المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌د - صور من الأحلاف لم تنجح - التحالف السياسي في الإسلام

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي البحث

- ‌ ابتدأت الحركة الإسلامية مسارها الأول

- ‌كانت المرحلة الثانية

- ‌ كانت المرحلة الثالثة)

- ‌أولا: الحلف لغة وشرعا:

- ‌ثانيا: الأحلاف في مرحلة الضعف

- ‌أ - حلف الفضول

- ‌ب - حلف المطيبين

- ‌حلف أبي طالب مع رسول الله

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة

- ‌المرحلة الرابعة:

- ‌عودة إلى الحلف السابق

- ‌جـ - حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطعم بن عدي

- ‌د - صور من الأحلاف لم تنجح

- ‌ثالثا: التحالف في مرحلة تأسيس الدولة

- ‌ بيعة العقبة الأولى

- ‌بيعة العقبة الثانية:

- ‌بنود البيعة:

- ‌التأكيد على خطورة البيعة:

- ‌اثنا عشر نقيبا:

- ‌شيطان يكشف المعاهدة:

- ‌استعداد الأنصار لضرب قريش:

- ‌قريش تقدم الاحتجاج إلى رؤساء يثرب:

- ‌تأكد الخبر عند قريش ومطاردة المبايعين:

- ‌ميثاق الدولة الجديد

- ‌الباب الأول

- ‌الباب الثاني

- ‌الباب الثالث

- ‌((الباب الرابع))

- ‌ ملاحظات

- ‌مع الباب الأول:

- ‌مع الباب الثاني

- ‌مع الباب الثالث

- ‌مع الباب الرابع:

- ‌أولا: ميثاق الجبهة الإسلامية

- ‌ثانيا: ميثاق عامة الشعب

- ‌ثالثا: ميثاق الفئات والتجمعات غير الإسلامية

الفصل: ‌د - صور من الأحلاف لم تنجح

عن الدعوة لهذا الدين. إينما كان حماية مؤقتة. والمطعم بن عدي وقومه عاجزون عن تأمين الحماية التامة. والذي طلبه النبي صلى الله عليه وسلم هو بالنص دخوله في جواره، لا ضمان حرية الدعوة له. أي حماية شخصه أكثر من حماية حرية الدعوة له.

من أجل هذا تابع النبي صلى الله عليه وسلم بحثه عن مكان آمن للدعوة، وقبيلة ذات شكيمة قادرة على حمايته ليبلغ رسالة ربه. وكانت الفرصة موتية، فلقد أهل موسم العام العاشر للبعثة، وأزف شهر ذي الحجة، وابتدأت مرحلة التوجه إلى قبائل أخرى غير قريش وثقيف، تكون قادرة على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ رسالة الله.

‌د - صور من الأحلاف لم تنجح

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن جهر بالدعوة بعد ثلاث سنين من البعثة يرتاد الموسم وأسواق العرب، ويدعو الناس للإيمان بالله. ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) ويدعوهم إلى نبذ الأصنام والأوثان أما في موسم العام العاشر فقد اختلفت الصيغة.

يقول المقريزي في (إمتاع الأسماع): ((ثم عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع)) وقد اقتص الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة. ويقال إنه صلى الله عليه وسلم بدأ بكندة فدعاهم إلى

ص: 30

الإسلام ثم أتى كلبا ثم بني حنيفة ثم بني عامر. وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟! هذا وأبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه فإنه كذاب.

إنها دعو صريحة بطلب الحماية من القبائل العربية لتبليغ دعوة الله عز وجل.

ويفهم من هذه الدعوة أنه ليس من الضروري أن تسلم القبيلة. إنما المطلوب أن تؤمن الحماية اللازمة له لتبليغ دعو الله عز وجل. كما أن الذين هيؤوا له الحماية من قبل لم يكونوا مؤمنين جميعا. بل كان أبو طالب على رأسهم ولم يدخل في الدين الجديد.

والقبائل التي عرض عليها الإسلام. وطلب منها النصرة في العام العاشر وبعده هي: بنو عامر وشيبان بن ثعلبة. وبنو كلب وبنو حنيفة وبنو كندة.

أما بنو حنيفة فلم يكن أقبح ردا منهم. وأما بنو كلب فقد أتى بطنا منهم. وقال: نعم. إن الله قد أحسن اسم أبيكم. فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. وأما بنو كندة فلم يقبلوا منه كذلك. بقي لدينا بنو عامر بن صعصعة، وبنو شيبان بن ثعلبة، وهما بيت القصيد في هذه الفقرة.

قال ابن إسحاق: (

وأنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إين نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا. لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه (1)

(1) المقريزي في إمتاع الأسماع.

