المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأثر المنطقي سوف نتناول الحديث عن الأثر المنطقي من خلال هذه - ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

- ‌مقدمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

- ‌ السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

- ‌ السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

- ‌حقيقة النفس الإنسانية

- ‌تمهيد:

- ‌ الإرادات والغايات:

- ‌ الأسباب والوسائط

- ‌ الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

- ‌الخاتمة

- ‌حقيقية الإيمان الشرعية

- ‌المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

- ‌المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

- ‌الباب الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌الفتنة الأولى

- ‌براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

- ‌الفتنة الثانية

- ‌الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

- ‌توطئة:

- ‌البدايات والأصول

- ‌أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌الأثر المنطقي

- ‌حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

- ‌الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

- ‌العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

- ‌توطئة:

- ‌الإيمان حقيقة مركبة

- ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

الفصل: ‌ ‌الأثر المنطقي سوف نتناول الحديث عن الأثر المنطقي من خلال هذه

‌الأثر المنطقي

سوف نتناول الحديث عن الأثر المنطقي من خلال هذه الحقائق:

1 -

أن المنطق وجد - أول ما وجد - لمواجهة السفسطة؛ تلك اللوثة التي أصابت الفكر اليوناني بعد أن أتخمت الجاهلية اليونانية بضروب من الفلسفات المتناقضة، فجاءت السفسطة لتوجه معولها لهدم المعرفة العقلية من أساسها، وذلك بإنكار حقائق الأشياء وبَدَايِه المعارف، والتصريح بأن كل الأحكام العقلية ناشئة من تصورات ذاتية محضة ليس لها أصل موضوعي، أو هي على الأقل يمكن أن تكون كذلك.

2 -

لما كان المنطق هو رد الفعل لهذه اللوثة كان طبيعيا أن يصب اهتمامه على إثبات حقائق الأشياء، فابتدأ بإثبات الحقائق الكلية المجردة توصلاً بها إلى إثبات الأجزاء والأعيان خارج الذهن، كما وضع قوالب عقلية خاصة تستخدم للحكم على الأجزاء، وذلك عن طريق إثبات أحكام كلية، ثم الحكم على الجزء بحكم الكل (1) ومن هنا انحصرت مباحث المنطق في مبحثين:

أ - الحدود التي بها تعرف حقائق الأشياء " التصورات ".

ب - القياس الذي به يتوصل إلى معرفة حكم الأشياء " التصديقات ".

3-

اقتضى الأمر في مبحث الحدود (وهو المبحث الذي يهمنا هنا) تحليل عناصر الأشياء والمسميات لمعرفة صفاتها الذاتية (الداخلة في الماهية) والعرضية (الخارجة عن الماهية) لكي يتم التوصل إلى تحديد الذات وتصورها في ذاتها، أي مجردة عن الأعراض، فوضعت ألفاظ كلية عامة تتألف منها الحدود (2) وهي الكليات الخمس: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام.

(1) وهذا هو قياس الشمول، وأهملوا قياس التمثيل، وهذا من ضلالهم كما سنوضح في القضية الثانية ص464.

(2)

وهي التي تكون محمولا في القضايا، أي في مبحث التصديقات.

ص: 301

فالجنس: هو جزء الماهية المشترك بينها وبين غيرها (المشترك الذاتي) .

والنوع: هو تمام الماهية.

والفصل: هو المميز الذاتي.

والخاصة: هو المميز العرضي.

والعرض العام: هو المشترك العرضي.

فحقيقة النوع: هو الشيء المعرف نفسه (الموضوع) كلفظ "الإنسان" في سؤال "ما الإنسان؟ " وجوابه هو "حيوان ناطق " هو ماهية الإنسان وعين حقيقته عندهم وهو مركب من الجنس "حيوان" الفصل "ناطق"(1)

فيقولون للسفسطي: إن تصور حقيقة الإنسان يحصل بهذا الحد، ومن ثم تكون القضايا الآتية كلها صحيحة:

1 -

كل إنسان حيوان ناطق.

2 -

كل حيوان ناطق إنسان.

3 -

كل ما ليس إنسانا ليس حيواناً ناطقاً.

4 -

كل ما ليس حيوانا ناطقا ليس إنسانا.

وقضايا أخرى مبنية كلها على أنه حيثما وجدت الحيوانية والناطقية وجدت ماهية الإنسان وحقيقته، وحيثما فقدت فلا إنسان.

فإذا أنكر السفسطي أن يكون زيد من الناس إنسانا، وقال: قد يكون زيد هذا جبلاً أو شجرة أو عدماً، ألزموه بهذه الأحكام الكلية على الإقرار بأن زيدا إنسان!! فهذا مبلغهم من العلم في الرد على أولئك المرضى، والحمد لله على ما من به على أمة الإسلام من نعمة العقل والفطرة السليمة.

وبسبب هذا الرد على منكري الحقائق فخر مناطقة اليونان على سائر فلاسفة الدنيا وتبعهم من تبعهم، ولو وقف المناطقة عند هذا لربما هان الأمر، ولكنهم غلوا في تقدير منطقهم حتى أفضى بهم الغلو إلى القول بتحكمات لا صحة لها، يهمنا منها:

1 -

قولهم بوجود المعاني الكلية المجردة - أي الماهيات المطلقة من كل قيد ونسبة - في الواقع - أي خارج الذهن.

(1) انظر القضية الثالثة - هنا - الآتية.

ص: 302

2 -

قولهم بأن التصورات لا تنال إلا بالحدود فقط.

ولسنا في مقام نقد أصول المنطق (1) وإنما ينحصر غرضنا في الكلام عن تعريف الإيمان حسب قواعده وما رتب عليه من نتائج، ولهذا سنقتصر على بحث قضايا أساسية تتعلق جميعها بموضوع " النوع " لأنه هو الشيء المعرف كما سبق.

وهذه القضايا هي:

كون الغرض من التعريف هو تصور الحقيقة والماهية.

وجود الأنواع خارج الذهن.

تماثل أفراد النوع في الحقيقة والماهية.

* القضية الأولى:

إنه من المعلوم في كل العلوم والفنون أن أصحابها يبحثون فيها دون العروج على التعريف المنطقي لمفرداتها، بل يكتفون بالاسم المتعارف عليه أو الموضوع في أصل اللغة، وهذا في علوم العصر أجلى وأشهر، حيث عزف الفكر الغربي الحديث عن المنطق التقليدي " الكلاسيكي " جملة، كما أن هذا هو الحال بالطبع قبل أن يوجد أرسطو ومنطقه.

ثم إن المقصود من التعريف - عند أصحاب العلوم جميعا ما عدا الفلسفة والمنطق - هو تمييز الشيء عن غيره بحيث لا يشتبه به، وهذا هو المراد من كونه جامعا مانعا، وعلى هذا جرى الفقهاء والأصوليون والنحويون وغيرهم؛ كالكيميائيين والرياضيين ونحوهم، فأي وصف جامع مانع يكفي للتعريف، ولو كان عرضيا في نظر المناطقة (2) .

(1) لقد فنده شيخ الإسلام ابن تيميه بالتفصيل الدقيق في كتابه النفيس " الرد على المنطقيين " وذلك قبل أن ينقده " هيجل " بستة قرون، على أن نقد هيجل كان إجماليا ومحدودا في قضايا خاصة، ومع هذا فإن الفكر الأوروبي يدين لهيجل بالفضل في ذلك معتبرا عمله في هدم المنطق الكلاسيكى من أعظم الانقلابات الفكرية في التاريخ. انظر: سلسلة تراث الإنسانية (2/ 715 - 731) ، (5/ 98 - 116) على أن كل رواد العلم التجريبي الغربي أمثال جاليليو وبيكون ضد المنطق الأرسطي الصوري، ولو من طريق غير مباشر

(2)

ولهذا فإن أصحاب العقول من بني آدم لم يخوضوا قط في معرفة ماهية الإنسان المطلقة إلا هذه الفرقة الشاذة، وذلك لأن أحط بني البشر من سكان الأدغال والأحراش يميزون بين الإنسان وغيره بلا أدنى لبس، أما معرفة كنه الذوات فهذا مما حارت فيه عقول البشر، والعلم التجريبي في عصرنا عاجز حتى الآن عن معرفة حقيقة المادة أما حقيقة الإنسان فعقلاؤهم نفضوا اليد منها أصلا، ولم يبق أحد يتخبط فيها إلا من سلك مسلك الشاذين القدماء.

ص: 303

بل المتكلمون أنفسهم كانوا على هذا الأصل حتى مال بعضهم إلى كلام الفلاسفة المنتسبين للإسلام فأصابتهم لوثتهم (1) .

أما الأصوليين فلم يكونوا يدخلون المنطق في مباحثهم أصلا، ولهذا عاب العلماء على أبي حامد الغزالي أنه فعل ذلك في أول المستصفى، وقال: إنه مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلاً (2) ، ثم تلاه من تلاه.

والمقصود أن القدماء من علماء النحو والأصول - وهما من أهم علوم الوسائل - كانوا يعرفون الشيء بما يميزه عن غيره؛ كالتعريف بالمثال؛ فيقول النحويون: الفعل مثل: ضرب، والاسم مثل: زيد، والحرف مثل: في وهكذا.

