المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة التوكل:

(النوع الثالث: وقوف همته عند الخدمة. وذلك علامة ضعفها وقصورها. فإن العبد المحض لا تقف همته عند الخدمة. بل همته أعلى من ذلك؛ إذ هي طالبة لرضا مخدومه. فهو دائما مستصغر خدمته له. ليس واقفا عندها. والقناعة تحمد من صاحبها إلا في هذا الموضع. فإنها عين الحرمان. فالمحب لا يقنع بشيء دون محبوبه، فوقوف همة العبد مع خدمته وأجرتها: سقوط فيها وحرمان.

‌(فصلٌ في منزلة التوكل:

[*] (عناصر الفصل:

(تعريف التوكل:

(حقيقة التوكل:

(الفرق بين الحسب والتأييد:

(تحقيق مراتب التوكل:

(الأمور التي تضاد التوكل:

(فضائل التوكل:

(حكم التوكل:

(صورٌ من توكل النبي صلى الله عليه وسلم:

(صورٌ مشرقة للمتوكلين على الله:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

(تعريف التوكل:

(التوكلُ هو: صدقُ الاعتماد على الله تعالى في جلب النفعِ أو دفع الضُرِ، وذلك بالأخذِ بالأسبابِ المشروعة دون التعلقِ بها ثم الرضا بالمقضي.

{تنبيه} : (لا يتمُ التوكلُ إلا بشيئين أساسيين:

(1)

التفويضُ قبل حدوثِ المقضي: فبعد أن يصدُق الإنسان في اعتماده على الله يُفَوِّضُ أمره إلى الله تعالى بمعنى أنه يُلقي أمره إلى الله يُصَرِّفْه كيف يشاء.

(2)

الرضا بعد حدوث المقضي: فمن لم يرضى بالمقضي فتوكله فاسد، ولذا يحسن بالإنسان أن يقول بعد تحقيقِ أسبابِ التوكل [اللهم إنا فوضنا أمرنا إليك راضِين بما قضيت فاقدر لنا الخيرَ حيث كان]

{تنبيه} : (من لم يأخذ بالأسبابِ المشروعةِ فتوكله فاسد، فمثلاً لو أن إنسان زعم أنه صدق في اعتماده على الله تعالى في حصولِ الولد ولكنه لم يتزوج فهل يُعَدُ هذا متوكلاً على الله؟ بالطبع لا، ليس هذا توكلاً إنما هذا سفهٌ وحماقة.

ولعل أوضح حديثٍ يبين ُ التوكلَ بشقَيْه قبل حدوث المقضي وبعده هو حديث الاستخارة.

(حديثُ جابر في صحيح البخاري) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول: اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علَاّمُ الغيوب، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به، ويُسَمِّي حاجته.

ص: 109

{تنبيه} : (من حقق التقوى والتوكل، اكتفي بذلك في مصالح دينه ودنياه.

قال الله عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}

[الطلاق: من الآية 2، 3]

وقال تعالى: (وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق / 3]

(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً» .

[*] قال أبو حاتم الرازى: هذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق.

[*] وقال سعيد ابن جبير: " التوكل جماع الإيمان"، وتحقيق التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدرات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطى الأسباب، مع أمره بالتوكل، فالسعى في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} (النساء: من الآية 71).

[*] قال سهل: " من طعن في الحركة يعنى في السعى والكسب فقد طعن في السنة، من طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان"، فالتوكل حال النبى صلى الله عليه وسلم والكسبُ سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سننه.

وقيل: " عدم الأخذ بالأسباب طعن في التشريع، والاعتقاد في الأسباب طعن في التوحيد ".

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اعقِلْهَا وَتَوَكَلْ.

(والأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام:

(القسم الأول: الطاعات التي أمر الله بها عباده، وجعلها سبباً للنجاة من النار ودخول الجنة، فهذا لابد من فعله، مع التوكل على الله عز وجل فيه، والاستعانة به عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن، فمن قصّر في شيء مما وجب عليه من ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعاً وقدراً.

قال يوسف بن أسباط: " قال اعملْ عملَ رجل لا ينجيه إلا عَمَلُه، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كُتب له ".

ص: 110

(القسم الثاني: ما أجرى الله العادة به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحر، والتدفؤ من البرد، ونحو ذلك، فهذا أيضاً واجب على المرء تعاطى أسبابه ومن قصّر فيه حتى تضرر بتركه – مع القدرة على استعماله – فهو مفرط يستحق العقوبة.

(القسم الثالث: ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب، وقد يخرق العادة في ذلك لمن شاء من عباده وهي أنواع: كالأدوية مثلاً وقد اختلف العلماء: هل الأفضل لمن أصابه المرض لتداوى أم تركه لمن حقق التوكل على الله؟

فيه قولان مشهوران، وظاهر كلام الإمام أحمد أن التوكل لمن قوى عليه للحديث الآتي:

(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.

