المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة الأدب:

(الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك في كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان فإنه قد اشتراها منك وأنت ساع في تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من المروءة: تسليمه على ما فيه من العيوب وتقاضي الثمن كاملاً أو رؤية مِنَتَه في هذا الإصلاح وأنه هو المتولي له لا أنت فيغنيك الحياء منه عن رسوم الطبيعة والاشتغال بإصلاح عيوب نفسك عن التفاتك إلى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحك.

‌(فصلٌ في منزلة الأدب:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]

قال ابن عباس وغيره: أدبوهم وعلموهم وهذه اللفظة مؤذنة بالاجتماع فالأدب: اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس

وعلم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب وإصابة مواقعه وتحسين ألفاظه وصيانته عن الخطاء والخلل وهو شعبة من الأدب العام والله أعلم.

مسألة: ما هي أنواع الأدب؟

((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

والأدب ثلاثة أنواع:

(أدب مع الله سبحانه:

(وأدب مع رسوله وشرعه:

(وأدب مع خلقه:

(أولاً الأدب مع الله تعالى:

مسألة: ما معنى الأدب مع الله تعالى؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

الأدب مع الله تبارك وتعالى: «هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا»

مسألة: متى يستقيم الأدب مع الله تعالى؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء:

(معرفته بأسمائه وصفاته.

(ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره.

(ونفسٌ مستعدةٌ قابلةٌ لينةٌ متهيئةٌ لقبول الحق علما وعملا وحالا.

(ثانياً الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

فالقرآن مملوء به:

ص: 449

فرأس الأدب معه: «كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق» دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا» «أو يحمله شبهة أو شكا أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم» فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة: أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه: تأويلا وحملا فقال: نؤوله ونحمله فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدر أن الرسول حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة هذا أدب الخواص معه لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه بل المعول في باب معرفة الله: على العقول المنهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ

ص: 450

يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون/ 73:63]

(والناصح لنفسه العامل على نجاتها: يتدبر هذه الآيات حق تدبرها ويتأملها حق تأملها وينزلها على الواقع: فيرى العجب ولا يظنها اختصت بقوم كانوا فبانوا فالحديث لك واسمعي يا جارة والله المستعان

(من مظاهر الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

(ومن الأدب مع الرسول: أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه.

وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهى.

(ومن الأدب معه: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها.

(ومن الأدب معه: أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] وفيه قولان للمفسرين:

أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بل قولوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا نبي الله فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول أي دعاءكم الرسول الثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء

ص: 451

أجاب وإن شاء ترك بل «إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ولم يسعكم التخلف عنها البتة» فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل أي دعاؤه إياكم

(ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجلبله هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43][الأنبياء: 7]

(ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة.

(ثالثاً الأدب مع الخلق:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

الأدب مع الخلق: فهو «معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم» فلكل مرتبة أدب والمراتب فيها أدب خاص فمع الوالدين: أدب خاص وللأب منهما: أدب هو أخص به ومع العالم: أدب آخر ومع السلطان أدب يليق به وله مع الأقران أدب يليق بهم ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته ولكل حال أدب: فللأكل آداب وللشرب آداب وللركوب والدخول والخروج والسفر والإقامة والنوم آداب وللبول آداب وللكلام آداب وللسكوت والاستماع آداب.

وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب

فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة والإخلال به مع الأم تأويلا وإقبالا على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة.

ص: 452

وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر: كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان وانظر قلة أدب عوف مع خالد: كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده فكان ذلك التأخر إلى خلفه وقد أومأ إليه أن: اثبت مكانك جمزا وسعيا

(أقوال السلف في الأدب:

قال أبو علي الدقاق: العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة ويصل بأدبه في طاعته إلى الله، وقال: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده.

وقال ابن عطاء: الأدب الوقوف مع المستحسنات فقيل له: وما معناه فقال: أن تعامله سبحانه بالأدب سرا وعلنا ثم أنشد

إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح

وقال أبو علي: من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل.

وقال يحيى بن معاذ: إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين.

وقال أبو علي: ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب.

وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله وقال ابن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم

وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب فقال: التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله عليك.

وقال سهل: القوم استعانوا بالله على مراد الله وصبروا لله على آداب الله.

وقال ابن المبارك: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون وقال: «الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف»

وقال أبو حفص لما قال له الجنيد: لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين فقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن فالأدب مع الله حسن الصحبة معه بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء كحال مجالس الملوك ومصاحبهم.

ص: 453

وقال أبو نصر السراج: الناس في الأدب على ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا: فأكبر آدابهم: في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسمار الملوك وأشعار العرب، وأما أهل الدين: فأكثر آدابهم: في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات، وأما أهل الخصوصية: فأكبر آدابهم: في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعهود وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب.