ص: 31

وكان اللقاء الثاني مع بني شيبان: (وزاد قاسم بن ثابت تكملة للحديث قالك: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم. قال علي: وكان أبو بكر في كل خير مقدما. فقال: ممن القوم؟ فقالوا من شيبان بن ثعلبة. فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم. وفيهم مفروق بن عمرو وهاني بن قبيصة، ومثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. ومفروق قد غلبهم جمالا ولسانا وكان له غديرتان تسقطان على تريبتيه. فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر. فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد عن الألف. ولن تغلب الألف من قلة. قال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم حد. قال أبو بكر: وكيف الحرب بينكم وبين عدوكم. فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا مرة. لعلك أخو قريش؟

فقال أبو بكر: أوبلغكم أنه رسول الله فها هوذا؟. فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شر يك له وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق. والله هو الغني الحميد.

فقال مفروق: وإلام تدعو يا أخا قريشء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (1) الآية.

(1) - الأنعام - 151 -

ص: 32

فقال مفروق: وإلام تدعويا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى

} (1) الآية. فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

وكأنه أراد أن يشرك في الكلام هانئ بن قبيصة. فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش. وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي وقلة نظر في العاقبة. وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليه عقدا ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر.

وكأنه أحب أن يشرك في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا. فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك في مجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريان: اليمامة والسماوة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذان الصريان؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور، وعذره مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا. وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك. فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا

(1) النحل -90 -

ص: 33

إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذلك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (1).

ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي أبي بكر فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم.

قال ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبى صلى الله عليه وسلم وكانوا صدقا صبرا. هـ.

إن من نعمة الله علينا أن نجد بين أيدينا نصوصا عن أحلاف لم تتم، لأنها تكون هادية لنا على الطريق نتعرف من خلالها على ما يحل لنا وما لا يحل في مجال المعاهدات والأحلاف السياسية. ولو لم تتعثر هذه المباحثات، لم نتعرف على حدود الحركة السياسية النبوية التي نتوخى من خلالها حدود حركتنا اليوم.

أما المحادثة الأولى مع بني عامر بن صعصة، فقد تعثرت لسبب واحد هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدهم بأن يكون لهم الحكم من بعده. وهي التي جعلتهم يرفضون إيواءه ونصره كما قال زعيمهم بحيرة بن فراس: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك.

إنه لا بد من التفريق بين الأمر الواقع وبين إقرار المسلمين به وموافقتهم عليه. وأن يكون باسم الإسلام بعد ذلك. وليست القضية حكم أشخاص بذواتهم وأعيانهم في الإسلام. إنما هي حكم من ينفذون شريعة الله، وعندما

(1) - الأحزاب - 45 - 46

ص: 34

يدخل الناس في دين الله، ويحقق الله تعالى موعوده بالنصر فلا يحق لفئة مشركة أن تتسلط على الحكم والسلطة بحكم أنها كانت تناصر هذه الدعوة وتساندها. وكثيرا ما تواجه الحركة الإسلامية أثناء مسارها الطويل بفريق أو فئة أو دولة تساندها وتحالفها لفترة مؤقتة. وتشترط عليها لإيصالها للحكم أو مساعدتها في ذلك أن تكون شريكتها في السلطة، فيحكم الأرض بوقت واحد إسلام وجاهلية أو تعاقب بين إسلام وجاهلية باسم العقد أو الحلف وهذا مرفوض في الميزان الإسلامي.

يمكن للحركة الإسلامية أن تقبل حماية من مشرك في حالة ضعفها وعدم تمكنها. ولكن أن تعطي هذا العدو الحق في أن يسود ويحكم باسمها ومن ورائها ويستغلها مطية لمآربه فهذا مرفوض في الميزان الإسلامي.

وماذا نجد في المحادثات الثانية مع بني شيبان بن ثعلبة؟

لقد ابتدأ أبو بكر رضي الله عنه المفاوضات بعد أن عرف أنه مع زعماء بني شيبان لقد سأل عن العدد وعن المنعة وعن الحرب. وتوسم الصدق في الجواب من القوم فكان العدد يزيد عن الألف وكانت الحمية متوفرة، والاستعداد للقتال قائما، كما قال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلق، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله.

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد المنعة، فها هنا مكانها. وقريش لا تزيد عن الألف، ولقد أوعبت ألفا في بدر ولكن المفاوضات دخلت حلقة جديدة فلقد كان مفروق من الذكاء واللباقة ما جعله يكتشف من خلال الأسئلة أن السائل أخو قريش وصاحب مكة. وكان من العقل والحكمة بحيث تجاهل كل الأراجيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر أو

ص: 35

شاعر أو كاهن .. وتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن دعتوه ودينه.

