الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل
من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف: "الإيمان قول وعمل" هو أنه التزام وتنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة - بالقلب واللسان والجوارح - ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء - فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف - من هذا الوجه - بأنهم أهملوا إيمان القلب! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير.
وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله - فقد عمل (1) ، أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط.
ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول:
إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة "الدين" حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته:"الدين قول وعمل"، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية وسفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرؤون حقائقه كل حين.
فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان "قول" فقط - متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة - أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك - أول مرة - أرادوا
(1) انظر الخلال لوحة 106، ذكره الإمام أحمد عن شبابة بن سوار، وقال: إنه قول خبيث ما بلغه عن غيره، وانظر ترجمة شبابة في تهذيب الكمال.
ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضا.
ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم.
والحاصل أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر، كما سنفصل الحديث عنها ضمن فرق المرجئة.
وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين (الحنفية) ، فحينئذ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة (1) حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، وهذا ما سيأتي بسط الحديث عنه بإذن الله في الباب الخاص بالظاهرة وانتشارها.
وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم الناس في هذا على أقسام:
أ - منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل.
ب - ومنهم من صدق جملةً وتفصيلاً.
(1) انظر الإيمان الأوسط 543- 550، والفتاوى (7/582)، وانظر هنا: مبحث ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.
ج - ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق (مجملاً أو مفصلاً) ، ومنهم من يغفل عنه ويذهل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة، أو تقليد جازم.
قال: وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله وتعظيم الله ورسوله وتعزير الله ورسوله وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال.
فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة المعلول.
ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب (عمل) الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك" (1)
وقال بعد أن نقل عبارات السلف المذكورة في الفصل السابق: "وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد كقوله تعالى:«يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم» . (2)
وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله.
فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر".
قال: "وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب. ولا بد أن يدخل في قوله: "اعتقاد القلب" أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل: حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك.
(1) مجموع الفتاوى (7/672)
(2)
لأن الأصل فيمن قال بلسانه شيئاً أنه يكون صادقاً في التعبير عما في قلبه، وفي هذا احتراز من مذهبي الجهمية والكرامية، فالأولى جعلت الإيمان في القلب وإن خالفه اللسان، والأخرى جعلته باللسان وإن خالفه القلب.
فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح بإتفاق الطوائف كلها" (1)
وقد سبق ضمن كلامه الشبيه بهذا - في الفصل السابق - قوله" إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح".
وقوله: "فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً" وعند هذه العبارة علق المحقق بقوله:"وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله هو انقياده لما صدق به"
ويقول الإمام ابن القيم: "إن الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان، والعمل عمل القلب والجوارح، وبيان ذلك أن من عرف الله بقبله ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً كما قال عن قوم فرعون:
«وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» (2) .
وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح:
«وعاداً وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين» .
وقال موسى لفرعون:
«قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر»
فهؤلاء حصلوا قول القلب - وهو المعرفة والعلم، ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين.
وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده وينقاد لمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته والتزام
(1) الإيمان الأوسط (7/506)
(2)
في التعبير بالنفس لفتة عجيبة، فإن يقين النفس تصديق ومعرفة، أما يقين القلب فهو اليقين.
شريعته ظاهراً وباطناً. وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه (1) حتى يفعل ما أمر به، فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه" (2) .
والحاصل أن السلف وعلماء أهل السنة والجماعة في كل عصر إنما يستخدمون في منهج التفكير المنطق الفطري البدهي الذي ينقسم عمل الإنسان بحسبه قسمين: "ظاهر وباطن".
فالباطن: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمل الجوارح (3)
فعلى هذا قالوا: الإيمان قول وعمل، أي شامل للظاهر والباطن، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك ما هو معروف - بداهة وفطرة - من أن حقيقة الإنسان قسمان:"قلب وأعضاء"، وأعماله قسمان:"أقوال وأفعال"، فيكون أشمل عبارة أن يقال "قول وعمل بالقلب والأعضاء"، وهذا هو مراد السلف قطعاً، وإنما اكتفوا عن آخر القصد إلى المطلوب بإيجاز دون العروج على ما هو معلوم بداهة.
