المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة الصبر:

وهي نوعان: «تسليم لحكمه الديني الأمري» «وتسليم لحكمه الكوني القدري» (فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]

فهذه ثلاث مراتب: «التحكيم وسعة الصدر بانتفاء الحرج والتسليم»

(وأما التسليم للحكم الكوني: فمزلة أقدام ومضلة أفهام حير الأنام وأوقع الخصام وهي مسألة الرضا بالقضاء.

(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

أن التسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها وأما الأحكام التي أمر بدفعها: فلا يجوز له التسليم إليها بل العبودية: مدافعتها بأحكام أخر أحب إلى الله منها.

لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها.

‌(فصلٌ في منزلة الصبر:

[*] (عناصر الفصل:

(الإيمان نصف صبر ونصف شكر:

(أولاً الصبر:

(تعريف الصبر:

(أنواع الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه:

(حاجة الناس إلى الصبر:

(الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل:

(حكم الصبر:

(فضائل الصبر:

(الأخبار الواردة في فضيلة الصبر:

(أنواع الناس في الصبر:

(مراتب الصبر:

(مجالات الصبر:

(الصبر خلق يمكن تحصيله واكتسابه بترويض النفس وتمرينها:

(آفات في طريق الصبر:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:

(الإيمان نصف صبر ونصف شكر:

إن من المعلوم شرعاً أن الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر قال تعالى:(إِنّ فِي ذَلِكَ لَايَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ)[إبراهيم / 5]

(حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.

(ولما كان الإيمان نصفين فنصف صبر ونصف شكر، كان حقيقاً على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين، وأن يجعل سيره إلى الله عز وجل في هذين الطريقين القاصدين، ليجعله الله يوم القيامة مع خير الفريقين.

(أولاً الصبر:

(تعريف الصبر:

ص: 132

(الصبر لغة: هو المنع والحبس قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)[الكهف: 28]، يعني احبس نفسك معهم، والصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما، ويقال صبر يصبر صبراً، وصبَر نفسه.

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

الصبر في اللغة الحبس وكل من حبس شيئا فقد صبره ومنه المصبورة التي نهى عنها وهي الدجاجة ونحوها تتخذ غرضا وترمى حتى تقتل وسمى رمضان شهر الصبر لأنه شهر تحبس فيه النفس عما تنازع إليه من المطعم والمشرب والمنكح والصابر حابس لنفسه عما تنازع إليه من المشتهى أو شكوى ألم وسمى الصابر في المصيبة صابرا لأنه حبس نفسه عن الجزع.

[*] (وحكى أبو بكر بن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال إنما سُمِّيَ الصبر صبرا لأن تمرره في القلب وإزعاجه للنفس كتمرر الصبر في الفم.

واعلم وفقك الله أن الصبر مما يأمر به العقل وإنما الهوى ينهى عنه فإذا فوضلت فوائد الصبر وما تجلب من الخير عاجلا وآجلا بانت حينئذ فضائل العقل وخساسة الهوى.

(وقال أيضاً: ولا يقدر على استعمال الصبر إلا من عرف عيب الهوى وتلمح عقبي الصبر فحينئذ يهون عليه ما صبر عليه وعنه، وبيان ذلك بمثل وهو أن امرأة مستحسنة مرت على رجلين فلما عرضت لهما اشتهيا النظر إليها فجاهد أحدهما نفسه وغض بصره فما كانت إلا لحظة ونسي ما كان، وأوغل الآخر في النظر فعلقت بقلبه فكان ذلك سبب فتنته وذهاب دينه فبان لك أن مداراة المعصية حتى تذهب أسهل من معاناة التوبة حتى تقبل وقد قال بعض السلف من تخايل الثواب خف عليه العلم. أهـ

(والصبر شرعا: فهو حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب، ونحوهما.

وقيل: هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.

[*] سئل عنه الجنيد فقال: " تجرع المرارة من غير تعبس ".

[*] وقال ذو النون المصري: " هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غُصص البلية، وإظهار الغنى مع الحلول الفقر بساحات المعيشة ".

وقيل: " الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب ".

وقيل: " هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى ".

ورأى أحد الصالحين رجلاً يشتكى إلى أخيه فقال له: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.

ص: 133

وقيل في ذلك:

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما

تشكى الرحيم إلى الذي لا يرحم

والشكوى نوعان: شكوى إلى الله عز وجل وهذه لا تنافي الصبر، كقول يعقوب عليه السلام:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} (يوسف: من الآية 86) مع قوله:: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف: من الآية 83)

والنوع الثاني: شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله.

وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر، ولا يناقض هذا قوله صلى الله عليه وسلم: وما أعطا أحد عطاءاً خيراً وأوسع من الصبر "، فإن هذا بعد نزول البلاء فساحة الصبر أوسع الساحات، أما قبل نزوله فساحة العافية أوسع.

والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب، وحفظ من خطب الحجاج: " إقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء، فرحم الله امرءاً جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخاطمها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.

والنفس لها قوتان: قوة الإقدام وقوة الإحجام، .. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره، ومن الناس من يصبر على قيام الليل ومشقة الصيام، ولا يصبر على نظرة محرمة، ومنهم من يصبر على النظر والإلتفات إلى الصور، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد.

وقيل: الصبر شجاعة النفس، ومن ها هنا أخذ القائل قوله:" الشجاعة صبر ساعة "، والصبر والجزع ضدان، كما أخبر سبحانه وتعالى عن أهل النار:{سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم: من الآية 21)

(أنواع الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه:

الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه ثلاثة أقسام:

(1)

صبر على طاعة الله.

(2)

صبر عن معصية الله.

(3)

صبر على أقدار الله المؤلمة.

مسألة: كيف يحصل الصبر على الطاعة؟

الصبر على الطاعة ينشأُ من معرفة أسباب الصبر على المعاصي ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أَقوى أسبابها: الإيمان والمحبة، فكلما قوى داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.

مسألة: أي الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

ص: 134

مسألة تكلم فيها الناس، وهى أي الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟ فطائفة رجحت الأول وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدّيق. قالوا: ولأن داعي المعصية أشد من دواعي ترك الطاعة، فإن داعي المعصية أمر وجودي تشتهيه النفس وتلتذ به، والداعي إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى.

قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناءُ الرجل وطلب التشبه والمحاكاة وميل الطبع، وكل واحد من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية ويطلب أثره، فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأي صبر أَقوى من صبر عن إجابتها؟ ولولا أَن الله يصبره لما تأْتى منه الصبر.

وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور، ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناءً منها على أن فعل المأْمور أَفضل من ترك المنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة. ولا ريب أن فعل المأمورات إنما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل، وفصل النزاع في ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية: فالصبر على الطاعة [العظيمة] الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة، وصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الضحى، وصوم يوم تطوعاً ونحوه، فهذا فصل النزاع فى المسألة. والله أعلم.

مسألة: كيف يحصل الصبر عن المعصية؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

الصبر عن المعصية ينشأُ من أسباب عديدة:

أحدها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمى الوالد الشفيق والده عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب.

السبب الثاني: الحياءُ من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأَى منه ومسمع ـ وكان حييّاً ـ استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.

ص: 135

السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} * [الرعد: 11]، وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها.

وقال بعض السلف: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل سنة. وقال آخر: أذنبت ذنباً فحرمت فهم القرآن. وفى مثل هذا قيل:

إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم

وبالجملة فإن «المعاصي نار النعم تأْكلها كما تأْكل النار الحطب» ، عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.

السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه. وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} * [فاطر:28]، وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار بالله جهلاً.

السبب الخامس: محبة الله سبحانه وهى أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوى سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده، وفى هذا قال عمر:((نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)) يعنى أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته.

فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.

ص: 136

وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهى أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى فيه نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه. وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم، فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.

السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوى بينها وبين السفلة.

السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشئ منها: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وأَلمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله. وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته والحيرة في أَمره وتخلى وليه وناصره عنه، وتولى عدوه المبين له، وتوارى العلم الذي كان مستعداً له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أَو ضعفه ولا بد، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد، فإِن الذنوب تميت القلوب، ومنها ذله بعد عزة، ومنها أن يصير أسيراً في يد أعدائه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه، ومنها أن يضع تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أَمرها، ولا ينفذ في غيرهم، ومنها زوال أَمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأُنس والاستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة، ومنها زوال الرضا واستبداله بالسخط، ومنها زوال الطمأْنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه، ومنها وقوعه في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.

ص: 137

فيالها ناراً قد عذب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأْس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب رأْس ماله أصبح فقيراً معدماً، فإما أن يسعى بتحصيل رأْس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير وإلا فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأْس ماله، ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها ضعف بدنه، ومنها زوال المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس، ومنها ضياع أعز الأشياءِ عليه وأنفسها وأعلاها، وهو الوقت الذي لا عوض منه، ولا يعود إليه أبداً، ومنها طمع عدوه فيه وظفره به، فإِنه إِذا رآه منقاداً مستجيباً لما يأْمره اشتد طمعه فيه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دن مولاه الحق، ومنها الطبع والرين على قلبه، فإن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أُخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران، قال الله تعالى:{كَلا بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكسِبُونَ} * [المطففين: 14]، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة، فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد. ومنها أن تمنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة، فإن القلب لا يزال مشتتاً مضيعاً حتى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أَطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده، وما لم يترحل إلى الآخرة ويحضرها فالتعب والعناءُ والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة.

ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه، ومنها أن الذنب يستدعى ذنبا آخر، ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثاً، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعى رابعاً، وهلم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته.

ص: 138

قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، (ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا ولذة ما في الآخرة.

كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} * [الأحقاف: 20]، فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة.

وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا، (ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته،

(ومنها علمه بأَن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه، ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها، وأعمال الفجور تهوى به وتجذبه إلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين، وبحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث تستقر به، قال الله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَالِحُ يَرْفَعُهُ} * [فاطر: 10]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} * [الأعراف: 40]، فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أُغلقت عنها.

وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها فى عليين، ومنها خروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهباً للصوص وقطاع الطريق.

فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة إلى خربة موحشة هي مأْوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئاً من متاعه؟

(ومنها أنه بالمعصية قد تعرّض لمحق بركته في كل شيء من أمر دنياه وآخرته فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء والمعصية متحق منه كل بركة.

ص: 139

وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته.

السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها. فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل.

السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام. ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد.

السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، وامتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.

ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى سراج الإيمان في القلب، وأَضاءَت جهاته كلها به، وأشرق نوره في أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته. فهو كل وقت يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته. والله يختص برحمته من يَشاءُ، والله ذو الفضل العظيم. أهـ

مسألة: كيف يتم تحصيل الصبر على البلاء؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

الصبر على البلاء ينشأُ من أسباب عديدة:

أحدها: شهود جزائها وثوابها.

الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.

الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أُم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.

ص: 140

الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأُمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأْمور بأداء حق الله وعبوديته عليه فى تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.

الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى:{وَمَآ أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَكُمْ} * [الشورى: 30]، فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة. قال على بن أبى طالب: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة.

السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية تقتضى رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى الحق.

السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأْه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً.

الثامن: أن يعلم أن في عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحة وزوال الأَلم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأْثيره. قال تعالى:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} * [البقرة: 216].

وقال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} * [النساء: 19] وفى مثل هذا القائل:

لعلّ عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل

التاسع: أن يعلم أن «المصيبة ما جاءَت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه» ، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وأَلبسه ملابس الفضل وجعل أولياءَه وحزبه خدماً له وعوناً له، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأُقصى وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة فى حقه صارت نعماً عديدة.

ص: 141

وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة. والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأَنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل الْعظيم.

العاشر: أن يعلم أن الله يربى عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته. فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاءِ والعافية.

فالابتلاء كير العبد [محل] إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً [غضاً]، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهباً خالصاً فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاءِ ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللَّهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه فى داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.

والصبر أيضاً نوعان:

(1)

بدني.

(2)

نفسي.

وكل منهما قسمان: اختياري واضطراري، فصارت القسمة أربعة كما يلي:

(1)

بدني اختياري: تعاطي الأعمال الشاقة.

(2)

بدني اضطراري: الصبر على ألم الضرب، لأنه يضرب وماله حيلة إلا الصبر.

(3)

نفسي اختياري: صبر النفس عن فعل مالا يحسن شرعاً، مكروه مثلاً.

(4)

نفسي اضطراري: صبر النفس عن فقد المحبوب الذي حيل بينها وبينه بحيث لو لم تصبر هذا الصبر لوقعت في الجزع المحرم أو النياحة أو لطم الخدود أو شق الجيوب أو قص وحلق الشعور ونحو ذلك.

ص: 142

والبهائم تشارك الإنسان في النوعين الاضطراريين ولكن الصبر الاختياري هو الذي يميز الإنسان عن البهيمة، ولهذا كان الاختيارى أكمل من الاضطرارى، فإن الاضطرارى يشترك فيه الناس و يتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختيارى ولذلك كان صبر يوسف عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه في الجب.

[*] قال رجل من أهل الحكمة: ما غلبني رجل كما غلبني شاب من مرو، قال لي مرة ما الصبر، قلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، قال: هذا ما تفعله كلاب مرو عندنا!، قلت فما الصبر عندكم؟ قال: إن فقدنا صبرنا وإن وجدنا آثرنا وأعطينا لغيرنا.

(وعلى ذلك هناك صبر تشارك فيه البهائم الإنسان ولكن هناك صبر يتفوق به المسلم الإنسان على البهيمة والدابة، وقد تجد من الكفار من يصبر على المصائب ويتجلد ولا ينهار ولكن لا يرجو من وراء ذلك جزاء من عند ربه ولا أجراً يوم القيامة ..

وكذلك فإن الصبر متعلق بالتكليف لأن الله ابتلى العباد بواجبات لابد أن يفعلوها ومحرمات لابد أن يتركوها، وأقدار لابد أن يصبروا عليها، فلا يقعوا في الجزع والتسخط و شكوى الخالق إلى المخلوقين.

فالإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال لأنه يتقلب بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجرى عليه اتفاقا، ونعمة يجب شكر المنعم بها عليه وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم له إلى الممات.

وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين:

أحدهما: يوافق هواه ومراده.

والآخر: يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما، أما النوع الموافق لغرضه كالصحة، والجاه، والمال، فهو أحوج شيء إلى الصبر فيها من وجوه:

أحدهما: أن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر، والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله.

والثاني: أن لا ينهمك في نيلها.

والثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها.

والرابع: أن يصبر عن صرفها من الحرام، قال بعض السلف:" البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون ".

[*] وقال عبد الرحمن بن عوف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر!!، ولذلك يحذر الله عباده من فتنة المال، والأزواج والأولاد. فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (المنافقون: من الآية 9)

ص: 143

أما النوع الثاني المخالف للهوى: فلا يخلو إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي، أو لا يرتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره ولكن لا اختيار له في إزالته بعد الدخول فيه.

فها هنا ثلاثة أقسام:

(القسم الأول:

ما يرتبط باختياره، وهو جميع أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية، أما في الصلاة فلما فيها من الكسل وإيثار الراحة لا سيما إذ اتفق مع ذلك قسوة القلب، ورين الذنب والميل إلى الشهوات، ومخالطة أهل الغفلة.

وأما الزكاة فلما في طبع النفس من الشح والبخل، وكذلك الحج، والجهاد للأمرين جميعاً.

ويحتاج العبد إلى الصبر على الطاعة في ثلاثة أحوال: قبل الشروع في الطاعة، وذلك بتصحيح النية، والإخلاص في الطاعة، وحين الشروع في الطاعة، وذلك بالصبر على دواعي التقصير والتفريط، واستصحاب النية ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية عن حضور قلبه بين يديه سبحانه.

والثالثة بعد الفراغ من الطاعة، وذلك بالصبر على ما يبطلها، فليس الشأن في الإتيان بالطاعة، وإنما الشأن في حفظها مما يبطلها، فيصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر، وكذلك يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سراً بينه وبين الله سبحانه، فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فلا يظن أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل.

(أما الصبر عن المعاصي فأمره ظاهر، وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات، ومفارقة الأعوان عليه في المجالسة والمحادثة.

(القسم الثاني:

مالا يدخل تحت الاختيار، وليس للعبد حيلة في دفعه كالمصائب، وهي إما أن تكون مما لا صنع لآدمى فيه كالموت والمرض والثانى: ما أصابه من جهة آدمى كالسب والضرب.

فالنوع الأول: للعبد فيه أربعة مقامات: مقام العجز، وهو الجزع والشكوى ، والثاني: مقام الصبر، والثالث: مقام الرضى، والرابع: مقام الشكر وهو بأن يشهد البلية نعمة فيشكر المبتلى عليها.

وما أصابه من جهة الناس فله فيه هذه المقامات مضافاً إليها أربعة أخر: الأول: مقام العفو، والثاني: مقام سلامة الصدر من إرادة التشفي، الثالث: مقام القدر، والرابع: مقام الإحسان إلى المسىء.

(القسم الثالث:

ص: 144

مما يكون وروده باختياره، فإذا تمكن منه لم يكن له اختيار، ولا حيلة في دفعه.

(حاجة الناس إلى الصبر:

إن من المعلوم شرعاً أن حاجة الناس إلى الصبر حاجةً مُلِحةً ماسةً فهم يحتاجونه حاجتهم لتنفس الهواء وشرب الماء، يحتاجونه في الصبر على الطاعة ويحتاجونه في الصبر عن المعصية ويحتاجونه في الصبر على أقدار الله وخاصةً تقلبات الزمان التي لا مناص منها، وهاك أروع القصص في تقلبات الزمان لتعلم مدى الحاجة الماسة للصبر عليها:

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن بن عباس قال ما من قوم قال لهم الناس طوبى إلا خبأ لهم الدهر يوما يسوءهم

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن بن مسعود قال لكل فرحة ترحا وما من بيت مُلِيء فرحا إلا مُلِيء ترحا.

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن سعيد بن أبي بردة قال ما ينتظر من الدنيا إلا كل محزن أو فتنة تنتظر.

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن محمد بن سيرين قال ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء.

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن خالد بن سعيد الأموي قال أتى إسحاق بن طلحة بن عبيد الله هندا بنت النعمان بن المنذر فقال أتيتك لتخبرينا عن ملكك وملك أهل بيتك؟ قالت: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشده ملكا ثم ما غابت الشمس حتى رأيتنا من أذل الناس وإني أخبرك أنه حق على الله لا يملأ دارا حبرة إلا ملأها عبرة وقد كان كسرى غضب على النعمان غضبة نفرت منها في بلاد العرب ثم رضي عنه فرد إليه ملكه فقالت أخت النعمان حين رجع إليه ملكه يا أخي قد رد الله إلينا ملكنا ورجع إلينا حسن حالنا وإني لأرثي لك ولي مما الدهر مطلع به علينا.

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن الأصمعي أن هانئ بن أبي قبيصة رأى حرقة بنت النعمان تبكي فقال لها لعل أحدا آذاك قالت لا ولكني رأيت غضارة في أهلكم وقل ما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا.

ص: 145

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن عمر بن بكير أن زيادا وقف على هند بنت النعمان فسألها أن تحدثه فقالت أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا.

