الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا عن محقرات الذنوب، ناهيك عن ما يرتكبه البعض من كبائر وموبقات من ربا وزنا ورشوة وعقوق ونحو ذلك .. وإن المرء ليعجب والله أشد العجب! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟ ألم يسألوا أنفسهم؟ ثم ماذا في النهاية؟ ماذا بعد كل هذه الشهوات والملذات؟ ماذا بعد هذا اللهو والعبث؟ ماذا بعد هذه الحياة التافهة المملوءة بالمعاصي والمخالفات؟ هل غفل أولئك عما وراء ذلك .. هل غفلوا عن الموت والحساب والقبر والصراط، والنار والعذاب، أهوال وأهوال وأمور تشيب منها مفارق الولدان، ذهبت اللذات وبقيت التبعات، وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، متاع قليل ثم عذاب أليم وصراخ وعويل في دركات الجحيم، فهل من عاقل يعتبر ويتدبر ويعمل لما خلق له ويستعد لما أمامه، أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر.
تا الله لو عاش الفتى في عمره
…
ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل نعيم
…
متنعماً فيها بنعمى عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي
…
بمبيت أول ليلة في قبره
إن مثل هؤلاء المساكين الغافلين السادرين في غيّهم قد أغلقت الحضارات الحديثة أعينهم وألهتهم الحياة الدنيا عن حقائقهم ومآلهم، ولكنهم سوف يندمون أشد الندم إذا استمروا في غيهم ولهوهم وعنادهم ولم يفيقوا من غفلتهم وسباتهم ويتوبوا إلى ربهم. يقول تعالى عن مثل هؤلاء: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
أي دعهم يعيشوا كالأنعام ولا يهتمون إلا بالطعام والشراب واللباس والشهوات!؟. ألم يأن لكل مسلم أن يعلم حقيقة الحياة والغاية التي من أجلها خلق؟
أما والله لو علم الأنام
…
لما خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته
…
عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشر
…
وتوبيخ وأهوال عظام
(فصلٌ في منزلة الإخلاص:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الإخلاص:
(الفرق بين الإخلاص و الصدق:
(الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا:
(فضائل الإخلاص:
(المجاهدة في إخفاء العمل:
(ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص .. ؟
(فضل إحضار النية في الطاعات:
(فضل إخلاص النيّة:
(خطورة ترك العمل خوف الرياء:
(هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه:
(علامات الإخلاص:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف الإخلاص:
مسألة: ما هو الإخلاص لغةً وشرعا؟
الإخلاص لغةً: خلص خلوصاً خلاصاً، أي صفى وزال عنه شوبه، وخلص الشيء صار خالصاً وخلصت إلى الشيء وصلت إليه، وخلاص السمن ما خلص منه. فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والأوشاب. والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. وأخلص الدين لله قصد وجهه وترك الرياء. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء، وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد، والمخلصون هم الموحدون والمختارون.
والإخلاص شرعا: هو أن تبتغي بعملك وجه الله تعالى، فإن قصدت بعملك غيره تعالى لم يقبله فهو سبحان أغني الشركاء عن الشرك، فهو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل عن جميع الشوائب.
(الإخلاص هو أهم أعمال القلوب وأعلاها وأساسها، هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البينة: من الآية 5).
و قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]
(والإخلاص هو لب العبادة وروحها.
[*] قال ابن حزم: النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب.
(والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله عز وجل به فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البينة: من الآية 5).
وإليك الأدلة من السنة الصحيحة على ذلك:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشِركَه ".
(حديث جندب بن عبد الله في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي
…
الله به.
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ". قالوا: بلي. قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل.
{تنبيه} : (قوله: [أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال] وإنما كان كذلك، لأن التخلص منه صعب جداً، ولذلك قال بعض السلف:" ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه "
(الفرق بين الإخلاص و الصدق:
مسألة: ما الفرق بين الإخلاص و الصدق؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص و الصدق والقصد واحد.
فقيل: «هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة»
وقيل: «تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين»
وقيل: «التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك»
«و الصدق التنقي من مطالعة النفس»
«فالمخلص لا رياء له» «والصادق لا إعجاب له»
«ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص» ولا يتمان إلا بالصبر
وقيل: «من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص»
فنقصان كل مخلص في إخلاصه: بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصا.
(الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا:
مسألة: ما الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا؟
((الرياء والسمعة) مقصودهما أن يحمد العبد في العبادة، أما إرادة العبد بعمله الدنيا فإنه يريد أمراً مادياً محضاً كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال.
2 -
أن يريد المرتبة، كمن تعلم في كلية وأخذ شهادة الدكتوراة لأجل الشهادة والمنزلة فقط وليس للتقرب إلى الله تعالى.
قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الَاخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[سورة: هود - الآيتان:15،16]
قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا). أي: البقاء في الدنيا.
قوله: (وزينتها). أي المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة، كما قال الله تعالى:{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} [آل عمران: 14].
قوله: (نوف إليهم). فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة الياء، لأنه جواب الشرط.
والمعني: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، كما قال تعالى:{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها} [الأحقاف: 20].
ولهذا لما بكي عمر حين رأي النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في جنبه الفراش، فقال:" ما يبكيك؟ ". قال يا رسول الله! كسري وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم "(1) وفي الحقيقة هي ضرر عليهم، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا.
قوله: (وهم فيها إلا يبخسون). البخس: النقص، أي: لا ينقصون مما يجازون فيه، لأن الله عدل لا يظلم، فيعطعون ما أرادوه.
قوله: (أولئك). المشار إليه يريدون الحياة الدنيا وزينتها.
قوله: (ليس لهم في الآخرة إلا النار). فيه حصر وطريقة النفي والإثبات، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله.
قوله (وحبط ما صنعوا فيها). الحبوط: الزوال، أي: زال عنهم ما صنعوا في الدنيا.
قوله: (وباطل ما كانوا يعملون). (باطل): خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما " في قوله: (ما كانوا يعملون)، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط، وأن أعمالهم باطلة.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعس عبد الدينار، و عبد الدرهم، و عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي، وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسُه، مغبَّرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن، لم يؤذن له، وإن شفع، لم يشفع "
قوله: " تَعِس ". بفتح العين أو كسرها، أي: خاب وهلك.
قوله: " عبد الدينار" الدينار: هو النقد من الذهب، وسماه عبد الدينار، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار، والدرهم هو النقد من الفضة.
قوله: " [و عبد الخميصة]، وهذا من يعنى بمظهره، لأن الخميصة كساء جميل، ليس له هم إلا هذا الأمر، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا؟! فهذا أعظم.
قوله: " إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط ". يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً، أي: إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله، كأن يقول: لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً؟ وما أشبه ذلك، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه.
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين لمن يحب.
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره، إن أعطي شكر، وإن منع صبر.
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له، ولهذا سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم عبداً له.
قوله:" تعس وانتكس ". تعس، أي: خاب وهلك، وانتكس، أي: أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد، ولهذا قال:
وإذا شيك فلا انتقش" أي: إذا أصابته شوكة، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه.
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله، لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له.
قوله: " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ". هذا عكس الأول، فهو لا يهتم للدنيا، وإنما يهتم للآخرة، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله.
و" طوبى " فُعْلى من الطيب، وهي اسم تفضيل، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث، والمعني: أطيب حال تكون لهذا الرجل، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة، والأول، أعم،
وقوله: " آخذ بعنان فرسه ". أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه.
قوله: " في سبيل الله ". ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه، فهو في سبيل الله، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قتل دون ذلك، فهو شهيد "، فأما من قاتل للوطنية المحضة، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه.
قوله: [أشعثٌ رأسه، مغبَّرة قدماه] أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً، فليس له هم فيه.
قوله: [إن كان في الحراسة، فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة] المعنى أنه يُنكر ذاته فالأمر يستوي عنده سواء كان في المنزلة العليا كمرتبة الحراسة التي تكون في مقدمة الجيش أو في المنزلة الدنيا كالسقي ال
…
ي يكون في مؤخرة الجيش فهو لا يحرص على مكانة دنيوية حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع.
قوله:" إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ". أي: هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية، لأنه يقاتل في سبيله.
والشفاعة: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
والاستئذان: طلب الإذن بالشيء.
