الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل ومن أحسن ما كتبوا في استفتاح الصداقة
قديماً تواصل الناسُ على البُعْدِ، وتهَادَوا ثَمْر الإخلاص عن الود، وإنْ لَمْ يَتَقَدَّم سببٌ موجِبٌ
للتواصل، ولمْ يَرِدْ رائدٌ مُقْتَضٍ للتَّراسُلِ، وما أَقُول إنَّ مُخالطةً تمَكَّنتْ لا سببَ لها، ومباسطة تهدَّتْ لا
باعِثَ عليها. فإنَّ جُنُوحَ النفس لاسْتِصْفاءِ الفُضَلاء، واقتناء موداتِ الأولياء، أقوى أسبابِ الارتباطِ،
وأَرْعى أبوابِ الاخْتِلاط. ومحالٌ أنْ تَنْجَذِبَ نفسٌ، إلى منْ ليسَ لها به أُنْس، أوْ يَكْلَفَ ضميرٌ بمن
ليس له به حظٌّ موفور. وقد تَحَلَّتْ مُخَاطَبَتِي إيَّاكَ، بحَلْي المحبة فيك، والمعرفة بجميل مذَاهِبِكَ
ومَسَاعيكَ، والرَّغْبَةِ في اقْتِناء خُلَّتِكَ، وادخار صداقتكَ، لما اشتهرمنْ أحوالكَ الجميلة، وظهر منْ
خلالكَ النَّبيلة، ومن كان على ما أنْتَ عليه، فَمَرْغُوبٌ فيه، مُنْجَذبٌ إليه، مَطْلُوبٌ إخاؤه، مَخْطُوبٌ
صفاؤُهُ، مَحْبُوبٌ على البِعادِ، مُفْدى حتى منَ الأَضْدادِ.
وفي المعنى:
إِنْ كانت المعرفةُ لمْ تَحِقَّ، (فكم أثر أهدى منْ عيْنِ)، (وكمْ خَبَرٍ أَغْنى عنْ خُبْر). وإنْ كانت الأُلْفةُ لمْ
تتفِقْ. فَرُبَّ طارِفٍ حديثٍ، أكْرَمُ منْ تالِدٍ مَوْروثٍ. ومنابِتُ الفضْلِ باسِقَةُ الفُروعِ، حميدَةُ الجميعِ،
طيِّبَةُ الجنَى، جميلة المَخْبَرِ والمرأى، لا تروقُ إلَاّ بما يَرِفُّ، ولا تُثْمِرُ إلَاّ بما يشِفُّ. وأنْتَ أعزَّكَ
الله، في أطْيَبِهَا مَعْدِناً، وأكْرَمِها مَوْطِناً، ومنْ أزْكاها مغرساً، وأسْراها منْبِتاً، ولا يَرِدُ منكَ إلَاّ ما يعْبَقُ
نسيمه، ويلَذُّ شميمهُ، ويروقُ منْظره، ويفوقُ مخْبَرُه، وما زِلْتُ
أعْرفُ لكَ الحقَّ الوكيد، والسبْقَ البعيد،
والسعي الحميد، والقول السَّديد. فلاشَكَّ أنَّكَ غُرَّةٌ في وجه الدهر البهيم، ومعْذِرَةٌ من إساءةِ هذا الزَّمنِ
المُليمِ؛ فما أَخْطَأَتْ عنكَ الفراسَةُ، ولااخْتَلَفَتْ فيك الرِّئاسة؛ بل أَوْفيتَ على المقدار المظْنونِ، وأَتَيْتَ
منْ وراء المُتَيَقَّنِ المضنونِ. ولئنْ أخَذْتُ في ذكرِ فضائلِكَ، أوْ عَطَّرْتُ كلامي بطيبِ شمائلكَ، فلسانُ
الأيامِ بها أَفْصح، ولها أَشْرح، وإنْ عدلْتُ إلى وصفِ ما أَعْتَقِدُه فيك وأُضْمِرُهُ، وأَطْويه من ودادِي لك
وأَنْشُرُهُ، فشاهدُ الضمير بها أَنْطَق، وعنه أصْدَق، فليس إلا الإتفاقُ والإصطلاحُ، على ما تتناجى به
النفوسُ والأَرْواحُ.
