتل الجميع، فهذا دليل على أنه لو قتل لقتل كفرا؛ لأن الحدود لا تسقط بالتوبة، أما المرتد أو المنافق فيقبل توبته ولا يعاقب.

(2)

رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب فيمن لا يؤدي الزكاة.

(3)

كما فعل الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه " تعظيم قدر الصلاة "

ص: 454

أولا: أنه لا يدل على ترك الزكاة أو ترك حق المال بالكلية، ولابد من جمع الأحاديث والروايات فى هذه المسألة، وبمجموعها يتضح أن المقصود منه ليس تارك الالتزام، بل المفرط المتهاون أو المضيع - كما في الصلاة.

ثانيا: أن هذه الرواية أشبه بالمختصر، ولفظ الرواية التامة: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها

ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها

ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها

"

وقال في الخيل:" ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها "، وفي هذه الرواية التامة قال:" حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" وفي الرواية الأخرى قال في الإبل والبقر والغنم: " لا يفعل فيها حقها "، ثم قال:" ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه " ولم يذكر: " حتى يقضى " إلى أخره.

في رواية أخرى في الصحيح: " من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع

" إلخ، وليس فيها " حتى يقضى " إلخ، فهذا لا يعنى أنه لا يدخل النار ولا يخلد فيها، بل هي على إطلاقها، فدل مجموع هذا على أن الوعيد وارد في ترك حق الله عامة لا في الزكاة المفروضة خاصة، وقوله:" ومن حقها حلبها يوم ورودها " وقوله في الخيل ما سبق - صريح في ذلك

والمسلمون جميعا متفقون على أن في المال حقا سوى الزكاة لا يجوز تركه، كنفقة. من تجب عليه نفقته، وإطعام الملهوف، وعابر السبيل، والضيف إذا تعين ذلك عليه، هذا هو المراد.

ويبين ذلك أن الوعيد ورد في حق المكتنز المدخر، الذي يؤدي فعله إلى حبس المال وتعطيل منافعه - وإن لم يكن مما تجب فيه الزكاة، كقوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي اكتنز ديناراً أو دينارين:" كية أو كيتان " وكقوله للمرأة ذات المسكتين: " أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار " وما أشبهه، ومعلوم أن هذا دون النصاب المقدر للزكاة، فلابد أن تكون العلة أمرا أخر سوى ترك الزكاة المفروضة.

وبهذا تجتمع الأحاديث التي كثر فيها الاختلاف منذ عهد الصحابة رضى الله عنهم، ويوضح ذلك حال النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من أصحابه، فإنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنز المال وينتظر حتى يحول الحول فيؤدي القدر المعلوم من النصاب المعلوم؛ بل ثبت عنه أنه قال:" ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا إلا أنفقته كله " فكان هو وكثير من

ص: 455

أصحابه ينفقون بالليل والنهار سرا وعلانية في نوائب الحق، ويسارعون فيما لا يتعين عليهم، ويتنافسون فيه مثلما كانوا يبادرون إلى صلاة التطوع ويحرصون عليها سواء.

فمن تأمل حالهم ومجموع النصوص في الباب - لم يرد منها حديثا أو يصعب عليه توجيهه وفهمه، وأما من التزم طريقة أكثر الفقهاء المتأخرين، فلابد أن يرد البعض، أو يخطئ في توجيهه، أو يتعسف في تخريجه، كقولهم أن هذا مخالف للأصول، وأنه منسوخ نزل قبل تحديد الأنصبة، ونحو ذلك مما هو إلى الظن أقرب، والله أعلم.

ولنعد إلى أصل موضوعنا عن الحقيقة المركبة، فنقول:

في كتاب الإيمان الأوسط (1) ، والذي هو في الحقيقة شرح مستفيض لحديث جبريل عليه السلام فصل شيخ الإسلام القول في هذا، وأظهر - بما لا يدع ريبة ولا شكا - حقيقة الإيمان المركبة، وكفر من ترك العمل الظاهر، بل كفر من ترك الالتزام بأحد الأركان الأربعة؛ الصلاة والزكاة والصوم والحج، وعزم على ألا يفعلها (2) ؛ فإنه رحمه الله قال:" وأما الفرائض الأربع (يعني ما عدا الشهادتين) فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة وتحريمها. . . ".

ثم قال: " وهذه المسألة لها طرفان:

أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.

والثاني: في إثبات الكفر الباطن.

فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة

(1) هو مجموع الفتاوى (7 / 461 - 641)

(2)

انظر من صلى الله عليه وسلم 610 حتى621 مع ما ذكر صلى الله عليه وسلم 210، 218 - 219 وسنأتي على معظمه في ثنايا الفصول الآتية.

ص: 456

والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلي بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح (1)

ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على الامتناع عن الطاعة إنما هو من صفات الكفار لا المسلمين، وألزم المفرقين بين جاحد الوجوب والتارك بإلزام قوي وحجة برهانية؛ فقال:" وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهى متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم على الجاحد كان جوابا لهم عن التارك "(2) .

وذلك أن النصوص لم تفرق، والصحابة رضى الله عنهم لم يفرقوا - كما فصلنا ذلك من قبل، وسنزيده وضوحا إن شاء الله في الصفحات التالية.

والمقصود هنا أن شيخ الإسلام رحمه الله نصر القول بكفره باطنا، وفند شبهات القائلين بخلافه في بقية كلامه.

وأوضح أن من عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب " (3) .

وأن من إجراء الأحكام الظاهرة عليه أمر آخر - كما هو الشأن في المنافقين، وكذلك في المتأولين الذين يعتقدون عقيدة هي كفر، ولكن إجراء الحكم الظاهر عليهم له شروط (إقامة الحجة والاستتابة)، وقال:

" وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثير من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، وهم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهر في المواريث ونحوها من الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كابن أبي وأمثاله من المنافقين، فلأن تجرى على هؤلاء أولى وأحرى (4) .

وختم كلامه بقوله: " وبالجملة فاصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجرى على المنافق أحكام المسلمين.

(1) 7 / 610 - 611)

(2)

ص 613 - 614.

(3)

ص 616

(4)

ص617

ص: 457

وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه ولسانه ولم يؤدي واجبا ظاهرا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات. . . " (1) .

كما فصل القول فى أن عمل القلب هو إرادة جازمة، والإرادة الجازمة يستحيل تخلف الفعل عنها (2) .

فثابت أن تارك عمل القلب بالنسبة للأركان الأربعة أو أحدها، هو تارك الالتزام بها والعقد الجازم على فعلها كافر على الحقيقة؛ لأنه إما أنه ليس لديه عمل القلب (الذي هو الإرادة الجازمة المستلزمة للفعل) ، ولا قوله (الذي هو الإقرار بالوجوب) ، فهذا لا شك في كفره.

وإما أن يكون لديه قول القلب، ولكنه إذ لم يستلزم فعل القلب لا يكفي في ثبوت الإيمان، فهو معرفة مجردة أو علم مجرد - كما تقدم إيضاحه، وهو من جنس إقرار أهل الكتاب بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسول واجب الاتباع ولكن لم يتبعوه، بل إقرار إبليس بأن الله أمره بالسجود ولكن لم يطعه.

وهكذا فإطلاق القول بتكفير تارك الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج صحيح موافق لقاعدة أهل السنة في الإيمان كل الموافقة، وهو ليس من جنس تسمية بعض العصاة كفاراً وتسمية بعض المعاصي كفراً والقول بأن المسألة خلافية هكذا بإطلاق غير صحيح، إلا أن يراد عموم الأمة لا خصوص السلف ومن أتبعهم، وسيأتي في شرح حديث جبريل عليه السلام وشرح حديث وفد عبد القيس - ما يزيد ذلك إيضاحا.

ثالثا: ما ورد من الآيات في حكم التولى عن الطاعة:

ولا شك أن تارك جنس العمل متول عن الطاعة معرض عن الأمتثال؛فالآيات الدالة على أن تارك الركن تارك للإيمان هي دليل على تركب حقيقة الإيمان من هذين الركنين معاً، ومنها:

1-

قوله تعالى: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» (آل عمران: 32)

2-

قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (النور: 47) .

(1) ص 620 - 621.

(2)

ص 616.

ص: 458

3-

قوله تعالى في حق الكافر: «فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (*) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» (القيامة:31، 32) .

4-

قوله تعالى: «لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (*) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» (الليل: 15، 16) .

5-

قوله تعالى على لسان موسى وهارون: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(طه: 48) .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فعلم أن التولى ليس هو التكذيب، بل هو التولى عن الطاعة؛ فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولى، ولهذا قال (فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى) وقد قال تعالى «ويقولون أمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين» (النور: 47) . فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول "

إلى أن يقول: " ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق، وأما العالم بقلبه مع المعاداة أو المخالفة الظاهرة، فهذا لم يسم قط مؤمنا، وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين، ولو قال أو عمل ما عسى أن يقول ويعمل، ولا يتصور عندهم أن ينتفي الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه "(1)

ويستمر رحمه الله في مناقشة الأشعرية في ذلك، ناقلا عن كبار أئمتهم، ناقدا مذهبهم في صفحات طويلة.

رابعا: الآيات في اقتران العمل بالإيمان:

وهذا ما استدل به السلف قديما، وإن كان للمرجئة عليه اعتراض سنورده إن شاء الله ونرده، وممن استدل بذلك الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري الشافعي، قال:

" اعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم - يا أهل القرآن ويا أهل العلم، يا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في

(1) الإيمان ص137، وهو في مجموع الفتاوى (7 / 142) وقبل ذلك ص59 - ذكر أن هذا التولى من المعصية المكفرة مثل معصية جنس الرسل، وذكر نحو كلامه هنا.

ص: 459

الدين بعلم الحلال والحرام، إنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل، علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل.

وأنه عز وجل لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضى عنهم وقد رضوا عنه، والعمل الصالح وأثابهم على ذلك الدخول الى الجنة والنجاة من النار إلا الإيمان به والعمل الصالح، وقرن مع الإيمان على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار بالإيمان الذى قد وفقهم إليه، فصار الإيمان، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم اليه العمل الصالح مصدقا بقلبه وناطقا بلسانه وعاملا بجوارحه.

لا يخفى أن تدبر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت.

واعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم - أني قد تصفحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في تسعة وخمسين موضعا من كتاب الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته وإياهم، وبما وفقهم له من الإيمان بالعمل والعمل الصالح.

وهذا رد على من قال: "الإيمان المعرفة" ورد على من قال:"المعرفة والقول وإن لم يعمل" نعوذ بالله من قائل هذا ".

ثم شرع رحمه الله في سرد هذه المواضع في قوله تعالى في سورة البقرة: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»

إلى قوله: «وَالْعَصْرِ (*) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (*) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» (1) .

أقول: إنه رحمه الله لم يستكمل كل الآيات في اقتران العمل بالإيمان، بل اقتصر على ما كان فيه تقديم ذكر الإيمان على العمل، أما ما تقدم فيه العمل على الإيمان فلم يذكره، ومعلوم أن ذكر النوعين أدل على التلازم.

ومن ذلك قوله تعالى في سورة طه: «ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى» وقد ذكرها، فإذا ضممنا إليها آية أخرى في السورة

(1) وذلك في فصل خاص من كتاب الشريعة.

ص: 460

نفسها لم يذكرها، وهي:«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا» كان أدل في أنه لا عمل بلا إيمان ولا إيمان بلا عمل.

