الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل ومن أحسن ما كتبوا في التهنئة من الكلام الرفيع والنثر المشتمل على كل معنى بديع:
ابن أبي الخصال:
سَكَنَ الزَّمان فلا يَد مذْمُومة
…
للحادثات ولا سوامٌ تَذْعرُ
أطال الله بقاء الأمير الأجل، الملك الأكرم الأفضل، والبشائرُ إليه تسْتَبِقُ، والفُتوحُ في أَعْدائه تَتّسِقُ،
وأَلَوِيَةُ نصرِهِ تَخْفِقُ، ووُفودُ التَّهْنئةِ نحْوه تزْدَحِمُ، والحُتُوفُ على أقْتالِه تَقْتَحِمُ، والمنايا فيهم شرقاً
وغرباً تحْتَكِمُ، وسيوفُ الحقِّ في أوصالهم تُطَبِّقُ وتُصمِّمُ.
كتبتهُ، كتبَ الله لكم الذِّكْرَ الأرْفع، والسَّعدَ الأنْصع، والفضْلَ الأعَمَّ الأوْسع، عنْ دعاءٍ يرْفَعُهُ
إخْلاصٌ، وَوَلَاءٍ لا يضَعُهُ انتِقاصٌ، وشُكْر يسْتنْزِلُ النِّعمَ، كما يسْتَنْزِلُ العُصْمَ اقْتِناصٌ، واستمساكٍ بآيه
وظِلِّهِ الذي هو منَ
الأَيَّامِ مناَصٌ، وعلى الكِرامِ جُنَنٌ واقية ودِلاصٌ، وتَشيع في عُلاه، وتَسُرُّعٍ إلى
رِضاه. يكافئُ إحْسانهُ منه عموم واخْتِصاص. والله المليُّ بِتَتْميمِ ما يَعْجِزُ عنه الشكرُ، ولا يَبْلُغُ كنْهَهُ
الذِّكرُ. فقد أوْضَحَ لنَصْرِ الإسْلامِ سُنناً، وأبْلى المُسْلِمينَ والأميرَ المؤيِّدَ منهُ بلاءً حسناً، وأوْسعَ العُيُونَ
الساهرة قُرَّةً ووسناً، وأعاد الليْلَ، وقدْ كانَ مُعْتَرَكَ الهمومِ الوالِجة سكناً، بِمهْلك المارقين النَّاكثينَ الذين
جعلَ الله لِمَهْلِكهِمْ موعداً، (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
اطَّلعَ اللهُ عليهم فقَلاهم ومَقَتَهُم، وعمَّهُم، لاجْتِرائهم وافْترائهم، بعذابٍ سَحَتَهُمْ. لجُّوا في الضَّغَائنِ
والإصْرارِ، و (بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ). فتِلْكَ أنْواحهم في آفاقِ الديارمُرْتَقِيَةٌ، وأرْواحُهم في أطباقِ النَّارِ مُلْتَقِيَة، كادوا
الإيمانَ، وآسفوا الرحمن، وتقارَضوا الإفْكَ والبُهتان، واسْتَخَفُّوا الجهَّال، وأمَّلُّوا الآمال.
وما بَقَاءُ فلان الطَّريدِ المَلْعونِ، وقدْ فُجِعَ بخليلِه المفْتون، ورسولِه المجْنُونِ، وجمْعِهِ الذي أوْدَتْ به
رَحَى الحربِ الزَّبُونِ، ونَعى إليّه نفسه الخبيثة رأس الكفرة
غشتون. وصَمَدَ القَدَرُ إلى اعْتِرافِهم،
وشرعَ في خَفْضِ أعْلامِهم، وبَدَأَ بَنَقْضِ إبْرامِهم. فباطِلُهُم بائرٌ زاهقٌ، وآخرهم بأوَّلِهم لاحِقٌ، ونِظامهم
التَّالي في التَّناثُرِ مُتسابِقٌ.
فالحمد لله الذي ما شاء صَنَعَ، ولا مانِعَ لِما أَعْطى ولا مُعْطي لِما مَنَعَ، ذَكَّرَ المؤمنين بنعمته تخْويفاً
وتَحْذيراً، وأَذْهَبَ عنهم الرِّجْس وطَهَّرَهم تطهيراً. واستدرجَ الظالمين فاستكبروا في أنفسهم وَعَتَوْا
عُتُوَّا كبيراً حتّى إذا ذَلَّتِ الرِّقابُ وخَضَعَتْ، ونكَسَتِ الأبْصارُ وخَشَعَتْ، ومالَ البأْسُ بالرَّجاء،
وضاقتْ بما رَحُبَتْ فسَحاتُ الأرْجاء؛ تدارَكَهم منه الجميلُ وصَفْحُهُ، وجاءهم نصرُهُ العزيزُ وفتْحُه.
وكم قدْ رأَيْنا السُّحُبَ قاسِيَةً جامِدَة، والأرْضَ خاشعَةً هامِدَةً، فمَنَّ بِنِعْمَتِهِ المَطَر، وتلاحقَ اليُسْرُ منْ
أمرِه واحدَةً كلمْحِ البصرِ. فإذا آثار رحْمةِ الله قدْ وَضَحَتْ وتَبَيَّنَتْ، والأرْضُ قدْ أخَذَتْ زُخْرُفَها
وازَّيَنَتْ.