[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن محبوب العابد قال مررت بدار من دور الكوفة غداة فسمعت جارية تنادي من داخل الدار «ألا يا دار لا يدخلك حزن» ولا يذهب بساكنك الزمان ثم مررت بالدار فإذا الباب وقد علته كآبة ووحشة فقلت ما شأنهم قالوا مات سيدهم مات رب الدار فوقفت على باب الدار فقرعته وقلت إني سمعت من ههنا صوت جارية تقول

ألا يا دار لا يدخلك حزن ولا يذهب بساكنك الزمان فقالت امرأة من الدار وبكت يا عبد الله إن الله تعالى يغير ولا يغير والموت غاية كل مخلوق فرجعت والله من عندهم باكيا.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن بكار بن منقذ قال خرجنا مع الحسن إلى السوق فإذا جارية تقول يا أبتاه مثل يومك لا أرى قال الحسن وأبوك مثل يومه ما رأى يا بنية دليني على منزلك فانطلقت بين يديه وانطلق الحسن ونحن معه حتى وقف على باب الدار فنادى يا أهل هذه الدار ما لي أرى هذا الباب مهجورا بعد أن كان معمورا قال فنادته امرأة من داخل الدار يا عبد الله هكذا أبواب الأرامل واليتامى فانصرف الحسن باكيا.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن عروة بن الزبير قال كلمت بنت ملك من ملوك الشام شبب بها عبد الرحمن بن أبي بكر قد كان رآها فيما يقدم الشام فلما فتح الله على المسلمين وقتل أبوها أصابوها فقال المسلمون لأبي بكر يا خليفة رسول الله أعط هذه الجارية عبد الرحمن قد سلمناها له قال أبو بكر كلكم على ذلك قالوا نعم فأعطاها له وكان لها بساط في بلادها لا تذهب إلى الكنيف ولا إلى حاجة إلا بسط لها ورمي بين يديها رمانتان من ذهب تتلهى بهما قال وكان عبد الرحمن إذا خرج من عندها ثم رجع إليها رأى في عينيها أثر البكاء فيقول ما يبكيك اختاري خصالا أيها شئت إما أن أعتقك وأنكحك قالت لا أبتغيه وإن أحببت أن أردك إلى قومك قالت لا أريد وإن أحببت رددتك على المسلمين قالت لا أريد قال فأخبرني ما يبكيك قالت أبكي للملك من يوم البؤس.

ص: 146

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن الأصمعي قال اشتد جزع سليمان بن عبد الملك على ابنه أيوب أتى إليه المعزون من الآفاق فقال رجل منهم إن امرأ حدث نفسه بالبقاء في الدنيا ثم ظن أن المصائب لا تصيبه فيها لغير جيد الرأي.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن أبي كنانة قال أخبرني بريد ليزيد بن المهلب قال حملت حملين مسك من خراسان إلى سليمان بن عبد الملك فانتهيت إلى باب ابنه أيوب وهو ولي العهد فدخلت عليه فإذا دار مجصصة حيطانها وسقوفها وإذا فيها وصفاء ووصائف عليهم ثياب صفرة وحلي الذهب ثم أدخلت دارا أخرى فإذا حيطانها وسقوفها خضر وإذا وصفاء ووصائف عليهم ثياب خضر وحلي الزمرد قال فوضعت الحملين بين يدي أيوب وهو قاعد على سرير معه امرأته لم أعرف أحدهما من صاحبه فانتهب المسك من بين يديه فقلت له أيها الأمير اكتب لي براءة فزبرني فخرجت فأتيت سليمان فأخبرته بما كان فقال قد عرفنا قصتك فكتب لي براءة ثم عدت بعد أحد عشر يوما فإذا أيوب وجميع من كان معه في داره قد ماتوا أصابهم الطاعون.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن النعمان بن بشير قال وفدني أبو بكر الصديق في عشرة من العرب إلى اليمن فبينا نحن ذات يوم نسير إذ مررنا إلى جانب قرية أعجبنا عمارتها فقال بعض أصحابنا لو ملنا إليها فدخلنا فإذا هي قرية أحسن ما رأيت كأنها زخائف الرقم وإذا قصر أبيض بفنائه شيب وشبان وإذا جوار نواهد أبكار قد أحجم الثدي على نحورهن قد أخذن المهزام وهن يدرن وسطهن جارية قد علتهن جمالا بيدها دف تضربه وتقول

معشر الحساد موتوا كمدا

كذا نكون ما بقينا أبدا

غيب عنا ما نعانا حسدا

ص: 147

وكان جده الشقي الأنكدا وإذا غدير من ماء وإذا سرج ممدود كثير المواشي والإبل والبقر والخيل والأفلاء وإذا قصور مستديرة فقلت لأصحابنا لو وضعنا رحالنا فتأخذ العيون مما ترى حظا وتقضي النفوس منه وطرا فبينا نضع رحالنا إذ أقبل قوم من قبل القصر الأبيض على أعناقهم البسط فبسطوا لنا ثم مالوا علينا بأطايب الطعام وألوان الأشربة فاسترحنا وأرحنا ثم نهضنا للرحلة فأقبل القوم وقالوا إن سيد هذه القرية يقرئكم السلام ويقول اعذروني على تقصير إن كان مني فإني مشغول بعرس لنا وإن أحببتم فدعونا لهم وبركنا فعمدوا إلى ما بقي من ذلك الطعام فملئوا منه سفرنا فقضيت سفري ورجعت متنكبا لذلك الطريق فغبرت برهة من الدهر ثم وفدني معاوية في عشرة من العرب ليس معي أحد ممن كان في الوفد فبينا أحدثهم بحديث القرية وأهلها إذ قال رجل منهم أليس هذا الطريق الآخذ إليها فانتهينا إليها فإذا هي دكادك وتلول وأما القصور فخراب ما يبين منها إلا الرسوم وأما الغدير فليس فيه قطرة من الماء وأما السرج فقد عفا ودثر أمره فبينا نحن وقوف متعجبون إذ لاح لنا شخص من ناحية القصر الأبيض فقلت لبعض الغلمان انطلق حتى نستبرىء ذلك الشخص فقال لبثت أن عاد مرعوبا فقلت له ما وراءك فقال أتيت ذلك الشخص فإذا عجوز عمياء فراعتني فلما سمعت حسي قالت أسألك بالذي بلغك سالما إلا أخذت على عينك ورحت حتى دخلت في التل ثم قالت سل عما بدا لك فقلت أيتها العجوز الغابرة من أنت وممن أنت فأجابتني بصوت ما يبين أنا عميرة بنت دوبل سيد أهل هذه القرية في الزمن الأول

أنا ابنة من قد كان يقري وينزل

ويحنو على الضيفان والليل أليل

من معشر صاروا رميما أبوهم

ص: 148

أبو الجحاف بالخير دوبل قلت ما فعل أبوك وقومك؟ قالت أفناهم الزمان وأبادتهم الليالي والأيام وبقيت بعدهم كالمزج بوأه الوكر قلت هل تذكرين زمانا كان لكم في عرس وإذا جوار أخذن المهزام وسطهن جارية بيدها دف تضرب به وتقول أيها الحساد موتوا كمدا فشهقت واستعبرت وقالت والله إني لأذكر ذلك العام والشهر واليوم والعرس كانت أختي وأنا صاحبة الدف قال فقلت لها هل لك أن نحملك على أوطاء دوابنا ونغدوك بغذاء أهلها قالت كلا عزيز علي أن أفارق هذه الأعظم حتى أؤول إلى ما ألو إليه قلت من أين طعامك قالت يمر بي الركب في القرط فيلقون إلي من الطعام ما يكفيني والذي أكتفي به يسير وهذا الكوز مملوء ماء ما أدري ما يأتيني به ولكن أيها الركب معكم امرأة قلنا لا قالت معكم من الثياب البياض قلنا نعم وألقينا إليها ثوبين جديدين فتجللت بهما وقالت رأيت البارحة كأني عروس أتهادى من بيت إلى بيت وقد ظننت أن هذا يوم أموت فيه فأردت امرأة تلي أمري فلم تزل تحدثنا حتى مالت فنزعت نزعا يسيرا وماتت فيممناها وصلينا عليها ودفناها فلما قدمت على معاوية حدثته بالحديث فبكى ثم قال لو كنت مكانكم لحملتها ثم قال ولكن سبق القدر.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن نابل بن نجيح قال كان باليمامة رجلان ابنا عم فكثر مالهما فوقع بينهما ما يقع بين الناس فرحل أحدهما عن صاحبه قال فإني ليلة قد ضجرت برغاء الإبل والغنم والكثرة إذ أخذت بيد صبي لي وعلوت في الجبل فأنا كذلك إذ أقبل السيل فجعل مالي يمر بين ولا أملك منه شيئا حتى رأيت ناقة لي قد علق خطامها بشجرة فقلت لو نزلت إلى هذه فأخذتها لعلي أنجو عليها أنا وبني هذا فنزلت فأخذت الخطام وجذبها السيل فرجع علي غصن الشجرة فذهب ماء إحدى عيني وأفلت الخطام من يدي فذهبت الناقة ورجعت إلى الصبي فوجدته قد أكله الذئب فأصبحت لا أملك شيئا فقلت لو ذهبت إلى بن عمي لعله يعطيني شيئا فمضيت إليه فقال لي قد بلغني ما أصابك والله ما أحببت أنه قد أخطأك فكان ذلك أشد مما أصابني فقلت أمضي إلى الشام فأطلب فلما دخلت إلى دمشق إذا الناس يتحدثون أن عبد الملك بن مروان أصيب بابن له فاشتد حزنه عليه فأتيت الحاجب فقلت إني أحدث أمير المؤمنين بحديث يعزيه عن مصيبته هذه فقال أذكر ذلك له وذكره فقال أدخله فأدخلني فحدثته بمصيبتي فقال قد عازيتني بمصيبتك عن مصيبتي وأمر لي بمال فعدت وتراجعت حالي.