وإنما كثر تقديم الإيمان؛ لأن المراد به قول القلب وعمله، وهو الأصل، فالباطن أصل للظاهر كما سبق لكن ورود بعض مواضع يتقدم فيها ذكر العمل عليه، يدل على التلازم، وعلى أهمية المقدم من أعمال الإيمان في ذلك السياق.

ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)" الإسراء:19"

وقد استدل بهاء عطاء فى مناظرته لسالم الأفطس المرجئ التي سبق إيرادها نقلا عن ابن بطة - قال: فألزم الاسم العمل والعمل الاسم "

وفى هذا تنبيه على مواضع أخرى تماثلها، مع قصد أهمية المقدم، كما سبق، ومنها:«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (آل عمران:110) .

فلا يقال: إن الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ليسا من الإيمان، أو يصحان بدونه، لأنه عطف الإيمان عليها، والعطف يقتضى المغايرة (1)

بل المقصود التنبيه على أهمية هذه الميزة الإسلامية، بإفرادها عن سائر أعمال الإيمان، وتقدمها عليه، وإلا فمعلوم قطعا أن الإيمان لا يتقدم عليه شىء، إذ لا يقبل شىء بدونه.

وقد ورد تقديم التوبة والتقوى والشكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان فى آيات أخرى. أما التوبة، ففي أربعة مواضع، منها:«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى» (طه:82) .

مع ورود التوبة بمعنى الإيمان نفسه فى الآية السابقة «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ»

(1) كما يقول المرجئة فى مسألة العطف التي سنذكرها - إن شاء الله - ضمن الشبهات النقلية.

ص: 461

وأما الشكر، ففي قوله تعالى:«مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ»

(النساء: 147)

وأما التقوى، ففى قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» (الحديد: 28)

وأما الصلاة والزكاة، ففى قوله تعالى:«لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»

(المائدة:12)

وورد عكس ذلك، وهو ذكر الإيمان ثم العطف عليه بذكر شىء من أعماله، تنبيها على أهميته أيضا، مثل قوله تعالى:«إن الذين أمنوا والذين هاجروا وجهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم»

والمهاجرون هم من المؤمنين، وكل المؤمنين يرجون رحمة الله، ومواضع هذا كثيرة. وبالجملة فالإيمان فى هذه النصوص، أما أنه الإيمان كله باطنه وظاهره، لكن يعطف عليه بعضه، ويقدم عليه بعضه، وهذا واضح الدلالة.

وأما أن يكون المقصود باطن الإيمان - أى الإيمان المذكور فى حديث جبريل. ويكون عطف الأعمال عليه، أو عطفه على أعمال هى أجزاء ظاهرة من الإيمان، ولا تصح بدون الإيمان الباطن ودلالة لا خفاء فيها أيضا وأقل المواضع دلالة على التركيب، هى التي يذكر فيه الإيمان مطلقا ومع ذلك لا يقتصر على لفظ الإيمان، بل له ألفاظ أخرى، كلفظ " البر " المذكور فى اية البقرة السابقة (ليس البر أن تولوا وجوهكم..)

ولفظ " الدين " ولفظ " التقوى " ولفظ " العبادة " ولفظ " الهدى " ولفظ " الطاعة " ولفظ " المعروف " ولفظ " الخير " ونحوها من الألفاظ العامة التي تدخل فيها شعب الإيمان جميعا (1) .

(1) وقد أفاض شيخ الإسلام فى ذكر هذه الألفاظ، وبيان دلالتها حال الإفراد وحال الأقتران، وكذلك ما يقابلها كالكفر والمعصية، والفسوق، والظلم، والضلال،

... الخ واستغرق ذلك ما يقارب الثلث الأول من كتاب الإيمان.

ص: 462

ونختم هذا المبحث بذكر موضع مهم من المواضع التي قرن فيها العمل بالإيمان، للدلالة على التركيب والتلازم، وهو قوله تعالى:«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا» (النساء:124)

ووجه الأهمية أن الله تعالى ذكر ذلك ضمن الرد على دعوى الإيمان بالتسمى والقول، دون إصلاح العمل، ورد على من يزعم هذه الدعوى سواء أكان كتابيا أم حنفيا، فقال قبلها:«لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا» (النساء:123)

وقال بعدها: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا» (النساء:125)

فبين ان الإيمان ليس بالتحلى ولا بالتمنى، بل ما وقر فى القلب وصدقه العمل، وأنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم: أى انقاد وأطاع بلا حرج ولا منازعة وهذه هى ملة إبراهيم، التي لا يقبل الله دينا غيرها مهما كثرت الأمانى والدعاوى.

خامسا: الأحاديث فى ذلك:

وردت أحاديث صحيحة كثيرة تدل على حقيقة الإيمان المركبة وقد سبق أن أوردنا منها ما يدل على أن العمل إيمان، والإيمان عمل وهذه أهمها.

1 -

حديث جبريل عليه السلام المشهور:

وهو حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر عن أبيه، وعن أبى هريرة، والأولى أتم، وهذه رواية مسلم:

قال عبد الله بن عمر - بعد مقدمة عن القدرية التي هى سبب الحديث -:

" حدثنى أبى عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد منا، حتى جلس إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبتيه، ووضع فخذيه.

ص: 463

وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:الإسلام ان تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.

قال: صدقت

قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.

قال: فأخبرنى عن الإيمان؟

قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.

قال: صدقت.

قال: فأخبرنى عن الإحسان؟

قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

قال: فاخبرنى عن الساعة؟

قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.

قال: أخبرنى عن أمارتها؟

قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان.

قال: ثم أنطلق فلبثت مليا، ثم قال لى يا عمر: أتدرى من السائل؟

قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: فإنه جبريل اتاكم يعلمكم دينكم (1)

وعند ابن منده من رواية على شرط مسلم (2)، أنه سأله بعد ذكر أركان الإسلام:"فإن فعلت هذا فأنا مسلم"

قال: نعم

(1) مسلم رقم 1، وأما البخارى فرواه عن أبى هريرة (1/1114)

(2)

كما نص الحافظ فى الفتح (1/119)

ص: 464

وبعد ذكر أركان الإيمان: فإن فعلت هذا فأنا مؤمن؟

قال: نعم (1)

وفى طريق أخر عنده: " لقد حدثنى عمر أن رجلا فى أخر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث "(2)

قال الحافظ: " أخر عمره، يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فإنها أخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه " يعنى جبريل عليه السلام " إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام، لتقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة فى مجلس واحد لتنضبط "(3)

وقال شيخ الإسلام ابن تيميه:

" أن جبريل لما سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، كان فى أخر الأمر بعد فرض الحج والحج إنما فرض سنه تسع أو عشر

" (4)

فهذا نص الحديث وزمانه الذى بمعرفته نعرف أمورا تأتى فى الشرح.

2 -

والحديث الثانى: هو حديث شعب الإيمان:

عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو: بضع وستون شعبة - فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (5)

وفى رواية: " والحياء شعبة من الإيمان "

3 -

والحديث الثالث:

عن ابن عباس رضى الله عنهما، أن وفد عبد القيس أتوا النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: " من الوفد؟ أو من القوم؟

قالوا: ربيعة.

فقال: مرحبا بالقوم - أو: بالوفد - غير خزايا ولا ندامى.

قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا فى شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة.

فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده؟

قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟

قالوا: الله ورسوله أعلم.

(1) الإيمان لابن منده (1/146)، ومعها روايات أخرى لفظها:" فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت " وهى موافقة لرواية النسائى، أنظر: جامع الأصول (8/101) .

(2)

المصدر السابق (1/114)

(3)

الفتح (1/119)

(4)

الإيمان، ص 228.

(5)

مسلم رقم (57) ، والبخارى (1/51) ، وهذا لفظ مسلم.

ص: 465

قال: شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم.

ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت.

قال شعبة: ربما قال: النقير، وربما قال: المقير (1)

قال: احفظوا واخبروه من وراءكم (2)

وهذه الأحاديث من اعظم الأحاديث فى الإيمان، وقد اكتفيت بها، لأنها تشير إلى ما سواها وأهمها وأشرفها وأخرها هو حديث جبريل (3) وتقدم القوم فى وقته.

أما حديث الشعب، فيحتمل أنه بعد نزول الفرائض واكتمال الشعب، ويحتمل أن يكون الله تعالى أطلعه على عددها، قبل أن ينزلها عليه كلها، والأول أقرب والله أعلم (4)

وأما حديث وفد عبد القيس فمتقدم، ولذلك لم يذكر فيه الحج وما ذكر فيه من كون مضر ما تزال على الكفر، يدل على ذلك.

ولكن أهميته ظاهرة فى أنه فسر الإيمان بالأركان الأربعة، فدل على أن الإيمان إذا انفرد عن الإسلام يشمل باطن الدين وظاهره أى مجموع ما ذكر فى حديث جبريل من أركان الإسلام وأركان الإيمان.

وكذلك حديث الشعب، فإن أركان الإسلام الخمسة داخله فى الشعب، بدليل أنه جعل كلمة الشهادة أفضل الشعب وأعلاها.

فالإيمان بهذا المفهوم العام - لا بمفهومه الخاص، الذى هو مرتبه من مراتب الدين، كما فى حديث جبريل - مرادف لكلمة الدين كما بينها أخر حديث جبريل.

وهذا الإيمان يشمل الظاهر والباطن معا، كما دلت هذه الأحاديث الثلاثة، فمضمونها يدل على أن الإيمان حقيقة مركبة من الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة معا، لا يصح تصور أحدهما بدون الآخر في تحقيق الإيمان.

(1) هذه أسماء أنيه يوضع فيه النبيذ.

(2)

البخارى واللفظ له (1/185) ومسلم رقم (23- 28) .

(3)

ولهذا أبتدأ شيخ الإسلام ابن تيميه كتابه بشرحه، أظنه تبع الإمام مسلما فى ذلك، حيث ابتدأ به كتاب الإيمان الذى هو أول كتابه.

(4)

لاسيما وان إسلام الراوى - أبى هريرة - متأخر.

ص: 466

ومن ترك العمل الظاهر فقد ترك ركن الإيمان ومن زعم أن الإيمان يتحقق لأحد بدون العمل الظاهر، وأنه ينجو بمجرد ما يسمونه التصديق القلبى، فضلاله بين.

وعلى هذا نص علماء الإسلام وشراح السنة لاسيما فى شرحهم لحديث جبريل، والذى سنورد طرفا من كلامهم فيه ودلاله ذلك على التركيب.

" قال إسماعيل بن سعيد: وسألت أحمد عمن - فى الذى قال جبريل للنبى محمد صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم - فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم أيضا؟ فقال أي الإمام -: هذا معاند للحديث "(1)

والإمام أحمد هو - فى أكثر الروايات عنه (2) وأوفقها لأصوله - ممن يرى أن تارك أحد الأركان الأربعة عدا الشهادتين متعمدا كافر.

فتكفيره لمن يأت بشيء من العمل الظاهر متيقن، وكذا تارك الأربعة جميعا ووجه استدلاله بهذه الرواية، أن حديث جبريل اشتمل على أركان العمل الظاهر " الإسلام " وأركان الاعتقاد الباطن " الإيمان "، وهو لتأخره قاض على كل ما سبق من أحاديث فيها إطلاق دخول الجنة بمجرد الشهادة، أو نقص فى عدد الأركان ونحو ذلك.

وقد صرح فيه بأنه إذا فعل الأركان الظاهرة فهو مسلم، وإذا فعل الأركان الباطنة فهو مؤمن، ومن هذين يتركب الدين وتتكون حقيقته.