حكمةٌ من الله بالِغةٌ، ونِعْمَةٌ في طَيِّ المكْروهِ سابِغةٌ. فلَوْلا الكدَرُ ما عَذُبَ الصَّفْوُ، ولوْلا الذَّنْبُ لما
عرِف العَفْوُ. فهَنيئاً للأمير الأجَلِّ، المَلِكِ الأفْضلِ ما ارْتداه في تِلْكَ المواطنِ من النَّصْرِ، وأُفْرغَ عليه
من الصَّبْرِ، وانْتَشَرَ لَهُ منَ الصيتِ العالي والذِّكْر. فلقد أَلَفْاهُ الأمير أَيَّدَهُ الله في تلكَ الشدائد أشدَّ رُكْنٍ،
وأَثْبَثَ رِدْءٍ. ولَقد كافَح عنْ مُلْكِه، ودرأَ عنْ سُْطانه أكْرَمَ دَرْءٍ. دافع الله له عنْ حَوْبائِهِ ومَتَّعَ دولتهُ
الغرَّاءَ بمشْهده السامي وغنائه، وجزاهُ منْ نصيحته الحفية، ومُوالاتِه الصريحة الوفيَّة أحْسنَ جزائِهِ.
مكان القوْلِ - أيَّدَهُ الله - مُتّسِع، ولسانُ البيانِ عنْ غايَتِهِ منْقَطِع. وحَسْبيَ اعترافٌ بأيادِيهِ، وخِدْمَتي
تَقْتَضي حقَّ ناديه، والله تعالى يُظْهر أمْرَه ويُعْليه، وعلى أكرمِ ما عوَّدَه يُجْريه.
وأقرأُ على حضرتِهِ الجليلة أرْفعَ التَّحِيَّاتِ وأَوْفاها، وأَبَرَّها وأَتْقاها، وأَدْوَمَها وأَبْقَاها. ثُمَّ السلامُ
المُضاعَفُ المُرَدَّدُ، الموالي المُجدَّدُ عليها ورحمة الله.
وفي المعنى لأبي عبد الله بن أبي الخصال:
كتابُنا بعد صَدرِنا عن الغزو الذي نحن فيه. والحمد لله بين أمر جميلٍ، وصنيعٍ جليلٍ، وعَمَلٍ مبرورٍ
يُرْفعُ، وسَعْيٍ مشكورٍ، يُضْمَنُ لصحائف القبول ويُسْتَوْدع.
ونحن نشرحهُ لك حسبَ اتفاقه، ونسوقُ القول على اتِّساقه، لتتلقى فَضل الله بما تلَقَّيْناهُ منْ شُكْرِهِ،
وتُقدِّر صُنْعَهُ الكريم حقَ قدره.
فكانت وِجْهتنا هذه - تقبلها الله - معْقودةً أوَّلاً على قصد العدوِّ المنيخ على
(طُلَيْطُلَة) - أعادها الله
- لرفعهِ عن عُقْرها، ودفعه عن أُفْقِها وقُطْرِها، إذ كان الدفاعُ عنْ أهلِها من قواعد الصُّلْحِ وعُقُوده،
وشروطِ السَّلْمِ وعُهوده. فترامت إلى العدوّ - دمره الله - الأنباءُ بازْدِلافنا إليه، وَوَرَدَتْهُ عُيُونُهُ بِمَقْدَمنا
عليه، فاستشعرَ الخوفَ رُوعُه، وفُضَّ بمَهابَتِنا جَمْعُه، ووردنا الخبر بقفوله، ونحن إذ ذاك لم نتعدَّ
(غافق) - حرسها الله - فهناك عقدنا الضمير على النُّفوذِ لوجْهَتنا، والتمادي في غزوتنا، حتى نطَأ
بلاده وطء مُقَيَّد، ونُعيد مصانعها كالطريق المُعَبَّد، فسرنا حتى وافينا (قَلْعَةَ رباح) - حرسها الله -
فوصَلَ إلينا بها كتاب عاملِ أرِيليَة
يذكر أن الجمع المنفصل آنفاً عن (طُلَيْطُلة) تأَلَّفَ مرةً في حفل، وأقبل يُريدُ غدرَ مِسْطاسة في ثلاثة
آلافٍ، بين خيلٍ ورَجلٍ، ودنا حتى اضْطَرَبَ محَلَّتهُ بوادي الرَّمل فاستَخَرْنا الله على قصده، واستعنَّاه
سبحانه على حطمه، وصمدنا تِلْقاءهُ، وصَمَّمْنا لا ننوي إلا لقاءهُ، ووصلنا نحوه السيرَ فأدْرَكْناه،
وحثثنا السعيَ وواليْناه، حتى لَحِقْناه بِدارِ الفائزَةِ، فبِتنا بها ناجزينَ لبَيَّتِنا، عامدين لِطَيَّتنا.
