المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل ومن أحسن ما كتبوا في المبايعة - كنز الكتاب ومنتخب الأدب - جـ ١

[البونسي]

الفصل: ‌فصل ومن أحسن ما كتبوا في المبايعة

‌فصل ومن أحسن ما كتبوا في المبايعة

ما أنشأ أبو عبد الله ابن أبي الخصال رحمه الله:

الحمدُ لله الذي رفع ذكر الإسلام وأعلاه، وجعله دينه الذي اختاره واصطفاه، وتكَفَّل الأئمَّةُ هُداه،

ليسْتَخْلِفَنَّهم في الأرض وليُمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضاه، عهداً منه جلَّ وعلا مسْؤولاً، ووعداً بالإنجازِ

موصولاً، وَميراثاً لعباده الصالحين مبْذُولاً.

وصلّى الله على منْ أَيَّده بتَنْزِيلِه، وائتَمَنَهُ على تحريمه وتحليله، ودعا بالحكمة والموعظة الحسنة

إلى سبيله، محمد نبيَّه المصطفى ورسوله الذي بينَ عنِ الرَّحمن، وأَوْضَحَ معالِمَ الإيمان، وسنَّ بيعة

الرِّضوان، وأعْطى صَفْقَاتِ الأيْمان، وعَقَد على لُزُومِ الطَّاعة، وحَذَّرَ منْ مُفارَقة الجماعة، صلى الله

عليه، وعلى سائر رُسُله وأنْبيائه، وعلى صَفْوَته وخِيَرته منْ أرْضه

ص: 250

وسمائه. فلن يزالَ الناسُ بخير ما سلكوا سبيله، وأمُّوا دليله، واتَّبَعوا قيله، وتمسكوا بما بلَّغَ إليهم، وكانوا شهداء على الناس، وكان

الرُّسول شهيداً عليهم رضي الله عنِ الخلفاء الراشدين الذين قطعوا في الدين الاختلاف، وأوجبوا على

أنفسهم الاسْتِخْلاف، ورأوا أنْ يَنْظُروا للمسلمين بعدَ مماتهم، كما نظروا لهم في حياتهم، فصار حقُّ

الأئمة معَظَّماً، وعقد الأمَّة منْتَظِماً، وشَمْلُ الإسْلامِ مجموعاً، ودُعاءُ الإمام مسموعاً.

وإنَّ الأمير الأجلَّ أبو فلان، أقْصى الله في أمره، وخَلَّدَ على الأنامِ جَمال سيره، لمّا انتظمَ أمره

واتَّسَقَ، وتَمَهَّدَ مُلْكه واسْتَوْسَقَ، وقمعَ أهل الشقاء والعِنادِ، وقضى حقَّ الله في العباد، وغَرِقَت كَفُّهُ

المبارَكةُ بالأعنَّةِ في الجهاد، وتَعَوَّد عاتِقه في سبيل الله حَمْل النِّجادِ، ووطِئتْ كتائبُهُ المنصورة أقاصي

الأغْوارِ والأنْجادِ، اطلع في عواقبِ الأمور، وصدَّقَ نفسه - نفَّسَ الله مَهَلَها - عن المقدور، ولاحظَ

قوْلَ القائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيْتَ إنْ جئتُ ولمْ أجِدْكَ؟ فَتَلَقَّاها بالتَّصديقِ، وأجابها

عنِ الصِّدِّيق، فاهتدى بهُدَاه،

ص: 251

واقتفى أَثره وجرى في مَداه، واحتمل - أيَّد الله أمره - وفَسَحَ طويلاً

عُمْرَهُ في صلاح منْ وُكِلَ إلى فضْلِه، وَوُضِعَ على يَدَيْ رَأْفَتِهِ وعَدْلِه، نَصَبَ الارتياء والإرْتيادِ،

وتَعَبَ الإصدارِ والإيرادِ، ولمْ يَسْتَبِدَّ دونَ المُشاورة، وهوَ أحقُّ الناس بالاسْتِبْدادِ.

وما زال الفَضْلُ يَتَمَيَّزُ، إلى أهله يَتَحَيَّزُ، ونورُ الله بينَ يدي عقده وحله، يُُرْشِدُه إلى منْ رأى الناس

دون مَحَلِّه، فقلَّدَ الأمير الأجلَّ أبا فلان، رفعَ الله أَعْلامَهما، وأطال أيّاَمهما، عهدَهُ ونَصَّبَهُ إماماً للناسِ

بعْدَهُ. ولمْ يألُ نُصحاً لله ولمنْ اسْتَرعاهُ أمورهم، وَوَلاهُ تَدْبيرُهم، تَخَيُّراً أُسِّسَ على التَّقْوى، وشُدَّ

بالعزمِ الأقوى. والله يَجْزيه على سعيه المبرور، وعمله المذْخور، أفْضَلَ ما جزى به إماماً اسْتَخْلَفَهُ

في أرْضه، وقامَ بحقِّه وفَرْضِه، وعَدَلَ في بَسْطِه وقَبْضِهِ، وَأَعْمَلَ رايةَ الرِفْقِ فيما يَعُمُّ البِشْرَ، ويَضُمُّ

النَّشْرَ.

وورد عَقْدُهُ المطاعُ على عامله بفلانة وأعْمالها، أبي فلان بن فلان، وجماعة المسلمين بها، أعزَّهم

الله، وحرسها، يتَضَمَّنُ ما انْشَرَحَتْ إليه الصدور، وسَكَنَ إليْه الجَمْهور، وأَمِنَ بِعَقْدِه المَحْذُورُ، وشَمَلَتْ

به المَسَرَّة، واسْتَشْرَفَتْ نحْوَهُ المنابِرُ والأسِرَّةُ وأَمَدَّه بالبيعة له، وأخذها على منْ قَبْلَهُ فقامَ أبو فلان

بهذا

ص: 252

المُهِمَ الجَسيمِ، والعهد الكريم، قيامَ المُجِدِّ المُشيحِ، المُجْتَهدِ النَّصيح، ودعا كافَّةَ الناسِ إلى هذه

البيعة المبارَكَة التي وُصِلَتْ بالتَّقوى أسْبابُها، وفُتِحَتْ إلى الحُسْنى أبْوابُها، فأتوها عِجَالاً، وابْتَدَروها

أرْسالاً، وأهلُّوا بالتكبير والتحميد إِهْلالاً، ودخلوا فيها مُسْرِعينَ، وأجابوا دَاعِيهَا مُهْطِعينَ، وشكروا الله

تعالى على ما وُفِّقَ لَه أمير المسلمين وناصرُ الدين، منْ جَمْع كلِمَتِهم على منْ هو مُتَقَيِّلٌ رَأْيَهُ الأسْنى،

وَتِلْوُهُ في الخلائقِ الحسنى، وسألوه تبارك وتعالى أنْ يُديمَ في يديْ أمير المسلمين طِيالَها، ويُديم

اتِّصالها، ويَمُدَّ بُكَرَها وآصالها، حتى لا يخْلعَ أثْوابَها إلا بعد مهْلٍ، لمْ يَبْلُغْه شأوُ الخلفاء، ولا تناوَلوه

بيد الاسْتيفاء، ثُمَّ يصيرُ الأَمرُ إلى وارثِ مجْدِهِ، ووليِّ عهدهِ. والأمة راضية مُقِرَّةٌ، والإمامةُ في

نِصابِها مُسْتَقِرَّةٌ، وصُنْعُ الله الجميل يُراوِحها ويُغاديها، ويَقْضي بإعْزازِ أوْلِيائِها، وإذْلالِ أعادِيها.

وحين عمَّت المسلمين هذه البُشرى،

ص: 253

وجاءتْهم المذاهبُ بها تَتْرى، أَعْطَوْا صَفْقَةَ أيْمانِهم مُبْتَدِرينَ،

واختاروا مَنِ اخْتارَ الله لهمْ وإمامُهم العادل مُسْتَبْصِرينَ، وبايعوا الأمير الأجلَّ، وليَّ عهد المسلمين

على السَّمع والطاعة، وبَذْلِ الجُهد والاسْتِطاعَةِ، وعلى أنْ يكونوا لمنْ راده حزْباً، وعلى منْ حاده

حرباً، ولا يألوهُ نُصْحاً في القُلِّ والكُثْرِ، والعُسْر واليُسْر والرِّضا والسَّخَط، والقربِ والشحط، والمَكْرَهِ

والمَنْشَطِ، وفي كل منْحى منْ أنْحائه ومتوجَّه. وجعلوا الله على أَنْفُسِهم لذلك كفيلاً وأشْهدوا على الوفاء

به. (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)(وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) وكتب المَلَأُ منْ بني فلان، ومنْ تلاهمْ أسماءهم في هذا الكتاب، ليكونَ باقياً في الأعْقابِ وثابِتاً

مع الأحْقابِ. ودانوا الله تعالى بما أمضوه وعَقَدوه، وارْتَضَوْه واعْتَقَدوه، والْتَزَموا الوفاء به وشَدَّدُوه،

ورضى الله تعالى يَهديهم، وَيَدُهُ جَلَّ وتعالى فوقَ أيْديهم وذلك في شهر كذا من سنة كذا.

قول أبي عبد الله رحمه الله: (ولاحظ قول القائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث مأثور،

وخبر مشهور. روى الشافعي عن إبرهيم بن سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف

ص: 254

عن أبيه محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى عليه وسلم فسألته عن شيء

فأمرها أنْ ترجع إليه. فقالتيا رسول الله أرأيْتَ إنْ جِئْتُ ولمْ أجِدْكَ؟ تعنى الموت. فقال لها رسول الله

صلى الله عليه وسلم: إنْ لم تجِديني فإيتي أبا بكر. قالالشافعي: في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الخليفة

بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه.

ومن إنْشَاءِ الفقيه الكاتب الماهر شيخنا أبي عمرو بن محمد عبد الله بن غياث ما كتب به عن أهل

(شريش) في بيعة أمير المؤمنين أَبِي يوسف المنصور رحمة الله عليهم:

الحمد لله الذي يَسَّرَ أَسْبابَ الخير وسَهَّلها، وأَدْنى قطافَ الأماني وذلَّلَها، وأَهَّلَ للخلافة خلَفاءَ كَمَالَهم

أَهَّلها، وأَسَّسَ قواعِدها على قواعد البِرِّ والتقوى وأصَّلَها، وجَعَلَ الفُتوحات خُدَماءها وخَوَلَها (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا

ص: 255

مُمْسِكَ لَهَا) والصلاة على سيدنا محمد المُبْتَعِثِ بشيراً ونذيراً إلى كافة الأمم. والكُفر قد أغواها وخَذَلَها، وحَمَّلها

من الطُّغْيان والعصيان على ما حَمَّلها، فبين سَنَنَ السُّنن والفرائض وأوْضح سُبُلها، وصَدَعَ بأمر الله

حتى شَفى أدْواءها، وحَسَمَ عِلَلَها، والرِّضا عنِ الإمام المعصوم، المَهْدِيِّ المَعْلُوم، القَائِم بأمر الله، آخِر

الأَعْصار، وقد بشَّر به أوَّلها، الواضحِ العلامات والدَّلالةِ، عَلِمَها منْ عَلمِها، وجَهلِها من جَهَلِها.