ص: 149

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أن عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد بن عروة فدخل محمد بن عروة دار الدواب فضربته دابة فمات ووقعت في رجل عروة الآكلة فقال له الوليد اقطعها قال لا فترقت إلى ساقه فقال الوليد اقطعها وإلا أفسدت جسدك فقطعت بالمنشار وهو يسبح لم يمسكه أحد فقال لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يدع ورده تلك الليلة.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أنه قدم على الوليد بن عبد الملك ذلك اليوم قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير فسأله عن عينيه فقال له بت ليلة في بطن واد ولا أعلم في الأرض عبسيا يزيد ماله على مالي فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من أهل وولد ومال غير صبي مولود وبعير وكان البعير صعبا فند فوضعت الصبي واتبعت البعير فلم أجاوزه حتى سمعت صيحة الصبي فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه يأكله واستدبرت البعير لأحبسه فنفحني برجله فأصاب وجهي فحطمه وذهبت عيناي فأصبحت لا أهل ولا مال ولا ولد فقال الوليد انطلقوا به إلى عروة فيخبره خبره ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن سعيد أبي عثمان من أهل العلم ثقة قال نظر إلى امرأته فقال ما رأيت مثل هذا الحسن وهذه النضارة وما ذاك إلا من قلة الحزن فقالت يا عبد الله والله إني ليذبحني الحزن ما يشركني فيه أحد قال وكيف قالت ذبح زوجي شاة مضحيا ولي صبيان يلعبان فقال أكبرهما للأصغر أريك كيف صنع أبي بالشاة فعقله فذبحه فما شعرنا به إلا متشحطا فلما استحلت الصيحة هرب الغلام ناحية الجبل فرهقه ذئب فأكله ونحن لا نعلم وقد اتبعه أبوه يطلبه فمات عطشا فأفردني الدهر قال فكيف صبرك فقالت لو رأيت في الجزع دركا ما اخترت عليه.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن إبراهيم التيمي قال نزل بنا حي من أحياء العرب فأصابهم داء فماتوا وبقيت منهم جويرية مريضة فلما أفاقت جعلت تسأل عن أمها وأبيها وأخيها وأختها فيقال مات ماتت مات ماتت فرفعت يديها وقالت:

ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعة

ولكن متى ناديت جاوبني مثلي

ص: 150

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن عبد الله بن الأجلح الكندي قال كانت امرأة من بني عامر بن صعصعة وكان لها تسعة من الأولاد فدخلوا غارا وأمهم معهم فخرجت لحاجة وتركتهم فرجعت وقد سقط الغار عليهم فجعلت تسمع أنينهم حتى ماتوا فقالت:

إما تصيبك من الأيام جائحة

فما لقي ما لقيت العام من أحد

ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا

أفردت منهم كقرن الأعضب الوحد

وكل أم وإن سرت بما ولدت

يوما ستثكل ما ربت من الولد

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن أبي بحر البكراوي عن أمه قالت خرجنا هاربين من طاعون القنيات فنزلنا قريبا من سنام قالت وجاء رجل من العرب معه بنون له عشرة فنزل قريبا منا مع بنيه فلم يمض إلا أيام حتى مات بنوه أجمعون وكان يجلس بين قبورهم فيقول

بنفسي فتية هلكوا جميعا

برابية مجاورة سناما

أقول إذا ذكرت العهد منهم

بنفسي تلك اصداء وهاما

فلم أر مثلهم هلكوا جميعا

ولم أر مثل هذا العام عاما

قالت وكان يبكي من سمعه

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن محمد بن عبد الله القرشي قال ذكر أعرابي قوما تغيرت حالهم فقال كانوا والله في عيش رقيق الحواشي فطواه الدهر بعد سعة حتى لبسوا أيديهم من القر ولم نر والله دارا أغر من الدنيا ولا طالبا أغشم من الموت ومن عصف عليه الليل والنهار أحراه ومن وكل به الموت أفناه.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن أحمد بن محمد المهري قال حدثني رجل من عبد القيس قال دخلت بنت النعمان بن المنذر على معاوية فقال لها أخبريني عن حالكم كيف كانت قالت أطيل أم أقصر قال لا بل قصري فقالت أمسينا مساء وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا ويرهب منا فأصبحنا صباحا وليس في العرب أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه ثم قالت

بينا نسوس الناس في كل بلدة

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها

تقلب تارات بنا وتصرف

ص: 151

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن حاجب بن عمر أبو خشينة قال مر زياد بالحيرة فقيل له إن في هذا القصر ابنة النعمان بن المنذر ملك العرب فقال ميلوا إلى باب القصر فدنا منه فقال قولوا لها فلتدن من الباب فدنت فقال لها زياد أخبريني عن دهركم قالت أفسر أو أجمل قال بل أجملي قالت فإنا أصبحنا ذا صباح وما في العرب أهل بيت أغبط عند الناس منا فما آبت الشمس حتى رحمنا عدونا.

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن هاشم السلمي قال أعرس رجل من الحي على ابنه قال فاتخذوا لذلك لهوا قال وكانت منازلهم إلى جانب المقابر فوالله إنهم لفي لهوهم ذلك ليلا إذ سمعوا صوتا منكرا أفزعهم فاصغوا مطرقين فإذا هاتف يهتف من بين القبور

يا أهل لذة دنيا لا تدوم لهم

إن المنايا تبيد اللهو واللعبا

كم قد رأيناه مسرورا بلذته

أمسى فريدا من الأهلين مغتربا قال فوالله ما لبثوا بعد ذلك أياما حتى مات الفتى المزوج

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أن عبد الملك بن مروان وقف على قبر معاوية وعليه ينبوتة تهتز فقال الحمد لله عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة ثم صرت إلى هذا

هل الدهر والأيام إلا كما ترى

رزية مال أو فراق حبيب

[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية رجلا لعبد الملك بن مروان فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره وقف عليه فقال له أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك وتوعدني فأخافك أصبحت وليس معك من ملكك غير ثوبيك وليس لك منه غير أربعة أذرع في عرض ذراعين ثم انكفأ إلى أهله فاجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن بال فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره بها فقال لقائله أسألك عن شيء تصدقني عنه ما بلغه علمك قال نعم قال أخبرني عن حالك التي أنت عليها أترضاها للموت قال اللهم لا قال فاعتزمت على النقال منها إلى غيرها قال ما أشجعت رأيي في ذلك قال أفتأمن أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها قال اللهم لا قال فبعد الدار التي أنت فيها معتمل قال اللهم ولا قال حال ما أقام عليها عاقل ثم انكفأ إلى مصلاه.

(الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل:

ص: 152

سئل الشيخ الإمام العالم العامل الحبر الكامل شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن الصبر الجميل و الصفح الجميل والهجر الجميل وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس؟

فأجاب رحمه الله:

الحمد لله أما بعد فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل:

فالهجر الجميل: هجر بلا أذى.

الصفح الجميل: صفح بلا عتاب.

والصبر الجميل: صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام (قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) مع قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ) فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت

[كتاب الزهد والورع والعبادة، الجزء 1، صفحة 99]

(حكم الصبر:

أصل الصبر واجب، الصبر من حيث الجملة واجب، والله أمر به قال تعالى:(وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45]

وقال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200]

ونهى عن ضده قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لّهُمْ)[الأحقاف: 35]

و قال تعالى: (يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلَا تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ)[سورة: الأنفال - الأية: 15]

ورتب عليه خيري الدنيا والآخرة.

(لكن عندما نأتي إلى التفصيل فالصبر منه ما هو صبر واجب، يأثم الإنسان إذا لم يصبر ومنه ما هو صبر مستحب فهو واجب في الواجبات و واجب عن المحرمات و مستحب عن المكروهات و إذا صبر عن المستحب ولم يفعله فصبره مكروه، ومما يدل علىأن الصبر قد لا يكون لازماً قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ)[النحل: 126]،

ص: 153

فهذا يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً لأنك مخيّر بين أن تعاقب من عاقبك؟، ما الحكم الشرعي؟،يجوز لك القصاص فتنتقم منه بمثل ما ظلمك، ما حكم الصبر وعدم الانتقام؟، مستحب، فإذا ً لو قلت ما حكم الصبر على صلاة الفجر؟، واجب، ما حكم الصبر عند المصيبة بمنع النفس عن النياحة؟ واجب، ما حكم الصبر عن الانتقام ممن أساء إليك بمثل ما أساء؟ مستحب ..

فالصبر إذاً منه ما يكون واجباً ومنه ما يكون مستحباً والصبر جاء في صيغة المفاعلة في القرآن فقال {وصابروا} ، وهذه عادة ما تكون إلا بين طرفين {وصابروا} ، فمعنى ذلك أن هناك مغالبات بين المسلم والعدو، وأننا لابد أن نصابر أنفسنا على باطلهم وعلى جهادهم وعلى مقاتلتهم ومرابطتنا في الثغور وثباتنا عليها حتى لا ينفذوا إلينا من هذه الجهات فهذا صبر مهم جداً ..

(فضائل الصبر:

إن الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً غالباً لا يهزم، وحصناً حصيناً لا يُهْدَم، فهو والنصر أخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدّة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد، وهو سبيل النجاح والفلاح، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومنهاج القاصدين، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين،

،وهو فضيلة يحتاج إليها الإنسان في دينه ودنياه، فحال الإنسان إما بين صبر على أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقاً، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم إلى الممات، فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات لدار الابتلاء، والصبر زاد المجاهد إذا أبطأ عنه الصبر، وزاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم في زمن غربة العلم، بل هو زاد الكبير والصغير، والرجل والمرأة، فبالصبر يعتصمون وإليه يلجئون وبه ينطلقون.

[*] قال الإمام أحمد – رحمه الله – في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((وجدنا خير عيشنا بالصبر))،إن الله وصف الصابرين بأوصاف وخصّهم بخصائص لم تكن لغيرهم، وذكر الصبر في نحو تسعين موضعاً من الكتاب الكريم، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له.

(وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في فضائل الصبر:

ص: 154

(1)

مدح الله عز وجل في كتابه الصابرين، وأخبر أنه إذا كانت الأعمال لها أجر معلوم محدود فإن الصبر أجره لا حد له وهو سبحانه يؤتيهم أجرهم بغير حساب.

قال تعالى: (إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10]

أي: كالماء المنهمر.

(2)

إن للصابرين معيّة مع الله، ظفروا بها بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمة الله الظاهرة والباطنة ومن كان معه الله تعالى فمن عليه: فقال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: من الآية 46)

(3)

وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى – وبقوله اهتدى المهتدون:: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: الآية 24)

[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((بالصبر واليقين؛ تُنال الإمامة في الدين)).