فَوَرَدَ أيضاً كتابُ عاملِ أريلية المذكور، وأنَّ هذا العدُوَّ المُحْتل بوادي الرَّمل أسرَ رَجُلاً من أهلِ
أريلية فحدَّثَهُ بما أرَدْناهُ، وأخبرهُ بقصدنا إيَّاه، فكعَّ عن المصامدةِ، وضَعُفَ عن المُقاومةِ، ونكَصَ على
أَعْقابِه، ورأى أنّ وَجْهَ الحزْمِ في انْقلابِه. فحَمِدنا الله تعالى على ما أوهَنَ منْ كَيْده، وأضْعف منْ أيده،
ورأينا عندما صحَّ لدينا من خبره وتبيَّناه من صَدَره، أن نجْعلَ الغزوَ إلى جِهَتيْ مَكَّادَة وشَنْت أولاليه،
فَتَقَدَّمْنا نحوهما، ويَمَّمْنا بينَ أفْقهما، فقدَّمنا بين أيْدينا من العسكر - أنماه الله - أَلْفاً وخمس مائة
فارسٍ، تُصْبِحُهم مُغيرة، وتحلُّ بهم دائرة مبيرة، فصبّحوا مكادة وأحْرقوها من جميع جهاتها، وشنوا
الغارة على، ذواتها، واكتسحوا ما وَجَدوا من غنيمَتِهم، واسْتَوْعبَ القتْلُ والأسْرُ من أَلْفي خارج
مدينتهم، ثمَّ تلَوْناهم نحن في جمعنا
الموفور، ولوائنا المنصور، فقدَّمْناها فما اضطربنا الأبْنية، ولا
نصبنا الأخْبية، حتى دمّرْناها تدميراً، وجعلناها هبَاءً مَنْشُوراً. ودام أعداءُ الله ثُبوتاً فرشقَتْهم السهامُ،
وطالعهم الحِمامُ، واشتدَّ عليهم القتالُ، وضاقَ بهم المجالُ، حتى دُخلت المدينة عليهم منْ أبوابها،
وألجأهم الحَصْرُ إلى الترقي في أسبابها، والتعلق بذَوائبِ قِصابها، واسْتُبِيحَ حمى المدينة بأخْلائها،
واستولى السبي والحريقُ على أرْجائها، وصارَ أمر أعداء الله آخراً إلى أن تحزبوا بالقصبة لمنعتها،
واعتصموا بذِرْوَتها وعقْوتها، وكانوا عدداً جمَّاً لا طمعَ لنا في غلبتهم إلا في الأمد الطويل، والاستعداد
الجليل. فأمسكنا عنهم بعد أن جدَّ عليهم البلاء، وأخذ القتل منهم والسباء، ومس كثيراً منهم القُرْحُ،
وأثْخَنهُمُ الجُرْحُ، وخلال محاولتنا أمر مكادة أنفذنا إلى شنت أولاليه من عسكرنا، وقَّره الله، من
عاجلها بالحَيف، وتقبَّلها بالسيفِ، فقتل رجالها، وأسر عيالها، وألحقها مُلْحَقَ أختها مكادة في التغيير،
والحريق المُستطير، وصدر عنها، وقد زلزِلتْ قواعدها، وخرِّبَت معاهدها، وعوجلت بقطع الدابر،
وغودِرتْ كالرسمِ الدَّاثر، وتُرِكت تنوء بالجَدِّ العاثر. وحين فراغنا من حطْمِ تلكَ الجهات، وتدويخ تلك
الساحات، أخذنا في الصدر باللواء منشوراً، والجمع موفوراً، والفَتْح يُشْرِقُ نوراً، فأُبْنا، وبلاءُ الله
عندنا حسن جميل، وظلّ السلامة على الأولياء ممدود ظليل. والحمد لله على ما عرَّفنا من الظَّفَر،
وسوغنا من الغُنْمِ الأوفر، حمداً يتكفل بمزيد النِّعم، ويقتضي دوامَ صُنعه الأكرم. لَا رَبَّ غيره.
وطالعناك لتأخذ من النعمة المتجددة بقَسْمك، وتضرب فيها بسَهْمك، وتَبُثَّها هنالك، حتى يَسْتَوي
الأولياء في ذلك، وتبلغ سلاماً عميماً ورحمة الله.
وكتب أيضاً في المعنى:
كتَابُنا، كَتَبَ الله لنا ولكم، مِيسَمَ الظُّهورِ، واضِحُ الطريقَةِ مُسْتَقيماً، وعرَّفَنا وإيّاكم صُنْعه الجميل،
شامل المَبَرَّة عميماً، وتَمَّمَ علينا وعليكمْ في عصمة الأوْلياء، والنَّصر المؤزَّر على الأعْداء نِعْمَتَه
تَتْميماً، وأوْزَعَنا منْ لَطائِفِ ذِكْرِهِ، ووَظائفِ شُكْرِهِ، ما يسْتمِدُّه لزيماً ويَسْتصْحِبُهُ مُسْتَديماً.
منْ فُلانَة - حرسها الله - ونحن نُمَهِّدُ لنشر سُنَنِ الله تعالى وآلائه، وذكرما أوْلاه منْ حُسْنِ بلائهِ،
ونُصلي على محمد خاتِمِ أنْبيائهِ، وعلى صحابته الأكرمين، وأهل بيته الطاهرين، صلاة تقتضي حقَّه
وحقَّ أصفيائه، وتَسترُ في البرِّ بِتَمامه ووفائه.