ومعلوم أنه لو ترك أركان الإيمان كان كافرا اتفاقا، فكذا إذا ترك أركان الإسلام لا يكون مسلما، فمن قال: إنه مسلم مع ترك الأركان الأربعة، التي هى رأس العمل الظاهر، فقد عاند الحديث فى قوله:"فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: نعم".

وهذه الأعمال الظاهرة التي سماها إسلاما في حديث جبريل، سماها إيمانا في حديث الشعب، وحديث وفد عبد القيس، فدل هذا على ما هو معلوم بالضرورة، من أن ذكره فى حديث جبريل من الأعمال الظاهرة، ليس المقصود به عمله بلا إيمان باطن، وإلا فهذا حال المنافق، وكذا ما ذكره من الأعمال الباطنة، التي سماها إيمانا،

(1) عن الإيمان لشيخ الإسلام، ص 354، وأنظر: الخلال لوحة 100.

(2)

انظر المصدر السابق نفسه.

ص: 467

ليس المقصود منه أن لا عمل ظاهرا معها، بل هى درجة ومرتبة من الدين فوق مرتبة الإسلام، كما بين ذلك شراح الحديث قاطبة. (1)

يقول الإمام الخطابي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة " في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفى جمله أجزائه، كالصلاة الشرعية، لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها (2) .

وقال الإمام البغوي في شرح حديث جبريل:

" جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة، هي كلها شئ واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال "ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"، والتصديق والعمل يتناولها اسم الإيمان والإسلام جميعا، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى (إن الدين عند الله الإسلام) ، و (ورضيت لكم الإسلام دينا) ، و (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) ، فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل) (3) .

ويقول أبو طالب المكي في كلام نفيس له - على طوله - وننقل بعضه:

(مثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين، إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، وهما شيئان في الأعيان، وأحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا

(1) هاهنا تنبيه لابد منه، وهو أننا لم نقصد إيضاح مفهوم كل من لفظى الإسلام والإيمان، والعلاقة بينهما عند الاقتران، أو الانفراد حتى لا يشغلنا عن الأمر الأهم، وهو تركب الدين والإيمان منهما معا لاسيما فى حديث جبريل.

انظر: الفتح (1/114- 115) ، وكتاب الصلاة للمروزى، وقوت القلوب لأبى طالب المكى، وقد أطال النقل عنهما شيخ الإسلام فى الإيمان.

(2)

النووى على مسلم (1/145) .

(3)

شرح السنة (1/10) .

ص: 468

يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشتراط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشتراط الإيمان للأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك:

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ)(الأنبياء: 94)

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى)(طه: 75) .

فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة، ومن عنده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد

) .

قال: (ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسد، لا ينفك أحدهما، شيئان منفردان وهما في الحكم والمعنى منفصلان (1) .

ومثلهما أيضا مثل حبة لها ظاهر وباطن، وهى واحدة، ولا يقال حبتان لتفاوت صفتهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام (2) هو ظاهر الإيمان وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام، وهو من أعمال القلوب.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)(3) .

وفى لفظ (الإيمان سر) ، فالإسلام أعمال الإيمان، والإيمان عقود الإسلام.فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقد.

ومثل ذلك العمل الظاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح، ومثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنما الأعمال بالنيات " أي لا عمل إلا بعقد وقصد، لأن (إنما) تحقيق للشيء ونفى لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات.

فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصح الكلام إلا بهما لأن الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفى سقوط أحدهما بطلان الكلام،

(1) كذا والصواب متفقان.

(2)

كذا والصواب فالإسلام.

(3)

سبق تخريجه، وإنه حسن إن شاء الله، ويدل لصحة معناه حديث جبريل نفسه، وحديث (إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله..

) فصلاح القلب بالإيمان صلى الله عليه وصلاح الجسد بالإسلام الذى هو من الإيمان العام.

ص: 469

وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان، ولذلك حين عدد الله نعمه على الإنسان بالكلام، ذكر الشفتين مع اللسان في قول (ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين) بمعنى ألم نجعله ناظرا متكلما، فعبر عن الكلام باللسان والشفتين، لأنهما مكان له، وذكر الشفتين، لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما.

ومثل الإيمان والإسلام أيضا، كفسطاط قائم على الأرض، له ظاهر وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهى الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان، لا قوام للفسطاط إلا به، فقد احتاج الفسطاط إليها، إذ لا قوام له ولا قوة إلا بها، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح، لا قوم لها إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب، ولا نفع له إلا بالإسلام وهو صالح الأعمال.

وقال "وعلى مثل هذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام من صنف واحد (1) ، فقال في حديث ابن عمر: "بنى الإسلام على خمس (2) "، وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس: إنهم سألوا عن الإيمان، فذكر هذه الأوصاف، فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه) .

قال: فأما تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بين الإيمان والإسلام، فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها أن تكون عقودا، من (3) تفصيل أعمال الجوارح، مما يوجب الأفعال الظاهرة التي وصفها علانية، لا أن ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد، إذ ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم.

قال: (ويجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن (4) فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف جسمه) .

(1) أي أخبر عنهما بأمر واحد وحكم واحد.

(2)

هو حديث مشهور متفق عليه: البخاري (1/49) ، ومسلم رقم (19) ، وسيأتي ضمن كلام شيخ الإسلام شرح له.

(3)

حرف الجر هذا متعلق بتفصيل، بمعنى تفريق هذه عن هذه، والعبارة فيها ضعف تأليف.

(4)

الذي يجتمع والإسلام بإطلاق هو الإيمان العام، الذي بمعنى الدين، لا إيمان الدرجة أو المرتبة المذكور في حديث جبريل.

ص: 470

قال: (وأيضا فإن الأمة مجمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب في حديث جبريل من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام، أنه لا يسمى مؤمنا، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام، ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان، أنه لا يكون مسلما وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة)(1) .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث جبريل أيضا - بعد أن ذكر اشتماله على مراتب الدين الثلاث:

(والنبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام والإيمان بما أجاب به، كما يجيب عن المحدود بالحد إذا قيل: ما كذا؟ قال: كذا وكذا، كما في الحديث الصحيح لما قيل: ما الغيبة؟ قال: (ذكرك أخاك بما يكره) وفى الحديث الآخر: "الكبر: بطر الحق وغمط الناس

".

ثم بين أن أجوبته صلى الله عليه وسلم كلها حق وإن تنوعت، وقال ولكن المقصود أن قوله " بني الإسلام على خمس " كقوله "الإسلام هو الخمس (2) ، كما ذكر في حديث جبريل، فإن الأمر مركب من أجزاء تكون الهيئة الاجتماعية فيه مبنية على تلك الأجزاء، مركبة منها، فالإسلام مبني على هذه الأركان.

وسنبين إن شاء الله اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني الإسلام، ولم خصت بذلك دون غيرها من الواجبات (3) .

وقد فسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام هنا ولكنه لم يذكر فيه الحج) (4) .

وإذا تلمسنا الحكمة من مجيء جبريل عليه السلام وتعليمه للمسلمين مراتب دينهم في مجلس واحد في آخر عمره صلى الله عليه وسلم، فإننا نجد أن هذا التعليم لم يكن إعلاما بأمر مبتدأ جديد ولا بسبب خفاء معنى الإسلام والإيمان عندهم، بل ليتبينوا حقيقة

(1) نقلا عن الإيمان لشيخ الإسلام، ص316 - 319 وبعضه في الإحياء، وصحح الزبيدي كثيرا من أخطاء الغزالي فيه، وكأنه يكتبه من حفظه أو يرويه بالمعنى.،

تنبيه: المقصود بالإجماع هنا إجماع أهل السنة من لدن الصحابة إلى عصره، انظر: ص319 تعليق شيخ الإسلام.

(2)

يعنى في حديث ابن عمر المتفق عليه.

(3)

وقد بين ذلك في ص297، وهى ص314 من ج 7 من مجموع الفتاوى.

(4)

الإيمان.

ص: 471

المراتب الكاملة بعد نزول الأحكام واكتمال الدين، ومن ثم بنى السلف على ذلك نفى الإسلام والإيمان عمن لم يأت بهذه الأركان أو بعضها.

وهذا ما فصله رحمه الله قائلا (وإنما سأل جبريل صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهم يسمعون وقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم" ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها.

وهذا كما في الحديث الصحيح أنه قال: "ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافا" فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج وكان ذلك مشهورا عندهم فيمن يظهر حاجته بالسؤال، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه تزول مسكنته بعطاء الناس له والسؤال له بمنزلة كفايته - لم يبق مسكينا، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يعرف فيعطى، فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء فإنه مسكين قطعا، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله.

وكذلك قوله الإسلام هو الخمس يريد أن هذه كلها واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل (1) ، ولهذا وصف الإسلام بهذا.

وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب - فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور.

ثم ذكر الروايات عن أحمد في ذلك وقال (قال الحكم بن عتيبة: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر.

(1) هو مفصل نسبيا وإلا فحديث جبريل هو في حقيقته مجمل، والمفصل: الإيمان بتفصيل صفات الله تعالى، ومعرفة الأنبياء والإيمان بهم تفصيلا، وكذلك الكتب والرسل، واليوم الآخر، والقدر، ولكن الشيخ يقصد بالمجمل مجرد الإيمان بالله أو بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فى رسالته واتباعه جملة.

ص: 472

وقال سعيد بن جبير: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر بالله، لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة.

وقال عبد الله بن مسعود: من أقام الصلاة ولم يأت بالزكاة فلا صلاة له، رواها أسد بن موسى (1) .

وقال عبد الله بن عمرو: من شرب الخمر ممسيا أصبح مشركا، ومن شربها مصبحا أمسى مشركا، فقيل لإبراهيم النخعي، كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة.

قال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان (2) . وبهذا يتبين من الأحاديث وما شرحها به الأئمة أن الإيمان الذي هو قول وعمل هيئة جامعة لأمور، أو حقيقة مركبة من أمور هي الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة معا، ولكل منهما أركان ترجع إلى أصل واحد.

فالأعمال الباطنة هي " الإيمان " - الذي يشمل قول القلب وعمله - وقد سميت أصول الأجزاء الباطنة من الدين أركانا، وهذه الأركان ترجع إلى أصل واحد هو الإيمان بالله، فما جاء في القرآن والسنة من ذكر الإيمان بالله فهو هذا الأصل الذي يشمل الأركان الأخرى كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والأركان تتفرع عنها سائر تفصيلات الاعتقاد (3) .

والأعمال الظاهرة هي الإسلام الذي يشمل قول اللسان وعمل الجوارح، وأصول الأجزاء الظاهرة من الإيمان هي أركان الإسلام الخمسة، وهذه الأركان ترجع في الأصل إلى ركن واحد هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباقي حقوق لها وفروع منها. فكل ما ورد من نصوص في أحكام المسلمين أو أصحاب التوحيد أو أهل القبلة، وما أطلق من تعليق النجاة في الدنيا والآخرة على الإقرار بالشهادتين - فالمقصود به هو هذا، أي من شهد بها قائما بحقوقها فهو المسلم الموحد الذي يعد من أهل

(1) هو أسد السنة، ثقة، أول من صنف المسند كما قيل، عاش بين عامى 132 - 212. انظر: سير أعلام النبلاء (10/162) .

(2)

الإيمان: 286 - 288. وهو فى (7/ 302، 303) من مجموع الفتاوى.

(3)

وهذا حال اقترانه بالإسلام فإذا انفرد عنه شمله وتضمنه.