نتعلم من إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم لمفروق فن الدعوة للعدو فقد بدأ بجلاء معالم الدعوة: (أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله) وهي مفرق الطريق بين الإسلام والكفر. وهي التي حاربتها قريش عشر سنوات ورفضت أن تقولها.

ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك، بل حدد هدف اللقاء، وهدف الأسئلة التي تقدم بها أبو بكر رضي الله عنه .. (وإلى أن تؤووني وتنصروني) ويعلل سؤاله إياهم ذلك بدل أن يسأل قريشا فيقول:( .. فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق. والله هو الغني الحميد).

ويبدو أن مفروقا اطمأن إلى هذا الحديث فأحب أن يستزيد فقال: (وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟) فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث عن غرة القيم والأخلاق التي تفتخر بها العرب، وإن كانت تخالفها في كثير من الأحيان، فقرأ قوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} الآيات.

فاللقاء وإن كان لمباحثات سياسية، فلا بد أن تحتل الدعوة إلى الله فيها المكان الأول وإن كسب القوم إلى الإسلام أكبر بكثير من حمايتهم لرسول الله وهم لا يؤمنون برسالته.

وزاد مفروق شغفا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستزاده: (وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش)؟.

ص: 36

واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية الجامعة المانعة الفذة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1).

وبذلك عرضت القيم الأخلاقية والسياسية الإسلامية. فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال. ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

فلقد صدق مفروق مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لا يستطيع أن يقطع في هذا الأمر فأحال الأمر إلى شيخهم وصاحب دينهم هانئ بن قبيصة. ولعل هانئا لم يجرؤ على اتخاذ خطوة حاسمة في أمر الإسلام أو أنه كان مقتنعا بدين الجاهلية أكثر من غيره، فتفلت من الأمر وأجله وسوف فيه وتذرع بالحكمة دون العجلة. وبذلك انتهت الخطوة الأولى دون طائل.

وآلم مفروقا هذا الموقف. وأحال هانئ الكلام على المثنى شيخهم وصاحب حربهم. ولا شك أن المثنى من ظاهر حديثه يبدو أنه قد تأثر بموقف النبي صلى الله عليه وسلم، وحاول أن يقطع فيما هو من اختصاصه، وقدم صورة كاملة في مجال الحماية ولخص الموقف بقوله: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. وذلك بعد أن أشار إلى أن هذه الدعوة والرسالة مما يكرهها الملوك.

وكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم في منتهى الحكمة والحصافة وبمنتهى الوضوح كذلك: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق. فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه.

وبذلك انتهت المفاوضات دون تحالف، لأن بني شيبان قدموا الحماية

(1) - النحل-90

ص: 37

حسب إمكاناتهم على العرب فقط. أما كسرى فلا، فلقد عاهدوه أن لا يحدثوا حدثا أو يؤووا محدثا. ولعل كسرى يغضب أشد الغضب لو علم بذلك .. فهو أمر تكرهه الملوك.

إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود فلن يخوض بنو شيبان حربا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله وتسليمه. ولن يخوض حربا ضد كسرى لو أراد مهاجمة محمد رسول الله وأتباعه. وبذلك فشلت المباحثات وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قلوب بني شيبان بأن حدثهم عن موعود الله بنصره وأنهم وراث الأرض من دون المشركين إن هم آمنوا بالله ورسوله وسبحوه. وهذا هو الهدف الوحيد البعيد الذي تحقق ليبقى طريقا مفتوحا للقاءات القادمة: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه: فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذلك.

ومن خلال هذه الفقرات الخمس نستطيع أن نحدد معالم هذه المرحلة والتي سميناها مرحلة الضعف في مفهوم التحالف السياسي الإسلامي.

1 -

والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه.

2 -

أأدخل في جوارك؟

3 -

أين عبد المطلب؟ قال: في النار.

4 -

الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء.

5 -

إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه.

ونصل من هذه الفقرات إلى المعالم التالية:

1 -

أي مفاوضة أو مساومة تنتهي بالتخلي عن هذا الدين أو تطالبنا بالساومة

ص: 38

على المبدأ أو العقيدة فهي مرفوضة، وكل تحالف يقود إلي هذه النتيجة بأن نقدم جزءا من إسلامنا ونتخلى عن الدعوة لشيء منه ونترك البعض الآخر بصفته شرطا يتوقف عليه التحالف هو مرفوض في الإسلام.

