المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل ومن أحسن الجواب على أنواع هذا الخطاب - كنز الكتاب ومنتخب الأدب - جـ ١

[البونسي]

الفصل: ‌فصل ومن أحسن الجواب على أنواع هذا الخطاب

‌فصل ومن أحسن الجواب على أنواع هذا الخطاب

مرحباً بك أيُّها البَرُّ الفاتحُ، والرَّوْضُ النافحُ، فما أحْسَنَ توَلُّجكَ، وأعْطَرَ تأوُّجكَ، لقد فتحتَ بالمخاطَبَة

باباً طالَ ما كنْتُ له هيَّاباً، ورَفَعْتَ حجاباً تركَ قلبي وجَّاباً، وما زِلتُ أحومُ عليها شَرْعَةً، فلا أُسيغُ

منها جَرْعَة، وأُغازِلُها أمَلاً، فلا أُطيقُها عَمَلاً، وأُلاحِظُها أمداً، فأموتُ دونها كمداً:

وفي تعبٍ منْ يحْسُدُ الشمسَ نورَها

ويطمع أنْ ياتي لها بضريبِ

إلى أنْ وردني كتابُكَ الخطير، مشْتَمِلاً على ضربِ من الكلام، رائعِ الإعلامِ، يقربُ منَ الأفهامِ،

ويَبْعدُ نيله عن الأوهامِ، قد أرْهفَتَ نواحيَه بالتَّهْذيبِ، وطَرَّزْتَهُ بكلِّ معنى غريبِ، وحسَّنْتَ معانيه

باللفظ الرائعِ المهيب، فازْددْتُ به تهيباً ورُعْباً، وعاينْتُ منه مركباً صعباً، وقُلْتُ التغافُلُ عن الجوابِ،

أوْلى بذي الصوابِ، إذْ ليس بأديب مَنْ يقيسُ الشِّبْرَ بالباعِ، والمُدَّ بالصاعِ، والجبانَ بالشُّجاعِ. فمن

طلبَ فوقَ طاعته افتَضحَ، ومن تعسَّفَ الخرق النازح رزحَ، ومنْ سبحَ في البحْر فكم عسى أنْ

يسْبَحَ، لاجرمَ أنَّهُ اقتضى في المراجعة صديقٌ لنا، كريمٌ علينا، لم يلْتَفِتْ إلى معذِرةٍ، ولاسمحَ في

نظْرِة، فتكلَّفْتُها بحُكْمِ عَزَمْتُهُ تحت قراحٍ خَصَرٍ، ونازح

ص: 318

بَصَرٍ. فقد يَكْدِي على علمك الخاطر، ويخْوي

النجم الماطر، ورُبَّما عادَ اللَّسِنُ في بعضِ الأوقاتِ لكناً، والجوادُ كودناً، وبحْرُ القريحة ثمداً، وَحُسامُ

الذِّهْنِ معْضَداً؛ فإنْ تَفَضَّلْتَ بالإغْضاءِ، وسامَحْتَ في الاقْتِضاء، وسلمتْ لكَ في اليدِ البيضاء، وبرزت

لشكركَ في الفضاء، واجْتَليَت منه، أدام الله عزَّكَ، بمعنى تعذر تلاقينا عند قرب تَدَانِينَا، فُصُولاً

حِساناً، حَسِبْتُها بُرْهاناً، ورأيْتُ السِّحْرَ الحلالَ عِياناً؛ ولئنْ اعْتَرَضَ عائقُ الزمان منْ دون ذلك الأمل

وقد عادنا من أَمَمٍ، وصار أَدْنى منْ يدٍ لفمٍ، فإنَّ نفوسنا، بحمد الله، في المقاصد والأغراض، مُتَلاقيةٌ

على موارد الإخلاص والإمحاضِ، واللهُ تعالى يحفظُ جواهرنا من الأعراض، ويصونها من الاِنْتِكاثِ

والانتقاضِ، بمَنِّه وطوْلِهِ، إنَّهُ على كل شيء قدير، بيده الأمرُ والتَّدبيرُ، وأمَّا ما جَلاهُ سيدي منْ

صورةِ الوِدِّ، في معرض الجِدِّ، فقد ثوى بينَ الجوانح محلالاً يؤمُّ الدهرَ عقده حلاًّ، ولا يزالُ حبي في

رعيه مُسَهَّداً، وقلبي لصونه ممهداً، إنْ شاء الله، وأقرأ عليكَ، يا سيدي المُعَظَّم، في خلَدي سلاماً

شريف النِّصابِ، كريمَ الأحسابِ. والسلامُ الأَتَمٍّ على سيدي الأعظم، ورحمة الله.

وفي المعنى:

أهلاً بمَجْدكَ النافح، وودك المُصافح، الذي سفر عن الأُنْسِ مُحَيَّاه، وبعثَ إلى النفس نفسَ السرورِ

وريَّاهُ، ففعمَ أرْجاءها، وأولاها رجاءها، وإني بِمُفاتَحَتِكَ لأسَرُّ من حاتم بالضيف، ومن الهائم بالطيف،

كما أني بحُلَّتِكَ أغْبَطُ منْ عمرو بالصمصامة، ومن المحْلِ بصوب الغمامة، فخذني في زمام ودادك

منْقاداً، وأطْلعني في سماء اعتقادكَ كوكباً وقَّاداً، لا يَغُورُ ولا يغيبُ، ولا يَحْجُبُهُ أبداً

ص: 319

عنكَ مَغيبٌ، ودونكَ منْ صفائي منها لا يُحَلَّأُ وارِدُهُ ولا تُكَدِّرُهُ موارده، ومن إخْلاصي غُصْناً لا يُدْرِكُه ذبُولٌ، ولا

تغِبّه صَبَاً للتَّعاهُدِ ولا قَبُول، بحول الله تعالى.