ومن رجح التداوي قال: إنه حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يداوم عليه – وهو لا يفعل إلا الأفضل – وحمل الحديث على الرقى المكروهة، التي يخشى منها الشرك، بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة وكلاهما مكروه.

[*] قال مجاهد، وعكرمة، والنَخعى، وغير واحد من السلف: لا يرخص في تلك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية.

[*] سئل إسحق بن راهويه: هل للرجل أن يدخل المفازة بغير زاد؟ فقال: " إن كان الرجل مثل عبد الله بن جبير فله أن يدخل المفازة بغير زاد، وإلا لم يكن له ".

(حقيقة التوكل:

[*] قال الزبيدي في تاج العروس:

ص: 111

الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس، فالتوكل على الله اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، مع كامل اليقين أن تعلم أن الله هو الرازق الخالق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.

والتوكل يتناول التوكل على الله ليعينه الله على فعل ما أمره والتوكل على الله ليعطيه ما لا يقدر عليه، وكلاهما كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فالاستعانة تكون على الأعمال والتوكل أعمّ من ذلك فالتوكل مجلبة لمنفعة، ودفع لمضرة.

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]

فكن شاكراً لله ولا تخشَ شيئاً إذا فوضت أمرك لله، كن رجّاعاً لله متكلاً عليه؛ حينها ينصرك الله.

حقيقة التوكل عبادة واستعانة قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]

وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]

(انظر للمقارنة للتوكل مع العبادة والاستعانة بالله، فالتوكل أعمّ في جلب المنافع وهو دفع المضار حتى لو كانت في أشياء دنيوية والاستعانة على العبادة.

(والتوكل أعم من الاستعانة و قد جمع الله بين الأصلين في غير موضع كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فالعبادة له والاستعانة به والتوكل عليه وحده لا شريك له، الله عز وجل إذا توكل عليه العبد يكفيه و هو حسب من توكل عليه والحسب هو الكافي، يمنع الشر عنك، يكفيك ما أهمك، يكفيك عدوك ..

لما قال الله لنبيه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الأنفال: 64]، بعض الناس يظنون أن المعنى حسبك الله والمؤمنون حسبك أيضاً، يعني يكفونك مع الله، هذا خطأ بل حسبك الله وحسب من اتبعك، يكفيك ويكفيهم .. حسبك وحسبهم .. كلكم .. أنت وهم .. ، ولا يجوز حمل الآية على المعنى الآخر ..

ص: 112

ولذلك الآية الأخرى ({وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]

نعم هنا ممكن ..

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حاتماً الأصم قال ـ وكان من جملة أصحاب شقيق البلخي ـ وسأله رجل فقال: علام بنيت أمر هذا في التوكل؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي وعلمت أني لا أخلو من عين الله حين كنت فأنا مستحي منه.

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حاتماً الأصم يقول: من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله ثم التوكل ثم الإخلاص ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة.

[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن عبد الله، قال: قيل لحاتم غلام شقيق: علام بنيت علمك؟ قال: على أربع، عليّ فرض لا يؤديه غيري فأنا به مشغول وعلمت أن رزقي لا يجاوزني إلى غيري فقد وثقت به وعلمت أني لا أخلو من عين الله طرفة عين فأنا منه مستحي، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فأبادره.

(الفرق بين الحسب والتأييد:

مسألة: هل المؤمن يكفي يكون حسباً؟

الجواب: لا، لكن يكون ناصراً ومؤيداً.

أيدك بالمؤمنين .. أن يؤيدونك وينصرونك .. هذه لا إشكال فيها .. ولا تضاد التوحيد ..

ولكن إذا قلت يكفونك .. من ذا يقدر على الكفاية .. ؟ .. من الذي يستطيع أن يكون حسباً يكفي غيره كل شر من الشرور؟ .. ما يقدر على هذا إلا الله سبحانه وتعالى ..

مسألة: ما معنى ({لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَاّ أَذًى} [آل عمران: 111]؟

مثل أذى الحر والبرد والجوع والعطش أما أن يضره العدو بما يبلغ به مراده (يعني الشيء الذي يريده العدو فيه) لا .. يعني إذا توكلت على الله لن يضروك إلا أذى، والآية دليلٌ أوفى على أن هناك فرقٌ شاسع بين الأذى والضر.

يعني الشيء الذي لابد منه ولكن ليس على ما يشتهي ويريد العدو .. ، يعني أثر خفيف .. مثل ما يحدث لك من الحر والبرد والجوع والعطش .. ، لكن لا يستطيعون أن يبلغوا ما يريدونه ويتمنونه إذا توكلت على الله ..