ويقول الأصوليون: الأمر مثل: أقيموا الصلاة، والنهي مثل: لا تقربوا الزنا، والعام مثل: كذا، والخاص مثل: كذا

وهكذا.

فلما فسدت الفطر والعقول على النحو الذي عبر عنه الإمام الشافعي بقوله: " ما جهل الناس واختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطا طاليس "(3) ظهر الاضطراب والاختلافات الكثيرة في معاني المفردات الواضحة البدهية، فاختلف النحويون في تعريف " الاسم " إلى أكثر من سبعين قولا (4) ، واضطر كثير من الأصوليين إلى الاعتراف بعسر وضع حد لـ " للعلم "(5) وما ذلك إلا لأنهم حاولوا وضع تعريف للشيء من حيث هو هو، أو من حيث هو في ذاته كما يقولون.

وهكذا الحال في علم الكلام، الذي هو علم بدعي من أصله كما نص على ذلك أئمة الإسلام (6) .

(1) انظر: الرد على المنطقيين، ص15 - 21

(2)

المستصفى (1/10) الطبعة الأميرية، من أنه في الصفحة نفسها نقد الذين يصنعون ذلك، ولم يذكر مثالا ممن سبقه، وانظرا الرد على المنطقيين، وممن عاب ذلك أيضا على الغزالي الأمام أبو عمرو بن الصلاح، انظر: ترجمة الغزالي في السير (19/329)

(3)

فضل علم السلف على علم الخلف، ابن رجب، تحقيق: يحيى غزاوى، ص99. وأرسطا طاليس هو أرسطو واضع المنطق، ومراد الإمام الشافعي بكلمة " لسان " هو المنطق، ومنطق العرب هو منهجهم الفطري في المعرفة.

(4)

انظر الرد على المنطقيين، ص8، وقد ذكر ذلك عن ابن الأنباري النحوي.

(5)

انظر: المستصفى (1/ 24 - 27) ، وفتح الباري (1/ 140 - 141) .

(6)

انظر: صون المنطق والكلام للسيوطي، وجامع بيان العلم وفضله.

ص: 304

فإن المتكلمين الأوائل عرفوا الإيمان بالتصديق أو المعرفة، وهو شرح لغوي لمعني الكلمة في الشرع - بزعمهم - ولهذا يحتجون عليه باللغة سواء قالوا أن الشارع نقل المعنى أو لم ينقله؛ إذ هم مختلفون في ذلك.

فلما تأثر المتكلمون بالمنهج الفلسفي المنطقي، وانتقلوا بالتعريف من الغرض المعهود في كل العلوم إلى الغرض الفلسفي اليوناني، خاضواً خوضاً تجريدياً جدلياً في ماهية الإيمان المجردة ولوازمها الداخلة - الذاتية -، ولوازمها الخارجة - العرضية -، وخرجوا على منهج أسلافهم، فأصبحوا يجعلون تعريف الإيمان بأنه التصديق تعريفا لغويا فقط، ثم يتبعونه بالتعريف الاصطلاحى الذي هو تعريف له من حيث هو هو - كما يقولون - فيأتون بتعريف سائر على قواعد المنطق كقولهم:" الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بالدليل " أو " التصديق بما جاء به الرسول وثبت عنه بالضرورة جملة أو تفصيلا ". وهكذا نحوها من العبارات المختلفة.

وليس الغرض الآن مناقشة هذه التعريفات، وإنما هو بيان أصل استمدادها الذي يغني تلقائياً عن الحديث عن فسادها، وأهم من ذلك هو ما رتب عليها من نتيجة بالغة الخطورة؛ وهي عدم إدخال العمل في حقيقته - كما سيأتي إيضاحه -.

فأصل هذه التعريفات هو التقليد الأعمى للمناطقة اليونان، الذين كان غرضهم من المنطق ومن مبحث الحدود خاصة هو تصور الماهية من حيث هي هي، وإثبات الذوات المجردة، ليتوصلوا بذلك إلى إثبات حقائق الأشياء التي أنكرها خصومهم السفسطيون.

والمعركة بين فلاسفة اليونان والسفسطيين معركة جدلية ذهنية لا تتعدى نطاق الخيالات والفروض المجردة، ولا مساس لها بواقع حياة الناس من حيث الصلاح والفساد والخير والشر والهدى والضلال، بل لا أثر لها عند غير المشتغلين بها من أهل ملتهم وبني جنسهم، وهذا وحده كاف لاستغناء أي أمة من الأمم عنها، فما بالك بأمة الوحي المعصوم؟!

ويا ليت أن المنتسبين للإسلام إذا نقلوها حصروها - كما هي عند أهلها - في قضايا الذهن المجردة، ولكنهم طعنوا بها في صميم الدين، ليس في التوحيد والصفات فحسب، بل في مبحث الإيمان أيضا!!

ص: 305

وذلك أن البحث في ماهية الإيمان المجردة - بزعمهم - والتفريق بين لوازمها الذاتية والعرضية أدى بهم إلى الحكم بأن العمل ليس داخلا في الماهية ولا من اللوازم العرضية، وإنما هو من قبيل " العرض العام "(1) .

ومع يقيني بأن هذا تحكم محض لا تقتضيه قواعد المنطق بالضرورة، فإني لا أشك أن مجرد الخوض المنطقي سيؤدي إلى مثل هذه النتيجة؛ لأن طابعه التجريدي العام يتنافي مع إدخال العمل.

ولست تجد منطقيا متمكناً إلا وهو مقر بأن التفريق بين الذاتيات والعرضيات متعذر أو متعسر (2) ، وإن كان أكثر إنصافا فسيعترف بحقيقة أن هذه الأحكام كلها تعود إلى تقديرات وفرضيات ذاتية، ولهذا يجوز - كما هو الواقع - أن تختلف ما بين إنسان وآخر.

فإذا وضعنا في الاعتبار المعركة الجدلية الطويلة بين الفرق الإسلامية وحرص النفوس على الانتصار، ولو كان بتصيد الشبهات البعيدة وتعسف الاستدلالات، أدركنا مدى التحكم والاعتباط في استخدام " علم المنطق "، بل ربما كان هذا الدافع النفسي الكامن هو السبب في تقديس المنطق، مع علم القوم بما فيه وإمكان الاستغناء المطلق عنه.

ولإيضاح كون تعريف الإيمان بأنه " قول وعمل " من قبيل التعريف بالعرض العام نقول:

إن العرض العام عندهم هو " الكلي الخارج عن الماهية "، الذي يقال عليها وعلى غيرها فهو أعم منها، ومن هنا هو الكلي الوحيد من الكليات الخمس الذي لا يصح أن يدخل في التعريفات، وإنما ذكروه معها على سبيل التمييز (3) .

فهو لا يصلح جواباً عن الماهية أصلا، كما يمثلون لذلك بلفظ "الماشي" في جواب "ما الإنسان؟ " فلو عرف أحد الإنسان بأنه "الماشي" لكان خطأ؛ لأن المشي خارج عن ماهيته، ويطلق عليه وعلى غيره؛ كالفرس والقطار ونحو ذلك.

(1) وذلك لأنهم اعتمدوا في التفريق بين الذاتي والعرضي على المعنى الكلي الذي استخرجوه من أفراد متفاوتة تشترك كلها في الإيمان بزعمهم، وسيأتي إيضاح ذلك في القضية الثالثة.

(2)

انظر اعترافات ابن سينا والفارابي وغيرهما في: الرد على المنطقيين.

(3)

انظر المرشد السليم ص59،74،وتسهيل المنطق، ص24.

ص: 306

فهذا وجه نقدهم لتعريف السلف (1) ، ومن الإنصاف أن نقول إن بعضهم ينقدون التعريف على أنه تعريف المعتزلة والخوارج، في حين يتجاسر بعضهم على التهجم على السلف، ولكن الجميع لا يعذرون بجهلهم الفرق بين مذهب السلف ومذهب المعتزلة والخوارج.

والباحث يعجب أن يقع ذلك من المتكلمين المحترفين الذين يجمعون شواذ الأقوال ويذكرون ساقط المذاهب، ومع هذا يجعلون مذهب سلف الأمة وأئمتها المقتدى بهم ومذهب الخوارج والمعتزلة سواء، أو يذكرون المذاهب كلها - حتى ما انقرض منها - إلا مذهب السلف، مع إنهم في معرض التقسيم والحصر.

وأعجب من ذلك وأسوأ أن يقوم بعضهم بتحريف كلام السلف ليوافق رأيه ومذهبه كما فعل أبو حامد الغزالي (2) وشارح كلامه الزبيدي، فقد قالا شرحا لقول السلف ومن اتبعهم: إن الإيمان يزيد وينقص (3) : " (فيه (4) دليل على أن العمل) بالجوارح (ليس من أجزاء الإيمان) التي تتركب منها ماهيته، (و) لا من (أركان وجوده) بحيث لا يوجد ولا يتحقق إلا به كما هو شأن الركنية، (بل هو مزيد عليه، ويزيد به) إذا وجد معه وينقص إذا انعدم. (والزائد موجود والناقص موجود) وهو العمل، (و) لا يخفى إن (الشىء لا يزيد بذاته، فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه) ؛ لأنه جزؤه الذي تتم به إنسانيته، (بل يقال: يزيد بلحيته) ، (وسمته) هو السكينة والوقار.