وبعدُ، فإنَّ الله جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وعزَّتْ لأوْليائه نُصْرَتُهُ، وسمَا الدينُ القَيِّمُ وأُسْرتهُ، وجعَل لهم على
أعْدائهم (لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)، وخَذَلَ مَنْ كانَ للشيطان وليَّا، ووعدَ - جَلَّ وتعالى - وكان وعدُهُ مأتياً، وأمرهُ (حَتْمًا مَقْضِيًّا)،
لَيُحْضرِنَّهم حول جهنَّم جُثِياً، و (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا)، ولا أغْنى مِمَّن عمَّ شَرُّهُ العباد، وأَظْهَرَ في الأرضَ الفساد،
وردَّ عنْ سَننه اللَاّحبِ الجهاد، ومنعَ خيل أوْلياء الله الجهاد. فسبيلُ هَلَكَتِه - بحمد الله - قدِ انْتُهِجَتْ، وجِدَّةُ
شياطينِهِ قد أُخْلِقَتْ - بحول الله - وأَنْهِجَتْ، وما اشتدَّتْ أزْمَةٌ على منِ اتَّقى الله إلا انْكَشَفتْ
وانفرجتْ، ولا أيْنَعتْ للباطلِ أيْكةٌ إلا اجْتُثَّتْ بيدِ الحقِّ عُرُوقُها بعدَما وشجَتْ. فَسُيوفُ أوْلياء الله تأخُذُ
من أعْدائه فوْقَ ما تدع، ويُفرِّقُ منهم ما كانَ الطُّغيانُ يجْمَعُ، وكتائبُ الإيمانِ دأْباً تَحْصُدُ ما ينْميه
الكُفْرُ ويَزْرَعُ، ودونَكم - أعزَّكم الله - منْ متجدد الوقائع فيهم فتحاً مُبيناً يُشْرقُ لأْلَاؤُه ويَسْطَعُ،
ويروقُ منه المرأى المبْهِجُِ والمسْمَعُ. فُتُوحٌ - بحمد الله - تتبارى، وإقبالٌ سافِرٌ لا يتوارى، وحُجَجٌ
عاليةٌ يُسَلِّمُ لِبُرْهانها الساطعِ منْ يتمارى، وما بين تلك الوقائع التي طحنتهُم رَحَاها، وبين هذه التي
صليَ بحرها منْ أمَّها ونَحاها، إلا عشيةٌ أوْ ضُحاها. فنُفُوسُهم بتقاضاها الإصباح والإمساءُ، ودِماؤُهُم
تُحْقَنُ بإراقَتِها في حقِّها الدِّماءُ، وتروى منها كلَّ يومٍ القُلوبُ الحِرارُ والأسلُ الظِّماءُ، وتُؤدي إلى
الطاعة الضافية فيها الهيْجاءُ، (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). وإنّما صارَ إليهم الأمير الأجل، ولي العهد، مَكَّن الله ظفره، وخلَّد
في كلِّ صالحة أثره، تحت جناحِ ليلٍ، وفي سَرْعَانِ خيل، وخفَّ معه منَ الأبطال كلُّ ساحبِ ذيلٍ،
وطالِبِ نيل، فادرعوا معه السُّرَى، وخلَّطوا نار الحرب بنار القِرَى، (وسقط العشاء بهم على أسودٍ
شَرَى)، فجادت بأنْفسها أحسابٌ للصيانة تتَبَدَّلُ، وحَرِصوا على الموتِ فَوُهِبَ لهم العُمْرُ الأطول،
واستوى في الذَّبِّ عن الدين المُكره والبطل، وكشفَ الله
تلكَ المارِقة المثيرَة، وقد اخترِم منها نُفوسُ
أثيرَة. وكم منْ فئةٍ قليلَةٍ غلَبَتْ فِئةً كثيرة.
وآب الأمير - أيده الله - ومنْ معه منْ حِزْبِ الله الغالبينَ، غالِبين - بحول الله - ظاهرين. وقد
كفى الشاهدينَ والغائبينَ، وهذه - أعزَّكُم الله - مِنَنٌ تتْرى عليكم وُفودها، وتُؤدِّيها
إليكم بيضُ الليالي وسُودُها، وتَقْذِفُ بها إلى الأغوارِ طبقاً عنْ طبَقٍ نُجُودُها، ومنْ حقِّ منْ يسهر
لِكَرَاكُم، ويتَهَمَّمُ ببشراكم، ويحدوكم إلى الدُّعاءِ الصالحِ بذكراكمْ، ويَلْحَظَكمْ على البُعْد بعينِ رِعايَتِه
ويراكم، أنْ تُمَهِّدوا له - أعْلى الله يَدَه - فلأنفسكم تُمَهِّدون، وفي مصالِحكم تَجْهَدونَ، وأكرم مسؤولٍ
تَسْألُونَ، وأنْتُم تَقْرَأون وتتْلُون (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
يسَّرنا الله وإِيَّاكم لإخْلاصٍ تَنْفَعُ فضيلَتُهُ، ولا تُرَدُّ وسيلتُهُ، وتَصْدُقُ بوارِقُهُ، ولا تَكْذِبُ مخِيلتُه،
بوجوده ومجْدِهِ، ويُبَلِّغُونَ - أعزَّكم الله - سلاماً كثيراً أثيراً. ثمَّ السلامُ المجدَّدُ المُردَّدُ عليكمْ ورحمة
الله وبركاته.