(وإذا كان الله قد جعل لكل عمل جزاء من جنسه فقد جعل جزاء التوكل عليه الكفاية، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ولو كاده كل من في الأرض جميعاً .. !!

ولله درُّ من قال:

وإذا دجى ليل الخطوب وأظلمت سبل الخلاص وخاب فيها الآمل

وأيست من وجه النجاة فما لها سبب ولا يدنو لها متناول

ص: 113

يأتيك من ألطافه الفرج الذي لم تحتسبه وأنت عنه غافل

والثقة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وتفويض الأمور يليه يريح العبد نفسياً، لأنه الواحد مهما بذل أسباب ستبقى ثغرات يتحسب منها، ويبذل كذا وكذا لكن هذه لا يستطيع أن يفعل فيها شيء، ولو جاءوا ما استطعت .. ولو كادوا لي من هذه الجهة ما لي حيلة .. وضعنا احتياطات من هنا ومن هنا ولكن لو جاءوا من هنا لو فعلوا من هنا ماعندنا احتياطات

!!، فيصبح العبد مهموماً حتى مع اتخاذ بعض الأسباب .. هناك أشياء لا يقدر عليها فالتوكل يريحه نفسياً .. الأشياء التي لا حيلة له فيها؛ الذي لا يتوكل قلق منها قلق جداً منها لأنه لم يعمل شيء في الموضوع، لكن من يتوكل على الله كفاه الله ما أهمه.

[*] قال الشيخ محمد المنجد حفظه الله في سلسلة أعمال القلوب:

قال لي أحدهم بعد الحج من أهل الشيشان: (جاء الروس اقتحموا علينا، وكنا في بيت فحاصرونا، وهرب من هرب، وبقيت أنا ذهبت إلى حفرة بجانب البيت يلقى فيها محصول البطاطس، ألقيت نفسي فيها ثم اقتحموا البيت و ابتدؤوا التفتيش و علا صياحهم واقتربوا من مكاني وأنا ماعندي سلاح ولا أستطيع أن أهرب .. حفرة .. ، قال لا عندي إلا التوكل على الله وتذكرت موقف من السيرة وآية من القرآن وجعلت أقرأها فسمعت القائد يقول للجندي اذهب وفتش الحفرة، وسمعت وقع خطواته وهو يقترب شيئاً فشيئاً من الحفرة وأنا في الحفرة وأنا مثل الفأر بالمصيدة، وأطل عليّ ونظر إليّ وذهب وقال لا يوجد أحد في الحفرة .. !، أنا استغربت .. عيني في عينه .. !!!!!!)، قلت له: وماذا كنت تقرأ؟، قال: إني تذكرت والذي خطر على بالي في ذلك الموقف القصة في سورة يس .. (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) .. ما عندي إلا التوكل على الله ..

فهناك أحوال كثيرة المخلوق لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً مادياً .. ماعنده إلا هذا التوكل ..

(تحقيق مراتب التوكل:

(التوكل على الله لابد من تحقيق مراتب فيه وهي كما يلي:

(1)

معرفة الرب وصفاته، من قدرته وكفايته وقيوميته، أنت تتوكل على الله وتعتمد عليه يجب أن تكون مؤمنا بقوة الله وقدرته وأنه يكفيك، فالذين يعطلون أسماء الله وصفاته ويلحدون فيها سيخلون بهذه المرتبة ..

ص: 114

(2)

إثبات الأسباب والمسببات وأنها لا تستقل بنفسها في التأثير، وإن جحد الأسباب وقال كل سبب معطل، هذا غبي مجنون .. ، هناك أسباب، تَنْكِحُ ليأتيك الولد وتبذر ليخرج الزرع .. ، ولذلك أتت القاعدة الذهبية {اعقلها وتوكل} بنص السنة المحمدية كما في الحديث الآتي:

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اعقِلْهَا وَتَوَكَلْ.

وأحياناً لا يجد الواحد إلا الدعاء، ونعم السبب .. ، والله عز وجل عَلَمَ عباده الأخذ بالأسباب فقال:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15]

وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}

[الجمعة:10]

(فالذي يقول لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي جاهل بشرع الله وجاهل بقدر الله .. ، قال {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].

يضربون: أي يسافرون و يذهبون ويتاجرون، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتاجرون في البر والبحر .. ويعملون في نخيلهم وكان غسل الجمعة .. لماذا أمروا به .. ؟ .. لأنهم كانوا عمال أنفسهم .. يعملون في الحر والنخيل .. العرق يرشح على ملابس الصوف فيكون لها رائحة كريهة في المسجد، فقيل لهم (لو اغتسلتم) كما في البخاري،

[*] ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم متوكلة ويقولون نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل، قال الإمام أحمد: هذا قول رديء أليس الله قد قال (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة 9،10].؟،

[*] وقال صالح بن أحمد بن حنبل: سئل أبي عن قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون فقال: هؤلاء مبتدعون) ..