{تنبيه} : (ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل:
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: الآية 83). وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: " يانفس أخلصى تتخلصى ".
وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل، تكدربه صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه، منغمس فى شهواته، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل:" من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا "، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ، فمثل هذا لو أكل، أو شرب، أو قضى حاجته، كان خالص العمل، صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور.
وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه، وصارت إخلاصاً، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة، وبالجملة غير الله، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ، وصلاة وغير ذلك إلا نادراً.
فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب الإنسان فيها، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ.
كما حُكى عن بعضهم: أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى:{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} (الزمر: من الآيتين 47،48).
وبقوله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: الآية 103 - 104).
(فضائل الإخلاص:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخلاص
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]
و قال تعالى: (إِنّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لّهُ الدّينِ * أَلَا لِلّهِ الدّينُ الْخَالِصُ)[الزمر/2، 3]
وقال لنبيه: قال تعالى: (قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لّهُ دِينِي * فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ)[الزمر 14، 15]
و قال تعالى: (قُلْ إِنّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام 162، 163]
وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]
(قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا: لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]«فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله والإحسان فيه: متابعة رسوله وسنته» وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 23] وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أريد بها غير وجه الله. أهـ.
وللإخلاص أهمية قصوى فهو منتهى أمل العبد وأقصى غايته للأسباب الآتية:
(1)
النجاة تكون بسببه في الآخرة لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(2)
اجتماع القلب في الدنيا وزوال الهم لا يكون إلا به:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له.
[من كانت الآخرة همّه]: يعني: أي شغله الشاغل، يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة، كان جزائه ما يلي:
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة:
[ومن كانت الدنيا همّه]: فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]
[جعل الله فقره بين عينيه]: يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[وفرَّق عليه شمله]: فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد.
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]: فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك.
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد: ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال:(كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم: يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
(لم يبال الله في أي أوديته هلك): يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
سادساً: أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث: يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه.
والمقصود: أن محب الدنيا يعذب فى قبره، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: الآية: 55).
[*] قال بعض السلف: " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها ".
(3)
مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات: كما في الحديث الآتي: (
(حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك).
(4)
ينجي من العذاب العظيم يوم الدين: كما في الأحاديث الآتي:
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(5)
كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل، كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]
(6)
الإخلاص مهم جداً لأن أغلب الناس يعيشون في صراعات داخلية ويعانون من أشياء فحرموا البركة والتوفيق إلا من رحمه الله، فكيف يكون النصر و تعلم العلم إلا من المخلصين، الإخلاص مهم في إنقاذنا من الوضع الذي نعيش فيه، فقد أصبح عزيزاً نادراً قليلاً، مشاريع ودعوات تلوثت بالرياء، حركات إسلامية دمرت بسبب افتقاد الإخلاص وبعد أن أريد بها الرئاسة والجاه والمال، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب (لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
(فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها. أهـ
[*] يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا تورع في الرياسة حامي عليها وعادي.
(7)
ومن فوائد الإخلاص أنه يقلب المباحات إلى عبادات وينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
فالنية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عز و جل.
(8)
الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذنوب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر فيه كبائر، وإلا فأهل الكبائر كلهم يقولون لا إله إلا الله. كالبغي التي سقت كلباً فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: غُفِرَ لأمرأة مُومِسَة، مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فَغُفِرَ لها بذلك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(غُفِرَ) بالبناء للمفعول بضبط المصنف أي غفر اللّه
(لامرأة مُومِسَة) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بضبطه
(مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ) بفتح الراي وكسر الكاف وشد التحتية بئر
(يلهث) أي يخرج لسانه من شدة الظمأ
(كاد يقتله العطش) لشدته وفي رواية يأكل الثرى من العطش أي التراب الندي
(فنزعت خفها) من رجلها
(فأوثقته) أي شدته
(بخمارها) بكسر الخاء أي بغطاء رأسها والخمار ككتاب ما يغطى به الرأس
(فنزعت) جذبت وقلعت
(له من الماء) أي بالبئر فسقته
(فَغُفِرَ لها بذلك) أي بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلاً منه. قال ابن العربي: وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب وكونه بعده فإن كان قبله فليس بناسخ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه ولا يجمع عليه حرّ العطش والموت، ألا ترى أن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال: لا تجمعوا عليهم حرّ السيف والعطش فسقوا واستدل به على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خفها ومنع باحتمال أن تكون صبته في شيء فسقته أو غسلت خفها بعد أو لم تلبسه على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ (فائدة) قال شيخنا الشعراني: سقط على قلب زوجتي شيء فوصلت لحالة الموت فصاحت أهلها وإذا بقابل يقول وأنا بمجاز الخلاء خلص الذبابة من ضبع الذباب من الشق الذي تجاه وجهك ونحن نخلص لك زوجتك فوجدته عاضاً عليها فخلصتها فخلصت زوجتي حالاً.