ولا يجوز أن يقال: الصلاة تزيد بالركوع والسجود؛ فإنهما من صلب الصلاة كما يعرف من حدها الشرعي - ذات ركوع وسجود - (بل تزيد بالآداب والسنن الواردة في السنة)

(1) وقد يكون لهم أوجه أخرى، وإنما المقصود والنتيجة عندهم أن هذا التعريف لا يفيد تصور الماهية، وهذا لا خلاف فيه، ولهذا قررنا أن أصل القضية هو التعريف ليس المقصود منه تصور الماهية أبدا.

(3)

أصل الخطأ في منهج الغزالي هو أنه دمج بين منهج القرآن ومنهج أرسطو، واعتبر أن المراد بالقسطاس المستقيم في القرآن هو المنطق، وأن الأشكال المنطقية هي " الموازين الخمس " كما سماها وهى أساليب القرآن في الجدال، وقد فصل القول في كتابه الذي سماه القسطاس المستقيم، وهو مطبوع بأول الجزء الأول من مجموعة رسائله المسماة القصور العوالي، جمعها محمد مصطفى أبو العلا.

(4)

ذكرت كلام الغزالي مع شرح الزبيدى واضعا المتن بين الأقواس خارجها.

(5)

أي القول بأنه يزيد وينقص.

ص: 307

(فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود) في حد ذاته، (ثم بعد الوجود تختلف حاله بالزيادة والنقصان) ، ويفهم منه أن الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي غير نفس الذات " (1) أهـ.

فالغزالي يثبت أن للإيمان وجودا ذاتيا يتجرد عن وصف الزيادة والنقصان، وهما (الزيادة والنقص) عرضان يطرآن على تلك الذات، وقد استخرج ذلك من عبارة السلف مدعيا في أول كلامه أن هذا هو الفهم الصحيح لها.

وسيأتي بحث قضية الوجود الذاتي في الفقرة التالية، غير أنه لا بد هنا من بيان ما في كلامه من نوع المغالطة والحيدة عن موضع النزاع.

أما المغالطة ففي استدلاله بكون الشيء يزيد وينقص على أن ما له ماهية واقعية معينة، لم يزدد أو ينقص إلا بعد وجودها، فهذا كما لو قيل لك: كم مال زيد من الناس؟ فقلت: يزيد وينقص.

فإن السائل لا يستنتج من الجواب أن لماله مقداراً محدداً؛ يزيد عنه مرة وينقص عنه أخرى مع ثبات هذا المقدار في الوجود والخارج، بل لو حددت المقدار فقلت: يزيد حتى يصل الألف وينقص حتى يصل الصفر، فإن السائل - وغيره - لا يفهم أن لماله حداً مقرراً هو خمسمائة مثلا، وهذه الخمسمائة موجودة على الحقيقة، وإنما هذا من صنيع الذهن وحده، كما أن المتوسط الحسابي في الرياضيات هو عملية عقلية لا وجود لمدلولها في الواقع، حتى لو كان مستخرجا من أرقام واقعية، فكيف بمسألة الإيمان الذي هو أمر معنوي بطبعه؟

والفهم الصحيح لعبارة السلف: أن إيمان كل إنسان قابل للزيادة والنقصان كل وقت، وعليه فالزيادة والنقص هما بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع أي منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد في حق كل أحد في كل وقت. ومما يوضح ذلك: أن السلف لا يعتبرون مجرد نقص الإيمان كفرا، ولو أنهم اعتقدوا أن له حدا معينا ثابتا وقد يزيد عليه أو ينقص عنه لوافقوا أكثر المرجئة القائلين بأن نقصه كفر؛ فإن هذه هي أعظم شبهة يحتج بها أولئك، وهي مبنية على قولهم أن التصديق قدر ثابت، متى نقص صار شكا، ومتى قبل الزيادة صار ناقصا فهو شك أيضا، فمن هنا أنكروا الزيادة والنقصان.

(1) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (5/256- 257)

(2)

كما فعل الغزالي هنا، وكما فعل سائرهم في قولهم: إن (نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإنما الزيادة والنقص في الثمرات والكمالات - أي الأعمال) . انظر ما نقله عنهم النووي في شرح مسلم (1/148) ، وابن حجر في الفتح (1/46)

ص: 308

وبهذا يظهر أنه مع اشتراك كل المرجئة في الخطأ - الذي هو تصور حد معين ثابت - يتفرد القائلون بإثبات الزيادة والنقصان بزيادة فيه؛ وهو إنكارهم لأول عبارة السلف (أي قول وعمل) ، وإيمانهم بآخرها (يزيد وينقص) ، مع تأويله بما يوافق مذهبهم (1) .

وأما الحيدة عن موضوع النزاع - في كلام أبي حامد - ففي قوله: " لا يزيد بذاته الخ "؛ فإن السلف لم يقولوا إن الشيء يزيد بذاته، وإنما موضع النزاع هو هل الشيء تزيد ذاته وتنقص أم لا؟

فالسلف يدخلون الأعمال في ذات الإيمان وحقيقته، ولا يقولون إنها زائدة على الذات كالمرجئة، وما ذكره من الأمثلة هي عليه لا له؛ فإن السلف لا يقولون إن الإنسان يزيد برأسه، ولا إن الصلاة تزيد بالركوع، وإنما يقولون ما معناه: إن الإنسان في حقيقته المجتمعة قابل للزيادة والنقص، والصلاة في حقيقتها قابلة للزيادة والنقص؛ فإن الإنسان يمكن أن يكون عملاقاً وأن يكون قزماً، ويمكن أن يقتطع منه عضو كبير أو صغير، وكذلك الصلاة يمكن أن تقع تامة وأن تقع ناقصة والنقص يتفاوت من ترك الركن إلى ترك المستحب.

وهذا مثل جميع الأعيان والذوات الواقعة في الخارج كالشجرة والكتاب يقبل الزيادة والنقصان إذا تعين خارج الذهن؛ فتقول: هذه الشجرة كبيرة أو صغيرة، وكتاب كذا صغير أو كبير ونحو ذلك، ولا يدل ذلك على وجود ذاتي معين للمسمى نقيس به الزيادة والنقصان.

فقول الغزالي والزبيدي: " فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود في حد ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله.. " هو خلط بَيِّن بَيْن ما في الأذهان مجرداً وما في الوجود معينا، فهو كما لو قيل: الإنسان له وجود في حد ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله بين أن يكون طفلا أو رجلا، أو الشجرة أو الكتاب لكل منهما وجود في ذاته ثم بعد الوجود تختلف حاله في الصغر والكبر ونحو ذلك.

ص: 309

فمن الواضح أن (وجود هذه الحقائق في حد ذاتها) لا يزيد عن كونه تقديراً ذهنيا، وأن ما يوجد في الواقع لا يوجد إلا مقيدا موصوفا، فليس هناك وجود واقعي مطلق من كل قيد ووصف إلا في وهم فلاسفة اليونان ومن اتبعهم كالغزالي وأمثاله كما سيتضح في الفقرة التالية.

وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيع أن ننظر إلى تعريف السلف للإيمان وإلى ما هو أعظم من ذلك؛ وهو ما عرفه به النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه.

فالسلف حين قالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لم يقصدوا الخوض في هذه المتاهات الفلسفية أصلاً، ولم يريدوا بهذه العبارة حقيقة التعريف العامة فضلا عن أن يقصدوا التعريف المنطقي بالذات.

أي إنهم لم يقصدوا تمييز الماهية عن غيرها - كالعادة في عامة العلوم - فضلا عن أن يأتوا بحد خاص يصورها من حيث هي هي، كالشأن في المنطق.

وإنما غرضهم بيان حقيقته الشرعية ووصفها بما يظهر بطلان دعوى من زعم أنه اعتقاد مجرد لا يدخل العمل فيه، واشتقوا هذا البيان والوصف من فهم متكامل لنصوص الوحي فيه، ومن واقع حي عاشوه وتربوا عليه.

وإذ قد بينا الفرق الجوهري بين غرض فلاسفة اليونان - ومن اقتفاهم من المتكلمين - من التعريف، وبين غرض سائر أرباب العلوم والفنون منه - ومنهم قدماء المتكلمين -، فما بالك بالفارق بين غرض هؤلاء جميعاً وبين سلف الأمة الصالح؟

فأما تمييز الإيمان عن غيره، فلعمر الحق ما على وجه الأرض أعرف عند المسلمين من الإيمان - الذي هو دينهم - ولا بعد بيان الله ورسوله له بيان، ولقد كان عوام المسلمين قبل ظهور لوثة الفلسفة وبعدها أرفع عقلا من أن يسألوا عما يميز الإيمان عن غيره، أو يرتابوا في زيادته ونقصانه، وعلى هذا أكثر المسلمين ولله الحمد، لا يشذ عنه إلا من فسدت فطرته بالتفلسف والتمنطق، فما بالك بالصدر الأول وعلماء السلف والأجلاء؟!