2 -

هناك فرق بين التخلي عن شيء من هذا الدين كشرط للمحالفة وبين أن أعرض الأمور العامة ذات الطابع المشترك بيني وبين العدو أثناء المفاوضات لتأليف قلبه فلقد عرض رسول صلى الله عليه وسلم كما قال مفروق مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

إن هناك فرقا شاسعا بين القدرة السياسية الفائقة في حسن العرض والأداء وحسن الاختيار لما أريد الدعوة إليه. وبين الشرط الذي يملي على المفاوض في عدم ذكر جوانب من هذا الدين أو إعطاء صورة مغايرة للحقيقة. فلقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفاوض عتبة بن ربيعة يسكت عن الإجابة عن سؤالين: أأنت خير أم عبد الله؟ أأنت خير أم عبد المطلب؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الثقلين بلا منازع، ولكن الإجابة عن هذين السؤالين يبعدان الهدف المقصود للرسول من إبلاع الدعوة لعتبة.

ولقد أجاب عتبة عن هذين السؤالين لنفسه بأن عبد المطلب وعبد الله خير من محمد ومع ذلك عبدا هذه الآلهة. ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد شيئا إنما اكتفى بأن يتكلم بعد أن أنهى عتبة حديثه. مع ملاحظة أن عتبة عندما انصرف من عند رسول الله لم يأخذ رأيا عن أن هذه الآلهة حق، إنما انصرف برأي هو إعجاز هذا الدين الذي يدعو إليه محمد ولا بد أن يكون له النصر.

3 -

وهذا يقودنا إلى الفقرة الثالثة. أين عبد المطلب؟ قال في النار.

عندما يكون الأصل في التحالف السياسي هو النجاح أو تحقيق فوز

ص: 39

على العدو. أو بتعبير أدق عندما يكون الميزان هو أن الغاية تبرر الوسيلة بإطلاق فيعتبر الوقوف عند هذه الجزئيات خطأ سباسيا. أما عندما يكون الهدف هو انتصار الدعوة والعقيدة فالتخلي عن جزئية واحدة منها هو تخل عنها كلها. ومن حقنا هنا أن نتساءل: لماذا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة عتبة، وأجاب عمه أبا لهب.؟

في المرة الأولى كان بالإمكان التنصل من الجواب. أما في هذه المرة فلا خيار أمامه. إن عمه يريد أن يبني موقفا على هذا الجواب. فإن كان عبد المطلب في الجنة فهم على ملة عبد المطلب. وإن كان عبد المطلب في الجنة فهم يعبدون الآلهة التي عبدها. وبالتالي فليس من حق محمد صلى الله عليه أن يتعرض لها، ولا بد أن تكون الحماية مشروطة بذلك. وإذا كان ليس من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها فلا يمكن أن يعرض لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وبالتالي فإذا ذهب هذا الأصل ذهب الأصل الذي يليه وهو رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام.

ولا مجال للسكوت كذلك. لأن هذا هو الهدف الأصلي من المباحثات التي جاء عمه من أجلها. ولقد أدت هذه الجزئية التي تبدو بسيطة في نظرنا إلى أن يتخلى أبو لهب عن حماية ابن أخيه وحماية حرية الدعوة من وراء ذلك.

ولقد رأينا صورتين متشابهتين لهذه الصورة عند المسلمين.

ـ[الصورة الأولى]ـ: لدى أبي بكر الصديق عندما أجاره ابن الدغنة. واعترض المشركون على هذا الجوار أن أبا بكر يقرأ القرآن خارج البيت بصوت مؤثر يفتن الصبيان والنساء عن عقيدتهم. فجاء ابن الدغنة إلى أبي بكر وطلب منه أن يدخل بيته ويقرأ القرآن بحيث لا يتأثر به النسوة والصبيان فيفتنهم فرفض ذلك ورد عليه جواره.

ص: 40

لأن قبوله بذلك يعني شل حرية الدعوة لدى أبي بكر رضي الله عنه. ويعني إيثاره سلامته على سلامة دعوته.

ـ[الصورة الثانية]ـ: في مفاوضات الحبشة بين النجاشي والمسلمين الذين مثلهم جعفر رضي الله عنه فقد تحاشوا في اليوم الأول ذكر المفهوم الإسلامي عن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لكن داهية مكة عمرو بن العاص لم تفت عليه هذه الناحية. وقرر أن يستأصل خضراء المسلمين وينهي وجودهم في الحبشة حين لفت انتباه النجاشي قائلا له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما. فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم الملك بذلك.

لم يكن أمام المسلمين غير هذين الخيارين: إما أن يجيبوا النجاشي عن حقيقة ما يقول القرآن في عيسى بن مريم. وإما أن يكذبوا هذه الحقيقة. وانتهى رأيهم جميعا إلى الخيار الأول: نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا ذلك ما هو كائن. وقالوا كلمة الحق. وحفطهم الله تعالى بأن النجاشي على دين الله الحق.