وبهذا يظهر أن عبارة "قول وعمل" على إيجازها جامعة مانعة، لا من جهة أنها حد منطقي - أي تعريف للماهية - ولكن من جهة أنها كشف عن الحقيقة وبيان لها.
ولذلك فإنني - بعد طول تأمل - أختار هذه العبارة وأفضلها على عبارة: "اعتقاد بالجنان وقول باللسان، وعمل بالأركان" ونحوها، على أن تشرح بما أوضحنا آنفاً. ومن أسباب الاختيار:
1 -
أنها المنقولة عن متقدمي السلف، مع إيجازها وشمولها.
2 -
أن العبارة الأخرى لا تسلم أيضاً من الفهم الخطأ.
(1) أي الكمال الواجب الذي لا تكون حقيقة الإيمان إلا به وبدونه لا تكون للإيمان حقيقة، بدليل أنه جعله ركناً والركن يلزم من عدمه عدم الماهية.
(2)
عدة الصابرين ص 129
(3)
يقول ابن القيم "الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره: قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه: تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن عن ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته". الفوائد ص 85
فإن فهم بعض الناس - المرجئة وغيرهم - أن "قول وعمل" تعني قول اللسان وعمل الجوارح دون قول القلب وعمله أمر تنكره البديهة وترده، ولكن العبارة الأخرى توقع في لبس قل من يفطن له ولا يستطيع كل أحد رده، وهو أن هذه الثلاثة - أي الاعتقاد والقول والعمل - منفصلة بعضها عن بعض بمعنى أن الطاعات - التي هي فروع الإيمان وشعبه - على ثلاثة أقسام: قسم قلبي وقسم لساني وقسم عملي (1) ، وعلى هذا قد يفهم أنه يمكن أن يتحقق في الإنسان ركنان من ثلاثة بأن يتحقق لديه الاعتقاد والقول مع عدم العمل بالكلية، وهذا الذي جزم السلف باستحالة وقوعه.
وبيان ذلك يتضح من خلال تأمل كلام أحد علماء السنة المحققين - وهو الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو من هو علماً وفهماً وإحاطة بأقوال السلف، فانظر إليه حين يقول - شرحاً لترجمة البخاري (وهو قول وفعل يزيد وينقص) : "فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى.
فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي.
والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط.
والكرامية قالوا: هو نطق فقط.
والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله.
وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم.. " الخ
فقارئ كلامه يفهم منه التناقض بين تعريفي السلف في موضوع العمل، فإنه في التعريف الأول:"قول وعمل" يعتبر ركناً، في حين أنه حسب التعريف الأخير:
(1) أي: وليس هناك تلازم حتمي بينها، وسنوضح إن شاء الله أن الإيمان حقيقته مركبة من هذه جميعاً في مبحث مستقل آخر الرسالة، وهذا الانفصال إنما قال به بعض المرجئة، فزعموا أن الإيمان جزء والفرائض جزء والنوافل جزء - كما نقل ذلك أبو عبيد - انظر الإيمان لابن تيمية ص 196
"اعتقاد وقول وعمل" ليس إلا شرط كمال فقط.
ويفهم منه - كذلك - أن الفرق بين المرجئة والسلف أن السلف زادوا على تعريف المرجئة "العمل" وجعلوه شرط كمال، وعليه فمن ترك العمل بالكلية فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، وعند السلف مؤمن تارك لشرط الكمال فحسب.
ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن تعريف المرجئة والمعتزلة أوجه من تعريف السلف، لأن المرجئة عرفوه بركنين والمعتزلة بثلاثة والسلف عرفوه - حسب فهمه - بركنين وشرط كمال، والتعريفات إنما تذكر الأركان لا الشروط، فضلا عن شروط الكمال.
