المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة الرضا:

(3)

اليأس أعظم عوائق الصبر، ولذلك حذر يعقوب أولاده منه قال تعالى:(يَبَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87] إذاً إضاءة شمعة الأمل دواء اليأس والاستعانة بالله هي الأمل، لأن الله لا يخيب ولا يضيع من رجاه ويأتي الفرج ولو بعد حين ..

كما أن اليأس من روح الله من الكبائر بنص الكتاب والسنة الصحيحة كما يلي:

(حديث ابن عباس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكبائر: الشرك بالله و الإياس من روح الله و القنوط من رحمة الله.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(الكبائر) جمع كبيرة قال أبو البقاء: وهي من الصفات الغالبة التي لا يكاد يذكر الموصوف معها

(الشرك باللّه) أي أن تجعل للّه نداً وتعبد معه غيره من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو جني أو نجم أو غير ذلك قال اللّه تعالى {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال {إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ومأواه النار} فمن أشرك به ومات مشركاً فهو من أصحاب النار قلت: كما أن من آمن به ومات مؤمناً فمن أهل الجنة وإن عذب

(والإياس من روح اللّه) بفتح الراء (والقنوط من رحمة اللّه) قال القاضي: ليس لقائل أن يقول كيف عد الكبائر هنا ثلاثاً أو أربعاً وفي حديث آخر سبعاً لأنه لم يتعرض للحصر في شيء من ذلك ولم يعرب به كلامه أما في هذا الحديث فظاهر وأما في رواية السبع فلأن الحكم مطلق والمطلق لا يفيد الحصر فإن قلت بل الحكم فيه كلي إذ اللام في الكبائر للاستغراق قلت لو كانت للاستغراق لا للجنس كان المعنى كل واحدة من هذه الخصال وهو فاسد أما في رواية اجتنبوا السبع الموبقات فإنه لا يستدعي عدم اجتناب غيرها ولا أن غيرها غير موبق لا بلفظه ولا بمعناه ومفهوم اللقب ضعيف مزيف.

‌(فصلٌ في منزلة الرضا:

[*] (عناصر الفصل:

(تعريف الرضا:

(حكم الرضا:

(الرضا له أصلٌ و مراتبٌ أعلى من الأصل:

(لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات:

(إمكان تحصيل الرضا واكتسابه:

(الفرق بين الرضا والصبر:

(مقامات الرضا:

(درجات الرضا:

(الفرق بين الرضا بالله والرضا عن الله:

(ثمرات الرضا:

(الرضا لا يتعارض مع الدعاء:

(الرضا لا يتنافى مع البكاء على الميّت:

(أقوال السلف رحمهم الله في الرضا:

ص: 182

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخل:

(تعريف الرضا:

الرضا لغة ً: ضد السخط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ".

الرضا: يقال (في عيشةٍ راضيةٍ)، أي: مرضيةٍ ذات رضا.

الرضوان: الرضا الكثير.

الرضا شرعاً: رضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، و رضا الله عن العبد أن يراه مؤتمراً بأمره منتهياً عن نهيه.

أرضاه: أي أعطاه ما يرضى به، و ترضَّاه: أي طلب رضاه.

و لمَّا كان أعظم رضا هو رضا الله سبحانه و تعالى؛ خُصَّ لفظ الرضوان بما كان من الله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً)[الفتح: 29]

وقال تعالى: (يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ)[التوبة: 21]. و إذا نظرنا إلى هذا الرضا في القرآن فإننا سنجده في عدد من المواضع منها ما يلي:

(1)

قال الله عز و جل في العمل ابتغاء مرضاته سبحانه: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)[البقرة: 207]،

يشري نفسه: يبيع نفسه بما وعد الله به المجاهدين في سبيله،

ابتغاء مرضاة الله: أي أن هذا الشاري يشري (يكون مشترياً حقاً)

إذا اشترى طلب مرضاة الله. .

* كذلك في الصدقات، قال تعالى:(وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ)[البقرة: 265] أي: يتصدقون بها و يحملون في سبيل الله و يقوّون أهل الحاجة من الغزاة و المجاهدين طاعةً لله و طلباً لمرضاته. .

* و قال الله عن الذين يعملون أعمال البر ابتغاء رضاه. .

(لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء: 114]، فأخبر تعالى عن عاقبة هذا بقوله:((فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) إذا فعله ابتغاء مرضاة الله. .

(2)

و قد رضي الله الإسلام ديناً لهذه الأمة، فهذا مما رضيه سبحانه. .

قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلَامَ دِيناً)[المائدة: 3] أي: رضيتُ لكم أن تستسلموا لأمري و تنقادوا لطاعتي على ما شرعته لكم و أن تستسلموا لشرعي و تنقادوا إليه طاعةً منكم لي

ص: 183

(3)

و كذلك قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ)[المائدة 15، 16]))، فيهدي سبحانه بهذا الكتاب المبين و يرشد و يسدِّد. .

(والرضا من الله سبحانه و تعالى أن يقبل العبد و هو مدح و ثناء، و كذلك فإنه

عز و جل يرضى عنه و يقتضي رضاه على العبد الثناء عليه ومدحه. .

(4)

و قال عز و جل عن المنافقين و هم يحلفون الأيمان. .

قال تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ)[التوبة: 62]

فهؤلاء المنافقين يريدون بالأيمان الكاذبة الخداع، و يريدون الكيد للمسلمين و يحلفون الأيمان الفاجرة أنهم لا يريدون شراً بالمسلمين و أنهم لا يريدون المكيدة لهم، و لكنّ الله أبى أن يقبل المسلمون منهم هذا. . و لو أنهم كانوا صادقين لأرضوا ربهم تبارك و تعالى و ليس أن يسعوا في إرضاء المخلوقين. .

(5)

و كذلك فإن الله سبحانه ذكر في كتابه العزيز الذي يبني المساجد ابتغاء مرضاة الله ..

قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ تَقْوَىَ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مّنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ وَاللّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ)[التوبة: 109] فهؤلاء الذين بنوا المساجد خير أيها الناس عندكم من الذين ابتدؤوا البناء على اتقاء الله بطاعته في بنائه و أداء فرائضه و رضا من الله لبنائهم، فما فعلوه هو خير لهم. أما الذين ابتدؤوا بناءهم على شفا جرف هار فستكون عاقبتهم في النار، فأيّ الفريقين خيرٌ إذاً؟!!

(6)

كذلك أثنى الله على الفقراء المهاجرين الذين خرجوا من مكة إلى المدينة و تركوا ديارهم و أموالهم يبتغون فضلاً من الله و رضواناً قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ)[الحشر: 8]

ص: 184

(7)

و كذلك أراد الله أن يولّي نبيه قِبلة يرضاها فجعل يحوّل النبي صلى الله عليه و سلم

و يصرف بصره في السماء يتمنى أن تحوّل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حتى أنزل الله

((فلنولّينّك قِبلة ترضاها)) أي: فلنصرفنّك عن بيت المقدس إلى قِبلة تهواها و تحبّها.