إننا كثيرا ما نسمع مثل هذه العبارات- التشنج السياسي- أو- البله السياسي- في مثل هذه المواقف لأن المسلمين- على حد زعم المتحذلقين- قد خسروا نصرا مؤزرا نتيجة هذا التشنج. فلو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة ترضي عمه أبا لهب لربح حمايته ومنعته. ولو تنازل أبو بكر قليلا لبقي يروح ويغدو آمنا في جوار ابن الدغنة. ولو ساير جعفر وأصحابه النجاشي في رأيه بعيسى- على فرض نصرانيته- لأمكن إقامة مركز دائم للدعوة في الحبشة.

ص: 41

إننا نناشد هؤلاء الناس أن يرعووا إلي الحق عندما يلومون الحركة الإسلامية لمثل هذه المواقف لأن هذه الأمور بالأصل ليست للرجال ولا للدعاة. إنما هي أمر رباني بعدم التخلي عن أي جزئية من هذا الدين أو تغييرها لأهواء البشر: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ

}. {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (*) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (*) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (1)

4 -

أأدخل في جوارك؟ قال: نعم.

هكذا

نصر يتحقق للدعوة دون أي تنازل يقدم. فيمكن إذن للحركة الإسلامية أن تفاوض وتحالف على حماية رجالها من الإبادة أو إخراجهم من السجن أو حفظهم من الإعدام دون أي تعهد بالتخلي عن مبدأ مقابل ذلك. وهذا الأمر دقيق لا بد من إيضاحه.

لا بد من إيضاح نقطة هامة في هذا الموضوع. هذه النقطة هي أن المسلمين في حالة قد حرموا فيها من حرية البلاغ وحرية الحياة. فإذا استطاعت قيادتهم أن تضمن لهم حرية الحياة خطوة أولى فلا ضير. حرية الحياة هذه باسم القانون أو باسم الديمقراطية أو بدافع القرابة فهو من حقها. بل بتعبير أدق من واجباتها. بل يمكن القول إن الخط السياسي في الإسلام يسير باتجاه التصاعد دائما. بمعنى أن أي كسب تحققه للدعوة ورجالها وأشخاصها فهو مقبول لكن دون أي تعهد أو التزام على حساب

(1) الإسراء- 73 - 75

ص: 42

المبدأ. ولا بد من تعداد الصور لإيضاح جانب الحق في هذا الموضوع.

لو أدين الدعاة إلى الله بعد أن كانوا آمنين على أموالهم وأرواحهم لأنهم يدعون إلى الله عز وجل فكيف يمكن أن تكون الخطوة السياسية في هذا المجال؟

إن كانت سلامتهم تضمن بتعهدهم بالبعد عن الدعوة إلي الله وإعلان البراءة منها. فالمفاوضات مرفوضة والتحالف مرفوض.

وإن كانت سلامتهم تنطلق من منطلق حق الإنسان في العقيدة وحقه في البلاغ باسم القانون أو العرف فالتفاوض واجب والضرورة قائمة.

إن من حق الحركة الإسلامية بل من واجبها أن يكون تحركها السياسي في هذا المضمار على أعمق ما يكون التحرك. وعلى أذكى ما يكون التحرك. وشبيه بهذه الصورة أن تحصل الحركة الإسلامية على أية معونة أو حماية أو نصرة من أية جهة دون أن تلتزم مقابل ذلك بشيء بل تستفيد من طبيعة الصراع بين دول الباطل.

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) فللباطل آلاف السبل وليس سبيلا واحدا. وذكاء الحركة الإسلامية وعبقريتها السياسية في أن تتوغل في هذه السبل وتعرف نقاط الضعف فيها. ونقاط الصراع فيها فتستفيد من هذه النقاط وتحقق نصرا جديدا لها خطوة إلي الأمام.

هذا ولا بد من الإشارة إلى أن الموقف الفردي يختلف عن موقف الجماعة المسلمة. فالأفراد يحق لهم أن يظهروا الكفر عند اشتداد المحنة وتضاعف البلاء. وضعف الفرد العادي ينعكس عليه. أما تساهل

الأنعام- 153 -

ص: 43

القيادة فينعكس على الإسلام نفسه. وإشارة كذلك إلى ملاحظة ثانية هي أنه ليس كل الأفراد على مستوى واحد ولهم هذا الحق في التراجع وإظهار الكفر. إن بعض الشخصيات الإسلامية التي أصبحت رمزا للدعوة يكون من الخطأ بمكان أن تهادن أو تضعف أو تستكين والأصل فيها أن تتنازل عن حياتها ولو مزقت قطعا ولا تتنازل عن عقيدتها.