ص: 473

القبلة وتجرى عليه أحكامهم وحقوقهم في الدنيا والآخرة، فحديث جبريل قاض على ما سبقه بما فيه من زيادة أركان أو تفصيل إجمال.

ومن تبين نصوص الشرع وواقع النفوس تبين له (أن كل قول وعمل لابد له من ظاهر وباطن، فظاهر القول لفظ اللسان، وباطنه ما يقوم من حقائق الإيمان بالجنان، وظاهر العمل حركات الأبدان، وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان (1) .

وقد سبق تفصيل ذلك في حقيقة النفس الإنسانية، ومنه نعلم أن "الظاهر لابد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادعى باطنا يخالف ظاهرا فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، فكما أن الإنسان لابد له من روح وبدن وهما متفقان فلابد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه"(2) .

فشهادة أن لا إله إلا الله كلمة ظاهرة باللسان وباطنها الإيمان بالله والإيمان بالله اعتقادا باطن بالقلب، وظاهره شهادة أن إله إلا الله، فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر في تحقيق الإيمان أبدا، ثم عنهما تتفرع الأركان ومنها تتشعب الشعب كما سبق.

فأبعد الناس عن معرفة دين الإسلام وحقائقه من قال: إن الإيمان يتم والنجاة تحصل بدون شهادة أن لا إله إلا الله، فضلا عن ترك سائر الأركان، وإن هذه الشهادة ما هي إلا علامة على الإيمان، وإن تركها مجرد علامة ظاهرة على عدم الإيمان من جهة إجراء الأحكام الدنيوية، وإلا فقد يكون الإيمان حاصلا في القلب في الواقع ونفس الأمر.

فجعلوا أعظم أركان الإسلام - التي هي الجزء الظاهر من الإيمان بالله - بمنزلة شهادة الشهود أو القرائن الظاهرة التي قد يكون الواقع مخالفا لها، حتى إنهم قالوا: إن من سب الله أو قتل الرسول يجوز أن يكون مؤمنا في الباطن ولا يكون

(1) مجموع الفتاوى (13/262) .

(2)

المصدر السابق (13/268)، ويلاحظ أنه يرد على الصوفية الذين يظهرون أعمال الكفر كترك الفرائض وإطلاق الشطحات الكفرية ويقولون: إن باطنهم معمور بالإيمان.

ص: 474

كافرا قط إلا إذا انتفى العلم الباطني من قلبه.

فإذا قيل لهم: قد جاء الكتاب والسنة بتكفير من كان لديه علم وتصديق باطن بدون انقياد بالقلب وإقرار باللسان، قالوا: من ورد فيه النص علمنا انتفاء الإيمان عنه بالنص لا بالنظر والفهم، وما سوى ذلك لا نجزم بكفره وإن أقمنا عليه أحكامه الظاهرة.

وهذا الخطأ العظيم كان سببا لما أحدثه المرجئة المعاصرون من أصول أكثر ضلالا وخطأ في بعض الوجوه من متقدميهم، ولا سيما في مسألة التكفير التي ضل فيها أكثر الدعاة بين طرفي الإفراط والتفريط، وكان خوارج عصرنا رد فعل لمرجئتهم، فقد تولد التكفير الغالي في أحضان المرجئة الغالية، عكس ما حصل في القرن الأول من تولد الإرجاء في أحضان الخروج. ولو أن علاقة الظاهر بالباطن وحقيقة كل منهما بالآخر كانت واضحة لدى هؤلاء، لسلموا من هذا التخبط الشديد.

فكما أن المرجئة القدامى تصوروا وجود الإيمان في قلب من عاش دهره كله لم يسجد لله سجدة، ولا صام له يوما، ولا أدى من زكاة ماله درهما، ولا عقد النية على حج بيته، بل ربما كان معلنا بسب الله ورسوله مهينا للمصحف عمدا، حتى لو قتلناه على شئ من ذلك قالوا، إن كان مقرا في نفسه فإنه يموت مسلما عاصيا وإذا امتنع عن التوبة يقتل حدا لا كفرا!!

كما تصوروا ذلك جاء المرجئة المعاصرون فقالوا: إن من كان لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يقيم من شريعة الله إلا جزءا قد يقل أو يكثر، لا يقيمه لأنه من أمر الله وامتثالا له وإيمانا بدينه، بل لأنه موافق للهوى والمصلحة الذاتية، ومقر ممن يملك حق الإقرار والتشريع سواء كان شخص الزعيم أو الحزب أو المجلس التشريعي، فإنه لا يكفر إلا إذا علمنا أنه في قلبه يفضل شرائع البشر على شريعة أحكم الحاكمين، وما لم نطلع على ذلك فكل أعماله هي على سبيل المعصية، حتى وهو يصدر القوانين تلو القوانين ويترصد للمطالبين بتطبيق الشريعة ويلاحقهم بصنوف الأذى، ويظهر الموالاة الصريحة للكفار، ويلغي ما شرعه الله من الفروق الجلية بين المؤمنين والكفار من الرعية، ويرخص بإقامة أحزاب لا دينية - كل ذلك معاص لا تخرجه من الإسلام ما لم نطلع على ما في قلبه فنعلم أنه يفضل شرعا غير

ص: 475

شرع الله وحكمه على شرع الله وحكمه، أو يصرح بلسانه أنه يقصد الكفر ويعتقده، وأنه مستحل للحكم بغير ما أنزل الله!!

فمرجئة عصرنا أكثر غلوا من جهة أنهم لم يحكموا له بشيء من أحكام الكفر لا ظاهرا ولا باطنا، وأولئك لم يخالفوا في إجراء الأحكام الظاهرة عليه، لكن جوزوا إيمانه باطنا فقالوا: لو قتلناه لأنه سب الله ورسوله فهذا السب دليل على كفره، وهو يوجب علينا تكفيره وقتله في أحكام الدنيا لكن إن كان في قلبه مقرا بصدق الرسول فهو مؤمن ناج عند الله، أما هؤلاء فيحكمون بإيمان من ذكرنا مثاله ظاهرا وباطنا ولا يرونه مستوجبا لحد فضلا عن تكفيره، بل يصرحون له بالموالاة والتأييد!!

وهذا من أعظم المصائب التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية في عصرنا، ومن أشدها مدعاة لإيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة وبيانها للعامة والشباب (1) لاسيما معرفة حقيقة الإيمان المركبة من الاعتقاد والامتثال، وتطبيق لوازم ذلك ومقتضياته على الواقع، وهي الحقيقة التي نرجو أن نكون قد أوضحنا الأدلة عليها فيما سبق.

وقد أوجزها العلامة ابن القيم في كلمات ميسرة فقال: "الإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما، والتصديق به عقدا، والإقرار به نطقا، والانقياد له محبة وخضوعا، والعمل به باطنا وظاهرا وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب لله والعطاء لله والمنع لله (2) .

وإذ قد بينا حقيقة الإيمان المركبة من جهة دلالة النصوص، فقد بقى أن نكمل ذلك فنبين صحة ذلك وصوابه من جهة البراهين النظرية الواضحة مناقشين لشبه المخالفين فيها، وهذا على قسمين:

الأول: بيان فساد مذهب المعتزلة والخوارج والمرجئة بالتفريق بين الحقيقة الواحدة المشتركة التي أدعوها، وبين الحقيقة المركبة التي أوضحناها، وحكم المعصية عند كل بحسب.

الثاني: بيان مأخذ السلف البرهاني في قولهم بأن تارك العمل مطلقا لا إيمان له.

(1) على أن مما يبشر بالخير أن عقيدة أهل السنة فى الإيمان بدأت تنتشر لدى الشباب والأتباع، ونسأل الله أن يهدى القادة والزعماء.

(2)

الفوائد، ص107.

ص: 476

وبيان الأول أن نقول: إن حقيقة الإيمان المركبة بالتقريب والتمثيل النظري كبناء أساسه شهادة أن لا إله إلا الله، ثم له أركان هي المباني الأربعة ثم تتفرع منه أجزاء أقلها إماطة الأذى عن الطريق، هذا من جهة الشمول.

وهو من جهة قوة التراكيب مثل الملح المركب من الكلور والصوديوم بحيث لو انتفى أحدهما انتفت حقيقته.

وأفضل من ذلك أن نشبهه بالشجرة التي لها جذور وجذع وأغصان وورق أخذا من قوله تعالى (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء)(إبراهيم: 24) .

وهو من جهة عدد أجزائه بضع وسبعون كما في الحديث، هذا عند أهل السنة والجماعة.

وأما المعتزلة والخوارج من جهة والمرجئة من جهة أخرى، فقد اتفق جميعهم على أن الإيمان حقيقة واحدة مشتركة بين جميع المؤمنين في جميع الأعصار والأحوال، أي هو ماهية معينة إما أن توجد وإما أن تفقد فلا أبعاض له بحيث يذهب بعضه ويبقى بعضه، وهذا ما سبق إيضاحه فيما مضى من مباحث.

وعلى هذا قالوا: إن الإيمان لا يكون حقيقة مركبة من أمور أو هيئة جامعة لأمور، لأن زوال جزء من أجزاء الحقيقة المركبة أو الهيئة الجامعة يلزم منه زوال الاسم وانتفاء الماهية، وضربوا لذلك مثالا بالعدد عشرة فقالوا: إن العشرة تتركب من آحاد يكون مجموعها عشرة فإذا نقص منها واحدا انتفى اسم العشرة، وهاهنا تظهر ثمرة الخلاف - أي في صاحب الكبيرة وتارك الواجب أو النفل - بين هاتين وبين أهل السنة.

فقالت الخوارج والمعتزلة: يلزمكم على هذا أن تنفوا الإيمان عمن ترك واجبا بل نفلا لأن الإيمان عندكم يشمل هذا كله ويلزمكم أن تحكموا بكفره (كما تقول الخوارج) ، أو تجعلوه في منزلة بين المنزلتين (كما تقول المعتزلة) .

وقالت المرجئة: بل العكس هو الصواب، فلما كنتم لا تنفون الإيمان عن صاحب الكبيرة لزمكم ألا تقولوا إن الإيمان حقيقة مركبة، لأن الحقيقة المركبة يلزم

ص: 477

من زوال بعض أجزائها زوال الاسم، ونحن وأنتم متفقون على إثبات اسم الإيمان لصاحب الكبيرة، فلا يكون العمل من الإيمان إذن ولا وجود للحقيقة المركبة، بل الإيمان هو القدر المشترك، أي التصديق القلبي فقط.

والجواب عن ذلك:

أن قولنا: إن الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل الظاهر والباطن يتفق - ولله الحمد - مع النصوص، ومع الأمثلة العقلية كذلك في حكم العاصي وسائر الأحكام، وهذه الشبهة نقلبها عليكم، فنقول للمعتزلة والخوارج: أنتم جعلتم مرتكب الكبيرة خارجا عن اسم الإيمان مطلقا، فعلى مثالكم يكون من أنقص من العشرة واحدا مثل من لم يأت بشيء منها مطلقا فجعلتم التسعة والصفر سواء، وهذا ما تأباه البدائه والعقول.

ونحن نقول: إن الإيمان أبعاض فمن أتى بتسعة أو ثمانية أو أقل فهو ناقص الإيمان ولا نزيل عنه اسم الإيمان مطلقا بسبب ذلك، ولكننا نزيل عنه - كما ورد في النصوص - اسم الإيمان المطلق أي غير المقيد بقيد، فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان كما نقول في هذا المثال: هو لديه عشرة إلا واحدا، وهذا الاستثناء صحيح لغة وشرعا، قال الله تعالى (ألف سنة إلا خمسين عاما") (العنكبوت: 14) أي تسعمائة وخمسون.

