المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في الكتابة - كنز الكتاب ومنتخب الأدب - جـ ١

[البونسي]

الفصل: ‌فصل في الكتابة

‌فصل في الكتابة

قال: وأما الكتابة فهي تِلْوُ الخِلَافة في القدر، وقريبة منها في الخطر، وهي أجلُّ ما طُلب وأشرف ما فيه

رُغِّبَ، وأحسنُ ما عُمل وأفيَدُ ما انْتُحِل، وأبْهَجُ ما به تُحَلي، وأعذبُ ما سُمع ووُعي. ووصف الله

تعالى بها ملائكته المقربين، فقال سبحانه وهو أصدق القائلين (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).

وهي منصوصة في غير ما موضع في كتابه المكرم، وبها فُسِرَ قوله تعالى (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ولا نشك أنها من الله

تبارك وتعالى هبَةٌ وإلهامٌ، وزيادةٌ فيمن خَصَّ بها من الأنعام. لا تتعاطاها الأفهام، ولا ينفك بابها من

استغلاقٍ واسْتِبهام، وما زال حامِلها للدولة قُلْباً، ولرحاها قُطْبا. جديراً أن يكون النُّجْحُ معقوداً بنواصي

آرائه، واليُمنُ معهوداً في مذاهبه وأنحائه، يُبدي فوائدهُ، ويُخْفي مكائده، ويَنْطِقُ بفصل مُشكلات

الأمور لسانه، وتخطُّ محْكماتها بنانُه، وتُقتَبَسُ أنوار السياسة منه، وتؤخَذُ آثارها عنه، وهو مُدبِّرُها

ولِسانُها، وحامل لوائها

ص: 147

وتُرجُمانها، وشِهابُها المستنار، وحسامها الماضي الغرار، يحسم عِللها، ويَرُمُّ

خَلَلها، ويُزَيِّنُ مراتِبها، ويُجَلِّي ترائبها، ويكسوها من جميل تدبيره بهجةً وبهاءً، ويُطلع بِرِقَّةِ سياسته

في آفاقها نوراً وضياءً، ولذلك قال أبو تمام في محمد بن عبد الملك الزيات:

أَلْقَى إليكَ عُرَى الأمر الإمام فقَد

شُدَّ العِناجُ من السلطان والكَرَبُ

يعشى إليكَ وضوء الراي قائده

خليفَةٌ إنَّما آراؤُه شُهُبٌ

إن تَمْتَنِعْ منهُ في الأوقات رُؤيتُهُ

فكلُّ ليثٍ هَصورٍ غيلُهُ أشِبُ

أو تُلْقَ من دونه حُجْبٌ مُكَرَّمَةٌ

يوماً فقد ألقيتْ من دونكَ الحُجُبُ

والصُّبْح تَخْلُفُ نورَ الشمس غُرَّتُه

وقرنها من وراء الأفْقِ محتَجِبُ

وهذه الأبيات في قصيدة له.

وقوله: يعشى إليكَ؛ أي يلتمس نور الصَّوابِ فيما تأمُرُه به، وتشير عليه. قال أبو زيد يقال: عَشي

الرجُلُ عشىً شديدا، ورجلُ أعْشى وهو الذي لا يُبْصر بالليل.

وقرأ ابن عباس (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) بفتح الشين وهو من عشِيَ يَعْشى، وقرأت الجماعة بضم الشين من عشا يَعْشو،

ومعناه يعرضُ، قاله قتادة. وقال غيره: تُظْلِمُ عَيْنُه.

ص: 148

وقال أبو موسى هارون بن الحارث: يقال عَشاَ الرجلُ يعْشو عَشواً: وهو أن يستضيء ببصرٍ

ضعيف، أو ضوء ضعيف في ظلمة. وقال أبو بكر بن دريد: العَشْوُ مصدر عَشَوْتَ إلى ضوء نارك،

أعْشو عَشْواً: إذا قصدته بليل، ثم صار كل قاصد عاشياً.