ولولا هذا ما تواردت أذهانهم واتفقت كلمتهم في وقت واحد دون تشاور أو تواطؤ على عبارة واحدة كما ورى عنهم الإمام البخاري رحمه الله، قال: " كتبت

ص: 310

عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول " (1) .

وأما إن كان المراد من التعريف هو تصوير الماهية وإثبات الكليات المجردة خارج الذهن - على ما يزعمه هؤلاء - فهذا هو المحال بعينه، وقد نزه الله هذه الأمة - إلا من أبى - عن التكلف فيما لا قبل لها به.

والمناطقة من أولهم إلى آخرهم قد تكلفوا وضع حد منطقي لماهية الإنسان وحقيقته المجردة، واعتصروا أدمغتهم فلم يستطيعوا أن يأتوا بحد لا اعتراض عليه بينهم، وأشهر حدودهم هو - كما ذكرنا - "حيوان ناطق" وعليه من الاعتراضات ما لا يستطيعون رده (2) . فكيف يكون حالهم في الحقائق الشرعية المعنوية والغيبيات عامة؟! هذا مع أن الله سبحانه وتعالى قد أراحنا وهدانا وبين لنا الإيمان المطلوب منا ولم يكلفنا أن نبحث في ماهية مطلقة له، فكيف يظن هؤلاء أنه تعالى يرضى أن يردوا ما أنزل في كتابه وعلى لسان نبيه من الحق بما يرتبونه على إثبات هذه الماهية المختلفة (3) ؟!!

ولو أننا تنزلنا مع المناطقة أكثر من هذا لقلنا: إن المناطقة يقررون أن للسؤال أداتين هما: ما وأي؛ فالأولى للسؤال عن الماهية والحقيقة، والأخرى يسأل بها عن المميز عما يشاركه في الجنس.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب عن هذين السؤالين في الإيمان؛ ففي حديث وفد عبد القيس سألهم صلى الله عليه وسلم بنفسه: " أتدرون ما الإيمان؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة

" إلخ الحديث.

وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان - أو: أخبرني عن الإيمان؟ - وهما روايتان صحيحتان والمؤدى واحد؛ وهو تمييز الإيمان الخاص عن الإسلام الخاص فإنه سأله عنهما معاً، وكلاهما يشترك في اسم الدين كما قال في آخر الحديث:"هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم" أو "يعلمكم دينكم".

وعليه ترجم البخاري للباب بقوله: (باب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان

ثم قال: جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل ذلك كله دينا) .

(1) اللالكائي، القسم المخطوط، لوحة 165 ا.

(2)

منها أنه يصدق على الملك أو الجني كما يصدق على الإنسان، وانظر: الرد على المنطقيين ص57 - 58.

(3)

أي إنكارهم دخول العمل في الإيمان بناء على أنه ليس من الماهية!!

ص: 311

وقال البخاري عقب انتهاء الحديث: (جعل ذلك كله من الإيمان)(1) . أي الإيمان العام المرادف للدين.

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب من هو خالي الذهن عن حقيقة الإيمان - أو في منزلة خالي الذهن - بالجواب المعروف (2) الذي لا علاقة له قط بالجواب المنطقي - الذي ينتج عنه تصور الماهية، والذي يذكر فيه الجنس والفصل، أو الفصل وحده، أو الخاصة وحدها.. الخ - ومع ذلك حصل به المراد على أتم وجه وأجلى بيان.

ولم يكتف بعدوله عن ذلك، بل أعاد اللفظ المسؤول عنه في الجواب؛ فإن جبريل سأله:"ما الإيمان؟ " فأجاب: " أن تؤمن بالله.." وهذا مما لا يقره المناطقة؛ لأنه تعريف للشيء بنفسه يلزم منه الدور!!

فها هنا أمر عظيم وموقف خطير، وهو أن أحد التعريفين خطأ شرعاً: إما تعريف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما المتكلمين الجاري على قواعد المنطق!!

ونحن لا كلام لنا إلا مع من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وإليه نوجه السؤال! وأما الكافر برسالته فلا كلام معه؛ لأنه - على الأقل - لا يدعي أن تعريفه المنطقي تعريف شرعي، ولا أحد من المسلمين يتلقى عنه دينه، وهو كافر بما هو أعظم من هذا.

ولا مخلص للمتكلمين إلا بالإقرار بخطأ المنهج المنطقي - إن لم يكن في كل شيء ففي الشرعيات على الأقل - اللهم إلا أن يقولوا: أن كلامنا هذا فلسفة محضة لا علاقة لها بالشرع، وعليهم حينئذ أن يجردوا كتب العقيدة من هذا كله، وينفوا عن أنفسهم صفة الاشتغال بعلم التوحيد كما يسمونه.

وليت الأمر اقتصر على المتكلمين، ولكنه تجاوزهم إلى شراح السنة الذين تأثر بعضهم بهؤلاء، ونقلوا كلامهم في مباحث الإيمان وعارضوا به إجماع السلف - كما سيأتي مفرقا - ومنه هذه المسألة:

(1) فتح الباري (1/114)، وانظر: مسلم رقم 1

(2)

نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم هو كما يجاب المحدود بالحد. الإيمان، ص7، لكنه حد شرعي.

ص: 312

فإن الحافظ ابن حجر والطيبي والكرماني تأثروا بذلك - ربما بدون شعور - حين استشكلوا لماذا لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل بأنه التصديق!! وخرجوا ذلك بأنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه! أو أن في الجواب تضمينا للمعنى اللغوي! أو أن المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي (1)

فالمتمنطقون من المتكلمين - وهم أكثر المتأخرين كما سبق - افترضوا النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة أرسطو أو فرفريوس وهو يناظر السفسطيين!! والآخرون - ومن تأثر بهم من الشراح - افترضوه بمنزلة الخليل بن أحمد أو الأصمعي وهو يجيب الناس عن معاني الألفاظ اللغوية!

والله تعالى نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الخوض الفلسفي في المطلقات والماهيات المجردة وسائر مباحثهم، بل نزه أصحابه الذين جاء جبريل يعلمهم دينهم أن يكون فيهم من ينكر حقيقة الإيمان، بل كفار قريش وسائر العرب لم يعرفوا السفسطة، كما لم تعرفها أمة سوية على ظهر الأرض.

أما مجرد الشرح اللغوي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجل شأنا من أن يكون همه في مثل هذه المقامات العليا من التعليم؛ حيث الأمر يتعلق بأصل الدين وأسمائه، وأصحابه صلى الله عليه وسلم لا يحتاجون أن يتعلموا لغتهم، ولو أرادوا ذلك لأمكنهم من غير طريقه صلى الله عليه وسلم أو معها، كما أن مجيء جبريل عليه السلام أعظم قدرا من أن يكون لمجرد التعريف اللغوي.

فظهر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعليم الشرعي أجاب الجواب الشرعي الكامل الذي لا يجوز العدول عنه سواء ما ورد في هذين الحديثين أو في غيرهما كحديث الشعب، فلا وجه للاستشكال أصلا، وأن قول السلف:" قول وعمل يزيد وينقص " هي أصدق عبارة في الكشف عما تضمنته هذه الأحاديث مع الآيات من معنى، وأن ما أطال فيه المتكلمون من التفلسف وأرغمونا على الإطالة في رده لا يجوز التعريج عليه، وهذا ما نزيده إيضاحا بالفقرات التالية لهذه.

* القضية الثانية: وجود الأنواع خارج الذهن:

استحوذت السفسطة على تفكير أكثر الشباب الإغريقيين وأصبحت كأنما هي الفكرة المسيطرة على أثينا، وعز على أساطين الفلسفة والجدل وعلى رأسهم

(1) انظر: الفتح (1/117)

ص: 313

" أرسطو " أن يتسنم هؤلاء الشباب الأحداث ذروة الفكر ويظهروا بمظهر المنتصر في محاوراتهم ومجادلاتهم، وأن تتهاوى صروح الفلسفة الإغريقية أمام جدلهم القائم على فكرة واحدة هي التشكيك في المعارف البدهية إلى حد إنكار كل الحقائق الموضوعية (1) .

وضاق المسلك الجدلي في وجه الفلاسفة الكبار وهم يواجهون هذه الفكرة التي لا تبقي من نظرياتهم ولا تذر، واستجمعوا عقولهم لمحاصرة هذا الوباء وتحطيم غرور هؤلاء الشبان.

والواقع أن السفسطة لم تنشأ اختراعا من أصاحبها، وإنما من إفرازات مجتمع وثني حقت عليه الضلالة بانقطاعه عن نور الوحي وتعلقه بأذيال الخراصين، وأصولها مستمدة من الفكر الإغريقي نفسه؛ ذلك الفكر الذي قام على أساس نظرية " الجواهر والأعراض " أو " الذوات والصفات " إذ يجعلون لكل موجود "جوهرا" هو حقيقته وماهيته، و "أعراضاً" وهي صفات طارئة، ويتصورن الذات مجردة من كل صفة (2) !!

فما زادت السفسطة شيئا على أن جعلت الموجودات كلها في حكم الأعراض التي لا جوهر لها، ومن ثم أنكرت - أو شككت - أن يكون في إمكان العقل إثبات أى حقيقة جوهرية.