ونقول للمرجئة: أنتم قد جعلتم من جاء بواحد كمن جاء بالعشرة، حيث قلتم: إن العاصي كامل الإيمان، على أن التشبيه بالعشرة ليس من كل وجه إذ يفرقه أمران:

أ- أن الرقم عشرة مجردا تتساوى فيه أفراد العشرة، أما الإيمان فالأول من أفراده وهو شهادة أن لا إله إلا الله، يختلف جدا عن الأخير منها وهو إماطة الأذى عن الطريق، فبزوال الأول يزول اسم الإيمان ولا يزول بالأخير، فتبين أن المثال تقريبي فقط.

ب- أن المركبات تختلف، فمنها ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم كالملح وكالإيمان بالنسبة لتركبه من القول والعمل معا، ومنها ما لا يكون شرطا وهو أكثر المركبات والهيئات المجتمعة سواء الشرعي منها واللغوي، فالأول كالطاعة والعبادة والخير والصدقة والإحسان والقرآن والحديث ونحو ذلك، فإن

ص: 478

هذه الأسماء تطلق على القليل، وعند وجود البعض وزوال البعض، فالقرآن كله قرآن والسورة منه قرآن، وكذلك مجموع الطاعات إيمان وكل طاعة منه إيمان، ولا يلزم من انتفاء بعض الأجزاء زوال الاسم.

واللغوي: مثل البحر والكلام والتراب والجبل والقرية ونحو هذا، فإن الاسم يطلق على البحر كله وعلى الطرف منه والجزء من مائه، ولا يلزم من ذهاب بعضه ألا يطلق الاسم على الباقي.

فالإيمان بالنسبة لتركبه من مجموع الطاعات هو كهذا والمثال الأوضح - كما سبق - هو مثال الشجرة:

فعلى مذهب المعتزلة والخوارج يكون قطع غصن من الشجرة إزالة لها ولاسمها بالكلية، وهذا واضح البطلان بالعقل والبديهة.

وعلى مذهب المرجئة يكون استئصال الجزء الظاهر من الشجرة كله حتى لا يرى منه شئ لا يذهب اسم الشجرة وحقيقتها، لاحتمال أن يكون الجذر موجودا، والاسم عندهم إنما يطلق على الجذر وحده - أعني قولهم: إن اسم الإيمان إنما يطلق على التصديق القلبي وحده.

وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق في المنقول والمعقول معا، فإن الشجرة يبقى اسمها شجرة لكن يختلف الإطلاق، فالشجرة يعتريها النقص والقطع، فإذا أريد الشجرة الكاملة الممدوحة - قيل: هذه ليست كذلك بل هي ناقصة مع عدم زوال اسم الشجرة عنها، وإن أريد مطلق شجرة فهي شجرة فعلا، ونعني بذلك أن الإيمان المطلق لا يقال للعاصي - وأما مطلق الإيمان - فيقال له ولا ينفى عنه (1) .

وقول المرجئة: إن من أتى بالمكفرات الظاهرة يمكن أن يكون مؤمنا في الباطن، هو كما لو رأى إنسان صخرة ثابتة في الأرض فقيل له: يمكن ان يكون أصلها الذي في الأرض جذر شجرة، وهذا ما لا يصدقه عاقل قط!!

وبهذا يظهر فساد شبهة المرجئة وأنهم يعارضون النقل الصحيح والعقل الصريح بما لا حجة فيه، حتى إن إمام الأشعرية في عصره وأحد كبارهم بإطلاق "الفخر الرازي" صعب عليه التوفيق بين ما نقله واعتقده إمامه الشافعي من إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وبين شبهتهم هذه عن الحقيقة المركبة، فقال وهو

(1) انظر عن الحقيقة المركبة مجموع الفتاوى (7/ 511- 520) وأكثر.

ص: 479

يتحدث في مناقب الإمام الشافعي " قد نقلنا عن الشافعي رضى الله أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقال المتكلمون: الإيمان ليس إلا التصديق بالقلب واحتجوا عليه بوجوه".

وذكر كلامهم المعروف بالاستدلال باللغة وشبهة العطف ثم قال: "واعلم أن قول الشافعي رضى الله عنه لا يمكن جعله من المعايب، فإن الذي ذهب إليه مذهب قوى في الاستدلال والاحتجاج، إلا أن الذي اختاره علماء الأصول من أصحابنا هو هذا القول الثاني.

واعلم أن القوم قد يقررون العيب من وجه آخر فيقولون: قد تقرر في بداية العقول أن مسمى الشيء إذا كان مجموع أشياء فعند فوات تلك الأشياء لابد أن يفوت المسمى، فلو كان العمل جزء مسمى الإيمان لكان عند فوات العمل وجب ألا يبقى الإيمان، لكن الشافعي رضى الله عنه يقول: العمل داخل في مسمى الإيمان، ثم يقول: الإيمان باق مع فوات العمل، فكان هذا مناقضة.. "

إلى أن يقول: " وللشافعي أن يجيب فيقول: أصلا الإيمان هو الإقرار والاعتقاد، فأما الأعمال فإنها من ثمرات الإيمان وتوابعه، وتوابع الشيء قد يطلق عليها اسم الأصل على سبيل المجاز، وإن كان يبقى الاسم مع فوات تلك التوابع، كما أن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة، مع أن اسم الشجرة باق بعد فناء الأغصان فكذلك هاهنا.

واعلم أن على هذا التقدير يكون اسم الإيمان حقيقة في الإقرار والاعتقاد، ويكون إطلاق اسم الإيمان على الأعمال ليس إلا على سبيل المجاز ولكن فيه ترك لذلك المذهب " (1) .

فانظر كيف استشكل القضية، ثم أورد الشبهة، ثم أجاب بما يراه الصواب، ثم أقر بأن الجواب يلزم منه ترك مذهب إمامه الذي هو مذهب السلف قاطبة، ولو أنه تأمل مثاله الذي ذكره "الشجرة"، لذهب عنه الاضطراب.

(1)"مناقب الشافعى" الفخر الرازى، ص52 طبعة 1279 هـ. وأشار إليها فى مجموع الفتاوى (7/511) لأن الخطيب المذكور فيها هو الرازى، كان أبوه خطيب الرى، وكان يقال له: ابن الخطيب، وأشار إليها فى الإيمان، ص386: كما أن الرازى ذكرها فى أصول الدين، ص127.

ص: 480

فإن قوله: "إن أغصان الشجرة قد يقال إنها من الشجرة" ظاهر الخطأ من جهة الاحتمال، إذ لا احتمال فيه، بل هي منها على الحقيقة في اللغة والعقل وكلام الشارع كما في الآية السابقة.

ويقال له: كيف يصح أن يكون إطلاق الشجرة على الجذع هو الحقيقة، وإطلاقه على الأغصان مجازا، والاسم يطلق على الكل بلا تفريق؟! فهذا التكلف سببه انقداح الشبهة وعزل الأدلة اليقينية من النقل والعقل، وبذلك يظهر صدق مذهب أهل السنة وصحته، وسقوط شبهات المخالفين في مفهوم الحقيقة المركبة.

وبعدها نبين الأمر الثاني وهو:

والثاني: مأخذ السلف في نفي الإيمان عن تارك جنس العمل من جهة النظر والواقع:

ذكرنا فيما مضى نقولا كثيرة عن السلف في أن ترك العمل مناف للإيمان ونكمل هنا بذكر نقلين مهمين عن إمامين عظيمين من أئمة أهل السنة والجماعة: هما الإمام أحمد، وشيخه سفيان بن عيينة، رضى الله عنهما:

1-

أما سفيان بن عيينة فقد روى عن الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد قال: حدثنا سويد بن سعيد الهروي (1) قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا" بقلبه على ترك الفرائض (2) ، (وجعلوه)(3) ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليسا سواء، لأن ركوب المحارم عن غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر.

وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود.

(1) هو تلميذ لسفيان روى مسلم عنه عن سفيان.

(2)

هذا هو المناط الحقيقى لتكفيره لنفس الأمر الشرعى وجحود وجوبه عليه، وهذا الإصرار يعرف يقينا إذا عرضناه على السيف فأبى أن يؤديها، كما سيوضح ذلك شيخ الإسلام عما قليل، وقد أوضحنا ذلك من قبل.

(3)

زيادة يقتضيها الكلام.

ص: 481

أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه، فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من (1) الخالدين، فسمي عاصيا من غير كفر.

وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها (2) متعمدا، فسمي كافرا".

وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول، كما يعرفون أبناءهم، وأقروا باللسان (3) ولم يتبعوا شرائعه، فسماهم كفارا.

فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، وتركها (4) على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود (5) .

فهذا الكلام الموجز الواضح هو تفصيل لأنواع من الكفر وبيان لمناط تكفير تارك الفرائض.

2-

وأما الإمام أحمد فقد روى عنه الخلال رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني جوابا" لسؤاله عن المرجئة، وفى آخرها يرد عليهم قائلا: إن من يقول: إن الإيمان هو مجرد الإقرار "يلزمه أن يقول هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد (أو يحد) في كل مائتين خمسة - أنه مؤمن.

ويلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه، وصلى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، وعمل عمل أهل الكتاب كله، إلا أنه في ذلك يقر بالله، فيلزمه أن يكون عنده مؤمنا، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم" (6) .

(1) هذا التعليل مهم ومراده أن آدم لم يعترض على أمر الله ويرفض الالتزام به، ولكنه انساق وراء الشهوة التي أغراه إبليس بها ونسى ما عهد به ربه إليه، وهذا حال عصاه المؤمنين.

(2)

هذا مما يبين معنى الجحود فى كلام السلف، فليس المراد به إنكار نفس الأمر وإنكار أن الله شرعه وأوجبه - وهو المعنى الذى حصره فيه متأخرو الفقهاء، فإن إبليس لم يفعل ذلك قط، وقل من يفعله من الملحدين والمرتدين، أى من يقول: إن الله لم يوجب الزكاة أو الصلاة مثلا، وإنما المراد به عدم الانقياد والاستسلام لأمر الله بالاعتراض على أمره وإباء امتثاله والاستكبار عليه، وهذا ما وقع من إبليس بنص القرآن.

أما جحود الوجوب أو التحريم فهو ما أشار إليه سفيان بقوله (من غير استحلال) فهما كفران: كفر الاستحلال، وكفر الإباء والاعتراض، وقد يجتمعان وتلازمان، لكن من جهة الاستعمال يطلق الاستحلال غالبا على استباحة المحرمات، والإباء والاستكبار على ترك الواجبات.

(3)

كما سبق فى قصة الحبرين التي أوردناها فى موضوع علاقة قول لا إله إلا الله بعمل القلب وغيره.

(4)

فى الأصل: وتركهم.

(5)

كفر إبليس هو كفر إباء واستكبار كما أسلفنا من جنس من يقول: لن أصلى ولن أزكى، وكفر اليهود كفر حسد وبغى كما فى مواضع من القرآن، فهو من جنس من يقول: إن كان فلان هو الذى يبلغنى أمر الله فلن أطيعه، فإبليس اعترض على الشارع فى نفس أمره، واليهود اعترضوا عليه فى اختيار من يبلغ الأمر، كما قال الحبران - فى القصة المتقدمة: لو كنت من نسل داود لاتبعناك.

(6)

الخلال، لوحة 109.

ص: 482

فهذا إلزام قوي يعرف به حكم تارك الالتزام بالطاعات، وهو إبطال لمذهب من يقول: إن انتفاء الإيمان الظاهر لا يكون معه عدم الإيمان إلا بانتفاء الإيمان الباطن، فجعلوا ترك جزء الحقيقة الباطن شرطا في انتفاء الحقيقة بترك الجزء الظاهر، مع أن التركيب ينتفي - وتنتفي الحقيقة بانتفائه - إذا ذهب أحد الركنين سواء أكان هذا أم ذاك.