وقال صاحب العين العَشْوُ: إتيانك ناراً ترجو عندها هُدىً أو خيراً. والعاشيةُ كلُّ شيءٍ يعْشو بالليل

إلى ضوء نارٍ من أصناف الخَلْقِ، من الفَراشِ ونحوه. وأنشدوا:

متى تَأْتِهِ تعشو إلى ضوْءِ نارِه

تَجِدْ خير نارٍ عندها خَيْرُ موقِدِ

وقال ابن الأعرابي: فلانٌ يعشو إلى فلان، إذا أتاه طالباً ما عِنْدَهُ.

قال: وجاء رجل من بني كُلَاب إلى عمر بن العزيز يشكو عاملاً له فقال له: أيْن كنت عن والي

المدينة؟ فقال: عَشَوْتُ إلى عدْلِكَ، وعلمتُ إنصافك منه، فكتب إلى والي المدينة بعزله.

قال أبو علي البغدادي: وهذه الأقوال الثلاثة متفقة في المعنى، وإن

ص: 149

اختلفت العبارات عنها وزادت ونقصت. قال: والعشا في العين مقصور يكتب بالألف لأنهم يقولون رجلٌ أعْشى، وامرأة عشواء.

وأنشد:

فإن يُمْس عندي الهَمُّ والشَّيْبُ والعَشَا

فقدْ بِنَّ مِنِّي والسلامُ تَفَلَّقُ

ويقال: فتنة عَشواء: أي يُعْشى فيها حتى لا يَهتَدي الطريق فيها، فظهور الواو في عشواء، يدل على

أن العشا من الواو، وكذلك قلت: عَشِيَ يَعْشًى أصل الياء فيه واواً.

وقال صاحب العين: العَشْواءُ من النُّوق التي لا تُبْصِر ما أمامها، وذلك أنها ترفع رأسها فلا تتعاهد

موضع أخْفَافها. قال زهير:

رأيتُ المنايا خَبْطَ عشْواءَ منْ تُصِبْ

تُمِتْهُ ومنْ تُخطئ يُعَمَّرْ فيهرَمِِ

قال أبو علي، وهذا صحيح في الاشتقاق، وأصله من عشا العين.

ص: 150

وقال أبو الحجاج الأعلم في تفسير بيت زهير وقوله: (خبط عشواء)، أي لا تَقْصد ولاتجئ على

بَصر. يقال: عَشا يعشو إذا جاء على بصرٍ وهداية، وعشى يَعْشى إنْ أصابه العشا؛ يريد أن المنايا

تخبط في كل ناحية كأنها عشواء لا تُبْصِر، فمن أصابته في خَبْطِها ذلك هَلَكَ، ومن أَخْطأته عاش

وهرم. وإنما يريد أنها لا تترك الشاب لشبابه، ولا تقصد الكبير لكبره، وإنما تأتي لأجل معلوم).

ومثل قول زهير قول الآخر:

منْ لَمْ يَمُتْ عبْطةً يَمُت هَرِما

للموت كأْسٌ والمرءُ ذائقُها

وقوله: عَبطَة وهو فتى شاب. يقال: مات فُلانٌ عبطةً إذا مات في شبابه وطَرْأَة سنّه. والعبيطُ: الدَّمُ

الطري.

رجع

وقال أبو تمام أيضاً في ابن عبد الملك:

وأنتَ شِهابٌ في الملمات ثاقبٌ

وسيْفٌ إذا ما هزَّه الحقُّ فاضلُ

مُوَرِّث نارٍ والإمامُ يَشُبُّها

وقائلُ فَصلٍ والخليفةُ فاعِل

ص: 151

فإنك إنْ صدَّ الزمان بِوَجْهِهِ

لَطَلْقٌ ومنْ دون الخلافة باسلُ

قوله: وأنتَ شِهابٌ: أي كالشهاب؛ وهو الكوكب المنقضي في أثر مُسْترق السمع.