(3)

ومن المقامات التي يجب تحقيقها رسوخ القدم في طريق التوحيد .. ، فالعبد إذا حقق التوحيد كان له من التوكل النصيب العظيم {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] توحيد وتوكل بعده ..

(4)

الاعتماد على الله عز وجل في كل الأمور، بحيث يفوض إليه سائر أموره ..

ص: 115

(5)

أن يحسن الظن بالله عز وجل وتفويض الأمور إلى الله عز وجل كلها ويكون بيد الله أوثق منه بما في يده، لا يضطرب قلبه ولا يبالي بإقبال الدنيا وإدبارها لأن اعتماده على الله .. ، فحاله كحال إنسان أعطاه ملك درهم فَسُرِقَ منه، فقال الملك عندي أضعافه فلا تهتم .. متى جئت أعطيتك أضعافه من خزائني، فمن يعلم أن الله ملك الملوك خزائنه ملأى فلا يقلق إذا فات شيء فإن الغني يعطيه الله بدلاً منه .. فَيُحْسِنُ الظن بالله عز وجل امتثالاً للحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.

فحسن الظن يدعو إلى التوكل على الله، أنت تتوكل على من تظن أنه سينفعك، وإن الإنسان إذا علم وتيقن أن الله هو الغني القادر الحسب الكافي فيتوكل عليه ..

(6)

استسلام القلب لله سبحانه وتعالى، فإذا استسلم كاستسلام العبد الذليل لسيده وانقياده له حصل التوكل ..

(7)

التفويض، قال تعالى:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] أي أتوكل عليه وأستعينه مع مقاطعتي و مباعدتي لكم خدعتموني ..

[*] قال ابن مسعود: إن أشد آية في القرآن تفويضاً" ومن يتوكل على الله فهو حسبه"،

[*] قال ابن القيم رحمه الله نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضا بعده"من وجهة نظر الدين والتوحيد"، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضى بالمقضي بعد الفعل فهذا إنسان قائم بالعبودية فعلاً) .. ولذلك انظر إلى دعاء الاستخارة: واقدر لي الخير حيث كان كله ثم ارضني به، فالتوكل إذاً على الله تفويض قبل وقوع المقدور ورضى بعد وقوع المقدور ..

(الأمور التي تضاد التوكل:

(1)

التطير والتشاؤم .. قال صلى الله عليه وسلم (لا طيرة) كما في الحديث الآتي:

(حديثُ أبي هريرةَ في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا طِيَرَة ولا هامةُ ولا صفر وفرَّ من المجذومِ فرارك من الأسد.

ص: 116

والتطير والتشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع، كمن يرى أعور فيتشائم به، ويرى طيراً ذهب شمالاً فيتشاءم به، يريد أن يذهب لسفر أو زواج فيلغي المشروع .. ، هذا ينافي التوكل على الله .. ، قال مثلاً كرسي الحجز في الطائرة 13 .. هذا ما أركب فيه .. هذا شؤم .. ، تجنب الرقم 13 ليس من الأسباب المشروعة إطلاقاً، ذهب يضرب صفقة مع رفيقه فرأى حماته، فقال هذا نذير شؤم .. ما دخلها .. ؟!!، فالتطير والتشاؤم منافي للتوحيد،

(ولما جاء أحد المنجمين لعلي رضي الله عنه وهو خارج لقتال البغاة، قال هنا الآن نوء العقرب إذا خرجت يا علي ستخسر في المعركة وتنهزم فخرج علي ثقة بالله وتوكلاً عليه وكتب الله له في تلك الغزوة والخروج البركة والخير والفلاح والانتصار، ولذلك المرء يتعمد مخالفة العرافين والكهنة .. ، فإذا قال له كاهن خروجك هذا شر والنجم كذا فليقل بل مخالفة لك وإيماناً بالتوحيد وإيماناً بالسنة سأخرج و أخالفك يا أيها الدجال والمشعوذ .. وإتيان الكهان والتعلق بهم .. ، تعليق التمائم يخالف التوكل .. ، لأن الإنسان (من تعلق شيئاً وكل إليه) بنص السنة الصحيحة كما في الحديثين الآتيين:

(حديث ابن مسعود في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرُقى والتمائمَ والتِوَلَةَ شرك.

(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ» .

