الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»
تعد الفترة السابقة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم (ق6 و7 م) من أحلك القرون في تاريخ الجماعة الإنسانية وأكثرها ضلالاً وضياعاً. ولهذا استحقت المقت من الله تعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"(1) .
فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة والوثنيات الكالحة والأنظمة الطاغوتية، وكان هذا العالم ينقسم قسمين كبيرين:
1-
القسم البدائي.
2-
القسم المتحضر.
أما القسم الأول: وهو يشمل الشعوب الهمجية التي تقطن غرب أوروبا ووسط آسيا وشرقها ومعظم إفريقية. فحاله غني عن الشرح والبيان، وهو إلى حياة السوائم أقرب منه إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة.
والنماذج الباقية منه الآن تعطي صورة مصغرة منه للحال التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر.
وأما القسم الأخير: فأبرز من يمثله الدولتان العظيمتان "فارس والروم"، وكلاهما كان يخضع لنظام طاغوتي استبدادي، ويدين بدين باطل منحرف.
فالفرس يدينون بالمجوسية، والروم يدينون بالديانة التركيبية التي أسسها بولس وأظهرها قسطنطين "المسيحية".
والنظام الاجتماعي في الدولتين كلتيهما من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.
(1) هو جزء من حديث عياض بن حمار الآتي تخريجه قريباً.
وكان أعظم مظاهر الانحطاط في هذه الأمم - بل هو أصل الفساد كله، هو عبودية البشر للبشر، تلك العبودية التي نعاها عليهم منقذ الإنسانية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه لقيصر (1) ، وواجه بها ربعة ابن عامر قائد جيوش كسرى (2) ، سواء العبودية لطواغيت الخرافة والتدين، أو طواغيت الحكم والتسلط، وفي واقع دولة أهل الكتاب التي هي خير ما على الأرض حينئذ ما يوضح ذلك.
فالطبقات السفلى تعبد العليا والكل يعبد الإمبراطور، والدين يشرعه السدنة والأحبار والرهبان، والقوانين يسنها الأباطرة (3) والنبلاء، والجيوش الجرارة تحمي هذه الأنظمة الجائرة والأوضاع الظالمة أيما حماية، وما من مواطن إلا هو مستعد - طوعاً أو كرهاً - لإراقة دمه في سبيل ما أسموه "شرف الإمبراطور والوطن" كما هو خاضع في عقيدته وتدينه لما يشرعه رجال الدين.
أما الشعوب، الخاضعة لحكم هاتين الدولتين - ومنها سكان العراق والشام ومصر فقد كانت ترزح تحت نير الاستبداد الغاشم والجبروت القاهر، وحسبك أنهم كانوا كالعبيد لعبيد الإمبراطورية.
أما عقائدهم الدينية فيجب أن تكون تبعاً لما تقرره مجامع روما أو القسطنطينية وإلا فالإبادة والاستئصال وقرارات اللعن والحرمان من الجنة.
ويقرب من حال هاتين الدولتين الهند، إلا أن دينها أكثر إسفافاً، ونظامها الطبقي أشد بشاعة.
وأما عرب الجزيرة فهم خاصة في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى حال الشعوب الهمجية المذكورة في القسم الأول، لولا ما خصهم الله به من ميزات إرهاصاً لحمل الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.
والحاصل أن العالم البشري (4) كله كان يعيش واقعاً رهيباً لا يتصور بأي حال من الأحوال إصلاحه من داخله، أي من خلال حضارته وثقافته وحكمته.
(1) أنظر نص الكتاب في صحيح البخاري (1/32) .
(2)
أنظر: البداية والنهاية (392) بل واجهه بها المغيرة بن شعبة كما في الصفحة نفسها.
(3)
كان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم موافقا لعصر الإمبراطور (جستنيان) صاحب القوانين الرومية المشهورة باسمه، وهي الحقبة نفسها التي غيرت العقيدة والشريعة ابتداء بمجمع نيقية (325م) انظر عنها محاضرات في النصرانية (146) فما بعدها، طبعة الرئاسة العامة للافتاء (1404) هـ
(4)
وكذلك العالم الجني كما صورته سورة الجن.