وقال أبو إسحاق الزجاج، كلُّ أبيض ذي نورٍ يقال له شهابٌ، ومنه قول الشاعر:

إنّما مُصْعَبٌ شهابٌ من الل

هـ تَجَلَّتْ عن وجهه الظلْماءُ

فأما القَبَسُ فاسم لقطعة النار تُقْتَبَسُ في عودٍ أو في غيره، ومنه قول أبي زبيد:

في كفِّه صعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ

فيها سنان كشعلة القبسِ

وفي معنى قول أبي تمام يقول أبو إسحاق المهدي:

وقد علمَ السُّلْطانُ أنِّي لِسانُه

وكاتبه الكافي الشديد الموفقُ

ص: 152

أُوازره فيما عرى وأُمِرُّهُ

برأْيٍ يُريه الشمس والليل أغْسَقُ

فيُمْنايَ يُمْناه ولفظي لَفْظُه

وعَيْني له عينٌ بها الدَّهْرُ يَرْمُقُ

ولي فِقَرٌ تُضْحي الملوكُ فَقِيرةً

إليها لدى أحداثها حين تُطْرَقُ

أَرُدُّ بها رأس الجَموح فينثني

وأجعلها سَوْط الحَرُون فَيُعْنِقُ

قوله: أُؤازره: أي أعاوِنُهُ. قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي) أي صاحباً ألجأُ إليه.

والوزيرُ: مُشْتَقٌّ من الوزر، وهو الجبل، وقيل من العَذَر وهو الثِّقَل، ومعنى قوله (اشدد به أزْري) أي

ظَهْري، يريد قُوَّتي، خص الظَّهْر لأن القوَّة فيه، ومنه قولهم: فلان شديد الأَزْرِ: أي القوَّة. وقال

تعالى: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) أي أعانه حتى ساواه. وقال امرؤ القيس:

بِمَحْنِيةٍ قد آزر الضَّالُ نبْتَها

مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِمينَ وَخُيَّبِ

وقرئ شَطْأَه بفتح الطاء وإسكانها، فَتَح الطاء ابن كثير إلا عبد الوهاب بن فليح وعبد الله بن ذكوان

عن ابن عامر، وأبدل الهمزة واواً عيسى ين عمر الهمذاني الأعمى.

ص: 153

وأما قوله: فَآزَرَهُ، فتفرّد ابن عامر بقصره فقرأ: فازَرَهُ؛ فعله. وقد توهَّمَ قوم من أهل الضَّعفِ في

النحو وعلم التصريف، أن الوزير من هذا اللفظ، وليس كذلك، لأن فاء الفعل من الأزر همزة، ومن

الوزير واو. وتقول أزَرَني فلانٌ أي أعانني، ووازَرَني صار لي وزيرا، ولو كان منه لقيل فيه:

أزيرٌ. فتدبَّرهُ.

قال الله تعالى (كَلَّا لَا وَزَرَ) أي: لا ملجأ ولا جَبَل. قاله ابن عباس وغيره فالوَزيرُ من هذا دون ريب. فأما ما

جاء في الحديث: "ارجِعْنَ مَوْزُورَات غير مأجورات" فهو من الوِزْر. وأكثر أهل اللغة يخطئ من

رواه مأزورات بالألف. إلا أنه روى عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب أنه قال: يجوز على أن

تتبعه مأجورات ليكون الكلام على لفظ واحد.

وقوله: والليل أغسَقُ، يقال ليلٌ أغْسقُ وليل غاسِقٌ، وغَسَقُ الليل: اجتماعُ ظُلْمَتِه، وقيل بدْءٌ ظلمته،

وقال زهير:

ظَلَّتْ تجولُ يداها وهْيَ لا هيةٌ

حتَّى أَنَارَ جنح الاِظْلَاِم والغَسَقِ

وأصلُ الغَسَق: الجَرَيانُ بالضَّرَر، من قولهم: غَسَقَت القُرْحة إذا جرى صديدها. ويُقال غسقت عينُه

غَسَقاً؛ إذا جرى دمعها بالضرر الباعث له. والغسقان صديد أهل النار، وفيه أقوال كثيرة. وفي كتاب