وكتب أبو عبد الله بن أبي الخصال مجاوباً لمستأذن في الزيارة:

أيها الساطعُ نشراً وأرجْ

كيفَ يستأدننا منْ قد ولجَْ

كيف يستأذن مَنْ مسكنُه

في عيونٍ ونفوس وُمهَجْ

ما على المسك ولا البدر ولا الصب

ح من اذْنٍ إذا الصبحُ انبلجْ

إنما أنت سنى تهدي شذىً

في سنىً بالقلب والروح امتزجْ

وافتني لسيدي وظهيري، لازالت هممهُ تعلو الهمم وتفوتها، ونفائسه تغذو النفوس وتَقُوتُها، رُقْعةٌ خلعَ

عليها سناهُ، وعُنيت بحوْكها يُمْناه، فجاءتْ كالحلة يضاحكُ الشمس إبريزُها، ويُحاسِنُ الروضَ تَفويفُها

وتطْريزُها. بدائعُ ينْحَطُّ عن ذرْوَتِها البديعُ، ويقتبسُ من جذوتها الأشقر الصديع. سامرها الأدبُ

مُعيناً، وخامرها الطبعُ مَعيناً، فجلاها حوراً عيناً؛ فلله طِرُسُكَ وما نسق، وبرُّكَ لقد علا وبسقَ.

وأهْلاً بكَ منْ عريقٍ سبق، وسليلِ خَطّي صَدَقَ. لَشَدَّ ما استوْليْت

ص: 320

على مداكَ، واستويت إلى سماء مُنْتَداكَ، وتَقَيّلتَ أباك وطعنت في ثغر النحور عداك ولعاً لك من منتم إلى سابق لم يلحقه عثار، ولا شُقَّ له غُبار. وحبذا مُنتماك. لقد ذكر جِواراً، وحرّك من عهدنا الماضي حِواراً. لا جرم أنَّ عهدي بك ناضرٌ، وإنَّه

بك على الغيبة القصية حاضر، وياماء من أنبأكَ أني صادٍ، ويا صُبْحُ قد كانت عيني لك بمرصاد.

ومُحالٌ أنْ يستَأْذن على النفس مُناها، وعلى الكبد الحَرَّى ريها وبشراها، وعلى العين الساهرة كراها:

أنت الكرى مؤْنساً عيني وبعضهمُ

مثل القذى مانعاً عيني من الوَسَنِ

ورعى الله داعياً إلى البِرِّ دَعا، ورحم الله منْ نبتَ على دِمْنَتِهِ المَرْعى.

وأقرأ عليك سلاماً هو المسك فتيتاً، والدُّرُّ نظيماً وشتيتاً.

يواليكَ مقيلاً ومبيتاً. والسلام المجدد المردد عليك، ورحمة الله وبركاته.

ولغيره:

أما البلاغة فأَنْتَ ابن بَجْدَتِها، وأمَّا الفصاحة فأنت لا بسُ بُرْدَتِها، وأما البراعة فأنتَ رافعُ عَلَمِها،

وممْسِكُ بعِنانها وقَلمِها، ولا غَرْو فمنْ غُذِّيَ بصفْوِ الأدبِ، ورُقيَِّ منه أسْنى الرُّتبِ، أتى منَ الإبداعِ

بالعجبِ العجيبِ، وتقَنَّص شأْوهُ بالسَّهْمِ المُصيبِ. ولَمّا فَضَضْتُ ختامَ كتابِكَ الخطير، وتأمَّلْتُ ما

أوْدَعْتَهُ منه في السطور، رأيْتُ بدائعَ دوتها السحر، ولآلئُ يُزْدهى بها النَّحر، وغرائب يَعذب بها لو

مازجه البحر؛ فاعترفت إليكَ بالتَّقصير، وقلت أنَّى يقاسُ السُّها

ص: 321

بالبدر المنير. وماكفاكَ، أبْقاكَ الله،

حتى قابَلْتَني بما لو قوبلتْ به النُّجومُ لانْحَطَّتْ إليْكَ منْ سمائها، والغيومُ لتَرَقْرَقَتْ عليكَ منْ أرْجائها،

أوِ السَّمومُ لسمحتْ بنسيمِها وأنْدائها، وذلكَ ما أَبْدَيْتَهُ مما أَدَّيْتَهُ، بلْ أَهْدَيْته من تلكَ الرسالة المطبوعة

المساق، الغريبة الازدواج والاتِّفاق، التي أنت رَبُّ قلائِدها، وأَبُو فوائدها، وولي خرائدها، وواحد

أقرانه جلالة، وقريعُ دَهْرِهِ جزالة، ونَسيجُ وحدِهِ أصالةً.

فالحمد لله الذي أخْطَرَني ببالِكَ، وعرضني على اهْتِبالِكَ، ولله زمانٌ سبَّبَ فتحَ باب مُخاطَبَتِكَ، وأوانٌ

خلعَ عليَّ حُلَّةَ مواصَلَتِكَ، ومازالَ وُدُّكَ في طي الجوانح، وإنْ شطَّ المزارُ، وعيانُكَ في أنْحاء

الضلوعِ، وإنْ نزحتِ الديارُ، وقد تقحمتُ لمُجاوَبَتِكَ لُجة، وآثرْتُ بمعارَضتكَ ما هو على حُجة، لا

زال جدُّكَ مُقْبلاً، وسعدُكَ مُتَّصلاً، بمنه. والسلام.

ص: 322