الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قريش ذلك ((من شأن الحلف المذكور)) اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا على بني هاشم وبني المطلب ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل) (1).
ولم تفلح هذه التهديدات وهذا التحالف الجديد في ثني بني هاشم وبني المطلب عن حمايته صلى الله عليه وسلم.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب:
فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم إلى أبي طالب فدخلوا معه شعبه. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، وقطعت قريش على ذلك عنهم الأسواق حتى كان يسمع أصوات نسائهم وأبنائهم يتضاغون وراء الشعب من الجوع واشتدوا على من أسلم ممن لم يدخل الشعب وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا.
وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله. فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر أن يأتي بعض فرشهم
…
)
و
عودة إلى الحلف السابق
لم يستطع أبو طالب أن يقاوم هذا التحالف الباغي إلا بالحرب السياسية من جهة ومحاولة تفتيت هذا التحالف فعمل قصيدته - اللامية المشهورة:
(1) السيرة النبوية لابن محمد بن عبد الوهاب [ص:93].
ولما رأيت القوم لا ود عندهم
…
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد حالفوا قوما علينا أضنة
…
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل (1)
وبعد أن يعوذ برب الناس وبجبل ثور وبالبيت الحرام وبالحجر الأسود وبالمشعر الحرام وبحجيج البيت. يعلن أنه لن يتخلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قتلوا جميعا.
كذبتم وبيت الله نترك مكة
…
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزى (2) محمد
…
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع دونه
…
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد
…
إليكم نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل (3)
وأما سبب هذا الموقف فهو أن محمدا سيد بني هاشم وعزيز مكة.
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا
…
يحوط الذمار غير درب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال (4) اليتامى عصمة للأرامل
تلوذ به الهلاك من آل هاشم
…
فهم عبده في رحمة وفواضل
إنها من أروع ما جادت به الأخلاق الجاهلية أن يقبل مشركو بني هاشم وبني المطلب كل هذا العذاب والجوع والخوف ثلاث سنوات متواصلات حماية لسيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على غير دينه.
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 245.
(2)
نبزى: نسلب ونغلب.
(3)
الروايا: الابل تحمل الماء.
(4)
ثمال اليتامى: من يتولى أمرهم ويعنى بهم. والصلاصل: المزادات يسمع لها صلصل.
ولا يدع أبو طالب التعريض بحلفائه السابقين. يستثير فيهم النخوة والحمية بالانضمام إلى حلفهم الأصلي. ويغمز من قناتهم بالتخلي عن نصرته، فيقول عن زعيمي بني عبد شمس:
وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا
…
بسعيك فينا معرضا كالمخاتل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح
…
حسود كذوب مبغض ذي دغاول
وكنت امرءا ممن يعاش برأيه
…
ورحمته فينا ولست بجاهل
ومر أبو سفيان عني معرضا
…
كما مر قيل من عظام المقاول
يفر إلي نجد وبرد مياهه
…
ويزعم أني لست عنكم بغافل
ومن زعيمي بني عبد شمس إلى زعيم بني نوفل المطعم بن عدي:
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة
…
ولا معظم عند الأمور الجلائل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
…
عقوبة شر عاجلا غير آجل
ولا يكتفي بذلك بل يلمح إلي أقارب بني هاشم في قريش
فكل صديق وابن أخت نعده
…
لعمري وجدنا غبه غير طائل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب
…
زهير حساما مفردا من حمائل
وكان لهذه القصيدة أثر خطير زلزل أوضاع مكة. واستطاعت أن تحرك كامن العصبية عند أقارب بني هاشم، حيث ائتمروا سرا ودعوا إلي نقض الصحيفة.
فلقد كان أول من سعى في ذلك هشام بن عمرو، واستجاب المطعم بن عدي زعيم بني نوفل بن عبد مناف، وزهير بن أبي أمية وكان بنو هاشم أخواله لأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وكانوا
ذوي قرابة في بني هاشم. وشاءت إرادة الله تعالى أن تنصر عبده ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في تظاهرة عجيبة في مكة.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب:
إن الله أطلع رسوله على الذي صنع بصحيفتهم (أي أكلتها الأرضة إلا باسمك اللهم) فذكر ذلك لعمه فقال: لا والثواقب ما كذبتني. فانطلق يمشي في عصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش. فلما رأوهم رأوا أنهم قد خرجوا من شدة الجوع وأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم أبو طالب فقال:
إنه قد حدث أمر لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحا فأتوا بصحيفتكم- وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها (وكانت مختومة) - فأتوا معجبين لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم.
قالها: (أي قريش): قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد قد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم. فقال أبو طالب: لأعطينكم أمرا لكم فيه نصف. إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم. فإن كان ما قال حقا فوالله لا نسلمه إليكم حتى نموت عن آخرنا. وإن كان الذي يقول باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: رضينا.
ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر. فقالوا: هذا سحر من صاحبكم. فارتكسوا وعادوا لشر مما كانوا عليه. فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا ومزقت الصحيفة.
وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة. فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس
فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة.
فقال أبو جهل- وكان في ناحية من المسجد- كذبت، والله لا تشق.
قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب. ما رضينا كتابتها يوم كتبت فقال أبو البختري: صدق زمعة. لا نرضى ما كتب فيها ولا نقربه.
فقال المطعم بن عدي: صدقتم وكذب من قال غير ذلك.
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس بناحية المسجد. فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فشقها. فلما مزقت وبطل ما فيها قال أبو طالب في ما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقضها يمدحهم شعرا.
لقد كانت حماية النبي صلى الله عليه وسلم من القتل منوطة ببني هاشم وبني المطلب، ورفضوا تسليمه لقريش. وتحملوا مصائب كادت تودي بهم ولم يتراجعوا عن هذه الحماية.
وكان لهذا التحالف أثر في الفقه الإسلامي حيث أن سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم وبني المطلب. ففي كتاب كفاية الأخيار- في الفقه الشافعي-: ( .. السهم الثاني من الخمس لذوي القربى، وهم أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، لما روى جبيربن مطعم رضي الله عنه قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أعطيت بني هاشم وبني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك!! فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد. قال جبير: ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس
وبني نوفل شيئا) رواه البخاري. وجبير من بني نوفل، وعثمان من بني عبد شمس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم. وهاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس هم أبناء عبد مناف. والله أعلم (1).
ويوضح ابن كثير هذا المعنى لدى تفسير قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى .. (2)} فيقول: (وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب. لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام. ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية لهم، مسلمهم طاعة لله ورسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب
…
وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم على ذلك بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة قربهم).
وبعد أن يسوق بعض الأبيات السابقة، ويسوق الحديث المذكور عن جبير وعثمان يقول: وفي بعض روايات هذا الحديث: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام" وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب (3).
وهذا الاستطراد لبيان أهمية هذا الحلف، وكيف حفظه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) الجهاد [ص:131]. دار المعرفة.
(2)
الآية "41" الأنفال.
(3)
التفسير ج 2 [ص:312] ط دار الفكر.