الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الراجي طالب، والخائف هارب، والرغبة هي الرجاء حقيقة الرجاء طمَع يحتاج إلى تحقيق، طمعٌ في مغيَّبٍ عنك مَشْكوك في تَحصيله وإن كان متحقِّقًا بِذاته، الجنّة مُتحقِّقة بذاتها، ولكن القلق أن يُسْمحَ لي أن أدخلها أو أن لا أدخلها، بالمناسبة الشيء بالشيء يُذْكر.
(الرّغبة من لوازمها الرِّعايَة:
إن كنتَ راغبًا في شيءٍ عليك أن ترْعاهُ، إن اكْتَمَلَتْ الرغبة اكْتَمَلَ معها خُلُق الرِّعاية، الرِّعاية الإيمانيّة العِلْم كيف يُراعى؟ يُحْفظ ويُعْمَلُ به، آفاتا العلم أن يُنْسى وأن لا يُعْمَلَ به الآن إذا كان هناك رغبة صادقة لا بدّ من أن يتْبَعَ هذه الرغبة الصادقة عملٌ يؤكِّدها، فَرِعايَةُ العلم بالحفْظ، ورِعايَة العلم بالعمل.
فإذا اكتمَلَتْ رغبَتُهُ اكْتَمَلَ مع رغْبته خُلقُ الرِّعاية، يرعى العلم فيحْفظُهُ ويعمل به، ويرْعى العمل بالإحسان والإخلاص، والإحسان هو الإتقان، والإخلاص أن يكون خالصًا لله تعالى، يرعى العلم فيحْفظُهُ ويعمل به، ويرْعى العمل بالإحسان والإخلاص.
ويحفظ العمل من مُفْسِداته، مثلاً أعطى ثمّ منَّ بعْد عطائِهِ، فالمنّ أذْهَبَ ثواب عطائه، وقال العلماء مراتب العلم والعمل ثلاثة: رواية هي مجرّد النقل وحمْلُ المرْوِيّ، ودِرايَةٌ هي فهمهُ وتعَقُّلُ معناه، ورعايةٌ هي العمل بِمُوجِبِه، ما علمهُ، وبِحَسب مُقتضاه.
(فصلٌ في منزلة الرعاية:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرعاية وهي مراعاة
العلم وحفظه بالعمل، ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص وحفظه من المفسدات، ومراعاة الحال بالموافقة وحفظه بقطع التفريق، «فالرعاية صيانة وحفظ» ومراتب العلم والعمل ثلاثة:
(رواية: وهي مجرد النقل وحمل المروي.
(و دراية: وهي فهمه وتعقل معناه.
(ورعاية: وهي العمل بموجب ما عمله ومقتضاه،
«فالنقلة همتهم الرواية والعلماء همتهم الدراية والعارفون همتهم الرعاية» وقد ذم الله من لم يرع ما اختاره وابتدعه من الرهبانية حق رعايته فقال تعالى {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} رهبانية منصوب بابتدعوها على الاشتغال إما بنفس الفعل المذكور على قول الكوفيين وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور على قول البصريين أي وابتدعوا رهبانية وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه فالوقف التام عند قوله: ورحمة، ثم يبتدىء ورهبانية ابتدعوها أي لم نشرعها لهم بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ولم نكتبها عليهم.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
والقصد: أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قُرْبَةً ابتدعها لله تعالى حق رعايتها فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله ورضيها لعباده وأذن بها وحث عليها. أهـ
لأنّ الله ما كتبها عليهم، لم يستطيعوا رعايتها من هو الخبير؟ الله جل جلاله، إذا سمَحَ الله لك بالزواج، وحرمْت أنت نفسكَ من الزواج زهدًا وورعًا، أنت تحرَّكْتَ حركة بِخِلاف فِطْرتك التي فُطِرْت عليها، لن تستطيع رِعايَة هذا المسْلكَ الذي ابْتَدَعْتهُ، لأنَّهم ابْتَدَعوها ولم تَرِد في منهجهم إذًا لن يستطيعوا رعايتها حقّ الرعاية، ما كتبناها عليهم هم حينما كتَبُوها على أنفسهم اِدَّعَوا أنَّه ابْتِغاء رِضْوان الله، ولأنَّها لم تُكْتَب عليهم لمْ يستطيعوا رعايتها، فما رعَوْها حقّ رعايتها.