(4)

وأخبر تعالى أن الصبر خيرٌ لأهله مؤكداً باليمين، فقال تعالي:{وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (النحل: من الآية 126)

وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيدٌ العدو ولو كان ذا تسليط، فقال تعالى:{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: من الآية 120)

(5)

وعلق الفلاح بالصبر والتقوى، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: الآية 200)

وأخبر عن محبته لأهله، وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين، فقال تعالى:{وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: من الآية 146)

(6)

وبشّر الصابرين بثلاث لم يجعلها لغيرهم، كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون: فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: من الآية 155 والآية 156، 157)

(7)

وجعل الفوز بالجنة، والنجاة من النار، لا يحظى به إلا الصابرون، فقال عز وجل:: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون: الآية 111)

ص: 155

(8)

وخص في الانتفاع بآياته أهل الصبر، وأهل الشكر، تمييزاً لهم بهذا الحظ الموفور، فقال في أربع آيات من كتابه جل وعلا:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (من الآيات: إبراهيم: 5، لقمان 31، سبأ 19، الشورى 33)

(9)

أخبر الله تعالى عن مضاعفة الأجر للصابرين قال تعالى: (أُوْلََئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ)[القصص: 54]

(10)

وجعل الصبر سبحانه وتعالى عوناً وعدة وأمر بالاستعانة به، قال تعالى:(وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45]

(11)

وعلّق النصر على الصبر والتقوى قال تعالى: (بَلَىَ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هََذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلآفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوّمِينَ)[آل عمران: 125]

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(النصر) من اللّه للعبد على أعداء دينه ودنياه إنما يكون

(مع الصبر) على الطاعة وعن المعصية فهما أخوان شقيقان متلازمان والثاني بسبب الأول وقد أخبر اللّه أنه مع الصابرين أي بهدايته ونصره المبين قال {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} ومن خيريته لهم كونه سبباً لنصرهم على أعدائهم وأنفسهم ولهذا لا يحصل الظفر لمن انتصر لنفسه غالباً [ص 299] قال بعض العارفين: الصبر أنصر لصاحبه من الرجال ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد

(والفرج) يحصل سريعاً

(مع الكرب) فلا يدوم معه الكرب فعلى من نزل به أن يكون صابراً محتسباً راجياً سرعة الفرج حسن الظن بربه فإنه أرحم من كل راحم

(وإن مع العسر يسرا) كما نطق به القرآن مرتين ولن يغلب عسر يسرين لأن النكرة إذا أعيدت تكون غير الأولى والمعرفة عينها غالباً قال البعض: وجعل مع على بابها هو الظاهر إذ أواخر أوقات الصبر والكرب والعسر أوائل أوقات مقابلها فتحققت المقارنة وقيل إن نظر للعلم الأزلي فهي متقارنة إذ لا ترتب فيه أو للوجود الحقيقي فمع بمعنى بعد لأن بينهما تضاداً فلا تتصور المقارنة اهـ. وأطيل في رده بما لا يلاقيه عند التأمل.

ص: 156

(10)

وجعل سبحانه الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره قال تعالى: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لَا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120]

(11)

وأخبر سبحانه أن ملائكته تسلّم في الجنة على الصابرين قال تعالى: (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ)[الرعد: 24]

(12)

وجعل الله الصبر منزلة فوق منزلة المعاقِب لمن عاقبه بمثل العقوبة فهو أفضل وأكثر أجراً قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ)[النحل: 126]

(13)

ورتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر مع العمل الصالح قال تعالى: (إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[هود: 11]

(14)

وجعل الصبر على المصائب من عزم الأمور وهذه مرتبة لا ينالها أي أحد قال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ)[الشورى: 43]

(15)

وأوصى لقمان الرجل الصالح الحكيم ولده بأن يصبر على ما أصابه في سبيل الله قال تعالى: (يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ)[لقمان: 17]

(16)

ووعد الله المؤمنين بالنصر والظفر، وهي كلمته التي سبقت لهم نالوها بالصبر قال تعالى:(وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الْحُسْنَىَ عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 137]

(17)

وعلّق تعالى محبته بالصبر، وجعلها لأهل الصبر قال تعالى:(وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ)[آل عمران: 146]

وأخبر عن خصال من الخير لا يلقاها إلا الصابرون فقال تعالى في أهل العلم الذين علموا قومهم المفتونين بقارون قال تعالى: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّهِ خَيْرٌ لّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقّاهَآ إِلاّ الصّابِرُونَ)[القصص: 80]

ص: 157

وعند الدفع بالتي هي أحسن قال تعالى: (وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ)[فصلت: 35]

(18)

وأخبر أنه لا ينتفع بآياته ولا يستفيد منها إلا صاحب الصبر المكثر منه فأتى به بصيغة المبالغة في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَذَكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لَايَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ)[سورة: إبراهيم: 5]

وفي سورة لقمان قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لَايَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ)[لقمان: 31]

وبعد قصة سبأ قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لَايَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ)[سبأ: 19]

وفي ذكر النعمة بالسفن على العباد تنقل أنفسهم وبضائعهم قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلَامِ)[الشورى: 32]

فهذه أربع مواضع في القرآن الكريم تدل على أنه لا ينتفع بالآيات إلا أهل الصبر والشكر، الدين كله صبر وشكر، الإيمان نصفان صبر وشكر، حياة المسلم كلها صبر وشكر، ماذا يوجد في الطاعات والعبادات والتقرب إلى الله غير الصبر والشكر .. ؟ !

(19)

وأثنى الله على عبده أيوب بأحسن الثناء لأنه صبر فقال تعالى: (إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ)[ص: 44]

فمدحه بقوله نعم العبد لأنه صبر.

(20)

وحكم الله بالخسران حكماً عاماً على من لم يكن من أهل الصبر قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * ِإلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ)[العصر 1: 3]

(21)

وخص الله أهل الميمنة (أصحاب اليمين) بأنهم أهل الصبر والمرحمة قال تعالى: (ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ)[البلد: 17]

(22)

وقرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان فقرنه بالصلاة قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45]

ص: 158

وقرنه بالأعمال الصالحة قال تعالى: (إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[هود: 11]

وقرنه بالتقوى قال تعالى: (إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90]

وقرنه بالتواصي بالحق قال تعالى: (إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ)[العصر: 3]

وقرنه بالرحمة قال تعالى: (ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ)[البلد: 17]

وقرنه باليقين قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24]

وقرنه بالصدق قال تعالى: (وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ)[الأحزاب: 35]

فنعم المنزلة منزلة الصبر ونعم الخلق خلق الصبر ونعم أهله أهل الصبر.

(23)

والصبر طريق الجنة قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214]

والصبر لدخول الجنة وسبب النجاة من النار، فالجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فكيف تدخل الجنة بدون صبر على المكاره؟، وكيف تقي نفسك النار بدون صبر عن الشهوات؟، وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على المعنى اللطيف في هذا الحديث، حفت الجنة بالمكاره؛ علمنا أنه لا طريق للجنة إلا عبر المكاره، لأنه قال حُفّت، من جميع الجهات، فإذا ما ركبت المكاره لا تدخل الجنة، والمكاره هي ما تكرهه النفس من المجاهدة اللازمة لأداء العبادات (صلاة الفجر – الوضوء في البرد- الصبر على المصائب- الجهاد .... )،فلا يمكن دخول الجنة إلا باختراق المكاره، ولا يمكن اختراقها إلا بالصبر، وأما النار فإنها حفت بالشهوات، ولا يمكن منع النفس من الدخول في النار إلا إذا صبر عن المعاصي وامتنع عن المعصية وحبس نفسه عن ذلك فهذه إذاً فضائل هذا الخلق الكريم.

ص: 159

(24)

والصبر آخية المؤمن التي يجول ثم يرجع إليها، وساقُ إيمانه التي لا اعتماد له إلا عليها، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف، وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ولم يحظ منها إلا بالصفقة الخاسرة، فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقوا إلى أعلي المنازل بشكرهم فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم، لقوله تعالى:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد: من الآية 21)

(الأخبار الواردة في فضيلة الصبر:

إن الذي يمعن النظر في السنة الصحيحة يجد أن السنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على فضيلة الصبر منها ما يلي:

(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون قالت فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال قولي اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة قالت فقلت فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدا صلى الله عليه وسلم.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيرا يصب منه.

(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قال فقلت ذلك أن لك أجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به صلى الله عليه وسلم سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.

(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة.

ص: 160

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا و من سخط فله السخط.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا سكنت اعتدلت و كذلك المؤمن يكفأ بالبلاء و مثل الفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله تعالى إذا شاء.

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة وحتى لا يبالي من أكل الدنيا، وحتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله عز وجل.

(حديث صهيب ابن سنان الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر و كان خيرا له و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له.

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.

(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - يريد بعينيه - ثم صبر عوضته منهما الجنة.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة.

(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم)

ص: 161

(حديث خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال:(قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

(حديث عطاء ابن أبي رباح في الصحيحين) قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما ألا أُريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلتُ بلى، قال هذه المرأةُ السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أُصرع وإني أتكشف فادعُ الله لي. قال إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة وإن شئتِ دعوتُ الله أن يُعافيكِ فقالت أصبر، فقالت إني أتكشف فادعُ الله لي ألا أتكشف فدعا لها.

(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أوعليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.

(حديث أنس الثابت في الصحيحين) مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري فقالت إليك عني فإنك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى.

(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول! < إنا لله وإنا إليه راجعون >! اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 162

(حديث أبي موسى الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد.

(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم.

(أيام الصبر هي أيام الابتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين، الذي من دخله عُصِم ..

(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم.

{تنبيه} : (أيام الصير هذه هي أيام غربة الدين كما في الأحاديث الآتية

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء.

(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غيبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس.

(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طوبى للغرباء ، قيل: و من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسٍ سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ".

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(طوبى للغرباء) قال الطيبي: فعلى من الطيب قلبوا الياء واواً للضمة قبلها قيل معناه أصيبوا خيراً على الكتابة لأن إصابة الخير تستلزم طيب العيش فأطلق اللازم وأريد الملزوم قالوا: يا رسول اللّه من هم قال:

ص: 163

(ناس صالحون في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وفي رواية بدله من يبغضهم أكثر ممن يحبهم ومن ثم قال الثوري: إذا رأيت العَالِم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط لأنه لو نطق بالحق لأبغضوه قال الغزالي: وقد صار ما ارتضاه السلف من العلوم غريباً بل اندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع وقد صار علوم أولئك غريبة بحيث يمقت ذاكرها (فائدة) حكى في علم الاهتداء أنه مات فقير فلما جرّد للغسل وجد على عنقه بين الجلد واللحم مكتوباً طوبى لك يا غريب.

(أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لخير أعمله اليوم أحب إليَّ من مثليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنا كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تهمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنا اليوم قد مالت بنا الدنيا. وأخرجه الطبراني عن عبد الله نحوه؛ قال الهيثيم: ورجاله رجال الصحيح.

(الآثار الواردة في فضل الصبر:

ومن الآثار الواردة في فضل الصبر ما يلي:

[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: اعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له.

[*] قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس ".

[*] قال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: من الآية 24)

لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤوساً، ولما أرادوا قطع رجل عروة ابن الزبير قالوا له: لو سقيناك شيئاً كيلا تشعر بالوجع، قال: إنما ابتلاني ليرى صبري أفأعارض أمره؟!

أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة.

[*] قال عمر بن عبد العزيز: " ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه.

[*] ومرض أبو بكر الصديق فعادوه فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب، فقال " قد رآني الطبيب، قالوا: فأى شيء قال لك؟ فقال: قال: " إني فعال ما أريد ".

[*] وروُى أن سعيد بن جبير قال: " الصبر: اعتراف العبد لله بما أصابه منه واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع العبد وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر ".

ص: 164

فقوله: اعتراف العبد لله بما أصابه كأنه تفسير لقوله: {إِنَّا لِلّهِ} (البقرة: من الآية 156). فيعترف أنه ملك لله يتصرف فيه مالكه بما يريد، وراجياً بهما عند الله كأنه تفسير لقوله:{وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة: من الآية 156). أي نرد إليه فيجزينا على صبرنا، ولا يضيع أجر المصيبة.

(لله درُّ أقوامٍ امتثلوا ما أمروا، وزجروا عن الزلل فانزجروا، فإذا لاحت الدنيا غابوا وإذا بانت الأخرى حضروا فلو رأيتهم في القيامة إذا حشروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)

(جن عليهم الليل فسهروا، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا، وطرقوا باب المحبوب واعتذروا، وبالغوا في المطلوب ثم حذروا، فانظر بماذا وعدوا في الذكر وذكروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)

(ربحوا والله وما خسروا، وعاهدوا على الزهد فما غدروا، واحتالوا على نفوسهم فملكوا وأسروا، وتفقدوا أنه المولى فاعترفوا وشكروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)

(بيوتهم في خلوها كالصوامع، وعيونهم تنظر بالتقى من طرف خاشع، والأجفان قد سحت سحب المدامع، تسقى بذر الفكر الذي بذروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)

(استوحشوا من كل جليس شغلاً بالمعنى النفيس، وزموا مطايا الجد فسارت العيس، وبادروا الفرصة ففاتوا إبليس لا وقفوا ولا فتروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)

(أنواع الناس في الصبر:

الناس في الصبر أنواع وهذا تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه سبر نفوس الناس حسب ما رأى من الدين:

(1)

أهل الصبر والتقوى، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، صبروا على طاعته وصبروا على ترك محارمه.

(2)

ناس عندهم تقوى بلا صبر، فقد يكون هناك رجل عابد زاهد قوام صوام متصدق منفق ذاكر قانت لكن إذا نزلت به المصيبة ينهار، فعنده تقوى لكن إذا نزلت به مصيبة انهار.

[*] قال ابن الجوزي:

رأيت كبيراً قارب الثمانين كان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته فقال ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه لا يستجيب.

ص: 165

فالحاصل أنه من الناس من عنده عبادة لكن لا يصبر ولا يتجلد ولا يقاوم عند المصيبة فينهار. بل إن أحد هؤلاء قال: عندي كذا أولاد لا أخشى عليهم إلا منه! - تعالى الله انظر إلى الكفر إذا وصل إلى درجات في هذا الباب، سوء ظنه بالله، ماذا تنفع الصلاة وهذه عقيدته التي في قلبه؟ قال تعالى:(قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمََنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ)[الأنبياء: 42]،

و قال تعالى: (لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ)[الرعد:11]

فالحاصل الذي ليس عنده صبر لا تنفعه عبادته.

(3)

ناس لديهم صبر بلا تقوى. مثل الفجار لكنهم جلدين يصبرون على ما يصيبهم ككثير من اللصوص وقطاع الطرق يصبرون على الآلام والمشاق لنيل الحرام، وكذلك طلاب الرياسة والعلو، يصبرون على أنواع من الأذى لا يصبر عليها أكثر الناس. فهو من أجل أن يصل إلى هدفه يضيع صلوات ويأكل حرام ولا يبالي فعنده صبر بلا تقوى وغالب هؤلاء لا يرجون من الله جزاء على صبرهم، فالصبر لديهم خلق مفطورين عليه. ويوجد من الكفار من يتجلّد عند المصيبة فقد جاء مدح الروم في حديث عمرو بن العاص:((أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة))، تقع عليهم الكارثة فيستدركونها بسرعة، ومن تأمل ما حدث لهم وهم النصارى بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، كيف تهدمت بلادهم فما أسرع ما أعادوا بنائها وأعادوا مسيرة الاقتصاد و الإنتاج والزراعة والصناعة وقد مات منهم أكثر من أربعين مليون قال: وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من العشق، يصبرون على ما يهوونه من المحرمات من أنواع الأذى، فربما هذا المعشوق يجعل العاشق يتعذب من أجله ويشتغل لأجله ويحاول إرضائه بشتى الطرق، فعنده صبر ولكن بلا تقوى وهكذا .. ،وقد يصبر الرجل على ما يصيبه من مصائب كالمرض والفقر ولا يكون فيه تقوى إذا قدر، إذا قدر صار جباراً شقياً.

(4)

وهو شر الأقسام، لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا قال تعالى:(إِنّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)[المعارج 19: 21]

(مراتب الصبر:

ص: 166

والصبر مراتب فالصبر على طاعة الله أعلى منزلة من الصبر عن المعاصي والصبر عن المعاصي أعلى منزلة من الصبر على الأقدار. فالصبر على الواجبات أعلى أنواع الصبر لأن جنس فعل الواجبات أعلى درجة عند الله من جنس ترك المحرمات، وأجر ترك المحرمات أكبر من أجر الصبر على المصائب، لأن الصبر على الواجب والصبر على ترك الحرام عملية اختيارية، لكن لما نزلت به المصيبة، شيء بدون اختياره، ليس له إلا كف النفس والصبر.

[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن يوسف عليه السلام:

" كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها الذي دعته إليه من الحرام أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجبّ"، فصبره على الفاحشة أكمل وأعظم وأكثر أجراً من صبره على السجن وإلقاء إخوته له لأن الأول فيه شيء اختياري وصبره عليها صبر رضا ومحاربة للنفس لا سيما مع وجود الأسباب القوية المزينة للحرام فكان شاباً أعزباً وغريباً عند البلد و عبداً مملوكاً والمرأة جميلة وصاحبة منصب وهي التي دعته فسقطت الحواجز النفسية ثم استعانت عليه بكيد النسوة وهددته بالسجن، ثم إن زوجها ليست عنده غيرة قال تعالى:(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ)[يوسف: 29]، وغُلّقت الأبواب وغاب الرقيب، فصار داعي الزنا قوي جداً جداً ولكنه صبر عليه الصلاة و السلام، أما الأمور الأخرى من السجن وإلقاء أخوته له في الجبّ فجرت عليه بغير اختياره ولا كسب له فيها.

(مجالات الصبر:

(1)

الصبر على بلاء الدنيا قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4]

مشقة وعناء وبلاء وفتن، والله تعالى يقول:(وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ)[البقرة: 155]

الصبر على مشتهيات النفس قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ)[المنافقون: 9]،

(ولذلك قال بعض السلف: " ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر .. ! ".وقالوا: " البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صدّيق". والصبر على مشتهيات النفس لابدّ أن يكون من وجوه أربعة كما قال ابن القيم رحمه الله:

1 -

أن لا يركن إليها ولا يغترّ بها.

2 -

أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها.

3 -

أن يصبر على أداء حق الله فيها.

ص: 167

4 -

أن لا يصرفها في حرام.

(2)

الصبر عن التطلع إلى ما بيد الآخرين، وعن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين، فبعض قوم قارون ما صبروا فقالوا:(قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ)[القصص: 79]،

و قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ)[المؤمنون 55: 56]

و قال تعالى: (وَلَا تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ)[طه: 131]

(3)

الصبر على طاعة الله، وهذا أعظم أنواع الصبر وأشده على النفوس قال تعالى:(رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)[مريم: 65]،

اصطبر أكمل وأبلغ من اصبر فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى

و قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه: 132] على الصلاة وعلى أمر الزوجة بالصلاة،

(والصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:

(أ) قبل الطاعة بتصحيح النية وطرد شوائب الرياء.

(ب) حال الطاعة أن لا تغفل عن الله فيها ولا تتكاسل عن أدائها وتراعي واجباتها وأركانها والخشوع في الصلاة.