والدُّعاء لصاحبه وخليفته سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الذي تَمَّمَ تِلكَ البِداءات وأكملها، وسقى نَفَسَ

الخلافَة منْ ينابيع العدل نميرها وسلسلها. ولسَيِّدنا ومولانا الخليفة المُرتضى أمير المؤمنين ابن أمير

المؤمنين، المُتَكَفِّل لطائفة التَّوحيد بالنَّصر الذي اكتفلها وكَفَلها، ومدَّ لها ظلالَ النَّجاة بجميع الأرجاء

والجهات ورفع ظُلَلَها، ولابنه الأمير الأجل المنصور الناصر لدين الله أبي يوسف ابن الخليفة

المرتضى مُبْلِِغِ الخلافةِ أمَلَهَا، ومُسَوِّغِها جَذَلَها، المُعَدِّ لطائفة الزَّيْغ من البيض والسُّمر قِرَاها ونُزُلها،

المُجَلِّي غَيَاهبَها، والكفر قد أسْبَلها، وسَدَ لَها بفتوحات تَشْتَمِلُ على أقاليم لم تُصخْ للدعوة الإمامية

أَسْمَاعَها، فسبق سَيْفُها عذَلَها، وإنَّ الله تعالى لما بعثَ محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة

بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذْنِه وسراجاً منيراً، دعا إلى الهدى، وأوضح طرق الشريعةِ منْفسحة

المدى، ووعد وأوْعدَ، وألانَ وشَدَّدَ، ويسَّرَ وما عَسَّرَ، وبَشَّر وما نَفَّر، فهدى به منْ هدى إلى الصِّراط

المُسْتَقيم، والمِنْهاجِ القويمِ، ثُمَّ بَشَّرَ بِذَخيرة الوجود، وسِرِّ النبإ المقصود، الإمام المعصومِ، المهديِّ

المَعْلومِ، فلاحت بشائرُهُ بالمغرب الأقصى، وانتشرت أنوار هدايته فيما دنا منَ الأقاليم وقصا، متميزاً

بالعلامات، مبرزاً بالدلالات، فَأَحْيَا السُّنن والفرائضَ بعد دروسها، وبسطَ وجوهَ الأماني بعد عُبُوسِها،

على

ص: 256

حين انقراضِ الحقائقِ، وجَهْل الخلائقِ، فَقَطَعَ أسباب تلْك العلائق، وبسط العَدْلَ في المغارب

والمشارق، ثم أكمل الله تلك البداية، وأبدأ الهداية بخليفته أميرِ المؤمنين المشرقِ الجبين، عن أنوار

الفتح المبين، ثم وَلَّى أمْرَهُ العزيز احتياطاً للدين ابنَه الخليفة الأهدَى أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين

الذي يأوِي العدلُ منه إلى (رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، المأثور الآثار، الواضح الآيات وضوح النهار.

ثم انعقدت البيعةُ عنْ إِجْماعٍ من الجماعةِ الطَّاهرَة، والطائفةِ الظاهرةِ، عِلْماً منهم بمَخائِلِ الاعتِناءِ

الإلهيِّ ودلالاته، إذ الخلفاء ورثَةُ الأَنْبِيَاءِ، و (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ونظراً لِدينِ الله وعِصْمَةً لعبيده، وأخْذاً بعقودِه - كما

أمر - وعهودِه، للأمير الأجل المنصور الناصر لدين الله أبو يوسف بن الخليفة أمير المؤمنين بن

أمير المؤمنين، أيَّد الله أمرهم، وأعزَّ نصْرهم، فاستقرَّ الأمر في قراره، وانتهى إلى قُطْبِ مدارِه،

فاقْتدى بهم سَلَفُ الموحِّدين، وكافةُ المسلمين وبايعوه بيعةَ الرِّضْوان، وأعطوه صَفْقَةَ الأيْمَانِ ومَوَاثيقَ

الأَيْمَان، فشدَّتْ أركان الإِيمَانِ، ونفخَتِ الأرْواحُ في الأجسام، ونادى مُنادي الحقِّ في الأنام، هي بيعة

الرِّضوانِ يُشرعُ وسَطَها بابُ السلامةِ، فادخلوها بسلام، فتلقى عبيدُه كافةُ أهل (شريش) ذلك المنادي

أفواجاً، وسلكوا إلى الطاعة منهاجاً، وبادرُوا إلى الفَرْض الذي إليه البِدارُ يجِبُ، بقُلوبِ تكاد شوقاً إلى

ذكره - أيَّده الله - تَجِب، وبايعوه بيعة خالصة، أدّاها صفاءُ الاعتقادِ إلى الأَلسنة، وخطَّ الأيدي منْ

حاضرٍ وبادٍ بإخلاصٍ من الضمائِرِ، في السرائر والظواهر، على الأمْنِ والأمانة، والعدل والسَّمْع

والطاعَةِ، في المَنْشَطِ والمَكَْْرَهِ، والعُسر واليُسر، اقتداءً ببيعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

الرِّضوانية، وأخْذاً بالمواثيق والعُهُودِ الأَيْمَانِيَة،

ص: 257

وعلى ما بويع عليه إمامُنا المهدي رضي الله عنه

وخليفَتاه بعده، حسَبَ الوعْدِ السَّابِقِ له من الله، (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ). تلوح البركاتُ في وجوه مساعيهمْ، وتَنْثالُ

الخيراتُ عليهمْ بخلوص معتقدهم لها وتَصافيهمْ، وكلَّما مدُّوا أيْدِيَهُمْ للمُبَايَعة تلا عليهم لسانُ الإسلام (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)

وأَقْبَلوا على الطاعة، ومُوَافقةِ الجماعةِ، ورَسَموا الخُطُوطَ، وأَشْهدوا الله على ضمائرهم لِعِلْمِه بها، (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا).

(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

وذلك في مستهل جمادى الآخرة سنة ثمانين وخمس مائة.

ومنْ إنْشاء بعض أهل العصر، وهو بلَدِيُّنا الفقيه الحافظ أبو الحسن علي بن إبراهيم بن الفخار:

الحمد لله مُفِيض النِّعَمِ المتواتِرة، ومُسْبِغ المنن المتَكاثرة، ومرسل الآيات المُتَظاهرة، الذي وقفت

الأوهامُ عن حمَى عظمته قاصرةً، وبقيت الأفهامُ دون جلالِه حائرة صاغرةً، وصلواتُه وبَركاته على

محمد نبيه، وأمين وحْيه، المؤيَّدِ بالمعجزاتِ القاهرةِ، والبراهين البَاهرة، ورضوانُه عن الخلفاء

الراشدين، الهادين المهتدين، الذين أرسلوا من الفضل سماء ماطِرة، فأحيتْ من العدل أرْضاً هامدة

ورسوماً داثِرَة، ونَسْتَوْهِبُ الدُّعاء لسيدنا الخليفة الإمام المبارك

ص: 258

الأَوْحَدِ، الميمون الأسعد أهل المقامات

الطاهرة، والكرامات الظاهرة، بالسُّنة ناطقة، ونياتٍ صادقة، بأن يؤتيه اللَّهُ خيرَ الدنيا والآخرة،

ويُسْبِغ عليه نِعمهُ الباطنة والظاهرة، ويقْمَع به الطغاةَ والجبابِرة، والحمد لله الذي لم يُخْل بلاده، ولا

أهمل عباده، من خليفة تجْتَمِعُ عليه الأمة، وتدوم به النِّعْمَةُ، يَحْفَظُ دينه القويم، وينهجُ بأهله صراطه

المستقيم، ويَعصِمهم من تشعُّبِ الأهواء ويَمْنَعَهمْ من تَغَلُّبِ الأعداء، ويَحْتَقِنُ في أُهَبِها متحرم الدماء،

ويقطع دونهم أيدي الاعتداء، ويقيم الشريعة على الطريقة الواضحة، ويُجري حدودها وأحكامها على

سبيل أعلامها اللائحة. وأوجَبَ على الأمة طاعته فَرْضاً حَتْماً، وأمرهم بالذَّب عنه والقيام دونه أمراً

حزماً، وجَعَلَها مقرونةً بطاعته وطاعة رسوله. فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). عِصَاماً ربط به عِبَاده إلى سلوك

سَبيلِه، وبَيَّنَ الرُّسُولُ عليه السلام أنَّ تقلد بيعته والقيام بدعوته أوْجَبَ خصال الملة الحَنِيفَة. فقال

صلى الله عليه وسلم: "منْ ماتَ وليس في عُنقِهِ بيعة ماتَ ميتَةً جَاهِلية".

قال أبو إسحاق:

ذهب أبو الحسن في الآية التي استشهد بها، وهي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). إلى أنَّ أولي الأمر: الأمراء، وهو

مذهب أبي هريرة وابن عباس وجماعة من الصحابة، وأولي العلم، ومذهب جرير بن عبد الله

ومجاهد وغيرهما، أن أولي العِلْم هم العلماء،

ص: 259

وقيل أولو العلم بالقرآن وطاعة الله تعالى اتِّبَاع أوامره

وامتثالها، والانتهاء عمَّا نَهَى عنه، وطاعة رسوله واتباع سنته

رجع

والحمد لله الذي أقَرَّها في نِصَابها الشريف، وقَدَّرها في بيتها المنيف، وجَعَلَها مُطَّرِدةٌ في أهلها،

اطِّرادَ الكُعُوبِ، جارية بين باسطي فَضْلِها، وناشِري أهْلِها، على أُسلوب الذين عَرَفَتْهم وعَرَفُوها،

وأَلِفَتْهم وألِفُوها، وكانوا أَحَقَّ بها وأهْلَها، إذْ صلُحَتْ بهم كما يَصْلُحونَ بها وتِلْكَ نِعْمةٌ لا يُقامُ بِشُكْرها،

ولا يُحاطُ بقدْرِها. حَفِظَ بها حوزة الإسلام، وعَصَمَ بِبَرَكَتِهَا أُمَّةَ محمد نبيه عليه السلام، حين وقع

الإجماعُ والإصفاقُ، وحَصَلَ الارْتباطُ والاتفاق، على مبايَعة من شهدت له خصائص الصفات، وقامت

له حقائق السِّمات، بأنَّه مُسْتَحِقُّ الخلافة وَمُسْتَوْجِبُها، ونَجْمُها الثَّاقِبُ وكَوْكَبُها، ومستودعُ آياتها

الصَّادقة، وحامِلُ رايتها الخَافِقَة، الذي يَمْلؤُها عَدْلاً، ويَسَعُها بفضله فَضْلاً، ويحْمي ذِمارَها، ويُؤَمِّنُ

أكْنافَها وأقْطارها، ويُفْني أعْداءها، ويَحْفَظ أرْجاءها. الأمير الأجَلُّ الأسْعد أبو فلان المَخْصوصُ

بالنَّصْرِ والتَّأْييدِ، المقْرونُ الآراء بالنُّجْحِ والتَّسْديد، جَعَلَ الله خِلافَته محْفُوفَةً بطول البقاء وامتداد

العمر، مقْرونَة باتِّصال السَّعْدِ واسْتِيلاء الأَمْرِ، ولما سمعَ عبيدُها اللائذُونَ بأمْنِ حَرَمِها، المُعْتَصِمونَ

بواقي عِصَمِها، المُسْنِدونَ لعَميمِ فَضْلها وامْتِنانها، المُتَعرِّفون عظيمَ عَدْلها وإحْسَانها، أهلُ فلانة منْ

عَقْدِ هذه البيعة السعيدة، وارتباط عُقودها الحميدة، ووافى داعيها، فإنَّ بابها قد فُتِحَ لداخِليه بسلام،

ولواءَها المَنْصورقد رُفِعَ لِمُبْتَغيه

ص: 260

الكرامِ، أجابوه مُسْرعين بألْسِنَةٍ ناطقة، ونِيَّاتٍ صادقة، وصدور

مُنْشَرِحة، وقلوبٍ مُنْفَسِحَةٍ، مُبادرينَ الانْتِظَامَ في سلكِ الطَّاعة، مُسَارعينَ لاقْتِفَاءِ سَنَنِ الطَّائفَةِ

المَنْصورة والجماعة، وأَعْطوا صَفْقَةَ أَيْديهم، ويَدُ الله فَوْقَها، مُتَطَوِّقينَ على ما يُرْضي الله تباركَ

وتعالى طَوْقَها، والْتَزَموها بيعَةَ رِضْوانٍ، وعقيدة إِيمَانٍ، واعْتَقَدوا بها السمع والطاعة على كلِّ حال

وفي كل زمانٍ، وعَلِموا أنَّ الله سبحانه قدْ صَنَعَ بها صُنْعاً كريماً، والْتَزَموا الوفاء بها. (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). وكَتَبَ العبيدُ المُسْتَبْشِرُون أَسْماءهم بِسَوادِ عيونِهم، في صفحات قلوبهم ويقينهم، شاهدين على أَنْفُسِهم بما

الْتَزَموه منْ هذه البيعة السعيدة، وارْتَبَطُوا لهُ منَ العُهودِ الوَكيدَة، (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا). وذَخَروها إلى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا). وذلك في شهر

كذا من سنة كذا.

ثمَّ خَتَمَ الرُّقْعَةَ بهذا الدُّعاء: اللهمَّ اجْعلها خلافة عُقِدَتْ على التَّقوى معَاقِدُها، وعَمرَتْ بالوفاء معاهدها،

واجْمَع القُلُوبَ على حُبِّ خَليفَتِكَ، على عبادِكَ وسُلْطانِكَ في بلادِكَ، وأَلِّفْ عليه كلمة الإسلام، وانْصُرْ

به دينَ نبيِّكَ محمد عليه السلام، وآوِ العبادَ منه إلى رَبْوَةٍ ذاتِ قرارٍ وَمعينٍ، واجْعلها كلمةًَ باقية في

عَقِبِه إلى يومِ الدينِ.

اللهم وَفِّقْهُ للخيرِ وأعِنْهُ عليهِ، وأَصْلِحِ الرَّعيَّة به وعلى يديه، وأطل اللهمَّ عُمْره، وأَدِم تَأْييده ونَصْرَهُ،

وأبْقِه خليفةً سعيداً مُجاهداً في سبيلِكَ، مُتَّبِعاً سُنَّةَ رَسولِكَ، وأَيِّدْه بجُنْدِكَ القوي، ونَصْرِكَ العلي، وأَعْل

كَعْبَه، وانْصُرْ حِزْبَه، واهلكْ منْ حَادَهُ وأَعِدَّ حَرْبَهُ، (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وأَنْتَ (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

ص: 261

ومن إنْشاء الكاتب أبي بكر بن أَخْيَل من أهل عصرنا:

الحمد لله الذي جعل الخِلافة نظاماً لا يَنحل، ولزاما لا يَخْتَلُّ، يُحْفظُ بها الإسْلام، ويَتَّصِلُ ما سَنَّهُ

النبيُّ عليه السلام، فهي، كمال الدين والدُّنيا، وجمالُ كلِمَة الله العُلْيا، تَحْقِنُ الدِّماءَ وتَحُوطُ الأموالَ،

وتُقيمُ منْ أَوَدِ الحَقِ ما مالَ، وتَمْحو رسمَ الحرامِ وتُثَبِّثُ الحلالَ، وتَأْخُذُ للضعيف منَ القويِّ، وتُجْري

الكافَّةَ على المَنْهَجِ الواضِحِ السَّوِيِّ، بالمبادَرة إلى انْعقادها وارْتِباطِها، والمُحافَظَة على قواعدها

الموصلة وأَشْراطها، أوْكَدَ ما تتقدَّمُ إليه الأمْر، وتُسْتنزلُ به الرَّحْمَةُ

ص: 262

السابِغَةُ والنِّعْمَة، فهي كمالُ الكمالِ

وتمامُ التَّمامِ، الجُنَّةُ الواقِيَةُ والعِصْمَةُ الباقية لجميعِ الأنامِ، والحمد لله الذي جَعَلَها في حُماة أمْره العظيم،

ووُلاةِ حزْبِه الكريم على التَّوالي والدَّوام، والصلاة ُعلى محمد نبيه هادي الأمة بعد ضلالتها، ومُنْقِذِها

من حيرةِ جهالَتِها، التي أَمْسَكَ بِحَجَرِها عنِ النَّار وأَبانَ لها واضِحَ المَنارِ، وعلى آلِه وأَصْحابِه

المهاجرين والأنْصار، الذين سلكوا طريقتَه، وعَرَفوا حقيقَتَه، وعلى خُلَفائه الذين حاطوا أُمَّتَه، وتَمَّموا

نِعْمَتَه، والرِّضا عن الإمام المعصوم، المهديِّ المَعْلوم، مُحيي رَسْمِهِ بعد الدُّثور، ومُعيدِ بَدْأَتِه في إقامة

الحقِّ وصلاح الجَمْهور، قام رضي الله عنه، والجَوْرُ قد ظهرَ، وحِزْبُ الباطِلِ قد مَهَرَ، والإسلام قد

دَرَسَ رسمه، ولم يبقَ منه إلا اسْمُه، وكلُّ ذي رأيٍ مُعْجَب برَأْيه، منْقادٌ بأَعِنَّة هواهُ في ذميمِ سَعْيِه،

فَشَحَذَ بصائرَ الأمة، وأَنْقَذها منْ ضلالَة تِلْكَ الغُمَّة، وأَطْلَعَ عليها أَنْوارَ الهداية والعِصْمَة، حتى عاد

الإسلامُ جديداً غَضّاً، وعَرَّفَها واجِباته نافلة نافلة، وفَرْضاً فرضاًً، فلما اسْتَنار المسلكُ والمنهجُ، وفُتحَ

- لمنْ قدِّرَتْ لَهُ السَّعادة - البابُ الذي يلِجُ، لحقَ بالرَّفيق الأَعْلى، وجَلَّ مَقامُهُ الكريم وعلا، وخَلَعَ

أشعَّة أنْواره، وهدايَةَ آثاره، على صاحبه المُرْتَضَى، وسيْفه المنتضى، سيدنا ومولانا الخليفة أمير

المومنين، فسَدَّ ذلكَ المكان، وكان للأُمَّةِ كما كانَ، يَتْعَبُ لِنَعيمِها، ويَدْأَبُ في إصْلاح فاسِدِها وحِفظِ

قويمها، وسَلكَ بها طريقة صاحبه الإمامِ المهدي في الرِّفْقِ بالضعيف منها والقوي، كَفَلَها كذلك مدَّة

عُمْرِه، مُتَوَخِّياً لها النَّصيحة في نهيه وأمره، ثمَّ تقَلَّدَ الأمرَ بعد ذلك سالكاً تِلْكَ المسالِك الخليفة الإمامُ

أمير المؤمنين أبو يعقوب ابن سيدنا ومولانا أمير المومنين، أعزَّ الله بهم الدين فاقتفى آثارَهم

الواضحَة، ومَقاصِدَهم الصالحة، لا يَغِبُّ الأمة إحسانُهُ وإنْعامه، ولا يَعْدِلُ بهم عنْ سَنَنِ الخُلَفاء آبائه

الراشدينَ إِحْكَامُهُ، يحفظُهم ليلاً ونهاراً،

ص: 263

ويَلْحَظُهم بعين الرِّفق إسْراراً وجهاراً، ثمَّ نَشَأَ الشابُّ التَّائِبُ،

الدَّائِمُ على طاعَة ربه الدائِبُ، الأمير الأجَلّ المنصور الناصر لدين الله عز وجل أبو يوسف ابن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، وصلَ الله لهم عادَةَ النَّصر والتَّمكينِ، فظهر لأبيه منْ مخائله الكريمة،

وشَمَائِلِه الجميلة الوسيمة وكرمِ النَّجيرَة والشِّيمَة، ماأَدَّاهُ إلى أن اسْتكفاه، فتَعَرَّفَ اليُمْن والأمان في كل

ما أَتاهُ، ولمْ تَزْلْ عُيُونُ الموحدينَ. - أيَّدَهم الله - إليه ممتدَّة، ونُفُوسُهم لتَعْظيمِه وتَقْديمه مُعَدَّةٌ، لما

شاهدوه منْ هدْيِه وإخْباتِهِ، وتَعَرَّفوه منه في جميع حالاته وأوقاته، ومواضع مشاهده وخَلَواته. والسَّعْدُ

يَعِدُهم بإنْجازِ ذلك الوَعْدِ، وإحْرازِ الحظِّ الأسْنى منه والعيش الرَّغْدِ. فلَمَّا اسْتَحْكَمَتِ السعادة، تَحَرَّكَتْ

منهم الرَّغْبَةُ الوكيدَةُ والإرادةُ، فاجْتَمَعَ الملأُ الأَعْلى منْ أهلِ الحَضْرَةِ المُعَظَّمَةِ الذينَ يُقْتَدى بآثارِهم،

ويُهْتَدى بمنارِهم، على مبايَعَته بيْعَة إيمانِ وأمان، وعَدْلٍ وإحسانٍ، فأعطوْا بذلك صَفْقَة الأيْمَانِ

والأيْمُنِ، واثِقين بما لَهم بها منَ الفَضْلِ والإِحْسانِ، والخَيْراتِ الحسانِ، وإنَّها بيْعَةٌ شابَهَتْ بيعة

الرِّضْوان، نَفَثَتْ في الأَمْواتِ رُوحَ الحَيَاةِ، وجَمَعَت الأهواء المَفْطورَة على الاخْتلاف والشَّتاتِ،

وعَرَفَتْ أنَّ لله تعالى بهذه الأُمّةِ أَكْبَر العِناياتِ، ولمَّا نفذَ الأمرُ لعبيدِهم أهل فلانة بادَرَ الجميعُ منهم

إلى عَقْدِ البيعَةِ الكريمة، وشكر النعمة الجسيمة، واثقين بما لَهم فيها منَ الصَّلاحِ الشَّامل للجمهور

المُتَعَرَّفِ به كافَّة الأمور، المُشَرِّفِ لأعْقابِهم على ومرِّ الدُّهور، حظٌّ ساقهُ إلَيْهمْ وافِدُ السعادة، فقد

عَوَّدَهم الله بطاعَتِهم التي هي طاعَةُ الرحمن ومادَّةُ الأمانِ أَكْرَم العادَةِ، فأعْطى الجميعُ منَّا صَفْقَةَ

أَيْمانِهم، حافِظينَ إيمَانَهِمْ وأَمَانَهُم، وبايَعْنا بِنُفوسِ مُنْشَرِحَةٍ، وآمالٍ مُنْفَسِحَةٍ، وعُهودٍ مُؤَكِّدَة، والأيْمان

مُشَدَّدَة، والآرَاءُ مُسَدَّدَة، سيدنا الخليفة الأمير الأجلَّ المنصور أبا

ص: 264

يوسف ابن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، أَعزَّ الله بهم الدين على ما بويِعَ به الإمامُ المعْصومُ المهدي المعْلومُ رضي الله عنه،

والخليفتان من بعده، وعلى السمع والطاعة، بيعة مُجَددة مُؤكدة، في السِّر والجهر، والعُسْرِ واليُسْرِ،

والمُكْسَلِ والمُنْشطِ. وأَكَّدْنا في ذلكَ عهود المُغْتَبِطِ المرْتَبِطِ، وأَوْقَفْنا بِمَحْضَرِ كافَّةِ الناسِ بذلكَ شَهَادة

الأشْياخِ والأعْيانِ واعْتَقَدناه أَشْرَفَ ما ضُمَّتْ عليه اليدان.

فالحمد لله الذي مَنَّ علينا بهذا المقام الشريف، والعَهْدِ الكريمِ المُنيفِ، الذي اهْتَزَّتْ لَهُ نُفوسُ الكافَّة

إعْجاباً وارْتِياحاً، واتَّخَذوا التَّحدّثَ بِه والشُّكْرَ له هَجِيرَاهُم مساءً وصباحاً، وتعَرفوا منْ بَرَكاتِه

ومُتَوَجَّهاتِه يُمْناً شامِلاً ونَجاحاً، وإنَّها لَنِعْمَةٌ جَلَّتْ عنِ الشُّكرِ والذِّكْرِ، وبَهرتْ بآياتِها الباهِرَة خواطِرَ

الفِكْرِ، والله سُبحانه المسْؤول أنْ يُنْهِضَ عَبيدَه بالْتزامِ الطاعة، جَهْدَ الاسْتِطاعةِ، وَبِشُكْرِ سيِّدِنا الخليفَةِ

الأمير الأجل المنصور أبي يوسف ابن سيدنا ومولانا أمير المؤْمِنين على اعتنائهم بالأمَّة، وإفاضَتِهم

عليها عوارِفَ النِّعْمَةِ والرَّحْمَة، ولْيَنْصُرْ أَعْلامهُمْ غرباً وشَرْقاً، ويَجْعَلَ حامِدَ أمرهم، وجاحد خَيْرِهمْ،

الأخَسَّ الأشْقَى بِمَنِّه ويُمْنِهِ.

وكتَبَ العبيدُ شَهادَتَهم بما فيه عنهم وعنْ كافَّتِهمْ، في مستهل جمادى الأخرى سنة ثمانين وخمسمائة.

قوله: (واتخذوا التحدث به والشكر له هِجِّيراهم)؛ أي كلامهم متردداً بينهم المرة بعد المرة.

وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت، وهو يقول: رَبَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة

وقِنا عَذابَ النَّار. مالَهُ هِجِّيرَى غيره.

والهِجِّيرَى أيضا، إسم مصدر، ولم يأت صفة، قاله أبو علي. يقال ما زال

ص: 265

ذلك هِجِّيراه: أي عادته قال ذو الرمة:

رمى فأخْطأ والأقدار غالبةٌ

فانْصَعْنَ والوَيلُ هِجِّيَّراه والخَرَبُ

وللأديب الكامل أبي عبد الله الرصافي في مدح السيد المكرم أبي سعيد ابن أمير المؤمنين رحمة الله

عليهم قصيد فريد، اشتملت على أنواع البلاغة أبياتُه، وحسن إثباته، وهو:

من عانَدَ الحقَّ لم يعْضُدْه بُرْهانُ

وللهدَى حجةٌ تعلو وسُلْطانُ

ما يُظهر اللهُ من آياته فعَلى

أتَمِّ حالٍ وصُنْعُ الله إتْقانُ

منْ لم يرَ الشَّمْسَ لَمْ يحْصُلْ لناظِرِهِ

بين النَّهار وبين الليل فُرْقانُ

الْحَمْدُ لله حمد العارفينَ به

قد نوَّر القَلْبَ إسلامٌ وإيمانُ

عقْلٌ وثابِتُ حِسٍّ يقْضيانِ معاً

للأمر أنَّ سراجَ الأمْرِ عُثْمانُ

السيدُ المتعالي كُنْهُ سُؤدَدِهِ

عمَّا تُحاولُ أَلْبابٌ وأَذْهانُ

ص: 266

مَنْ زَارَ حضرته العَلْيا رأى عجباً

الملك في الأرض والإيوان كيوانُ

كنا إلى الملإ العلويِّ نَنْسُبُهُ

لَوْ ناسَبَ الملأَ العُلْوي إنْسانُ

كأنّما يتعاطى فَصْل مَنْطِقِه

عن التكلم لُقمانٌ وسَحبانُ

يُغْضي عن الذنب عفواً وهو مقتدرٌ

ويترُكُ البطشَ حلماً وهو غَضْبانُ

وفطنة من وراء الغيب صادقة

منها على فضلها في الحلم عنوان

مزيَّةٌ ما أراها قبله حصلت

لواحد من ملوكِ الدَّهر مذْ كانوا

أستغفرُ اللهَ إلا قصَّةً سلَفَتَْ

قد كان فُهِّمَها يوماً سُلَيّمانُ

وما جرى ذكرُه في مُضْمرٍ وفمٍ

إلا تعطر إسْرارٌ وإِعْلانُ

يُريكَ باسِمَ نَوْرِ منْ أَسِرَّتِه

لكنه من نمير البِشْر رَيَّانُ

لوْ كانَ للبدْرِ عنْدَ التمِّ مَبْسَمُهُ

لمْ ُيُدْرك البدر بعد التَّمِّ نُقْصانُ

مرأى عليه اجتماع للنفوس كما

تَشَبَّثَتْ بلَذيذِ النَّوْمِ أجْفانُ

للعَيْنِ والقلبِ في إقبالِه أمَلٌ

كأنَّهُ للشبابِ الغضِّ رَيْعانُ

مبارَكٌ لم يَزل يُرْضِي النَّدى بِيَدٍ

لها على هبة الآلَافِ إدْ مانُ

يا جيشهُ لا تدَعْ منْ جودِ راحَته

أهمُّ وَفْرِ الفتى خَيْلٌ وشُجْعانُ

المنتقي الخيلَ أفذاذاً مكرمةً

قد حُسِّنَتْ خِلَقٌ منها وألْوانُ

والمصطفِي الجند آساداً محرَّبة

قنيصُها في الوغى رَجْلٌ وفُرْسانُ

ص: 267

منْ كلِّ أبيضَ مثْل النَّصْل مُنْتَهِض

بالجيش إنْ عزَّ ديوانٌ ومَيْدانُ

يغشى الكريهة منها باسلٌ بطلٌ

على الكتيبة مقدامٌ فَطَعَّانُ

سارٍ منَ النَّقْعِ في ظلماء فاِحمَةٍ

والشهبُ في أُفُقِ المُرَّان خرصانُ

ومعتد ومن الخطيِ في يده

عصاً تَلَقَّفَ منها الجيشَ ثُعْبانُ

لا يخدُمُ الأمر فيما كان من أرب

الاهي ملء عين المجد يقظانُ

ممن له حدُّ سيفٍ أوْ شبا قلمٍ

شرارُهُ في الوغى والفهم نيرانُ

يسَلُّ مِقْوَلَهُ إنْ سامَ مُنْصلُهُ

وللخِطابِ كما للحربِ أوْطانُ

قدْ يَسْكُتُ السيفُ والأقلامُ ناطِقَةٌ

والسيفُ في لُغَة الأقلامِ لحَّانُ

يا أيها السَّيدُ المنهلُّ قائلُه

مُذْ كان والعارضُ الهتَّانُ هتَّانُ

الأرض للقطر ما لم تهم عاطشةٌ

والنَّجمُ في الأفْقِ ما لم تسْرِ حَيْرانُ

ص: 268

ليَهْنَإِ اليومَ أهْلُ الأرض إنَّهُمُ

بالأمن في ظلك المممدود سُكانُ

عدلا ملأتَ به الدُّنيا فأنْت بها

بين العباد وبين الله ميزانُ

بني الخليفة والمجد الذي سبقتْ

به كرامُ أروماتٍ وأزْمانُ

من قيس عيلانَ أقمارُ العلاء وما

أدْراكَ يا مَجدُ ما قيسٌ وعَيلانُ

أبياتُ مَعْلُوةٌ في كلِّها لكمُ

بأسٌ كريمٌ على التَّقوى وبُنْيانٌ

فلو لحقتُمْ زمانَ الوحي نُزِّلَ في

تلكَ الصفاتِ مكان الشعر قرآنُ

أثْبَتُّمُ الملك في خَضْراءَ باسِقةٍ

حتى خمائلها عدل وإحسانُ

ليْت الجياد سَرَتْ عني مبلِّغَةً

بُشْرى يُسَرُّ بها أهلٌ وجيرانُ

إنِّي أنَخْتُ رِكابي منْ بلادكم

بحيثُ تنعمُ أرواحٌ وأبدانُ

مُخَيَّماتٌ من الجوزاء عيشتها

فيما اشتهى رائدٌ واختار لَهْفانُ

الماءُ صَدَّاءُ والسلطان سيدنا

أبو سعيد ونَبتُ الأرض سَعْدانُ

تلك الشمائل إن لم تَسْرِ في بدنٍ

رُوحاً فهنَّ له رَوْحٌ ورَيْحانُ

وإنْ يكنْ لفْظها راحاً وحاش لها

فقد ثَنَتْني حتى قيل نشوانُ

ص: 269

يا كوكب الدين والدنيا وإن طُمِسَتْ

مَمَا لِكٌ بِكَ في الدنيا وأدْيانُ

هام الورى بك حتى ما يرى أحدٌ

إلَاّلهُ بِكَ شُغْلٌ أوْ لهُ شانُ

فكلُّ عينٍ عدتْ مرآكَ عابرةٌ

وكلُّ قلبٍ تسلّى عنك خَوَّان

شَغَفَتْ غرناطةٌ حباً ومنك لها

بالحلِّ وصلٌ وبالتَّرحال هجرانُ

مولايَ ماذا عليها مُذْ حَلَلْتَ بها

منْ أنْ يقار بها ناسٌ وبُلْدانٌ

إذا تذكرتَ أوطاناً سكنْتَ بها

فلا يكُنْ منك للْأضْلاعِ نسيانُ

في كُلِّ ناحيةٍ شوقٌ وأََعْوزهَا

منْ ذا الذي يعْتَريه عنك سُلوانُ

فإنّما أنت زوَّارٌ لِتَشْفيَهَا

منْ بعْدِما شَفَّها وَجْدٌ وتَحْنانُ

والكلُّ غرناطةٌ إنْ تُمْس شيقةً

إليك قرطبةٌ لم يسل جيَّانُ

دُمْ لليالي وللأيام ما اخْتلَفَتْ

تُزْهى بِمَنْظرك الباهي وتَزْدانُ

وفي جنودك من عدو ذي شيع

في البيض بيضٌ وفي السودان سودانُ

ومن هنا سُورٌ للفتح طائلةٌ

فيها إذا تُليَتْ ذكرى وتبيانُ

ص: 270

منْ لم يُصِخْ نحوها والسيفُ مُلْتَحِفٌ

فسوف يقرؤها والسيفُ عُرْيانُ

موتُ العدا بالظُّبا دَيْنٌ وإنْ مَطَلَتْ

به سُيُوفُكُ فالأيامُ ضُمَّانُ

فكُنْ منَ الظَّفَرِ الأعْلى على ثقة

منك الظُّبا ومن الأعْناقِ إذْعانُ

لا زال كلُّ عدوٍّ في مقاتله

دمٌ إلى سيفِكَ الرَّيَّان ظمآنُ

قال أبو إسحاق:

أثْبتُّ هذه القصيدة الفريدة التي أنْزل فيها القوافي من أعلى معاقلها، وأصاب أغراض المعاني في

شواكلها، أطلعها في سماء البيان غُرة زاهرة، وأظهرها للعيانِ آية باهرة. أرَقُّ من فرند الحسام،

وأَعْذَبُ من المُدام ممزوجة بماء الغَمام. وشَّحْتُ هذا البابَ بأزهارها، وحَلَّيتُ جيدَه بِدُررها

وجواهرها.

وأرْجع إلى إثبات مَنْثور كالزهر الغضِّ، لأعْطِفَ أنواعَ البيان بعضها على بعض.

ص: 271