ص: 117

(لذلك فإن الإنسان لو علق أشياء ولو بالقرآن يتعلق قلبه بالجلد هذا والورق والحبر المكتوب مع أن المفترض أن يتعلق قلبه بالله وليس بأوراق وجلود يجعلها على معصمه أو يعلقها في رقبته، وبعضهم يقول هذه أسباب .. !!!! .. ،هذا خلافنا مع بعض الناس .. أمرنا باتخاذ أسباب شرعية .. أو أي أسباب .. ؟!!!! .. ، التوكل لابد أن يكون معه أسباب شرعية .. ، فالذي يلبس حلقة أو خيط أو يتبرك بالأشجار ويكتب التعاويذ ويعلقها هذه أسباب غير مشروعة فكيف تتخذها .. ؟!!. (من تعلق شيئاً وكل إليه) وحرم من التوكل على الله وصار توكله على هذا الشيء الموضوع، لذلك ترى الناس الذين توحيدهم ضعيف يكثر من هذه الأشياء .. يعلق في السيارة والبيت وعلى رقبته وأولاده ومنها أشياء شركية وكذا .. لأنه يريد أي أسباب .. ما عنده توحيد وتوكل قوي فهو خائف ويريد أي سبب فيفعل أي شيء ولو كان غير مشروع، لذلك ينقلب على عقبيه ويرتد على دبره ولا يحصل له ما يريد ويبقى في خوف وهم ..

(2)

ولابد في التوكل على الله من السعي في طلب الرزق، وهذا مهم جداً في عصر شاعت فيه البطالة، بعض الناس يتواكلون على بعض، والابن على أبيه والأخ على أخته الموظفة، وكثير منهم لا يريدون العمل، والله أرشدنا وفتح أبواب لطلب الرزق وأشياء مذكورة في الكتاب والسنة منها ما يلي:

(أ) العمل باليد فإنه ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من عمل يده بنص السنة الصحيحة كما يلي:

(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان زكرياء نجاراً)

(ب) التجارة وهي عمل كثير من المهاجرين وكذلك الأنصار قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]

وعبد الرحمن بن عوف قال: (دلوني على السوق)

ص: 118

(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري أمرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال: بارك الله في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق فربح شيئا من أقط وشيئا من سمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال:(مَهْيَم يا عبد الرحمن) فقال: تزوجت أنصارية، قال:(فما سقت اليها)، قال وزن نواة من ذهب، قال:(أولم ولو بشاة).

وكان الصحابة يغدون إلى السوق ويشترون ويبيعون بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو:{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات - إلى قوله - الرحيم} . إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.

(ج) الحرث والغرس والزرع، والزراعة فيها ميزة في التوكل على الله أكثر من غيرها فالمزارع إذا بذر عنده في قلبه توكل على الله أكثر من التاجر، كلهم يحتاجون التوكل لكن الزارع أكثر، فبعضهم قدم الزراعة من هذه الجهة لما فيها من مزيد تعلق القلب من الله في رجاء حصول النماء والنبات لهذا المحصول و بأن الثمرة تظهر ولا يصيبها آفة وهكذا ..

ثم إن الإنسان يبذل الأسباب في العلاج لأنه ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء بنص السنة الصحيحة كما يلي:

(حديث أسامة ابن شريك الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شفاء ا.

(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن عز وجل.

(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدواء من القدر و قد ينفع بإذن الله تعالى.

ص: 119

(لكن الأسباب في العلاج غير طلب أسباب الرزق، لأن التداوي ماهو إلا أخذ بالأسباب في هذا المجال ..

(فضائل التوكل:

(1)

التوكل مقام جليل عظيم الأثر، بل ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلى مقامات توحيد الله سبحانه وتعالى، فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله والاستعانة به، ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة لأنه يتوكل في حصول مراده فهي وسيلة والإنابة غاية، وهو من أجل المراتب وأفضلها وأعمها قدراً ..

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة.

والتوكل متعلق بكل أمور العبد الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها. ومنزلته أجمع وأوسع المنازل ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين .. !!

التوكل يتعلق بكل شيء واجبات ومستحبات ومباحات ولقد كثرت حوائج الناس ولابد لهم من التوكل على الله في قضائها.

فمنزلة التوكل تشتد الحاجة إليها وعباد الله تعالى حقاً إذا نابهم أمر من الأمور فروا إلى الله منيبين إليه ومتوكلين عليه، وبذلك يسهل الله الصعاب وييسر الله العسير ويحقق العبد ما يريد وهو مطمئن البال هاديء النفس راضٍ بما قضاه الله عز وجل وقدره.

[*] قال ابن القيم رحمه الله: ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأموراً بإزالته لأزاله.

