المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل ومن أحسن ما كتبوا إلى الإخوان وأطلعوه من غرر البيان - كنز الكتاب ومنتخب الأدب - جـ ١

[البونسي]

الفصل: ‌فصل ومن أحسن ما كتبوا إلى الإخوان وأطلعوه من غرر البيان

‌فصل ومن أحسن ما كتبوا إلى الإخوان وأطلعوه من غُرر البيان

يا سيدي، وأعظم عَدْوِي والعِسْقَ الخطير في مُعْتَقَدِي. الحميد عَهدُه، الوكيدَ على مرِّ الأيام عَقْدُه،

ومنْ أبْقاه الله قريبَ المُراد، خصيب المَرَاد. وَرَدَني، أَعَزَّكَ الله، كتابُكَ الأثير، والنَّفيسُ الخطير، فَسَّر

بما أَهْداهُ منْ صلاح حالِك، كما أَساء بما أَدَّاه من اشتغال بالك، بإعْياء المذْهَبِ، في سوء المطلب، وما

سدّ الله باباً، إلا فتح أبْواباً. فَهَوِّنْ على النفس العزيزة أعاد الله أُنْسها وانْسَ فَوْتَ مالم يُحْتَم، وتعذرَ

مالم يُقْسم، ولا تكترثْ لِسهمٍ أَخْطأ، وحظ أَبْطأ، فما كلُّ ساع يحظى، ولا كل غريم يقضى، ولا كل

سهم يصيب، واذكر قول حبيب:

وقد يكهم السيفُ المسمى منيةً

وقد يرجع المرءُ المظفَّر خائبا

فانتض، أعزَّكَ الله، منْ أثوابِ الغُربَة، إنَّكَ غير مملولُ الصحبة، وتنزَّهْ عن نوال المذلة، رُبَّ مكثرٍ

بعد قلَّة، وانصرف راشداً، ولا تَهبْ حاسداً، فالحاسد لئيمٌ، والمحسود كريم، وأَقْبِلْ إليَّ، مُغْتَبِطاً بما

لديَّ، فحالي حالُكَ، ومالي مالك، لا يخونك عُسْر، ما دام لي يُسر:

ص: 323

ولا تُتْبع التثريبَ نَفْساً جَهِدْتَها

على فوتِ حظٍّ نيْله لم يُقَدَّرِ

فَقَدْ يخلف المطلوب ما ظنَّ مُعْذِرٌ

وتجني المُنى عفواً يمينُ المعذِّر

إذا كنتَ في قَدْر الدَّراريِّ رِفْعةً

فقل لليتامى رُب نُجْحٍ مقَهْقر

ولا تَيْأَسَنْ من عودة الدَّهْر إنَّه

يُمِرُّ ويُحْلِي ليسَ هذا بمنْكر

وما تتَّقِي منْ شامتٍ عند نبوةٍ

وَحدُّك أَمْضى منْ فُتور بأحْور

ولا عارَ في تقصير جَدٍّ بسَائِقٍ

إذا لم يكن في باعِه بالمُقَصِّرِ

ذَرِِالهَمَّ في الأعْراض إن أَعْرَضَ القنا

بجوهر فهم يزدري كلَّ جوهرِ

ففي كفِّكَ اليُمْنَى يسيرٌ من المنى

إذا أعْسرتْ كفُّ الغنيِّ بمُعْسِرِ

وفي سحرك المنظومِ تعجيزُ بابلٍ

وفي وَشْيِكَ المرقومِ تكسيرُ عبقرِ

أدال الله يدي من بينك، بأوْبةٍ يُقَرِّبُها لمحُ عيني وعينك، وَحَرْسُ مُهْجَتِكَ الكريمة، إنها الحظُّ

والغَنيمة.

قوله (فقد يخلف المطلوب ما ظَنَّ معذر): المُعْذِرُ في طلب الحاجات، هو المبالغ المجتهد الذي أعْذَر:

أي أَتَى بعذر صحيح. والمُعَذِّرُ

بفتح العين وتشديد الدال مكسورة، هو المتواني في أمره، فهو مُقَصِّر فيه، ويوهم أنَّ له عُذْراً ولا

عُذْر له. ويكون أيْضاً بمعنى مُعْتذر، أدغمت التاء في الدال. والاعتذار يكون بحق مرة، وبباطل مرة.

ويقال أعْذر في الأمر، إذا قَصَّر فيه.

وقرأ ابن عباس والضحاك

ص: 324

وحُمَيْد (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ). بالتخفيف، وتابعهم يعقوب. ورواها قتيبة بن مهران عن

الكسائي ورواها أبو كريب عن أبي بكر بن عياش عن عاصم. ووجْهُ التخفيف فيه أي الذين بالغوا

في العُذْر. ومنه قولهم (قد أعذر من أنْذَر). وقرأ الجمهور وجاء المُعَذِّرون. بالتثقيل. على أنَّ الأصل

المعتذرون، فأدغَمت التاء في الذال كالمزمِّل والمدثر والمذكر وشبهها.

قال المفسرون مجاهد وقَتَادة وغيرهما: هم نفر من غفارٍ جاؤوا النبي عليه السلام فاعتذروا إليه، فلم

يقبل منهم لِعِلْمِه صلى الله عليه وسلم أنَّ اعْتذارهم باطل.

وقرأت في النوادر قول أبي بكر بن دريد ليس المقْصِر واحداً كالمقصِّر. حكم المعذر غير حكم

المعذّر.

وقوله (ذر الهم في الأعراض) الأعراض جمع عِرض، وهو معلوم.

ص: 325

وقوله (إن أعرضَ القَنا) أي: إن أعرض القنا عنك، هو من قولهم: أَعْرَضْتُ عن فلان، وأعْرَضَ

هو عني. ومعناه: تنَحَّيْتُ عنه وتنَحَّى هو عني، فأريته عُرْضَ وجهي وأراني عُرْضَ وجهه. ويقال

أيْضاً: أعْرض لكَ الشيء إذا بدا. ومعناه أراك عَرْضه. ومنه قول عمرو بن كلثوم:

وأعْرَضَتِ اليَمامةُ واشْمَخَرَّتْ

كأَسْيافٍ بأيْدي مُصْلِتينا

وفي هذا اللفظ اشتراك، وبابه متسع.