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية المأخذ الواقعي والنظري لأئمة السلف في تكفير تارك الالتزام المصر بقلبه على ألا يعمل الفرائض، وإن كان مقرا" بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في قرارة نفسه أو مدعيا الإقرار بها بلسانه، وأن من خالف ذلك من الفقهاء فقد دخلت عليه شبهة الإرجاء شعر أم لم يشعر، فقال - مكررا ذلك بمعناه في مواضع أخرى كثيرة.

"إنه لا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه مقرا" بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزما لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطل قط، لا يكون إلا كافرا، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، أو نحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب (1) فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول.

فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه (2) ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية

" (3) .

وقال في أول كلامه: من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدى زكاة ولا يحج إلى بيته، فهو ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة" (4) .

(1) كمن ينحى شريعة الله ويلزم الناس بغيرها ويقول: أنا مؤمن بأنها أفضل الشرائع وأعدلها.

(2)

أى حدا" لا كفرا".

(3)

مجموع الفتاوى (7/616) .

(4)

مجموع الفتاوى (7/611) .

ص: 483

واحترز في آخر كلامه ممن قد يعمل أعمال الإيمان لكن بغير قصد التعبد والإيمان فقال: "قد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات، (إلا أن يؤديها)(1) لا لأجل أن الله أوجبها مثل أن يؤدى الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها أمة محمد صلى الله عليه وسلم

" (2) .

وقد فصل هذا القول في الإيمان كما فصله ابن القيم "في الصلاة" ونحن ننقل كلامه في الإيمان الذي قاله تعقيبا على ما قاله علماء السلف كعطاء ونافع والحميدي والشافعي وأحمد من تكفير تارك جنس العمل - قال "وإنما قال الأئمة بكفر هذا، لأن هذا فرض ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مم أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة ونكاح الأمهات وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه

" (3) . ولهذا فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مقرا بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع واستتيب ثلاثا مع تهديده بالقتل، فلم يصل حتى قتل - هل يموت كافرا" أو فاسقا"؟ على قولين.

وهذا الفرض باطل فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن الله فرضها عليه وأنه يعاقبه على تركها، ويصبر على القتل ولا يسجد لله سجدة من غير عذر له في ذلك، هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يضرب أحد ممن يقر بوجوب الصلاة إلا صلى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك أن القتل ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك فيصبر عليه

(1) زيادة يقتضيها الكلام.

(2)

المصدر السابق نفسه، ص621.

(3)

هنا عرج على مذهب الحنفية وتوسعهم فى التكفير بالألفاظ مع قولهم: إن العمل لا يدخل فى الإيمان.

ص: 484

حتى يقتل، وسواء كان الدين حقا أو باطلا، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطنا وظاهرا، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط.

ونظير هذا: لو قيل: إن رجلا من أهل السنة قيل له: ترض عن أبي بكر وعمر فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقده فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما، فهذا لا يقع قط.

وكذلك لو قيل: إن رجلا يشهد أن محمدا رسول الله باطنا وظاهرا،وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل؛ فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمدا رسول الله.

ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف الأولين والآخرين، إلا الجهمية - جهما ومن وافقه -، فإنه إذا قدر أنه معذور لكونه أخرس، أو لكونه خائفا من قوم إن أظهر الإسلام آذوه، ونحو ذلك، فهذا يمكن ألا يتكلم مع إيمان في قلبه كالمكره على كلمة الكفر، قال الله تعالى:

(إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا" فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)(النحل: 106) .

وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم فإنه (1) جعل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " (2) .

ولما رأى المرجئة أن النصوص الشرعية، والآثار السلفية الواردة في تفكير من ترك العمل، أو عمل الكفر غير متسقة فيما ذهبوا إليه من الحكم بإيمان تارك العمل، ونفي وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقا"، وليس لديهم حيلة أو جواب عنها قالوا: إنها واردة فيمن يستحل ذلك، أو كان جاحدا" للوجوب، وهذا تأويل منقوض بفهم السلف الصالح للنصوص كما سبق عن الإمام أحمد والأوزاعي - رحمهم الله تعالى - وغيرهم، وحصر الكفر في الاستحلال فهم ناقص، ومجانب للصواب، ومخالف لأصول أهل السنة والجماعة من عدة أمور:

(1) أى الله تعالى.

(2)

الإيمان، ص206- 208. وهو فى مجموع الفتاوى (7/218- 220) .

ص: 485

أولا: أن الكفر يكون:

أ- بالاعتقاد في القلب كمن اعتقد أن لله ندا" أو شريكا" أو مثيلا" أو إنه لا يعلم كل شئ أو لا يقدر على كل شئ، أو أن الساعة غير آتية وأن الله لا يبعث من في القبور، أو اعتقاد أن القرآن اشتمل على باطل أو أن شيئا" مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم غير حق أو أن شريعة الإسلام لا تصلح لهذا العصر، أو أن الأولياء يتصرفون في الكون أو يستجيبون لمن دعاهم واستغاث بهم.

ومن ذلك النفاق الأكبر بكل ألوانه وصوره، وهو باب واسع.

ب- ويكون بالقول باللسان كمن سب الله ورسوله ومدح الأصنام وهجا الأنبياء واستهزأ بالدين ودعا إلى الكفر والردة وسخر من بعض أحكام الشرع وصنف في ذلك أو قاله بأي وسيلة.

ج- ويكون بالعمل الظاهر كمن يقاتل الأنبياء ويعذب أتباعهم ويهدم المساجد ويحرق المصاحف ويذبح لغير الله ويسجد للأصنام ويتعلم السحر أو يعلمه ويقاتل المؤمنين مع الكافرين أو ينصرهم بالمال والسلاح على المؤمنين، ويكرم المرتدين ويعظمهم ويهين المؤمنين ويحتقرهم ويتحاكم إلى الطاغوت ويذهب إلى الكاهن ويصدقه ونحو ذلك (1) ، وعلى هذا تدل نصوص قطعية من الكتاب والسنة وعليه إجماع المسلمين قبل ظهور البدع وتبعهم كبار فقهاء الملة في أبواب حكم المرتدين من كتبهم (2) - مما يطول نقله إلا من دخلت عليه شبهة الإرجاء أو تناقض فاتبع كلام إمامه في تصانيفه الفقهية وتبع المتكلمين في تصانيفه أو آرائه العقدية.

فحصر الكفر في قول القلب وحده ضلال عظيم وخطأ بين إن لم يكن كفرا" صريحا" كما هو حال من صرح به أو التزم لوازمه، ولهذا ونحوه كفر بعض السلف الجهمية ولم يعدوهم من فرق أهل القبلة، ونص شيخ الإسلام على أن من

(1) وهذا قسم آخر غير ما يسميه بعض الفقهاء الكفر العملى ويقصدون به الأصغر فقط، فيجب التنبه لهذا لأن الخلط بينهما قد يؤدى إلى الظن بأن كفر العمل كله لا يخرج من الملة وهذا هو حقيقة مذهب المرجئة كما رأيت، ومن ذلك ما وقع للشيخ الألبانى كما فى رسالة "حكم تارك الصلاة"، ص42- 44.

(2)

انظر تعليق الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب على قول صاحب الإقناع "المرتد الذى يكفر بعد إسلامه نطقا أو شكا أو اعتقادا" أو فعلا"" فى الدرر السنية (8/88) .

ص: 486

جوز أن يكون من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه - مؤمنا في الباطن "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"(1) .

ثانيا: أن الاستحلال كفر برأسه: سواء فعل صاحبه ما أحل من المحرمات أو لم يفعل، ولهذا قال شيخ الإسلام في من سب الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به السب أو لم يقترن"(2) .

ولذلك فمن شرع الزنا أو الربا أو شرب الخمر وأصدر لها المراسيم والقوانين التي ترخص بها وتحدد لها الأنظمة في عملها وتعيين المحاكم التي تختص بفض النزاع فيها ورتب حراستها وألزم بمقتضى ذلك فقد كفر، وإن لم يزن مرة واحدة أو يشرب من الخمر قطرة أو يأكل من الربا درهما".

ثالثا:أن الكفر أعظم المعاصي بإطلاق: والاستحلال ينقل المعصية التي دون الكفر إلى مرتبة الكفر بإجماع أهل السنة والمرجئة سواء، فإذا ثبت فإلى أي مرتبة ينقل الاستحلال الكفر وليس وراءه مرتبة أخرى بل هو بذاته كفر فدل ذلك على أن موضوعه المعاصي التي هي دون الكفر لا الكفر.

فإن اقترن بالكفر كان زيادة فيه كمن يكفر بالعبث ثم يكفر بالله.

رابعا: أنه لا يجوز أن يقال: لابد أن يكون المستحيل مكذبا" بالدين حتى يكفر كما لا يجوز أن يقال في المكذب بالدين: أن يكون مستحلا للتكذيب فكذلك المعاند المستكبر والشاك وغيره فتبين أنه لا يصح جعل أحد أنواع الكفر شرطا" في الأنواع الأخرى أو قيدا" فيها (3) .

خامسا: أن الاستحلال نفسه يكون بالاعتقاد والقول والعمل:

فالاعتقاد واضح، والقول كمن يقول إن الزنا أو الربا أو شرب الخمر حلال، ومن ذلك قصة قدامة بن مظعون ومن معه

(1) الصارم المسلول: ص525، وكذلك من جوز أن يكون من عمل الكفر الصريح - كما فى الأمثلة السابقة - مؤمنا فى الباطن.

فانظر أى خطر يحيق بمن يقولون: نسألهم قبل أن نكفرهم: أهم مقرون أم جاحدون مستحلون؟!

(2)

الصارم المسلول: ص526، ضمن كلام نفيس أوصى بقراءته كله.

(3)

فمن جعل نوعا" من أنواع الكفر شرطا" فى النوع الآخر عامدا" فهو كمن جعل ناقضا" من نواقض الصلاة أو الوضوء لا يبلطهما إلا بشرط وقوع ناقض آخر كمن يشترط لبطلان صلاة من صلى إلى غير القبلة أن يكون تاركا" للنية وإلا فصلاته صحيحة أو من نام حتى أصبح فوضوئه صحيح إلا إذا حدث.

ص: 487

في شرب الخمر (1) ، والعمل كقصة الرجل الذى تزوج امرأة أبيه فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتله وتخميس ماله، ولم يأمر بسؤاله أأنت مستحل أو مقر؟ .

قال ابن القيم رحمه الله: "روى الإمام أحمد والنسائى وغيرهما عن البراء رضى الله عنه قال: لقيت خالى أبا بردة ومعه الراية فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله.

وذكر ابن أبى خيثمة فى تاريخه من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضى الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله.

قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح.

وفى سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقع على ذات محرم فاقتلوه.

وذكر الجوزجانى: أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال: احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله بن مطرف رضى الله عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تخطى حرم المؤمنين فخطو وسطه بالسيف.

وقد نص أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد فى رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال: يقتل ويدخل ماله فى بيت المال.

وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2) . هـ.

وقال ابن كثير فى تفسير الآية (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم..) :

"فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال، كما رواها الإمام أحمد وأهل السنن من طريق البراء بن عازب

" وذكر الحديث!! (3) . وهذا لا علة له إلا الاستحلال بالفعل.