وإنما انتشرت هذه الفلسفة الحمقاء وطغت بسبب تهافت الفلسفة المقابلة، وقيامها على التخرصات والأوهام، وتناقضها الشديد. ففي حين ترى الفلسفة العامة أن الحقائق التصورية والتصديقية ثابتة في ذاتها، وأن اختلاف العقول في إدراكها أو تناقضها في الحكم عليها يعود إلى طبيعة التفكير الإنسانى ذاته، ترى السفسطة أن المشكوك فيه - حقيقة وأصلا - هو وجود هذه الحقائق، وأنه ما من شيء نفته الفلسفة إلا والاحتمال قائم بأن يكون إثباته أولى، والعكس بالعكس!

(1) انظر عن الصراع بين الطائفتين فصل " السوفسطائيون " من كتاب أحمد أمين وزميله: قصة الفلسفة اليونانية، والفصل الأول من الباب الثاني من كتاب يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية.

(2)

وعلى هذا الأساس اعتقدوا أن الله تعالى وجود مطلق يتجرد عن كل صفة ثبوتية، ومن هنا اتبعهم منكرو الصفات من الفرق الإسلامية - كل فرقة بقدر؛ فمنهم من أنكر الكل، ومنهم من أنكر البعض.

ص: 314

وكذلك ترى أنه ما من خديعة أثبتت الفلسفة أن الحس والعقل (1) يقعان فيها إلا ويحتمل انطباقها على ما تظنه الفلسفة قطعيات وبدهيات إن لم يكن ذلك يقين!

وقد دخلت السفسطة من ثغرة في التفكير البشري عامة وهى النسبية اللازمة له؛ فالعلم البشري - المحدود أبدا - لا يستطيع أن يتصور شيئاً غائباً إلا بالنسبة لشيء آخر مشاهد، بل ربما كانت معارفه كلها معتمدة على هذا وهو لا يشعر، أما إدراك كنه الذوات وحقائقها بإطلاق وتجريد، فإن لم يكن محالاً إلى الأبد فهو في كثير من الأشياء عسير للغاية.

ومن هنا رأت السفسطة أن إنكاراً جذرياً لكل الحقائق مهما قيل عن بداهتها كفيل بأن ينسف جميع الأسس الفلسفية التي تقوم - بطبيعة الحال - على الاستدلال على المجهول بالمعلوم، وقياس الغائب على الشاهد، واستنباط النتائج المتنازع فيها من المقدمات المسلمة، وبذلك تتفرد بالانتصار في هذه المعارك الجدلية الضارية.

وهنا لم يجد الفلاسفة الكبار بداً من البرهنة على ثبوت الجواهر أو الحقائق المطلقة استنقاداً للمعرفة من الانهيار، وفي دوامة البحث المضني تفتق عقل أفلاطون عن نظرية "المثال" التي تزعم أن لكل شيء في عالم الواقع نظيره المطلق في عالم المثال.

وكأن أفلاطون اعتقد أن رفع حقائق الأشياء من عالم الواقع إلى عالم المثال يجعله في منأى عن تشكيكات السفسطيين. وأثبت أفلاطون كليات مطلقة مثل "العقل الكلي"، و "النفس الكلية"، "العلم الكلي، وغير ذلك على أنها ماهيات وجودية في عالم المثال، وما يوجد في الواقع من آحاد العقول والنفوس هو أجزاء منها.

وجاء تلميذه أرسطو فأراد أن يضع منهجاً عقلياً للتفكير يجابه السفسطة فاستمد من أستاذه أصل الفكرة حين قرر أن الأفراد والأعيان الموجودة ما هي إلا أجزاء للوجود الكلي المطلق الذي هو ماهية هذه الأفراد وحقيقتها الجوهرية، وفي

(1) خداع الحس كرؤية القلم مكسورا إذا وضع نصفه في الماء، وخداع العقل مثل تصوره انه لو سقطت كرتان من الحديد من رأس برج عال فإن أثقلها تصل إلى الأرض قبل الأخف.

ص: 315

نظره أن إنكار السفسطيين لحقائق الذوات المشخصة لا يرقى إلى القدح في وجود الماهيات المطلقة.

ومن هنا ظهرت لدى المؤمنين بفلسفته ضرورة التشبث بإثبات هذه الماهيات لتظل المعقل الأخير أمام هجمة التشكيك السفسطية.

وعلى هذه القاعدة بنى أرسطو ما يسمى "المنطق" - كما سبقت الإشارة - وفصل الحديث عن الكليات الخمس التي أهمها "النوع" الذي هو تمام الماهية، وهو الكلي المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب "ما هو" مثل: حيوان ناطق، في جواب "ما الإنسان".

وإثبات هذه الكليات لم يقتصر على مبحث التصورات، بل تعداه إلى مبحث التصديقات حيث اعتمد المنطق على "قياس الشمول" دون "قياس التمثيل (1) "، بل غالى المناطقة حتى أسقطوا قيمة قياس التمثيل بالمرة، واعتبروا التعريف بالمثال من أنواع التعريف الخطأ (2) .

تلك هي أصل قصة وجود الأنواع خارج الذهن عرضناها دون الإطالة بردها ونقضها (3) ، وحسبنا أننا رأينا كيف أن الفلسفة اليونانية المتخبطة قد عالجت جنون السفسطة - التي تنكر الحقائق الحسية - بعوج المنطق الذي لم يجد سبيلا إلى

(1) قياس الشمول: إثبات حكم الكل للجزء، وقياس التمثيل إثبات حكم النظير لنظيره، وهو المعروف في أصول الفقه، ومع تلازمهما فالأخير هو الأقرب للعقل والفطرة، بل هو الذي جاء به القرآن (في معناه العام) . انظر: الرد على المنطقيين، ص162،211، ومجموع الفتاوى (13/16/17)

(2)

وهذا أثر من آثار ردة فعلهم إزاء السفسطة؛ لأنه من قبيل الاستدلال بالذوات على الذوات، والسفسطة تنكر حقائق الذوات كلها، فأنكروا قياس التمثيل والتعريف بالمثال.

(3)

وحسبنا في الرد عليهم أمور:

1 -

أن هذا تخرص وتحكم اختلقته ظنونهم بلا أي دليل من وحي أو عقل.

2 -

أن الحدود التي أتوا بها لتصور الماهيات معترض عليها باعتراضات كثيرة، ولو وقفت المعرفة البشرية على ما يسلم لهم منها لكانت في منتهى الضآلة، فلا يثبت للبشر معرفة ولا علم.

3 -

أن التفريق بين الذاتيات الداخلة في الماهية والعرضيات اللازمة لها أمر متعذر أو متعسر باعتراف المناطقة (اليونان والمنتسبين للإسلام) ، ولهذا أقر كثير منهم بأن حدودهم إنما هي في الحقيقة رسوم !!

4 -

أن أذهانهم إنما تصورت ماهية مجردة لأي شيء - كالإنسان مثلا - من واقع معرفتها لآحاد الناس في علام الواقع، وهي معرفة سابقة للخوض في الماهية، فبإمكان السفسطي أن يقول إن هذا من الدور الممتنع؛ لأن موضع النزاع هو حقيقة الآحاد، فكيف تركبون منها حقيقة كلية بزعمكم ثم تستدلون بها على وجود الآحاد نفسها!!

وللمزيد انظر: الرد على المنطقيين، وخاصة الصفحات: من 14 - 15، 41 - 47، 76- 48، 317،318، والإيمان: ص 109، 387 - 390

ص: 316

إثبات البدهيات إلا باختلاق المعدومات وتكلف المحالات، وأحسن أحواله أن يعرف الجلي بالخفي (1) .

وكان الوضع الطبيعى أن تبقى هذه التخبطات العمياء رهينة بيئتها وحبيسة أرضها، فلا تفسد بها عقول بني البشر الآخرين، ولكنها - وهو الأمر المحزن حقا - أفسدت العقول والفطر التي استنارت بنور الوحي ونعمت بالعافية من هذه الأوبئة.

والمؤلم جدا أن يتطوع بعض المنتسبين للإسلام بنقل هذه الفلسفة والتعصب لها وتكدير صفو التفكير الإسلامي بها، فلو أنها جاءت نتيجة استعباد يوناني للمسلمين لكان للعذر مقال - مع أن أمة الوحي لا عذر لها في اتباع الضلالات - فكيف إذا أخذتها طائعة مختارة .

لقد نُقِلت هذه الفلسفة والمعركة بين المرجئة وأهل السنة على أشدها، فاستنصر بها أولئك المبتدعة في مسألة الإيمان بعد أن كان موضوعها الأصلى هو نفي صفات الله تعالى، ولكن "الجهمية" كانوا يجمعون بين نفي الصفات والإرجاء، ودار الزمان دورته وإذا بعقيدة الجهمية تصبح عقيدة الكثرة الكاثرة من المشتغلين بالعلم الشرعي، وإذا بأكثر متون العقائد انتشارا يبدأ بعبارة (حقائق الأشياء ثابتة والتشكيك فيها سفسطة)(2) ، وكأنها هي عقيدة للأثينيين من اتباع أرسطو، لا لمسلمين أتباع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم!!