(ج) بعد الفراغ منها بأن لا تفشي ما عملت وتُعجَب به وتُسَمّع به في المجالس قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ)[البقرة: 264]

و قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوَاْ أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 33]

ص: 168

(4)

الصبر على مشاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فإنه غير خافٍ على الدعاة حال الناس اليوم من البعد عن الدين و البعد هذا يستلزم دعوة كبيرة وإنكاراً للمنكرات وصدع بالحق، فها هو عمر بن عبد العزيز لما استشعر المسؤولية الكبيرة في تغيير الانحرافات المتراكمة من سنوات طويلة في العهود السابقة قال:"إني أعاجل أمراً لا يعين عليه إلا الله" .. !.فنوح عليه السلام صبر هذا الصبر العظيم في الدعوة تسعمائة وحمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين عاماً على جميع أنواع الابتلاءات قال تعالى:(قَالَ رَبّ إِنّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيَ إِلاّ فِرَاراً * وَإِنّي كُلّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوَاْ أَصَابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً)[نوح 5: 7]، وهكذا سراً وجهاراً ماترك فرصة إلا قام بالدعوة، ثم الدعوة ليست عملية سهلة لأن الإنسان يجد كيد من الأعداء وحسد حتى من الناس الذين يظنهم معهم والقريبين منه على ما آتاه الله من فضله فيتمنون أن يوقع به ويضر ويتوقف ولذلك لابد للداعية أن يصبر في الداخل والخارج، القريبين والبعيدين، مع الناس الذين هم ضده علناً أو الذين يضمرون له الشر في داخل أنفسهم، قال تعالى:(لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً)[آل عمران: 186]،

والحل .. {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ} ،

قال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)[المزمل: 10]،

فالرسل كان من رأس مالهم وبضاعتهم الصبر على إيذاء أقوامهم بل أكّدوا على ذلك وقالت الرسل لأقوامهم: قال تعالى: (وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ)[إبراهيم: 12]

ص: 169

وقال تعالى: (وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىَ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّىَ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نّبَإِ الْمُرْسَلِينَ)[الأنعام: 34]، وهكذا يصبر الداعية على طول الطريق وعقباته وبطء النصر وتأخره، {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و قال تعالى:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214]

و قال تعالى: (حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَآءُ وَلَا يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يوسف: 110]

ص: 170

(5)

إن هناك صبراً حين البأس وفي الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفين فيكون الصبر شرط للنصر والفرار كبيرة ولذلك أوجب الله الثبات قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ)[الأنفال: 45] وحذر من الفرار وتولي الأدبار وعندما تضطرب المعركة وينفرط العقد فيكون الصبر أشد قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ)[آل عمران: 142] و قال تعالى: (وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ)[آل عمران: 144]، وحدثنا الله عن الثلة المؤمنة البقية الباقية بعد عمليات الترشيح المستمرة في قصة طالوت، قال تعالى:(مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)[البقرة: 249] وعصوه من قبل ومن بعد وما بقي معه إلا قليل، {فَلَمّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ} ، حتى الذين جاوزا النهر كان بعضهم استسلاميين فقالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ، {قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُمْ مُلَاقُواْ اللّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ} ، لذلك كان المسلمون صُبُر عند اللقاء، يصبرون وكانوا يتناقلون بينهم عبارة " إنما النصر صبرُ ساعة"، والمراغمة والمدافعة الآن بين فريقين، الذي يصبر أكثر هو الذي ينتصر، فأوصى الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من ضرر الناس وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها قال تعالى:(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34]،

فالصبر يكون أحياناً للمعلم على أذى التلميذ، للداعية على أذى المدعوّ، للمربي على أذى المتربي وهكذا .. ، ولذلك يقول الخضر لموسى: (قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف: 68]،

ص: 171

فتعهّد وقال: (قَالَ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً)[الكهف: 69]، تعهد ولكنه لم يستطع أن يصبر في تلك المواقف، فإذاً الصبر له مواقف ومواطن وحالات ومجالات ينبغي علينا أن نكون من الصابرين لله فيها

(الصبر خلق يمكن تحصيله واكتسابه بترويض النفس وتمرينها:

ورد في السنة الصحيحة ما يفيد أن الصبر خلق يمكن تحصيله واكتسابه بترويض النفس فهناك أناس جبلهم الله على الصبر وبعضهم جبله على قليل منه، فلو كان عند المرء نقص في هذا العمل من أعمال القلوب فيمكن تحصيله بالمران والرياضة النفسية والتدريب عليه والمجاهدة، فهو شيء ممكن اكتسابه وليس شيئاً فطرياً فقط لا يمكن الزيادة عليه، والدليل على أن الصبر خلق مكتسب وليس خلق فطري فقط كما في الأحاديث الآتية:

(حديث أَبِي سَعِيدٍ الثابت في الصحيحين) أَنّ نَاساً مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوارسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمّ سَألُوه فَأَعْطاهُمْ، حتى نَفِد ما عنده فقال: َ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يستعفف يُعِفّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عطاءاً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصّبْرِ)

فقد يكون إنسان جزع بأصل طبعه لكن لما علم فضل الصبر وأجره وأهميته ومكانته في الدين قرر ألا يمر بحادث وموقف في حياته إلا ويستعمل الصبر ويجاهد نفسه عليه ويجبرها عليه حتى تصبح صبّارة.

(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(إنما العلم) أي تحصيله

ص: 172

(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول

(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب

(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه

(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير (تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل [ص 570] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.

(الأسباب المعينة على الصبر:

مسألة: ما هي الأسباب المعينة على الصبر؟

ص: 173

هناك أسباب تكون عوناً بعد الله تعالى في اكتساب فضيلة الصبر منها ما يلي:

(1)

المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا وما جُبِلت عليه من المشقة والعناء وأن الله خلق الإنسان في كبد وأنه كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه وأن الآلام والتنغيص من طبيعة هذه الدنيا والابتلاءات قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ)[البقرة: 155]

(ولله درُّ من قال:

جُبِلت على كَدَرٍ وأنت تُرِيْدها

صفوٌ من الآلام والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها

متقلب في الماء جذوة نار

ومن لا يعرف هذه الحقيقة سيتفاجأ بالأحداث، أما الذي يعرف طبيعة الحياة الدنيا إذا حصل له أي ابتلاء ومنغصات فإن الأمر عنده يهون.

(2)

الإيمان بأن الدنيا كلها ملك لله تعالى، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، قال تعالى:(وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل: 53]،

ولذلك فإن الإنسان إذا حرم من شيء وابتلي يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، لا يوجد كلمة أبلغ في علاج المصاب وأنفع له عند المصيبة من تذكير العبد نفسه بهذين الأصلين. والدنيا فانية، والعبد وأهله وماله ملك لله، والمال وأولاده جعلوا عنده عاريّة، وصاحب العارية متى ما شاء استردها، ومصير الناس العودة إلى الله سبحانه وتعالى. وأم سليم لما فقهت هذا فكان لها مع أبي طلحة ذلك الموقف المشهور فلما مات ولده الذي يحبه فقالت:(يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟) قال: لا .. إن العارية مؤداة، قالت:(إن الله أعارنا فلاناً – ولدنا- ثم أخذه منا) فاسترجع ..

(3)

معرفة الجزاء والثواب على هذا الصبر .. وقد تقدم ذكر شيء من هذا .. {نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} ، يوفون أجرهم بغير حساب ..

(4)

الثقة بحصول الفرج، والله جعل مع كل عسر يسرين رحمة منه سبحانه، قال تعالى:(فَإِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)[الشرح 5، 6]،

فالعسر معرفة بأل، و يسر نكرة، فالعسر هو نفسه و يسر يسر ٌثانٍ، ولن يغلب عسرٌ يسرين. والله تعالى جعل اليسر مع العسر وليس بعده،

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.

ص: 174

ولذلك فالله ينزل المعونة على قدر البلاء، والله لا يخلف الميعاد، قال تعالى:(فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلَا يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)[الروم: 60] والفجر ينبلج ولو بعد ليل طويل ..

إن نبي الله يعقوب صبر على فقد يوسف والولد الثاني، وقال:(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)[يوسف -: 18]} لا تسخّط فيه ولا جزع، وقال:{عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} ، فبعض الناس يصبرون صبراً غير جميل، والصبر الجميل ليس فيه تشكّي للمخلوقين، قال تعالى:(قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[يوسف: 86]

أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ: أي وليس إليكم.

(5)

الاستعانة بالله تعالى واللجوء إلى حماه وطلبة معونته سبحانه، قالها موسى لقومه:(قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الأرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ)[الأعراف: 128]،

وحاجة الصابرين إلى الاستعانة عظيمة جداً ولذلك كان التوكل جانباً للمعونة من الله قال تعالى: (الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ)[النحل: 42]

الإيمان بالقضاء والقدر من أعظم ما يعين على الصبر، وأن يعلم العبد أن قضاء الله نافذ وأن يستسلم لما قضاه وقدره مما لا حيلة له به، قال تعالى:(مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلَا فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)[الحديد: 22]،

ثم إن العبد يعلم أن الجزع والهلع والتبرم والاعتراض والتشكّي والتضجر لا يجدي شيئاً ولا يعيد مفقوداً فلا حلّ إلا بالصبر، والعاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد سبعة أيام .. !، أي يستسلم.

(6)

التأمل في قصص الصابرين من أعظم الأسباب المعينة على الصبر:

فهذا نوحٌ عليه السلام صبر في دعوته لقومه صبراً عظيماً دام ألف سنة إلا خمسين عاماً جاهد ودعوة، وصبر على الإيذاء والسخرية، اتهموه بالجنون والسحر والضلال وهو يقابل ذلك بالصبر حتى قالوا: قال تعالى: (قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَنُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ)[الشعراء: 116] وصبر ..

ص: 175

وإبراهيم عليه السلام تعرض لمحنة عظيمة ويصبر صبر الموحد الموقن بوعد الله، حتى لما ألقي في النار قال:{حسبي الله ونعم الوكيل} ، حتى لما أُمِر بذبح ولده صبر وهمّ بذبح الولد، وأخذ السكين وأضطجع الولد استسلاماً لأمر الله، والله ابتلاه بهذا الأمر فصبر.

وموسى عليه السلام واجه التهديد والإيذاء من قومه وقوم فرعون قبلهم، فصبر على دعوة قومين!.

والنبي صلى الله عليه وسلم قال لما تذكر أخيه موسى: {يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} .

إبراهيم لما أُمِر بترك ولده وهو حديث عهد ولادة، وقد كان عقيماً، جاءه اسماعيل بعد سنوات طويلة جداً وهو شيخ كبير، وجاءه الأمر من الله اتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع!، مانال الخليل هذه المرتبة من شيء قليل، فمضى ولم يلتفت ولم يتحسر ولم يتردد، حتى قالت هاجر: لمن تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فرجع للشام ورزقه الله من سارة بإسحاق ومن ورائه يعقوب.

وعيسى عليه السلام عانى من بني إسرائيل من التهم الباطلة، تآمروا على قتله وصلبه وصبر حتى رفعه الله إليه.

