الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل ما يُستحسن من صفات الأقلام
بِخط اليراعة يُنال حَظُّ البراعة، وأفْضل أقلامِ الكُتَّاب، المُنْتَخَبة للكتاب، مالم يَكُن في طُوله تَعَوُّجٌ،
ولا في صلابتِه ترجُّج. وكانت خُصوصية العنصر الذي نماه، وسَجِيَّةُ المنبت الذي إليه مُنْتَماه، قد
أخذت به بين الرِّقة المُتَناهية التي لا تُسْتَحْسَنُ، والغِلَظِ المفرط الذي يُسْتَخْشَنُ، وأقَرَّتْهُ على المقدار
الذي لا يَقَعُ اختيارُ الكاتب على سواه، ولا يتَعَدّاه اقتراحُه ولا يَتَخَطَّاه.
ثم انتحى بَرْيَه ذو يمين رفيقةٍ بسكينٍ رقيقةٍ، فأجادَ شَقَّه، وأحكمَ قَطَّهُ فجاء به غَيْر شاقٍّ ولاعاقِّ،
سَلْسَ الجريان إذا أُرسِل، مُوافِقاً لِلْبَنانِ إذا أُعمِل، مُعْطِياً لقياده، غَيْر بخيل بِمِداده، تتبَنَّاه الأنامل
فَتَرْأَمُهُ، وتُواصل العَمَلَ به فلا تَسْأَمَهُ.
فهو للأنامل مطية، وعلى الكتابة مَعونةٌ قوية، قصَبََُه قد استوفى من الماء ريَّه، ومن الشمس حظَّه
وزَيَّه، حتى اصفرَّ ليطُهُ، واعتدل خوطه، وتناصَفَ شَكْلُهُ فهو أولى باليد من البنان.
قال: وسُمِّي قَلَماً لأنه قُلِمَ، أي قُطِعَ وسُوّي كما يُقْلمُ الظُّفْر. وكلُّ عودٍ
يُقْطَعُ ويُحدُّ في رأسه ويُعَلَّمُ بِعلامةٍ
فهو قَلَمٌ، ولذلك قيل للسِّهام أقلامٌ.
قال تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) وكانت سِهَاماً مكتوبة فيها أسماؤُهم. وقيل هي في هذه الآية الأقلامُ التي يكتبون بها
التوراة. وإَلْقَاؤُهم الأقلامَ كان حين تنازعوا في كفالتها رغْبَة لِفَضْلها.
فالقلم أيضا السهم الذي يحال بين القوم. كلُّ إنْسانٍ وقَلَمُه. وهو القِدْحُ.
والقَلْم قَصُّ الظُّفْر، يُقال قَلَّمَه تَقْليماً، ومقالمُ الرُّمح كُعُوبُه، ويقال للقلم: المِزْبَرُ بالزاي، والمِذْبَرُ
بالذال. سُمِّي بذلك لأنه يُزْبَرُ به ويُذْبر: أي يَكْتُبُ. وقد فرَّق بعض اللغويين بين زَبَرْتُ وذَبَرْتُ.
فقال: زَبَرْتُ بالزاي أي كتبتُ، وذَبَرْتُ بالذال أي قرأتُ. ويقال للذي يُقْلَمُ به مَقْلَمٌ وللذي يُبْرى به
مبرى ومِبْراة، وقد بَرَيْتُه أبْريه بَرْياً. ويقال لما يَسْقُطُ من التَّقْليم القلُامَة، وهي القُلُومَة من طَرَفِه، ولما
يَسْقُطُ عن البَرْي البُرَاَيةُ.
ويقال لعُقْدَة الكُعُوب، واحدها: كَعْبٌ. ويقال لما بين عُقْدة الأنابيب واحدها: أنبوبٌ والأنابيبُ،
والكعوبُ تُسْتَعْمل أيضا في الرِّماِح، وفي كل عُودٍ فيه عَقْدٌ. وَلِيطُ القلم لَوْنُهُ، فإن قَشَّرْتَ منه قِشرة
قُلْتَ: تَلَيَّطْتُ من القلم لِيطَهُ، ويقال لطرفيه اللذين يُكْتَبُ بهما السِّنان، واحدُهما: سنّ والشّعيرتان
واحدتهما شَعِيرهٌ.
وقيل لأعرابي: ما القلمُ؟ فَفَكَّرَ ساعة، وجعل يُقَلِّب يديه، وينظُرُ إلى أصابعه ثم قال: لا أدري؟ فقيل
له: تَوَهَّمْه في نَفْسك. فقال: هو عودٌ قُلِمَ من جوانبه كتَقْليم الأظْفور.
وجَمْعُ القلم أقلامٌ كقولك في جمع جَبَل أَجْبَال وجِبَال. وإذا قُطِّع طَرَفُ القلم
وهُيىء للكتابة بعد البَرْي قيل فيه: قَطَطْتُه أَقُطُّه قَطّا. والمَقَطُّ بفتح الميم ما قُطَّ من رأسه، ويقال: قَضَمْتُه أَقْضِمُه قَضماً. قال فيه
المقنع الكندي:
يَحْفَى فَيُقْضَمُ من شعيرةِ أَنْفِه
…
كقُلامة الأَظْفُور في تَقْلامِه.
فإن انكسرت سِنُّه قيل قَضِمَ يَقْضَمُ قََضَماً على مثل حَذِرَ يحْذَرُ حَذَراً، فإن جَعلت سِنَّه الواحدة أطول
من الأخرى عند قَطِّه، قُلْتَ حرَّفْتُه تَحْريفاً، وقلم مُحَرَّفٌ، فإن جعلت سِنَّيْه مُسْتَوِيَتَيْن
قُلْتَ: قَلَمٌ مَبْسُوطٌ، فإن سُمِع له صوتٌ عند الكتابة فذلك الصَّريفُ والصَّريرُ، فإذا كثر المِدَادُ في
رأسه حتى يقطر قيل: رَعَفَ القلم يَرْعَفُ رِعَافاً، شُبُِّه برِعاف الأَنْف، ومَجَّ يَمُجُّ مَجّاً، وأرْعَفَه الكاتب
إرْعافاً وأمَجَّه إمجاجاً. ويقال للكاتب: اسْتَمْدِدْ ولا تُرْعِفْ ولا تُمْجِج ولا تمُجَّ. أي لا تُكْثر من المداد
حتى يقطُر.
قال أبو إسحاق:
ومن المنظوم البديع التَّهذيب، الرائق التذهيب، الصادر عن الطَّبع الذكي، المُؤيَّد بالأدب الوضي،
الرفيع الدُّرَرِ، الواضح الغُرَر، الذي فاق كل وَصْفٍ، واحتوى على كل رِقَّةٍ ولُطْف، واطَّرد ماءُ
الفَصَاحة على حواشيه، ولاحَ نورُ البلاغَة على ألفاظه ومعانيه في صفة الأقلام والكُتَّاب، الآخذين
مجامع الإتقان والصواب، قولُ ابن المعتز:
قلمٌ ما أراهُ أمْ فَلَكٌ يَجْ
…
ري بما شاء قاسمٌ وَيسيرُ
خاضِعٌ في يديه يَلْثِمُ قرْطا
…
ساً كما قبَّلَ البساط شَكُورُ
ولَطِيفُ المعنى جليلٌ نحيفٌ
…
وكبيرُ الأَفعال وهْوَ صغيرُ
وهذا كقول الآخر:
فزادت لدينا خُطوةً حين أقْبَلَتْ
…
وفي إِصْبِعَيهَا أسْمَرَُاللّوْنِ مُرْهَفُ
أصَمٌّ سميعٌ ساكنٌ متَحرِّك
…
ينال جسيماتِ العُلا وهو أَعْجَفُ
رجع
كَمْ منايا وكَمْ عَطايَا وكم حَتْ
…
فٍ وَعَيْشٍ تَضُمُّ تِلْكَ السطورُ
نُقشَت بالدْجى نهاراً فما أَدْ
…
ري أخطٌّ فيهنَّ أم تَصْويرُ
هكذا منْ أبوه مثل عبيد الل
…
هـ ينمي إلى العُلا وَيَصيرُ
عَظُمتْ مِّنة الإله عليه
…
فَأراك الأميرَ وَهْوَ الوزيرُ
وفي هذا يقول الآخر:
ذا المغتدي مَائِعُ الأنْفَاسِ مَنْهَلُهُ
…
وصار أَعْلَاه في القرطاس أَسْفَلُهُ
كساه من خَطِّهِ وَشْياً وقلَّدَهُ
…
دُرّاً من اللَّفظ لَمْ بفصم مُكَلَّلُهُ
فَأَيُّ زَهّرَةِ بُسْتانٍ تُمَاِتُله
…
وأَيُّ درٍّ على اللَّبات يَعْدِلُهُ
وفي المعنى أيضا:
قَصِيُر الأنابيبِ لَكِنَّه
…
يطولُ مضاءً طوال الرماحِ
إذا عُبَّ لِلنِّقْسِ في دَامِسٍ
…
وَدَبَّ من الطِّرْس فوق الصَّبَاحِ
تَجَلَّتّ له مشكلاتُ الأمور
…
ولَانَ لَهُ الصَّعْبُ عند الجِمَاحِ
وأنشد الصولي لطلحة بن عبيد الله:
وإذا أمَرَّ على المهارق كَفَّه
…
بأناملٍ يحملن شَخْتاً مُرْهَفَا
متقاصراً متطاولاً ومفصِّلا
…
وموصلا ومشتتاً ومؤلّفا
ترك العداة روا جفاً أحشاؤُها
…
وقِلاعُها قَلْعاً هنالك رجَّفَا
كالحية الرقشاء إلَاّ أنه
…
يستنزِلُ الأرْوى إليه تَلَطُّفا
بأبيات غير هذه.
وفي المعنى:
قَلَمٌ قَلَّمَ أظْفَارَ العِدَى
…
وهو كالإبرة مَشْقُوقُ الظُّفُرْ
أَشْبه الحَيَّةَ إلَاّ أنه
…
كلَّما عُمِّر في الأيدي قَصُرْ
وقال أبو بكر الأصبهاني:
أخْرسُ يُنْبيَك بإطراقِه
…
عنْ كل ما شئْتَ من الأمْرِ
يُذرِي على قرطاسه دمعةً
…
يبدي بها السرَّ ولا يدري
كعاشقٍ أخفى هَوَاه وَقَدْ
…
نمَّتْ عليه عبرةٌ تجري
تُبْصِره في كل أحواله
…
عُرْيانَ يكسو الناس أو يُعْري
يُرى أسيراً في دَوَاةٍ وَقَدْ
…
أَطْلَقَ أَقْواماً مِنَ الأسْرِ
في أبيات غير هذه.
وقد أَكْثر الشعراء في صفة الأقلام، وفَضُّوا عن البيان كُلَّ ختام بألفاظ تريك السحر مسطوراً، والدُّرَّ
النفيس منظوماً ومنْثوراً، ووصفوا الأقلام بأبْدَع الصفات، وبوَّؤا الكُتَّاب أرْفعَ الدرجات، وفَضَّلوا القلم
على السيف في مذاهبه، وجعلوا له التَّقديم في مراتبه.
