الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي حدا بنا إلى اعتبار هذا الحلف مع أبي طالب هو أن أبا طالب كان يمثلهم، وهو الذي حمل العبء باسمهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافق على بذل الحماية باسم العشيرتين دون قيد أو شرط.
ولو عدنا قليلا إلى حلف المطيبين وكيف تم الصلح فيه على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقر هذا الحلف، حتى والإسلام عزيز منيع. فقد طلب علي رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع لبني عبد مناف الحجابة مع السقاية والرفادة فنادى عثمان بن طلحة وسلمه مفتاح الكعبة وعثمان زعيم بني عبد الدار يومئذ، وقال اليوم يوم بر ووفاء. هاك مفتاحك يا عثمان. خذوها تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن قيس بن عاصم: ما كان حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام (أي بين المسلمين). وفي رواية: ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة.
ولعل حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تطبيقا لبنود حلف الفضول الذي التقى عليه بنو هاشم وبنو المطلب وبنو زهرة وبنو تيم وكان أشدهم وفاء هذان الفرعان الكريمان.
جـ - حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطعم بن عدي
كانت وفاة أبي طالب بعد نقض الصحيفة بستة أشهر. وقد قلبت وفاته الموازين كلها فكثير ممن كان يشارك في حمايته أو يمتنع عن إيذائه حرمة ومهابة لشخصه. فمع وفاته بدأ الاعتداء العنيف على النبي صلى الله عليه وسلم وبدأت محاولات قتله.
وكانت وفاة خديجة في العام نفسه، لذلك سمي العام العاشر من البعثة عام الحزن. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب).
ولم يكن بقدرة العباس رضي الله عنه أن يفعل فعل أبي طالب، إذ ليس له من المهابة والطاعة والمكانة ما كان لأخيه. وفي لحظة عابرة تحركت النخوة في رأس عدو الله أبي لهب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا ابن أخي، وما كنت تصنعه وأبو طالب حي فاصنعه.
وكان لهذا الموقف وقع الصاعقة على قريش فشرعت بذكائها لتدمير هذا الحلف، ونجحت أيما نجاح عندما أوعزت إلى أبي لهب أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد المطلب.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، والموقف حرج جدا، فإما أن تستمر الحماية مقابل مهادنة بكلمة واحدة في دين الله ومساومة .. وإما أن تنهار الحماية كلها لو تحدث عن عبد المطلب بما لا يرضيهم. وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساوم على حساب العقيدة، ولو كان في ذلك حمايته ليبلغ هذه العقيدة
…
فقال لعمه أبي لهب: هو في النار. فقال أبو لهب: ما زلت عدوا لك أبدا. وعاد فانضم إلى معسكر قريش.
وأمام هذا التطور انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مكة لم تعد مكانا آمنا لتبليغ الدعوة. وبدأ يبحث عن مكان آخر. واختار ثقيفا في الطائف. وقد ذكر المقريزي أن ثقيفا كانوا أخواله. ولا ندري على أي شيء اعتمد في هذا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه. فقالوا: اخرج من بلادنا. وأغروا به سفهاءهم. فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به.
حتى اجتمع عليه الناس فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يرمونه بالحجارة. ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه .. وكان هذا في شوال سنة عشر من النبوة (1).
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم متجها إلى مكة. فقال له زيد بن حارثة وقد أقام بنخلة أياما: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ (يعني قريشا) قال: يا زيد، إن الله تعالى جاعل لما ترى فرجا ومخرجا. وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.
وسار صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحراء، وبعث رجلا من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره. فقال: أنا حليف والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو. فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطعم بن عدي: أأدخل في جوارك؟ قال: نعم. ثم تسلح ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا. ثم بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام. فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا فلا يهيجه أحد منكم. وانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته ومطعم وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.
وقيل: إن أبا جهل سأل مطعما: أمجير أنت أم متابع؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت.
(1) الرحيق المختوم للمباركفوري.
ولنستعرض هؤلاء الثلاثة الذين استجارهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ـ[أولهم]ـ: الأخنس بن شريق زعيم بني زهرة. وهؤلاء أخوال الرسول صلى الله عليه وسلم. والأخنس حليف بني هاشم. ولا بد لمن يجير أن يكون أصلا لا تابعا حسب قوانين الإجارة المكية.
وـ[ثانيهم]ـ: سهيل بن عمرو، وقد رفض الإجارة لأن بني عامر لا تجير على بني كعب، فلعلها أدنى منها نسبا. فكان لا بد من العودة إلي بني عبد مناف، فكان اللجوء إلى ثالثهم المطعم. والمطعم ممن قام بنقض الصحيفة، وممن تحسن موقفه بعد تقريع أبي طالب له، وهو زعيم بني نوفل بن عبد مناف. وإنه وإن كان جزءا من حلف المطيبين، فهو على مستوى واحد مع بني هاشم وبني عبد شمس وبني هاشم وبني المطلب.
ولم تكن هذه الإجارة مع ذلك بالأمر السهل، فلقد تحسب لها المطعم على أنها قد تجر إلى معركة، فعبأ ولده وقومه، وحضروا بسلاحهم إلى الكعبة، وكانت تظاهرة مسلحة مثيرة، فرضت الرعب في صفوف قريش، واضطرت أبا جهل لقبولها.
وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع للمطعم بن عدي، وعرف مدى الخطورة التي عرض نفسه وولده وقومه لها من أجله، فقال عن أسارى بدر السبعين يوم أسرهم: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له.
فرغم العداء الفكري فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق بين من يعادي هذه العقيدة ويحاربها، ومن يناصرها ويسالمها. إنهم وإن كانوا كفارا فليس من سمة النبوة أن تتنكر للجميل.
على أن هذا الحلف كان ضعيفا. لم تكن مهمته تحمل المسؤوليات الناجمة