ص: 176

وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كم تعرض للأذى والاضطهاد، قالوا عنه مجنون ساحر كذاب خائن، وأشد شيء على الصادق أن يتهم بالكذب ،أشد شيء على العاقل أن يقال عنه مجنون، وأشد شيء على الأمين أن يتهم بالخيانة، وأشد شيء على المؤمن أن يقال عنه شاعر ساحر به جنّة، وهو أكمل الخلق وأصدقهم وأعقلهم، ووضعوا الشوك وأخرجوه من بلده، وذهب للطائف يعرض نفسه على القبائل، وأحسّ بالاضطهاد وخرج من مكة لا يدري من الهم لم يستفق إلى في قرن الثعالب، حتى تآمروا على قتله قال تعالى:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال: 30]، وقتلوا بعض أصحابه وعذبوا بعضهم، وأشد شيء على النبي أن يرى أتباعه يضطهدون ويقتلون أمامه، يمر عليهم فيقول:(صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وهكذا صبر صلى الله عليه وسلم حتى أتاه اليقين من ربّه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة حتى لما ذهب المدينة لا يُظَنّ أن مجالات الصبر قد خفّت لأنه عانى من المنافقين معاناة عظيمة، يكفي حادثة الإفك، وصبر على كيد اليهود، ووضعوا له السم، وكانت نوبات الحمى تنتابه حتى مات في آخر نوبة منها فكان في ذلك أجله وهكذا أصحابه، بلال، سمية، صهيب، عمار، مقداد، أبو بكر، صهروهم في الشمس وعذبوهم ..

وهذا الصحابي خبيب، يسجن ليقتل ويصلب ..

ولست أبالي حين أقتل مسلماً: على أي جنبٍ كان في الله مصرعي

والمرأة التي قُتِل أبوها وأخوها وزوجها في يوم أحد فصبرت على ما حصل لها من هذه الأقدار، فماتوا في رفعة الدين ونصرة الدين وجهاد الكفار، وهكذا سار على هذا المنوال التابعون وتابعو التابعين ..

ص: 177

وعروة بن الزبير من أفاضل التابعين وأخيار التابعين، كان له ولد اسمه محمد من أحسن الناس وجهاً، دخل على الوليد في ثياب جميلة فقال الوليد: هكذا تكون فتيان قريش، ولا دعا بالبركة فقالوا أنه أصابه بالعين، خرج هذا محمد بن عروة بن الزبير من المجلس فوقع في اصطبل للدواب فلا زالت الدواب تطأه حتى مات، ثم مباشرة وقعت الآكلة (الغرغرينا) في رجل عروة وقالوا لابد من نشرها بالمنشار وقطعها حتى لا تسري لأماكن الجسد فيهلك، فنشروها فلما وصل المنشار إلى القصبة (وط الساق) وضع رأسه على الوسادة فغشي عليه ثم أفاق والعرق يتحدّر من وجهه وهو يهلل ويكبّر ويذكر الله، فأخذها وجعل يقلبها ويقبلها في يده وقال:((أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أنني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضي الله))، ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت وأمر بها أن تقدم إلى المقبرة، لما جاء من السفر بعد أن بترت رجله وفقد ولده قال لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، ولما قالوا: نسقيك شيئاً يزيل عقلك؟ قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، ورفض.

وأبوقلابة ممن ابتلي في بدنه ودينه، وأريدعلى القضاء وهرب إلى الشام فمات بعريضة وقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وهو مع ذلك حامد شاكر.

أحمد بن بنصر الخزاعي من كبار علماء السلف كان قوالاً بالحق آمراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، ثبت في محنة خلق القرآن، حملوه إلى سامراء فجلس مقيداً وعرض عليه الرجوع عن القول بأن القرآن كلام الله المنزل وعرض عليه القول بخلق القرآن فرفض، وقاموا عليه بحرب نفسية وجسدية .. ، فيقوم القاضي عند خليفة السوء فيقول إنه حلال الدم، ووافقه من كان حاضراً، وأحمد بن أبي دؤاد قال شيخ كبير، يتظاهر بالشفقة عليه، فقال الخليفة: ما أراه إلا مؤدياً لكفره فأخذ السيف وقال إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر .. !، فضرب به عنقه بعد أن مدوا رأسه بحبل، ونصب رأسه بالجانب الشرقي من بغداد، يقول أحد أهل العلم جعفر بن محمد الصائغ رأيت أحمد بن نصر الخزاعي حين قُتِل قال رأسه لا إله إلا الله وهذا من كراماته رحمه الله، قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: جاد بنفسه في سبيل الله.

ص: 178

والإمام أحمد نفسه كيف صبر في محنة خلق القرآن؟، حُمِل هو ومحمد بن نوح وهو شاب وليس عالماً لكن صبر مع الإمام أحمد، فحُمِل إلى المأمون، يشاء الله أن محمد بن نوح يمرض ويوصي الإمام أحمد: أنت إمام وأنا أموت ولا أحد يأبه لي، فاصبر .. ، ويموت محمد في الطريق، ويؤخذ الإمام أحمد رحمه الله مقيد، ودخل عليه بعض الناس قبل الدخول على الخليفة (هناك أحاديث في التقية والمرء عند الشدة يمكن أن يورِّي حتى تمضي العاصفة)، قال: كيف تصنعون بحديث خبّاب؟ إنه من كان قبلكم يُنشَر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه فيئسوا منه وتركوه، وقال اللهم لا تريني وجه المأمون، فمات المأمون قبل أن يصل أحمد، ووصل الخليفة الذي بعده والمحنة مازالت مستمرة، فيقول له: يا أحمد إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف ولكن يضربك ضرباً بعد ضرب حتى تموت، قال ناظَر ابن أبي دؤاد، فأسكت، هاتوا شيء من القرآن أقول به، هاتوا شيء من السنة أقول به فلا يأتون بدليل، يقول الخليفة لأحمد: تعرف صالح الرشيدي؟،قال: سمعت باسمه، قال: كان مؤدبي، فسألته عن القرآن فخالفني، ولما خالفني وأصر على أن القرآن غير مخلوق أُمِرت به فوطيء وسُحِبَ حتى مات، قال: هاتوا العقابين والسياط، قال: اءتوني بغيرها، ثم قال الخليفة للجلادين: تقدموا واضربوه، وربطوا الإمام أحمد، وكل فرد منهم يضرب سوطين و بأقوى ما عنده ويقول الخليفة للجلاد: شدّ يداً قطع الله يدك .. ،

ص: 179

لينال أحمد رحمه الله أعظم العذاب بالضرب على أيديهم، ثم يقول الخليفة علامَ تقتل نفسك إني عليك لشفيق وجعل ذلك القائم على رأسه الحارس ينخسه بالسيف، وذاك يقول ويحك يا أحمد ما أجبتني، أجبني إلى أي شيء يكون لك فيه فرج حتى أطلقك فيقول: يا أمير المؤمنين أعطني شيئاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي الجلاد ويضرب وهكذا تستمر عملية الضرب حتى قال ذهب عقلي فأفقت والأقياد في يدي فقال لي رجل كببناك على وجهك وجعلنا فوقك حصيراً ووطئنا عليك فقال ماشعرت بذلك، أتوني بأكل فقلت لا أفطر وكان صائماً، ثم جاؤوا به والدم يسيل في ثوبه فصلى فقال أحدهم: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ قال أحمد: صلى عمر وجرحه يثعب دماً، ثم مكث في السجن ثم خُلّي عنه بعد 28 شهراً، ثم جُعِل في الإقامة الجبرية، في بيته، وليس هناك أصعب على العالم من أن يتوقف عن نشر العلم، سئل أحدهم عن الإمام أحمد رحمه الله فقال: رجل هانت عليه نفسه في سبيل الله فبذلها كما هانت على بلال نفسه، لولا أحمد لذهب الإسلام.

فيا ضعيف العزم الطريق طويل .. تعب فيه آدم .. وجاهد فيه نوح .. وألقي في النار إبراهيم .. واضطجع للذبح إسماعيل .. وشق بالمنشار زكريا وذبح الحصور يحيى وقاسى الضر أيوب وزاد على المقدار بكاء داود، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم وكسرت رباعيته وشج رأسه ووجهه وقُتِل عمر مطعوناً وذو النورين علي والحسين وسعيد بن جبير وعذب ابن المسيب ومالك .. ، فالشاهد أنه في النهاية لا سبيل إلا الصبر ..

(ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: ((أدركنا أفضل عيشنا بالصبر))،يعني ما طابت الحياة إلا بالصبر مع مافيها من المنغصات والشدائد، فهو العمل القلبي الذي تطيب معه الحياة ولا تطيب بدونه، ولذلك ينبغي على العبد أن لا يفعل شيئاً ينافي الصبر، مثل شكوى الخالق للمخلوق والتبرم والتضجر فإما أن يخبر الإنسان الطبيب بعلته ليداويه فلا بأس ..

والأنين .. الألم .. ما يحدث من صوت من المريض المتألم .. ، هناك أنين استراحة وتفريح فلا يكره، وأنين شكوى فيكره ففيه تفصيله ..

ومما ينافي الصبر ما يحدث من النائحات وغيرهم وحتى من الرجال الآن من لطم الرأس والخد و ضرب الوجه باليدين والكفين والنياحة .. واويلاه .. واثبوراه ..

ص: 180

ولذلك فإن المسلم عليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يسلك سبيل الصابرين، نسأل الله عزوجل أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا هذا الخلق الكريم، إنه جواد كريم ..

(آفات في طريق الصبر:

هناك آفات في طريق الصبر تعوق الحصول على الصبر ومن ثم تمنع من النصر لأن النصر مع الصبر بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.

ومن هذه الآفات ما يلي:

(1)

قضية الاستعجال قال تعالى: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[الأنبياء: 37]،

الإنسان يجب أن يصبر ويتأنى والثمرة تأتي ولو بعد حين .. ، قال تعالى:(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لّهُمْ)[الأحقاف: 35].لقد باءت دعوات بالفشل .. لماذا؟ .. لأن أصحابها لم يصبروا ..

(حديث خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال:(قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

(2)

الغضب ينافي الصبر، ولذلك لما خرج يونس مغاضباً قومه ابتلاه الله بالحوت، فتعلم الصبر في بطن الحوت قال تعالى:(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ)[القلم: 48].، ولولا أنه كان من المسبّحين قبل أن يبتلعه الحوت للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، لذلك العبادة في وقت الرخاء تجلب الفرج في وقت الشدة، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ولذلك لما نادى يونس في بطن الحوت؛ عرفت الملائكة صوته لأنها كانت تسمعه وهو يذكر الله في حال الرخاء ..

ص: 181