فاخَر كاتِبٌ فارساً فقال الفارس: أنا أَقْتُلُ بلا غَرر، وأنْتَ تقتل على خَطَر، فقال الكاتب: القَلَمُ خَاِدٌم
للسيف، إِنْ تَمَّ مُرادُهُ، وإلا إلى
السَّيْفِ مَعَاده، أَمَا سَمِعْتَ قول أبي تمام:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أنباءً من الكتبِ
…
في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
بِيضُ الصَّفائح لَا سُودُ الصَّحائف في
…
مُتُونِِهِنَّ جلاءُ الشَّك والرِّيَبِ
والعِلْمُ في شُهُب الأرْماح لَامِعَة
…
بين الخَميسيْن لا في السَّبعة الشُّهُبِ
فقال الكاتب: أما سَمِعت قول الآخر هو أبو الفتح البستي:
إذا افْتَخر الأبطال يوماً بِسَيِفِهم
…
وعدُوُّه مما يُكْسِبُ المجْد والكرَمْ
كَفَى قَلَمُ الكتابِ مجداً ورِفْعَةً
…
مدى الدَّهر أنَّ اللَّه أقْسَمَ بِالقَلَمْ
قول أبي تمام: (السيف أصدق أنباء) يروى أنباء بالفتح، وإِنْباء بالكسر، والفتح أجود وهو المختار.
والأنباء جمع نبأ، والنَّبأُ الخبر، والأنباء يُسْتدل بها كما يُسْتَدَل بالأخبار.
وقال صاحب العين: النَّبَأ مهْموزٌ وهو الخبرُ. تقول: جاءني عن فلان نَبَأٌ أي خَبَرٌ، وإنَّ لِفُُلانٍ نبأ أي
خبر. قال الله تعالى (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ). أي بِخَبَر. وأَنْبَأُ زَيْدٌ عمْرواً، أي أخْبَرَه. والمنبئُ المُخْبِرُ، وهو أيضا المنَبِّئُ
بسكون النون وبفتحها.
قال النابغة:
وَأَنْبَأَهُ المنَبِّئُ أنّ حَيّاً
…
حُلولاً من حَزَامِ أو جُذاَمِ
والفعل منه أنْبأته، واستنبأته. والنَّبِيءُ بالهمز: الطريقُ الواضحُ يأخذ بك إلى حيث تريد.
وقال بعضهم: النبئُ: الرسول من النَّبإ، فعيل بمعنى مُفْعِل أي مُنبِئ، كما قيل لِلمُدَبِّر الذي يُحْكِمُ
الصنع بحسن تدبيره: حَكِيمٌ؛ بمعنى مُحَكِّم عُدِلَ للمبالغة، وكما قيل حبيب بمعنى مُحَبَّب، فإذا همزْت
النبيّ جمعته على النُّبآء، لأنه غير معتل كقولك: حكيم وحكماء، وعليمٌ وعلماء، وعظيم وعظماء.
قال العباس بن مرداس:
يا خَاتِمَ النُّبَآء إنك مرسلٌ
…
بالحق كل هُدى السبيل هُداكَا
فإذا لم يُهْمز وهو الاختيار، جَمَعْته على الأنبيَاء، كما يُقال وصيٌّ وأوْصياء، ووليٌّ وَأَوْلياء، وتقي
وأتْقياء.
قوله: فإذا لم يُهْمَز وهو الاختيار، اتباعاً للحديث المأثور.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (القراءات): (القراءة المقروء بها عندنا بإسقاط الهمز من
النبيَّ والأنبياء والنَّبيئين في كلِّ القرآن، لأن الجمهور
الأعظم من القُرَّاء والعامة عليها. وكذلك أكثر
العرب مع حديث رَوَيْناه مرفوعاً إن كان حُفظ. حدَّثنا محمد بن ربيعة عن حمزة بن حبيب الزيات
عن حُمْرَان بن أَعْين أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا نَبِيءَ الَّله، فقال: لستُ بِنَبِيء
الله، ولكني نبيُّ الله. قال أبو عبيد معناه أنه أنكر عليه الهمز).
وقال أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي: إنَّما سُمِّيت الأنبياء لأنهم قد ارتفعت منزلتهم، واستعلت
درجتهم على سائر الخلق. قال: والقراءة بالهمز تفرَّد بها نافع وحده، وقال غيره: النَّبِيءُ الطريق،
وسمي رُسل الله أنبياء لأنهم الطَّريقُ إلى الله عز وجل. والنُّبُوءة بالهمز قياسها. قاله أبو الحسن
الرماني.
والنبئ بالهمز، لأنه أَنْبَأَ عن الله أي أَخْبَر، والنَّبْأَةُ: صَوْتُ الكلام نَبَا بِه، قال الشاعر:
يُصيخُ للنَّبْأةِ أَسْماعَه
…
إصاخة النَّاشِدِ للمُنْشِدِ
وفي الحديث: "لا تُصَلِّ على المكان النَّبيء" قال أبو سليمان الخطابي سمعت ابن سعدويهْ يقول
سمعت ابن اليمان يقول: معناه المرتفع المُحْدَوْدَب، مأخوذ من النَّبْوة وهي الارتفاع، قال أوس بن
حجر:
لأصبح رثماً دُقاق الحصى
…
مكان النبيء من الكاثبِ
والكاثِبُ موضع.
والإنباءُ بالكسر معناه الإظْهارُ للنَّبأ وهو الخبر، والإنباءُ والإخبارُ والإعلامُ نظائر.
وقال أبو علي الفارسي في (الحجة)، قال أبو زيد، يقال: نَبَأْتُ من أرض إلى أرض أخرى، فأنا أَنْبَأُ
نَبْأً إذا خرجت منها، وليس اشتقاق النبي من هذا وإن كان من لفظه، ولكن، من النَّبَأ الذي هو الخبر،
كأنه المخبر عن الله سبحانه.
وقال غير أبي علي كلُّ ما جاء في القرآن من هذا اللفظ فهو بمعنى الخبر، وهوالذي يتعدّى إلى
مفعولين، أحدهما بحرف الجرّ، وقد يحذف حرف الجر فيتعدى الفعل فينصب. قال الله تعالى (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) أي
بهذا، وقال الشاعر:
أدانَ وأنْبأه الأولون
…
بأنَّ المُدان مليٌّ وفيُّ
وتقول العرب: أنْبَأْتُ زيداً عمرواً أخاك بمعنى أَعْلَمْتُه قال عنترة:
نُبِّئْتُ عَمْراً غير شَاكِر نِعْمَتي
…
والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لنفس المُنْعِمِ
فمن جعل نُبِّئْتُ بمعنى أُخْبِرْتُ نصبغير على الحال، ومن جعلها بمعنى أُعْلِمْتُ نصبغير على
المفعول الثاني.
وقول أبي تمام (بيض الصفائح): الصفائحُ جمع صفيحة وهي العِراض من السيوف. قال الشاعر:
ضَرَبْناهُم حتَّى إذا ارْفَضَّ جَمْعُهُمْ
…
عَلَوْنَاهُم بالمُرْهَفَاِت الصَّفَائِحِ
وهي أيضاً الصَّفاحُ واحدتها صفْحَة، قال أيو العباس: أصلها ما كان من ظاهر
الشيء. يُقال لظاهر جلدة الإنسان: صَفْحَتُه، وكذا هو من كل شيء، ومن هذا قولهم صَافَحْتُهُ أي لَقِيَتْ صفحة كفِّه صَفْحَةَ
كَفِّي.
وفي الحديث فيما روى محمد بن كامل العماني، وعن أبان العطار عنثابث البُناني عن أنس بن مالك
قال: صافحتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أر خَزَّا ولا قَزّاً كان أَلْيَنَ من كفِّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وفيه التَّسْبِيح لِلرِّجَال، والتَّصْفِيحُ للنساء، أي التَّصْفِيقُ لأنها تضرب بَِِصْفَحة كفٍّ
على صَفْحة كفٍّ أخرى. وتقول نظر إليه صَفْحَا؛ أي بقدر ما أبدى صفْحَتَه لم يجاوز ذلك. ويقال
صَفَحْتُ عنه، أي لم أُؤَاخِذُْه بذنبه، وأبْدَيْتُ له على صفحةٍ جميلة. والصَّفْحُ التَّجَاوُزُ، ومنه صَفَحْتُ
الورقة أي تجاوزتها إلى غيرها. وفي كتاب الله عز وجل (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) وفيه (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) ومنه قول الحارث بن هشام
أخي أبي جهل شقيقه:
فَصَفْحْتُ عنهم والأحبَّةُ فيهمُ
…
طَمَعاً لهم بِعِقاب يومٍ مُفسدِ
أي لم أجادلهم لأقبض صَفَاحَهم، أو أريهم ذلك في نفسي.
والرواية الصحيحة في بيت الحارث بن هشام بن الحارث المذكور: (فَصَدَفْتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ).
وهذا البيت في أبيات له قالها معتذراً من فراره يوم (بدر)
يقول فيها:
الله يعلم ما تركتُ قِتالَهَمْ
…
حتى رموا فَرسي بأشقرَ مُزْبِدِ
ووجَدتُ ريح الموت من تلقائهمْ
…
في مأزقٍ والخيلُ لم تتبدَّدِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إن أُقَاتِلْ واحداً
…
أُقتلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مشْهدي
فَصَدَفْتُ عَنْهُمُ، البيت.
وقال الآخر:
صَفَحْنا عنْ بني ذُهْلِ
…
وقُلْنا: القومُ إخْوانُ
والفعل منه صفَحَ يَصْفَح صَفْحاً، وتَصَفَّح تَصَفُّحاً وتَصَافَحُوا تَصافُحاً، وصافَحْتُه. مُصَافَحَةً والمراد
به: التجاوُزُ عن الذنب.
فأما قول لبيد يصف السحاب:
كأنَّ مُصَفَّحاتٍ في ذُراهُ
…
وَأنْواحاً بِأيْديها المآلي
فالمُصَفَّحَاتُ هنا النِّسَاءُ يُلْقينَ صفحات أكُفِّهن لِبَعْضِهِنَّ على بعض فيَضرِبن بها في المناحات.
والأنْوَاحُ جمع نَوْح، ونُوَّحٌ جمع نائحة؛ والمآلي جمع مِئْلاة، وهي خِرْقَة تُمْسِكها النائحة تتلقى بها
دمعها وتُشيرُ بها إذا ناحَتْ. فشبهلبيد لمعان البَرْقِ بِلَمْع النائحة بِمِئْلاتها إذا ناحَتْ. وفي هذا التشبيه
يقول امرؤ القيس:
وتخرجُ منه لامِعاتٌ كَأنَّها
…
أكفٌّ تَلَقَّى الفَوْز عِنْدَ المُفِيضِ
وقول أبي تمام أيضا:
بين الخميسين لا في السَّبْعةٍ الشُّهُبِ
يعني بالسَّبْعَة الشُّهُبٍ الدَّرَارِي السَّبْعَة، وهي أَعْلامٌ يستدل بها: زُحَل والمشتري وعطارد والمريخ
والزهرة والشمس والقمر
…
ولقول أبي تمام هذا خبر ذكره أبو بكر الصولي في شرح شعر أبي تمام.