فالمسلم لا يرى التوكل على الله في جميع أعماله واجباً فقط بل يراه فريضة دينية ليس متعلقاً فقط بالأمور الدينية بل بالأمور الدنيوية وليس بالأمور الدنيوية وطلب الرزق فقط بل بعبادة الله سبحانه وتعالى فهو عقيدة، قال تعالى:{وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]

ولهذا كان التوكل على الله نصف الدين، بل هو الواجب لأنه أصل من أصول الإيمان.

[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

فإن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات كما أن الإخلاص لله واجب وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء وغسل الجنابة، ونهى عن التوكل على غيره سبحانه.

[*] قال ابن القيم رحمه الله: والتوكل جامع لمقام التفويض والاستعانة والرضا لا يتصور وجودٌ بدونها.

ص: 120

[*] وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: ((الأصل الجامع الذي تتفرع عنه الأفعال والعبادات هو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه وهو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضا به رباً وإلهاً والرضا بقضائه بل ربما أوصل التوكل بالعبد إلى التلذذ بالبلاء وعدّه من النعماء {كما في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب} فسبحان من يتفضل على من يشاء بما شاء والله ذو الفضل العظيم)).

(فالتوكل هو أحد مباني توحيد الإلهية كما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وأيضاً يدل عليه قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]

وهذا التوكل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما في صفة السبعين ألفاً، فالذي يحقق التوكل ليس كل الناس بل هم طائفة قليلة من الناس ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم: وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.

ص: 121

وكان من الصحابة المتوكلين عمران بن حصين وهو من سادات المتوكلين، رضي الله عنه، الذي كان به بواسير وكان يصبر على ألمها فكانت الملائكة تسلم عليه فاكتوى فانقطع تسليم الملائكة عليه ثم ترك الكي وصبر على الألم فعاد سلام الملائكة عليه.

(2)

التوكل على الله صفة علية من صفات عباد الرحمن وشعار يتميزون به عمن سواهم وعلامة بارزة لأهل الإيمان كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف بالملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب كما قال ابن كثير رحمه الله،

[*] وقال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.

وقال عز وجل عن أوليائه إبراهيم والذين آمنوا معه: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. أي توكلنا عليك في جميع أمورنا وسلمناها إليك وفوضناها إليك.

ولقوة إيمانهم وتوكلهم أمر الله أن نتخذهم أسوة حسنة {إبراهيم والذين آمنوا معه} هكذا توكلوا على الله وسلموا لله الأمور تسليماً مطلقاً. صحبوا التوكل في جميع أمورهم مع بذل جهد في رضا الرحمن.

وأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل،

(حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {حسبنا الله ونعم الوكيل} . قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} .

فالتوكل هو عدة المؤمنين يوم يتوعدهم الناس ويخوفونهم بكثرة الأعداء. فكان أول شيء وآخر شيء قاله إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 122

(3)

ومن الآيات الدالة على فضل التوكل قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].

فإذا كان المؤمنون دائماً متوكلون على الله ملتجئون إليه بقولهم حسبنا الله ونعم الوكيل فأولى بأنبيائه أن يكونا أكمل توحيداً أو توكلاً من غيرهم.

وقد أمر الله بالتوكل وحث على ذلك في مواضع كثيرة كما في قوله تعالى (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] في سبعة مواضع في القرآن الكريم: كما يلي:

{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]

{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]

فالتوكل سبب لنيل محبة الله وهي الصفة التي تميز بها المؤمنون عن غيره ولذلك أوجب الله التوكل.

(4)

وصار المتوكل على الله من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، ونعتهم الله بالمقام الجليل العظيم. وضمن الله لمن توكل عليه القيام بأمره وكفايته أي أن يكفيه همه وأن ينصره ويحفظه فالله ناصر دينه وكتابه والله كافٍ عبده بأمان، قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} سورة الطلاق* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2،3].

ص: 123

[*] يقول ابن كثير رحمه الله: ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله. وفي هذه الآية فضل التوكل وأنه من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار كما في الحديث الآتي:

(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً» .

فأفئدة الطير مليئة بالتوكل على الله ولو أننا توكلنا على الله كما يتوكل الطير لرزقنا مثل ما يرزق الطير،

(وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المتوكل على الله بوصفين:

(1)

السعي في طلب الرزق.

(2)

الاعتماد على مسبب الأسباب.

وهذا الحديث مهم في فهم قضية التوكل وفي الأخذ بالأسباب لأن الطير تغدو أي تذهب في الصباح وتبحث عن الرزق وتخرج من أعشاشها وهذا عمل وسعي وجهد وهو الطيران وترجع محملة بالطعام لنفسها ولأفراخها، إذاً فالسعي في طلب الرزق هو الاعتماد القوي على مسبب الأسباب المباحة، وقد قال تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 49]

والعزيز هو الارتباط ما بين نهاية الآية والتوكل والعزيز الذي لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه حكيم يدبر من توكل عليه بحكمته تدبيراً حسناً. قال ابن كثير – رحمه الله: ومن يتوكل على الله أي يعتمد على جنابه فإن الله عزيز حكيم والتوكل مركب السائر الذي لا يتأتى السير إلا به ومتى نزل عنه انقطع فوراً وتوقف عن السير وهذا ما لاحظه ابن القيم رحمه الله وهذا يبين منزلة التوكل وفضل التوكل.