(9)
تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم وتأمل في هذا الحديث بعين البصيرة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
(10)
وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للحق والصواب:
قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]
(11)
وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه.
قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَاّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر.
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
(12)
وبالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله، فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك ..
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.
(13)
والمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور، لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز
قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
لقد مر في الأمة كثير من المخلصين كانت سيرتهم نبراساً لمن بعدهم وقدوة وخيراً، لذلك أبقى الله سيرتهم وذكرهم حتى يقتدي بهم من بعدهم وعلى رأس هؤلاء الأنبياء، النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحواريو الأنبياء والصحابة الذين فتحوا البلاد بإخلاصهم ومن بعدهم من التابعين ..
[*] يقول عبدة بن سليمان: كنا مع سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى ساعة فطعنه ازدحم الناس عليه ليعرفوا من هو فإذا هو يلثم وجهه، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائماً أأنت يا أبا عمر ممن يشنع علي.
[*] ويقول الحسن: إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]
[*] يقول علي بن مكار البصري الزاهد: ((لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله)) فقد كان السلف يخشون من قضية المجاملات.
[*] قال الذهبي: يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: ((أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)) قال الذهبي: صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
[*] قال هشام الدستوائي: ((والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل).
[*] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).
(ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة أن يعرف الرجل لمكافأته، ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً، فعاهده، و كان يقول: ((اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
(وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، امتثالاً للحديثين الآتيين:
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل.
خَِبٌِء من عمل صالح: أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس، خالية من الرياء، فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
(المجاهدة في إخفاء العمل:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم.
[*] يقول حماد بن زيد: كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.
[*] قال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
[*] يقول محمد بن واسع التابعي: ((إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم)).
(وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
(وكان علي بن الحسن يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين بالظلمة، فالصدقة تطفيء غضب الرب، وكان أهل بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات عرفوا، و رأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله من القرب والجرب بالليل فكان يعول مائة بيت.
(وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء ..
مسألة: متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟
[*] قال ابن قدامة: {فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات} قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به {إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر} ، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
(وفصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي:
(1)
الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
(2)
الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
(3)
الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي لأن السلامة لا يعدلها شيء فليس له أن يكون كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.
ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار ((لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)).
[*] قال أبو بكر بن عياش لولده ((يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة)) من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.
(لله درَ أقوامٍ نُعِّمُوا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة، وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة، ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة، وداموا في الدنيا على السهر والمجاعة، فيا فخرهم إذا قامت الساعة.
(لله در أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها.
(ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص .. ؟
[*] قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبداً أحب الشهرة.
[*] قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
[*] وسُئِل سهل بن عبد الله التستوري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
[*] وقال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة.
[*] قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
[*] قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
[*] عن داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب. أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك، هذا أمر عظيم.
[*] قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ".
[*] قال السوسي: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص ". وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات.
[*] قال أيوب: " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال ".
[*] وقال بعضهم: " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
[*] وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال: " الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب ".
[*] وقال الفُضَيْل: " ترك العمل من أجل الناس رياء، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما ".
(فضل إحضار النية في الطاعات:
[*] (قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين:
اعلم أنه ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات، وإن قل أن يحضر النية وهو: أن يقصد بعمله رضا الله عز وجل، وتكون نيته حال العمل.