فالقسم المتحضر - خاصة - لم يكن مفلساً من ذلك، بل كانت له فلسفاته وثقافته وتجاربه، وقد كان من بين أيدي أممه من مأثورات بوذا وبيدبا وأفلاطون وأرسطو وأردشير وبزرجمهر وأضرابهم الشيء الكثير (1) .
كما كان عند العرب من رصيد الحكم ومشهور الأمثال والعبر الذخر الوفير.
فقد كان لديهم دعاة السلم الصارخون كزهير، وأساطين الحكمة المجربون كأكثم، والوعاظ المنذرون بسوء المصير مثل قس بن ساعدة
…
ولكن هذا الواقع الضخم المظلم لم يكن ليتغير بالنظريات ولا بالحكم المجردة، بل إن النظريات الفلسفية خاصة لهى إحدى الدعامات الطاغوتية التي قام عليها هذا الواقع في مجال العقيدة والفكر.
أما الحكم الأخلاقية والعبارات التهذيبية مهما نمقها الحكماء وأرسلها الخطباء فهي أشبه بفقاعات في ذلك المحيط الهائج.
هذا في العالم الممقوت، وأما بقايا أهل الكتاب المستمسكون بأثارة نبوية فهم من الندرة بمكان، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال، ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم.
وأما الباحثون عن الدين الحق - على ندرتهم - فمنهم من قتله اليأس والكمد، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان لأنه لم يجد سواها (2) ، ومنهم من كتب له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية وهو غارق في متاهات البحث.
والمقصود أن هؤلاء كانوا أعجز وأقل من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام.
لقد كان العالم في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم.
وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» [الأنبياء:107] .
نزل هذا النور ليزيح هذا الواقع الكالح، ويرفع كابوسه عن الثقلين، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله، وتطمئن له الفطرة، وترتاح إليه العقول، وتتحقق فيه الكرامة
(1) هؤلاء من أشهر حكماء الهند وأوربا والفرس على الترتيب.
(2)
من هؤلاء ورقة بن نوفل، وقد تنصر: البخاري (1/23)، وعمرو بن زيد بن نفيل وقد بقي على ملة إبراهيم: البخاري (7/142)، وممن أدركته رحمة الله سلمان الفارسي رضي الله عنه: انظر: الفتح (7/92) .
الإنسانية التي لا تتحقق أبداً إلا بالعبودية الخالصة لرب العالمين والانخلاع الكامل عن عبودية المخلوقين.
ومعنى هذا ومقتضاه أن تلك الإمبراطوريات، وتلك المعتقدات، وتلك الأوضاع، والتقاليد، وتلك الأنظمة والقوانين، وتلك الفلسفات والثقافات، سوف تجتث من جذورها وتستأصل من عروقها، سواء في واقع الأرض أو في واقع النفوس، وأن ما زوى الله لحبيبه محمد من الأرض (1) سوف يتطهر من هذه الأرجاس والأديان ويستضيء بنور الهدى والفرقان.
ومعنى هذا أن تلك الجيوش الإمبراطورية الجرارة التي عجز بعضها عن سحق بعض، لا بد أن يظهر مقابلها جيش إيماني يسحقها جميعاً.
ومن معناه كذلك أن نفوس الملايين من البشر الذين توارثوا تلك الضلالات والخرافات، وأشربوا في قلوبهم آثارها المدمرة، لابد لها من تزكية ربانية تحرق الشبهات، وتحطم الشهوات، وتستأصل الأمراض المتغلغلة، والضغائن المتأصلة، والالتواءات النفسية العميقة.
وهذا عمل ضخم هائل، لا يدرك حقيقة ضخامته إلا من أدرك ضخامة هذا الواقع الأرضي الثقيل الطاغي في مقابل رجل واحد، ثم قاس ذلك بمعاناة الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم مع أممهم.
فهذا نوح عليه السلام يدعوا قومه ألف سنه إلا خمسين عاماً بنص القرآن، ثم لا يؤمن معه إلا قليل بنص القرآن أيضاً، وهذا القليل - مع اختلاف الأقوال في تحديده - لم ينقل أنه زاد عن مائة نفس (2) .
وكثير من الرسل بعده كانوا كذلك، بل كان منهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومنهم من لم يتبعه أحد (3) .
وهذا وهم إنما بعثوا إلى أقوامهم خاصة، فكيف بمن بعث للثقلين عامة وأمر بمجاهدة الدنيا قاطبة، كما ورد في الحديث الجامع العظيم الذي رواه عياض ابن حمار رضى الله عنه، ومنه: "وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل
(1) حديث: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها": مسلم رقم (2889) .
(2)
انظر: ابن كثير (4/255) .
(3)
كما في حديث: "عرضت على الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد.." مسلم رقم (374) .
الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك" (1) .
إن هذا الحديث يعطي فيما يعطي من دلالات: اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وعبء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية - ومنها سنة اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض - مع سنة العهد الرباني بنصر أوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في النهاية.
وهنا نحتاج أن نقف وقفة طويلة لنستجلي الإيمان بالعمل، والعقيدة بالحركة، من خلال مسيرة هذا الدين الواقعية ووجوده المادي في الأرض.
إن الإعداد لتلك المهمة الضخمة - المشار إليها - يبدو ظاهراً جلياً في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جد ونصب، وكله صبر وابتلاء.
1-
فمنذ اللحظة الأولى لنزول هذا الدين تأتي الشدة والإجهاد في معاناة تلقي الوحي، وتبدأ المخاوف والنذر الثقيلة لمستقبل من يحمله.
فقد روت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن "أول ما بدئ به الرسول من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال:«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت
(1) رواه مسلم رقم (2865) ، وقد سبق أوله، ص 25.
خويلد رضى الله عنها، فقال:"زملوني، زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: "لقد خشيت على نفسي". قالت: خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى.
فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟ "
قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي" (1) .
فمن المعاناة الصعبة في تلقي الوحي إلى السنة الربانية "لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"(2) ، جاء الإيذان بأمر عظيم منتظر.
2-
ثم بعد فترة الوحي هذه التي هي كأنما هي فترة استقرار لروع النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك المفاجأة الكبرى، تأتي خطوة- أو جولة- أخرى تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:
"بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله تعالى: «يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) » الآيات"(3) .
(1) الفتح (1/23) .
(2)
يقول تعالى: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً) .
(3)
الفتح (1/23) .
وهي آيات كلها - كما ترى - أوامر سريعة متلاحقة، تأمر بالمبادرة والمفاصلة والصبر، وتنقل صاحب الشأن من هدأ الروع النفسي إلى ميدان الإنذار الأكبر للعالم أجمع.
ومنذ أن نزلت «قم فأنذر» قام صلى الله عليه وسلم قياماً جهادياً متواصلاً دائباً، نازل به قومه والعرب قاطبة، واليهود ثم الإمبراطورية الرومانية
…
فكان كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالفني.."(1)
3-
بعد ذلك - وما هو منه ببعيد - نزل الأمر بالقيام مرة أخرى ومعه مهام جديدة، فقد نزل مطلع سورة المزمل:
«يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً (5) إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً (6) إن لك في النهار سبحاً طويلاً (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً (10) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً (11) إن لدينا أنكالاً وجحيماً
…
» الآيات.
وهذه السورة تعطي - أبرز ما تعطي - الزاد الأصيل الذي لابد منه لمن يريد حمل هذه الدعوة ومقارعة العالمين بها، ذلك هو زاد الصلة القوية بالله، والتزكية الروحية بالتقرب إليه، ومناجاته في أرجى ساعات المناجاة وأصفاها.
وامتثل النبي صلى الله عليه وسلم كالعادة - وتزود بهذا الزاد الزكي، وشاركه في ذلك صحبه الكرام.
فقد روى الإمام أحمد ومسلم - رحمهما الله - من حديث سعد بن هشام - ضمن قصة جديرة بالإطلاع أنه سأل عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: "ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً،
(1) سبق تخريجه قريباً، ص 31.
وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة" (1) .
وفي روايات لغيرهما أنهم قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم أو انتفخت (2) ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر على ذلك ـ التزاماً من عند نفسه - فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً"(3) .
4-
وصدع رسول الله بالدعوة، وسفه أحلام المشركين وعاب آلهتهم، فثارت عليه قريش ثورة رجل واحد، وأثارت معها العرب قاطبة، ولقي صلى الله عليه وسلم من الأذى والبلاء صنوفاً وألواناً. من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه حين قال:"سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل إليه أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"(4) .
5-
ومشهد آخر للأذى التي تتورع عنه النفوس الطاغية الدنيئة يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه - وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة! - قال: فجعلوا يضحكون ويحيل - أو يميل -، بعضهم على بعض"(5)
6-
هذا عدا الأذى الأكبر من تكذيبه وهو الناصح الأمين، والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب شديد، وعدا ما افتراه عليه قومه ونبزوه من ألقاب الزور؛ كقولهم: إنه شاعر أو كاهن أو مجنون، أو يتلقى
(1) مسلم رقم (746) ، المسند (6/53- 54) .
(2)
هذه الروايات جمعها ابن كثير عند تفسير هذه السورة (8/280- 288) .
(3)
البخاري (8/584) ..
(4)
البخاري (7/165) ، ونقل الحافظ عن غيره روايات فيها تفصيلات أكثر.
(5)
الفتح (1/349) .
الوحي عن بعض الأعجمين، أو اكتتبه من أساطير الأولين وأعانه عليه قوم آخرون، وغير ذلك مما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، وهو بلا شك أشد وقعاً على النفوس البريئة من ضرب السيوف ووقع النبال.
ولهذا طمأنه ربه وصبره وسلاه فقال: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» (1) ، أي مهلكها بالحزن والأسف.
7 -
وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن مشهد من مشاهد الأسى القاتل والأسف البالغ حين يبلغ الحد بالإنسان أن ينسى نفسه في غيبوبة الهم والحزن، قالت عائشة رضي الله عنها، يا رسول الله: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل (4)، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال
(1)[الكهف:6]
(2)
[فاطر:8]
(3)
[الأنعام:33]
(4)
هذا الحديث يدل على نزول الملائكة في السحاب، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث عائشة رضي الله عنها؛ "أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوجه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم": (6/304) . وهذا يبين أن استماع الشياطين لا يستلزم صعودها إلى جرم السماء نفسه. والله أعلم.
النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" (1) .
8 -
وقد عاني أصحابه رضي الله عنهم أشد المعاناة، وما تعذيب آل بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك، بل إن الأذي يصل إلى أشراف القوم من أمثال الصديق رضي الله عنه.
ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث في أرواحهم الأمل، ويذكرهم بسنة الله في أنبيائه والدعاة إليه على النحو الذي رأيناه مع ملك الجبال.
فقد روى البخاري في باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين عن خباب رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه (2) فقال:"لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله - زاد بيان - والذئب على غنمه"(3) .
9 -
وبلغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي الذي ضربته قريش ظلماً وعدواناً على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن عطف عليهم من قرابتهم.
قال الزهري: "ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية.
فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى
(1) العجيب أنه في لحظة إفاقته من هذا الموقف الكريب ترتقي نفسه الكريمة إلى أعلى درجات التسامح والعفو والأمل، فلله من نفس ما أكرمها، ومن خلق ما أعظمه. والحديث في الفتح (6/313) .
(2)
اختلف الشراح في سبب احمرار وجهه صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن سببه التأثر في استعجال الصحابة رضي الله عنهم للنصر المشعر باستيطائهم لوعد الله مع ما أمروا من الصبر واليقين.
(3)
(7/165) .
يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق؛ لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنوا هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه؛ يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم الرسول صلى الله عليه وسلم..".
ثم ذكر تخوف أبي طالب من اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وما دبر لدرء ذلك من الحماية وما أصاب المسلمين من جهد.
وقال ابن إسحاق: "ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديداً" وذكر ما بلغ بهم من الجهد الشديد "حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع".
قال السهيلي: "في الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر، حتى إن أحدهم يضع كما تضع الشاه"(1) .
10 -
وصل الأمر إلى حد أن المسلمين لا يستطيعون دعوة الناس إلى الله، ولا يستطيع الداخل في الإسلام حديثاً أن يجاهر بذلك، كما يتجلى في قصة إسلام أبي ذر التي رواها عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: "لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني.
فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبا ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني مما أردت.
فتزود وحمل شنه له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه عليّ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح!! ، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي حتى أمسى،
(1) أنظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/80- 85) ، والسيرة النبوية لابن كثير (2/43- 72) ، والروض الأنف (2/101- 129) ففيها تفصيل قصة الشعب وما تخللها من أحداث، وأصل القصة في الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم:"حيث تقاسموا على الكفر"(7/83) ، (11/282) لكن ليس فيها ذكر الشعب، بل ذكر أن ذلك في الغزو. والله أعلم.
فعاد إلى مضجعه، فمر به علىّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأفاق فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء!!.
حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على علىّ مثل ذلك، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت! ففعل فأخبره، وقال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.
ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري".
قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيكم! ، فخرج حتى أتى المسجد، فنادي بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه. وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتهم من الشام عليهم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه" (1) .
هكذا كانت المعاناة وكان الجهاد قبل الهجرة بل قبل نزول الفرائض.
وهنا لا بد من وقفة سيأتي لها مزيد ببيان:
إن بعض السلف يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة" ونحوه من النصوص والروايات المطلقة على أن ذلك قبل نزول الفرائض (2)، وذلك ليردوا على المرجئة في قولهم: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، مستدلين بمثل هذه النصوص. وهذا أحد أوجه الرد عليهم، غير أنه لا يعني أن هؤلاء السلف كانوا يظنون أن الإيمان قبل نزول الفرائض كان مجرداً عن العمل، مقتصراً على تصديق القلوب وقول اللسان، فهذا ما لا يجوز أن يظن بهم وهم أعرف الناس بمعنى لا إله إلا الله وأعلمهم بهذه المعاناة الكبرى والواجبات الثقيلة التي
(1) البخاري (7/173) ، ومسلم رقم (2474) ، وهو في مسلم برواية أخرى قبل هذه أتم، وفيه زيادات مفيدة.
(2)
أنظر: الإيمان لأبي عبيد، ص 54، وأما استدلال المرجئة على أن الصلاة ونحوها ليست من الإيمان بدليل أنه وجد تاماً قبل فرضيتها فشبهة سيأتي تفصيل الرد عليها في موضعها بإذن الله.
تلقاها المؤمنون الأولون - وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الفرائض، وهو ما أفاض القرآن المكي في الحديث عنه تثبيتاً وتسلية وتوجيهاً وتذكيراً.
إن شهادة أن لا أله إلا الله لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي من أشق المراحل وأهمها. وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية وما موجبها؟
وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات، ومشقات أكبر وأعظم من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها.
1 -
من ذلك: فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
2 -
ومن ذلك: الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
3 -
ومن ذلك: فريضة الصبر على الأذى في الله، الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
وهذا ونحوه ما كان يعانيه بلال وهو يُسحب في رمضاء مكة وتلقى عليه الأثقال. وما يكابده سعد وهو يرى أمه تتلوى جوعاً، فيقسم لها لو أن لها مائة نفس فتظل تخرج نفسًا نفسًا حتى تهلك لما رجع عن دينه. وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأعظم بلاء تشهده أسرة مضطهدة. وهو ما واجه أبو ذر حين صاح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وغير ذلك كثير وكثير مما كان قبل أن تنزل الفرائض (1) !
(1) هذا مع العلم أن أصول الفرائض نفسها كانت مطلوبة؛ فقيام الليل كان فرضاً، وإنفاق شيء من المال كان فرضاً، وهذا قبل أن تفرض الصلاة والزكاة المعروفتان، وكذا أصل اجتناب المحرمات، وأصل الأمر بالمعروف وغيرها.
وغرضنا ليس ترجيح هذا الوجه من وجوه الرد على المرجئة، وإنما هو بيان خطأ المرجئة أو غيرهم في فهم كلام من رجحه أو قال به من السلف.
إن في إمكان الإنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالاً، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟ أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به إلى حد الإدمان؟
فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي وميزان جاهلي. ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها، ومراقبة شديدة لها، ولهذا رأينا النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها وليقطع العلائق التي طالما وثقها.
إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور إيماناً بدون تكاليف، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبنائهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟
11 -
وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى، حتى كانت الخطوة الفاصلة بالهجرة إلى المدينة، فاكتنفها من المصاعب والشدائد ما هو أشهر من أن يذكر، فقد كانت عيون قريش تلاحقه ورصدها يطارده، حتى قلبوا الجبال والمغارات إلى أن وقفوا على الغار نفسه الذي كمن فيه هو وصاحبه، وكانوا من العثور على فريستهم قاب قوسين أو أدنى.
قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في العار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه - وفي رواية أحمد: نظر إلى قدميه - رآنا، قال:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما"(1) .
ومع اليقين في وعد الله بالحفظ والتمكين لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم السنة الشرعية، فقد كانت هناك خطة محكمة فريدة تتمثل في اختيار الغار وتضليل المشركين بجهته، ثم كان ما تحدثت عنه عائشة رضى الله عنها بقولها: "ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال. يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج عندهما بسحر، فيصبح
(1) الفتح (8/325) ، والمسند (1/4) .
مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبو بكر منحة من غنم، فيريحا عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيره بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله صلى الله عليه سلم رجلاً من بني الديل فأمناه. فدفعا إليه راحلتيهما، وانطلق معهما عامر بن فهيره والدليل فأخذ بهم طريق السواحل" (1) .
وبقدر ما كانت الهجرة إلى المدينة ووضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً للدعوة، وخروجاً بها من مأزق الجمود والحصار الذي كان مضروباً عليها بمكة، كانت أيضاً بداية لمصارعة قوى جديدة، والعمل في محيط لا يقل عداء وصعوبة عن مكة، وإن تغير الموقف في الظاهر.
فقد كان على الدعوة أن تصارع العرب المشركين قاطبة - وليس قريشاً وحدها -، واليهود - أمكر خلق الله وأحقدهم -، والمنافقين - ذلك العدو الأرقط الجديد - وأن تحسب الحساب لمجابهة الدولتين العظمتين فارس والروم. وهذا يستدعي تكاليف باهظة وتبعات جديدة.
هذا كله وهو إلى جانب العبء الأساسي وهو تزكية هذه الجماعة المؤمنة، وإيجاد الترابط الإيماني المنشود بينهما، وإعدادها لحمل الأمانة العظمى.
ومنذ أن حمل النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة اللبن لبناء المسجد لم يزل بانياً لصرح ما شهد العالم الأرضي مثله حتى لقي ربه، فقد بنى - بأمر ربه وإذنه - أمة فذة ودولة فريدة تتقاصر دونهما أحلام الحكماء وتخيلات الشعراء.
لقد كانت الجماعة الأولى فذة في تركيبها ومنهجها ونموها وحركتها، كل ذلك لأن عين الله تعالى ترعاها ووحيه يربيها ويزكيها.
لكن كيف كانت التزكية؟! أهي الأوامر والنواهي وحدها أم التصورات الاعتقادية المجردة؟!. كلا بل كانت حلقات قاسية من المعاناة والتربية بالأحداث والتجارب والفتنة والابتلاء.
(1) الفتح0 (7/232) .