وقوله: (أعسرتْ كفُّ الغني بمعسر) يقال: أَعْسَرَ الرجُل يُعْسر إعْساراً، فهو مُعْسِرٌ إذا افتقر، ورجل

أَعْسرُ، يقال ذلك أيْضاً للذي يعمل بشماله. وعَسُر الشيء عُسْراً. وفي كتاب الله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: اليسر: الإفطار في السفر، والعُسْرُ: الصَّوم فيه وفي المرض.

وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة وهو محصور: (إنه مهما تنزل

بامرئ شديدة، يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عُسْرٌ يُسْرَيْن).

قال أبو سليمان قوله: لن يغلِب عسر يسرين إنما هو تأويل قوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا). وفي ظاهر التلاوة

عُسْران ويسران؛ إلَاّ أن المراد به عسر واحد؛ لأنه مذكور بلفظ التعريف، واليسر

ص: 326

مذكور بلفظ التنكير مرتين. فكأن كل واحد منهما غير الآخر.

وقال الفراء: العرب إذا ذكرت نكرة، ثم أعادتها بنكرة مثلها صارت اثنتين. كقولك: إذا اكسبت

درهماً فأنفق درهماً. فالثاني غير الأول. وإذا أعدتها بمعرفة فهي كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق

الدرهم، فالثاني هو الأول.

قال الفراء: (ومن هذا قول بعض الصحابة: لن يغلبَ عُسْرٌ يُسْرين. وقال بعض المتأخرين: (هما

سواء لا فرق بينهما، والذي استشهد به الفراء غير ذلك. وذلك أن القائل إذا قال: إن في الدَّارِ زَيْداً إنَّ

في الدار زيداً مرتين، لم يدل على أنه غير زيد واحد، كما لم يدل على أكثر من دار واحدة).

قال: وقول عمر (لن يغلبَ عسرٌ يُسْرين) معناه أن للعسرين يسرين. إمَّا فرجٌ عاجِلٌ في الدنيا، وإما

ثوابٌ في الآخرة.

وقال محمد بن المؤمل في قوله تعالى (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) قال: هو من مظاهر القول، يراد به التوكيد كقوله (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

وكقول الشاعر:

إذا التيازُ ذو العضلات قلنا

إليك إليك ضاق بها ذِراعا

وكقول الآخر:

ص: 327

هلا سألت جموع كِنْدَ

ةَ حين ولَّوا أين أَيْنا

وقوله: (من مظاهر القول) مما يؤكد ويقوي القول؛ من الظهير، وهو العون.

وقوله: (تكسير عبقر). عبقر موضِع باليمن ينسج فيه الديباج.

قال الأصمعي: إذا استحسنت العرب الشيء واستجادته قالت فيه عَبْقَري. وأصله أنَّ عَبْقَر موضع

تجود فيه صناعة الوشي. قال الراجز:

متكئاتٌ فوق فرش العبقَرِ

في جنة الله الجليل الأكبرِ

وقال ذو الرمة:

حَتَّى كأنّ رياض القَشٌْع ألبسها

من وشي عبقر تحليل وتنجيدُ

وفي حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريتُ في المنام أُنَازِعُ

على قليبٍ بِدلو بَكْرة، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف. والله يغفر له، ثم جاء

عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فَرْيَه حتى روى الناسُ وضربوا بعطن". ومنه

قول زهير:

ص: 328

بِخَيْلٍ، عليها جِنَّة عبقرية

جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا

قال:

والمراد بهذا، والله أعلم، قصرُ مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأنها كانت، فيما ذكر، سنتين

وثلاثة أشهر وعشرة أيام. وطول مدة خلافة عمر رضي الله عنه، لأنها كانت عشر سنين وستة أشهر

وأربعة أيام. ذكر هذا أهل العلم بالتاريخ.

رجع

جواب الرسالة المتقدمة:

يا مولاي وسيدي، وربَّ النِّعَمِ الجسيمَة، سيدي ذا الأيادي الغُرِّ، والنِّعَم الخُضْرِ، والمواهب الجزيلة،

والمذاهب الجميلة، والهمَّة العالية، والرتبة السامية، والآداب المنخولة، والشمائل المعسولة، ومنْ أطال

الله بقاءهُ، والآمال موقوفة عليه، وحنانُ النجاح في يديه، والسعْدُ دائمٌ، والحسودُ راغمٌ، تجري الأقدارُ

على مرْغوبه، في تسيير مطْلُوبه.

كتبْتُهُ، أبْقى الله مولايَ وسيدي، عنِ العهد الكريم، والودِّ السليم، لاغاية له فأَحُدُّها، ولانهاية فأقِفُ

عندها؛ لكنني أُحيلُ على معْهودٍ، غير محدود، ولمَّا بعدتِ الدارُ، وشَطَّ المَزارُ، لمْ يبْقَ منَ التواصل،

غير التراسُل، فهو عند الاضطرار، تواصُلُ الأحرار، بَقِينَا نتعلل بالحروفِ، ونُقيمُ الصِّفة مقامَ

الموصوفِ، فجَفَّتِ الموارد، وقلَّ الصادر والوارد، فلا وصل إلا بِخَيال يَسْري، أوْ نسيم يجري:

ولما أَتَتْني الريح من نحو أرْضكم

وقد ضُمِّخَتْ بالطيب كُلُّ المسالِكِ

تُذكرني عهداً كريماً وجيرة

كراماً نماهمْ كلُّ أرْوَع تائك

ص: 329

وإذْ أنَّا شَرْقيَّ العُذَيبِ بفتية

تُمَلِّكُهم أَخْلاقُهم كلّ مالكِ

يبذُّون أبناء الزمان نجابة

ورقَّةَ آدابٍ ولينَ عَرَائِكٍ

حَنَنْتُ ونارُ البين بين جوانحي

تثير سحاباً عن هموم هوائك

وأَيْقَنْتُ أن الطيبَ أطيب

... قد اكتنفت بيتي علي بن مَالِك

فتىً لو أَلمَّتْ بالقبُور حلاوةُ

شمائله أحْيا بها كلَّ هالِكِ

ولو خاطبَ الكفار في نبذ كفرهم

لعادَ إلى نهجِ الهُدى كل آفِكِ

ولو أنَّ نور البدركان كنورِه

لما استصعبتْ سير الدجى نفس سالِك

مهذبة أعْراقُهُ في نِجارِهِ

مقابلة من سامك حذو سامك

فمن قاسه بالناس جهلاً بقدره

يكنْ مثل من قاس اللجَيْنَ بآنُك

فلونُهما قد يستوي عند ناظر

وبينهما بَونٌ بعِيدٌ لسابك

وهذا كقول أبي جعفر التُّطيلي:

والناس كالناس إلا أنْ تُجَرِّبَهم

وللبصيرة حُكْمٌ ليس للبَصَرِ

ص: 330

كأَلأَيْكِ مُشْتَبِهاتٌ في منابِتِها

وإنَّما يقعُ التفضيلُ بالثَّمر

وفي المعنى:

يا مولاي ومؤيدي، ومصادي ومَعقِلي، ومَصْدَري في الحادثاتِ وموردي، الرفيع المزير، القليل

الشكل والنَّظير، ومنْ أطال الله بقاءَهُ خافِقاً لواء عزِّه، وشاهِقاً بناء حِرْزِه، قد طوَّقني مولاي ومؤَيِّدي

لا يُحيطُ بها قوْلٌ ولا ذِكْرٌ، ولا يَبْلُغُها وصفٌ ولا نشْرٌ، ولا يُؤدِّيها عنِّي عملٌ ولا شُكْرٌ:

وكيفَ أُؤَدِّي شُكْرَ من إِنْ شكرتُه

على بِرٍّ يومٍ زادني مثْلهُ غدا

فإنْ رُمْتُ أقضي حقَّ بعض الذي مضى

رأيتُ له فَضْلاً عليَّ مُجدََّدَا

فالله ولِيُّ جزائكَ، على ما كانَ منْ نعْمائكَ، ووَصَلَ كتابُكَ أَسَرُّ الِكتُبِ عندي مَنْظَراً وَمَخْبَراً، وأَجَلُّها

مورداً ومَصْدراً، أشْهى منْ لمْحة الحبيب، وغَفْلة الرَّقيب، فحلَّ منْ قَلْبي محَلَّ الماء من الظَّمآن،

والوصل بعد الهجران، والنماء بعد النُّقصان، والشفاء بعد السقمِ، والوجودِ بعد العدمِ. فحَمِدْتُ الله على

ماأعْلَمْتَني فيه من سلامة حوبائك، وشكَرْتُهُ على ذلكَ شُكرَ المُعْتدِّ ببقائك، المُبْتَهل إليه في حُسنِ

ولائكَ، ودوامِ نَعْمائكَ.

فلَمَّا فرغْتُ من قراءة الكتابِ، أخَذْتُ في الجوابِ، فأنْفذتُه نحوكَ مُتَطَلِّعاً ما عنْدَكَ، فلمَّا تأخَر جوابُكَ،

ظَنَنْتُ أنَّ كتابي لمْ يصلْ، فأرْدَفْتُهُ بكتابي هذا مؤَكِّداً عليكَ، بلْ راغِباً في إجابتي نحو بابِكَ،

ومطالعتي بكتابك، وحرَّكني ما أنا عليه من محبتك، والشَّوقِ إلى رؤيَتِكَ، أنْ قُلْتُ أَبْياتاً يسيرَة منَ

الشعر، تشهد لي ببعض الأمر، فلَكَ الفضلُ في الإصغاء إلَيْها، وعليها، وهي:

ص: 331

أحِنُّ شوقاً إلى أبي الحَسَن

كأنَّ أهْلي لديه أو وطني

ما في حنيني إليه من عَجَبٍ

صبري عنه من أعظم المِحَنِ

ما باخْتِيارٍ صَبرْتُ عَنْهُ ولو

أعْطيْتُهُ مِنِّي الوصلَ لمْ أبِنِ

أوحكم القلب في زيارَته

لطار شوقاً إليه منْ بدني

أَقسمت بالله يا أبا حسنٍ

ماذُقْتُ مُذ غبت لذة الوسن

ولستُ أعتد مدةً سلفَتْ

لم تكُ فيها معي من الزَّمَنِ

ولا أُريدُ المقامَ في بلدٍ

لم تك من ساكنيه يا سَكني

يريدُ قومي بأنْ أُثاقِبَهم

ولا يكاد الفؤاد يسعدني

كمْ أكثروا عذله فقلتُ لهم

حُبُّ بني مالِكٍ تَمَلَّكني

ياقومِ إني إذا أبنْتُ لهمْ

خشيتُ ربِّي بأن يُعذِّبني

كمْ لِعليِّ علَيَّ منْ منَنٍ

غُرٍّ وكم نعمة قد أَلْبَسني

وكمْ أيادٍ بيضٍ لهُ قِبَلي

يَؤدُّني حَمْلُها ويُثقلني

فلستُ أقضيه حقها أبداً

لكنْ لساني الشكر ليس منّى

لا زال في عِزَّةٍ وفي شَرَفٍ

ما سجَعَ الهاتفاتُ في فَنن

وفي المعنى:

يامولاي بعَلائه، وسيِّدي بسَنائه، وتتابُع مِنَنِه وآلائه. دوْحةُ ظلالٍ، وروْضةُ آمالٍ، الذي إنْ كاثرْتَ

به كَثُر، أوْ فاخَرْتَ بحَمْدِه بهر، ومنْ أدامَ الله بهجة أيامه، ومتَّعَ العبادَ بعدلِ أحْكامه.