وكتب أيضاً إلى بعض الأمراء:
عاد الرئيس إلى الأمير كما ارْتَضى
…
ومضى مَضاء المشرفيِّ المنْتضَى
ظَفِرَتْ يداه بكوكب سَنَّى له
…
في كل مظْلمة طريقاً أبيضا
ورمى به أغراضه فأصابَها
…
وكَأَنّما كانتْ ديوُناً تُقْتَضى
أطال الله بقاء الأمير الأجلِّ، الملكِ الأعزِّ الأفضل. وسعوده تَنْتَظِمُ، وَوُفُوده
تَزْدَحِمُ، ووقُودُهُ يشِبُّ ويضْطرِمُ، وسيُوفُهُ في رقابِ الأعادي تحتكمُ. ولازال اليُسْرُ منْ رواده، والنَّصر من أَمْدادِه، والعيثُ
بين عاتِقِهِ ونِجادِهِ.
كتَبْتُهُ، وقدْ أَرْسَلَ منْ عِنانى، وأَطْلَقَ لساني، ومدَّ منْ يدي وبَناني، ونَوَّرَ أُفُقي وجَناني، وُرُودُ عِلْقِهِ
الأخطَر، ووافِدِهِ الميْمون المنْظرِ، وحُسامِهِ الذَّكرِ، وولي أيامِهِ الأفصحِ الأكبر، وسفيره في كل إقبالٍ،
ورسوله في كل أمر ذي بالِ، الرئيسِِ الأجلِّ، الزَّعيمِ الأوْحدِ الأفْضل، أبي فُلان ذي الشيَمِ الزُّهْرِ،
والأخْلاقِ الغُرِّ، أحسن الله ذكراه، وشكر تأْدِيبَه وسَرَاه، وحفظَ بهِ مجْدَهُ وعُلاه، وتَمامَ أدواته الباهرةِ
وحُلاه. فهنَّأه الله بالنعمة الجليلة في إيَّابه، وأرْصَدَ له مُكافآتِ جدِّه وانْتِدابِهِ، ولا زال عنْ ملْكِهِ نائباً،
ولِسَعْده صائباً، وبنَصْرهِ ضارباً وبِيُمْنِِ نقيبَتِهِ غالباً.
ولمَّا كانتِ التَّهْنِئةُ بوُرُودِهِ منْ فُروضَ خِدْمَتِهِ، وحُقُوقِ نِعْمَتِهِ، وأدْنى القُربِ إلى هِمَّتِهِ، نفثْتُ بهذه
الرُّقْعة على الهَرَم، ورَسَمْتها في ضوء مصباحٍ يهدي بصري في الظُّلَمِ:
وإنَّ سِتِّينَ إلى أَرْبَعٍ
…
قدْ أحْوجتْ عيْني إلى تُرْجُمانْ
وفي لِساني إنْ نبا ناظري
…
خيرٌ كثيرٌ وبِحَسْبي لسانْ
أدْعو إلى اللهِ وأُثْني به
…
على الأميرِ اليُوسُفِيِّ الهِجانْ
أيْنَ الذي كانَ له المَغْربان
…
طُرَّا وقدْ دانَ له المَشْرِقانْ
لازالتْ دعْوتهُ عالية، وفُتُوحُهُ متَوالية. والسلامُ الأتمُّ المُردَّدُ على حضْرَتِه العالية، ورحمة الله
وبركاته.