وللسَّبْعة تصرفٌ في جلائل الأُمور، فالأيامُ سبعة والسماوات سبع والأرضُون سبعٌ بدليل قوله تعالى
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) والبحارُ سبعة. وأبواب جهنم - أعاذَنا الله منها - سبعة. في أشباه لهذا معروفة. ومن شأن العرب
أن يبالغوا بالسبعة وبالسبعين من العدد كما قال الله جل وعز (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)
فأما قول الشاعر:
يا مْعْطيَ الخير الكثير مِنْ سَعَهْ
إليك جاوزنا بلاداً مَسْبَعَة
وفلوات بعد ذاك مَضْبَعَهْ
فالبلاد المسْبَعَة هي الكثيرة السباع، والفلوات المَضْبَعَة هي الكثيرة الضِّباع. ويقال أسبع الرَّاعيان،
إذا وقع السَّبُعُ في مواشيهم، والمُسْبِعُ الذي أغارت السباع على غنمه. ويقال أَسْبَعَ فلان عَبْدَه إذا
أَهْمَله. قال أبو ذؤيب:
صَحِْبُ الشَّوارب لا يَزالُ كأنَّه
…
عبد لآل أبي ربيعةَ مُسْبَعُ
وقال رؤبة:
إن تميماً لم يراضِع مُسْبَعَ
…
ولم تلده أمُّه مُقَنَّعَا
والمُسْبَعُ الذي تموت أُمُّهُ فَيَتَوَلَّى رَضَاعَه نِسْوةٌ فَيَغْتَذي بينهن. وقال بعضهم: المُسْبَعُ وَلَدُ الزِّنا. وعَبْدٌ
مُسْبَعٌ في لغة هُذيل هو الذي ينتهي إلى سبعة آباء في العبودية. والمُسْبَ
عُ أيضا المولود لسبعة أشهر، وأمه مُسْبِع.
وقال صاحب العين سبعتُ فلانا عند فلان، إذا وقَعْتَ فيه وقعةً مضرةً. وقاله يعقوب.
وقال ابن قتيبة: سبعْتُ الرجل: وقعت فيه، وأطعمته السبع.
وفي حديث عبد الله بن مسعود فيما روى الحميدي، عنس
فيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن رجل عن عبد الله: أن الرجل ليهم بالأمر من أمر الإمارة
والتجارة، فيقول الله تبارك وتعالى للملك اصْرِفْه عن عبدي، فإني إن أنا يسرته له أدخَلْتُهُ النار
فيَصْرِفُه عنه فَيَظَلُّ يتَظنى بجيرانه: من سَبَعني من سَبَعَني، وإن صرَفَه عنه إلا الله.
وقول الآخر (إن الله أقسم بالقلم)، يعني قول الله تعالى (ن وَالْقَلَمِ) فقد نوَّه به لما ذكره في الكتاب العزيز
معتداً به في نعمه على خَلقه، وفي هذا دليل على شرفه وعظيم شأنه لما فيه من المنافع.
وفي الخبر عنابن عباس أنه قال أول ما خلق الله القلم. قال له اكتب قال، وما أكتب، قال: اكتب ما
هو كائن إلى يوم القيامة. وقال تعالى (الْأَكْرَمُ
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)، أي عَلَّم الإنسان الخَط بالقلم. وشأنُ القلم رفيع.
رجع
وممن فضَّل القلم على السيف فأحسن علي بن العباس التنوخي حيث يقول:
إن يخدم القلمَ السَّيفُ الذي خضعتْ
…
له الرقابُ ودانتْ خوفَه الأممُ
فالموت والموتُ لا شيءٌ يُغَالِبُهُ
…
ما زال يَتْبع ما يجري به القلمُ
بِذَاقَضى الله للأقلام قد بُرِيَتْ
…
إنَّ السيوفَ لها مُذْ أُرْهِفَتْ خَدَمُ
وقال أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي:
قد يسكُتُ السيفُ والأقلامُ ناطقةٌ
…
والسيفُ في لُغَِة الأقلام لحَاَّنُ
وقال ابن الرومي في تفضيله:
لعمركَ ما السيف سيف الكَمِيِّ
…
بأخوف من قلمِ الكاتب
له شاهد إن تأمَّلْتُه
…
ظَهَرَتْ على سِرِّهِ الغائبِ
أداةُ المنية في جانبيه
…
فَمِنْ مِثْله رهبة الرَّاهِبِ
ألم تر في صدره كالسِّنَانِ
…
وفي الردف كالمرهف القاضِبِ
سنانُ المنية في جانبٍ
…
وحَدُّ المنية في جانبِ
وقد فضله التهامي على الرُّمح فأحسن حيث يقول:
قلماً دبَّر الأقاليم حتَّى
…
قال فيه أَهْلُ التناسُخ أَمْرَا
يتبعُ الرمح أمْره إن عِشْرِي
…
نَ ذراعاً بالرأْي تخدم شبرَا
وناقضه أبو العلاء المعري فقال:
دَعِ اليَرَاعَ لِقَوْمٍ يَفخرونَ به
…
وبالطوال الرُّدَينياتِ فَافْتَخِِر
فهن أقلامك اللائي إذا كتبت
…
مجداً أتت بمداد من دم هَدَرِ
وقد ذكرتُ في فصل الأوصاًف والتَّشْبيهات من مليح النِّظام، جُمْلة أبيات من أحسن ما قيل في
السيف وأبْلغِه وأنفسه في سوق الأدب وأسْوَغِه، تنخرط في
سلك ما جمعتُ، وتَرْتَبِطُ مع ما في تحريره شرعْتُ.
وقد ساوى بين الشيئين ومَدَحَ كِلْتا الخُطَّتين، أبو بكر بن قُزْمان، فقال:
يُمسك الفارسُ رُمحاً بيدٍ
…
وَأَنا أُمْسك فيها قَصَبَهْ
وكلانا بَطَلٌ في فِعْله
…
إنَّ الَاقْلَامَ رماح الكتَبةْ
وهذا مما تَظَرَّفَ فيه أبو بكر وحلَّى به جيد العصر، وراقَ له زًَهراً جَنِيَّا، وتَأوَّجَ عَرْفاً ذكياً، وأَلْهجَ
على كلِّ لسان، وحلَّ من كلِّ عينٍ محلَّ الإنسان.
وفي تفضيل السيف وتقديمه يقول أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المجيد في أول مُخَمَّسته
المشهورة:
الحمد لله أضْحى الدينُ مُعْتَلِياً
…
وباتَ سيفُ الهدى الظَّمآن قد رويا
إنْ كنتَ ترتاح للأمر الذي قُضِيا
…
فخُذه نَشْراً ودعْ عنك الذي طُوِيا
السيفُ أصدق أنباء من الكتب
هو المقَيِّد للآثار والحِكم
…
لولا وقائعه في سائر الأُمم
لم يحفل الناس بالقرطاس والقلم
…
أينَ اليراعةُ من صمصامة خَذِمِ
في حَدِّه الحد بين الجد واللعب
والسَّمْهَرِية يتلوه ويتْبعه
…
ما مال عَرشٌ رماحُ الخَطِّ يرفعه
خُدْ ما تراه ودع ما كنت تسمعه
…
فالعلْمُ في شُهب الأرماح أجْمَعُه
بين الخميسين لا في السَّبعة الشهب
وهذه المخَمَّسة طويلةٌ حَسنةٌ بديعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ.
وأحسن ما أذكر في صِفَةٍ القَلَم قول أبي تمام:
لك القلم الأعْلى الذي بشَباته
…
تُصابُ من الأمر الكُلَى والمفاصلُ
له الخلوات اللَاّئِي لولا نَجِيُّها
…
لما احتفلتْ للمُلك تِلكَ المحافلُ
لُعابُ الأفاعي القاتلاتِ لُعابُهُ
…
وأرْيُ الجنى اشتارَتْه أَيْدٍ عَوَاسِلُ
له ريقة طَلٌّ ولكنَّ وقعها
…
بآثاره في الشرق والغرب وابلُ
فصيحٌ إذا استنْطقته وهو راكبٌ
…
وأعجمُ إنْ خاطبته وَهْوَ راجلُ
إذا ما امتطى الخَمْسَ اللطاف وأُفرغَتْ
…
عليه شِعَابُ الفكر وَهْي حوافلُ
أطاعته أطراف القَنا وتَقَوَّضَتْ
…
بنجواه تقويضَ الخيام الجَحَافِلُ
إذا اسْتَغْزَرَ الذهن الذكيَّ وأقبلتْ
…
أعاليه في القرطاس وهي أسافِلُ
وقد رَفَدَتْه الخِنْصران وشَدَّدَتْ
…
ثلاث نواحيه الثلاث الأناملُ
رأيتَ جليلاً شانُهُ وهْوَ مُرهفٌ
…
ضنى وسَميناً خَطْبُه وهو ناحِلُ
وهذه الأبيات في قصيدة له في محمد بن عبد الملك الزيات قرأتها في شعره، وهي قصيدة اتخذها
البيان قَلْباً، وضَمَّ عليها شِغافاً وخَلْباً، قصَّرَ عنها كل ناظمٍ، واغتَرَفَ منْ بحرها كلُّ ماهرٍ في النِّظامِ
وعالم قوله. (لعاب الأفاعي القاتلات) البيت، أخذه أبو الحسن علي بن عطية بن الزقاق فقال:
تَمُجُّ سُمّاً وجنى نخلةٍ
…
فريقُها يُرجى كما يُرْهَبُ
وبعد هذا البيت
يُريك من صيغتها جوهراً
…
يُنظمُ في الطِّرس ولا يثقبُ
خرساءُ لكنَّ لها منطقاً
…
أقرَّ بالسبْقِ له يُعْربُ
كأنه اقتدى في البيت الثاني بقول ابن المعتز في سليمان بن وهب:
إذا أخذ القرطاس خلْتَ يَمينه
…
تُفَتِّح نَوْراً أو تنظِّم جوهرا
وهذا المعنى أخذ القاضي أبو الحسن علي بن أحمد بن لُبَّال الشريشي حين قال:
إذا اضْطَربتْ سُمرُ اليَرَاعِ بِكفِّهِ
…
تَرَى دُرَراً تَنْحَطُّ من فم أرقَمِ
وخَطّاً كما ألْقَتْ عَلَى صَحْنِ خَدّها
…
عروسُ الرُّبى وَشْيَ الرياض المنمَّمِ
وفي معناه أيضاً قول الآخر:
إذا اضطربت في كفه خِلْتَ صعدةً
…
وإن سقطت من كفِّه خِلْتَ أرْقَما
ومن قول شاعرنا أبي العباس أحمد بن شكيل في القاضي أبي حفص ابن عمر:
له قلم تنقاد بيضُ الظُّبا لَهُ
…
وإن لقحتْ حربٌ وزُرقُ اللَّهازم
به عرف الأقوامُ ما هو كائن
…
وما هو جار في نفوس العوالمِ
علا فَهْو للآجال أصدق ناسخ
…
وَنَاسٍ وللأرزاقِ أعْدلُ قاسِمِ
إِذا جَالَ في القرطاس سَاقَطَ لؤلؤاً
…
يُزَيِّنْ به أسلاكَه كلُّ ناظمِ
وإن ظل سَاري الفكر أَطْلَعَ أحرفاً
…
تنير النهى منها بِسُودٍ فواحمِ
دعاه أناسٌ ترجمانَ ضميره
…
وهل لبليغ حاجة في النواجم
وأنشدني بعض الأدباء:
إذا بدا القلمُ الأَعلى براحته
…
مطرزاً لرداء الفخر بالقلمِ
رأيت ما اسود في الأبصار أبيض في
…
بصائر لحظها للفهم غير عَمِ
كروضة نمقت من وشي زهرتها
…
وافترَّ نوارها عن ثغر مبتسمِ
قوله: رأيت ما اسودَّ في الأبصار البيت، منظوم من كلام أحد البلغاء: صورة الخَطِّ في الأبْصار
سوادٌ، وفي البصائر بياضٌ. ومن قول الآخر: بِضِياء الحِكْمة اسْتِنارَةُ المرادِ.