وأجْمَل ما قيل في هذا المقام قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له» ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر أبداً، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
في هذا المعنى الدقيق، الله جل جلاله ذمّ من لمْ يرْعَ قُرْبةً ابْتَدَعها لله تعالى، لم يرْعها حقّ رعايتها، فكيف بِمَن لم يرْعَ قُرْبةً شرعها الله؟ القُربة التي لم يُشَرِّعها الله عاتب الذين ابْتَدَعوها أنَّهم لم يرْعَوْها حق رعايتها، فكيف بالذي لا يرعى عبادة شرعها الله عز وجل، وهي متوافقةٌ مع طبْعِهِ، ومع طاقته وقدرته وإمكاناته.
الآن من أركان الرِّعاية رعايَة الأعمال وفْق النَّمَط الأوْسط مع اسْتصغارها والقيام بها من غير نظرٍ إليها، ثلاث صفات؛ رِعايَة الأعمال أن تأخذ الوضع المعتدل منها، فالإفراط تطرّف، والتفريط تطرّف، وأن تُلقي بِنَفسِكَ إلى التهلكة تهوّر، وأن تجمد عن ملاقاة العدوّ جبْنٌ، والوضْع الوسَطِيّ أن تكون شجاعًا بِتَعَقُّل، أن تمْسِكَ المال بُخلاً، وأن تُلْقِيَهُ جزافًا إسرافًا، أما الوضْع الوسطي كما قال تعالى:(وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)[الفرقان: 67]
أوّل شيء رعاية الأعمال وفْق النَّمَط الأوْسَط، وقالوا الفضيلة وسَطٌ بين طرفين، مع اسْتصغارها والقيام بها من غير نظرٍ إليها، الإنسان إذا رأى عملهُ كبيرًا حجَبَهُ عن الله عز وجل، «لو كان لك عملٌ كالجبال يجب أن ترى أنّ الله تفضَّل به عليك، ولولا أنّ الله عز وجل تفضَّل به عليك لأخذْت ولم تُعْطِ»
(فإذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة
والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة
فلا تعجبي بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك
فإن ذلك وإن كان من **بك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك وخيره
فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخرة بمتاع غيرها
وربما سُلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير
فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم فأصبحت وزهرها يابس هشيم
إذ هبت عليها الريح العقيم
كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم
فيصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم ذلك
فعل العزيز الحليم الخلاق العليم.
مسألة / ما مدى صحة القول الآتي: «ما عبدتُك شوقاً إلى جنَّتك، ولا خوفاً من نارك، وإنما عبدتك شوقاً إلى رؤيتك» ؟
الجواب: أن هذا قولٌ باطل لا يصح بل يجب عبادة الله تعالى بمقامات الإيمان الثلاثة المتلازمة، وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:
(1)
أن العبادة الشرعية عند أهل السنَّة تشمل المحبة والتعظيم، والمحبة تولِّد الرجاء، والتعظيم يولِّد الخوف.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله:
العبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما: المحبة، والتعظيم، الناتج عنهما: قال تعالى: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ)[الأنبياء: 90]، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة، والخوف.
ولهذا كانت العبادة أوامر، ونواهي: أوامر مبنية على الرغبة، وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم، والرهبة من هذا العظيم.
فإذا أحببتَ الله عز وجل: رغبتَ فيما عنده، ورغبت في الوصول إليه، وطلبتَ الطريق الموصل إليه، وقمتَ بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظمتَه: خفتَ منه، كلما هممتَ بمعصية استشعرت عظمة الخالق عز وجل، فنفرتَ، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) يوسف/ 24.
فهذه مِن نعمة الله عليك، إذا هممتَ بمعصية وجدتَ الله أمامك، فهبتَ، وخفتَ، وتباعدتَ عن المعصية؛ لأنك تعبد الله، رغبة، ورهبة.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين "(8/ 17، 18).
(2)
أن عبادة الأنبياء والعلماء والأتقياء تشتمل على الخوف والرجاء، ولا تخلو من محبة، فمن يرد أن يعبد الله تعالى بإحدى ذلك: فهو مبتدع، وقد يصل الحال به للكفر.