قال تعالى: (قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)[البقرة: 144]

(8)

أداء الواجبات سبيل إلى رضوان الله عز و جل. .

قال تعالى: (الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[التوبة: 20]. . و النتيجة؟!! (يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ)[التوبة: 21]

(9)

وكذلك الصبر على الطاعة و العبادة يؤدي إلى حصول الرضا من العبد على الرب و من الرب على العبد، و من العبد عن الرب و من الرب عن العبد. .

قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ)[طه: 130]

(10)

والله يرضي أهل الإيمان و الدين لَمَّا ضحَّوا في سبيله، يرضيهم و يعطيهم يوم القيامة حتى يأخذوا كل ما كانوا يرجونه و زيادة.

قال تعالى: (وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)[الحج 58،59]

(11)

وإن الصحابة لما جاهدوا في سبيله و اتبعوا نبيه و دافعوا عن شريعته و نشروا دينه و بلّغوا شريعته. .

قال تعالى: (لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)[الفتح: 18] و هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله لا يوادّون من حادّ الله و رسوله و لو كانوا آباءهم

أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيّدهم بروحٍ منه و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم و رضوا عنه ..

ص: 185

فالرضا هنا متبادل بين الرب و العبد. .

و يوم القيامة ستكون العيشة الراضية عاقبة هؤلاء و أهل اليمين، قال تعالى:(فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ)[الحاقة 19: 21]، و قال تعالى:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاعِمَةٌ * لّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ)[الغاشية 8، 9]، و قال تعالى:(يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً)[الفجر 27، 28]،

و قال تعالى: (وَسَيُجَنّبُهَا الأتْقَى * الّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكّىَ * وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىَ * إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَىَ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىَ)[17: 21]))،

و قال تعالى: (فَأَمّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ)[القارعة 6: 7] ورضا الله عز و جل أعلى مطلوب للنبيّين و الصديقين. .

قال تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ * إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبّ شَقِيّاً * وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً)[مريم 2: 6]

قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّلَاةِ وَالزّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً)[مريم 54: 55]

وماذا فعل موسى عندما استعجل لقاء الله؟! و لماذا استعجل؟!!

قال تعالى: (وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَمُوسَىَ * قال تعالى: (قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ)[طه 83، 84] .. استعجل الخير و اللقاء لينال رضا الله. .

و كذلك سليمان عليه السلام لما سمع كلام النملة تبسم ضاحكاً من قولها، و قال رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ:

ص: 186

قال تعالى: (فَتَبَسّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصّالِحِينَ)[النمل: 19]

وكذلك فإن هذا الإنسان الذي يبلغ أشده و يبلغ أربعين سنة يقول صاحبه:

قال تعالى: (حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[الأحقاف: 15]

وهذا مطلوب الصحابة لمّا عبدوا الله يبتغون فضلاً من الله و رضواناً ..

و يوم القيامة: الفئة هذه المرضيّ عنها هي التي تشفع و الذين لا يرضى الله عنهم

ليسوا من أهل الشفاعة. .

قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)[طه: 109]

فأهل رضاه يشفعون. .

و قال تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ)[الأنبياء: 28]

و شرع الله لنا ديناً يرضيه لنا قال تعالى: (وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ)[النور: 55]

(و من الأمور التي ينبغي على العبد: أن يرضى بما قَسَمُ الله له. .

و يعمل الزوج لكي ترضى زوجاته عن عيشهنّ بالعدل بينهنّ قال تعالى: (تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلَا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً)[الأحزاب: 51]

وإذا انتقلنا إلى سنّة النبي صلى الله عليه و سلم، نجد أن السنة والسنة الصحيحة طافحةٌ بالأحاديث عن الرضا منها ما يلي:

(أخبر أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها.

(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها.

(أخبر أن رضا الرب في رضا الوالد:

ص: 187

(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رضا الرب في رضا الوالد و سخط الرب في سخط الوالد.

(أخبر أن السواك مطهرة للفم و مرضاة للرب.

(حديث عائشة الثابت في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)

(أخبر أن من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه و أرضى عنه الناس.

(حديث معاوية في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، و من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.

(أخبر أن ملائكته تلعن المتمردة على زوجها الناشزة عن فراشه حتى يرضى عنها.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبي عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها.

(أخبر أنه عندما مات ولده لا يقول إلا ما يُرضي الرب:

(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وأنت يا رسول الله فقال يا بن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يُرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

{تنبيه} : ظئرا: أي زوج المرضعة وهو معنى مستعار.

(علّمنا في السجود في الدعاء اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك:

(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فالتمسته بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

هذا الرضا شأنه عظيم و أمره كبير و منزلته في الدين عالية ..

هذا الرضا عليه مدار أمورٍ كثيرةٍ من الأمور الصالحات، هذا الرضا الذي هو من منازل السائرين و السالكين، ما حكمه؟

(حكم الرضا:

مسألة: هل الرضا واجبٌ؟! أم مستحبٌ؟!

[*] قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله:

ص: 188

وأما الرضا فقد تنازع العلماء و المشايخ من أصحاب الإمام أحمد و غيرهم في الرضا بالقضاء، هل هو واجبٌ أو مستحبٌ على قولين: فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، و على الثاني يكون من أعمال المقرَّبين. و الخلاصة: أن أصل الرضا واجب و منازله العليا مستحبّة.

(الرضا له أصلٌ و مراتبٌ أعلى من الأصل:

فيجب الرضا من جهة الأصل: فالذي ليس عنده رضا عن الله و الدين و الشرع و الأحكام فهذا ليس بمسلمٍ.

فلابد لكلِّ مسلمٍ موحّدٍ يؤمن بالله و اليوم الآخر من درجةٍ من الرضا، أصل الرضا لابد أن يكون متوفّراً؛ لأنه واجبٌ بنص الكتاب والسنة الصحيحة كما يلي:

قال تعالى: (فَلَا وَرَبّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لَا يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً)[النساء: 65]

وهذا هو الرضا

وقال تعالى: (وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ)[التوبة: 59] ..

وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد:28]

(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً".

(ذاق طعم الإيمان): يدل على أن للإيمان طَعْمًا. الطعم عادة إنما يكون باللسان، طعم العسل، وطعم التمر مثلا وحلاوة الطعام اللذيذ. ولكن للإيمان أيضا طعم، ليس خاصا باللسان ولا بالفم، ولكن بالبدن كله، يكون أثر الإيمان في البدن كله، يجد نشوة وحلاوة في بدنه كُلِّهِ؛ في رأسه، وفي قدميه، وفي يديه، وفي بطنه، وفي ظهره، يجد للإيمان طعما.