الله تعالى (حَمِيمٌ

ص: 154

وَغَسَّاقٌ) قُرئَ يالتثقيل والتخفيف. وسمي الليل غاسقاً لجَرَيانه بالضَّرَر في إخراج السِّباع والهوام

من آجامها وأماكنها. وكل شيء أسود فقد غَسَق. قال الله تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ). والمراد بغسق الليل في هذه الآية: صلاة المغرب والعشاء، وبالدُّلُوك

صلاة الظهر والعصر، وبقرآن الفجر صلاة الصبح. فهذه الآية متضمنة جميع أوقات الصلوات، لأن

دُلُوك الشمس، وهو ميْلُها؛ هو من لدن زوالها إلى مغيبها. وقيل: الدُّلوك المَيَلُ وهو قول ابن عباس

وجماعة من العلماء، وهو مذهب مالك رحمه الله، وهو اختيار الطبري.

قال ابن مسعود وابن زيد دُلُوكها: غُرُوبُها. واختاره القتبي وقال: العرب تقول: دَلًكَ النجمُ: إذا غابَ.

ذكر هذا أبو عباس المهدوي في كتابه، وقال فيه: (قال بعض أهل اللغة: من قال إن الدُّلوكَ الزَّوال،

فإنما قيل له ذلك،

ص: 155

لأن الناظر إلى الشمس يدْلِكُ عينه لشدة شعاعها، ومن قال هو الغروب، فإنه يدْلِكُ

عينه لِيَتَبَيَّنَها. والشاهد أن الدُّلوكَ الزَّوالُ، قول النبي صلى الله عليه وسلم "أتاني جبريل عليه السلام

لِدُلُوك الشَّمْس حين زالت فصَلَّى بي الظهر" فهذا موافق لقول ابن عباس ومجاهد وغيرهما ومقوله.

والاختيار الطبري.

وإذا كان الدُّلوك الزوال، فالمراد به في الآية صلاة الظهر والعصر. قال الشاعر:

بادَرَ قبل الدُّلُوكِ يتْبَعهُ

وَسْنَانُ يمشي كمشية النَّزِفِ

فهذا يحتمل القولين جميعاً.

وسمِّى الله سبحانه صلاة الفجر (قرآناً) لأن الصلاة لا تَتِمُّ ولا تكْتَمل إلا بالقراءة؛ لأنها ركن من

أركانها، وجزءٌ من أجزائها.

وفي حديث أبي هريرة قال الله تعالى: "قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين". الحديث، أي

القراءة. فسمى القراءة صلاة. ووجْهُ القسمة فيما ذكر العلماء، أنَّ نِصْف سورة الحمد عبادة وثناء،

ونِصْفُها مسألةٌ ودعاءٌ وطَلَب. ولم يُرد به التقسيط في آي السُّور، وحُروفِها وتَجْزِئتِ

ها على السواء. فحقيقة القِسْمَة بالمعنى لا باللفظ. ودليل على أنه أراد قسمة المعاني دون الألفاظ.

ص: 156

قوله "فهذه بيني وبين عبيدي". يعني قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ولا يجوزُ أن يكون المتْلُوُّ بينه تعالى وجَلّ وبينَ عبده،

لأن المتلوَّ كلام الله سبحانه وتعالى وليس للعبد فيه شركٌ.

رجع

وقال الأحنف بن قيس: حِلْيَةُ الوُلاة وزينَتُهم: وزراؤُهم، ومن فَسَدت بِطانَتُه لم يصلح شأنُه، وكان

كمنْ غصَّ بالماء. وقال: ليس شيء أهْتَكَ للوالي من صاحب يُحْسِنُ القول ولا يُحْسِنُ الفعل. وما

أحسن هذا من قول الأحنف وأبلغه! ولقد كان رحمه الله من دهاة الحكماء وجلة الحلماء وقدوَة النُّبلاء

والفُصحاء، وخيرة العُقلاء، وأحد الشعراء، لأن النبي صلي الله عليه وسلم دعا له بالمغفرة، وذلك أنه

بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه بني سعد، فَسَمِعَ رسوله إليهم وهو يدعوهم إلى

الإسلام، فقال وهو شاب صغير: مَادَعاكم إلا لِخَيرٍ، وما حَسَّنَ إلا حَسَناً. فبلَّغ الرسول قوله هذا إلى

النبي عليه السلام فقال: (اللهم اغْفِر للأحنف) وأُعْلِمَ بذلكَ الأحْنف وهو يطوف بالبيت في زمن

عثمان فقال: هذا أوفى عملٍ عندي.