وكتب غيره يهنئ بِأَخْذِ معقل:
جِراحَةُ الأيامِ - أيَّدكَ الله - هَدَر، وجِنايَتُها قدر، وليس للمرء حيلة، وإنَّما هي أَلْطافُ الله جميلَة،
تَسْتَنْزِلُ الأعْصَمَ منْ هضابِه، وتَأخُذُ المُغْتَرَّ بأثوابه، أحْمَدُهُ عوْداً وبدْءاً على النِّعْمة التي ألْبَسَكَ
سرْبالَها، والفِتْنَة التي أَطْفَأ عَنْكَ اشْتِعالَها، والرئاسة التي حَمَا فيها حِماك، ورَدَّ خاتَمَها إلى يُمْناك، وقدْ
تَناوَلته يدٌ خَشْناء، فاستقالته يدك الحسناء، فلم يكنْ عِنْده أهلاً لتِلْكَ البنانة، ولارآهُ شكلاً لخِنْصِر
الخِيانَةِ، والأعناقُ تقطعها المطامع، والنِّفاقُ يستو عرفيه الطامع فأَقرَّ الله عز وجل الحال في نصابها،
وأَبْرزها في كمالها تَتْرى بين أترابها، ووضعت الحرب أوْزارها، وأخْفَتِ الأُسودُ أَغْيالَها، وزآرها،
ومنْ كانتْ مذاهبُه كمذاهبِك، وجوانِبُهُ للسلامة كجوانِبِكَ، أعْطتهُ القُلُوبُ أسْرارها، وأعْلَقَتْهُ المعاقِلُ
أسْوارها، وانْجلتْ عنْهُ الظَّلْماءُ، وأكْرَمَ قرْضَه الجزاءُ، فلْيَهْنِكَ الإيَّابُ والغَنيمة، وهُما المِنَّةُ العظيمَةُ،
ولْيكُنْ لهُما منْ نفسك مكانٌ، ومنْ شُكْرِِكَ لله بالموهبة إعْلان، وأمَّا حظِّي منها، فحظُّ مسْلُوبٍ أَمْكَنَهُ
سلَبُه، وذي مشيبٍ عاوَدَهُ شبابُهُ وطرَبُه، ولما اقترنالي كانا مُعْظَمَ آمالي، وَعلِمْتُ أنَّ بِهِما زوال
الخِلافِ، وتَوَطَّؤَ الأكنافِ، وأنَّ بالصَّدرِ تَبْتَلِجُ الصُّدور، ويَبْتَهِجُ
السُّرور، بادَرْتُ إلى توْفيةِ الحقِّ لك،
وتَعَرَّفت الحال بكَ، مُشَيِّعاً بالدُّعاء في مزيدِكَ، ضارِعاً في الإدامَةِ لِتأْييدِكَ، فإنَّ الوقتَ إساءة وأنت
إِحْسانُهُ، والخيرَ عَيْنٌ وأنتَ إِنْسانُه. والسلام.
وفي المعنى لأبي نصر:
أَطال الله بقاء القائد الأعْلى، ونُجُومُ السَّعْد في سمائهِ مُتَّقِدَة، وأَفْئدَةُ المجْد لِعلائِهِ مُعْتَقدة، ولازالتِ
الأيامُ تطْلُعُ به سروراً، وتَدَعُ الدِّينَ بهِ مسْروراً. فقدْ ألبس الإسلامَ ظهوراً، وجعلَ يومه مشهوراً. وما
تزالُ عزماتُ القائدِ الأعْلي فائزاتِ القدح المُعلى، فإذا رمى غرضاً قرطسهُ، وإذا أمَّ عَلَماً نَكَّسهُ، وإنْ
قاتَلَ كتيبَةً كتَبَ إليْها من المنايا كتُباً تقَعُ عَلَيْها وتَسْقُطُ، والبيضُ تَشْكُلُها، والأسنَّةُ تنقط. ورُبَّ يومِ
هياجٍ الْتَهَبَتْ جوانِبُه بتوْقُّدِ الهجيرِ، وحامَتْ كُمَاتُهُ على نهرٍ أوْ غدير. والقَتامُ قدْ تكاثَفَ كحاثِر
الأنْفاسِ، وترادَفَ فمَنَعَ منْ تداني الأشخاص. والأسنة تبدو كأنَّها أنْجُمُ السماء، والسُيُوفُ تَلُوحُ كأنَّها
جداوِلُ ماءٍ، فأوْرَدهم منها غُدُراً، لم يُطيقُوا عنها صدراً، وثنى إليهم قنا أَطْرافِها قِصَدٌ، وكأنَّها في
سماءِ النَّقْعِ للكماةِ رَصَد، فَصَبَّحَ قُلْمُرية بكل فتى كالحُسامِ المُهَنَّدِ، طويل نجاد السيفِ رحْبِ
المُقَلَّد، فحالَ بسيطَها بالغارة الشّعْواء، وأراها بأنَّه منسجمُ الأهواء. فقد أحْماها وهو مُباح، وأرْواحُ فوارِسها
تُسْتَباحُ، فكَأنَّ وميضَ بيضِهِ بُرُوقٌ وخواطِف، وهاماتهم أزْهارٌ وهْوَ قاطِف، ولله عقائلُ منْ سبْيهم
زُفُّوا إليه، ولمْ يَخْطُبُهُنّ إلا بحرابِه، ولا أُولِمَ لَهنَّ غيرُ طعْنِه وضِرَابِه، فبرزْنَ في يومٍ مهول، ينْظُرْنَ
نظرَ ذهولٍ، وقد نشَرْنَ الغدائر حزْناً، وأَسْبَلْنَ المدامِعَ مزْناً، والشُّموسُ لهنَّ حواسِد، وهنَّ لديه ملقيات
كواسد. ولا بطل يرنُو إلى كاعِبٍ، وسيفُه في يده كمِخْراقِ لاعب، فَعُدْنَ مُعَطَّلاتٍ حتى منَ التَأمُّل،
وأَبْدَيْن الكآبة لمَّا ضعفْنَ عنِ التَّجمُّل. وكم منْ خَوْدٍ كانت عن الحرير مرْتَفِعَة، وصوناً عن الشمس
مُتَلَفِّعة. بدتْ للعيُونِ، واكْتَسَبَت ملابسَ هونٍ، فَزِعَتْ بالويلِ، وسعتْ بين أرجُل الخيل. لم تلْقَ حافِظاً،
ولمْ تَر بالحَثَرِ لها لاحظاً. فأَرْضُ الرُّوم منْ وقائِعِ القائِد الأعلى قد اخْتلِسَ فُؤادُها، ويَئِسَ من استقلالها
عُوَّادُها، فلازالتِ الدولة به مَحْمية الأقطار، مقضيَّةَ الأوْطارِ، تَتَوالى عليها الفُتُوحُ توالي العهادِ على
الرَّوْضِ، والوِرادِ على الحوض.