(من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، و بمحمد نبيا):

فإذا رضيت بالله ربا فإنك تعبده وتطيعه، وإذا رضيت بالإسلام دينا فإنك تطبقه وتعمل به، وإذا رضيت بنبوة محمد به نبيا، فإنك تتبعه وتطيعه وتسير على نهجه، وتجعله أسوتك وقدوتك. وإذا ظهر منك خلاف ذلك فذلك نقص في الرضا. إذا ظهر من الإنسان نقص في الاتباع، أو الطواعية، أو في التأسي، أو في العبادة -دل ذلك على نقصه في هذا الرضا، أنه لم يكن رضاه رضا كاملا، بل رضا ناقص.

(لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات:

ص: 189

لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات كما لا تُشْرَع محبتها؛ لأن الله لا يرضاها و لا يحبها و الله لا يحب الفساد و لا يرضى لعباده الكفر .. و هؤلاء المنافقين يُبَيّتون ما لا يرضى من القول، بل اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. .

فالرضا الثابت بالنص هو أن يرضا بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً، يرضا بما شرعه الله لعباده من تحريم حرامٍ أو إيجاب واجبٍ أو إباحة مباحٍ، يرضا عن الله سبحانه و تعالى و يرضا عن قضائه و قدره و يحمده على كل حالٍ و يعلم أن ذلك لحكمةٍ، و إن حصل التألم بوقوع المقدور ..

فإن قال قائل: لماذا يحمد العبدُ ربَّه على الضراء؟ إذا مسّه الضراء؟ .. فالجواب من وجهين:

(1)

أن تعلم أن الله أحسنَ كل شيءٍ خلَقه و أتقنَه، فأنت راضٍ عما يقع في أفعاله؛ لأن هذا من خلقه الذي خلقه، فالله حكيم لم يفعله إلا لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها.

(2)

أن الله أعلم بما يصلحك و ما يصلح لك من نفسك، و اختياره لك خيرٌ من اختيارك لنفسك.

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(عجبت للمؤمن إن اللّه تعالى) قال أبو البقاء الجيد: إن بالكسر على الاستئناف ويجوز الفتح على معنى في أن اللّه أو من أن اللّه

(لم يقض له قضاء إلا كان خيراً له) توجيهه ما زاده في بعض الروايات إن إصابته ضراء صبر وإن أصابته سراء شكر فإنه إن كان موسراً فلا يقال فيه وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضى بما قسم وأما الفاجر فأمره بالعكس إن كان معسراً فلا إشكال وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. قال الحرالي: من جعل الرضى غنيمة في كل كائن لم يزل غانماً.

و ليس ذلك إلا للمؤمن وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً".

ص: 190

[*] قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه، وظاهر باطنه لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطته بشاشة قلبه لأن من رضي أمراً سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له والله تعالى أعلم.

فهذا حديثٌ عظيمٌ: فالمسلم في أذكار الصباح و المساء و في أذكار الأذان بعد " أشهد أن محمداً رسول الله " الثانية يقول: ((رضيتُ بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد نبياً)) ..

رضا بربوبيته سبحانه و رضا برسوله صلى الله عليه و سلم و الانقياد و التسليم و لذلك (فمن حصلت له هذه الأمور الأربعة: الرضا بربوبيته و ألوهيته سبحانه و الرضا برسوله و الانقياد له و الرضا بدينه و التسليم له فهو الصدِّيق حقاً ..

و هي سهلةٌ بالدعوى، و لكن ما أصعبها عند الامتحان!!!

(أما الرضا بالله: فيتضمّن الرضا بمحبته وحده و الرضا بعبادته وحده أن تخافه وحده ترجوه و تتبتّل إليه و تتذلل إليه عز و جل و تؤمن بتدبيره و تحب ذلك و تفرده بالتوكل عليه و الاستعانة به و تكون راضياً عما يفعل عز و جل.

ترضى بما قدّر و حكم .. حَكَم أن الزنا حرامٌ، و أن الربا حرامٌ، و أن بر الوالدين واجبٌ، و أن الزكاة فرضٌ، فيجب أن ترضى بحكمه ..

قدّر عليك أشياء من فقرٍ، و ضيق حالٍ، فيجب أن ترضى ..

(والرضا بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً: أن تؤمن به و تنقاد له و تستسلم لأمره و يكون أولى بك من نفسك، و أنه لو كان موجوداً صلى الله عليه و سلم و وجِّهَ إليه سهمٌ وجب عليك أن تتلقاه عنه و أن تفتديه بنفسك، و أن تموت فداءً له.

و ترضى بسنّته فلا تتحاكم إلا إليها ..

ترضى بسنّته فلا ترجع إلا إليها و لا تُحَكِّم إلا هي ..

(والرضا بالإسلام ديناً: فما في الإسلام من حكمٍ أو أمرٍ أو نهيٍ فإنك ترضى عنه تماماً و ليس في نفسك أيّ حرجٍ و تُسَلِّم تسليماً كاملاً لذلك ولو خالف هواك و لو كان أكثر الناس على خلافه و لو كنتَ في غربةٍ و لو كانت عليك الأعداء مجتمعون فيجب أن ترضى بأحكام الدين و تسعى لتنفيذها و إن خالفتَ العالم ..

(إمكان تحصيل الرضا واكتسابه:

مسألة: الرضا هل هو شيءٌ موهبيٌّ أم كسبيٌّ؟ أي: هل يُوهَبُ من الله أم يمكن للعبد تحصيله؟ هل هو فطريٌّ أم العبد يُحَصِّل هذا بالمجاهدة و رياضة النفس إذا روَّض نفسه؟!!

فصل الخطاب في هذه المسألة:

ص: 191

أن الرضا كسبيٌّ باعتبار سببه، موهبيٌّ باعتبار حقيقته ..

فإذا تمكن العبد في أسباب الرضا و غرس شجرة الرضا في قلبه جنى الثمرة ..

لأن الرضا آخر التوكل ..

بعدما يعجز التوكل يأتي الرضا ..

و الذي ترسخ قدمه في طريق التوكل ينال الرضا ..

لأن بعد التوكل و التسليم و التفويض يحصُل الرضا، و بدونها لا يحصل الرضا،

و لذلك لو قال أحدهم: نريد تحصيل الرضا، نقول له: يجب أن يكون لديك توكلٌ صحيحٌ و تسليمٌ و تفويضٌ ثم ينتج الرضا بعد ذلك ..

و لذلك لم يُوجِب الله على عباده المنازل العالية من الرضا؛ لأن ذلك شيءٌ صعبٌ جداً، و أكثر النفوس ربما لا يحصُل لها ذلك ..