ونستشهد في هذا المجال بصورتين:

ـ[الصورة الأولى]ـ: لابن أم عمارة رضي الله عنهما عندما مضى ممثلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب وقطعه إربا إربا ورفض أن يشهد له بالرسالة. بينما رأينا الوفد الثاني يشهد له بالرسالة فيفتتن الناس فيهم ويكفرون أكثر من افتتانهم بمسيلمة.

وـ[الصورة الثانية]ـ: لعبد الله بن حذافة السهمي وقد كان بين يدي قيصر وفشلت كل وسائل التعذيب معه على أن يتنصر ويكون شريكا لقيصر في ملكه فرفض وعرض على القدر المغلي بالزيت فدمعت عيناه وعلل ذلك بأنه يشتهي أن يكون له مائة نفس كلما مات مرة بعث أخرى.

وليست قصة زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي رضي الله عنهما عنا ببعيدة. لأن كل شخص من هؤلاء الأربعة المذكورين يمثل صورة الإسلام وحقيقته عند عدو من أعداء الله.

5 -

الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء

تعهد واحد طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفضه. فماذا تستافيد الحركة الإسلامية من هذا الموقف وهي في حالة الضعف؟.

إن الحركة الإسلامية حين تفاوض عدوا على مستقبل الحكم أو تدعى إلي التحالف معه

إذا استطاعت أن تصل مع هذا العدو إلى أن

ص: 44

يكون الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء من خلال بنود التحالف، فلها حرية الاختيار في ذلك. وحتى تتوضح الصورة أكثر نجد أن بإمكان الحركة الإسلامية أن تتحالف مع عدو على إسقاط عدو آخر. ويكون الحكم بعد ذلك لله يضعه حيث يشاء.

والتعبير العملي لهذه الصيغة أن هذا التحالف الذي أسقط ذلك العدو ينتهي تحالفه بسقوطه وكل حليف يسعى بعد ذلك بجهده الخاص للوصول إلى الحكم، بدون أن يكون بين هؤلاء الحلفاء تعهدات لبعضهم بتعاون الحكم أو الاشتراك فيه. فنرى أن هذا الخط من صميم التحرك السياسي الإسلامي.

الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء.

وهذا المفهوم يقود إلى نقطتين شائكتين ولكن لا مناص من التعرض لهما، وهما:

• هل من حق الحركة الإسلامية أن توقع على تحالف بأن يكون الحكم ديمقراطيا مطلقا؟

•• هل من حق الحركة الإسلامية أن توقع على تحالف بقيام حكومة مؤقتة مؤتلفة؟

ونحاول الإجابة على التساؤل الأول:

قد يتبادر إلى الذهن مباشرة أن يكون الجواب بالإيجاب لأن النظام الديمقراطي لا يحدد فردا أو جهة ويخولها باستلام السلطة. وهذا يعني أن الأمر لله يضعه حيث يشاء.

إنني أستبعد جواز ذلك- والله أعلم- وذلك للأسباب التالية:

° ـ[أولا]ـ: النظام الديمقراطي يقتضي من الحركة الإسلامية أن تقبل بالفئة أو الحزب الذي ينتخبه الشعب. وأن تعترف بشرعيته طالما فاز

ص: 45

بالأكثرية. وقد يكون هذا الحزب أو التجمع معاديا للإسلام أو لا يتبنى الإسلام- على أحسن الاحتمالات- وخروجها عليه خروج على الشرعية التي أعلنت الالتزام بها. فهي تضطر أن تنقض عهدا أبرمته، ولا يحل في ديننا إلا الوفاء.

وحقيقة هذا الميثاق حين توقع الحركة الإسلامية عليه ليس ضمن إطار- الأمر لله يضعه حيث يشاء- بل ضمن إطار القبول بمشيئة الفئة الغالبة ولو كانت غير شرعية في ميزان الله.

إنه صحيح أن كل شيء بمشيئة الله. لكن مهمتنا أن نسعى لأقامة شريعة الله، ونقاوم أي نظام باطل، فنحقق مشيئة الله تعالى:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (1). ونفر من قدر الله إلى قدر الله بأمر الله. لا أن نعلن قبولنا بشرعية أكثرية لا ترضى بشريعة الله تعالى. أو أننا سنغدر بالمواثيق التي أعطيناها ولا يحل في ديننا الغدر.

° ـ[ثانيا]ـ: ولنفرض جدلا أننا قبلنا بالنظام الديمقراطي. فإن الشعب هو مصدر التشريع في هذا النظام. وقبولنا بذلك يعني قبولنا بكل تشريع لا يرضاه الإسلام، واعتباره شرعيا في الوقت نفسه طالما أنه صادر عن هيئة شرعية منتخبة.