قال الله تعالى – في وصف حال المدعوين من الملائكة والأنبياء والصالحين -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)[الإسراء/ 57]
وقال الله تبارك وتعالى – في وصف حال الأنبياء -: (إِِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء/ 90]
قال ابن جرير الطبري – رحمه الله:
ويعنى بقوله: (رَغَباً): أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه، من رحمته، وفضله.
(وَرَهَباً): يعني: رهبة منهم، من عذابه، وعقابه، بتركهم عبادته، وركوبهم معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
" تفسير الطبري "(18/ 521).
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله:
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: في عمل القُرُبات، وفعل الطاعات.
(وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) قال الثوري: (رَغَبًا) فيما عندنا، (وَرَهَبًا) مما عندنا.
(وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: مصدِّقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: مؤمنين حقّاً، وقال أبو العالية: خائفين، وقال أبو سِنَان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبداً، وعن مجاهد أيضاً:(خَاشِعِينَ) أي: متواضعين، وقال الحسن، وقتادة، والضحاك:(خَاشِعِينَ) أي: متذللين لله عز وجل، وكل هذه الأقوال متقاربة.
" تفسير ابن كثير "(5/ 370).
((قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
قال بعض السلف: " مَن عبد الله بالحب وحده: فهو زنديق، ومَن عبده بالخوف وحده: فهو حروري – أي: خارجي -، ومَن عبده بالرجاء وحده: فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء: فهو مؤمن موحد.
" مجموع الفتاوى "(15/ 21).
(3)
اعتقادهم أن الجنة هي الأشجار والأنهار والحور العين، وغفلوا عن أعظم ما في الجنة مما يسعى العبد لتحصيله وهو: رؤية الله تعالى، والتلذذ بذلك، والنار ليست هي الحميم والسموم والزقوم، بل هي غضب الله وعذابه والحجب عن رؤيته عز وجل.
((قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
ومِن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول مَن قال: " ما عبدتُك شوقاً إلى جنَّتك، ولا خوفاً من نارك، وإنما عبدتك شوقاً إلى رؤيتك ".
فإن هذا القائل ظنَّ هو ومَن تابعه أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل، والشرب، واللباس، والنكاح، ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، ولهذا قال بعض مَن غلط مِن المشائخ لما سمع قوله:(مِنْكُم مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ) قال: فأين من يريد الله؟! وقال آخر في قوله تعالى: (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنينَ أنْفُسَهُم وَأَمْوَالُهُم بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ) قال: إذا كانت النفوس والأموال بالجنَّة فأين النظر إليه؟!.
وكل هذا لظنِّهم أنَّ الجنَّة لا يدخل فيها النظر، والتحقيق: أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها: النظر إلى وجه الله، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة، كما أخبرت به النصوص، وكذلك أهل النار، فإنهم محجوبون عن ربهم يدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق ناراً، أو لو لم تخلق جنَّة لكان يجب أن تُعبد، ويجب التقرب إليك، والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق.
" مجموع الفتاوى "(10/ 62، 63).
(وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
والتحقيق أن يقال: الجنَّة ليست اسماً لمجرد الأشجار، والفواكه، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنَّة، فإنَّ الجنَّة اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومِن أعظم نعيم الجنَّة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه، وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبداً، فأيسر يسير من رضوانه: أكبر من الجنان وما فيها من ذلك، كما قال تعالى:(وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر) التوبة/ 72، وأتى به مُنَكَّراًَ في سياق الإثبات، أي: أي شيء كان من رضاه عن عبده: فهو أكبر من الجنة.
وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية: (فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه)
((حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في قَوْلِهِ {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الْجَنّةَ، نَادَى مُنَادٍ إِنّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِداً، قَالُوا أَلَمْ يُبَيّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجّينَا مِنَ النّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنّةَ؟ قَالُوا بَلَى، فَينكشفُ الْحِجَابُ، قالَ: فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النظَرِ إِلَيْهِ» .