فالله ندب إليه و لم يوجبه (ليس أساس الرضا و إنما ما فوق ذلك) ..

فإذا حصل للعبد شيءٌ فإنه لابد أن يكون محفوفاً بنوعيه من الرضا: رضا قبله، و رضا بعده ..

و كذلك الرضا من الله عز و جل عن العبد إنما هو ثمرة رضا العبد عن الرب سبحانه، فإذا رضيتَ عن الله رضي الله عنك ..

والرضا باب الله الأعظم و جَنة الدنيا و مُسْتَراح العارفين و حياة المحبين و نعيم العابدين وهو من أعظم أعمال القلوب ..

[*] قال يحيى بن معاذ لما سئل: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ قال: ((إذا أقام نفسه على أربعةِ أصولٍ يُعامِل بها ربه ..

يقول: إن أعطيتني قبلتُ، و إن منعتني رضيتُ، و إن تركتني عبدتُ، و إن دعوتني أجبتُ.

و الرضا إذا باشر القلب؛ فإنه يدل على صحة العلم و ليس الرضا و المحبة كالرجاء و الخوف، فمن الفروق أن أهل الجنة مثلاً لا يخافون في الجنة و لا يرجون مثل رجاء الدنيا .. لكن لا يفارقهم الرضا أبداً ..

فإن دخلوا الجنة فارقهم الخوف ((لا خوفٌ عليهم و لا هم يحزنون)) ..

في الدنيا هناك خوف .. إذا دخلوا الجنة زال الخوف .. أما الرضا فلا يزول .. خارج الجنة وداخلها .. الرضا موجودٌ ..

الخوف و الرجاء في الدنيا ليس موجوداً عند أهل الجنة يفارقون العبد في أحوال ..

أما الرضا فلا يفارق العبد لا في الدنيا و لا في البرزخ و لا في الآخرة و لا في الجنة، ينقطع عنهم الخوف؛ لأن الشيء الذي كانوا يخافونه أمِنوه بدخولهم الجنة، و أما الشيء الذي كانوا يرجونه فقد حصل لهم، أما الرضا فإنه لا يزال معهم و إن دخلوا الجنة: معيشتهم راضيةٌ و هم راضون، و رضوا عن الله، و راضون بثوابه و ما آتاهم في دار السلام ..

مسألة: هل يشترط أن الرضا إذا حصل لا يكون هناك ألمٌ عند وقوع مصيبة؟!

ص: 192

الجواب: ليس من شروط الرضا ألا يحس العبد بالألم و المكاره، بل من شروط الرضا عدم الاعتراض على الحكم و ألا يسخط، و لذلك فإن الرضا لا يتناقض مع وجود التألم و كراهة النفس لما يحصل من مكروه ..

فالمريض مثلاً يرضى بشرب الدواء مع أنه يشعر بمرارته و يتألم لمرارته، لكنه راضٍ بالدواء مطمئنٌ بأخذه مقبلٌ على أخذه، لكنه في ذات الوقت يَطْعَم مرارة الدواء ..

والصائم رضي بالصوم و صام و سُرَّ بذلك .. لكنه يشعر بألم الجوع .. هل بشعوره بألم الجوع يكون غير راضٍ بالصيام؟! لا .. هو راضٍ بالصيام و يشعر بالجوع ..

والمجاهد المخلص في سبيل الله راضٍ عند الخروج للجهاد .. و مُقْدِمٌ عليه .. مقتنع به ..

لكن يحس بالألم .. و التعب .. و الغبار .. و النعاس .. و الجراح ..

إذاً لا يشترط أن يزول الألم و الكراهية للشيء إذا حصل الرضا، لكن بعض أصحاب المقامات العالية جداً يستلذّون بالألم إذا حصل في الجهاد أو الصيام ..

لكن لا يشترط أن الفرد إذا أحس بالألم في العبادة أن يكون غير راضٍ .. ليس شرطاً.،.

وطريق الرضا طريقٌ مختصرٌ قريبةٌ جداً، لكن فيها مشقةٌ، و ليست مشقتها أصعب من مشقة المجاهدة، و لكن تعتريها عقبتان أو ثلاث:

(1)

همةٌ عاليةٌ:

(2)

نفسٌ زكيّةٌ:

(3)

توطين النفس على كل ما يَرِدُ عليها من الله تعالى ..

و يسهُل ذلك على العبد إذا عرف ضعفه و قوة ربه، و جهله و علم ربه،

و عجزه و قدرة ربه .. و أن الله رحيمٌ شفيقٌ به، بارٌّ به، فهو البرُّ الرحيم ..

فالعبد إذا شهد هذه المقامات رضي، فالله عليمٌ حكيمٌ وهو رؤوفٌ، وهو أعلم بما يُصْلِح العبد من العبد، و توقن أن ما اختاره لك هو الأفضل و الأحسن ..

عباراتٌ أحياناً ترد لكن الإنسان إذا آمن بها وصل إلى المطلوب ..

أحياناً هناك مقاماتٌ إيمانيةٌ يبلغها الإنسان بقلبه و يأخذ بها أجراً عظيماً يرتقي بها عند الله وهي عبارةٌ عن تفكّراتٍ (يفكّر فيها فيهتدي إليها فيأخذ بها فيحصل على المطلوب فلم يبذل جهداً بل هي أشياءٌ تأمليةٌ) ..

فالتفكّر من أعظم العبادات

فإذا تفكّر العبد أن ما يختاره له ربه هو الأحسن و الأفضل ..

فإذا آمن بها الإنسان رضي ..

و تحصيل الرضا غير معقّدٍ .. كيف؟!

أن تؤمن بأن ما اختاره الله لك وقدّره عليك هو أحسن شيءٍ لك .. سواءً كان موتُ ولدٍ أو مرضٍ أو تركُ وظيفةٍ ..

ص: 193

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له.

فيجب عليك أخي الحبيب أن تضع هذا الحديث نصب عينيك لا يفارق عينيك فتعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن الله تعالى «لم يقض لك قضاء إلا كان خيرا لك» وإن رأيته على غير حقيقته بنظرك القاصر وعلمك الضئيل فتذكر قوله تعالى:: (وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216]

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

إذا ابتلى الله عبده بشيء من أَنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بَتْرَاء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجلّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائباً عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً.

وكانت البلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءَته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إِلى محبوبها سبباً ما مثله سبب وقوله تعالى في ذلك هو الشفاءُ والعصمة:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَر لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} * [البقرة: 216]، وإِن لم يَرُدُه ذلك البلاءُ إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه فى الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل. وبالله التوفيق. أهـ

فأنت قد تجهل لماذا هو أحسن شيءٍ!! أنت لا تعلم لماذا لو أعطاك ليس مصلحتك!!