سادسا: أن حصر الكفر فى الاستحلال يقتضى أن لا يكفر أحد، يقول أنا غير مستحل وأنا أعتقد أن هذا حرام مهما عمل من المكفرات حتى من سب الله ورسوله

(1) انظر مجموع الفتاوى (7/610) .

(2)

زاد المعاد (3/202) ، ط مصر، وانظر تهذيب الآثار للطبرى (2/144) .

(3)

تفسير ابن كثير (2/215) ، ط الشعب.

ص: 488

وأهان المصحف ونجس المسجد ونصر الكفار على المؤمنين وشرع الكفر بكل أنواعه، ما دام لم يصرح بالاستحلال أو صرح باعتقاد أن ذلك حرام فى الشرع.

بل على هذا لا يكاد يكفر من الناس إلا القليل فإن أبا طالب مات على دينه وهو يعتقد أنه باطل وأن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، وهرقل أقام على دينه مع اعتقاده أن ذلك حرام عليه ولكن شهوة الملك غلبت داعى الحق، وكذلك أحبار أهل الكتاب الذين اعتقدوا بقلوبهم وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ولكن لم يتبعوه بل كثير من كفار قريش لم يكونوا يعتقدون صحة عبادة الأصنام وأنها خير من التوحيد وأن الله لم يحرم عبادتها!!

وهكذا فأكثر كفر الخلق هو من جهة الإباء والاستكبار وترك الانقياد والاتباع لا من جهة اعتقاد أن الكفر حلال، فإن أكثر المتدينين في العالم يرتكبون المحرمات في دينهم ولا يقولون نعتقد أنها حلال فكيف إذا ارتكبوا الكفر؟ ولا سيما أهل الإسلام الذين يعلمون لأن الخروج من الإسلام أكبر الذنوب بإطلاق فيندر أن تجد مسلما لا يعتقد أن الكفر حرام وأن عاقبته النار.

ولنضرب لذلك مثالا لكفر العمل وآخر لكفر القول:

أ- مثال كفر العمل: السحر:

فإن الله تعالى قد بين حال أهله فقال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق)(البقرة: 102) .

فإن الله تعالى حكم عليهم بالكفر وبين أن كفرهم هو تعليم السحر وبين أنهم يعلمون أن ذلك كفر ويقولون للمتعلم إنما نحن فتنة فلا تكفر ويعتقدون أن عاقبة عملهم هذا هى الخسارة الكبرى فى الآخرة فلم يجعل علمهم بأنه كفر وتحذيرهم المتعلم منه واعتقادهم سوء عاقبته مانعا من تكفيرهم.

ص: 489

فهؤلاء لم يكفروا لأنهم كذبوا بالله ورسوله واليوم الآخر ولا لأنهم كذبوا الرسل فى قولهم إن الله حرم السحر، ولا لأنهم اعتقدوا حل السحر أو فضلوه على كتاب الله ولكنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كما فى الآية التي قبلها أى تركوا العمل به واختاروا ما يعلمون ويعتقدون قطعا أنه مفضول بل كفر وخيم العاقبة على ما يعلمون قطعا أنه فاضل بل حق محض، وبهذا حكم الله عليهم بالكفر ونفى عنهم الإيمان والتقوى.

قال شيخ الإسلام: فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه لا خلاق لهم فى الآخرة ومع هذا فيكفرون (1) .

فلو قدرنا أن من يحكمون بالقوانين الوضعية لم يزيدوا على هؤلاء شيئا بل غاية فعلهم أنهم تركوا العمل بكتاب الله واتبعوا ما تقرره شياطين التشريع فى الشرق والغرب وحذروا الناس من التحاكم إلى هذه القوانين وبينوا لهم أنها كفر واعتقدوا أن مصيرهم إلى النار إن فعلوا ذلك لكنهم ظلوا يشرعونها ويحكمون بها؟ فهل يكون حكمهم شيئا سوى الكفر!!

فكيف وهؤلاء كما يعلم الناس بالتواتر لا يحذرون من قوانينهم بل ولا يقولون إن أصحابها من أهل النار ولا أن الشريعة أفضل منها - مجرد قول مع أنه غير نافع - بل يفخرون بإصدارها ويجعلون ذلك عيدا أو شبه عيد ويحاربون من دعاهم إلى تحكيم الشرع أيما محاربة ويقولون بأنفسهم أو بأبواقهم إن الشريعة قاصرة عن ملائمة الحياة وأن أحكامها لا تصلح لهذا العصر ويقولون إن تحكيم هذه القوانين يحقق المصلحة الوطنية والخير والتقدم وحسن العاقبة.. الخ ما يتردد على ألسنة الزعماء وأعضاء المجالس التشريعية والصحفيين وسائر وسائل الإعلام!!

فكيف يقال مع هذا إن هؤلاء لا يكفرون إلا إذا كذبوا أو جحدوا الوجوب أو استحلوا، أو فضلوا أو ساووا.. ونحو ذلك من العبارات التي تدل على شئ واحد وهو أن يضموا إلى هذا النوع من الكفر نوعا آخر منه.

(1) مجموع الفتاوى (7/559) .

ص: 490

ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حيث فصل هذه الأنواع وجعل كلا منها كفرا بذاته، كما هو فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح أجمعين، ثم أفرد القسم غير المكفر عنها جميعا".

وقال أجزل الله مثوبته: (لو قال من حكم القانون: أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل (1) .

ب- ومثال كفر القول: النطق بالكفر من غير إكراه،

ودليل ذلك قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) (النحل: 106، 107) .

وذلك من جهتين:

إحداهما: أن الله تعالى بين سبب استحقاقهم الوعيد بقوله (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) الآية، فهم لم يستحبوا الكفر على الإيمان ولم يكذبوا الرسل فى ذلك، ولم يعتقدوا أن الكفر حلال لكنهم تكلموا بذلك مستحبين الحياة الدنيا على الآخرة.

والأخرى: أنه استثنى المكره دالا على أن من تكلم بالكفر من غير إكراه فإن صدره منشرح به، بدون اشتراط أو تقييد.

يقول شيخ الإسلام بعد ذكر الآيات: "فقد ذكر الله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده فى الآخرة، ثم قال (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء (يعنى المرجئة) يقولون إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم

والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة وبأنه ما له في الآخرة من خلاق وأيضا فإنه سبحانه استثنى المكره

(1) مجموع فتاواه (6/189) ، وانظر كلام العلامة الشيخ سليمان بن سحمان فى معنى الطاغوت، الدرر السنية (8/271) ، فيما بعدها.

ص: 491

من الكفار ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منهم المكره لأن الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه.

وختم بقوله: "فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به"(1) .

وقال فى الصارم المسلول عن الآية نفسها: "ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا، فصار من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

وقال فى المستهزئين (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)(التوبة: 66) ، فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته" (2) .

سابعا: أن حصر الكفر في "الاستحلال" قد لا يلزم حتى على مذهبهم وذلك لأن كلمة "الاستحلال" لا تدل على اعتقاد حل محرم، إلا بحسب الاصطلاح أما فى اللغة بل وفى كلام الشرع فإن المستحل هو المستمرئ للحرام الذى لا يعبؤ بالتحريم ولا يبالى به كما قال صلى الله عليه وسلم:"يستحلون الحر والحرير" فإذا احتاج المصطلح إلى قيد ليدل على المراد فكذلك يحتاج إلى النصوص الأخرى فهذا اللفظ الذى لا يدل على الكفر بذاته كيف يجعلونه هو وحده مناط الكفر المناقض للإيمان دون ما سواه ويعدلون عما ورد صريحا فى الشك والنفاق والاستكبار والإعراض والتولى ونحوها مما في الكتاب والسنة.

(1) مجموع الفتاوى (7/560،561) .

(2)

الصارم المسلوم، ص524، وانظر أيضا (7/220) .

ص: 492

إذا تبين هذا بقى أن نعلم أن المرجئة - ومن اتبعهم وهو لا يشعر - لما أن حكموا بإيمان تارك العمل ونفوا وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقا لم يبق لهم غالبا من جواب أو حيلة يدفعون بها احتجاج أهل السنة عليهم بالنصوص الواردة فى تكفير من ترك العمل أو عمل الكفر إلا القول بأن هذه فى المستحل أو الجاحد للوجوب.

فجعلوا جنس ترك العمل وارتكاب المكفرات من جنس ترك سائر الفرائض وارتكاب سائر المحرمات وجعلوا الفاعل داخلا تحت المشيئة موعودا بالشفاعة، واستدلوا بما ورد من النصوص عاما مطلقا مثل:"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة" وحديث الشفاعة (الجهنميين) الآتي بيانه، وضموا إلى ذلك الاستدلال بقول أهل السنة:"ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" على إطلاقها فاستنتجوا من ذلك كله أن من كفر أحدا - بترك ما تركه كفر أو فعل ما فعله كفر وهو غير مستحل لذلك - خرج عن قاعدة أهل السنة هذه ووقع فى مذهب الخوارج أو بعضه!!

وهذا خطأ بين لا يخفى على من اطلع على ما سبق ونزيد هنا فيما يتعلق بهذه العبارة فنقول:

1-

الاستحلال عند أهل السنة والجماعة إنما متعلقة الذنوب التي دون الشرك أو الكفر كما سبق، ولذلك يذكرون هذه العبارة فى باب الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالكبائر العملية التي هى من جنس المعاصى كالزنا وشرب الخمر كما هو معلوم - ولو كان جنس ارتكاب المكفر من جنس فعل المعصية وكان لابد لكل من ورد فيه إنه كافر أن يقيد بالمستحيل أو الجاحد مطلقا كما يقولون لجاز أن نقول:"الزانى كافر" و"شارب الخمر كافر" بإطلاق، فإذا اعترضوا علينا قلنا إنما نعنى به المستحل أو الجاحد، كما تقولون تارك الصلاة كافر، والحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتعنون المستحل أو الجاحد.

والحق أن الإطلاق فى الكل باطل كما وأن التقييد فى الكل باطل، وأن الحق فى اتباع النصوص كما فى الفقرة (4) الآتية:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنوب فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب وأما هذه المباني

ص: 493

(يعنى الأركان) ففي تكفير تاركها نزاع مشهور" (1) ، وقد سبق إيراد كلام الإمام سفيان بن عيينة فى هذا التفريق.

2-

أن العبارة نفسها لا تدل على مرادهم بإطلاق فإن فيها التقيد بكلمة "أهل القبلة" ومعلوم أن من ترك الصلاة التي هى رأس العمل الظاهر بل من كفر بأى مكفر كان لا يسمى عندهم من أهل القبلة.

3-

أن العبارة فيها إطلاق تنبه أهل السنة له وإن اشتبه الأمر على بعضهم ولهذا تكلموا فى تقييدها بما يدفع اللبس ويزيل الإشكال مثل أن تصبح "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بكل ذنب ما لم يستحله" وفى نظرى أن قولنا: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بعمل دون الكفر ما لم يستحله" أوضح فى المراد - وإن كانت تلك أجود فى العبارة - كما أن هذه تزيل الإشكال الناشئ من كون الذنوب الاعتقادية قد تدخل فى الصيغة الأولى وهى لا يقال: يكفر صاحبها بالاستحلال بل يقال: يكفر بالرد والإنكار، فتأمل (2) .

