الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن هنا أمام صيغة جديدة طلب فيها أبو طالب ربط حمايته للرسول صلى الله عليه وسلم بتقييد حرية الدعوة أو التخلي عن شيء من هذا الدين. فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم النصرة على هذا الأساس وتخلى عنها. وتراجع أبو طالب فوافق على الحماية والمنعة بدون قيد أو شرط.
ولا بد للإشارة أن هذا الأمر تم مع بقاء أبي طالب على شركه. ونفذ تعهده كاملا. قال مقاتل: كان رسول الله عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي سوءا فقال أبو طالب:
حين تروح الأبل فإن حنت ناقه إلى غير فصيلها دفعته إليكم، ثم قال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
…
(وابشر وقر بذاك عيونا)
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
…
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
ورغم كفره فهو لم يباد الإسلام بسوء ووضع إمكانياته وثقله في جانب الإسلام.
المرحلة الثالثة
وهي التي انضم فيها بنو هاشم وبنو المطلب صفا واحدا لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعته وذلك بدعوة رسمية وجهت لهم من أبي طالب قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري:
(إنهم أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فمنهم من فعل ذلك حمية ومنهم من فعل ذلك يقينا. (1)
(1) عن السيرة النبوية لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب [ص:93] ط دار العربية.
أما قضية القتل فقد طلبت علانية من أبي طالب حين طلب منه أهل مكة أن يسلم محمدا صلى الله عليه وسلم مقابل استلام عمارة بن الوليد فكالت جوابه: تعطوني ابنكم أغذيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه.
وهنا ظهر مستوى الأعراف والأحلاف الجاهلية التي كانت بمثابة القانون الحتمي عندهم لقد طالب بنو عبد مناف أربعة هم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس.
وكانوا في الأصل يمثلون حلفا واحدا ضد بني عمهم بني عبد الدار. هو حلف المطيبين وكان المفروض أن تكون عشائر حلف المطيبين صفا واحدا. وهي التي ركز عليها أبو طالب. غير أن عشيرتين لم تنضما لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم. من حلف المطيبين هما بنو نوفل وبنو عبد شمس. وقد ظهر هذا واضحا عندما قال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لأبي طالب عقب عرض المبادلة بين محمد صلى الله عليه وسلم وعمارة بن الوليد:
والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. فقال: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي. فاصنع ما بدا لك.
والمطعم زعيم بني نوفل. وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان زعيما بني عبد شمس. وقال أبو طالب وهو يعرض بهذا التخلي عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم:
أرى أخوينا من أبينا وأمنا
…
إذا سئلا قالا: إلي غيرنا الأمر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا
…
هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر
هما أغمرا للقوم في أخويهما
…
فقد أصبحا منهم وألفهما صفرا (1).
صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي يقود الحلف أو يفاوض فيه، ولكن أبا طالب دعا إلى نصرته ومنعته انطلاقا من هذه القرابة وهذا الحلف. وبقي بنو هاشم وبنو المطلب حلفا واحدا وراء الرسول صلى الله عليه وسلم أما بنو عبد شمس وبنو نوفل فقد تخليا عن النصرة، غير أنهما لم يعاديا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل أصحاب الحلف الآخر وعلى رأسهم بنو مخزوم وبنو عبد الدار وبنو عدي وبنو سهم.
لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بتعبيرنا المعاصر أن يجعل بني نوفل وبني عبد شمس على الحياد. ونجح في ذلك أيما نجاح. فقد خاض عتبة بن ربيعة، زعيم بني عبد شمس، في بداية الأمر حربا عنيفة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل أبي لهب، دون أن يرعى حرمة القرابة. ولكن عندما تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت اتخذ موقفا حياديا من الحرب ضده فقال: يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي. خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم. وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه!! قال: هذا رأي فاصنعوا ما بدا لكم (2).
وكان أبو سفيان الزعيم الثاني لبني عبد شمس يتهرب من المعركة بكثرة الأسفار خارج مكة ابتغاء التجارة. وهذا ما أشار إليه أبو طالب في قصيدة أخرى يعرض فيها بتهربه. المهم أننا أمام أعراف قبلية مرتبطة بحلف وثيق تخلى بعضهم عنه، واستجاب بعضهم الآخر. ولنذكر في هذا المجال أن الحلف كله
(1) السيرة النبوية لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب [ص:92].
(2)
تهذيب سيرة ابن هشام [ص:64 - 65].
كان لمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته، دون أي تنازل مبدئي يقدمه لهم؛ إنما كانت حصافتة السياسية وحنكته تدفعهم إلى هذه المواقف.
فلنقف قليلا أمام هذه الحصافة مع رواية ابن إسحاق المذكورة عن لقاء عتبة برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواية أخرى أوثق في مسند عبد بن حميد وأبي يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبه فقال. يا محمد، أنت خير أم عبد الله (يعني أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أنت خير أم عبد المطلب؟. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت. وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك. إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك. فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب. لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض في السيوف حتى نتفانى. أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش. وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغت؟! قال: نعم. فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم) .. حتى بلغ (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). فقال عتبة: حسبك حسبك. ما عندك غير هذا؟ قال لا.