وفي المعنى:
وربَّما تَهَيَّأَتِ الصداقة، وتَمَكَّنتِ العلاقة، على تنائى الدِّيار، وبُعْدِ الأمْصارِ، بالأخْبارِ السائرة،
والأنْباء المُتَواتِرَة ببارعِ المناقِبِ، وباهِر المذاهبِ، وجميل التَّناسُبِ، وسامي المنازلِ، وجميل
الفضائلِ، فتتعارَفُ القُلوبُ ويَجْمَعُها عِقْدُ الوِدادِ، وإنْ تناءتِ الأشخاص في البلاد، وينْتَظِمُ سِلْكُ
الصفاء، وإنْ لم يكنْ سبيلٌ إلى اللقاء. وقد خَطَبْتُ وِدَّك، ورجوت أنْ أجِدَه مُوَطَّأَ الكنَفِ، مُهَيَّأَ اللُّطفِ،
سلسَ الزمامِ، سهل المرامِ، لما فضَّلَكَ الله بضروبِ من المفاخِر وصنوفٍ من المآثِرِ، تتأمَّلُها أَعْيُنُ
النُّظَّار، وتتحَمّلها أَْلْسُنُ الأخْبارِ، ويَخُطُّها سوادُ الليل على بياضِ النَّهارِ، ويُحَدِّدُ بها حادي الرفاق إلى
أقاصي البلاد والآفاق، ويسري بها سَراة الرُّكْبانِ، إلى أقاصي البُلْدانِ، حتّى لقد أَسْمَعوها كل أُذْنٍ
صمّا، وأَرْوها كل عيْنٍ عمْيا. فألْويةُ الحمد عليك خافِقَةٌ، وأَلْسِنة المجْدِ بفضلك ناطقة. والله تعالى
يُبْقيكَ للمكارم نظاما، وللأفَاضل إِماما، بِمَنِّهِ.
وفي المعنى:
إنْ كانت المُداخَلةُ بَيْننا لم يُفْرجْ لها بابٌ، ولا عَلِقَتْ بها أسْباب، ولا رُمِيَ
لها في مُحَصَّبِها جِمار، ولاعَطَفَ بنا نحوَ كَعْبَتِها اعْتِمارٌ، فقد جمعتنا في معرف المعرفة مواقفُ، وضَمَّتْنا من معالم العلم
معاهدُ ومآلف، ووشحتْ بيننا منْ أواصر الأدَبِ أَنْسابٌ، وضَرَبَتْ علينا في مدارس الطَّلَبِ قِبابٌ، ولا
غَرْوَ من تداني القلوب على تنائي الدِّيَاِر، وائتِلافِ النفوس مع اخْتلاف النِّجار، فقد تتعارفُ الأندادُ
على البعاد، وتتناكَرُ الأضدادُ مع قربِ السوادِ والوسادِ، ورُبَّما أَلَّفَ تشاكُلُ الشيم والأخلاق، بينَ
مسْتَوْطِنِ الشامِ وساكن العراق، وقديماً حنَّ زَهْرُ الغَوْرِ إلى نسيم نجد، وامتزَجَ عنْبَرُ الشِّحْر بمسكِ
الهند، على أني لا أدَّعي رُتْبتكَ في فنونِ العلم والآدابِ، ولا أتَعاطى إلاّ بشرط القياد والأصْحابِ،
ومنْ يُضاهي محَلَّ الفرْقَدِ، بِمَنْبِتِ الغَرْقَد، ويُشَبِّه رُتْبَةَ التَّقليد، بدرجة النَّظر والتوليدِ، أوْ يُقارِنُ بينَ
الالْتِباسِ والبيانِ، ويعارضُ قوة القياس بضَعْفِ الاستِحْسان؛ لكني وإنْ لم أعُد في رعيلك، ولا أضيفُ
مُبْرَمي إلى سجيلِكَ، فعندي منْ بضائعِ الكَلِمِ ما ينْفُقُ في سوقِكَ، ولدي منْ سوامي الهِمم ما يَعْبَقُ
بِبُسوقك، ولعل بعض كلامي يمدُّ في ذُراكَ، ويحْظى برضاك، ويصادفُ عندك رأياً جميلاً، ويستوقف
لحظك ولو قليلا. بقيتَ حلْيَة للدهر فائقة، وغُرَّةً في وجهه رائقه.