ولا ريب أن الأمر هكذا، وهو أجل مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة، فإن (المرء مع مَن أحب)، ولا تخصيص في هذا الحكم، بل هو ثابت، شاهداً، وغائباً، فأي نعيم، وأي لذة، وأي قرة عين، وأي فوز، يداني نعيم تلك المعية، ولذتها، وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب الذي لا شيء أجل منه، ولا أكمل، ولا أجمل قرة عين ألبتة؟.
وهذا - والله - هو العِلم الذي شمَّر إليه المحبون، واللواء الذي أمَّه العارفون، وهو روح مسمَّى الجنَّة وحياتها، وبه طابت الجنة، وعليه قامت.
فكيف يقال: " لا يُعبد الله طلباً لجنَّته، ولا خوفاً من ناره "؟!.
وكذلك النار أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله، وإهانته، وغضبه، وسخطه، والبُعد عنه: أعظم من التهاب النار في أجسامهم، وأرواحهم، بل التهاب هذه النار في قلوبهم: هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم، ومنها سرت إليها.
فمطلوب الأنبياء، والمرسلين، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين: هو الجنَّة، ومهربهم: من النار، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
" مدارج السالكين "(2/ 80، 81).
(4)
مؤدى تلك المقولة الاستخفاف بخلق الجنة، والنار، والله تعالى خلقهما، وأعدَّ كل واحدة منهما لمن يستحقها، وبالجنة رغَّب العابدين لعبادته، وبالنار خوَّف خلقه من معصيته والكفر به.
(5)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله الجنَّة، ويستعيذ به من النار، وكان يعلِّم ذلك لأصحابه رضوان الله عليهم، وهكذا توارثه العلماء والعبَّاد، ولم يروا في ذلك نقضاً لمحبتهم لربهم تعالى، ولا نقصاً في منزلة عبادتهم.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.
((حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان أكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "0
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ ما تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن.
((حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضتُ أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلمُ به.
(قال تقي الدِّين السبكي – رحمه الله:
والعاملون على أصناف: صنف عبدوه لذاته، وكونه مستحقّاً لذلك؛ فإنه مستحق لذلك، لو لم يخلق جنَّة ولا ناراً، فهذا معنى قول من قال:" ما عبدناك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنَّتك "، أي: بل عبدناك لاستحقاقك ذلك، ومع هذا فهذا القائل يسأل الله الجنَّة، ويستعيذ به من النار، ويظن بعض الجهلة خلاف ذلك، وهو جهل، فمَن لم يسأل الله الجنَّة والنجاة من النار: فهو مخالف للسنَّة؛ فإن مِن سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولما قال ذلك القائل للنبي صلى الله عليه وسلم:" إنه يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار "، وقال:" ما أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ ": قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن).
فهذا سيد الأولين والآخرين يقول هذه المقالة، فمن اعتقد خلاف ذلك: فهو جاهل، ختَّال.
ومِن آداب أهل السنَّة أربعة أشياء لا بد لهم منها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والافتقار إلى الله تعالى، والاستغاثة بالله، والصبر على ذلك إلى الممات.
كذا قال سهل بن عبد الله التستري، وهو كلامٌ حقٌّ.
" فتاوى السبكي "(2/ 560).
(وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
كل ما أعده الله لأوليائه: فهو مِن الجنَّة، والنظر إليه هو من الجنة، ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنَّة، ويستعيذ به من النَّار، ولما سألَ بعضَ أصحابه عما يقول في صلاته، قال:" إني أسأل الله الجنَّة، وأعوذ بالله من النَّار، أما إني لا أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ "، فقال:(حولها ندندن).
" مجموع الفتاوى "(10/ 241).
(6)
من أراد أن يعبد الله تعالى بالمحبَّة وحدها دون الخوف والرجاء: فدينه في خطر، وهو مبتدع أشد الابتداع، وقد يصل به الحال أن يخرج من ملَّة الإسلام، وبعض كبار الزنادقة يقول: إننا نعبد الله محبة له، ولو كان مصيرنا الخلود في النار!!، ويعتقد بعضهم أنه بالمحبة فقط ينال رضا الله ورضوانه، وهو يشابه بذلك عقيدة اليهود والنصارى، حيث قال تعالى عنهم:(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[المائدة/ 18].
(قال تقي الدين السبكي – رحمه الله: