الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
((حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس.
{تنبيه} : (النبي عليه الصلاة والسلام قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير.
ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا. كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد، وهذا من المعاريض. وقال إسحاق بن هانئ: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي أحد طلبته ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر.
(أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب، لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور.
(فصلٌ في منزلة الإيثار:
[*] (عناصر الفصل:
(الإيثار من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(تعريف الإيثار والفرق بين المؤاثرة والإيثار:
((أهم الأسباب التي تعين على الإيثار:
((أقسام الإيثار:
((درجات الإيثار:
(مراتب العطاء:
(مراتب الجود:
(إيثار النبي صلى الله عليه وسلم:
(أروع القصص في الإيثار:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الإيثار من منازل السائرين إلى رب العالمين:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإيثار قال الله تعالى
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] فالإيثار ضد الشح فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه والشحيح: حريص على ما ليس بيده فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل.
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
(فالبخيل: من أجاب داعي الشح.
(والمؤثر: من أجاب داعي الجود كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء وهو أفضل من سخاء البذل قال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل.
وهذا المنزل: هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة:
إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء.
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئا أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود.
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهي مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]
فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين حتى إنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك قال: نعم نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر وهو يفعل ذلك فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه ومضينا فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام أعطيتموني ثمن قراي ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي فأخذناه وانصرف، فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير سبحانه استئثار الناس على الأنصار بالدنيا وهم أهل الإيثار ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار فاعلم أنه لخير يراد بك والله سبحانه وتعالى أعلم
(تعريف الإيثار والفرق بين المؤاثرة والإيثار:
الإيثار هو أن يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه.
ومنزلة الإيثار مأخوذةٌ من قولهِ تعالى: (وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]
إن من أعظم الصفات التي يتصفُ بها المؤمن «صفة الإيثار» ، ومن صِفات الكافر والفاسق والفاجر:«الأَثَرَةَ» الأثرة هي حب النفس، وتفضيلها على الآخرين، فهي عكس الإيثار،
فالكافر يؤثِرُ ذاتهُ على كلِّ نفس، يبني حياتهُ على موت الناس، وغِناهُ على فقر الناس، ومجدهُ على أنقاض الناس، وأَمنهُ على خوف الناس.
بينما المؤمن من خصائصهِ الكُبرى و صِفاتهِ العُظمى وسِماتهِ الأساسية أنهُ يُؤثِرُ الآخرين على نفسه والدليل هؤلاء الأنصار أثنى الله عليهم فقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة)
القسم الثاني من الآية (وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يُقابل الإيثار .. الشُح ..
الإنسانُ بينَ شُحٍ وإيثار، إن كانَ مؤمناً فهو يؤثر، وإن كانَ غير مؤمنٍ فهو شحيح.
الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ في يدهِ، يُنفق لَلامَهُ .. لماذا تُنفق يا رجل، هذا المال دعهُ لكَ، ادخره لوقت الشِدة، لماذا تُنفق أ مجنون أنت. الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ في يدهِ، فإذا حصلَ هذا في يدهِ كانَ بهِ أشح وبَخِلَ بإخراجه والبخلُ صِفةٌ ماديّةٌ أساسُها الشُح، من الداخل شُح، من الخارج بُخل، ومن يوقَ مرض الشُح .. هذا مرض .. مرض عُضال " ومن يوقَ شُحَّ نفسهِ فأؤلئكَ هم المفلحون " فالبخلَ سلوكُ النفسِ الشحيحة، والعطاءُ سلوكُ النفسِ المؤاثِرة الكريمة.
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الشح، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث جابر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في جوف عبد أبدا و لا يجتمع الشح و الإيمان في قلب عبد أبدا.
(فالسِمةُ الأساسيةُ، الصِفةُ الثابتة، الحركة اليومية لغير المؤمن هي الشُح، والصفة البارزة للمؤمن هي المؤاثرة والإيثار.
((قالَ ابن المبارك رحمه الله تعالى: سخاء النفسِ عمّا في أيدي الناسِ أفضلُ من سخاء النفسِ بالبذل .. الإنسان إذا تعففَ عن أموال الناس هذا أولُ مراتب الإيثار فإذا أعطاهم كانَ أرقى. .. «العطاء لا يُبنى إلا على التعفف تتعففُ أولاً وتُعطي ثانياً» .
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم.
(وقفة مع هذا الحديث العظيم:
إن المتأمل في الحديث العظيم بعين البصيرة ويمْعِنِ النظر فيه ويجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبه موقِعاً يجد أن هذا الحديث العظيم العجيب؛ الذي يبين حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيث جاءه رجل فقال: ((يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني مجهود)) يعني مجهد من الفقر والجوع، وهو ضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجاته واحدة تلو الآخرى يسألها هل عندها شيء، فكانت كلّ واحدة تقول:((لا والذي يعثك بالحق ما عندي إلا الماء)).
تسعة أبيات للرسول عليه الصلاة والسلام ليس فيها إلا الماء، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لو شاء أن يسيّر الله الجبال معه ذهباً لسارت، لكنه عليه الصلاة والسلام كان أزهد الناس في الدنيا، كل بيوته التسعة ليس فيها شيء إلا الماء.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من يُضيف هذا الليلة)) يعني هذا الضيف.
فقال رجلٌ من الأنصار: ((أنا يا رسول)) أنا أضيفه. ((فانطلق به إلى رحله، فقال لآمراته: هل عندك شيء؟ قالت: لا؛ إلا قوت صبياني)) يعني ليس عندها في البيت إلا العشاء لهم تلك الليلة فقط. فقال: ((أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأمرها أن تشغل أولادها وتلهيهم.
حتى إذا جاء وقت الطعام نومتهم، وأطفأت المصباح، ورأت الضيف أنهم يأكلون معه ففعلت، هدأت الصبيان وعللتهم ونومتهم، فناموا على غير عشاء، ثم إن العشاء لما قدم أطفأت المصباح وأرت الضيف أنها تأكل هي وزوجها معه، وهما لا يأكلان، فشبع الضيف وباتا طاويين، يعني غير متعشيين إكراماً لضيف الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله قد عجب من صنيعهما تلك الليلة، والعجب هنا عجب استحسان، استحسن عز وجل صنيعهما من تلك الليلة لما يشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
(وفي هذا الحديث من الفوائد ما يلي:
أولاً: بيان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه من شظف العيش وقلة ذات اليد، مع أنه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئاً؛ لكان أبر الناس بها وأحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لا تساوي شيئاً.
قال ابن القيم رحمه الله:
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة
…
لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنها والله أحقر عنده
…
من ذا الجناح القاصر الطيران
أحقر من جناح البعوضة عند الله؛ فليست بشيء.
(ومنها: حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الأنصاري رضي الله عنه قال لزوجته: ((أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم يقل أكرمي ضيفنا مع أن الذي أضافه في الحقيقة هو هذا الرجل، لكنه أضافه نيابة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعله ضيفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ومنها: إنه يجوز عرض الضيافة على الناس، ولا يعد هذا من المسالة المذمومة، أولاً لأنه لم يعين، فلم يقل: يا فلان ضيف هذا الرجل حتى نقول: إنه أحرجه، وإنما هو على سبيل العموم، فيجوز للإنسان مثلاً إذا نزل به ضيف وكان مشغولاً، أو ليس عنده ما يضيفه به، أن يقول لمن حوله: من مضيف هذا الرجل؟ ولا حرج في ذلك
(ومنها: الإيثار العظيم من هذا الرجل الأنصاري، حيث بات هو وزوجته وصبيته من غير عشاء إكراماً لهذا الضيف الذي نزل ضيفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا يُري ضيفه أنه مانّ عليه، أو أن الضيف مضيق عليه، ومحرج له؛ لأن الرجل أمر بإطفاء المصباح حتى لا يظن الضيف أنه ضيق عليهم وحرمهم العشاء، وهذا مأخوذ من أدب الخليل إبراهيم عليه السلام حين نزلت به الملائكة ضيوفاً (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)(الذريات:26)، حينئذٍ، لكنه راغ إلى أهله، أي ذهب بسرعة وخفية لئلا يخجل الضيف.
(ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يؤثر الضيف ونحوه على عائلته.
ومن تأمل سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وهديه وهدي أصحابه؛ وجد فيها من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ما لو سار الناس عليه لنالوا بذلك رفعة الدنيا والآخرة. وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير في الدنيا والآخرة.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طعام الإثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طعام الواحد يكفي الإثنين وطعام الإثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
هذا فيه الحث على المواساة في الطعام وأنه وإن كان قليلاً حصلت منه الكفاية المقصودة ووقعت فيه بركة تعم الحاضرين عليه والله أعلم.
(حديث سهل ابن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟. فقيل له: نعم، هي الشملة، منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال:(نعم). فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يرد سائلا. فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه.
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان أبو طلحة أكثُر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبُ أموالهِ إليه بَيْرحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) وإن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وزُخّرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخٍ ذلك مالٌ رابح ذلك مالٌ رابح، وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه)
{تنبيه} : (بين النبي صلى الله عليه وسلم إن طعام الواحد يكفي الإثنين، وأن طعام الإثنين يكفي الأربعة، وأن طعام الأربعة يكفي الثمانية، وهذا حث منه عليه الصلاة والسلام على الإيثار، يعني أنك لو أتيت بطعامك الذي قدرت أنه يكفيك، وجاء رجلٌ آخر فلا تبخل، لا تبخل عليه وتقول هذا طعامي وحدي، بل أعطه حتى يكون كافياً للاثنين.
وكذلك لو جاء اثنان بطعامهما، ثم جاءهما اثنان، فلا يبخلان عليه ويقولان هذا طعامنا، بل يطمعانهما؛ فإن طعامهما يكفيهما ويكفي الإثنين، وهكذا الأربعة مع الثمانية.
وإنما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا من أجل أن يؤثر الإنسان بفضل طعامه على أخيه.
وكذلك أيضاً حديث أبي سعيد ((من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)).
وذكر أنواعاً ولم يبادر فيقول من كان له فضل زاد مثلاً لئلا يخجل الرجل، بل قال:((من كان له فضل ظهر))، والرجل لا يحتاج إلى الظهر، لأنه كان على راحلته، لكن هذا من حسن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الراوي: ((حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) يعني أن الإنسان يبذل كل ما عنده حتى لا يبقى معه فضل، يعني من الطعام والشراب والرحل وغير ذلك، وهذا كله من باب الإيثار.
(وأما حديث سهل بن سعد، فإن امرأة جاءت وأهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بردة، وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد الهدية؛ بل يقبل الهدية ويثيب عليها صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من كرمه وحسن خلقه، فتقدم رجل إليه، فقال: ما أحسن هذا، طلبها من النبي صلى الله عليه وسلم، ففعل الرسول عليه الصلاة والسلام، خلعها وطواها، وأعطاه إياها.
فقيل للرجل: كيف تطلبها من النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تعلم أنه لا يرد سائلاً؟ فقال: والله ما طلبتها لألبسها، ولكن لتكون كفني رضي الله عنه، فأبقاها عنده فصارت كفنه، ففي هذا إيثار النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه؛ لأنه آثر بها هذا الرجل مع أن الذي يظهر أنه في حاجة لها.
(وأما قصة أبي طلحة وتصدقه بِبَيْرُحاء فقد ضرب أروع المثل في امتثال قوله تعالى (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ).
((أهم الأسباب التي تعين على الإيثار:
(1)
الرغبة في مكارم الأخلاق، والتنزه عن سيئها، إذ بحسب رغبة الإنسان في مكارم الأخلاق يكون إيثاره؛ لأن الإيثار أفضل مكارم الأخلاق.
(2)
بُغض الشُّحِّ، فمن أبغض الشُّحَّ علم ألا خلاص له منه إلا بالجود والإيثار.
(3)
تعظيم الحقوق، فمتى عظمت الحقوق عند امرئٍ قام بحقها ورعاها حق رعايتها، وأيقن أنه إن لم يبلغ رتبة الإيثار لم يؤد الحقوق كما ينبغي فيحتاط لذلك بالإيثار.
(4)
العزوف عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، فمن عظمت في عينه الآخرة هان عليه أمر الدنيا، وعلم أن ما يعطيه في الدنيا يُعطاه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
(5)
توطين النفس على تحمل الشدائد والصعاب،
فإن ذلك مما يعين على الإيثار، إذ قد يترتب على الإيثار قلة ذات اليد وضيق الحال أحيانًا، فما لم يكن العبد موطنًا نفسه على التحمل لم يطق أن يعطي مع حاجته.
((أقسام الإيثار:
الإيثار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ممنوع، والثاني: مكروه أو مباح، والثالث: مباح.
(القسم الأول (الممنوع):
فهو أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعاً فإنه لا يجوز أن تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعاً.
ومثاله إذا كان معك ماء يكفي لوضوء رجل واحد، وأنت لست على وضوء، وهناك صاحب لك ليس على وضوء فالماء لك، لكن إما أن يتوضأ به صاحبك وتتيمم أنت، أو تتوضأ أنت ويتيمم صاحبك، ففي هذه الحال لا يجوز أن تعطيه الماء وتتيمم أنت؛ لأنك واجد للماء، والماء في ملكك، ولا يجوز العدول عن الماء إلى التيمم إلا لعادم.
فالإيثار في الواجبات الشرعية حرام، ولا يحل؛ أنه يستلزم إسقاط الواجب عليك.
(القسم الثاني (وهو المكروه):
فالإيثار بالأمور المستحبة، وقد كرهه بعض أهل العلم وأباحه بعضهم، لكن تركه أولى لا شك إلا لمصلحته.
ومثاله: أن تؤثر غيرك في الصف الأول الذي أنت فيه، مثل أن تكون أنت في الصف الأول في الصلاة، فيدخل إنسان فتقوم عن مكانك وتؤثره به، فقد كره أهل العلم هذا، وقالوا: إن هذا دليلٌ على أن الإنسان يرغب عن الخير، والرغبة عن الخير مكروهة، إذ كيف تقدم غيرك إلى مكان فاضل أنت أحق به منه؟!
وقال بعض العلماء: تركه أولى إلا إذا كان فيه مصلحة، كما لو كان أبوك وتخشى أن يقع في قلبه شيء عليك فتؤثره بمكانك الفاضل، فهذا لا بأس به.
(القسم الثالث (المباح):
وهذا المباح قد يكون مستحباً، وذلك أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبدي، أي تؤثر غيرك وتقدمه على نفسك في أمر غير تعبدي.
مثل: أن يكون معك طعام وأنت جائع، وصاحب لك جائع مثلك ففي هذه الحال إذا آثرته فإنك محمود على هذا الإيثار؛ لقول الله تبارك وتعالى في وصف الأنصار:(وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ َ)[الحشر:9].
ووجه إيثارهم على أنفسهم أن المهاجرين لم قدموا المدينة تلقاهم الأنصار بالإكرام والاحترام والإيثار بالمال، حتى أن بعضهم يقول لأخيه المهاجري: إن شئت أن أتنازل عن إحدى زوجتي لك فعلت؛ يعني يطلقها فيتزوجها المهاجريّ بعد بمضي عدتها. وهذا من شدة إيثاره رضي اله عنهم لإخوانهم المهاجرين.
وقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)[الانسان:8]
يعني يطعمون الطعام وهم يحبونه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ويتركون أنفسهم، هذا أيضاً من باب الإيثار.
((درجات الإيثار:
لقد قسم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يخْرُمُ عليك دِينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يُفسد عليك وقتًا، يعني أن تُقدمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعِمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرَى، وتسقيهم وتظمأ، بحيثُ لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، وكلُّ سببٍ يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثِر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.
الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن، وإيثار رضا الله عز وجل على غيره، هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم، وعليهم، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم، بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذُله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر مرضاته ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم.
قال الشافعي رحمه الله: " رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"، ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد أحسن من قال:
فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ .. .. .. وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ .. .. .. وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ .. .. .. وكل الذي فوق التراب تراب
الثالثة: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت، فكأنك سلمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المُعطي حقيقةً.
(مراتب العطاء:
الحقيقة أن هناك ثلاثةَ مراتب متعلّقة بالعطاء وهي «الإيثارُ، السخاءُ، الجودُ»
(فالإيثار: أن تعطي الكثير وتبقي القليل، وهو أعلى مراتب العطاء.
(والسخاء: أن تعطي القليل وتبقي الكثير.
(والجود: أن تعطي بقدر ما تبقي.
(مراتب الجود:
مسألة: ما هي مراتب الجود:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
و الجود عشر مراتب:
(أحدها: الجود بالنفس وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية
الجود.
(الثانية: الجود بالرياسة وهو ثاني مراتب الجود فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.
(الثالثة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه فيجود بها تعبا وكدا في مصلحة غيره ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره كما قيل: متيم بالندى لو قال سائله هب لي جميع كرى عينيك لم ينم.
(الرابعة: الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال والناس في الجود به على مراتب متفاوتة وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ: أن لا ينفع به بخيلا أبدا ومن الجود به: أن تبذله لمن يسألك عنه بل تطرحه عليه طرحا ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابا شافيا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرا عليها ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في ذلك أمرا عجيبا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر ومأخذ الخلاف وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها بحيث يشفيه ويكفيه وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المتوضىء بماء البحر فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم قال: فلا إذن ولم يكن يخفى عليه نقصان الرطب بجفافه ولكن نبههم على علة الحكم وهذا كثير جدا في أجوبته مثل قوله: إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وفي لفظ: أرأيت إن منع الله الثمرة: بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع وكان خصومه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية يعيبونه بذلك ويقولون:
سأله السائل عن طريق مصر مثلا فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ولعمر الله ليس ذلك بعيب وإنما العيب: الجهل والكبر وهذا موضع المثل المشهور:
لقبوه بحامض وهو خل مثل من لم يصل إلى العنقود
(الخامسة: الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته.
(السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين: صدقة ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه: صدقة والكلمة الطيبة: صدقة وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة: "صدقة ويميط الأذى عن الطريق": صدقة متفق عليه.
(السابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني: فهو في حل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه.
(الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء وهذه مرتبة شريفة من مراتبه وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر وأملك لنفسه وأشرف لها ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة وهذا جود الفتوة قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وفي هذا الجود قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية: مقام العدل وأذن فيه ومقام الفضل وندب إليه ومقام الظلم وحرمه.
(التاسعة: الجود بالخلق والبشر والبسطة وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم وهو أثقل ما يوضع في الميزان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه" وفي هذا الجود من المنافع والمسار وأنواع المصالح ما فيه والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بحاله ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله.
(العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه ولا يستشرف له بقلبه ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه وهذا الذي قال عبد الله ابن المبارك: إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد: وإن لم أعطك ما تجود به على الناس فجد عليهم بزهدك في أموالهم وما في أيديهم تفضل عليهم وتزاحمهم في الجود وتنفرد عنهم بالراحة ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك والله المستعان.
(إيثار النبي صلى الله عليه وسلم:
(حديث سهل ابن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟. فقيل له: نعم، هي الشملة، منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال:(نعم). فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يرد سائلا. فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال أي قوم أسلموا فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر فقال أنس إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
(أروع القصص في الإيثار:
(إيثار أبي طلحة وأهله لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم.
(وقفة مع هذا الحديث العظيم:
إن المتأمل في الحديث العظيم بعين البصيرة ويمْعِنِ النظر فيه ويجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبه موقِعاً يجد أن هذا الحديث العظيم العجيب؛ الذي يبين حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيث جاءه رجل فقال: ((يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني مجهود)) يعني مجهد من الفقر والجوع، وهو ضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجاته واحدة تلو الآخرى يسألها هل عندها شيء، فكانت كلّ واحدة تقول:((لا والذي يعثك بالحق ما عندي إلا الماء)).
تسعة أبيات للرسول عليه الصلاة والسلام ليس فيها إلا الماء، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لو شاء أن يسيّر الله الجبال معه ذهباً لسارت، لكنه عليه الصلاة والسلام كان أزهد الناس في الدنيا، كل بيوته التسعة ليس فيها شيء إلا الماء.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من يُضيف هذا الليلة)) يعني هذا الضيف.
فقال رجلٌ من الأنصار: ((أنا يا رسول)) أنا أضيفه. ((فانطلق به إلى رحله، فقال لآمراته: هل عندك شيء؟ قالت: لا؛ إلا قوت صبياني)) يعني ليس عندها في البيت إلا العشاء لهم تلك الليلة فقط. فقال: ((أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأمرها أن تشغل أولادها وتلهيهم.
حتى إذا جاء وقت الطعام نومتهم، وأطفأت المصباح، ورأت الضيف أنهم يأكلون معه ففعلت، هدأت الصبيان وعللتهم ونومتهم، فناموا على غير عشاء، ثم إن العشاء لما قدم أطفأت المصباح وأرت الضيف أنها تأكل هي وزوجها معه، وهما لا يأكلان، فشبع الضيف وباتا طاويين، يعني غير متعشيين إكراماً لضيف الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله قد عجب من صنيعهما تلك الليلة، والعجب هنا عجب استحسان، استحسن عز وجل صنيعهما من تلك الليلة لما يشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
(وفي هذا الحديث من الفوائد ما يلي:
أولاً: بيان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه من شظف العيش وقلة ذات اليد، مع أنه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئاً؛ لكان أبر الناس بها وأحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لا تساوي شيئاً.
قال ابن القيم رحمه الله:
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة
…
لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنها والله أحقر عنده
…
من ذا الجناح القاصر الطيران
أحقر من جناح البعوضة عند الله؛ فليست بشيء.
ومنها: حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الأنصاري رضي الله عنه قال لزوجته:((أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم يقل أكرمي ضيفنا مع أن الذي أضافه في الحقيقة هو هذا الرجل، لكنه أضافه نيابة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعله ضيفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: إنه يجوز عرض الضيافة على الناس، ولا يعد هذا من المسالة المذمومة، أولاً لأنه لم يعين، فلم يقل: يا فلان ضيف هذا الرجل حتى نقول: إنه أحرجه، وإنما هو على سبيل العموم، فيجوز للإنسان مثلاً إذا نزل به ضيف وكان مشغولاً، أو ليس عنده ما يضيفه به، أن يقول لمن حوله: من مضيف هذا الرجل؟ ولا حرج في ذلك
ومنها: الإيثار العظيم من هذا الرجل الأنصاري، حيث بات هو وزوجته وصبيته من غير عشاء إكراماً لهذا الضيف الذي نزل ضيفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا يُري ضيفه أنه مانّ عليه، أو أن الضيف مضيق عليه، ومحرج له؛ لأن الرجل أمر بإطفاء المصباح حتى لا يظن الضيف أنه ضيق عليهم وحرمهم العشاء، وهذا مأخوذ من أدب الخليل إبراهيم عليه السلام حين نزلت به الملائكة ضيوفاً (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (الذريات:26)، حينئذٍ، لكنه راغ إلى أهله، أي ذهب بسرعة وخفية لئلا يخجل الضيف.
ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يؤثر الضيف ونحوه على عائلته.
ومن تأمل سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وهديه وهدي أصحابه؛ وجد فيها من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ما لو سار الناس عليه لنالوا بذلك رفعة الدنيا والآخرة. وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير في الدنيا والآخرة.
(إيثار أبي طلحة بِبَيْرحَاء:
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان أبو طلحة أكثُر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبُ أموالهِ إليه بَيْرحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) وإن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وزُخّرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخٍ ذلك مالٌ رابح ذلك مالٌ رابح، وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه)
(موقف حذيفة العدوي في معركة اليرموك:
انطلق حذيفة العدوي في معركة اليرموك يبحث عن ابن عم له، ومعه شربة ماء. وبعد أن وجده جريحًا قال له: أسقيك؟ فأشار إليه بالموافقة. وقبل أن يسقيه سمعا رجلا يقول: آه، فأشار ابن عم حذيفة إليه؛ ليذهب بشربة الماء إلى الرجل الذي يتألم، فذهب إليه حذيفة، فوجده هشام بن العاص. ولما أراد أن يسقيه سمعا رجلا آخر يقول: آه، فأشار هشام لينطلق إليه حذيفة بالماء، فذهب إليه حذيفة فوجده قد مات، فرجع بالماء إلى هشام فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات. فقد فضَّل كلُّ واحد منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماء.
(قيس بن سعد ابن عُبادة:
قيس بن سعد ابن عُبادة رضي الله عنهما كانَ من الأجواد المعروفين حتى إنه مَرِضَ مرةً فاستبطأَ إخوانهُ في العيادة فسألَ عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لكَ عليهم من الدين .. الدين الذي عليهم حالَ بينهم وبينَ أن يعودوك، فقالَ سعدُ بن عبادة رضي الله عنهما: أخزى الله مالاً يمنعُ الأخوان من الزيارة، ثم أمر مناديّاً يُنادي من كانَ لقيسٍ عليهِ مالٌ فهوَ مِنهُ حِلٌ فما أمسى حتى كُسِرت عتبةُ بابِهِ لكثرةِ من عاده.
(ما ورد في إيثارالأنصار في لإخوانهم المهاجرين:
لقد مدح الله الأنصار وأثنى عليهم بقرآن يتلى بسبب إيثارهم لإخوانهم المهاجرين، فقال:"وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[الحشر: 9]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قالت الأنصار للنبي: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال:(لا). فقالوا: تكفوننا المؤونة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا
(ما فعله سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف:
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال:(فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أولم ولو بشاة).
(قصة في إيثار الأخوان:
كان هناك أخوان يمتلكان مزرعة كبيرة ذات إنتاج وفير من الفواكة والحبوب، وفيها عدد كبير من المواشي، وكان أحد الأخوان متزوجاً ولديه عائلة كبيرة والآخر كان أعزب، وقد اعتادا أن يقتسما كل شيء بينهما بالتساوي، وبترضي منهما.