الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: في الرسائل المنتخبة
قال أبو إسحاق: قد جمعتُ في هذا الباب من الرسائل الفِصَاح، الفائزة القِداح، الممتزجة بالأَرْوَاحِ، امتزاج العذْب
الزُّلال بصفْو الرّاح، المحتوية على أنواع الفصاحة، والمشتملة على فنون البلاغة والرَّجَاحةِ،
والألفاظ المهذبة المساق، والفِقر الغريبة الازدواج والاتفاق؛ الباسقة الأفنان، المتناسقة الجمان، المهذبة
الأعجاز والصدور، المقصرة بالدر على الترائب والنحور، الأنيقة الديباج، المعسولة المُجَاج فقراً
رائقة بهجَة، وألفاظاً عَطِرةً أَرِجَة، جادَتْها ديم الأدب الموفَّى، وبرزتْ كالذهب المصفَّى. دُرَرٌ حيثما
أُديرَتْ أضاءَتْ، ومُشَمٌّ من حيث ما شُمَّ فاحا. فكأنما خُلِقَتْ من السِّحر، حين صُوِّرَتْ في الطُّروس
بالحبر. تُريكَ النُّجُومَ الزُّهر في أفلاكها، والجواهر المنظومة في أسلاكها، رائقة لمُجْتَليها، مفيدة
لمُجْتَنيها. إنْ أبْصِرتْ قصرت بالوشي المحبر، أو تُنُسِّمَتْ زَهِدَتْ في نفحات المسك والعنْبَر، تكسب
الخامل نباهة، وتُفيدُه رفعة ووجاهة، ألَمَّتْ بالإبداع إلمامَا، وأمسكتْ له عناناً وزماماً:
ضُرب الحلم والوقار عليها
…
دون عُورِ الكلام بالأسداد
انتَخَبْتُها من كلام أعيان الأدباء المتأخرين، ومشاهير الكتاب الماهرين، مِمَّن
نَهَضَ به شرفه وحسبه،
ورفعه علمه وأدبه، وسما به فهمه وذكاؤه، وألْحَفَهُ بأرْدِيَةِ المجد كَلَفُه بالأدب واعتناؤه، وجمع بين
طريف البيان وتليده، وألقى إليه كل منْصف بإقليده، وَهَوِيَ فروع الأدب وأصولَه، وأحكمَ جُمَلَه
وفصوله، وملك أعنة اليراع والعوالي، واستخدم الأحرار والموالي.
فمنها رسالة كتب بها أبو القاسم بن الجد رحمه الله عن أحد الأمراء بولاية:
كتابنا أبْقاكم الله وعصمكم بتقواه، ويَسركم لما يَرْضاه، وأَسْبَغَ عليكم نُعماه. وقد رأينا واللَّهُ بفَضْله
يَقرُنُ جميع آرائنا بالتسديد، ولا يُخْلينا في كافَّة أحوالنا من النَّظر السَّديد، أنْ تُوَلِّي فلان بن فلان
مَحَلَّ ابننا، الناشئ في حجرنا، أعزَّه الله، وسَدَّده، فيما قلدناه من مَدينتيْ فلانة وفلانة وجميع أعْمالهما،
حرسهما الله على الرَّسم الذي تَوَلاهُ غَيْرُه قَبْله، فأنْفَذْنا ذلكَ له لما تَنَسَّمْناه من مخَايل النجابة قِبَلَه،
ورَضيناهُ بما نَرْجو أن يَحْتذيه ويُمَثِّله، وجرى عليه قوله وعَمَله، ونحن من وراء اخْتِبَارِه، والفحص
عن أخباره، لَانَنِي - بحمد الله - في امتحانه وتَجْريبِه، والعناية بتخْريجه، وتَدْريبِه. والله تعالى يُحَقِّقُ
مخِيلتنا فيه، وَيُوَفِّقَنا من سَدادِ القول والعَمَل لما يُرْضيه. فإذا وصَلَ إليكم خِطابنَا فالْتَزِموا له السمع
والطاعة،
والنُّصْح وَاتباعَه، وعَظِّموا بحسب مكانه منا قدره، وامتثلوا في كل عمل من أعمال الحق
نَهْيَه وأَمْرَه.
والله تعالى يَمِدُّهُ بَتَوفيقه وهِدَايَتِهِ، ويُعَرِّفُكُم يمن ولايته بمنِّه وعزته.
وكتب أيضاً في المعنى:
كِتابُنا أطال الله في طاعته عُمْرَكَ، وشَدَّ بتَقواه أزْرَكَ، وعضَّدَ بالتوفيق والتسديد أمرك، من فلانة
حَرَسَها الله، وقد رَأَيْنا، والله وليُّ التَّوْفيق، والهادي إلى سواء الطريق، أنْ تُجَدِّد عَهْداً إلى عُمَّالنا،
عصمَهم الله، بالْتِزامِ أحْكام الحَقِّ، وَإِيثارِ أسبابِ الرِّفْق، لما نَرْجوه في ذلكَ من الصلاحِ الشَّامِل،
والخَيْر العَاجِل، والله يُوَفِّقُنا لما يُرْضيه من قول وعَمَلٍ بِمَنِّه.
وأَنْتَ - أعَزَّكَ الله - تَسْتَغْني بإشارة التَّذْكِرة، وتَكْتَفي بلَمْحَةِ التَّبْصرَة، بما تأوي إليه من السِّياسَّة
والتَّجْرِبَة. فَاتَّخذِ الحقَّ إِماَمَكَ، وقلِّد يَدَهُ زماَمَك، وأَجْرٍ عليه في القوِيِّ والضعيف أحكامك، وارفعْ
لِدَعْوَة المظْلُومِ حجابَكَ
ولا تَسُدَّ في وجه المُضْطَهَدِ المَقْهورِ بَابَكَ، وَوَطِّئ للرَّعية، حاطها الله، أَكْناَفَكَ، وابذُلْ لها إنْصافكَ،
واستَعْمِل عليها منْ يَرْفُقُ بِها ويَعْدلُ فيها، واطَّرِحْ كلَّ منْ يَحِيفُ علَيْها ويُؤْذيها، ومنْ سَبَّبَ عليها منْ
عُمَّالك زيادَةَ، أوْ خَرَقَ في أمرها عادَةً، أوْ غَيَّرَ رَسْماً، أوْ بَدَّلَ حُكْماً، أوْ أَخَذَ لِنَفسه منها دِرْهماً ظُلْماً،
فاعْزِلْهُ
عنْ أَعْمالِه، وعاقِبْهُ في بدنهِ ومالِهِ، والْزِمْهُ ردَّ ما أخذَ تَعَدِّيا إلى أهْلِه، واجْعَلْهُ نَكَالا لغِيْرهِ، لا
يُقْدمُ أحد على مثل فِعْلِه، إن شاء الله.
وفي المعنى لأبي مروان بن أبي الخصال:
كتَبْناهُ، أَيَّدَكَ اللهُ بِنَعْمائِهِ، ووفَر حَظَّكَ منْ حبائِه وأوْجَبَ لَكَ رُتْبَةَ أوْلِيائه، ونحنُ نحمدُ الله إلَيْكَ الذي
لا إله غَيْره، ولا مرْجُوَّ إلا خَيْرُهُ، ونستمده فضلَ إحْسانِه، وعوارِفَ امتنانِهِ، وهو بالإجابَةِ مليّ
وبِأَوْلِيائه عَفِي.
وقد بلَغَنا ما يَجْري بفلانَة وجِهاتها من استِطالة أهل العِدى وتَشْغيبِ ذوي الأهواء، وخُروجِهم عنْ
حدود الاستواء، حتَّى صَارَ البَغْيُ ظَهراً تَمْتَطيه الغُواَةُ، وسَنَناً تَسْلُكُه العُتاةُ، وغَمَرَ مَنارَ الحَقِّ فصارَ
موْضُوعاً، وخَفَضَ عَلَمَهُ وكانَ مرْفوعاً، فأَعْظَمْنا ما اتَّصَل، وبادَرْنا إلى حَسْمِ ما أعْضَلَ. فخاطَبْناكَ
لتَطولَ في الحَقِّ يَدُكَ، ويَسهُل في تنفيذهِ مَقْصِدُكَ، مزاحِماً في الحَقَائق بمنْكَبٍ وصَدْرٍ، مُلْجِماً في
الوفاء بأَكْمل عُذْرٍ، مُرْغِماً أنفَ المُبْطِل وإنْ كان في الدُّنيا ذا قدْرٍ. فَتَوَخَّ ذلك والْزَمَه حتَّى يَعْتَدل
المائل، ويقصُرَ المُتَطاوِلُ، ويَتَعاطى الناسُ الحقائقَ بينهم مُنِيبينَ، ويأتُوا إليها مُذْعِنين، ولذلك ظَهر.
والله كَفيلٌ، وعلى ما نَقول وَكِيل.
فانهضْ نهوضَ من يأوي من الحَقِّ إلى رُكْنٍ شديدٍ، وقَصْرٍ عتيدٍ، وسمِعَ بما وافاكَ منْ قِبَلِنا. ليكونَ
أَهْيَبَ لمجانيك، وأذهَبَ معَ جانيكَ بحول الله تعالى.
وله في المعنى:
كَتَبْناهُ، أبْقاكَ الله وأَكْرَمَكَ بِتَقْواه، واعْتَمَدَكَ بسَوابِغ نُعْماه، ونحن بحمد الله على مذاهِبِهِ الحُسْنى،
ونسأله العمل الذي هو إلى رضاهُ أقربُ وأهدى.
وقد اتصل بنا أنَّكَ في إنْفاذِ الأحكامِ، بعيدُ المُنَّة واهِنُ القُوّة، حتى لقد اسْتشْرَى هنالكَ أهل الغواية،
واستطال أُولُو البغْي في الإذايَة، فشقيَ المُحِقُّ بالمُبْطل، وأعْياكَ ذلكَ الدّاءُ المُعْضِلُ.
فإذا وَرَدَ كِتابُنا هذا، فاصدَعْ بالحقِّ جارياً على السَّنَنِ، وانهضْ في الأُقْضِيَة غيرَ ضعيفِ المَنَن،
وانْظُر من هُنالِكَ منَ المُتَصَرِّفينَ في غير معهودٍ، أوْ في أَمْرٍ من عندنا غير محدود. فاكْفُف عن
الرَّعِيَّة يَدَيْه، واستظْهِرْ بِعَهْدنا هذا حُجَّةً عليه، ولا تُرْهِبْ في رَفْع الاعْتِداء أَحداً. ونَحنُ من وراء
العَضْدِ لكَ كما يَجِبُ، وحمايَتِكَ كما تَظُنُّ وتَحْسِبُ.
واعْلِنْ بقراءة ما وافاكَ من قِبَلِنا لِيَرْعَوِيَ الجاهل، ويَنْتَبِهَ منْ سِنَتِه الغَافِلُ، إن شاء الله.
وله في المعنى:
كَتَبْناه أعزَّكَ الله وأكْرَمَكَ بِتَقْواه، ووصَل آلاءَكَ وَنِعَمَكَ، وجَنَّبَكَ المحاذيرَ وعَصَمَكَ. والنعمُ مُكْتَنِفَة،
والنُفوسُ بأجْزال السيادة مُسْتَشْرِفة.
وقدْ بَلَغَنا أنّكَ رُبَّما لِنْتَ في الأحكامِ، وأغْضَيْتَ منها على بعض الاهْتِضامِ، لطوائفَ هنالِكَ مجْبولةٍ
على الجَدَل، مَجْدودَةٍ عن الخير في القول والعَمَل. ونحنُ نتقدمُ إليْكَ أنْ تُجْري الأحكامَ على مُقْتَضاها،
وتُنَفِّذَ الأقضية مَنْ أباها، صادِعاً بأمر الله كما يَجِبُ، مُحْتَسِباً في ذاته، ومِثْلُكَ يَحْتَسِبُ غيرَ هائِبٍ ذا
مكانَةٍ، ولا مُخل بِحقٍّ ذي اسْتِكانَة. وكُلُّ ما تأْتيه من ذلكَ فنَحْنُ لَكَ عليه ظهيرٌ، وأنْتَ بِهِ مُجْزىً
ومَشْكور. فَتَفَقَّدْ ذلك لَدَيْكَ، واجعَلهُ أَوْكد الفروض عليك، ليَرْتَدِعَ الجَرِيءُ، ويذُوقَ وبالَ إساءتِه
المُسيءُ، ويَسْكُنَ في ظِلِّ الأمن العفُّ البريءُ، وَأَعْلِنْ بما خَطَبْناكَ به، لِتَسْتَشْعِرَهُ القلوبُ القاسيةُ
فَتَلينَ، وتَتَصَوَّرَهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ فَتَذِلَّ وتَسْتَكينَ، إن شاء الله تعالى.
وله في المعنى:
كَتَبْنَاه، أَكْرَمَكَ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ، ووصَلَ لَدَيْكَ نُعْماه، وآثَرَكَ بِحُسْناه. ونحنُ نَحْمَدُ الله على آلائِهِ، لا رَبَّ
غَيْرُهُ، ثمَّ نؤكِّدُ لدَيْكَ التَّشَدد في أحْكامِكَ، وبَثَّ العَدلِ بين أَقْوامِك، وكُفَّ أيْدي أهل العداءِ، وحَمِّلْهم
على طريق الاستواء، وأنْ تتَفَقَّدَ كذلكَ أَحْوال العُمَّال عِنْدكمْ، وتُراعيَ سَيْرَ المُتَصَرِّفينَ من
…
سيباً
بَيْنَكم، فإنْ جاؤوا عن الحَقِّ نَاكِبينَ، وتَوَلَّوا عنه مُدبرينَ، صَرَفْتَهم إلَيْنا بالاقْتِصار، واضطرَرَتَهُم إلى
رُكوبِ الجَادَّة أشَدَّ الاضطرار. فإنَّ الله تعالى قدْ فَرَضَ ذلكَ على الوُلاة للرَّعية، وجعلَ الراعي
مسْؤولاً عنِ الرَّعية المَرْعِيَّةِ.
فاصدَعَ بأَمْرِ الله غيرَ واهنِ الأيْد، ولا ضَعيفَ الكَيْدِ، ومَتى وافَقَكَ في حَقِّ مُوَافِقٌ، وتجانَفَ عنْ
سبيل القصدِ مُتَجانفٌ، طالَعْتَنا بشَأْنِه لِنُريه طريق رُشْدِه، ونأخُذَ بالأدَبِ فوق يده. إن شاء الله.
وله في المعنى:
كَتبْناه، أَعَزَّكَ الله وأكْرَمَكَ بِتَقْواه، وسلَكَ بِكَ السَّبِيل المُؤَدِّيَةَ إلى رضاه. ونحنُ نَحْمَدُ اللَّهَ إليْكَ على
مواهبهِ الجسيمَةِ، وعوارِفه المُقيمَةِ، ونَسْأَلُهُ لَكَ مزيدَ الآلَاءِ، ووفورَ الحباء. ثمَّ نُؤكِّدُ عليكَ أشَدَّ التَّأْكيد،
ونأخُذُ بالمَوْثِقِ الشَّدِيدِ، في إجراء الأحكام لَدَيْكَ على حُدُودِها المحدودةِ، وشَرَائِطِهَا المَعْهودَةِ، منْ غير
أنْ تَمُدَّ إلَيْها يَدَ القاصر، أوْ تُبالي فيها غَبْنَ الخاسر.
فقد بَلَغَنا عن بَعض المُتَصَرِّفين هنالكَ اعتِداءٌ، وورَدَتْ منْهم أنباءٌ، وَرُبَّما قد قَبَضَ إليْهم منْ غُواةِ
أهْل الجِهَةِ شيطانٌ، وكانَ لهم منْهُم على الشَّرِ أعْوانٌ وأَقْرانٌ. فَتَتَبَّع ذلك جاهداً واحْسِمْه، وَالزَمْ جانِب
العدْل ولا تَرِمْهُ، وانْهض في الحقائق حَزْماً، وكُنْ في ذاتِ الله سَهماً، ولا تُحَمِّل رعيتنا ظُلماً ولا
هضْماً. ومنْ عانَدَكَ من الوُلاةِ والمتَصرفين، ووافقَكَ من العُمَّال المشْتَغِلين، خاطَبْتَنا بِه، لنَحْمله على
القصد، ونُريه سبيل الرُّشْد.
فلا يَتَطَرَّقُ - بعد هذا العهد - أحدٌ إلى الرَّعِيَّة إلَاّ في معروف، أو أمْرٍٍ على الاجْتِماع موقوفٍ.
ومتى هِنْتَ أوْ لِنْتَ، فَإِنَّما يَجْري بَعْدُ عليكَ مَحْبُوب، وإلى قُصُورِكَ مَنْسوبٌ. واللَّهُ تعالى يُحْسِنُ في
طاعَتِهِ عَوْنَكَ، ويَصلُ يَدَكَ، ويوالي صَوْنَكَ بِعِزَّتِهِ.
وكَتبَ أبو عبد الله بن أبي الخصال في المعنى: كِتابُنا فَسَح الله في طاعَتِه مهَلَكَ، ووَجَّه إلى مرْضاتِه
عَمَلكَ، وأنْهَضَكَ بما قَلَّدَكَ وَحَمَّلَكَ، وَتَمم عوارِفَهُ الحُسْنَى قِبَلَكَ، منْ حَضْرَةِ فُلانَة، حَرَسَها الله، وَنَحنُ
نَحْمَدُ الله على ما أتانَا منْ فَضْله، ونَعْتَصمُ بِعُرْوَته وَحَبْله، ونُصلي أَعَمَّ الصلاة وأزْكاها على محمد
رسولهِ المَخْصُوص بالفَضْل كُلِّه، ثمَّ نَعْهدُ إليكَ، وصَلَ الله توْفيقَكَ، أنْ تُحْضر لما قُلِّدْتَهُ ذِهْنَكَ، وَتَجْمَعَ
لَهُ نَفْسَكَ، فإنَّ من رَتَّبَ من الأمْر حيثُ رَتَّبْتَ، وحسِبَ من القيام بالمُهِمَّاتِ حيثُ حَسِبْتَ، لمْ يَشْغَلْهُ أن
يَنَامَ عنْ قضيَّةٍ تَجْري ببلَدِه، ولا أنْ تُدرِكَهُ غَفْلَةٌ عنْ تَفَقُّدِ ما تَحْتَ يَدِه. والرَّعِيَّةُ بكلِّ جِهَةٍ من جهاتِكمْ
قدْ تَأَذتْ بما بَلَغَهَا من الضَّرر، وتُوُخِّيَ فيها منْ سوءِ السّيَر، حتّى نَفَدَتْ إليْنا طوائفُ الشاكينَ،
وَكَثُرَتْ عنْدنا أرْفاعُ المُتَظَلِّمينَ، وَمِنْ أَمْرِهِمْ بَيِّنٌ ومُشْكلٌ، وفي النَّاس مُحِقٌّ ومُبْطلٌ، ويَتَعَذَّرُ عليْنا،
بِتَنائي ديارِهم والبُعْدِ عنِ مساقِطِ أخْبارِهم، أنْ نَتَوَصَّلَ منْ أَمْرِهم إلى مَعرفة الصحيح من السَّقيمِ،
والمُعْوَج منَ القويمِ. ولَمْ نَخَلْ كثيراً مِمّا يرْفَعُونَهُ منْ قَوْلٍ مُزَوّر، وباطِلٍ في صورةِ الحَقِّ مُصَوّر.
وعِندما التَبَسَ الكِذْبُ منْ ذلكَ بالصدْقِ، والتَفَّ المُبْطِلُ بالمُحِقِّ، صَدَدْنا كثيراً منْ أرْفاعِهم عن
الوصول، وصَرَفْنا دُونها وَجْه القَبول، وأَوْعَزْنا إلى جَماعَتِهم، لِما خِفْناهُ منْ تلَبُّسِهمْ في الأمور،
وشَوْبِهم
المُباح بالمَحْظورِ، بِأنّا لا نَنْظُر لأحدٍ منْهم في حقٍّ يَدَّعيه، ولا أمْرٍ يُوجِبُه أَوْ يَنْفيه، إلاّ أنْ
يأتي بِبَيانٍ من قاضي بَلَدِه، وكتابٍ يَنْطِقُ عن صِحَّة ما بِيَدِه.
فأقْصروا وتَوَقَّفوا. وفي ونُفُوسِنا - عَلِمَ الله - منْ قِبَلِهم ما يَشُقُّ حِمْلُهُ، ولا يَخِفُّ مِثْلُهُ، وَيُمكِنُ أنْ
يَكونَ فيهم الصَّادِقُ والبَرّ، والوَجلُ المُضطَرُّ، لكِنَّ الخيْرَ أرَدْنا، والبِرُّ قَصدنا، ولما وقع هذه رَسَمنا
إلى كافّة القُضاة عُهوداً في تَصفُّح الشَّكاوي، والفحْص عنها، وألْزَمناهمْ القيام بها، وتَبَرَّأنا إلَيْهِم من
وِزْرِها، وتَخَفَّفْنا بإسنادها إليهم منْ دَرَكِها وإصْرها. والقُرْبُ لَهم في ذلك مُعينُ، وتَعَرُّفُ الحقائقِ
عندهم بِسبَبِ المُجَاوَرَة سهلٌ مَكينٌ.
ولا امْتَراء عندنا أنَّ هؤلاء الرَّافعين لو وَجَدوا في بلادهم إشْكاء وألِفُوا عِندَ مُتَقَلِّدي الأُمورِ - فَرَدَّ
ظُلاماتِهم وفاءً لَما تَجَشَّموا إلَيْنا بُعْد المَشَقَّةِ، ولا تَحَمّلوا نَحْوَنا عظيمَ الكُلْفَة والمشَقَّْة، ولولا أنّا لا نُخْلي
بَعْضَهم منَ التَّعَسُّفِ، ولا نُبَرِّئُهم منْ سوء التَّكَلُّفِ، لَشَدَّدْنا في جِهَةِ عارِضة الكلام، ولثَقَّلْنَا عليهم وطْأة
الملامِ.
ونحنُ قَدْ قَلَّدْناكَ منْ شَكاوى العَامة بِعَمَلِكَ في اللَّطيفٍ والجَليلِ، وسُمْناكَ
القيامَ بالخفيف منها والثَقيل،
فَتَفَقَّدْ ما قِبَلَكَ حَقَّ تَفَقُّدِهِ، وتَعَهَّدْه أَحفى تعهُّده. فإنكَ إذا أَمْعَنْتَ التَّطلُّعَ، وواليت إلى جانِبِ الرَّعية
التَّلَفُّتَ والتَّسَمُّعَ، لم يَشِذَّ عن عملك متى يجري بِنَظَرك، لاجْتِماعه وانْحصاره، وقُرْب ما بين مسافاته
وأَقْطاره. فتأمَّلْ بجهَتكَ الأحوال وصُوَرَها وتفقّد مع الأحيان شَأن الرعية وخَبَرها، وكُلّ ما رَفَعَتْه إليكَ
من أحوالها، وتَظَلَّمَتْ فيه من عُمّالها، فأَجْرِهم على الحق كيف جرى، وعَمِّمْ بنظرِكَ، ولا تَخُصَّ
قضية دونَ أُخْرى. فكلٌّ بكَ معصوبٌ، وأنتَ عليه مُحاسَبٌ، وبه مَطْلوب. ومِلاكُ أَمْركَ ومدارُهُ، على
الحُكّامِ الذين استَنْبَتّهم في الأقطار الناصية، ونَصَّبتهم في الجهة النائية؛ فَشَرْطُهم الثِّقة والدِّيانَةُ،
والصَّوْنُ والأمانةُ، فإنهم إذا كانوا بهذه الصفة، جَرَتِ الأمور على سيرها الرَّاشِدة، واستمرتْ على
مناهِجها القاصدة، وأمِنَتْ في جهَةِ الرَّعيَّةِ، وأمِنّا بكَ فيها منَ اللَّبْسِ. فلا تُقَلِّدْ أمْرَ المُسلمين إلا معْروفاً
بالدِّيانَة والعَفاف، وتقِيّاً لِيَقْنَع بالكفاف، ويَتَنَزَّهَ عن الإسْفاف.
وتَحَفَّظْ منْ كُلِّ منْهومٍ لا يَشْبَع، ومُسِفٍّ لا يَتَوَرَّعُ؛ فإنَّ الجشَعَ أعمى لا يرى ولا يسْمَعُ.
وبَعدَ توْليتك إيَّاهم، فأشْرفْ عليهم إشرافاً يَتَعَقَّبُ أعمالهم، ويتصفَّحُ أحوالهم. فإن رأيتَ منهم جَنَفاً، أوْ
منْ نَقضَ عليكَ منْ أطراف الحَقِّ طرفاً، صرَفْتَهُ مَذْموماً، وأَخَّرْتَهُ مَلُوماً. فتَفَقَّدْ هذا منْ أَمْرهم، فإنّكَ
مُضْطرٌّ إليهِ في تعرُّفِ أحوال الرَّعية التي لا نَرْضى بِهَضْمها، ولا نُقِرُّ أحداً على ظُلْمِهاَ، ولَاتتعهده.
وَنَتَقَدَّمُ إليكَ به مُراعَاة اللوازمِ الجارية هناكَ.
فاجعل أهمَّ أُمورِكَ أنْ تتصفَّحها وتلْمَحَها، فما لم يَكُنْ منها في عهودنا موجوداً، ولا منْ قَبْلِنا مَحْدوداً،
ولا في مصالح المُسلمين موضوعاً ولا معْدوداً، فهو ردٌّ على كلِّ والٍ رَسَمَه، ومَصْروفٌ على كلِّ منْ
ألْزَمَهُ، لا يؤدى منه فتيلَ، ولا يُحْمَلُ منه نَقيرٌ، والزّكواتُ كُلُّها على تبايُنِها في الصِّفَّةِ، وأنْواعها
المُختَلِفَة، تَجري على مُوجِبِ فريضتها، ويوقَفُ بها على حدِّ شريعَتها؛ لا تُحرَّفُ ولا تُبَدَّلُ، عنْ
جهتها، ولا تُعدَّل. ولتُؤخَذْ منَ النِّصابِ بأَعْيانِها، ولتَنْهَ أشَدَّ النهي عنْ قَبْضِ أثْمانها.
وقد ارْتفع في بَعض شكاوي الرَّعية أنها تَطْلُبُ برسم الحالي، وهو لا يُطْلب به الحاضرُ عن
الغائبِ، ولا يؤخَدُ فيه الباقي بعدَ الذَّاهِبِ.
فهذا الصنفُ منَ الجور ترفَعْهُ رفعاً تامّاً، وترُدُّ حُكْمَهُ، وتُعْفي أثره ورسمَه. وأيُّ عامل من عمّال
الرعية تعدَّى بعد ذلك عليها، أو تَسبَّب بزيادة تخصُّه إليها، ويبينُ عندك تعدِّيه، وعلمت صحةَ
استهدافه وتَصَدِّيه، فارفعْ أمْره إلى الوالي، فإنْ غَلَّ يَدَ أذيَّته، وأنْفذ عزله عن رعيته بذلك، وإلا رفعتَ
أمره إلينا مع سائر ما يتَوَقَّفُ لديكَ من الأمور التي تَقْصُرُ عنها يدكَ، وتنْقطعُ دونَ النُّفوذِ عنها غايَتُكَ
وأمرك، لينفذ في ذلك من عهدنا ما تَقِفُ منازِعُكَ عنْده، ويَسْهل لكَ كلُّ صعبٍ بعده.
هذه - أعزَّك الله - أمثالٌ مضروبَةٌ، وهداياتُها منْصوبَةٌ، وقوانينُ موضوعةٌ، وأعلامٌ على طرُقِ
الحقِّ مرفوعة. وفي أكثر ما كانت الأرفاعُ تردُ، وعصائب المتظلمين تَحْتَشِدُ. وأنْتَ إذا كَشَفْتَ غيبها،
وتَقَصَّيتَ طُرُقَها، وأعْطيتَها من بحثكَ وتأمُّلِكَ حَقَّها، ارتَفَعَتِ الشُّبْهة، وراحَتِِ العلة، وتوفرتْ على
المُتَظَلِّمينَ
الرحلة، وهَدَأَتِ الرَّعية، فتَفَرَّغَتْ لأشْغالها، ولزِمَتْ مصالح أعْمالها.
فانظر - أعزّك الله - في هذه الأمثلة والجُمل إلى أقصى ما تنقسم إليه أقسامها. وَقِفْها على حدِّ ما
تقِفُهُ عليه الشريعة وأحكامها.
وتَطَلُّعُنَا وكيدٌ إلى ما يتَجدّدُ منْ نُفوذك، ونُهوضكَ بهذه الوصاة الجامعَة والحجة البالغة. فاستجْمع
لإقامتها؛ فقد وقع إليكَ الإصْغَاءُ، وَستَبْلُغُنا منْ قِبَلِكَ الأنْباءُ، ويَتَّصل عندَكَ الذِّكرُ والثَّناءُ، وبَعْدَ هذا
مَوْطِنٌ يكونُ فيه المَثُوبَةُ والجزاء.
ولتَقْرأْ كتابنا هذا على الكَافَّة بالمسجد الجامعِ، شَرَّفهُ الله، ليَسْتَمِعَه منْ تَوَجَّهَ إليه الخطابُ، وتسير
بأنبائه الرِّكابُ، وتَتَلَقَّاهُ بعد الشُّهودِ الغُيَّاب. وتَبَلَّغْ منّا أَعَمَّ سلامٍ وأجْزَلَه وأَزْكاه وأحفله. والسلام
المُضَاعَفُ الأحفى علَيْكَ ورَحْمَة الله.