ومن هذه المحاذير وغيرها نتصور أنه ليس من حق الحركة الإسلامية وهي في حالة الضعف أن توقع على ميثاق أو تحالف يقيد تطبيق الإسلام بحجة رغبة الشعب والأكثرية، لأن ميزان الحق واضح. {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2). ولكن هذا لا يعني أن الطريق مسدود أمام الدبلوماسية

(1) - الأ نفال- 8 -

(2)

- القصص-50 -

ص: 46

الإسلامية في هذا المجال. إنها تستطيع أن تتجنب الكلمات المحددة الصلبة، وتتحرك في إطار الكلمات المرنة التي لا تدينها مثل الشورى والحرية السياسية، والنظام الذي يمثل إرادة الأمة حين تنبثق من شريعة الله. إلي غير هذه التعبيرات الواسعة المدى التي تجعلها في كل إطار تنتهي إلى أن الحق النهائي في الأمر هو لشريعة الله.

ولدى الدبلوماسية الإسلامية السياسية كذلك نهج آخر: هو أن تترك الحديث عن الحكم المستقبلي بعد اسقاط النظام الكافر إلى الإمكانات المتاحة لكل حليف على حدة في إقامة النظام الذي يراه أحق من غيره بالتطبيق دون ظلم أو تعسف أو طغيان.

إنه عندما يحدد الإطار الذي تتحرك خلاله الحركة الإسلامية، فمئات الحلول يمكن أن تكون أساسا للتحالف والتواثق بين المسلمين وخصومهم.

ونجيب على التساؤل الثاني كذلك. إن فكرة الحكومة المؤقتة تعني مرحلة انتقالية تشترك فيها أكثر من فئة في إدارة دفة الحكم، أو حكومة حيادية تهيء المجال لنظام حكم ثابت مستقر. فإذا حددت مهمات هذه الحكومة دون أن يكون لها سلطة التشريع، بل حصرت صلاحياتها في تسيير الأمور على خطة مرسومة لا تخرج عن الإسلام، ولا تخالف حكما من أحكامه، ولا تلزم الحركة الإسلامية بقيود غير إسلامية، فما أجد حرجا في ذلك. وإن قدرة السياسة الإسلامية على الحركة والنفاذ وتحقيق مكتسبات للإسلام دون تقديم تنازلات ومساومات

هي التي تبني الأساس المتين للوجود الإسلامي الحق.

وإن ما نتصوره كسبا سياسيا مؤقتا يعقبه تخل عن التزام أو نقض لعهد، هو- في حقيقة الأمر خسارة كبرى للتصور الإسلامي عند هؤلاء

ص: 47

الناس. فلنحذر دائما من الكسب الرخيص السريع مقابل فقدان الناس ثقتهم بهذا المنهج الرباني الفريد.

6 -

إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه

إن النهج المنبثق من هذه الفقرة هو ألا نبرم إلا التحالف المؤدي إلى الأهداف المرسومة. إنه يرسم استراتيجية الحركة السياسية الإسلامية. فكل تحالف مبني على عاطفة عارضة أو مصلحة جزئية هو على المدى البعيد طمس للخط الإسلامي الواضح. وهذه الفقرة تدعونا إلى تسجيل الملاحظات التالية:

أ • عبقرية التخطيط السياسي فلا يكون استجابة لنزوة بنزوة مماثلة. بل يكون ضمن استراتيجية محددة الأهداف واضحة الخطا، وخطة محكمة تدرس كل الاحتمالات المتوقعة من الحليف الآخر.

ب • مرونة العمل السياسي. فعندما يكون هدفي وأضحا لدي، أسلك مع الخصم الذي أود محالفته كل سبيل ممكن نحو ذلك الهدف، ولا أضيع أي فرصة لتحقيق الهدف، وقد كان من بركة هذه المرونة أن استوعبت معظم القبائل العربية واستثمرت الزمان والمكان. فاللمواسم كلها مسرح للعمل السياسي الإسلامي لتحقيق الهدف الواضح. أسواق العرب وأماكنهم ووفودهم مغزوة دائما بالنشاط الإسلامي السياسي. وكل قبيلة غير قريش مؤهلة للمفاوضات والتحالف. فكندة في الجنوب، وغسان في الشمال، وحنيفة في اليمامة، وشيبان في العراق

كلها أرسلت وفودا إلى المواسم، فكان وفودها مسرحا للعمل السياسي الإسلامي. بل إن قريشا عرضة للتفاوض في بعض تياراتها، كما حدث مع المطعم بن عدي.

ص: 48

إنها الحركة الدؤوب لتحقيق الهدف الواضح.

ج • عبقرية المفاوض السياسي. وحين يكون الهدف واضحا، والمفاوض مرنا ذكيا تقيا

يمكن أن تزج به الحركة الإسلامية في هذا الخضم لا تخشى عليه- بعون الله له- أي طارئ. لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب. وحين لا يتوفر مثل هذا المفاوض، فلا بد أن يحمل الوفد المفاوض هذه الصفات. فالمرونة والقدرة على تقليب الأمور، واستعراض الحلول الكثيرة، والتخلص من المآزق والمزالق. لا بد من توافرها وصفة التقوى ضمان للبقاء ضمن الإطار الشرعي الذي حدده الإسلام.

ومن جانب آخر فإن هذه الفقرة ((إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه)) كانت ردا على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس. وصاحب النظرة العجلى يرى أن تفويت هذه الفرصة خطأ سياسي، لكن الذي يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى.

إن المثنى قد ألمح إلى أن هذا الأمر تكرهه الملوك. وإن موقع الدعوة بجوار فارس يجعلها سهلة المتناول في أي لحظة، وإن العهود والمواثيق املقيدة لشيبان تجعلهم أعجز من أن يستطيعوا حماية هذا الرسول وهذا الدين من بطش كسرى. إن التحالف مع الخصم الأقوى يكون في معظم الأحيان في مصلحة هذا الخصم. فوقع شيبان إذن من جهة غير مناسب ليكون مركزا للدعوة الجديدة، وعهود شيبان- من جهة ثانية- تشل إمكانية الحركة الإسلامية، وكراهة الملوك لهذه الدعوة التي تدعو لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله هي من جهة ثالثة عنصر غير مشجع لوجود هذه الحركة بحيث تمس مصالحها وتوقع الاحتكاك بينها وبين الحركة

ص: 49

الإسلامية. ويكفي أن نذكر نقطتين اثنتين توضحان عبقرية النظرة السياسية النبوية في هذا المجال:

ـ[أولاهما]ـ: أن الفرس كانوا في أوج انتصارهم بعد أن هزموا امبراطورية الروم وأخذوا صليبها المقدس.

ـ[ثانيهما]ـ: أن كسرى عندما وصله خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قيام دولة الإسلام بست سنوات. مزق الخطاب النبوي. وبعث من يحضر له محمدا حيا أو ميتا. علما بأنه قد تجرع مرارة الهزيمة القاتلة من الروم قبل أربع سنوات.

فما أحوجنا ونحن نود للحركة الإسلامية تحركا سياسيا هائلا. لأن نحكم الهدف أولا ونحكم الخطة ثانيا. ونكون أدرى ما يكون بالعدو ثالثا. وندفع بالعبقري السياسي للحركة رابعا. ونطلب النصر من الله سبحانه وتعالى بعد بذل هذه الإمكانات.

ونقف كذلك عند هذا الأمر الذي تكرهه الملوك

نحن اليوم على آمال إقامة دولة الإسلام في الأرض، ونعرف في الوقت نفسه أن كل القوى الفعالة تكره هذه الدولة. هذه الصورة القاتمة كثيرا ما تخيفنا وتدفع بنفوسنا إلى الزاوية الميتة. إلا أنه لا بد لنا من فعل شيء حتى نستطيع أن تقوم لنا قائمة. والحل المطروح هو أنه لا بد لنا من أن ننضوي تحت لواء جبهة وطنية، تقبل أطرافها بإسلامية سورية.

إن الخطوط العريضة التالية هي الضوابط في هذا الشأن:

1 -

° التحالف السياسي المقيد جائز في الإسلام.

2 -

° خط حلف الفضول، وكل تحالف على إسقاط نظام طاغ أو مقاومة ظالم مستبد جائز.

ص: 50

3 -

° خط حلف أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم المساس بحرية الدعوة إلى تحقيق الدعوة جائز.

4 -

° خط حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المطعم بن عدي في حماية حرية الدعاة وحياتهم جائز.

5 -

° خط رفض حلف أبي لهب في التنازل عن أية جزئية من جزئيات هذه العقيدة أو المساومة عليها واجب دعوي.

6 -

° خط رفض حلف بنى عامر في رفض أية التزامات تؤديها الحركة الإسلامية بالحكم للآخرين. أصل

7 -

° خط رفض حلف بني شيبان، وذلك في رفض أية أحلاف توقع الحركة الإسلامية تحت سلطان عدوها ملحوظ.

8 -

° خط الإحاطة لدين الله من كل جانب يجب أن يحكم بالمفاوض السياسي المرن الذكي التقي العبقري.

9 -

° خط الإحاطة لدين الله في عبقرية التخطيط السياسي، ومرونة العمل السياسي المتعدد يجب أن يكون على ذكر.

10 -

° الخط العام الذي يشمل الخطوط السابقة كلها، والذي نسميه الخط المتصاعد الذي نحقق فيه كل يوم كسبا جديدا للإسلام دون أية خسائر في المبدأ أو العقيدة، يجب أن يكون هو سمة العمل.

ص: 51