أنت في حال الفقر لا تعلم لماذا ليس في مصلحتك أن تحصّل المال .. و هكذا ..

فنتيجة إذا اعترف العبد بجهله و آمن بعلم ربه و أن اختياره له أولى و أفضل

و أحسن من اختياره لنفسه ..

وصلنا إلى الرضا ..

ص: 194

فطريق المحبة و الرضا تسير بالعبد و هو مستلقٍ على فراشه فيصير أمام الركب بمراحل!!

هناك أناسٌ يعملون و يجهدون و صاحب الرضا بعبادته القلبية يسبقهم بمراحل،

و هم من خلفه مع أنه على فراشه و هم يعملون؛ لأنه راضٍ عن الله و يتفكّر في هذا الأمر ويؤمن به فيقترب من الله و أناسٌ لم يصلوا لهذا المستوى و يعملون و يجهدون

لذلك أعمال القلوب مهمةٌ جداً؛ لأن المرء يمكن يبلغ بها مراتب عند الله و هو قاعدٌ ..

و هذا لا يعني ألا يعمل و لا يصلي ..

و قد يكون هناك أناسٌ آخرين أكثر منه عملاً (صيام

صدقة

حج)، لكنهم أقل منه درجةً ..

لماذا؟!!

لأنك بهذا العلم بأعمال القلوب قد تحصّل مراتب عند الله أكثر منهم؛ لأن عمل القلب نفسه يرفع العبد في كثيرٍ من الأحيان أكثر من عمل الجوارح

فأبو بكر ما سبق أهل هذه الأمة لأنه أكثرهم صلاةً و قياماً في الليل

هناك أناسٌ أكثر منه في عمل العبادات و الجوارح

لكن سبقهم بشيءٍ وَقَرَ في نفسه ..

الرضا عن الله لو تحققت في صدر العبد؛ تميز بين مستويات العباد و ترفع هذا فوق هذا .. ينبغي التفطّن لها .. كما تعمل بالجوارح هناك أعمال قلوبٍ لا تقل أهميةً بل هي أعلى منها، مع الجمع بين الواجب من هذا و ذاك ..

و لكن قد يدرك الإنسان أحياناً بتفطّنه و تأمله و تفكّره و إيمانه مراتب أعلى من الذي أكثر منه عملاً بالجوارح .. و لذلك يقول ابن القيّم: ((فطريق الرضا و المحبة تسيّر العبد و هو مستلقٍ على فراشه فيصبح أمام الركب بمراحل)) " و هو على فراشه " ..

(الفرق بين الرضا والصبر:

الصبر: هو حبس النفس وكفها عن السخط –مع وجود الألم – وتمنى زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع،

والرضا: انشراح الصدر، وسعته بالقضاء، وترك زوال الألم – وإن وجد الإحساس بالألم – لكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوى الرضى فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية.

[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الله تعالى بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط ".

[*] وقال علقمة في قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: من الآية11]

هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.

ص: 195

(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً".

(حديث سعد بن أبي وقاص الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.

(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال رضيت بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد نبيا وجبت له الجنة.

[*] ونظر علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه إلى عدىّ بن حاتم كئيباً، فقال: مالي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعني وقد قتل ابناي وفقئت عيني فقال: يا عدى من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله.

[*] دخل أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل يموت وهو يحمد الله فقال أبو الدرداء: أصبت إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به.

[*] وقال أبو معاوية في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: من الآية 97] الرضا والقناعة.

قال الحسن: " من رضى بما قسم له وسعه وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه ".

[*] وقال عمر بن عبد العزيز: " ما بقى لي سرور إلا في مواقع القدر"، وقيل له ما تشتهي؟ فقال:" ما يقضى الله عز وجل ".

[*] وقال عبد الواحد بن زيد: " الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين.

[*] وقال بعضهم: " لن يُرى في الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى في كل حال، فمن وهب له الرضا فقد تبلغ أفضل الدرجات"

[*] وأصبح أعرابي وقد ماتت له أباعر (جمع بعير) كثيرة فقال:

لا والذي أنا عبدٌ في عبادته

لولا شماتة أعداء ذوى إحن

ما سرني أن إبلي في مباركها

وأن شيئاً قضاه الله لم يكن

(مقامات الرضا:

للرضا مقامات منها ما يلي:

(المقام الأول: الرضا بما قسم الله و أعطاه من الرزق و هذا ممكنٌ يجيده بعض العوامّ.

(المقام الثاني: الرضا بما قدّره الله و قضاه وهي مرتبة أعلى من المقام الأول.

(المقام الثالث: أن يرضى بالله بدلاً من كل ما سواه وهي مرتبة أعلى من المقامين الأول والثاني.

ص: 196

هذه منازل قد يأتي البعض بواحدةٍ و لا يقدر على الأخرى، و قد يأتي البعض بجزءٍ من الدرجة .. و لا يحقق كل الدرجة ..

قد يرضى عن الله فيما قسم له من الزوجة و لا يرضى بما قسم له في الراتب .. مثلاً ..

قد يصبر على سرقة المال .. و لا يصبر على فقد الولد ..

(و أما أن الإنسان يرضى بالله عن كل ما سواه، معنى ذلك أن يهجر كل شيءٍ لا يؤدي إلى الله (ملاهٍ

ألعاب

أمورٌ مباحةٌ لا تقود إلى الله) فالمشتغل بها لا يعتبر أنه رضي بالله عن كل ما سواه .. هذه حالةٌ خاصةٌ لشخصٍ مع الله دائماً، كل شيءٍ أي عملٍ أي حركةٍ أي سكنةٍ كلها طريقٌ إلى الله تؤدي إلى مرضاة الله.

(درجات الرضا:

للرضا درجات منها ما يلي:

(1)

الرضا بالله رباً و تسخّط عبادة ما دون الله، و هذا قطب رحى الإسلام لابد منه، أن ترضى بالله و لا ترضى بأي إلهٍ آخر .. (بوذا .. ما يعبده المشركون .. اليهود .. النصارى)، لم يتخذ غير الله رباً يسكن إليه في تدبيره و ينزل به حوائجه ..

و هذا محرومٌ منه غلاة الصوفية المشركون عبّاد القبور، فينزلون حوائجهم بالأولياء و الأقطاب و يسألونهم و يستغيثون بهم و يتوكّلون عليهم و يرجون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ..

لو آمنوا بالله حقاً لطلبوا المدد من الله و لم يذهبوا إلى المخلوقين في قبورهم، يقولون:

يا فلان المدد، يا فلان أغثنا .. !!

ثم يأتي الصوفية و يقولون: نحن متخصّصون بالقلوب و قد ضيّعوا الأساس .. !!

قال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ)[الأنعام: 164]

[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما: " يعني سيداً و إلهاً، فكيف أطلب رباً غيره و هو ربُّ كل شيءٍ؟!! "

وقال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)[الأنعام: 14] يعني: أ غير الله أتخذ معبوداً وناصرا و مُعيناً و ملجأً؟!!

ولياً: من الموالاة التي تتضمّن الحب و الطاعة ..

و قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً)[الأنعام: 114]

هل أرضى بحَكَمٍ آخر يحكم بيني و بينكم غير الله بكتابه و سنّة نبيه صلى اله عليه و سلم ..

ص: 197

فلو قال أحدهم: أنا أرضى بالقانون الوضعيّ يحكم بيننا .. هذا لا يمكن أن ينطبق عليه أنه يؤمن بالله ربا .. !! إذاً هناك أناسٌ يدّعون الرضا بالله ثم يخالفون في تعاملاتهم قاعدةً و أساساً من أعظم الأسس .. ، فإذا رضيت بالله رباً: يجب أن ترضى به حَكَماً

قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ)[الأنعام: 57] و من خصائصه سبحانه: أن التحكيم و الحُكْمَ له سبحانه وحده ..

ثم إذا تأملتَ هذه الأمور عرفتَ أن كثيراً من الناس يدّعون الرضا بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ نبياً ثم هنا يخالفون حكم الله و يرضون بحكم غيره و يخالفون السنّة و هناك يميلون و يوالون أصحاب دياناتٍ أخرى، فأين هم من هذه الثلاثة؟؟!!

و القرآن مليءٌ بوصف المشركين أنهم اتخذوا من دون الله أولياء!! من تمام الإيمان صحة الموالاة و مدار الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة الله وحده و يسخط عبادة غيره .. ،

(الفرق بين الرضا بالله والرضا عن الله:

(الرضا بالله: الرضا بأنه الله و أنه المعبود فقط لا غيره و أن الحكم له فقط لا لغيره و أن نرضى بما شرع. و لا يمكن أن يدخل فيه المؤمن و الكافر معاً، لا يكون إلا للمؤمن فقط.

(الرضا عن الله: أي: ترضى بما قضى و قدّر .. تكون راضياً عن ربك فيما أحدث لك و خلَق من المقادير .. و يدخل فيه المؤمن و الكافر ..

(ولابد من اجتماع الأمرين معاً: الرضا بالله و لرضا عن الله، و الرضا بالله أعلى شأناً و أرفع قدراً؛ لأنها مختصّةٌ بالمؤمنين. و الرضا عن الله مشتركةٌ بين المؤمن و الكافر؛ لأن الرضا بالقضاء قد يصح من المؤمن و الكافر، فقد تجد تصرّف كافرٍ فتقول: هذا راضٍ بالقضاء و مسلّم و لا اعتراض عنده، لكنه لم يرضَ بالله رباً.

فالرضا بالله رباً آكد الفروض باتفاق الأمّة .. فمن لا يرضى بالله رباً فلا يصح له إسلامٌ و لا عملٌ لأنه من المعلوم شرعا أن التوحيد مقدمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتبُ عليه غيره إذ لا ينفع مع الشركِ عمل.

(حكم الرضا بالقضاء:

مسألة: ما حكم الرضا بالقضاء؟

يجب التفصيل أولاً في قضيّة القضاء:

(1)

قضاءٌ شرعيٌّ: و هو ما شرعه الله لعباده قال تعالى: (وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)[الإسراء: 23]

قضى علينا و شرع .. قد يلتزم العباد به و قد لا يلتزمون به ..

ص: 198

(2)

قضاءٌ كونيٌّ: كُنْ فيكون .. إذا قضى الله بموتِ شخصٍ .. أو مرضٍ .. أو شفاءٍ .. أو غنىً .. أو فقرٍ .. أو نزولِ مطرٍ .. إذا قضاها فلا رادّ لقضائه، قضاءٌ كونيٌّ .. لا يستخلف .. لابد أن يقع .. كُنْ فيكون ..

مسألة: ما الفرق بين القضاء الشرعي والكوني؟

الفرق بين القضاء الشرعي والكوني أن القضاء الكوني لا بد فيها من وقوع المراد، وقد يكون المراد فيها محبوبا إلى الله، وقد يكون غير محبوب، وأما القضاء الشرعي فلا يلزم فيها وقوع المراد، ولا يكون المراد فيها إلا محبوبا لله.

مسألة: هل إيمان أبو بكرٍ الصديق قضاء شرعي أم كوني؟

إيمان أبو بكرٍ الصديق قضاء شرعي وكوني

[قضاء كوني] لأن إيمانه وقع

[قضاء شرعي] لأنه يوافق الكتاب والسنة

مسألة: هل كفر أبي طالب قضاء شرعي أم كوني؟

كفر أبي طالب قضاء كوني لأنه وقع وإن كان ذلك لا يحبه الله تعالى لأنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر.

{تنبيه} : (بالنسبة للقضاء الشرعي أن يكون عندنا رضا به قطعاً و هو أساس الإسلام و قاعدة الإيمان .. لابد أن نرضى بدون أي حرجٍ و لا منازعةٍ و لا معارضةٍ ..

قال تعالى: (فَلَا وَرَبّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لَا يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً)[النساء: 65]

لكن الرضا بالمقادير التي تقع، هناك فرقٌ بين الرضا و الصبر، الرضا بالمقدور

و الصبر على المقدور ..

(الرضا درجةٌ أعلى من الصبر ..

ليس الرضا عمليةً سهلةً .. و على ذلك يُحْمَل كلام من قال من العلماء إن الرضا ليس بواجبٍ في المقدور ..

الله لم يوجب على عباده أن يرضوا بالمقدور (المصائب)؛ لأن هذه الدرجة لا يستطيعها كل العباد، و لكن أوجب عليهم الصبر، و هناك فرقٌ بين الرضا و الصبر ..

قد يصبر الإنسان و هو يتجرّع المرارة و ألم المصيبة، و يمسك نفسه و يحبسها عن النياحة و شقّ الجيب أو قول شيءٍ خطأٍ، فنقول: هو صابرٌ ..

لكن هل وصل إلى مرحلة الرضا؟!!

يعني هل وصل إلى مرحلة الطمأنينة و الرضا بهذه المصيبة؟!!

ليس كل الناس يصلون إلى هذا ..

لا يجوز لطم الخدود و لا النياحة و لا شقّ الجيب؛ لأن هذا ضد الصبر الواجب، فالرضا لم يوجبه الله على كل عباده .. لكن من وصل إلى الرضا شأنه عظيمٌ ..

[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الرضا بالقضاء ثلاثة أنواعٍ:

(1)

: الرضا بالطاعات: و حكمها طاعةٌ ..

ص: 199

(2)

: الرضا بالمصائب: فهذا مأمورٌ به، فهو إما واجبٌ أو مستحبٌّ ..