قوله: (في هذا المزدوج كحاثر الأنفاس وتداني الأشخاص) جمع فيها بين السين والصاد، لأنهما من
مخْرج واحد، وهو المٌخْرج التاسع من مَخَارج الفم، ولا شتراكهما في الصَّفير والهمْس؛ فالجمع بينهما
في مثل هذا جائز، كما فعل الراجز حيث يقول:
يَا أُمَّ عمرو عَجِّلي بِقُرْصِ
وَعَجِّلي قَبْل طُلُوعِ الشمسِ
وخبزة مثل جُماءِ التّرسِ
أنشده أبو علي في كتابه (المقصور والممدود) عن ابن الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي.
وله في المعنى:
كتابُنا - أبقاكم الله - والمَسَرَّاتُ تَرِدُكم، والخيراتُ تعتمِدُكم، يوم كذا من شهر كذا، وقد فتحَ الله لنا
وللمسلمين، وشفى بنصره صدور قومٍ موُمنين، وأَورثنا أرض الشركِ وما كُنَّا لها وارثين. وشرحُ ذلكَ
أنَّنا خرجْنا ذائبين عنْ هذا الدين أنْ يُسْتَباحَ، وحامِين لحماه أنْ يُباح، فنفرْنا خفافاً وثقالاً، وما حللنا
الموثِق عقالاً، إلى أنِ احْتللنا بلاد الروم وهي آمنة تحسبُ أنَّها لا تُراع، وساكنةٌ لم يُحرِّكها قراع، قد
انتشرَ أهْلُها انتِشارَ سوامِها، فروِيتْ آمالُ المُسلِمينَ بعد أُوامها، وظَلُّوا يَسْتاقونَ النعمَ، ويُوافُونَ المَغْنَمَ
الأعمَّ، حتى وافينا قاعِدَتهم العُظْمى، وقدْ تسامَت عن الحوادثِ فما تخْشى لها إناخَة، وصمَّتْ عنِ
الكوارثِ فما إليْها إصاخَة. فرأيْنا مَعْقِلاً لا يَبْلُغُهُ النَّجمُ، ولا يُصيبُه منهُ رجْمٌ،
أشبَ الجوانب، مُنْسرِبَ الذِّوائبِ، قد اخترقتِ الجداوِلُ ساحاتِه، ودَبَّجَتِ الأزاهِرُ مساحاته. وأدْواحُه تنعَطِفُ في أكُفِّ الرِّياحِ،
وتكادُ تنْعَصِفُ منَ الارتياحِ، قد نشرت ورقها ذوائبُ الحِسانِ، وزهرتْ لتَأميلِها كأنّها زهرةُ بُسْتان.
فرأيْنا روْضاً تروقُ، وأرْضاً كأنَّما خلع عليها الشُّروقُ، فضربتِ المَحَلاتُ بها مضارِبها، وأخَذَتْ
جوانِبَها كلها مشارقها ومغاربها، فلمّا رأى أهلُها ذلك سُقِطَ في أيديهم، وحَلَّ البلاء في ناديهم، فلم يَبْرُزْ
منهم ذلك اليوم أحدٌ، وصارَ الرُّعْبُ بيننا وبينَهم حدٌّ، فَبِتْنا بعد أنْ هَدَمْنا صوامعها والكنائس، وخَلَعْنا
أَلْسِنَةَ تِلْكَ النَّواقِس، فلَّما بدا منَ الفَجْرِ سُفُورُ، ونشَرَ للصُّبْحِ كافُور، برزَ لنا منها أُسُودٌ على عِقْبَانٍ،
وجُرْدٌ كأَنَّهم الكُثْبانُ، ونحنُ مسْتلِمونَ بالسلاحِ، مُعْلِنُونَ بدعوة الفلاح. فحملوا علينا حمْلةً ظَنَنَّا أنَّ
الجبالَ إلينا زاحفةً، وكادتِ القُلُوبُ منها تعودُ واجِفَة، فصبرنا لحرِّ طعانِهم، وتجرَّعنا مرارةَ مُرَّانِهم،
وأَقْبَلْناهُم وجُوهاً تتهَلَّلُ إذا عَبَسَ الحُمَامُ، وأَنْفُساً تتجَلَّدُ كلَّما عضَّها الحُسامُ. فتَجَرّعْنا الغَصصَ
وتَجَرّعوا، وأَشْرَعْنا إليهم مثْلَ ما إلَيْنا أشْرعوا، وتواقفْنا طويلاً وقدْ حَمَتِ الصُّدور، وكُؤوسُ المنايا
تَدُور، وعزائمُ البأسِ تُنْتَضى، والأرْواحُ تُقْتَضى، إلى أنْ صدقَ المُسْلِمونَ في الجِلادِ والطعانِ،
وحملوا عليهم كأنَّهم العِقْبان، فوَلَّى المُشركونَ أمامَهم مُنْهَزِمينَ، وتَوَلَاّهم المسلمون بالسُّيوفِ مُلْتَزِمينَ،
ووقفوا لهم دونَ المعقِل فلمْ يكنْ لهم مَنْفذ، وما نجا منهم ولا فذّ. وتَحَصَّلَ للمُسْلِمينَ منْ دوابِّهم
وأسْلابِهم ما اسْتَوْفروهُ حظّاً، وأَقَرُّوا به لَحْظاً، والحمد لله ربِّ العالمين. وصلى الله على محمدٍ خاتم
النبيين.