وفي المعنى:
أَمَا وأحاديثُ فَضْلِكَ صحيحَةُ الإسْنادِ، وأَدِلَّةُ سرْوِكَ قوية العماد، ومطالعُ عِلْمِكَ وفهمِكَ ساطعة
الأنوار، ومناهِجُ هدْيِكَ وسَعْيِكَ واضحةُ الصُّوى والمنارِ، فلا عَجَبَ أنْ تَحُومَ على سُرْعَةِ مداخلتكَ
حوائمُ الأَلْباب، وتَنْتَهِزَ في الْتِماسِ مواصلَتِكَ فُرَصُ الدَّواعي والأسباب، ولم أَزَلْ مولعاً برائقِ صفتك،
ومُلْتَمِساً سبب معْرِفَتِكَ، حِرْصاً على التَّجَمُّل بِحِلْيَتِكَ، ورَغْبَةً في التَّيَمُّن بصلتك، لأنكَ، والله يُبْقيكَ،
أحقُّ منِ احْتُذِيَ على مِثاله، واقتُديَ بصالح أعْماله، واستقرتْ آثارُ البِرِّ في مواقِعِ خطاه، وانتسخَتْ
أخْبارُ الزُّهد والقصد منْ صحائف هُداه، وأَجْدَرُ بمن اتَّخَذَ صاحباً، وسلَكَ منْ سُبُلِكَ أثراً لَاحِباً، أنْ
يأمنَ في جدك مسالِك العثار، ويعْدَمَ في جوارِكَ نقْعَ الفِتَنِ المُثارِ، والله تعالى يُبْقيكَ لأشْتاتِ الفضائل
نظاماً وفي كل صالحة إماماً، ويوسِع النعمة بك وفيك سبوغاً وتماماً.
ولمَّا اتَّفَقَ شخُوصُ فلان إلى الحضرة، وعلِمْتُ أنَّ انْجذابه إلى جَنَباتِكَ، ووَعَيْتُ عنه جُمَلاً حساناً من
صفاتِكَ، رأيْتُ أنْ أصحبه خطاباً، وأَمُدَّ في ساحة الانْتِظامِ طُنُباً وأسباباً، حِرْصاً على أنْ يتَوَكَّدَ في
ذاتِ الله إخاؤنا، وتتفق في سبيل مرْضاتِه وطرُقِ طاعاته أَنْحاؤنا، وحملته مع ذلك من لطائف الحمْد،
ومخائل الود، ما إذا أعرته ناظرَ تأملك، وصادِقَ تحمُّلكَ، عَلِمْتَ به خُلُوص ضميري، وصفاءَ نميري،
وسلامة عُهودي، ودمانةَ تهائمي ونُجُودي.
وفي المعنى:
كتبتُه عن ضمير انْدَمَجَ على سِرِّ اعْتِقادكَ صدرُهُ، وتَبَلَّجَ في أُفْقِ ودادِكَ بدْرُهُ، ومالَ على صفحاتِ
ثنائكَ مِسْكُه، وصار في راحتكَ مِلْكُه. ولما ظفرْتُ بفلان، حملتُه منْ تحِيَّتِكَ زهراً جنِيَّا، يوافيكَ عرفُه
ذكيَّا، ويقضي منْ حقكَ فرْضاً مقْضيّاً، على أنَّ شخصَ جلالِكَ لي ماثِلٌ، وبينَ ضلوعي نازلٌ، لايَمَلُّه
خاطر، ولا يحلُّ عقده ناثر.