جاء هؤلاء المرجئة فأثبتوا تلك الماهيات المطلقة التي اختلقها أفلاطون وأرسطو، وطبقوا كل نتائجها على موضع "الإيمان"، فكانت النتيجة القاصمة وهي أن أعمال الإسلام كله ابتداء من قول لا إله إلا الله وانتهاء بالنوافل، ما هي إلا عرض للإيمان وليس من ماهيته، وأنه من لم يأت بشيء من ذلك قط يدخل الجنة بسلام ولو بعد حين (3) .

(1) مثل تعريفات الفقهاء الجارية على المنهج المنطقى؛ كتعريف الصلاة بأنها: أفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، والزكاة بأنها: إخراج جزء من المال مخصوص في زمن مخصوص لطائفة مخصوصة، والصيام بأنه إمساك مخصوص في زمن مخصوص في زمن مخصوص عن أفعال مخصوصة، ونحو ذلك مما ظهرت فيه التجريدية بوضوح، ولو توقفت معرفة هذه المسميات على معرفته لكانت إلى الجهل أقرب.

(2)

كالعقائد النسفية.

(3)

تنبيه: ليس كل أحد من المرجئة أثبت وجود الماهية صراحة، ولكن من لم ينص على ذلك بنى كلامه على أساس ثبوتها فالنتيجة واحدة، وقد تركنا النقول خشية الإطالة، وسيأتي بعضها عند الحديث عن عدم اشتراطهم قول كلمة الشهادة.

ص: 317

* القضية الثالثة: تماثل أفراد النوع في الحقيقة والماهية:

علمنا مما سبق أن المنطق هو قواعد نظرية من اجتهاد رجل يوناني أراد به غرضاً معيناً - هو الرد على السفسطة - وسواء وفق هذا الرجل في عمله أو لم يوفق فإنه من المبالغة القصوى والتقديس المتناهي أن يقال: إن ما وضع من رأي واجتهاد هو معيار المعرفة الإنسانية الذي تعصم مراعاته الذهن من الخطأ (1) ، والذي لا تستطيع بغيره أن ندافع عن ديننا ونصد هجمات الملحدين والمشككين، ولا فيما هو أعظم من ذلك وهو معرفة الحقائق الشرعية، ولا فيما هو أعظم وهو معرفة صفات الله تعالى ما نثبته منها وما ننفيه .

ولقد أصبح من الحقائق المقررة أن العلم البشري - جملة - له حدود لا يستطيع تجاوزها، وأن إخضاع عالم الغيب لما علمه البشر من عالم الشهادة - وهو ضئيل جدا - أمر في غاية الاعتساف والغرور، فما بالك بمن يخضع الوحي المعصوم والعلم الإنسانى بكامله لفكر رجل واحد عاش في أمة جاهلية قديمة كانت البشرية ما تزال تحبو في أدنى درجات العلم (2) ؟

غير أن الذي حصل في تاريخ الإسلام كان بخلاف هذه الحقيقة، وقد اجتمعت له أسباب كثيرة منها المؤامرات والدسائس الحاقدة، ومنها الاجتهادات المخطئة، ومنها المتابعة بلا بصيرة، ومنا الترف الفكرى.. إلخ.

وكانت النتيجة أن أخضع الوحي - منة الله الكبرى على العالمين ونعمته العظمى للثقلين - لآراء الخراصين وتوهمات المضلين، فأخضعت الحقائق الشرعية للمقاييس اليونانية، وصدق من يسمون علماء الكلام أن التصورات لا تنال إلا بالحدود على النحو الذي قرره أرسطو وفرفريوس. وطبقوا ذلك على الموضوع الأكبر الذي شغل الأمة منذ ظهور الخوارج وهو موضوع الإيمان (3)، فوضعوا سؤالا هو: ما الإيمان؟ وأخذوا يبحثون في جوابه على الأسلوب المنطقي الذي يقصد من التعريف " تصور الماهية " - كما سبق في القضية الأولى -.

(1) هكذا يعرف المناطقة المنطق.

(2)

من الثابت أنه لم تظهر قبل الإسلام أية دعوة إنسانية " عالمية " على الإطلاق؛ فإن دعوات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كانت إقليمية، فما بالك بأفكار المضلين من الفلاسفة وكهنة الديانات الوضعية؟

(3)

قد كان أكبر مسائل الخلاف حتى ظهر الخلاف في موضوع الصفات.

ص: 318

ومن طبيعة الحد أو التعريف أو القول الشارح - وهي ألفاظ مترادفة - أنه مفهوم كلي يندرج فيه كل ما يصدق عليه اللفظ المعرف، والنوع الذي هو أحد الكليات الخمس عندهم هو تمام الماهية، فمتى كان التعريف بالحد التام - أي المشترك الذاتي - "الجنس" والمميز الذاتي "الفصل" معاً حصل تصور تمام الماهية المعبر عنه بالنوع.

والخطأ الأساسي الذي وقع فيه أرسطو ويقع فيه كل المناطقة أنه - مع زعمه أن التصورات لا تنال إلا بالحدود - وضع الحد بناء على تصور سابق، وهذا هو "الدور" الذي يقولون بامتناعه؛ وذلك أن أرسطو نظر إلى آحاد الناس مثل زيد وبكر وعمرو وحلل صفاتهم مميزاً بين الذاتيات الداخلة في الماهية والعرضيات اللازمة والعرضيات غير اللازمة، واستخرج من الذاتيات الداخلة في الماهية - في نظره - ماهية الإنسان وحقيقته التي هي القدر المشترك من هذه الذاتيات وهي كما زعم " الحيوانية والناطقية " معاً (الصفة الأولى جنس والأخرى فصل) كما سبق.

ثم أثبت وجود هذه الماهية في الخارج أى في الوجود الحقيقي - كما في القضية السابقة - وهذه الماهية هي عنده وجود مطلق لا يوصف بالزيادة ولا بالنقصان ولا بأي صفة أخرى، بل كل من ينطبق عليه اسم الإنسان من الآحاد فهذه الماهية متحققة فيه على السواء بحيث أنه لو قلنا إن فردا من أفراد النوع أقوى من الماهية أو أضعف لكان هذا إثباتا لنوع آخر (1) .

ولهذا اعتبر أرسطو تمام الماهية هو التعريف أو الحد، وجاء المناطقة بعده وعلى رأسهم فرفريوس المتوفى سنة (303 م) فسموا تمام الماهية "النوع" والخلاف لفظي (2) . والمهم لنا هو أنهم عرفوا النوع بأنه (الكلى المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب ما هو)(3) .

فالقول باختلاف الحقيقة يتنافى وهذه الماهية (4) .

(1) لأن الذاتي لا يقبل الزيادة ولا النقصان بزعمهم، انظر: المثل العقلية الأفلاطونية، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، ص 136 - 139.

(2)

انظر المرشد السليم، ص61، وهامش ص 31.

(3)

المصدر السابق، ص858، وتسهيل المنطق، ص 30.

(4)

وهذا حق ولهذا ثبت لدينا بالشرع أن الحقيقة الإيمانية مختلفة بحسب الأفراد لم نثبت لهم ماهية مطلقة.

ص: 319

وهذا الخطأ نفسه بما فيه من "دور" وقع فيه المتكلمون حين أرادوا تعريف الإيمان متبعين المسلك المنطقى - أي تعريفه من حيث هو ذاته كما يقولون، فقد نظروا أولاً إلى ما يطلقون عليه اسم الإيمان من الآحاد على تفاوتهم واستخرجوا القدر المشترك بينهم - الذي اعتبروه الصفة أو الصفات الذاتية الداخلة في الماهية وجعلوا هذا القدر هو حقيقة الإيمان وماهيته المجردة.

وبعد أن تصوروا هذه الماهية وعبروا عنها كل بحسب لفظه، أخذوا يحكمون على أي فرد بأنه مؤمن بناء على وجود هذه الماهية لديه أو عدمها، ثم وصفوا هذه الماهية بما وصف به المناطقة النوع، فقرروا أن المؤمنين سواء في إيمانهم، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأن نقص الماهية عدم، وقبولها الزيادة دليل على النقص وهو عدم، فكذلك الإيمان شك، وقبول الزيادة يعني أنها ناقص فهو شك.

وهذا تفصيل ما أجملناه:

1-

الأفراد التي استخرجوا منها القدر المشترك "الماهية":

يطلق المرجئة اسم الإيمان على كل من هؤلاء:

أ - جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم " بدلالة الإجماع ".

ب - من أقر بالإيمان ولم يعمل شيئاً " بدلالة حديث الجارية بزعمهم "(1) .

جـ - من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه " بدلالة اللغة، ولأن الكلام عندهم هو الكلام النفسي "(2) .

وطبيعي أن بين هذه الدرجات في الإيمان درجات كإيمان أواسط الصحابة وإيمان الفاسق من أهل الصلاة، ولكن هذه المراتب الثلاث هي كالأركان نظرياً.

2 -

فلما أرادوا استخراج القدر الكلي المشترك ين هذه الدرجات ليتصوروا ماهية الإيمان وحقيقته مع حذف صفاتها العرضية، كان طبيعيا ألا يدخلوا الأعمال في الإيمان لأنها مفقودة بكاملها عند أصحاب الدرجة (جـ)

(1) التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لمولاها: " أعتقها فإنها مؤمنة " بعد إقرارها، وسيأتي تفصيل الحديث عنه وتخريجه ص 716 وما بعدها.