أما الواجب: فهو ما يوازي الصبر و هو الدرجة الأولى من الرضا ..

أما الدرجة العليا من الرضا عند المصيبة التي فيها سكينة النفس التامة: فهذا عزيزٌ لا يصل إليه إلا قلّةٌ من المخلوقين ..

و الله من رحمته لم يوجبه عليهم؛ لأنهم لا يستطيعونه ..

(3)

الرضا بالمعصية: معصيةٌ .. ) ..

مسألة: ما حكم الرضا بالكفر والفسوق والعصيان كأن يرى في أهله الخبث و هو راضٍ؟

الجواب: أن الرضا بالمعصية معصيةٌ حرامٌ ..

الرضا بالكفر .. كفرٌ ..

حكم الرضا بالمعصية .. لا يجوز ..

بل الإنسان مأمورٌ ببغض المعصية، و الله لا يحب الفساد و لا يرضى لعباده الكفر و لا يحب المعتدين و لا يحب الظلم و لا الظالمين ..

(ثمرات الرضا:

الرضا عمل عظيم من أعمال القلوب و من رؤوسها وللرضا ثمراتٌ كثيرةٌ منها ما يلي:

(1)

الرضا و الفرح و السرور بالرب تبارك و تعالى .. و النبي صلى الله عليه

و سلم كان أرضى الناس بالله و أسرّ الناس بربه و أفرحهم به تبارك و تعالى ..

فالرضا من تمام العبودية و لا تتم العبودية بدون صبرٍ و توكلٍ و رضا و ذلٍّ و خضوعٍ و افتقارٍ إلى الله ..

(2)

إن الرضا يثمر رضا الرب عن عبده، فإن الله عز و جل رضي بمن يعبده عمّن يعبده على من يعبده و إذا ألححتَ عليه و طلبتَه و تذلّلتَ إليه أقبل عليك.

(3)

الرضا يخلّص من الهمّ و الغمّ و الحزن و شتات القلب و كسف البال و سوء الحال، ولذلك فإن باب جنة الدنيا يفتَح بالرضا قبل جنة الآخرة؛ فالرضا يوجب طمأنينة القلب و بَرْده و سكونه و قراره بعكس السخط الذي يؤدي إلى اضطراب القلب و ريبته و انزعاجه و عدم قراره

فالرضا ينزِل على قلب العبد سكينةً لا تتنزّل عليه بغيره و لا أنفع له منها؛ لأنه متى ما نزلت على قلب العبد السكينة: استقام و صلُحت أحواله و صلُح باله، و يكون في أمنٍ و دَعَةٍ و طيبِ عيشٍ ..

(4)

الرضا يخلّص العبد من مخاصمة الرب في الشرائع و الأحكام و الأقضية ..

فمثلاً إبليس لما أُمِر بالسجود عصى؟ رفض؟

ص: 200

لم يرضَ .. كيف أسجد لبشرٍ خلقتَه من ترابٍ؟ .. فعدم الرضا من إبليس أدّى إلى اعتراضٍ على أمر الله .. فإذاً منافقو عصرنا الذين لا يرضون بحكم الله في الربا و الحجاب وتعدّد الزوجات في كل مقالاتهم في مخاصمةٍ مع الرب سبحانه .. لماذا؟!!!

كلامهم يدور على مخاصمة الرب في شرعه و إن لم يصرّحوا بهذا .. ! فالرضا يخلّص الإنسان من هذه المخاصمة ..

(6)

الرضا من العدل .. الرضا يُشْعِر العبد بعدل الرب .. و لذلك كان صلى الله عليه و سلم يقول: ((عدلٌ فيَّ قضاؤك)) كما في الحديث الآتي:

(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.

والذي لا يشعر بعدل الرب فهو جائرٌ ظالمٌ، فالله أعدل العادلين حتى في العقوبات ..

فقطع يد السارق عقوبةٌ، فالله عدَل في قضائه و عقوباته فلا يُعْتَرض عليه لا في قضائه و لا في عقوباته ..

وعدم الرضا لأحد سببين: إما لفواتِ شيءٍ أخطأك و أنت تحبه و تريده .. أو لشيءٍ أصابك و أنت تكرهه و تسخطه .. فيحصل للشخص الذي ليس عنده رضا قلقٌ و اضطرابٌ إذا نزل به ما يكره و فاته ما يحب حصل له أنواع الشقاء النفسي، و إذا كان راضياً لو نزل به ما يكره أو فاته ما يحب ما شقي و لا تألّم؛ لأن الرضا يمنع عنه هذا الألم، فلا هو يأسى على ما فاته و لا يفرح بما أوتي .. قال تعالى:(لّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ)[الحديد: 23] *

الرضا مفيدٌ جداً لأنه يجعل المرء لا يأسف على ما فاته و لا يحزن و لا يتكدّر

على ما أصابه؛ لأنه مقدّرٌ مكتوبٌ ..

(6)

الرضا يفتح باب السلامة من الغشّ و الحقد و الحسد؛ لأن المرء إذا لم يرضَ بقسمة الله سيبقى ينظر إلى فلانٍ و فلانٍ .. فيبقى دائماً عينه ضيقةٌ و حاسدٌ ومتمنٍّ زوال النعمة عن الآخرين .. و السخط يدخل هذه الأشياء في قلب صاحبه ..

(7)

الرضا يجعلك لا تشكّ في قضاء الله و قدره و حكمته و علمه .. فتكون مستسلماً لأمره معتقداً أنه حكيمٌ مهما حصل .. لكن الإنسان الساخط يشكّ ويوسوس له الشيطان ما الحكمة هنا و هنا؟؟ .. !!

ص: 201

(ولذلك (الرضا و اليقين) أخوان مصطحبان ..

و (السخط و الشكّ) توأمان متلاصقان .. !!

فإذا استطعتَ أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر خيراً كثيراً ..

(8)

من أهم ثمرات الرضا: أنه يثمر الشكر. . .

فصاحب السخط لا يشكر .. فهو يشعر أنه مغبونٌ و حقّه منقوصٌ و حظّه مبخوسٌ .. !! لأنه يرى أنه لا نعمة له أصلاً .. !!

فالسخط نتيجة كفران المنعم و النعم .. !!!

والرضا نتيجة شكران المنعم و النعم .. !!!

(9)

الرضا يجعل الإنسان لا يقول إلا ما يرضي الرب ..

السخط يجعل الإنسان يتكلّم بما فيه اعتراضٌ على الرب، و ربما يكون فيه قدحٌ في الرب عز و جل ..

صاحب الرضا متجرّدٌ عن الهوى .. و صاحب السخط متّبعٌ للهوى ..

ولا يجتمع الرضا و اتباع الهوى، لذلك الرضا بالله و عن الله يطرد الهوى ..