(5)

ومما يدل على فضله وعلو منزلته أن الله أمر به في أكمل الأحوال والعبدات والمقامات كما يلي:

(المقام الأول مقام العبادة:

قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والخلق بالعبادة والتوكل.

ص: 124

وقال تعالى: (({وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} * {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3]، توكل على الله في جميع أحوالك وأمورك فهذا التوجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوكل على الله ويتقيه ويعبده ويتبع ما يوحى إليه من ربه فهو أمر له ولأمته من بعده إلى يوم القيامة.

(المقام الثاني مقام الدعوة:

فجاء الخطاب لرسول الله والأصل هو خطاب لأمته إلا إذا دل الدليل على تخصيص له قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]

فهو الذي تنتهي إليه القوة والملك والعظمة والجاه وهو حسب من لاذ به ويكفي من استجار به ويدفع عنه الشر عز وجل ويحميه، ونوح عليه السلام أيضاً في مجال الدعوة:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} [يونس: 71]

فهذه الدعوة من نوح عليه السلام والإنذار الطويل والتذكير المستمر الذي رافقه وقابله من قومه تكذيب وإعراض بعدما بلغ الضيق منه توكل على الله وفوض الأمر إليه وهو ماضٍ في الدعوة. إذاً الداعية إلى الله إذا جُوبه بالإعراض من المدعوين والصدود والرد وعدم الاستجابة فإنه يتوكل على الله والله يكفيه شر هؤلاء المعرضين. ويوسع صدره الذي ضيقوه بإعراضهم.

(المقام الثالث مقام الحكم والقضاء:

قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]

ص: 125

فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره كله إلى الله، أناب إلى ربه وتوكل عليه وفوض أمره لله، كيف يتحاكم الناس لغير الله إذا اختلفوا بشيء من الأمر، وهذا النبي الذي أرسله يُترَك ولا يتحاكم إليه وهو أولى أن يتحاكم إليه ليقول قول الفصل فيما اختلفوا فيه وكيف يتوجهون في أمر من الأمور إلى جهات أخرى والنبي موجود يقضي، فما دام القاضي والحاكم على الحق المبين فلا يبالي بما يعوقه وبمن يرد حكمه وبمن يرفض التحاكم إلى الشريعة التي يقتضي بها فإذا الحاكم والقاضي عليه التوكل على الله.

(المقام الرابع مقام الجهاد وقتال الأعداء:

قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

[آل عمران: 121]

فمع أنه يعد العدة ويجهز الجيش ويعيّن الأماكن ويرتب الجيش أي يأخذ بالأسباب ومع ذلك أمر بالتوكل لأن النصر بيد الله قال تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]

فكأنه يقول لهم إن كنتم في حال ضعف فالنصر بيد الله فتوكلوا عليه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11]

ولو كنتم في حال الكثرة والقوة أيضاً فيجب عليكم أن تتوكلوا فإنكم إذا ما لم تتوكلوا على الله فلن تنفعكم الكثرة {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25]

ولو كانوا في معركة وأرخى لهم العدو جناح الذل وريش الوداعة وظن المؤمنون أن المعركة قد انتهت فلابد أن يبقى الارتباط والتوكل على الله ولو قال العدو نريد السلم وخنعوا {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة [الأنفال: 61]

(المقام الخامس مقام المشورة:

ص: 126

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]

(فأخذ المشورة من باب الأخذ بالأسباب فآراء الناس أسباب تعين على الاهتداء إلى الصواب وأخذ القرار الصحيح، ولكن لا ينفك المؤمن في هذه الحالة حتى لو عندهم كبار المستشارين عن التوكل على الله. ولذلك بعض هؤلاء يغترون ويظنون أن وجود آراء المستشارين يغني عن التوكل وأنه عنده الخبراء الكبار وعنده المستشارون العظماء ونقول يمكن أن يضل هؤلاء كلهم ويأمرون بقرارات خاطئة، وقد يشيرون لأمر صائب ويخطئون في تنفيذه، إذاُ لابد من التوكل على الله حتى مع أخذ الآراء.