(2)

على ما سبق، وسيأتي في الفصل الذي بعد هذا.

ص: 320

واختلفوا في إدخال النطق باللسان الذي هو موجود عند أصحاب الدرجة (ب) لكنه مفقود عند أصحاب الدرجة (جـ) : أهو ذاتي داخل في الماهية أم لازم عرضي (1) .

3 -

ومن هنا جاءت حدودهم - أو تعريفاتهم - للإيمان خالية من ذكر عمل الجوارح، بل محصورة في عمل قلبي واحد هو التصديق أو الاعتقاد كقولهم:(الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بدليل) ، أو (التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوما بالضرورة) ، أو (اعتقاد صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به) ، وما أشبه ذلك مما تجلى عند ذكر نصوصهم في اشتراط النطق أو عدمه.

والمهم أن قاعدة (تساوى أفراد النوع في حقيقته وماهيته) التي استعاروها من المنطق وطبقوها هنا أفسدت عليهم تصورهم، وجعلتهم يعرضون عن كل النصوص الواردة في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه ودخول الأعمال فيه ويتعسفون في تأويلها حتى تسلم لهم هذه القاعدة.

ومن أخطر النتائج التي رتبوها على ذلك قولهم بتساوى إيمان الملائكة والأنبياء كجبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمان الفساق المنهمكين في الفسق بل وإيمان من لم يقل لا إله إلا الله بلسانه، وإنما صدق بقلبه بزعمهم.

وهذه النتيجة مع منافاتها للبدهيات الثابتة عند عوام المسلمين سطروها وقرروها بإطناب وإسهاب، فلما صدمهم اعتراض المسلمين التمسوا تقييدات واهية تغض من مقام النبوة أكثر مما ترفعه عن مستوى الانهماك في الفسق .

ونكتفي من كلامهم بنصين عن رجلين من كبار أئمتهم المتقدمين:

أبو بكر بن فورك: أحد كبار الأشاعرة المتوفى سنة 403هـ أو بعدها.

وقد شرح كتاب العالم والمتعلم المنسوب للإمام آبى حنيفة، وأطال في تقرير هذه القاعدة حتى استغرقت منه أكثر من عشر لوحات (2) بكلام فلسفي مجرد، نذكر

(1) انظر الخلاف بينهم في النطق بالشهادتين: أهو شطر أم شطرين؟ في مبحث حكم ترك العمل ص 491 حتى نهاية الباب.

(2)

اللوحات من 61- 71 من الشرح (مخطوط) .

ص: 321

منه ما نقله عن المتن المنسوب للإمام وهو:

"قال المتعلم: أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول: إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا؟

قال العالم: وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا، وقد حدثنا أن الإيمان غير العمل، فإيماننا مثل إيمانهم لأنا صدقنا بوحدانية الرب وربوبيته وقدرته بما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم. فمن ها هنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب الله تعالى ولم نعاينه " (1)

ثم شرحه مبيناً أن التصديق جنس واحد لا يفضل بعضه بعضاً، وعلل ذلك بقوله:

" لأن تصديق القلب هو الإيمان، فإذا اعتقد النبي صدق الله في أخباره، واعتقدنا صدقه في أخباره تعالى، كان جنس اعتقادنا بصدقه جنس اعتقاده بصدقه بلا تفاوت "(2)

ثم أسهب في بيان أن فضل الأنبياء في الإيمان على سائر الخلق إنما هو بالنظر للعاقبة والثبات، فإيمان الأنبياء معصوم عن الردة والكفر بخلاف غيرهم فاحتمال طروء ذلك عليهم قائم.

وأخيرا أجاب عن إشكال وارد وهو إذا كان إيمان سائر البشر كإيمان الأنبياء، فلماذا فضل الله الأنبياء عليهم في الأجر والثواب؟ ونقل ما في المتن ثم شرحه وهو:

" قال المتعلم: لحسن ما فسرت، ولكن أخبرني: إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل، أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم؟ فلم فضلهم علينا وقد استوينا في الإيمان في الدنيا واستوينا في ثواب الإيمان في الآخرة؟

وإن كان ثواب إيماننا في الدنيا دون ثواب إيمانهم، أليس هذا ظلماً إذا كان إيماننا مثل أيمانهم، ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم؟

قال العالم: قد أعظمت المسألة ولكن نثبت في الفتيا؛ ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل، ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة؛ لأن الله تعالى كما فضلهم بالنبوة على الناس كذلك فضل صلواتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء.

(1) لوحة 61- 62.

(2)

لوحة62- 63.

ص: 322

ولم يظلمنا ربنا إذ لم يجعل لنا مثل ثوابهم؛ ولكنه كان إنما يكون الظلم إذا أنقصنا حقنا فأسخطنا، فأما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا وأعطانا حتى أرضانا فإن ذلك ليس بظلم " (1) .

2-

أبو المعالي الجويني: كبير الاشعرية في عصره وشيخ أبي حامد الغزالي (2) .

يقول: " فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا: إذا حملنا على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقا كما لا يفضل علم علماً (3) ، ومن حمله على الطاعة سراً وعلنا - وقد مال إليه القلانسي (4) - فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا مما لا نؤثره .

فإن قيل: أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان منهمك في فسقه كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: النبي عليه الصلاة والسلام يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك واختلاج الريب.

والتصديق عرض (5) لا يبقى، وهو متوال للنبي عليه الصلاة والسلام ثابت لغيره في بعض الأوقات، زائل عنه في أوقات الفترات (6) ، فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من التصديق لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر.

فلو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان وأريد بذلك ما ذكرناه لكان مستقيما فاعلموه " (7)

وهذه النصوص تغني عما عداها، ومجرد الاطلاع عليها كاف في تصور فسادها والحكم بمخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول!

(1) لوحة 69.

(2)

توفي سنة 487هـ وقد ندم آخر عمره على الاشتغال بعلم الكلام، وألف النظامية التي صرح فيها باعتقاد أهل السنة والجماعة، ولكنه لم يفرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية في الصفات، فظن أن مذهبهم هو الأول.

(3)

أي في الماهية المجردة، أما في الآحاد والأعيان فالجويني وغيره معترفون بأن إمام مذهبهم "الشافعي" أعلم منهم وأن الناس أعلم من بعض

(4)

أبو العباس القلانسي أحد المتكلمين المنتسبين للأشعرى، لكنه موافق لأهل السنة في الإيمان، انظر: الإيمان لأبن تيمية، ص114.

(5)

وهذا أثر آخر من آثار الفلسفة اليونانية

(6)

ويمثلون لذلك بأوقات النوم والإغماء والغفلة حيث يزول العرض بزعمهم.

(7)

الإرشاد، ص 399 - 400.

ص: 323

وعلى مثل هذه الشبه الواهية اعتمد أتباعهم في الحكم على من يدخل العمل في الإيمان بأنه موافق لمذهب الخوارج (1) ، ناسين أن هؤلاء موافقون موافقة تامة لرأي الفلاسفة!

هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن المنطق في ذاته لا يقتضي بالضرورة إخراج العمل من الإيمان أو القول بأنه لا يزيد ولا ينقص، ونزيد هذا إيضاحا فنقول: إن المرجئة لو تركوا مبحث التعريف بالمرة، واكتفوا بما يذكره المناطقة في مبحث الأسماء (نسبة الاسم للمعنى) وهو قولهم أن:

" الكلي ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: المتواطئ؛ وهو الذي تستوي جميع أفراده في صدق الكلي عليها واشتراكها فيه، مثل إنسان ومثلث وشجرة

والقسم الثاني: المشكك، وهو الذي لم تتساو أفراده في صدق الكلي عليها، وذلك بأن يكون المعنى المقصود من الكلي أولى في بعضها من البعض الآخر، أو أقدم منه، أو أشد، أو أقوى، وذلك مثل الضوء فإنه في الشمس أقوى منه في المصباح " (2)

أقول: لو فعلوا ذلك واعتبروا الإيمان من القسم الأخير لأراحوا واستراحوا، لكن الذي حصل هو العكس فإنه لما فطن متأخروهم إلى هذا أخذوا يتعسفون في تخريجه كى يوافق المذهب، وخاضوا في "ماهية المشكك" فعاد الأمر إلى قضية الماهية التي لم يستطيعوا التخلي عنها!!

يقول صاحب المسامرة بشرح المسايرة: " (والحنفية، ومعهم إمام الحرمين (3) وغيره) وهم بعض الأشعرية، (لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي) أي تلك الجهات، (غير نفس الذات) أي ذات التصديق، (بل بتفاوته) أى بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات، (يتفاوت المؤمنون) عند الحنفية ومن وافقهم، لا بسبب تفاوت ذات التصديق.

(1) كما ذكر ابن الهمام في المسامرة، حين قال:" إن ضم الطاعة إلى التصديق هو قول الخوارج، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية ". انظر: المسايرة شرح المسامرة، ص14، وتبعه الزبيدى.

(2)

المرشد السليم، ص 49- 50.

(3)

هو أبو المعالي الجوينى، وقد سبق كلامه.