وقال الشاعر في المعنى:
لا عجيبٌ إنْ كان شعرك نوراً
…
وهْوَ يغشَى البياض بالتسويدِ
إنما النورُ بالسواد من العي
…
نِ وهذا البياض للتأكيدِ
وقال أبو الطيب في المعنى:
دعانى إليك العلمُ والحِلْمُ والحِجَى
…
وهذا الكلامُ النَّظْمُ والنائل النَّثْرُ
وما قُلْتُ من شِعْرٍ تكادُ سُطُوره
…
إذا كُتِبَتْ تَبْيَضُّ عن نورها الحِبْرُ
وقال أبو الحسن التهامي، وهو مما استحسنته:
يَا رُبَّ معنى بعيدِ الشأو تَسْلكه
…
في سلكِ لفظٍ قريب الفهم مُخْتصرِ
لفظٌ يكون لِعِقْد القول واسطةً
…
ما بين منزلةِ الإسهابِ والخَصْرِ
إنَّ الكتابة صارتْ نحو أنمله
…
والجود فالتقيا منه على قدرِ
تردُّ أقلامُه الأرماح صاغرةً
…
عكساً كعكسِ شعاع الشمس للبصر
وفي كتابك فاعذر من يهيم به
…
من المحاسن ما في أحسن الصور
الطرسُ كالوجه والنوناتُ دائرةٌ
…
مثلُ الحواجبِ والسيناتُ كالطُّرَرِ
وفي معنى هذا البيت يقول الآخر:
فَنُوناته من حاجِبيْه استعارها
…
ولا ماتُه من قدِّه المتعاطِفِ
وَمِنْ صُدْغِه الموحي اسودادُ مدادِه
…
وَمِنْ وَصْلِه المحيي ابِيضَاضُ الصحائِفِ
في المعنى أيضاً قول الآخر:
انْظرْ إلى أثر المدادِ بطرسِه
…
كبنفْسَج الخَدِّ المشوبِ بِوَرْدِهِ
ما أخْطَأَتْ نوناتُهُ من صُدْغِهِ
…
شيئاً ولا أَلِفاتُهُ من قَدِّه
وكأنَّما أنْقاسُه من شعره
…
وكأنَّما قِرطاسُه من خَدِّه
وأنشدني بعض الأدباء:
خَطُّه بهجةُ أزاهرِ روضٍ
…
جاده من حِجَاه وبلٌ سكوبُ
ما العوالي على خُدودِ الغواني
…
غير ما حَازَ رَقُّه المكتوبُ
وقال أبو الفضل الدارامي وضمنه وصف مُعَذَّر:
وكاتب أهديت نفسي له
…
فَهْيَ من السوء فِدى نفسه
سلط خديه على مهجتي
…
فاستأصلْتُها وهي من غرسه
كأنما خط على خدِّه
…
مثل الذي قد خط في طرسه
فلستُ أدري بعدما حلَّ بي
…
بمسكه أتلفُ أم نِقْسِهِ
وهذا كقول الآخر:
وشادن أسْرفَ في صدِّه
…
وزادَ في التيه على عَبْدِهِ
الحسنُ قد بثَّ على خده
…
بنفسجاً يرنو على ورده
رأيتُه يكتب في طِرْسه
…
خَطّاً يباري الدُّرَّ من عقدهِ
فخِلْتُ ما قد خطَّه كفُّه
…
للحسن قد خطَّ على خدِّه
قوله: الحسنُ قد بث على خده، أي أَظْهَر وفَرَّقَ. قال أبو بكر بن دريد: كلُّ شيء فرَّقْتَهُ فقد بثَثْتَه،
وفي التَّنْزيل (كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ).
ويقال: بَثثته سِرّي إذا أَطْلَعْتُهُ عليه. وانْبَثَّ الجرادُ في الأرْضِ: أي تَفَرَّقَ. والبَثُ أيضا ما يجده
الإنسان من غَمٍّ أو كره في نفسه. قال الله تعالى (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ). وأصل البثِّ: التَّفريق، فقولهم أبْثَثْتُه سري؛ لأنه
فرق بينه وبين سره بإطلاع غيره عليه.
والبثُ: الغمُّ الذي من شأنِ صاحبه أن يَبُثَّه إلى خليله.
وقيل لتقسم القلب به، وهو تفريق أسباب الغم فيه.
وقال بعضهم في صفة الكُتَّاب:
قوم إذا أخذوا الأقلامَ من قَصَبٍ
…
ثم استمدوا بها ماء المنياتِ
نالوا بها من أعاديهم وإنْ بَعُدُوا
…
ما لا يُنالبحدِّ المشرفياتِ
ومما يُنْسَبُ إلى أبي تمام ولم أقرأه في شعره:
مدادٌ مثلُ خافية الغرابِ
…
وقرطاس كرقراق السرابِ
وألفاظ كألفاظ المثاني
…
وخطٌّ مثل وشي يد الكَعَابِ
كتابٌ لو رأتْه الكتب قالت
…
سرقت الحسنَ من أُمِّ الكتابِ
كزهر الروضة الغَنَّاء باتتْ
…
ترشف نيلها ريقُ السحابِ
كلامٌ تقرعُ الآذانُ منه
…
بلفظٍ وقعه وَقْعَ الهضابِ
إذا بلغ القلوب حَيين منهُ
…
كَمَا يحيين من بَرَدِ الشرابِ
ومما اخترْتُ في وَصف الكَتْب من المنثور المطبوع، والكلامِ الحر الرفيع رُقْعَةً لبعض الفصحاء،
خاطبَ بها مراجعاً لبعض الفقهاء وهي:
وردَ كتابك غاية الفَصاحة، ومنتهى البلاغة والرجاحة، فقبَّلْتُهُ عشراً، وأقبَلْتُهُ مني رَأْساً وشَعْراً،
وحين فَضضْتُ ختامَهُ سقَطَ بَصري على شكل مُشِقَ خطُّه فاندمج، ووسِّع بين أسطاره فانفرج. فياله
من كتاب قصُر وطال، وجَمَد قلمُ كاتبه وسال، نتيجة برهان. مقدِّمَتاه: الطَّبْعُ والبراعَةُ والجَزالة
والإصابَةُ. جَمَع بين مبدإ البلاغة وآخرها، في سحاة طولها الشُّفْر، وعرضها الظُّفْر. ولا غرو، فمن
علم الأصول استنبط الفروع، ومن انتقى القليل، استغنى عن شُعَب الجُموع، ولذلك جعلته إماماً
اخْتَرْتُه، ومثالاً امْتَثَلْتُه، ولو أسْهَبْتُ ما بَلَغْتُ غاية الوصف، ولا أعْطَيْتُه من حقِّه النِّصْف. فلِلَّه فِطْنَةٌ
فطرتْه، ويَدٌ سَطَّرَتْهُ، وصحيفَةٌ احتوته، وأنامل لوتْه. ما أبدعَ ما وَسَقَ، وأعجبَ ما نظم واتسق، (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ)
ودُرٌّ يُنْثَرُ، وأنفاس تَعْبَقُ، ونُفوسٌ تُسْبى وتُسْرَق. أعراضٌ كقِطَع الرَّوض، ومعانٍ كأبْكار الغواني
أُدِرْنَ قُدوداً، وكُسِينَ من وشي الكلام عقوداً. ملك عيني نوراً، ويدي مسكاً وكافوراً، ودخلتْ نفسي منه
قُوَّةٌ لا أعْرِفُها فَكَيْفَ أصفها ولا أدْريهَا، فكيف أحْكيها. ماأنْضر جَنَاهُ، وأزْهر سناهُ. وأبْهَرَ لَفْظَهُ
ومعناه. ضَمَّن من بدائع الكلام فِقَراً شوارد، وقَلَّد من نواصع الحكم دُرراً فرائد.
قوله: (مُشِقَ خَطُّه فاندمج) المَشْقُ: خَط فيه خفة، والمشقُ: السرعة في الكتابة، وهو يُعْزى إلى أهل
الأنبار. والعرب تقول مشقه بالرمح، إذا طعَنَه طعناً خفيفاً متتابعاً. ومنه قول ذي الرمة يصف الثور
والكلاب:
فَظَلَّ يمْشُقُ طَعْناً في جواشنها
…
كأنَّه الأجر في الأعمال يحتسبُ
ويروى (في الأقتال)، وهم الأعداء واحدهم: قِتْل.
قال الأعشى:
ربَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذلك اليَوْ
…
مَ وأَسْرى من مَعْشَرِ أَقْتَالِِ
ويقال: إن المشق في الخط مدُّ الحروف، والقول الأول أوفق، لأن مد الحروف هو مَطُّها وتَعظيمها،
فأما قولهم: رقمتُ الكتاب رقماً، ونَمَقْتُهُ نَمْقاً ونَمَّقْته تَنْميقاً، ونبََّّقْتُه تنْبَِيقاً النون قبل الباء، وبنَّقْتُهُ تَبْنيقاً:
الباء قبل النون، وحبَّرته تحبيراً، ورقَشْتُهُ تَرْقيشاً، وزَبْرَجْتُهُ زَبْرَجَة وزِبْراجاً، وزَخْرَفْتُه زَخْرفة.
فهذا كله كناية عن الكتابة الحسنة.
والوشم والإعجام والترقيشُ كنايةٌ عن النقط. وقد استوفى أبو محمد بن السيد رحمه الله هذا النوع
وأكمله وقوله: (في سحاة طولها الشُّفْر) يقال لقشرة تقشر من الكتاب: سَحَاةٌ وسِحَايَةٌ وسَحَاءةٌ. والجميع
سِحَاءات وسِحايات. وسَحَاءٌ مكسور ممدود، وسحاً مفتوح مقصور وسحايا، ويقال: سَحَوت الكتاب
سَحْواً وسَحَيْته سَحْياً، إذا قشَرْت منه قشرة. ويقال لها أيضاً خِزَامةٌ، ويقال لها أيضاً إضبارةٌ وضِبَارَةٌ
بكسر الضاد. ويقال ضبرْت الكتاب بالتخفيف وضبَّرته بالتشديد. والإضْبارَة هي السحاة، والإضبارةُ
أيضا صُحُف تجمع وتشدّد وكما يقال: سحوت الكتاب، كذلك يقال: سحوت الشَّحم عن الجلد أسْحوه
سحواً؛ إذا قَشَرْتَهُ عنه، ويقال أيضاً: سحوتُ الطين بالمسحاة سَحْواً.
وقد يقال سحيتُ بالياء أَسْحيه سحياً. والسَّحاةُ أيضاً والمِسْحاةُ الماعون الذي يُسْحى به الطين؛ أي
يُقشر.
قال النابغة:
رُدَّتْ عليه أناصيه ولبَّدَه
…
ضَرْبُ الوليدة بالمسحاة في الثَّأَدِ
وقوله، (ما أبهر لفظه ومعناه) أي ما أشد نوره وضياءه لأن الباهر الممتلئ نوراً. قال الأعشى:
حكمتماني فقضى فيكما
…
أبلجُ مثل القمر الباهر
وفي الحديث المروي عنعبد خير عنعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قلتلعلي أُصلي الضُّحى
إذا بَزَغَتِ الشمس؟ قال (لا حتى تَبْهر البُتَيْرَاءُ)، يريد بالبُتَيْراء: الشمس، أي حتى ترتفع الشمس
ويشتد ضوؤها، ويقوى شعاعها.
والباهر أيضاً المعلِنُ بالشيء، المظهر له حتى يعلم ويعرفه من كان يجهله،
وهو أيضاً المبْتَهِر، يقال منه ابْتَهر فلان لفلانة، أي ذكرها مُشتهراً بها، ومنه قول الشاعر:
وقد بَهرتْ فما تَخْفى على أحدٍ
…
إلاّ على أحد لا يعرف القَمَرا
قاله الخطابي وحكى عن ابن الفارسي عن الغلابي عن ابراهيم بن عمر في قول عمر بن أبي
ربيعة:
ثم قالوا: تحبُّها قلت: بهراً
…
عدد القَطر والحصى والتراب
قال: كنت أحسب قوله: بهراً، دعاء عليهم، كقولهم جَدْعاً وتَعْساً وبُعْداً وسُحْقاً وما أشْبه ذلك، كقول
ابن ميادة:
فَبُعْداً لقَومي إذ يَبيعونَ مُهْجَتي
…
بجارية بَهْراً لهم بَعْدَها بَهْرا
يدعو عليهم، من قولهم: بَهَرَهُ الأمر يَبْهَرُهُ بهراً إذا غلبَه، حتى فسرهالأصمعي؛ قال: معناه قلت لَهُم
مُعْلِناً غير مُكْتَتِم لذلك فأما حديث أبي موسى الأشعري وهوعبد الله بن قيس: حتى ابهارَّ الليل.
فقال أبو عبيد القاسم ين سلام الخزاعي البصري: بُهْرَةُ الليل: وسطه وقال أبو سعيد الضرير: قد يَبْهارُّ
الليل قبل أن ينتصف، وإنما ابهرارُه: طلوع نجومه إذا تتامت، لأن الليل إذا أقبل أقبلت فَحْمَتُه، فإذا
تطالعت نجومه واشتبكت ذهبت تلك الفَحْمَة.
رجع
وفي المعنى: كتابٌ كتَبَ إليَّ أماناً من الدَّهر، وهَنَّاني أيامَ العُمر. كتابٌ أوجَبَ من الاعتدادِ أوْفَرَ
الأعداد، وأوْدَعَ بياضُ الوِدادِ سوادَ الفُؤادِ. عَدَدتُه من حُجُول العُمْر وغُرَرِهِ، واعْتَدَدْتُهُ من فُرَصِ
العيْشِ وغُرَرِه، كِدْتُ أَبليه طيّاً ونَشراًً. قَبَّلْتُه ألْفاً ويَدَ حامِلِه عشراً. نسيتُ بحُسْنِه الرَّوْضَ والزَّهر،
وغَفَرْت للزمان ما تَقَدَّمَ من ذنْبه وما تأخر، هو أنفس طالع، وأكرمُ متطَلِّعٍ، وأحْسن واقع، وأجلَّ
مُتَوَقّعٍِ. سمْرٌ بلا سهر، وصفوٌ بلا كدَر. تمَتَّعْتُ منه بالنَّعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واسْتَلَمْتُهُ
استلام الحجر. هو نِعْمةٌ سابِغَةٌ، وحِكْمةٌ بالِغَةٌ، ألْصَقْتُهُ بالكبد، وشَمَمْتُهُ شميمَ الولد، أبْصرْتُ منه
الزَّهر جنِياً، واستنشقته المسك ذكياً، ووردتُ الماء مرياً، والعيشَ هنياً، وسمعتُ السِّحْر بابِلياً. مَطْلَعُهُ
مطلعُ أهِلَّةِ الأعياد، وموقِعُهُ مَوْقِعُ نيْلِ المرادِ.
وفي المعنى:
وردني أَعَزَّكَ الله كتابُكَ النير بسناكَ، والعاطرُ بشذاكَ.
يَسْبي كل مُهْجَةٍ ومُقْلَةٍ بِمُعْجِز (الصَّابي)
ومُخْجِل (ابن مقلة) يختال من خُضْرِ السنادسِ في أرفع
الملابس. زاهية أرضُهُ منْ رُقوم بَنانِكَ، حاليةٌ سماؤُه من نُجوم بيانك. كتابٌ يقود من البلاغة كتائب،
لم يُعد مثلها مهلهل في الذنائب تلقَّيْتُه تَلَقِّي الأمير المعظم، وصافحته مصَافَحَةَ الأثير المُكَرَّم، لَمَحته
فكان أحسن من وَرْدِ الأسِيلِ، واسْتَفَْحْتُهُ فكان أطيبَ منْ برْد الأصيل، وعايَنْتُ بِعُذوبتِهِ حر الغليل،
فَصُنع صُنْعَ الزُّلال، عُرِضَ للشَّمالِ في الدِّمَن جنا النَّحل، وأطرف من بواكر النَّخْلِ.
فيَالكَ من جديد جَدَّدَ أُنْسِي، وردَّ من عصرِ الشباب أَمْسِي، مَجَّدني بحديقة تَنِمُّ بأنفاسٍ عبيقة لأبْكارِ
معانٍ حُلينَ بِدُرٍّ ألْفاظٍ، أسْحَرُ من غَوان، يَقْتُلْنَ بسحر ألحاظ. تَجْتَلي العيون ببستانه أبهى زَهْر،
وتَجْتَني القلوب من أفْنانه أشهى ثَمر، رَوضٌ طَرَّزَ البنفسج بهاره، ونوَّر الليل نُواره، فَنِقْسُه نوره،
والبياض كافوره، يُذَمُّ له الحَلْيُ المُزَيَّنُ، ويَحْسُدُ رقمه الوشيُ المُعَيَّنِ كالمِفصل ذي الشذور، على
نُحُور الحور.
قال أبو إسحاق:
هذا كلامٌ فائقٌ، ومْزْدوج رائق، وليست هذه الألفاظ أظنها دُُرراً وغرَراً، أحظى عند النّفوس من
يُسراها وأحْلى في العيون من كَراها. آمالٌ مجموعة، ومحاسن مزيَّنة مسموعة.
رياحين أرواح، وصبوح تُعُوطِيَتْ على وجه الصَّباح.
وفي المعنى أيضاً:
وافَتْني أطال الله بَقاءكَ، أحرفٌ كَأَنها الوشم في الخدود. تميس في حلل إبداعها كالغُصن الأملود،
وإنك لسابِقُ هذه الحلبة التي لا يُدْرَكُ غُبارها في مضمارها ولايضاف سرارك إلى إبدارها.
وما أنت في أهل البلاغَة إلا نكتة فلكها ومعجزة تتشرف الدول إلى تملكها وما زالت تشيد البناء،
وتُخَلِّد الثَّناء، وَتحفظ الأرجاءَ، وتمُدُّ الرجاء.
وفي المعنى أيضاً:
ورَدَني - أعزك اللَّه - كتابٌ ألَذ من مراشِفِ الأحباب الأتراب جلوت منه زهر المعاني في رياض
الشعر، وعروس الأماني، الربيع قبل أوانه فتقسم نظري بين شقائقه وحوذانِه ووَرْدِه من أبكارِ درر،
وأنواع غُرر بعضها من بنات الفِكْر، وبعضها من آيات مبتسمة منه، وألْسنة سُرُركَ ناطقة عنه،
فَطَرَد العبوس النفوس، وكان خطاباً ما أحسب، وبياناً ما أعذب! ملأ جوانحي مسرة، وبسط نكير أن
يصير روض النهي في حُلى روض الرُّبا، ودُرر الأفكار البحار. ولما ارتفع ناظري
في تلك المراتع، ورَبَع خاطري في تلك المرابع، هَزَّتْني وازْدَهَتْنِي خِفَّةُ الأزمنة، فلو كنت ممَّن يشرب الراحَ، لطِرْتُ
بلا جَنَاحٍ.
وفي المعنى أيضاً:
لَوِ اتخذتَ - أَيَّدَكَ الله - حُرَّ وَجْهي طِرْساً، وإنْسانَ عَيْني نِقْساً، وما في الأرض من شَجَرَة أقلاماً
على حين ألْهمتُ الحكمة إلهاماً، لما بلغت ما في الضمير من كرَمٍ وخَيْر فَعُذْراً عُذْراً في الحصر، عن
جلاء تلك الغُرر
ذلك الغَمْر بالغُمَر. ووافاني خِطابُك الكريمُ نظماً ونثراً، رقيق الحواشي ولا نَزْراً فاقتطعتُ منه زَهراً
وورَدْتُ به المُنى بَحراً. وما هذا الإعرابُ والكَلِمُ خطبة وشِعْرٌ، أم فِتْنَة وسِحْرٌ؟ شَدَّ ما أبْدعَ أحدهما.
فَكَيْفَ إذا اجْتَمَعا: نَظْمٌ ونَثْرٌ رائعُ الأعلام، يَقْرُبُ من الأَفْهام، وَيَبْعُدُ نَيْلُه عن الأوهام. أحسَنُ ما أمْلاهُ
خاطر، ناظر. يالها من ألْفاظ ومعانٍ، اطَّرَدَتْ في سلكِ إبداع وبيانٍ، نفعت به النِّعَمُ الروائح والغَوادي،
وَوَرَيْتُ بِمُضَمَّنه زِنادي، وأخْصَبَ من مُسْتَوْدَعه مُرادي، وتصفَّحْتُ منه الطَّوْل
وَافِيَ الذَّوائب متَّصل السحائب، وألْبَسْتُ ثوب الإجمال سابِغَ الأذيال واسع الأظْلالِ، فلقد اشتَمَلْتُ على البيان، وأصبحت
بديع هذا الزمان.
وفي المعنى أيضاً:
وقَفْتُ - أعَزَّك الله - على كتابك، فأجَلْتُ نظري حلال، وفتقت به ثبج بحر إلا أنه زلال، فرأيت
كيف يَزْدَحم في العلم من البلاغة في المذهب الأَمَم، فما شئت من فقرة محذوة بأمثالها بأشكالها، مما
اتصلت به يد الإحاطة، بصحة البراعة، وتزينت الصناعة. فهو مُؤْنسي، شغل مَجْلسِي. أخدْ بيانه
بحاستي سمعي وناظري حافتي فكري وخاطري. وأراني الدُّرَ إلَاّ إذا لم ينظم، والسحر لو صيغ عقداً
لأخْجَلَ الدُّر والعقيان، أوْحيك برداً لعطل الديباج يَهُزَّ أعطاف الضمائر، ويسري في الخواطر، وتتلقاه
النفوس تلقي إلى بَدائِعِه، فِتْنَة بِمبادِئه ومقاطعه. فللَّه قريحةٌ أذْكتْ ناره. وأَطْلَعت أنواره لغير جَهام،
وأن سيفها لغير كهام، وإنّ ثمدها لَعِدُّ وَبِحَار، وإن زَنْدَها لَمَرْخٌ وعفار. طلع علينا طلوع البدر في
الغسق، وضمَّخ أُفُقَنا بخَلُوق ذاك الخَلَق، زند ذكائه فأورى، ولمحنا
كوكب سمائه فأعْشى، وشاهدنا به
البلاغةَ والرئيس المتعاطي للفصاحة مرؤوساً، وتَحَقّقْنا أنَّكَ علم العلم وشهابُ لم يَزَل يجري قصبُ
السبق في مَيَادينه، ويهدي الفصَّ من رياحينه.