وكانت وفاته رحمه الله بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة مصعب بن الزبير، ومشى مصعب في

جنازته وحضرها.

وفي هذا المعنى من المنثور البديع والمزدوج المطبوع:

أنا عين السلطان ولسانه، وعُنوانه وتُرجمانه. أُذْناي كمائمُ أسراره، وجوانحي عيبَةُ إعلانه وأسراره.

أنا خاصته وصَفِيه وسمِيُّه. أنا المدير الحازم، والجليس

ص: 157

الملازم، ومطفئُ جمرة الحرب العوان، وقاتل

العَدُوِّ بلا صارم ولا سِنانٍ، قلمي يفُلُّ القواصل، ويتخلَّلُ الأباطح والمعاقل، ويهُزُّ المحاضر والمحافل،

ويَقْمعُ الحواسِد والعواذل.

أنا كاهل الدولة وهاديها، ومجيبُ صارخها ومُناديها، ووسْطى سِلْكِها ومدير فَلَكِها؛ إن جالت أنامِلي

في مهرق، أسمعت الصُّمَّ بلاغة وبياناً، واستنزلتِ العُصْمَ إِبْداعاً وإحساناً. أصردُ الصُّكوك فأُنَظِّمُها

تنظيماً بلسانٍ أمضى من السنان اللَّهْذَم، وكلام أَقْطَعَ من الحُسام الأخْذمِ، تَخدِي بها الرِّفاق في الآفاق،

وتهدي بها القَِطار في الأقطار. قد احتويتُ على المملكة بأسرها، وتَحَكَّمتُ في طيِّها ونشرها، أنا

قُطْبُ مدارها و (جُهَيْنَةُ أخْبارِها) وسِرُّ اختيارها واخْتِبارها، ومُظْهِر مجْدِها وفَخارِها. أعقد عُقود

الولايات لكل والٍ، وأَمْنَحُهم من المَبَرَّةِ كلّ صافية المنهل، ضافية السِّرْبالِ؛ إن تُلِيَتْ سُوَرُها في

المحاضر، أو جُلِّيَتْ صوَرُها على المنابر، عقَلَت المُسْتَوفِز والعابر، وشغَلَت خاطر كلِّ خاطر. فلا

غَرْوَ أنْ فُزْتُ منها بأعْلى القداح، وإنْ حَلَلْتُ محلَّ الأنْمُلة من الرِّماح.

وفي المعنى أيضاً: أنا للخلافة يُمْناها النَّافِعة، وراحَتُها القابضَة والداّفِعة، صاحبُ ديوانها، ومُشَيِّدُ

أركانها، ومِفْتاحُ نَيْلها، ومِصباحُ لَيْلها، أسْتَجْلِبُ فوائِدَها، وأُقَيِّدُ شَوارِدها، لولا قلمي لأصْبَح عَقْدُ

الجراحات محلولاً، ودَمُ الجنايات مَطْلُولاً، ويَدُ التَّناصُف مغْلولَةً، وصوارمُ التعاطُف مفْلولَةً، وَرَسْمُ

الرُّسوم دارِساً، وعِلْمُ التَّحْقيق مُتَشاكلاً مُتَلابساً. فأنا عارِضُها الماطِرُ، وبَحْرُها الزَّاخِر، مِفْتاحُ كلِّ غَلَقٍ

مُبْهَمٍ، ومِصْباحُ كلِّ غَسَقٍ مُظْلم. أُقَسِّمُ بالسَّويَّةِ، وأعْدِلُ بين الرَّعِيَّة. أُحَسِّنُ المعاني وأُحقِّقُها، وأُناقش