ص: 324

(وروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول مثل إيمان جبريل لأن المثلية تقتضى المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه) أي لا يقتضي ما ذكر من المساواة في كل الصفات، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضها!!

فلا أحد يسوى بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء من كل وجه، (بل يتفاوت) إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء، غير أن ذلك التفاوت (هل هو بزيادة ونقص في نفس الذات) أي ذات التصديق والإذعان القائم بالقلب (1) ، (أو) هو تفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات بل (بأمور زائدة عليها؟ فمنعوا) يعني الحنفية وموافقيهم (الأول) ؛ وهو التفاوت في نفس الذات " (2)

أقول: هنا أحس المؤلف بأن الاعتراض سيرد على كلامه عن مدى ضرورة التفريق، ولم لا يعتبر من قبيل المشكك ويلغي موضوع " النوع "؟

فقال: " فنحن - معشر الحنفية ومن وافقنا - نمنع ثبوت ماهية المشكك ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه يكون التفاوت عارضاً لها خارجاً عنها، لا ماهية لها ولا جزء ماهية لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها!!

و (لو سلمنا ثبوت ماهية المشكك) ، فلا يلزم كون التفاوت في أفراده بالشدة؛ فقد يكون بالأولوية وبالتقدم والتأخر!! (و) لو سلمنا (أن ما به التفاوت) في أفراد المشكك (شدة كشدة البياض الكائن في الثلج بالنسبة إلى) البياض (الكائن في العاج)(مأخوذ في ماهية البياض بالنسبة إلى خصوص محل) كالثلج، (لا نسلم أن ماهية اليقين منه) أي من المشكك.

(ولو سلمنا أن ماهية اليقين تتفاوت لا تسلم أنه) يتفاوت (بمقومات الماهية) أي أجزائها، (بل بغيرها) من الأمور الخارجة عنها العارضة لها كالإلف للتكرار ونحوه " (3)

(1) حتى الإذعان عندهم محله القلب، ولا يعنون به الامتثال والعمل.

(2)

ما نقلناه من كلام ابن فورك أوضح من هذا التفلسف في الدلالة على مذهبهم.

(3)

ص 18- 19، ويلاحظ أن الجملة الأخيرة المتعلقة بتفاوت اليقين هي رد على من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط، ثم قال مع ذلك: إن اليقين يتفاوت، كالنووي في شرح مسلم (1/146- 148)، وقد تنبه لذلك المحشي الآخر " قاسم " انظر: ص 219.

ص: 325

ولا نريد الاسترسال في نقل مثل هذا التفلسف ولا الرد عليه تفصيلا من جنس كلامه، وحسبنا أننا عرفنا مأخذ القوم وأصل قولهم!! ثم نكتفي في الرد عليهم بما أجمله شيخ الإسلام في نقض أصولهم وشبهاتهم مما هو في الحقيقة تفصيل وشرح لما ألزم به الإمام أحمد أسلافهم من قبل، إلا أن في كلام شيخ الإسلام زيادة تتعلق بالقواعد المنطقية التي عرضناها هنا.

يقول شيخ الإسلام في بيان أصول غلط المرجئة عامة:

" وهؤلاء غلطوا من وجوه:

أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص.

وليس الأمر كذلك؛ فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر الرسول مفصلا ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً.

فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول و (1) مات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيها من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر.

وأيضا لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقا وعملا على أشخاص ما لا يجب على آخرين " (2) .

(1) في الأصل: أو، وهو خطأ.

(2)

الإيمان، ص184- 185.

ص: 326

ويزيد ذلك إيضاحا - في موضع آخر - ببيان أن معارف القلب تتفاضل، وأعماله أيضا تتفاضل فيقول:

" إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب على هذا ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرا، وعلى أن يحتاج إلى العمل إن كان أمراً، وعلى العلم به إن كان علماً.

وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة ويعرف معناه ويعلمه؛ فإن هذا لا يقدر عليه أحد. فالوجوب مما يتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة (يعني قدراتهم) .

ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور، ومع الغفلة فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله كشف الريب.

ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله والتوكل عليه والصبر على حكمه والشكر له والإنابة إليه وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلا لا يعرف قدره إلا الله عز وجل، ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره وإما معاند " (1) .

أقول: وفي هذا الكلام الواضح البرهان ما يرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان لا يتفاوت مطلقا، أو من زعم أنه يتفاوت بأمور خارجة عن الماهية - كما سبق - فإن هذا ينفي تلك الماهية الموهومة أصلاً، ويبطل قاعدة استواء الأفراد في الماهية بالمرة، ثم إنه يبين فساد أصل عظيم من أصول الإرجاء.. وهو ما يشترطونه عادة عند تعريف الإيمان تعريفا منطقيا كقولهم:"التصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوماً من الدين بالضرورة "، أو " وثبت عنه قطعا "، وما أشبهها (2) .

(1) الإيمان، ص 319.

(2)

انظر مثلا شرح الجوهرة المسمى إتحاف المريد، ص5، والمسايرة شرح المسامرة، ص14، وكبرى اليقينيات، البوطي، ص3 - 35، وتبسيط العقائد الإسلامية، حسن أيوب، ص9.

ص: 327

فإنهم يشترطون فيما يؤمن به الثبوت القطعي أو العلم الضروري لأنهم يريدون تحديد ماهية الإيمان التي إذا نقصت ذهب الإيمان كله، ولا بد من تساوي أفرادها فيها كما سبق (1) .

ويعلمون أنهم لو أدخلوا الإيمان بالأعمال كلها في الإيمان للزمهم نفي الإيمان عمن لم يؤمن بالنوافل أو الواجبات التي لا يعرفها كل أحد، فينتقض عليهم التعريف من أساسه، فقيدوا ذلك بما ثبت قطعا لا بما ثبت آحاداً - بزعمهم - أو بما علم بالضرورة لا بما لا يعلم إلا بالتعلم والتنقيب.

وهذه القيود لا تعفيهم ولا تغنيهم؛ فإنهم يمثلون لما علم بالضرورة أو ثبت قطعيا بتحريم الخمر، فهل يلتزمون أن كل من لم يؤمن بتحريم الخمر كافر؟

لا أحسبهم يؤمنون بذلك واقعا وإن سطروه نظرياً؛ فإنه من المعقول جدا أن يكون بعض المسلمين في أطراف الأرض - لا سيما العجم - لم يبلغه هذا التحريم قط، وهو ذلك مؤمن بما بلغه من الإيمان المجمل وأداء الفرائض، فهل يكفرون مثل هذا؟!!

فإن لم يكفروه - وهو ظني بهم - فيلزمهم بطلان ما استحدثوه من تحديد للإيمان يشترطون تحققه في كل مؤمن، والرجوع عن كل ما تركه المنطق في مباحثهم من آثار وأصول.

ولنتابع النقل عن شيخ الإسلام رحمه الله.. قال:

" وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم،، فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها، وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج.

(1) ولو أنهم جعلوه تعريفا للعقيدة أي أصل فقط لربما سلم لهم، لكنه ينقض مذهبهم؛ لأن الدين أعم من العقيدة وهم يريدون ماهية واحدة.

ص: 328

ومعلوم أن السواد مختلف فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان، وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق الذي يتصوره الذهن فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، ولكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان " (1)

ويزيد ذلك إيضاحا في (الإيمان) قائلاً: " وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث لا يقبل التفاضل، فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، فقلت له: قولك من حيث هو، كما يقال: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان، فيثبت لهذه المسميات وجودا مطلقا مجرداً عن جميع القيود والصفات، وهذا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا حادثا، ولا قائما بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانا لا موجوداً ولا معدوماً، ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج.

وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كأثر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن.

فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد وتقدير، وتقدير إنسان لا يكون موجوداً ولا معدوماً، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو وليست هي هي، وإذا اشتركوا في أمر كلي مطلق يكون في الذهن.

وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين، ليس هو الإيمان من حيث هو هو بل هو إيمان معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة.

والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانا مطلقا أو إنسانا مطلقا، أو وجوداً مطلقاً، مجرداً عن جميع الصفات المعينة له، ثم يظنون أن

(1) مجموع الفتاوى (7/513) .

ص: 329

هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد؛ إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره.

ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص المعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علماً وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصورا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصورة، ولا يكون في الخارج.

وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعداداً مجردة وحقائق مجردة، ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزمانا مجرداً عن الحركة والمتحرك، وبعداً مجرداً عن الأجسام وصفاتها، ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج.

وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحداً، فتارة يجيئون إلى الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين.

والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاءوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخرى، وجعلوا الصفة هي الموصوف.

وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحداً، وفي كونه متماثلا، كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل التوحيد والصفات والقرآن ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته، سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً" (1) .

وهذا الكلام النفيس على درجة من العلمية لو تأملها الفلاسفة والمناطقة (شرقيين وغربين، قدامى ومحدثين) ، وأصحاب وحدة الوجود، ومنكروا الصفات والمرجئة؛ لكانت كافية في إقامة الحجة على الجميع، فرحمه الله رحمة واسعة.

(1) ص38- 390

ص: 330