وفي المعنى أيصاً:
وقَفْتُ على ما أتْحَفَني سيدي من نظْمه البديع، وخَطِّه المزري بزَهر الربيع، موشحاً بِغُرر ألْفاظِه
التي لو أُعيرتْ حِلْيَتُها، لَعُطِّلْتْ قلائدُ النُّحُور، وأبْكار معانيه التي لو قُسِمَتْ حلاوَتُها، لأعذَبَتْ موارد
البُحور. فَسَرَّحْتُ طَرْفي في رياض جادتها سحائبُ العلم والحكم، وهبَّ علينا نسيم الفضل والكرم،
وابْتَسَمت عنها ثُغُورُ المعالي والهمم. فلم أدرِ، وقد حيرتْني أصنافُها، وبَهَرَتْني نُعوتها وأوصافها، حتى
كستْني اهتزازاً وإعجاباً. وأنشأت بيني وبين التماسك ستراً وحجاباً.
أَدَهَتني بها نشوة راحٍ؟ أم ازْدَهتني لها نخْوَةُ ارتياح، وانتظم عندي منها عقد ثناء وقريض؟ أم قَرَعَ
سمعي غناء معبد وغريض فياله من كتاب حوى رُتْبة الإعْجازِ والإبْداع، وأصبحَ نُزْهة القلوب
والأبْصار والأسْماع، فما منْ جارحة إلا تود لو كانت أُذْناً تَلْتَقِطُ دُرره وجواهره، أوعيناً تجْتَلي
وتجتني مناظره، أوْ لساناً يدْرُسُ محاسنه ومفاخره.
وفي المعنى أيضاً:
كتاب كريْعان الشباب، وكلام كجريال المُدامِ، وخَطٌّ في رُقْعَتِه كزهر الربيع ووشم في صحيفة كدر
النُّحور رُقِّقَ في نِظامه. روضٌ جاده من العَلْم
صَوْب قلمك، وهب فيه نسيم آدابك، وطلعت عليه
شمس ذُكائك والْتهابك علمك، وافترَّ عنه صدف فهمك، نَظَمَتْه يدُ براعَتكَ، وأسلكته فَيَالك من روض
صبرت قاطفه ناظري، وناهيك عن عقد جعلت حقه خاطري هو كتاب كريم، أُلْقي إليَّ من أخٍ حميم،
ما زِلْتُ أنْظرُ من حبْره في ليل مسود عن صُبْح الود، فقلت عنْدَ ذلك: لِلَّهِ دّرّ مُهْدِيه، وبنفسي أَفْديه،
من صديق صادق الإخاء، صحيح الوفاء، قَيَّدني بِقَيْد بِرِّه، فوَنَيْتُ عن غاية شُكْره.
قوله: (وجعلت حُقه خاطري) الحُقُّ بضم الحاء، وعاء مستدير من خشب. قال:
وثَدْياً مثلَ حُقّ العاج رَخْصاً
…
حصانا منْ أَكُفِّ اللامِسيناَ
وتُسَميه العامة حُقَّة. والجميع: الحُقَقُ. قال رؤبة بن العجاج:
سوَّى مَساحِيهنَّ تَقطِيطَ الحُقَقْ
الحُقَقُ والحُقُّ أيضا: أصل الورَكِ الذي فيه رأْسُ عَظْم الفخد. والأحَقّ من
الخيل الذي يضع حافر رِجله في موضع حافريه إذا مشى، وهو عَيْبٌ قال الشاعر:
فَأقْدَرُ من عتاق الخيل نَهْد
…
جوادٍ لا أحقُّ ولا شَئِيتُ
الشئيت: الذي يَقْصُر موقع حافر رجله عن موقع حافر يده، وهو عيب. والأقدر الذي تجاوز حافرَ
رجله موقع يده وهو مدح.
وقال أبو بكر بن دريد الحِقُّ من الإبل هو الذي استحقتْ أمُّه من العام الثالث الحمل. سمي الذكر حِقّاً
بكسر الحاء، والأنثى حِقَّةً وهو حينئذ ابن ثلاث سنين في قولالأصمعي، قال الراجز:
إذا سهيْلٌ مَغْرب الشمس طَلَعْ
…
فابنُ اللَّبُونِ الحقُّ والحِقُّ جَذَعْ
وقال آخرون إنّما سمي حِقّاً لأنه استحق أن يحمل عليه. ويقال: أتت الناقة على حقَّها إذا جاوزت
وقت نتاجها. وأجممعوا على أن الحِقَّ دون الجَذَع من الإبل بسنة، وذلك حين يَسْتَحقَّ الركوب.
والأنثى حقة إذا استحقت الفَحْل. وتجمع أيضاً على الحقائق.
قال الشاعر:
ليست بأنياب ولا حَقَائِقِ
…
بِيضٌ جلاء ذات مخ زَاهقِ
والفعل منها حقَّتْ تَحِقُّ حِقَّة. فالحِقَّةُ مصدر.
وقال صاحب العين الحَقُّ نقيض الباطل. تقول: حقَّ الشيء يَحِقُّ ويَحُقُّ حقّاًً: معناه وَجَبَ وجوباً.
والحقيقة ما يصير إليه حقُّ الأمر ووجوبه، تقول بلغْتُ حقيقة هذا أي بلغت يقين شأنه. وفي
الحديث: "لا يبلُغُ أحدكم حقيقة الإيمان حتى لا يعيب على مسلم بعيب هو فيه) وحقيقة الرجل ما لَزِمَهُ
الدفاع عنه، من أهل بيته. والجميع: الحقائق ويقال: أحق الرجل يُحِقُّ؛ إذا قال قولاً حقا وادعى حقاً
يوجب له.
وفي كتاب الله تعالى (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) والحَاقَّةُ اسم القيامة والنازلة التي حقت فلا كاذبة لها.
ويقال أحقَّ فلان الحق، إذا أظْهره حتى يعرف أنه حق. ومنه قوله تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) وأصل الباب كله وضع
الشيء في موضعه. والحقُّ: الصدقُ والصواب والصحيح نظائر في اللغة.
رجع
قال أبو إسحاق:
ومما اخترتُ في هذا المعنى من المنْظُوم، وانْتخَبْتُ من الكلام المفْهوم، الفائت شأْوُه، العذب صفوه،
الذي مزَجَ من الفصاحة بالرِّقة والحلاوة، ولاحتْ عليه من البلاغة غَضارة وطلاوة، واشتملت أَلْفاظُه
على أنواع الإبداع، كما اشتملت على النَّوْر الأقماع، وبدت عليه للبيان شواهدُ، أَيَّدها اختبارُ الناقد،
بأنها أسنى الفوائد، وأنفس الذخائر والقلائد، كلام تعمر به أندية الأنس والسرور، وتشفى به من
الأوصاب النفوس والصدور، ويَصْقُلُ صدى الألباب، وتوشح حدائق الآداب.
فلو نُظِمَ في سلك لزُيِّنَتْ به النُّحور، وأغْنى عن درِّ البحور. لَفْظٌ كأنَّما شُربُ الشَّمول مَمْزوجة
بالسَّلْسبيل. لو شاء أن يذهب في صخرة تسهل الطيب له مذهباً. يوقظ الأنس من نومته ويَشْتَهيه،
ويوقد شهاب الذِّهن الخامد ويشهيه. فمن ذلك المنظوم العذب الذي يُسْني كُلَّ لبٍّ، قول أبي القاسم بن
الجد:
أما ونسيمُ الروض طاب به فجر
…
وَهَبَّ له من كل زاهرةٍ نَشْرُ
تحامى له عن سره زهر الرُّبى
…
ولم يدر أن السر في طيه نَشْرُ
ففي كل شُهبِ من أحاديث طيبِه
…
تمائمُ لم يعلقْ بحاملها وِزْرُ
لقد فَغَمَتْني من ثنائك نفحةٌ
…
يُنافسني في طيب أَنْفاسها العطرُ
تَضَوّعَ منها العنبر الورد فَانثنتْ
…
وقد أوهمتني أنَّ منزلها السحرُ
سرى الكِبْر في نفسي بِهَا ولربما
…
تجانف عن مسرى ضرائبي الكبْر
وَشِيبَ بها معنًى من الراح مُطْرباً
…
يُخَيَّل لي أن ارتياحي بها سُكْرُ
أبا عامرٍ أَنْصِفْ أخاك فإنه
…
وإياك في مَحْضِ الهوى الماءُ والخمرُ
أَمثلك يبغي في سمائي كوكباً
…
وفي جوك الشمس المنيرة والبدرُ
وَيَلْتَمِسُ الحصباء في ثغَبِ الحصى
…
ومن بحرك الفياض يُسْتَخرج الدُّرُّ
عَجبتُ لمن يهوى من الصُّفر تومة
…
وقد سال في أرجاء معدنه التبرُ
قوله، (سرى الكبر في نفسي) يقال: سرى وأسرى لغتان معاً نطق بهما القرآن. قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)
وقال تعالى وجل (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي) فهذا من أسرى. وأجمع القراء على الهمز في قوله تعالى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) في سورة (هود)
و (الحجر) و (الدخان)(أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) في (طه) و (الشعراء) إلا الحرميين، فإنهما لم يهمزا، لأنه عندهما من سرى
يسري. وقال لبيد:
إذا المرء أسرى ليلة ظنَّ أنه
…
قضى عملاً والمرء ما عاش عاملُ
وقال امرؤ القيس:
سَرَيْتُ بهم حتى تكِلَّ مَطِيُّهم
…
وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ
فأما بيت النابغة:
سَرَتْ عليهِ من الجوزاءِ سارِيَةٌ
فيروى على الوجهين: سرتْ وأسْرَتْ.
وقوله:
أَمِثلُكَ يبغي في سمائي كوكباً
البيت
كقول أبي تمام:
أعندك الشمس قد راقت محاسِنُها
…
وأنت مشتغلُ الأحشاء بالقَمَرِ
وقال أبو القاسم أيضاً:
سلامٌ كأنفاس الأحبة موهناً
…
سرت بشذاه العنبري صبا نَجْدِ
سَلامٌ كإيماض الغزالة بالضُّحى
…
إلى الروضة الغناء غبّ الحيا العِدِّ
على من تحَرَاني بمعجز شكره
…
فأعجز أدنى عفوه منتهى جَهْدِي
غَزَاني من السحر الحلال بلأمةٍ
…
مضاعفة التأليف محكمة السَّرد
دلاصٍ من النَّظم البديع حصيفَةٍ
…
تردُ سنانَ السَّيف مُنْثلم الحَدِّ
عليهامن الإحسان والحسن رونقٌ
…
كماديسَ متنُ السيف من صدإ الغِمْدِ
وفيها على الطبع الكريم أدلة
…
كما افترَّ ضوءُ السقط عن كرم الزند
أبا عامرٍ لا زال رَبْعُكَ عامراً
…
بوفد الثناء الحرِّ والسؤددِ الرَّغْدِ
لقد سُمتني في حومة القول خطةً
…
لففتُ لها رأسي حياءً من المجدِ
قوله: (غِبَّ الحيا العد) أي: آخر الحيا وعقبه، والحيا: المطر.