الحُسْبانات وأُدَقِّقُها. فأنا

ص: 158

القِسْطَاسُ المسْتَقيم، ومالك أَعِنَّة التَّأْخير والتَّقديم. أَحْتَلِبُ دُرَرَ الأَموال،

وأسْتَجْلِبُها إلى بيت المال. أقتدحُ كلَّ زِنادٍ، وأهزُّ مُثْمِرَ الأعْوادِ، فإلى ساحتي تَرِدُ المطايا، وعن

راحتي تََصْدُرُ الهِبَاتُ والعطايا. وَحَسْبُكَ من يَراعٍ يَرْزُقُ الجنود، ويَسْتَجْلِبُ الحُشودَ، ويُكْرِمُ الوُفودَ.

فَلَولا قَلَمي لَعادت أغصانُ الإكتساب ذاوية، وبُيوتُ الأمْوال على عُروشها خاويةً. فَأَسْرَعَتْ إليها

البُؤْسى، وأَصبَحتْ (كفُؤادِ أُمِّ موسى) فهو لا محالة مَتْجَرها الأربَحُ، وميزانها الأرْجَح، تَدِرُّ ألبانُها،

وتُثمِرُ أفْنانُها، ويَسْتَمِرّ إفْضالُها وإحسانُها. فلا جَرَمَ أنِّي رأْسُ مالها، وقُطْبُ أَعْمالها وعُمَّالِها.

وفي المعنى: كاتبٌ فَضْلُهُ راتِبٌ، وحَقُّه واجِبٌ. لسانُه لسان المُلْك، ومَكَانُه واسِطةُ السِّلْكِ، أَقْلامُه

رِماحٌ، ورَسائلُه صِفَاحٌ، وألْفاظُه وأخلاقُه فِساحٌ. إن سُئِلَ أجابَ، وإن قَرْطَسَ أصابَ.

وفي المعنى: الكِتابُ وَالِجُ الأبْواب، جرئٌ على الحُجَّابِ، مُفْهِمٌ لا يفْهَمُ، وناطِقٌ لا يَتكلَّم، به يشخص

المُشتاقُ، إذا أقلَقَه الفِرَاقُ. القَلمُ مُجَهَّزٌ لجيوش الكلام، يسكتُ واقِفاً ويَنْطق سائراً. على أرض بياضها

مُظلمٌ، وسَوَادها يُضيءُ كأنّما يُقَبِّل بساط سُلْطانٍ، أو يفتح نوار بُسْتانٍ.

وقدْ قَسَّمَ ابن مقلة الكُتَّاب على خمسة أصناف: كاتب خَطٍّ، وكاتب

ص: 159

لَفْظٍ، وكاتب عَقْدٍ، وكاتب حُكْمٍ، وكاتبُ تَدْبير.

وزاد أبو محمد بن السيد على هذه الخمسة كاتب المجلس، وكاتب العامِل، وكاتب الجيش، وكاتب

المَظَالِم، وكاتب الديوان، وكاتِبُ الشرطة. وقال: كاتب الخطِّ هو الورَّاقُ والمُحَرر وكاتب اللفظ هو

المُرسل وكاتب العَقْد هو كاتب الحِسَاب الذي يكتُب للعامل وكاتب الحُكْم هو الذي يكتب للقاضي

ونحوه ممَّن يَتَوَلَّى النَّظَر في الأَحْكاَم. وَكاتبُ التَّدْبير هو كاتبُ الُّسلْطان، أوكاتبُ وزير دوْلَتِه. ثم قال:

وهؤلاء الكُتَّابُ الخمسة، يحتاج كلُّ واحد منهم إلى أن يتَمهَّر في عِلْمِ اللِّسان، حتى يَعْلَمَ الإِعراب،

ويَسْلَمَ من اللَّحن، ويعرفَ المقصور والممدود، والمقطوع والموصول والمذكر والمؤنث، ويكون لَه

بَصَرٌ بالهِجَاء؛ فإن الخطأ في الهجاء كالخطأ في الكلام. وليس على واحد منهم أن يمعن في معرفة