4-

أن أهل السنة والجماعة متبعون لنصوص الشرع فى كل شئ فما جعله الشرع كفرا بإطلاق فهو عندهم كفر بإطلاق - كمن ترك الصلاة أو تعاطى السحر أو حكم بشرع غير ما أنزل الله - وسموا فاعله كافرا بإطلاق وما جعله من جنس المعصية لكن سماه كفراً سموه كفرا كذلك ولم يكفروا فاعله بل جعلوه مرتكبا لعمل من أعمال الكفر وشعبه من شعبه، كقتال المسلم الوارد فى الحديث: "

وقالته كفر" وحديث: "لا ترجعوا بعدى كفارا" يضرب بعضكم رقاب بعضا" وما جاء فى حديث: "ثنتان فى أمتى هما كفر: الطعن فى النسب، والنياحة على الميت"، وبين هذا وما قبله فوارق من القرائن اللفظية والمعنوية يعلمها علماؤهم (3) .

(1) مجموع الفتاوى (7/302) ، وهذا النزاع حسمه فى الإيمان الأوسط كما سبق النقل عنه.

(2)

وقد فصلنا ذلك فى شرح هذه العبارة ضمن شرحنا لشرح العقيدة الطحاوية نسأل الله أن ييسر إخراجه، انظر شرح الطحاوية، ص434.

(3)

من ذلك أن الأول جاء فى الكفر بصيغة المعرف بالألف واللام مثل "بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة" أو بصيغة الفعل الماضى مثل "فمن تركها فقد كفر"، أما هذا فجاء نكرة مطلقة كما فى الحديث الأول أو مقيدة بما لا يجعلها من جنس الكفر المطلق كما فى الحديث الثانى، وإلا فلو سكت لعلمنا أنه يحذر من الردة عن الإسلام، ونحو ذلك مما يطول تفصيله ويزول الإشكال إذا جمعت النصوص كلها فى الموضوع وقد فصلنا ذلك بحمد الله فى شرح الطحاوية.

ص: 494

ومن نفى عنه الإيمان بفعل - ما هو من جنس المعصية ينفون عنه الإيمان لكن لا يخرجونه من الإسلام وهذا هو معنى قولهم:"نثبت له مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق"، وذلك كما ورد فى حديث " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن

" الخ

ومن ارتكب ذنبا لم يجعله الشرع كفرا بإطلاق فهو مرتكب لكبيرة الذي وقع الخلاف فيه قديما بينهم وبين الخوارج وحكمه عندهم - في الآخرة - أنه إن لم يقم به مانع من موانع إنفاذ الوعيد كالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية (1) ونحوها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ولهذا فهم يجزمون بأن بعض أهل الكبائر سيدخلون النار وأن بعضهم لن يدخلها - كما هو مقتضى الجمع بين الأدلة فى هذا المسألة.

كل ذلك باتباع مطرد للنصوص وجمع متسق بينها وفق منهج منضبط لا خلل فيه ولا اضطراب.

فلو قال قائل من أهل السنة: "ولا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله" وجب حمله على هذه الأصول وفهمه وفق ذلك المنهج.

أما الخوارج والمعتزلة فيجزمون بأنه لن يدخل أحد من مرتكبي الكبائر الجنة وينكرون حديث الشفاعة وشبهه.

أما المرجئة فيجوزون أنه لا يدخل أحد منهم النار، ولما كان الخوارج والمعتزلة ينبزون أهل السنة والجماعة بالإرجاء وكان المرجئة ينبزونهم بالخروج بينوا الفوارق بينهم وبين كل من الطائفتين ومن ذلك أنهم يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المكفرات ولو كانت أعمالا أو تركا للعمل فليسوا إذن مرجئة.

ولا يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المعاصي ما لم يستحل ذلك فليسوا إذن خوارج.

فمن هنا جاءت هذه العبارة، فتوسيع مفهومها أو وضعها في غير موضعها غير مقبول.

(1) انظر هذه الموانع فى مجموع الفتاوى (7/487) ، ورسالة الأخ عيسى السعدى "موانع إنفاذ الوعيد".

ص: 495

على أن لهذه العبارة قرينة وضميمة ما كنت لأوردها هنا لولا أن محدث العصر الشيخ الألباني - حفظة الله - استشهد بكلام لقائلها (1) متضمنا الخطأ نفسه في فهم العبارة السابقة، وأقره عليه بل أثنى على كلامه، وإلا فموضعها مبحث الشبهات النقلية لأن بعضهم جعلها حديثا " (2) .

وهذه العبارة هي: "لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه".

قال الإمام الطحاوى رحمه الله في استدلاله على أن تارك الصلاة لا يكفر: " والدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلى ولا نأمر كافرا أن يصلى، ولو كان بما كان منه كافرا لأمرناه بالإسلام فإذا أسلم أمرناه بالصلاة.

وفى تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة، ومن ذلك أمر النبى صلى الله عليه وسلم الذي أفطر في رمضان متعمدا بالكفارة التي أمره بها وفيها الصيام ولا يكون الصيام إلا من المسلمين.

ولما كان الرجل يكون مسلما إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتى بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس ومن صيام رمضان، كان ذلك ويكون كافرا بجحوده لذلك ولا يكون كافرا إلا من حيث كان مسلما، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام فكذلك ردته لا تكون إلا بجحود الإسلام (3) !!

وهذا الكلام يستحق ما قاله شيخ الإسلام فى كلام القاضى أبى يعلى المشابه له "زلة منكرة وهفوة عظيمة"(4) .

وإنما قاله تبعا لمذهب المرجئة الحنفية الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق والإقرار والكفر هو ضد ذلك وهو التكذيب والجحود أى جحود الإقرار كما سبق تفصيل مذهبهم (5) .

(1) وهو الإمام أبو جعفر الطحاوى، انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص458، والطحاوى رحمه الله حنفى وقد ظهر أثر ذلك فى تلبسه بالإرجاء فى عقيدته مثل قوله:"وأهله فى أصله سواء" وقد سبق الحديث عنها، ومثل هذه العبارة.

(2)

انظر الإحياء وشرحه للزبيدى (5/244) والغزالى نقلها عن صاحب قوت القلوب، واللفظ عنده هو "لا يكفر أحد إلا بجحود ما أقر به".

(3)

مشكل الآثار (4/228) ، وص48 من رسالة الشيخ.

(4)

الصارم المسلول، ص515.

(5)

والشيخ حفظه الله من أشد الناس نفورا وتنفيرا من تقليد الحنفية فى الفروع فكيف وهذه من الأصول؟

ص: 496

ولو وقفنا على ما فى هذا الكلام تفصيلا لطال المقام لكننا نكتفى ببيان الخطأ الأكبر فيه وهو أنه لا يخرج أحد من الإسلام إلا بترك الإقرار لأنه يدخل في الإسلام بالإقرار فكيف يخرج منه بغير ما دخل به فيه؟!

ومعنى ذلك أن من لم يجحد الشهادتين لا يكفر مطلقا لا باعتقاد ولا بعمل بل هو من أهل ذلك الركن الذى جحد أو ترك ألا تراه يقول فى تارك الصلاة: "وفى تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة"!!

ولازم ذلك وطرده أن يقال: من كفر بالقرآن مع إقراره بالشهادتين فإن دعوتنا إياه للإيمان بالقرآن وتركنا دعوته للشهادتين دليل على أنه من أهل القرآن!!

وقل مثل ذلك فيمن كفر بالملائكة أو الجنة أو النار.. وغيرها من أمور الاعتقاد.

وفى العمل: يلزم منه أن الصحابة قد أخطئوا أو ضلوا حين سموا تاركي الزكاة كفارا ومرتدين وقاتلوهم على ذلك لأنهم حسب كلامه مسلمون من أهل الزكاة!! وهكذا.

وهذا لا يشك فى خطئه بل بطلانه لمن قراءه فضلا عمن تأمله وذلك أن القول بأن من تكلم بالشهادتين لا يكفر إلا بترك الإقرار بهما هو نوع من الإرجاء الغالي المذموم جدا عند السلف والذى لا يفوقه غلوا إلا إرجاء الجهمية أى اشتراط ترك الإقرار القلبى الذى هو التصديق عندهم، وكلاهما معلوم الفساد والبطلان بالاضطرار من الدين، وقد ذكر شيخ الإسلام: إن كل من تأمل كلام هؤلاء المرجئة يعلم بالاضطرار "أنه لو قدر أن قوما" قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك (أى لم يجحدوا الوجوب) ونقر بألسنتنا بالشهادتين (أى لم يجحدوا الإقرار) إلا أنا لا أطيعك فى شئ مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلى ولا نصوم ولا نحج ونصدق الحديث ولا نؤدى الأمانة ولا نفى بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئا" من الخير الذى أمرت به (أى نترك جنس العمل) ، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضا ونقاتل مع أعدائك (أى يفعلون جنس المحرم مطلقا) هل كان يتوهم عاقل أن النبى صلى الله عليه وسلم يقول لهم "أنتم مؤمنون كاملو الإيمان وأنتم من أهل شفاعتى يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟

ص: 497

بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك" (1) .

فالعجب أن يقول الشيخ الألبانى بعد أن نقل كلام الطحاوى هذا: "قلت وهذا فقه جيد وكلام متين لا مرد له"(2)

(1) مجموع الفتاوى (7/287) .

(2)

حكم تارك الصلاة، ص48، ثم قال الشيخ:"وهو يلتقى تماما مع ما تقدم من كلام الإمام أحمد رحمه الله الدال على أنه لا يكفر لمجرد الترك بل بامتناعه عن الصلاة بعد دعائه إليها".

ونقول - إنه بقطع النظر عن أن الثابت عن الإمام أحمد هو تكفير التارك وقد نقلناه فى أول هذا الباب: فإن هذا لا يلتقى معه لأن الطحاوى لا يكفر بالامتناع من الصلاة بل بالامتناع من الإقرار، لاحظ قوله:"ولا يكون كافرا" إلا من حيث كان مسلما وإسلامه كان بإقراره بالإسلام فلذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام"، تجد ذلك جليا، وإذ قد خفى على الشيخ حفظه الله فلا عجب أن يخفى عليه أن استدلاله بحديث الكفارة فى الصيام لا وجه له بل هو خارج عن الموضوع لأن موضوع البحث هو ترك الفريضة من صلاة أو صيام وهذا شئ وارتكاب ما يبطلها شئ آخر فهو كما لو أن إنسانا" أحدث أو تلكم فى الصلاة فتأمل.

تنبيه: من كفر بترك شئ من الأعمال التي تركها كفر أو جحد شيئا" من الاعتقادات التي يكفر جاحدها فإنه يدعى إلى ذلك العمل أو الاعتقاد ويستتاب من تركه أو جحده ولا نحكم بإسلامه إلا إذا فعل ذلك، فإذا كفر بترك الصلاة فإن إسلامه يكون بأدائها، وإذا كفر بجحد البعث أو الجنة أو النار فإن إسلامه يكون بالإسلام بها، وهكذا.

كما فعل الصحابة رضى الله عنهم مع تاركى الزكاة وكما نص كل الفقهاء فى مسألة الممتنع عن شئ من الشراع لظاهرة فإنهم أوجبوا قتاله حتى يلتزم بما امتنع عنه، لا بالشهادتين إذ هو مقر بها من قبل، "قلت: منها قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أنس الطويل فى الشفاعة أيضا" فيقال: "يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل واشفع فأقول: يا رب ائذن لى فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتى وجلالى وكبريائى وعظمتى لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله" وشرح ذلك فى نهاية المبحث ص23- 34.

ولخطورة هذا الأمر وأهميته ولما للشيخ حفظه الله من قبول واتباع عند عامة المعاصرين من أهل السنة ولمواضع أخرى مشابهة فى الرسالة - رأيت أن أقترح على فضيلته ما كتبته فى آخر مبحث حديث الجهميين الآتى وأرجو أن يتقبله بصدر رحب.

ص: 498