وقال النابغة الذبياني:
إذا حل في الأرض البرية أصبحتْ
…
كئيبةَ وجهٍ غِبُّها غيرُ طائلِ
أي آخر أمرها.
وكتب أبو الحسن بن الزقاق إلى صديق له:
سلامٌ كما نَمَّ النّسيم عُلا الزَّهر
…
وخاضت جُفُونُ العين إغفاءة الفجر
وهزَّ هُبُوبُ الريح عطف أراكة
…
فمالت كما مَالَ النزيفُ من السُّكْرِ
على منْ إذا وَدَّعْتُه أوْدعَ الحشَى
…
لَهيباً تَلَظَّى في الجوانح والصَّدرِ
ومنْ لمْ يَزَل نَشْوانَ من خمرة الصبا
…
كما لمْ أزَل نَشْوانَ منْ خَمْرة الذُِّكرِ
عسى الله أَنْ يُدْني التَّزاور بيْنَنا
…
فَأُنْقَلَ من عُسْر الفِراق إلى اليُسْرِ
قال: وكتب أبو الحسين بن جبير إلى أبي عبد الله الرصافي مستنجزاً عدته في منظوم وعده به:
ألا هَلْ نسيمٌ للرصافيِّ مُبْلغٌ
…
تحيةَ مشتاقٍ يُفَتِّقها زَهْرَا
فتىً كلما استعرضْتُ بالخير ذاته
…
زكتْ مثل ما خَلُصَت من سبْكه التِّبرا
عَلقْتُ به في الدهر عِلْقَ مضنة
…
فأعددته ذُخْراً وحَسْبي به ذُخرا
فأدَّتني الأيام منه مودة
…
عَقَدْنَا على حُكْم الإخاء بها صهرا
على أن سيُهديها إليَّ عقيلة
…
من الفكر يُثني الطرس من فوقها خدرا
ولَمْ أَتَّهم تَسْويفَه غير أنني
…
أَقُولُ له شوقي لعل له عُذراً
فكتب إليه أبو عبد الله مراجعاً:
لنعم القَوافِي الزُّهْرُ يَمّمَ راكبٌ
…
فحلَّ فحيَّاني بها تُحفةً بِكْرا
مَسَحْتُ على عيني مُسْتَشْفياً بها
…
وقَبَّلْتُها، شُكْراً لِمُرْسِلها، عَشْرا
وغُصتُ على مكْنونها فوجدتُهُ
…
من الكَلم الرَّطب الذي يصفُ الدُّرّا
خلا أنها كادتْ تسيل لُدُونَةً
…
فَجَفَّ عليها حِبْرها صَدَفاً خُضْرا
ملاح صفاتِ الخطِّ حتى كأنها
…
تَصَوّر فيها الحُسْنُ سطراً يلي سطرا
فوالله ما أَدْري أآيةُ كاتبٍ
…
أم الا
…
اسْتبدَّتْ به سحرا
أمِ ابن جُبير إذْ وَشتْها يَمينه
…
أراني بها غُصناً من النّور مُفْتَرا
فإنَّ كثيراً ما تناول مهرقاً
…
.........
وهل هي إلا نفحة من ودادِه
…
تُطَيِّبُني عَرفاً وترجَح بي سُكْرَا
تنفَّس ......
…
.........
أيا منهضي من حيث آتي مُقَصِّرا
…
وقابل عذري
…
العذرا
......
…
.........
فليتك في صدري كما أنت حاضرٌ
…
وقد ركب
…
وانتهبَ الشعرا
......
…
.........
لقد
…
أني عنيت بأمرها
…
فلم أُخْلِ من شغلي بها الفكر والصَّدرا
ولكن لها عذرٌ سيبدو وإنَّما
…
أشيرُ له نظماً لأذكره نثرا
وكلام أبي عبد الله عذب سَهل، ونظمه مثقف
…
الإصباح، بل كما انشق البدر ولاح، أعْبَقُ من
المسك، وأعذبُ من صفْو المُدام، شيبَ بماء الغمام، وكان كثير
…
كلامه، فائز المقداح في نثاره
ونظامه. ذكرلي من طريف أخباره. وأنْشدني بديع أشعاره، من أثق به من بعض إخوانه مِمَّن يشهد
مجالس أُنْسه في عصره وزمانه، وعمَّر معه أندية السرور بالغداة والعَشِيِّ، واختص به اختصاص
الماء بالرَّيِّ.
ومن شعره المليح الطَّيارِ، المَتْلوّ في الآفاق والأقطارِ، قوله:
طَرَقَتْ مطْلَعَ الثُّرَيَّا وَوَلَّتْ
…
والثُّريَّا تَشُمُّ رِيحَ الوقوعِ
تَحت جُنْحٍ منَ الدُّجى أَوْ رَثتهُ
…
عَبقاً في قميصه المخلوعِ
أَيُّها الليل هَلْ دَرى البَدْرُ أنِّي
…
بتُّ من أُخْتِه مكان الضَّجيعِ
أمكنتني من العناق فلما
…
جلبَ الفجر ساعة التوديع
عمدَتْ بردها بغصنٍ وقامتْ
…
تنفضُ الطل أحمراً من دُمُوعِ
وقوله:
أيُّها الآملُ خَيْمات النَّقا
…
خَفْ على قَلْبك تِلْكَ الحَدَقا
إنَّ سِرْباً حُشيَ الحيُّ به
…
رُبَّمَا غرك حتى تَرْمُقا
لَاتُثِرْهَا فتنة من ربربٍ
…
ترْعد الأسْدَ لديهم فَرَقَا
وانجُ عنها لحظةً سهميَّة
…
طالما بلَّتْ ردائي عَرَقََا
وإذا قيل نجا الركْبُ فَقُلْ
…
كَيْفَمَا سَالَمَ تلك الطُّرُقا
يا رماةَ الحي موهوبٌ لكم
…
ما سَفَكتم من دمي يوم النَّقا
ما تعَمّدتُم ولكن سَبَبٌ
…
قَرَّبَ الحَيْنَ وأمرٌ سَبَقا
والتفاتاتٌ تلَقَّتْ عَرَضاً
…
مَقْتَل الصَّب فَخَلَّتْهُ لَقَى
وعذابٌ شاء أنْ ألْتَذّه
…
سفَه الحبِّ ومحتوم الشقا
آه من جفنٍ قريح لم يزل
…
بعدكم في بحر دمعٍ غرقا
وحشاً غيرِ قريرٍ كلَّما
…
رُمْتُ أن يهدأ عنكم خفقا
وفؤادٍ لم أضَعْ قطّ يدي
…
فوقه خيفة أن يحترقا
ما بنجم عكَفَتْ عيني على
…
رعْيه ليس يَريمُ الأُفُقا
ولعين خلعت فيه الكرى
…
كيف لم تخلع عليه الأرقا
أيها النوام ما أهدأكم
…
عن قلوبٍ سَهَّدَتْنَا قلقا
ما الذي تبغون من تعذيبنا
…
بعد أن ذابت عليكم حُرَقا
قومنا فوزُوا بسلوانكُمُ
…
وَدَعُوا لِلَّهِ من تشوقا
وارحموا في غسق الظلماء مَنْ
…
بات بالدمع يَبُلُّ الغَسَقَا
علِّلونا بالمنى منكم ولوْ
…
بخيَال منكم أن يَطرقا
وعِدُونا بلقاءٍ منكم
…
فكثيرٌ منكمُ ذِكْرُ اللِّقا
لو خَشِينا الجَوْرَ من جيرَتنا
…
لانْتَصفنا قبل أن نفترقا
واصطبحنا الآن من فضلة ما
…
قد شربنا ذلك المُغْتَبَقا
فسقى الله عشياتِ الحمى
…
والحمى أكرم هَطَّال سَقَى
قد رُز قناها وكانت عيشةً
…
قلَّما فازَبها من رُزقا
لا وَسَهمٍ جاء منكم نحونا
…
إنه أقْتل سهم فُوِّقا
وحُلَى نجدٍ سَنُجري ذكرها
…
أوْسَعَتْنا في الهوى مُرْتَفَقا
ما حَلَا بعدكمُ العيشُ لنا
…
مُذْتبا عدتُمْ ولا طابَ البقا
فمن المنْبي إلينا خَبَرا
…
وعلى مخبرنا أن يصدُقا
هل درتْ بابلُ أنا فئةٌ
…
تجعل السحر من السحر رُقى
تنْقُشُ الآية في أضلاعنا
…
فتقينا كلَّ شيء يُتَّقَى
من بيان الوزر الأعلى
…
الذي يخجل السحر إذا ما نطقا
إلى غير هذا من كلامه الجزل، الدال على ذكاء الطبع والنبل.
رجع
وكتب إليه الأديب أبو بكر بن الأغر رحمه الله:
رعى الله طِيباً زار في النوم مضجعي
…
وقد رَنَقَتْ عيني ترومُ غِرَارَا
يقولُ أنا العَبْقُ الرصافي فاغتنمْ
…
حَدِيثِيَ دُرّاً تارةً وعُقارا
فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحباً
…
بِأكرم طيب في التغبة زارا
فمَتَّع سمعي لؤلؤاً منْ حديثه
…
وخامر عِطْفِي نشوةً ووقارا
وسارَ وأَبقى من سنىً ومودَّة
…
بعينيَّ نوراً وَِلقَلْبيَ نارا
فراجعهُ أبو عبد الله رحمه الله:
يضيءُ بعيني كُلَّما شقَّ لحظُها
…
إذا أفُقِي، ياابنَ الآغَرِّ، أنارَا
أخٌ شطَّت الأوطانُ بيني وبينه
…
فلم نَغْنَ إلَاّ بالوداد جوارا
إذا أتلفتْ منا النفوسُ سجيةً
…
فما ضرَّنا في أن نُشتِّت ديارا
أقيه بنفس قد نشرتُ إخاءه
…
عليها دِثَارا في الورى وشِعَارا
وقولُ أبي بكر رأيتكَ في الكرى
…
وقد رنقتْ عيني ترومُ غِرارا
ألم يدر أنِّي مذْ كَلِفتُ بقربه
…
خيالٌ إذا اشتاق الزيارة زارا
وأنَّ بعيداً أن ترى العينُ مثله
…
أشدَّ اهتزازاً للعُلى ووقارا
رجاحةُعلم صادفَ النُّبلُ عندها
…
مكاناً فكانا مِعْصماً وسِوَارا
يميناً أبا بكر، وأحلفُ صادقاً
…
وقد قُلتها، فيما أظُنُّ مرارا
لقد كِدْتُ، والرُكبانُ تَسْري بذِكْرِكم
…
أطير إليكم لو وجدتُ مَطَارا
فهل عندكم أنِّي أرى باجتماعنا
…
...... كبارا
سُررتُ بكم حتى كأن لقاءكم
…
ثَنَى مِعْطفى لدن المهز
وحتى كَأَني من مُصَافَحتي لَكُم
…
.........
ولما تنازعنا الأحاديث بيننا
…
رأيتُ بياني في اللسان مُعَارا
وأني في قَصْدِي سبيل خطابكم
…
كمن غار ......
فلقَّطها منكم لآلئ منطق
…
تُخَاضُ إليهن العلومُ بحارا
فوالله ما أدري لحسن حديثكم
…
أَأُلْقِيتُ سِحْراً أم سُقيتُ عُقارا
ودارُ أبو إِسْحَاق لاذُمَّ عهدها
…
سأشكر منهاللزمان نهارا
وساعاتُ أُنس قد نَعمنا بها معاً
…
جَنِيتُ بها بيضَ الأماني ثِماراَ
الطرف من فرحي بها
…
وتو جدأوقات السرور قصارا
وكتب إليه الأديب أبو بكر الكُتَنْدي رحمه الله:
أعندكمُ يا ساكنَ الرَّي أنكم
…
بمرأًى على بُعْد المسافة من حِمْصِ
أتقضي الليالي أن تُلِمَّ بمنزل
…
ألفناه ما بين الأراكة والدِّعصِ
وإني حريصٌ أن يَعودَ كما مضى
…
زمانٌ وما حِرْصُ المقادير من حرصي
فراجعهُ أبو عبد الله بقوله:
سلامٌ أبا بكر عليك وَرَحْمَةٌ
…
تحيةَ صدق من أخٍ بك مُخْتصِّ
لَعَمْري وما عمري بصدع زجاجة
…
عليك فقد تُدني الليالي كما تُقصي
لقد بان عنِّي يوم ودَّعتُ صاحبٌ
…
بَرِئُ أساليب الوداد من النَّقْصِ
أقول لنفسي حين طارتْ بك النَّوى
…
أخوك فريشي من جناحك أوْ قُُصِّي
فباتت على ظهر اليراع إليكمُ
…
تطير بها في الوَكْر أجنحةُ الحرْص
إليَّ أَبَا بَكْرٍ نَحومُ بِأَنْفُسٍ
…
ظِماءٍ إلى عهد الأُجَيْرعِ أو حمص
كأنْ لَمْ نَزُرْ تلك الرُّبى وكأنها
…
عرائسُ تزهاها المواشِيطُ للنصّ
ولا رتعت تلك الأراكة فوقنا
…
تلوث إزار الظل في كَفَل الدِّعصِ
وكانت لنا فيما هناك مآربٌ
…
نُطيع الهوى العذريَّ فيها ولا نَعْصِي
ليالينا بالرَّيِّ والعيشُ صالحٌ
…
وظلُّكَ عنها غير منتقلِ الشَّخْصِ
وما ذكْرُها إلا شفىً من علاقةٍ
…
تَتَبَّعُها نفسي تتبُّع مستَقْصي
وددتُ أبا بكر، لَوَ انَّنِي عالمٌ
…
وللكونِ زندٌ ليس يُقْدَحُ بالخِرصِ
هل الغيبُ يوماً فارجٌ لي بابه
…
فأنظر منه كيف أُنْسُكَ في حِمْص
بأزرقَ مسلول الحسام معَرْبدٍ
…
إذا عَبَّ في كأسٍ تحرك للرقص
ومَا مٍعْصَمٌ ريَّانُ دارَ سِوَارُهُ
…
على مثل ماء الورد في بَشَر رَخْصِ
بأبهج منه في العيون إذا نهى
…
ولا سيما والشَّمْسُ جانحةُ القُرصِ
خليجٌ كخيط الفَجْر تنْجَرُّ فوقه
…
ذُيُولُ عَشِياتٍ مُزَخرفةُ القُمْص
وقال أيضاً:
بانة الجِزْعِ هل لديك وفاءٌ
…
فَيُدَاوي جوىً ويحفظ عهدُ
هكذا تَنقضي حُشَاشَةُ نفسي
…
ظَمَأ هكذا وماؤك عِدٌّ
بانة الجزع كيف آملُ بُقْيَا:
…
أملٌ لا عبٌ وشوقٌ مُجِدُّ
بِدَمي أنت ما تَرَجَّح ظِلٌّ
…
منْ كثيب وما ترنَّح قَدُّ
ليت شعري هَلْ يمزجنَّ هجيرٌ
…
شخص ظلي بشخص ظِلِّكَ بعدُ
وقال أيضاً وهي من أَنْبل شعره، وأجمل بنيات فكره:
أدِرْها فالغمامةُ قد أجالتْ
…
سيوف الماء في لَمم البطاحِ
وراق الروضُ طَيْلُوساً بهياً
…
تُرَدّدُ فيه أنفاسُ الرياحِ
تقول وقد ثَنى قزحٌ عليه
…
ثياب الغيم مُعْلًمَةَ النواحي
خُذوا للصحو أُهْبَتَكم فإني
…
أعرتُ المزنَ قادمتيْ جناحِ
إلى غير هذا من كلامه المسبوك تبره، الرائق جمانه ودره.
وقال أبو محمد بن سفيان في المعنى:
باابن الملوك أَتَتْني منك معجزة
…
تنأى وإن قربت في عين راجيها
يشق سامعها من جيبه طرباً
…
ويسمع الصخرة الصماء داعيها
لو أن هاروتهم لَاحَتْ لناظره
…
لقال ما السحر إلا بعضُ ما فيها
سِجِلَّةٌ هي لا بل روضةٌ رشفت
…
ريق الغمامة فاخضرَّتْ حواشيها
وقال أبو بكر بن عمار في المعنى:
لولا الصَّحِيفَةُ ما سلوتُ فإنه
…
قد قام منها لو علمتَ مقامُ
وصلتْ إليّ مع الأصيل وإنما
…
وصلتْ إلي حديقةٌ ومُدامُ
برْدٌ من الكافور نمنم درجه
…
مسكاً ودر عليه عنه ختامُ
من قطعة هي قِطْعَةُ الديباج أو
…
هي قطعة البستان وَهْيَ كلام
فكأن أسطرها غصون أراكة
…
ومن القوافي فوقهن حمام
نادَمتها والراح يُلْهِبُ كأسها
…
عذب اللمى سَاجي الجُفُونِ غُلامُ
وتشاكلا حسناً فعانق قدَّه
…
أَلِفٌ وعارض عارضيه لَامُ
وقال أبو بكر أيضاً:
لله درُّ عقيلة أبرزتَهَا
…
من خِدْرِ فكركَ في حُلى الإنشادِ
فرعاءُ عاطرةُ الذوائب واللَّمَى
…
غيداءُ حاليةُ الطُّلَى والهادي
خَلُصَتْ إليَّ مع الأصيل فعارضتْ
…
صِلة الحبيب أَتَى بلا ميعَادِ
خَطٌّ من النظم البديع أفادني
…
حَظ الكرام وخُطَةَ الأمجادِ
وشيٌ سختْ يدك الصناع برقمه
…
فَكَسَوْتنيه مُذَهَّباً بأياد
يفدي الصحيفة ناظري فَبياضُها
…
ببياضه وسَوادُها بسوادِ
أهدي تحيتك الزكية طيبها
…
كافور قرطاسٍ ومِسْك مدادِ
وقال أبو بكر أيضا:
ألفظُكَ أم كأسُ الرحيق المُعَتَّقِ
…
وخَطكَ أم روضُ الربيع المنمَّقِ
ونظمك أم سلكٌ من الدر ناصعٌ
…
يروق على جيد العروس المطوَّقِ
بعثت بها يا قطعةَ الروض قطعةً
…
فَغَمتُ بها عرف النسيم المخلَّقِ
ثلاثة أبيات وهيهات إنما
…
بعثت بها الجوزاء في صفْح مُهرقِ
هي السحر أسرى في النفوس من الهوى
…
وكيف يكونُ السحر في لَفْظِ مُنْطَقِ
وهذه الأبيات في قطعة كتب بها إلى المعتصم جواباً على ثلاثة الأبيات التي ودعه المعتصمبها حين
استأذنه ابن عمار في السراح من عنده (بالمرية). وأبيات المعتصم هي قوله:
يا فاضِلاً في شكره
…
أصلُ المساء مع الصَّبَاحِْ
هلاّ رفقت بمهجتي
…
عند التكلم بالسّراح
إنَّ السماحَ بِبُعدكم
…
والله ليس من السَّماحْ
وقال أبو الحكم بن مذحج في المعنى:
أمَا وعقيلةٍ لك غازَلتني
…
بغُنْج السِّحر من جَفْنَي فلانِ
لقد أهديتَ لي منها عروساً
…
معرّسُها سُويداءُ الجَنَانِ
جَلَتْ من رقة التعريض صفحاً
…
أرقَّ من الحسام الهندواني
وَأَخْشَى أن أكون لها ظلوماً
…
إذا سمّيتها سحرَ البيان
وهذه الأبيات في قطعة له راجع بها ابن عمه أبا الوليد بن حزم عن أبيات كتب بها إليه، أولها:
أَعمروٌ كم أُطامنها حياءً
…
فَتُطْغِيها معاتبة الأماني
وإنْ وقف الغَرامُ بها قليلاً
…
فعذْرُ أخيك في جفنيْ فلان
وقال أبو الحسين بن سراج في المعنى:
كتابٌ يزدري بالسحر عيناً
…
وسمتَ به زمانَك وهو غُفلُ
معانٍ تَعْبَقُ الآفاق عنها
…
يشيب لها حَسُودك وهو طفلُ
وقال أبو الحسن بن الزقاق في المعنى:
ومُوضحة كمثل النَّصل تجري
…
مع الأبصار كالماء القَراح
ترى حُبُكَ المداد بجسم نورٍ
…
كَمُخْضَرِّ الفِرند على الصِّفاح
كأنّ سواده في صفْحتيها
…
يقايا الليل في وجه الصَّباح
وفي المعنى يقول بعضهم:
الحُسْنُ أجمعه في رقعةٍ طويتْ
…
على تباريح أشجانٍ وأشواقِ
تقابل العين منها روضة أنفٌ
…
لم يَسْقِ أزهارها غير الحِجَا سَاقِ
وأحسن ما أذكر في المعنى قول أبي تمام في الحسن بن وهب، من قصيدة قرأتها في شعره يقول
فيها:
لعمرُ بني أبي دِنْيا وعمري
…
وعَمْرُ أبي وعمر بني عديِّ
لقد جلَّى كتابك كل بَثٍّ
…
جوىً وأصاب شاكلة الرمي
فضضْتُ ختامَهُ فتبلَّجتْ لي
…
غرائبُهُ عن الخبر الجَليِّ
وكان ألذَّ في عيني وأندى
…
على كبدي من الزَّهَر الجنِيِّ
وأحسنَ موقعاً منِّي وعندي
…
من البُشْرى أتتْ بعد النَّعيِّ
وضُمِّنَ صدره ما لم تُضَمَّنْ
…
صدور الغانياتِ من الحُليِّ
فَكَائِنْ فيه منْ معنى لطيف
…
وكائن فيه من لفظٍ بهيِ
وكَمْ أفصحتَ من بر جليل
…
به ووأيْتَ من وَأْيِ سَنِيِّ
كتبتُ به بلا لَفظٍ كريه
…
على أذُنٍ ولا خَطٍّ قَمِيِّ
فَأَطْلَقَ من عقالي في الأماني
…
ومن عقل القوافي والمطيّ
رسالة من تمتَّع منذ حين
…
ومتَّعنا من الأدب الرضي
فيا ثَلَجَ الفؤاد وكان رَضْفاً
…
ويا شبعي برونقه وَرِيِّ
بيانٌ لم تَرِثْهُ تُراثَ دعوى
…
ولم تُنْبِطْهُ من حِسْيِ بكي