وقال سهل: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص.

وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها وتجنب تلك الرعونات.

وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب وقال بعضهم: الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي: ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي: ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات.

وقال أبو عثمان: «إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب»

وقال النوري رحمه الله: «من لم يتأدب للوقت فوقته مقت»

ص: 454

وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن استعمال الأدب: فإنه يرجع من حيث جاء وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به قال المسيح عليه السلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] ولم يقل: لم أقله وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره فقال: تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه فقال: ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها فقال: إنك أنت علام الغيوب ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به وهو محض التوحيد فقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم فقال: وأنت على كل شيء شهيد ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك فإذا عذبتهم مع كونهم عبيدك فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد وأعتاهم على سيدهم وأعصاهم له: لم تعذبهم لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته فلماذا يعذب أرحم الراحمين وأجود الأجودين وأعظم المحسنين إحسانا عبيده لولا فرط عتوهم وإباؤهم عن طاعته وكمال استحقاقهم للعذاب وقد تقدم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] أي هم عبادك وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم فإذا عذبتهم: عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه فليس في هذا استعطاف لهم كما يظنه الجهال ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة كما تظنه القدرية وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله وكمال علمه بحالهم واستحقاقهم للعذاب ثم قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ولم يقل الغفور الرحيم وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى فإنه قاله في وقت غضب الرب

ص: 455

عليهم والأمر بهم إلى النار فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة بل مقام براءة منهم فلو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم ليست عن عجز عن الانتقام منهم ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه ولجهله بمقدار إساءته إليه والكمال: هو مغفرة القادر العالم وهو العزيز الحكيم وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب وفي بعض الآثار: حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 7880] ولم يقل وإذا أمرضني حفظا للأدب مع الله وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] ولم يقل فأراد ربك أن أعيبها وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] وكذلك قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10] ولم يقولوا: أراده ربهم ثم قالوا: أم أراد بهم ربهم رشدا وألطف من هذا قول موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ولم يقل أطعمني وقول آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ولم يقل: رب قدرت علي وقضيت علي وقول أيوب عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] ولم يقل فعافني واشفني وقول يوسف لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ

ص: 456

أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] ولم يقل: أخرجني من الجب حفظا للأدب مع إخوته وتفتيا عليهم: أن لا يخجلهم بما جرى في الجب وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ولم يقل: رفع عنكم جهد الجوع والحاجة أدبا معهم وأضاف ما جرى إلى السبب ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه فقال:

{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فأعطى الفتوة والكرم والأدب حقه ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم

ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل: أن يستر عورته وإن كان خاليا لا يراه أحد أدبا مع الله على حسب القرب منه وتعظيمه وإجلاله وشدة الحياء منه ومعرفة وقاره.

وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا.

وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: «من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن»

«ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض» «ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة»

وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل (ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل

فإن لله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد فألهمه ومكنه وعرفه وأرشده وأرسل إليه رسله وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10] فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدالة على الاعتدال والتمام ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه وهي التقوى ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور والله سبحانه وتعالى أعلم.

(منزلة الأدب في الدين:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

والأدب هو الدين كله فإن ستر العورة من الأدب والوضوء وغسل

ص: 457

الجنابة من الأدب والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهرا ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فعلق الأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له: أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة وكان لبعض السلف حُلْةٌ بمبلغ عظيم من المال وكان يلبسها وقت الصلاة ويقول: «ربي أحق من تجملت له في صلاتي» ، ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لا سيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا.

(ومن الأدب: نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي: أن يرفع بصره إلى السماء فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقاً خافضاً طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق قال: والجهمية لما لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سمواته على عرشه كما أخبر به عن نفسه واتفقت عليه رسله وجميع أهل السنة قال: وهذا من جهلهم بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول على نقيض قولهم إذ من الأدب مع الملوك: أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم فما الظن بملك الملوك سبحانه وسمعته يقول في نهيه عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إن القرآن هو أشرف الكلام وهو كلام الله وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد فمن الأدب مع كلام الله: أن لا يقرأ في هاتين الحالتين ويكون حال القيام والانتصاب أولى به.

(ومن الأدب مع الله: أن لا يستقبل بيته ولا يستدبره عند قضاء الحاجة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم والصحيح: أن هذا الأدب: يعم الفضاء والبنيان كما ذكرنا في غير هذا الموضع.

(ومن الأدب مع الله: في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة ففي الموطأ لمالك عن سهل بن سعد: أنه من السنة و: كان الناس يؤمرون به ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء فعظيم العظماء أحق به.

ص: 458