فالتوكل لا ينقطع مع أن المعركة انتهت والحرب وضعت أوزارها وخنع الأعداء للسلم و ذلوا واستسلموا، وفي الحديبية كان الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على مواصلة الجهاد والقتال بل كان مستعداً لاقتحام مكة وقال بايعوني على الموت، ولكن جنح للسلم لما جنحوا لها لعل أن تكون فرصة الدعوة مواتية، لذلك فقد دخل في الإسلام بعد الحديبية أضعاف أضعاف ما كان قبله وفي سنوات أقل، إذاً لو طلبوا السلم والحرب الآن توقفت فتوكل على الله وإن أرادوا خداعكم فإن الله حسبك ولابد من استمرار التوكل على الله حتى في حال الغلبة والانتصار على العدو، وفي قصة موسى قال تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 22، 23]

(المقام السادس مقام طلب الرزق:

قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36]

ص: 127

وقال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2،3]

(المقام السابع مقام العهود والمواثيق:

وقد أخبر الله عن يعقوب عليه السلام في قصة يوسف وأخوته، قال تعالى:{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَاّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]

والموثق هو العهود والأيمان المغلظة، قال تعالى:{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]

(المقام الثامن مقام الهجرة في سبيل الله:

وهو عظيم وأليم على النفس أن يترك الإنسان مأواه وداره وأمواله ويتغرب ويضحي بعشيرته وبذكريات حبيبته ولكن يهوّن عليه التوكل على الله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل 41، 42]

ومن الذي يهون الهجرة والفرقة هو التوكل على الله. مهاجرة الحبشة الذين اشتد عليهم الأذى هاجروا هجرتين مشهورتين والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أيضاً هاجروا وفي طريق الهجرة حصل ابتلاء وخوف {إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]

(المقام التاسع مقام إبرام عقود البيع والإجارة والزواج:

ص: 128

موسى عليه السلام لما اتفق مع الرجل الصالح على أن يزوجه ابنته على أن يأجره ثماني حجج أجير وراعي غنم وإذا أتم عشراً فهذا حسن وليس بواجب {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28]

(حكم التوكل:

مسألة: ما حكم التوكل؟

حكم التوكل واجب مثل أصل محبة الله والصبر والإنابة، قال تعالى:{وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]

ولهذا كان التوكل على الله نصف الدين، بل هو الواجب لأنه أصل من أصول الإيمان.

،بل إن التوكل شرط الإيمان. والمفهوم من الآية ((وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أنه إذا انتفى التوكل انتفى الإيمان.

وأمر الله بالتوكل وقرنه بالإيمان ليدل بذلك على أنهما جزءان إذ التوكل على الوكيل هو الإيمان فأمر بالتوكل قولاً وعملاً بعد الإخبار عن محبته للمتوكل عليه (({قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الملك: 29]. واشترط للإيمان التوكل قال تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]

وهذه جاءت في قصة موسى عليه السلام (({وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84] إذ لابد من هذا لهذا.

[*] قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: معنى الآية أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم خوفاً من الجبارين بل يمضوا قدماً لا يخافونهم ولا يهابونهم متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين.

(صورٌ من توكل النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين على ربه تعالى، ودونك صورٌ من توكل النبي صلى الله عليه وسلم: (

ص: 129

لما نزل مع أصحابه في واد فعلق سيفه في شجرة فتفرق الناس في الوادي يستظلون في الشجر فلم يرعهم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم فأتوه فإذا بشخص وسيف ساقط فقال الرسول إن رجلاً أتاني وأنا نائم فاتخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلفاً أي مسلولاً .. انتبه النبي والسيف فوق رأسه .. أين المهرب .. ؟! .. فقال من يمنعك مني .. ؟!! قلت: الله ..

(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركته القائلة، وهو في واد كثير العضاه، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه، فقال:(إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، مخترط صلتا، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشامه ثم قعد، فهو هذا). قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد منها ما يلي:

فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله هذه كلمة فيها التوكل والتفويض والاستعانة وكل شيء .. قال: فشام السيف أي أغمده .. وفي رواية سقط السيف من يده .. ، هاهو ذا جالس.

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

(هذا هو التوكل والتفويض يظهر فعلاً في أوقات الأزمات جلياً واضحاً .. أن هذا العبد قلبه مفتقر إلى الرب متوكل عليه مفوض أمره إليه خصوصاً إذا لم يكن هناك أسباب تتخذ إلا تفويض الأمر إلى الله ..

(وجاء الإنكار من ابن عباس رضي الله عنه على بعض أهل اليمن الذين يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس مدوا أيديهم .. فأنزل الله (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) ..

(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى:{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} .

(صورٌ مشرقة للمتوكلين على الله:

(وهاك قصة لطيفة لامرأة نامت على الدعاء والتوكل ووجدته مضاعفاً من عند الله .. !!

ص: 130