كتبته، أَبْقى الله مولاي وسيدي، إِثْر ما وردَ كتابُه الرائقُ، بلْ شِهابُهُ الطارِقُ، مطرَّزاً بسحر بيانه،

موشَّحاً بوشيِ بنانه، يرفلُ في أثْوابِ البلاغة الضَّافية، ويكرعُ في

ص: 332

مواردها الصَّافِية لفظٌ سَكْرٌ في المراشِفِ، لَدْنُ المعَاطِفِ، إنْ سُمْتَه أطمع، أوْرُمْته امتنعَ، سوانِحُ أفْكار، بينَ نَظْمٍ ونثارٍ، كلاهما أَلْيَقُ بالنفس من ذمائها، وأشهى إليها من حياتها، تكادُ الأقلامُ تَدَّعيه، والقراطيسُ تعيه، إنْ قُرئَ فالأسحارُ

ساجدة، أوْ نُشِرَ فالأعْلاقُ كاسدة، نقده معجز، ونَيْلُهُ مُعْوِز، وحُقَّ لمن انتمى البحرُ إلى كرمه،

وتواضع النجم إلى هممه، وحلَّ السِّحْرُ بين لسانه وقلمه، أنْ تُقَلِّدَهُ الكتابَةُ دُرَرَها، وتَكْسوهُ البلاغة

تحْجيلَها وغُرَرَها. وكيفَ لا، وفكرُهُ قد غذَّتْْهُ الفِطَنُ بمائها، وأنارته العلومُ منْ سَنَاها وسَنَائها، فالذَّكاءُ

يعده، وبحارُ العلوم تمدُّهُ. لا جرمَ أنَّ منْ تعاطى شأوَ مباراته، وتعرضَ إلى ميدان مُجاراته، أَتْعَبَ

خاطرَه، وأسهر ناظره، وفصح اليقينُ ظنونه، وأَُرْتِجَ بابُ القول دونه. ولمَّا تطلَّعت العينُ في رُقومه،

وسفرتْ إلى الفُؤادِ بمنْثوره ومنظومه، طوى خِلْبَه عليه، مُغْتَبِطاً بما لديه، فكم غُلَّةٍ برَّد، وأُنْسٍ جَدَّد

بلْ كم أمَلٍ بلَّغَ، وجَذَلٍ سوَّغَ. كتابٌ هوَ من العينِ انْسانُها، ومنَ الحياة أمانها، ماذكر منَ الشوقِ إلا

الذي أُجدُه، ولا وصفَ من الودِّ غير ما أعْتقده، ولمَّا أرَدْتُ الأخْذَ في مراجعته، أَيَّدَه الله، خَذَلَتْني

فِكَري، وسكنت بلاغته حصري، فرأيْتُ التجامُلَ عن التَّثاقُل، أوْلى منَ العتاب في ردِّ الجوابِ.

وفي المعنى:

أطال الله بقاء الفقيه الوزير، والسيد الفاضل المزير، أبي فُلان مولي المحاسن ومالكها، وباني

المفاخر وسامكها، اللابِس من الحمد سبع دروعٍ، والماجد بأكرم

ص: 333

أصولٍ وأنْجبِ فُروع. إنسانُ عين

زمانه، وحاوي قصب السَّبْق في زمانه، ذو المجد المؤَثَّل، والقدر المرفَّل، ومعال خفضت كل عال.

كبَتَ الله حاسديه، وأنْمى غِبْطَتَهُ وكَثَّر غابطيه، وتَمَّمَ نعماءه، وحرسَ منْ فرده الحاسدين سماءه.

كتبته عن لسان يخدُمُ ما أَُضمِره، وجَنانٍ يستقلُّ كثيره وَيَسْتَنِيرُه، وذكرٍ أعْطر من النَّدِّ يعْبَقُ شذاه،

والروض ينفَحُ في نداه، وأطيبَ من الراح، تُشَجُّ بالبارد القرَاح. أُعيده تَرْديداً، فأجِدُه لذيذَ المذاقِ

جديداً. تشوَّفتِ النفس تفديك، إلى جميل ذكر تهديك، وشُكْرٍ تضوَّع بريَّاه، بجامٍ تَنِمُّ حُمياه، فسمحت

القريحة بنزْرٍ وجَّهْت به على عجَل، مُسْتقيلاً ما مرَّ من عِثارٍ فيه أو زَلل، فتصفَّحْ بمثل عَطْفِك، على

شريطَة الصفْحِ ما قصَّر عنْ جليلِ وصفِكَ. والسلام.

وفي المعنى:

يامولاي إقْراراً، وإلى الحقِّ بِداراً، اعترافاً وقوْلاً بما سلَفَ من آلائكَ التي هي الكواكِبُ شُهْرة،

والحصى كثْرة: ولو سكَتوا أثْنَتْ عليْكَ الحقائب.

ومن أطال الله بقاءه بعدلٍ يضعه، وجميلٍ يصنعه، وشُكْرٍ يُمْسِكُ لواءَهُ، ومجْدٍ يُشَيِّدُ سناءه.

كتبته، أيدك الله، وأنا في مُخاطبتي إياكَ بين فقر تَعرِض، وحَصَر يَعْتَرض، وخَاطِرٍ يقدمُ، وقلمٍ

يحْجِمُ، وحُقَّ لمن أجال فكرهُ في منصبك المنيف، ومَحَلكَ الرفيع الشريف، ومجدك الكثيف وجلالكَ،

وكريم خلالِكَ، ولو كانت له براعة سَحْبَان

ص: 334

ويَراعَةُ بديع الزمان، أن يدهشَ جَنَانه، ويخرس لِسَانُه،

وترعشَ بنانه، غير أنَّ الإدلال، يقتضي الاسترسال، فكل يحل عقده، ويُنْفقُ مما عنده، وإنْ كنت في

ذلك كمن سابَقَ الجواد بمطية، وفاخر غانماً بعطية. ولما وردَ كتابُهُ الخطير الذي هو ريحانَةُ النفس،

وسرُّ السرور والأنس، مددتُ يد البدارِ إليه، ووقفْتُ وقُوفَ الحريصِ عليه، فاطَّرَدَت لي البلاغة منْ

أَثْنائهِ، وتَضَوَّعَ المسْكُ منْ أرْجائه، وأدارتِ الفصاحة عليه جِرْيالَها، وسحبَت مُخْتالةً أذْيالها، وقد

انتظم فيه وشيُ صنعاء بزهر الرياض، وسحرُ بابل بغنجِ الأعين المراض. وقد أخذ النثر صَدْرَ

ميدانه، وتلاه القَرِيضُ ثانياً من عنانه، ولما هزت السطور قدودها، وأقامت الأبيات بنودها، واستولى

القصيد أمده، واستوفى عدده، أعدَّت القوافي سلاحها، وسدَّدَتْ رماحَها، فَحمِيت جنابها، ومنعتْ

ركابها، فتحامت الرَّوِيَّ اضْطرارا، وركبت العروضَ اخْتيارا، فَنَمتْ ببعضِ المُشاكَلة، وإنْ كان بُعْداً

عنِ المُمَاثَلة:

إلى ذي شيمةٍ شَغَفَتْ فُؤادي

فلولاه لقُلْتُ بها النَّسيبا

وكيف لا أحن إلى سليل أكارمٍ، وأحرص على شقيق مكارمٍ، وأتشوَّقُ إلى رضيع مجد، تشوقَ حُرَّان

إلى بدر نجد، وله مشاهدُ أحلى لديَّ من الشِّهاد، وأشهى إليَّ من الغُمْضِ عقِبَ السُّهاد. كلٌّ يشهدُ بسبْقِ

أوَّليَّتِه، وعِتْقِ سجِيَّته،

ص: 335

وكريم محْتِدِه، وطيبِ مولده. ولئِنْ قصَّرَتْ يدُ الجزاء عنْ مُقارضةِ قَرَْضِه،

وتأديةِ ما حقَّ منْ وكيد فرضه، لأشْكُرَنَّ ما أَلْبَسْتَنيه من باهر حلاه، وجَلَّلنى من فاخر نُعْماه، وله

الفضل الكامل، والبِرُّ الشامل، في قبولِ جُهدي، منْ مبْذولِ وجْدي، ليحوزَ المِنَّتين، وينظم النِّعْمتين،

وذو الجلال والكَمالِ، يأخُذ له بأكمل الفضل، وأطول الطول، ويُتِمَّ نعمَتَهُ عليه، كما أتَمَّها على البُراة

المُنْجبين آبائه الأكرمين، إنَّه ولي المُنْعمين، لا شريكَ له.

وكتب أبو نصر إلى أبي محمد بن السيد البطليوسي:

أطال الله بقاء الفقيه الأجل، غمامي المستهل، وحسامي المستل، والأيام تتشرَّفُ ببقائه، والهِمم

تتشوفُ إلى لقائه. اليوم أغْفِرُ للأيام ذنُوبها، وأُعَطِّرُ صَبَاهَا وجنوبها، وأبْعثُ منْ حمدي لها عبقاً

ورياً، وأديرُ عليها الشكر حُمِّياً، وأخْلعُ عن المطايا عقالاً، ولا أكَلِّفُه وخْذاً ولا إرْقالاً، ولا أبْتَغي بها

مراقاً، وأجْعَلُ ظهورها عليَّ حِدَاقاً، فقد أرتْني لخيامكَ أعْلاماً، وشَفَتْني منْ آلامِ بِعادِكَ وكانت آلاماً

وَسَأَحُلُّ من فنائكَ ضيفاً، وأراكَ شخْصاً بعد أنْ تَمَنَّيْتُكَ طَيْفاً.

وأَنْفَذْتُهُ من الجزيرة وقد ابتسم ثغر الصباحِ، ووسمَ وقعُ أيدي المطايا خُدُودَ البِطاحِ، وللغَمامِ انْسجامٌ

يحكي نداكَ، وللخليج فيضٌ كأَنَّهُ يداكَ، وللجَوِّ عُبوسٌ أكْسَبَ الروضَ طلاقةَ مُحياكَ، وساعة لُقياك،

وسأُوافيكَ، فأَهصر أَفْنانَ

ص: 336

تَحَفِّيكَ، وألْتقط الدُّرَّ النفيس من فيكَ. وقد أَتْمَمْتُ الكتابَ الذي كنتُ بدأته،

وحَليتُ به العصر وقلَّدْتُه، وقد خَصَصْتُكَ بالذكر فيه، وأنتَ بفضلكَ تتأمَّلُهُ وتَجْتَليه، فَتَعْلَمَ به

إخْلاصي، وتتحقَّقَ به غاية اخْتِصاصي، ولكَ الفضْلُ في مراجعةٍ تُطْلِعُها بدْراً عليَّ، وأجدُها نوراً

يسعى بين يدي. َّ إنْ شاء الله عز وجل.

فراجعه الأستاذ أبو محمد:

أطال الله بقاء ذي الوزارتين الجليل، الكاتب النبيل، قريع دهره، وبديع عصره، الذي عليه تُثْنى

الخناصر، وبِمثله يفاخر المُفاخر، مرقىً من المراتب أَعْلاها، مُلْقى من المآرب أقصاها:

ليس بالمنكر أنْ برَّزتَ سَبْقاً

غير مدفوعٍ عن السَّبْق العِرَابُ

وافاني، أدام الله عزَّكَ، كتابٌ شغل حاسَّتيْ سمعي وناظري، وملأ حافتي فكري وخاطري، أراني

الدُّر إلا أنَّه لم يُنَظَّمْ، والسحر إلا أنَّه لم ُيُحَرَّم؛ بل لوْ صيغَ عِقْداً لأخْجَلَ الدُّرَّ والعقيان، أوْ حيكَ بُرداً

لعطَّل الديباج والخُسْروان، فلله قريحة أذْكتْ ناره، وأطلعتْ أنواره، إنَّ مُزنها لَغَيْرُ جهام، وإنَّ سيفها

لغير كهام، وإنَّ ثَمْدَهَا لَعِدٌّ وبِحَارُ، وإنَّ زَنْدها لمرجٌ وعَفَار.

وحبَّذا سيدي أدام الله عزَّه، وقد طلعَ علينا طُلوعَ البدْرِ في الغسقِ، وضَمَّخَ أفقنا بخُلُوقِ ذلكَ الخلق،

فاقتدَ حْنا زَنْد ذكائه فأَوْرى، ولَمَحْنا كوكَبَ سمائه

ص: 337

فأعْشى، وشاهدْنا به البلاغة شخْصاً محسوساً،

والرئيس المتعاطي للفصاحة مرؤوساً، أقْدَمَه الله خير مَقْدَم، وأَغْنَمَهُ أَفْضَل مَغْنم، بمنِّه، ورأَيّتُكَ، أطال

الله بقاءكَ، قد نَحَلَْْتني فَضْلاً، لم أكنْ له أهْلاً، وحَلَّيتني بمفاخر وحلىً، اقتبسْتُها مِمَّا لكَ منْ مآثر

وَعُلىً، وقدْ أبى الله إلا أنْ يكونَ لك الفَضْلُ، منْ بعدُ ومنْ قبْلُ. والخليلُ بالخليلِ يَزْهى وينجحُ: (وكلُّ

إناء بالذي فيه يرْشَح). ولازالتْ أنْدية المَجْدِ بك مَعْمورة، وأَلَوية الحمد عليك منشُورة، بحول الله

تعالى وكرمه.

وفي المعنى لأبي نصر:

أطال الله بقاء ذي الوِزَارتين الأجل عمادي الأعْلى، وكوكبي المُجْتَلى، مُنْتَظماً للرئاسة في سِلْك،

مُبْتسماً عن ذكائه وعنائه كل مِلْك. ما أحَقَّ - أدام الله عزك - دولة أنت كوكَبُ سمائها، والمسْتَقِلُّ

بأعْبائها، أنْ تنتظمَ لواليها أشْتاتُ البلادِ، وتَشْتَمِلَ عليه أهواء العباد، وتنْفَسِحَ له مضيقاتُ الآماد،

برأيكَ السديد الذي إذا اقتدحَ أوْرى، وإذا سرى إلى صبحه صار حميد السُّرى. هذا لو كانَ صاحِبُكَ

من الأمر عارياً، وتقلدهُ تطاوُلاً عليه وتعادياً، دُونَ إجْماعٍ من الأمة، واطلاعٍ لِمُلِمَّةٍ. فكيف إذا كان

ملكاً عِراقِيَّ الأخلاقِ، حِميريَ الأعْراق، يشرق لسناه الظلامُ، وتعْبَقُ منْ أرجِهِ الليالي والأيام، وتَفْرَقُ

منْ سطواته الليوثُ في الآجام.

لقد جَمَعَتْكما مُشَاكَلَةٌ، وألَّفَتْ بيْكُما ممُاثَلةٌ، أقامتْ للمَعارِفِ عندَكما سوقاً، وأوْضَحَتْ بكما لأقاليمِها

طريقاً.

فللآدابِ عندكما جولة، ودوْلَتُكُما تزدري بسيفِ الدولة. لا جرمَ أَنَّهُ بك - أَيَّدَكَ الله - أَظْهر، وحَظُّه

من الذكاء بك أَوْفر.

ص: 338

وأَنْفَذْتُهُ من فُلانَة، من منزلِ الوزير الجليل أبي فلان، قارضَ الله عارفَتَيْ تَهمُّمِه وتَحَيُّفه، فإنَّه أَسالها

جداوِلاً، وأحلَّ منْهُما منازلاً مُخْضَرَّة ومناهِلاً، فلَوْ شاهَدْتَني وأنا أمْرَحُ بيْنَ نُعْماهُ مراحاً، وأقْتَرحُ ما

شَاءتْ عليَّ علْياهُ اقتراحاً، لرَأَيْتَ عيشاً هنيَّا، وأُنْساً من الوحشة عريَّا. وأَبْصرتَ منْهُ - أَعزَّهُ الله -

عِلْقاً للفضائِلِ سنيَّا، وقد رجوتُكَ لجزائه، وأَمَّلْتُكَ لوفائهِ. وأنْتَ - إنْ شاء الله - لِنِدَائهِ مجيبٌ، ولفعله

مثيبٌ، وأقرأُ عليكَ سلاماً كإشراق راحنا، والْتِصاق ارْتِياحنا، ورحمةُ الله تعالى وبَرَكاتُهُ.

وكتب أبو عبد الله بن أبي الخصال:

بِلَوشْةٍ نُخْبةٌ من العربِ

هَمُّهُمُ في السَّماحِ والأدَبِ

ضَنُّوا بأَحْسابِهم، وجُودُهُمُ

مُنْتَهَبٌ مالهم منَ النَّشَبِ

كمْ فيهم للأخِ الغريبِ إذا

حلَّ بهمْ من بني أخٍ وأبِ

ومُؤْثرٍِ للعبيد زار عَلَى

كُلِ حميمٍ مُشابِكِ النَّسَبِ

جادوا على عذْرِهم ولوْ بَخِلُوا

لقامَ لِعُذْرٍ حاضِرُ النُّوَبِ

الوُزَراءُ الظُّهراءُ الجِلَّةُ، مكارِمُهُم مُسْتَهِلَّة، وسيادَتُهم مُسْتَقِلَّة، وعليهم للنَّدى أدِلَّة، وحَلَّتْهم لبني

الحاجاتِ حُلَّة، فلا تَخَوَّنَت عزتهمْ ذلة، ولا خامرَتْ خدهم، وهم الصوارمُ الماضية، كِلَّة. ضيْفُهم مُكْرَمٌ

بِعَقْوَتِهم وناديهم، وجارُهم في

ص: 339

الأزماتِ منْ أَوْسطِ أهاليهم، بَلْ تتخَطَّاهم إليه الصَّفْوةُ والخلاصةُ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).

يتَنَافسُونَ في الإحْسانِ، ويتقارَعونَ على الضِّيْفانِ منْ كُلِّ موضُوعِ الخِوَانِ، مبْدئٍ بنُفوسِ الإخْوان:

حبِيبٌ إلى الزُّوار غِشْيانَ بَيْتِهِ

جميلُ المُحَيَّا شفَّ وهْوَ أديبُ

وكتب أيضا:

أبا عبد الإله اسْلَمْ مَلِيّا

وَدُمْ في أَسْبَغِ النُّعْمى عليَّا

وثِقْ بالله وارْجُ الفَضْلَ منهُ

فَقِدْماً كُنْتَ مِفضالاً وَفِيّا

تلقَّتْكَ المكارِمُ والأيادي

فألْفَيتَ الزمان بها رخِيَّا

سيِّدي الأعْلى، وكبيري المُفَدَّى، تسنَّتْ أوْطارُكَ، وتَأتَّتْ أَقْدارُكَ، وعزَّ في كلِّ حالٍ مَحَلُّكَ ومِقْدارُكَ.