ويدخل في هذا جميع العبادات من الصلاة والصوم، والوضوء، والتيمم، والاعتكاف، والحج، والزكاة، والصدقة، وقضاء الحوائج، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وابتداء السلام، ورده، وتشميت العاطس، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، وإجابة الدعوة، وحضور مجالس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار، والنفقة على الأهل، والضيف وإكرام أهل الود، وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم، والمناظرة فيه، وتكراره، وتدريسه، وتعليمه، ومطالعته، وكتاباته، وتصنيفه، والفتاوى، وكذلك ما أشبه هذه الأعمال، حتى ينبغي له إذا أكل، أو شرب، أو نام، أن يقصد بذلك التقوي على طاعة الله، أو راحة البدن، للتنشط للطاعة.
-وكذلك إذا أراد جماع زوجته، يقصد إيصالها حقها، وتحصل ولد صالح، يعبد الله تعالى، وإعفاف نفسه، وصيانتها من التطلع إلى حرام، والفكر فيه.
-فمن حُرِمَ النية في هذه الأعمال، فقد حرم خيرًا عظيمًا [كثيرًا]، ومن وُفِقَ لها، فقد أعطي فضلًا جسيمًا. فنسأل الله الكريم التوفيق لذلك؛ وسائر وجوه الخير!
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام أحمد قال: حدثنا إسحاق بن خلف قال: حدثنا حفص بن غياث قال: " كان عبد الرحمن بن الأسود رضي الله عنه لا يأكل الخبز إلا بنية ". قلت لإسحاق: وأي شيء النية في أكل الخبز؟ قال: كان يأكل فإذا ثقل عن الصلاة خفف ليخف بها؛ فإذا خف ضعف فأكل ليقوى فكان أكله لها، وتركه لها.
قلت: معنى يخف: أي ينشط وتسهل عليه ويتلذذ بها.
وأحمد بن أبي الحواري يقال: بفتح الراء ويكسرها، والكسر أشهر، والفتح سمعته مرات من شيخنا الحافظ أبي البقاء يحكيه عن أهل الإتقان أو عن بعضهم والله تعالى أعلم.
-ودلائل هذه القاعدة ما قدمناه من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
(فضل إخلاص النيّة:
[*] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى ".
[*] وقال بعض السلف: رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية.
[*] وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية، فإنها أبلغ من العمل ".
[*] وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة فقال له: " أتُعْلم الناس، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هي: قصد القلب، ولا يجب التلفظ بها في شيء من العبادات وإنما يشرع في الحج والعمرة أن يقول: لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً، وهو الذي يسمى بالإهلال.
[*] قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
[*] قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
[*] قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي.
[*] قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
{تنبيه} : (من أعظم الأشياء التي تكون عوناً بعد الله تعالى في حصول الإخلاص إخفاء العمل، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
(خطورة ترك العمل خوف الرياء:
هذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:
من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي" لأنه ترك لأجل الناس" لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء. فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.
{تنبيه} : (من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس؛ هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رؤوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتسابا لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله، قال تعالى: ((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
(وينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل؟ إذا حصل تشريك فيه، ومتى يأثم؟ ومتى لا يأثم؟
وفصل الخطاب أن المسألة على التفصيل الآتي:
(1)
أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر (أعلى المراتب).
(2)
أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته، ورجل نوى الحج والتجارة، ورجل جاهد ونظر إلى مغانم، ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرها ـ والأفضل أن لا تكون موجودة ولا مشركة في العمل ولا داخلة فيه أصلاً.
(3)
أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك فيكون علي التفصيل الآتي:
(أ) إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
(ب) أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدافعه ويجاهده، فعمله صحيح وله أجر على جهاده.
(جـ) أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدافعه و يستمر معه وهذا يبطل العمل.
(د) أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقط، ويخرج زكاة أموال لتنمو، ويخرج للجهاد للغنيمة، فهؤلاء أعمالهم باطلة قال تعالى:{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18]
(هـ) أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم
وقال تعالى: (مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ،
…
أُوْلَئِكَ
…
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) {هود/15،16}
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
[*] قال بعض السلف: ((إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص))، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.
(هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه:
(1)
إذا حمدك الناس على الخير بدون قصد فهذا عاجل بشرى المؤمنين.
(2)
رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
(3)
تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.
(4)
كتم الذنوب وعدم التحدث بها، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب، نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.