النَّحو واللغة إِمْعان المُعَلِّمين الذين اتخذوا هذا الشأن صناعة وصيَّروه بضاعَةً. ولا إِمْعانَ الفقهاء

الذين أرادوا بالإغْراقِ في

ص: 160

الفقه؛ فَهْمَ كلَامِ اللَّه، وفَهْم كلامِ رسوله، وكَيْفَ تُسْتَنْبَطُ الأَحْكام والحدود

والعقائد بمقاييس كلام العرب ومجازاتها. إنما عليه أن يتَعَلَّم من ذلك ما لا يَسَعُه جهالتُه، ثم يُكْثِر بعد

ذلك من معرفة ما يَخُصُّ صناعَتُه.

ويحتاجُ كُلُّ واحد منهم أيضا إلى العِفَّةِ ونزاهَة النَّفس، وحُسْن المعاملة للناس، وَلِينِ الجَانب،

وسَمَاحة الأخلاق، والنصيحة لِمَخْدومه فيما يُقلِّده إيَّاه، ثم يحتاجُ كُلُّ واحد منهم بعد ما ذكرناه إلى أمور

تَخُصُّه لا يَحْتاج إليها غيرُه.

ثم قسم أبو محمد رحمه الله أقْسامَهم وصَفاتِهم، ورَتَّبَ مراتِبَهم، رذَكر آلاتِهم كما قال هو في كتاب

(الاقتضاب) بأَوْجز قَوْل، وأَقْرب بيان إن شاء الله.

وإنما نَذْكُرُ مراتِبَ الكُتاب على ما كانت عليه في القِدَم. وأما اليوم، فقد تَغيَّرت عن وَسْمِها المعلوم.

ولِكلِّ دهْرٍ دَوْلة ورِجال، ولكل حال إدبارٌ وإقْبال. انتهى كلامه.

فمَنْ أراد أن يقف على ما خَصَّهم به من الصفات، وأوْجَبَ لهم من الآلاتِ في فُصُول على الحِكَمِ

مُشْتَمِلات، وعلى أنواع الفوائد مُحْتَويات، فليطالع ذلك الكتاب لئلا يلحقه فيما ذكرناه شك، أو يخامره

ارتياب.

ومن كلام أبي حفص بن بُرد في وصف القلم والدواة والمداد:

المِدادُ كالبحر، والقلم كالغَوَّاص، واللفظُ كالجوهر، والقِرطاسُ

ص: 161

كالسلْك، والدَّواة كالقلب، القلمُ

كالخاطر، والصَّحيفَةُ كاللسان. والعقلُ أبٌ والعلْمُ أُمٌّ والفكر ابنٌ، والقلمُ خادِمٌ.

ما أعْجَبَ سِنَانَ القَلَمِ! يُشْرِقُ ظُلْمَةً، ويَلْفِظُ نوراً. قَلمُ الكاتبِ أمضى منْ سِنَانِ المُحارب.

القَلَمُ سَهْمٌ تُنَفَّذُ بِه المَقاتِل، وشَفْرةٌ تُطَبِّقُ بها المفاصل.

إذا أخَدَ الكتَّاب شكَّتَهَم للكلام، واخْتَرطوا ظُباة الأَقْلام، فكم من عَرْشٍ يُثَلُّ، ودَم يُطَلُّ، وجيش يُفَلُّ،

وجبَّار يُذَلُّ. وما عُبِّئَتْ كتائب، ولا سُرِّيَت مناقب، ولا انتُضِيَت سيوف، ولا ازدلفت صفوف، حتى

تخُطَّ الأقلامُ في الطُّروس، ما تحبُّه أوْ تأباه النفوس.

على غيثِ الأقلام يتفتح زهر الكلام.

ما أصوغَ القَلَم يُجَلَّى الحِكَم. قَاتَل الله القلم كيف يَفُلُّ السِّنان، وهو يُكْسَرُ بالأسنان.

القلم يُقَلِّم أظْفَار الدَّهر، ويتَمَلَّك الأقاليم بالنهي والأمر.

ص: 162