والأهم من هذا ما سبقت الإشارة إليه من توهم انفصال هذه الأجزاء الثلاثة، بحيث يتحقق الركنان: القول والاعتقاد مع انتفاء العمل بالكلية ولا يزيد صاحبه عن كونه ناقص الإيمان، مع أن السلف نصوا على أن تارك العمل بالكلية تارك لركن الإيمان، لأن انتفاء عمل الجوارح بالكلية لا يكون إلا مع انتفاء عمل القلب أيضاً، فلا يصح أن نقول إنه حقق اعتقاد القلب وترك عمل الجوارح.
وسيأتي إيضاح لهذا في باب: "الحقيقة المركبة" الآتي آخر الرسالة، والمقصود هنا تفضيل العبارة المذكورة وبيان ما في الأخرى من إيهام لم يقصده قائلوها من السلف قطعاً، ولكن وقوعه لبعض المتأخرين يجعل عبارة الأكثرين هي الأولى بالأخذ والاتباع.
معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف:
ورد عن بعض السلف تفسير الإيمان بالتصديق، أو وصف الإيمان بأنه تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، ونحو ذلك (1) ، ولما كانت المرجئة - وخاصة الأشاعرة - يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي - على ما سنوضحه في بابه - وهم يعنون به مجرد التصديق الخبري الذهني، الذي هو نسبة الصدق إلى المخبر أو الخبر من غير إذعان ولا قبول، كما تقول لمن أخبرك إن وراء البحر قارة تسمى أمريكا: صدقت، أو من قال:"إن مساحة المربع = طول الضلع x نفسه": صدقت - لما
(1) منهم سعيد بن المسيب والإمام أحمد، وقد ورد مرفوعاً في إحدى روايات حديث أبي ذر الذي ذكر فيه آية «ليس البر أن تولوا وجوهكم» الآية، انظر الإيمان ص 279- 281،380
كانوا يرون ذلك ويعتقدونه، سرهم أن وجدوا في ظواهر بعض كلام السلف مثل تلك الألفاظ وأنزلوها على مذهبهم.
ومن هنا وجب إيضاح معنى هذين اللفظين في استعمال السلف، فنقول: إن السلف الذين استعملوا هذين اللفظين لم يخرجوا عما ورد به الكتاب والسنة من معنى.
1 -
فإن التصديق في الكتاب والسنة - بل وفي لغة العرب - ليس محصوراً في التصديق الخبري، وإنما ورد كذلك في التصديق العملي، أي تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى "التحقيق" ومنه قوله تعالى:
«وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا» [الصافات: 104- 105]
أي قد امتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمك بذبحه باستسلام وانقياد، فكأنه قد ذبحه فعلاً لأن المقصود هو عمل القلب وإسلام الوجه لله وإلا فالله غني عن ذلك، قال تعالى:
«لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم» [الحج: 37]
وقريب من ذلك قوله تعالى:
«فمن أظلم ممن كَذَبَ على الله وكَذَّبَ بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوىً للكافرين، والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون» [الزمر: 32- 33]
فإن أحد معانيها - وهو الأظهر - أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله - أي الإيمان - فهي التي كذب بها الكفار، ومن جاء بها من المؤمنين مصدقاً بها - أو مصدقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو المتقي (1) .
كما فسّر مجاهد الصدق بأنه: القرآن، والذي صدّق به: المؤمنون، قال:"أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون: هذا ما أعطيتمونا فعملنا بما أمرتمونا".
قال ابن كثير: "وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به"(2) .
(1) انظر: ابن كثير (7/89- 90) وقد نقل تفسير الصدق بالشهادة عن ابن عباس.
(2)
ثم قال: " والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير " أي: فلا منافاة بينه وبين قول من قال: إن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم والذي صدق به هم المؤمنون، لكن القول الأول أشمل وأظهر، راجع المصدر السابق.
ومنه قوله تعالى: «إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ» [الذاريات: 5] أي متحقق لا محالة.
ومنه قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» [الأحزاب: 23] أي وفوا به وحققوه عملاً.
ومن ذلك آية «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» التي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الإيمان بها كما سبق، حيث قال تعالى في آخرها:«أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» قال ابن جرير في تفسيرها: يعني تعالى ذكره بقوله «أولئك الذين صدقوا» من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية، يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم. ثم روى عن الربيع بن أنس أنه قال:"أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته: العمل، صدقوا الله".
قال: وكان الحسن يقول: "هذا كلام الإيمان، وحقيقته: العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء". (1)
وقال ابن كثير: "أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا"(2) .
وأما السنة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"(3) ودلالته على المراد ظاهرة.
وأما كلام العرب فكثير، ومنه قول كثير عزة - وهو ممن يحتج بكلامه - يمدح أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي
…
عملت فأضحى راضياً كل مسلم
(1) تفسير الطبري (2/101- 102)
(2)
التفسير (1/299)
(3)
البخاري (11/503،26)
وبهذا يتضح أن من قال من السلف: إن الإيمان "تصديق وعمل" فإنه يقصد التصديق الخبري المستلزم للإذعان والانقياد، فهي كعبارة:"قول وعمل" سواء.
ومثل ذلك قول من قال: "إقرار وعمل".
ومن قال منهم: الإيمان هو التصديق، فمراده التصديق العملي المتضمن للتصديق الخبري العلمي، وهو احتراز ممن يكذب بعمله ما يدعيه بلسانه. (1)
فمن الخطأ أن يظن ظان أن مرادهم هو مجرد نسبة الصدق إلى المخبر أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة أو العلم المجرد.
وأما الإقرار فكذلك، حيث ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:
وقد سبق القول بأن من أسباب ضلال المرجئة - وسائر الفرق - أنهم يرجعون في تفسير الحقائق الشرعية إلى كلام الناس - المحتج بهم وغيرهم - كاستدلالهم على أن الإيمان هو التصديق بأن الناس يقولون: "فلان مؤمن بالبعث أي يصدق"(2) .
وكذلك قولهم في الإقرار - حيث حسبوا أن المراد به في كلام المتقدمين - هو المعروف في كتب الفقه في أبواب "الإقرار والخصومات"، والذي يعني الاعتراف أو تصديق دعوى الخصم.
ولو أنهم رجعوا إلى الكتاب والسنة لوجدوا الأمر بخلاف ذلك، فإن لفظ الإقرار في هذه الآية يعني إنشاء الالتزام والإذعان، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية إن الإقرار على وجهين:
(1) ولهذا ورد في مواضع من القرآن - كما في التوبة والعنكبوت والأحزاب - تقسيم أهل الإيمان قسمين: منافقين وصادقين
(2)
وهذا دليل الباقلاني إمام الأشعرية. انظر: الإنصاف ص23. وسيأتي تفصيل كلامهم والرد عليهم
أحدهما: الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوها، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام: كما في قوله تعالى: «ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» ، وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال:«وإذ أخذ الله مثياق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري» فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول صلى الله عليه وسلم.." (1) .
فالإقرار بالمعنى الأول يقابل الإنكار والجحود، وكفر إباء وامتناع ككفر إبليس.
وبهذا يظهر ضلال المرجئة في فهم ألفاظ النصوص ومصطلحات السلف، وإلا فلو رجعوا للكتاب والسنة وعرفوا معنى الإقرار والتصديق فيهما ثم فسروا الإيمان بهما على الوجه الصحيح لما كان الخلاف بينهم وبين أهل السنة إلا لفظيا واختلاف الألفاظ وقع بين السلف كما سبق، ولكن ألفاظ المرجئة في الحقيقة إنما هي نتيجة لمنهجهم البدعي في التفكير والاستنباط والاستدلال.
(1) الفتاوى (7/530- 531) . ومثله بتوسع: الإيمان (379- 380) . وقد بين في الصارم المسلول حقيقة الإقرار واستلزامه للانقياد، ولعلنا نذكره في مبحث التولي عن الطاعة في الباب الخامس، وليراجع هنا لأهميته من ص518- 522 تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط بيروت.