صاحب الرضا و اقفٌ مع اختيار الله ..

يحسّ أن عنده كنزٌ إذا رضي الله عنه أكبر من الجنة ..

لأن الله عندما ذكر نعيم الجنة قال: قال تعالى: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ)[التوبة: 72]

رضا الله إذا حصل هو أكبر من الجنة و ما فيها ..

و الرضا صفة الله و الجنة مخلوقةٌ .. و صفة الله أكبر من مخلوقاته كلها ..

رضا الله أكبر من الجنة .. !!!

(10)

الرضا يخلّص العبد من سخط الناس .. لأن الله إذا رضي عن العبد أرضى عنه الناس .. و العبد إذا سعى في مرضاة الله لا يبالي بكلام الناس ..

أما المشكلة إذا سعى في مرضاة الناس فسيجد نفسه متعباً؛ لأنه لن يستطيع إرضاءهم فيعيش في شقاءٍ .. أما من يسعى لرضا الله فلا يحسب لكلام الناس أي حسابٍ و لن يتعبَ نفسياً .. و لو وصل إليه كلام الناس فلن يؤذيَه نفسياً و لن يبالي مادام الله راضياً عنه ..

(حديث معاوية في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، و من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.

(11)

الله يعطي الراضي عنه أشياءَ لم يسألها، و لا تكون عطايا الله نتيجة الدعاء فقط مادام في مصلحته ..

(12)

الرضا يفرّغ قلب العبد للعبادة .. فهو في صلاته خالٍ قلبُه من الوساوس .. في الطاعة غير مشتّت الذهن .. فيستفيد من العبادة .. الرضا يركّز و يصفّي الذهن فينتفع صاحبه بالعبادة ..

ص: 202

(13)

الرضا له شأنٌ عجيبٌ مع بقية أعمال القلوب الصالحة، فأجره لا ينقطع و ليس له حدٌّ بخلاف أعمال الجوارح، فأجرها له حدٌّ تنتهي بمدّةٍ معينةٍ .. فعمل الجوارح محدودٌ .. لكن عمل القلب غير محدودٍ ..

فأعمال الجوارح تتضاعف على حدٍّ معلومٍ محسوبٍ .. أما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها و إن غابت عن بال صاحبها .. كيف؟؟!!

(فمثلاً إنسانٌ راضٍ يفكّر بذهنه و قلبه أنه راضٍ عن الله و عن قضائه، عرضت له مسألةٌ حسابيّةٌ فانشغل ذهنه بها .. العلماء يقولون: أجر الرضا لا ينقطع و إن شُغِل الذهن بشيءٍ ثانٍ؛ لأن أصله موجودٌ و لو انشغل القلب بشيءٍ ثانٍ الآن ..

(وإنسانٌ يخاف الله، أحياناً يحصل له بكاءٌ و وجلٌ نتيجة هذا الخوف، لو انشغل باله مع ولده يضمّد جراح ولده و نسي موضوع التأمل في الخوف و ما يوجب البكاء و الخشية فلازال أجره على الخوف مستمرّاً؛ لأنه عملٌ قلبيٌّ مركوزٌ في الداخل لم ينتهِ أجره بل هو مستمرٌّ .. و هذا من عجائب أعمال القلوب. . .

و هذا يمكن أن يوضِّح لماذا أجر أعمال القلوب أكثر من أجر أعمال الجوارح، مع أنه لابد من أعمال الجوارح طبعاً .. لأنه إذا لم يكن هناك أعمال جوارح فالقلب خرِبٌ ..

(الرضا لا يتعارض مع الدعاء:

مسألة: هل الرضا لا يتعارض مع الدعاء؟

الجواب: لا 00 لأن الدعاء يرضي الله و هو مما أمر الله به ..

مسألة: هل الإنسان إذا دعا أن يزيل الله عنه مصيبةً لا يكون راضياً؟!!

الجواب: لا .. ليس هكذا .. لأن الله تعالى قال: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60] و قال تعالى: (تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً)[السجدة: 16] يدعون ربهم يريدون نعماً و دفعَ نقمٍ.

فالدعاء لجلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرّةٍ .. فلأن الله قال: ادعوني و لأن الدعاء يرضي الله، فإن الدعاء لا يتعارض مع الرضا ..

فالمرء لو كان راضياً بالمعصية و سأل الله أن يزيل أثرها أو يعوّضه خيراً، لم يعارضِ الدعاءُ الرضا .. لأن الله أمرنا أن نسأله الرزق قال تعالى:(فَابْتَغُواْ عِندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ)[العنكبوت: 17]

(الرضا لا يتنافى مع البكاء على الميّت:

مسألة: هل الرضا يتنافى مع البكاء على الميّت؟!!

[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

ص: 203

البكاء على الميت على وجه الرحمة حسنٌ مستحبٌّ و ذلك لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه .. و بهذا يُعْرَف قوله صلى الله عليه و سلم لما بكى على الميت: إنها رحمة كما في الحديث الآتي:

(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وأنت يا رسول الله فقال يا بن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يُرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

{تنبيه} : ظئرا: أي زوج المرضعة وهو معنى مستعار.

وينبغي أن نفرّق؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى ولده إبراهيم يموت بكى لماذا بكى؟ .. هل بكى رحمةً أو تأسّفاً على فقد الولد!!.، بكى رحمة بلا شك.

وإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظِّه إلا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه علي ضحك و قال:(رأيت أن الله قد قضى، فأحببتُ أن أرضى بما قضى الله به) .. فحاله حالٌ حسنٌ بالنسبة لأهل الجزع، و أما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء و حمد الله على كل حالٍ كما قال صلى الله عليه و سلم فهذا أكمل ..

فإذا قيل: أيهما أكمل: النبي صلى الله عليه و سلم بكى رحمةً بالميت أو الذي من السلف ضحك؟؟!!

بكاء رحمة الميت مع حمد الله و الرضا بالقضاء أكمل، كما قال تعالى:(ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ)[البلد: 17] فذكر الله التواصي بالصبر

والتواصي بالمرحمة ..

(والناس في الصبر أربعة أقسامٍ:

(1)

منهم من يكون فيه صبرٌ بقوةٍ (ما فيه رحمة).

(2)

و منهم من يكون فيه رحمةٌ بقوةٍ (ينهار).

(3)

و منهم من يكون فيه القسوة و الجزع (جمع الشر من الطرفين).

(4)

المؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه و يرحم الناس.

(ومما يجب أن يعلم أنه لا يُسَوِّغُ في العقل و لا في الدين طلب رضا المخلوقين

بإطلاقٍ؛ لوجهين:

أحدهما: أن هذا غير ممكن، كما قال الشافعي:(رضا الناس غايةٌ لا تُدْرَك)، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه و دع ما سواه و لا تعانِه

ص: 204