كَتَبْتُهُ، وقد صدرَ النَّجيبُ السَّريُّ، والذكيُّ الألمعيُّ، أبو فلان - أَعزَّهُ الله - وقد أَلْفى لكَ في كلِّ دارٍ

إخْواناً، وأَصْفياءَ على البرِّ أعْوانا، وذلكَ بفضل ما أَسْدَيْتَ، وكرَمِ ما قدَّمْتَ وأَوْلَيْتَ. وأنْتَ - بحمد

الله - إلى كلِّ النُّفوسِ حبيبٌ. وكلُّ حرٍّ فلهُ فيكَ ومِنْكَ نصيبٌ. وسيُخْبِرُكَ بما انْقَضى، والله يُتَمِّمُ

الأمل المٌرْتضى، ويُعينُكَ بسيْفِ العدْلِ المنْتَضى. ورَسَمْتُهُ، واليومُ قُرٌّ، والريحُ صِرٌّ، والشيْخُ في هذه

الشَبرَاتِ غِرٌّ، والنَّفْسُ إلى أَنْبائكَ مُطَّلِعَة، والأُذْنُ مُسْتَمِعه. أَمَدَّكَ الله بحُسْنِ الصنيعِ، وأبْقاكَ مشْكوراً.

ص: 340

وكتب:

سيدي الأعْظم، ومُعْتمَدي الأكرم، وسنَدي الأعْظَمِ، ومنْ أَبْقاهُ الله محمودَ الذِّمم، محسودَ الهمم. لمْ أَزَلْ

- أَعَزَّكَ الله - أَسْتَنْزِلُ قُرْبَكَ براحة الوهم، عن ساحة النَّجْم، وأَنْصِبُ لكَ شركَ المُنى، في خلَسِ

الكرى، وأُعَلِّلُ فيه نفس الأمل، بضربٍ سابِقِ المثل:

ماأقَْدَرَ اللَّهُ أنْ يُدْني على شحَطٍ

منْ دارُهُ الدٍّونُ ممنْ دارُهُ صُولُ

وما ظَنُّكَ، وقد نزلَ على مسافة يومٍ، وطالما نفرَ عنْ حالةِ نومٍ، ودنا حتى همَّ بالسَّلامِ، وقدْ كانَ منْ

خُدَعِ الأحْلامِ. وناهيكَ منْ طيْرِ، وقَدْ حُمْتُ حولَ المورِدِ الخَصَرِ، وذَمُمْتُ الرشأَ بالقِصَرِ، ووقفَ بي

ناهضَ القدرِ، وقْفةَ العيرِ بينَ الوِرْْدِ والصَّدَرِ. فهَلاّوصَلَ ذلكَ الأمل ببِاعٍ، وسَمَحَ الزَّمَنُ بإجْماعٍ،

وطُويتْ بيننا رُقْعَةُ أميالٍ، كما زُويَتْ مراحِلُ أيَّامٍ ولَيال. وما كانَ على الأيام لو غَفَلَتْ قليلاً، حتّى

أشْفِيَ بلقائكَ غليلاً، وأتَنَسَّمَ منْ روْح مُشاهَدَتِكَ نفساً بليلاً. ولئنْ أَقْعدتْني بعوائقِها عنْ لقاء حُرٍّ،

وقضاءِ برٍّ، وسفرٍ قريبٍ، وظفرٍ

ص: 341

غريبٍ، فما تَحَيَّفَتْ وِدادي، ولا ارْتَشفت مِدادي، ولا غاضتْ كلامي،

ولا أَخْفَتْ أقْلامي. وحسْبي بلِسانِ النُّبْلِ رسولاً، وكفى به أَمَلاً وسُولاً. وفي الكتابِ بلغةُ الوطَرِ،

ويُسْتَدَلُّ على العينِ بالأثر. على أنِّي إنَّما وحيتُ وحيَ المُشير باليسيرِ، وأمَّلْتُ فَهْمَكَ على المسطور

في الضمير، وإنْ فرغْتَ للمراجعة ولو بِحَرْفٍٍ، أوْ لمْحَةِ طرف، وصلْتَ صديقاً، وبَلَلْتَ ريقاً،

وأَسْدَدْتَ يداً، وشفيتَ صدى، لا زالتْ أياديكَ بيضاً، وجاهُكَ عريضاً، ولياليكَ أَسْحاراً، ومساعيكَ

أنْواراً.

وأقرأُ على سيدي الأعْظم سلاماً أَرِجَ الأرْجاء، مُنْبَلِجَ الصباحِ والمساء. والسلامُ المعادُ المُتَمِّمُ على

سيدي الأعْلى، ورحْمة الله تعالى وبركاته.

ثمَّ خَتم الرُّقْعة بهذه الأبيات:

هوَ الدَّهرُ لا يُبْقي بِمُر ويَحْلَوْ لِي

وسيَّانَ عنْدي ما يُجِدُُّ وما يُبْلِي

إذا أَشْكَلَتْ يوماً عليهِ مُلِمَةٌٌ

فمِنْ ظهرِ قلْبي يَسْتمِدُّ ويَسْتمْلي

سألْقي بحَدِّ الصَّبْرِ صُمَّ خُطوبه

ولوْ صيغَ فيها الشيبُ منْ حدَقِ النَّبْلِ

وأَعْرِضُ عنْ شكْواه إلا شَكِيَّةً

لها منْ هوى مرآكَ ضرْبٌ منَ الخبْلِِ

روى لي أحاديثَ المُنى فيكَ غَضة

ولكنَّها لم تَخْلُ منْ غَلَطِ النَّقْلِ

وجادَتْ بقُرْبِ الدّارِ غيْرَ مُتَمِّمِ

ويارُبَّ جودٍ قُدَّ منْ شيَمِ البُخْلِ

تراءَى لي العذْبُ النَّميرُ فلَيْتِني

برَدْتُ لهاتي منه في نَغْبَةِ النَّهْلِ

أَتَحْجُبُ شمسَ الفضلِ بُرْدَةُ ليْلَهِ

ولوْ وَصَلَتْ أرْدانَها ظُلْمَةُ الجَهْلِ

ويَخْشُنُ مسْراها لموْطئ أَخْمَصي

ولو نَبَتَتْ في جُنْحها إِبَرُ النَّحْل

أَجَلْ قَيْدُ هذا الدَّهر أضيقُ حَلْقَةً

وأقْصَرُ للخَطْوِ الوساعِ منَ الكَيْلِ

سأبْعثُ طيفي كلَّ حينٍ لعلَّه

يُصادِفُ منْ نَجْوى خيالِك ما يُسْلِي

ص: 342

ودونَكَ منْ روْضِ السلامِ تحيَّةٌ

تُنَسِّيكَ غَضَّ الوردِ في راحة الطَّلِّ

ولبعضهم في المعنى:

سيدي، وأعْظَمَ عَدَدي، وأَعَزَّ منْ شدَدْتُ على حبْلِ إخائه يدي، وأَعْدَدْتُ ذُخْرَ صفائه لأبدي، ومنْ

أبْقاه الله راضياً عن الزَّمنِ، في المُقامِ والظَّعنِ. لم أزلْ - أعزَّكَ الله - مذْ صمَّ اغترابُكَ، وَنَعَقَ

غُرابُكَ، أَتَعَجَّبُ منْ تَحوُّلِكَ، وأتَشوَّقُ لما يردُ منْ قِبَلِكَ، فلمْ أَظْفَرْ منْ خبَرِكَ بيقينٍ، ولا وقَفْتُ منْ

كيفيَّةِ مقرِّكَ على ثَلَجٍ مُبين، إلى أنْ وردَ (جُهَيْنَةُ أَخْبارِكَ)، وَعْيَبَةُ أَسْرارِكَ، الأديبُ أبو فلان، فكشفَ

منْ صورةِ أمْرِكَ ما الْتَبَسَ، ووصَفَ منْ جلِيَّةِ حالِكَ ما سرَّ وآنَسَ، وذكَرَ أنَّ ذلكَ القُطْرَ - أَنَّسَهُ الله -

رَحُبَتْ بِكَ معاهِدُه، وعَذُبَتْ لكَ موارِدُه، واشتملت عليكَ أفْياؤُه، وتضاحكتْ إليكَ أرْجاؤه. ولا غرْوَ منْ

نفاقِكَ حيثُما احْتللْتَ، وقَبُولِكَ أيْنما انْتقَلْتَ، فمنْ تحلى بمِثْلِ حلاكَ لمْ يضعْ كيفَ تصرَّفَ، ولا عدِمَ

للُّطْف أيْنَما انْحرفَ، والله يصْنَعُ لكَ صنْعاً جميلاً، ويُنْيلُكَ أَيْنما سلكْتَ آمَلاً وسُؤْلاً.

ووَصَل خِطابُك الخطيرُ، فجلى عنْ وَجْهِ بِرِّكَ وَسيماً، وشَخَّصََ منْ عهدكَ عميماً، وأَهدى إليَّ منْ

رياضِ فَضْلِكَ نسيماً، ومنْ عَرَارِِ حمدكَ شميماً، فيا حُسْنَ موقِعِه منَ الضمير، ويا نُبْلَ منزعِه الجميل

المشكور.

ص: 343

وكتب أيضاً، وقد قدم عليه بعض إخوانه:

حالي - أعزَّكَ الله - قدْ شافهتَ نجِيَّها، وعلمْتَ لا محالة خفيَّها. لمْ تُغْدِفْ دونَك قناعاً، ولا انْقَبَضَتْ

عنْكَ اسْتِجْماعاً. والإعرابُ عنها جهْلٌ، والحجابُ دونَها سهلٌ، ورُبما كان لسانُ الصامتِ أنْطَقَ،

وشاهِدُ الجمالِ أًصْدَق.

ولمَّا وردْت، يمن الله موردَكَ ومَصْدرَكَ، وجبَ القِرَى، ولوْ بِبَرَضٍ من الثَّرى، وتعيَّنَتِ المبَرَّةُ، ولوْ

بمثقالِ الذَّرَّةِ، على أنّي لوْ نظَرْتُ إلى قدرِكَ لوقَفْتُ خجِلاً، وانْصرفتُ وجِلا. لكن جَهدَ المقلِّ جَلَلٌ،

ونزْرَ المُدِلِّ مُحتمل. فَمَهِّدْ بفضلِكَ للعُذْرِ كنفاً، وأوْسِعْهُ لَطفاً وتبَّا لدَهرٍ لا يُخْجِلُهُ ضياعُكَ، وتؤلمه

أوجاعُكَ. والله يُقيله عثرة الأدب، ويرفعُ من خدِّه التَّرِبِ. بِمَنِّه.

ومن جيد المنظوم في هذا المعنى، قول الشاعر أظنه أبا بكر العَلَاّف:

للخِلِّ قدْرٌ بِخَلَّتَيْن

مني نقداً بغير دَيْنِ

ص: 344

لأنني في الوصالِ أصفو

عنْ كلِّ ريْثٍ له وزيْنِ

وأنّني لا أزالُ أحْنو

حُنُوَّ هَين عليه بين

وبعد هذا وذاكَ سرٌّ

كالصَّفو منْ خالِصِ اللُّجيْنِ

ومَحْضُ ودٍّ بغيْر مذْقٍ

وصِدْقُ عهدٍ بغيْر ميْن

فإذا دنا بالوِصالِ منَّي

أَسْكَنْتُهُ في سوادِ عيْني

وإنْ جفاني وصَدَّعَني

حفظْتُ ما بينه وبيني

ولمْ أشُبْ وهو لي مشوبٌ

مازلتُ من أمره بشين

ومن جيده أيضا قول الآخر:

نصلُ الصديقَ إذا أراد وِصالنا

ونَصُدُّعنه صدوده أحْيانا

إنْ صَدّعَني كنتُ أكرم مُعْرضٍ

ووجدتُ عنه مذْهباً ومكانا

لا مُفْشياً بعد القطيعة سرَّه

بل كاتماً من ذاك مااسترعانا

إنَّ الكريم إذا تَقَطَّعَ ودُّهُ

كتمَ القبيحَ وأظْهرَ الإحْسانا

وأنشد ابن خالويه:

هجَرْتُكَ لا قِلىً منِّي ولكنْ

رأيْتُ بقاءَ ودِّكَ في الصدودِ

كهجر الحائماتِ الوِرْدَ لمَّا

رأَتْ أنَّ المنِيَّةَ في الوُرودِ

ص: 345

تفيظ نُفوسها ظمأً وتَخْشى

حَذاراً وَهْيَ تنظر من بعيد

تصُدُّ بوجهِ ذي البغْضاء عنهُ

وترمُقُهُ بألحاظِ الوَدُودِ

ص: 346