وله في المعنى:
أطال الله بقاء الأمير الأجلِّ للأرْضِ يتملَّكُها، ويستديرُ بسعْدِهِ فلكُها. قدِ اسْتَبْشَرَ الملك - أيّدك الله -
وحقّ لهُ الاستبشارُ. فقد أوْمأ إليه السَّعْدُ وأشارَ، بما اتَّفقَ له منْ توْليتِكَ، وخَفَقَ عليها منْ أَلْوِيَتِكَ.
ولقدْ حُبِيَ منْكَ بملِكٍ أمْضى من السَّهْمِ المُسَدَّدِ، رحْبِ المُقَلَّد، يتقدَّمُ حيثُ يتأَخَّرُ الذابِلُ، ويُكْرَمُ إذا
بَخِلَ الوابلُ، ويحْمي الحِمى كربيعَة بن مُكَدَّم، ويسقي الظبى نجيعاً كلونِ العنْدَمِ. فهنيئاً للأنْدلس، لقد
استردتْ عهد خُلَفَائها، واسْتَجَدَّتْ رُسومَ تلكَ الإمامةِ بعدَ عفائها، فكأنْ لمْ تَمُرَّ أعاصيرُها، ولمْ يَمُتْ
حَكَمُها ولا ناصرُها اللذان عَمَرا رُصافة والزَّهْرا، ونكحا عقائل الرومِ. وما بذلا إلا المشرفيَّة مهراً.
والله أَسْأَلُهُ إظْهارَ أيَّامِكَ، وبه أرْجو انتشارَ أعْلامِكَ، حتى يكونَ عَصْرُكَ أجْمَلَ من عَصْرِهم،
ونصرُكَ أغْربَ من نصْرهم، بمَنِّهِ وطَولِهِ.
وكتب أبو بكر بن عمار إلى المعتمد بن عباد عند منصرفه ظافراً من غزوة بهذا المنظوم:
بُشْراكَ قدْ كمُلَتْ لنا بُشْرانا
…
وهَناكَ ما بِكَ سَرَّنا وهَنَانَا
فتْحٌ فتَحْتَ بهِ افتتاحَكَ للهدى
…
وجعلتَ من مربلَّة عُنْوانا
ظَلَّلْتَ منْ شَجَرِ العَوالي دِيننا
…
ورقمت منْ روضِ النَّدى دُنْيانا
حَمَلَتْنا تِيجانَ سعْيِكَ للهُدى
…
فلْتَحْمِلَنْ منْ شُكْرنا تيجانا
أجْنَيْتَنا ثمر المنى منْ دَوْحةٍ
…
لم تتخِذْ غيرَ الوغَى بُسْتانا
فتْحاً تقلَّد بالسيوفِ جواهراً
…
قد فصلتْ بدم العِدى مَرْجانا
خلعَت به كفُّ السُّرُورِ على المُنى
…
بُرْدَ النَّجاحَ مُطَرَّزا رضوانا
وسَرى نسيمُ النَّصر في غُصن العُلا
…
فاهتزَّ حتى خِلْتَهُ نشوانا
لله حاجِبُكَ الذي جرَّدته
…
سيفاً إذا نبتِ السيوف أبانا
غصنٌ من العَلْياء أبدى روضة
…
وطُلىً وأَثَّرَ حُسْنُهُ إحْسانا
قمرٌ أعَدَّ من الجوادِ لحربه
…
فُلْكاً ومنْ حِلَقِ الدروع عنانا
ماءٌ إذا عنَتِ العداةُ فإن عَنَتْْ
…
نارٌ تُثيرُ من العجاجِ دُخَانا
أهْدى نسيمُ الفتْحِ منْ روْضِ الظُّبا
…
غَضّاً يُعَطِّرُ حِمْصنا أرْدانا
وجلَى عَروسَ المُلْكِ لم ينقُد لها
…
في المَهْرِ إلا مُرْهَفا وَسِنانا
عُرْسٌ يعودُ على عدُوِّكَ مأْتماً
…
ومسَرَّةٌ تُهْدي له أحْزانا
غَنَّتْ بهِ في دوحِ حمصَحمائمٌ
…
نعبتْ على غرناطةٍ غِرْبانا
عجَباً لواهي الحبْلِ في صنْهاجةٍ
…
ضاهى متينَ الحَبْلِ في قحطانَا
أسْرِعْ لصرعته أبا عمروٍ فقد
…
قدَّتْ لَهُ كفُّ الرَّدى أَكْفانا
أيُّ جاريكَ العلا طرفاً ولمْ
…
تَتْركْ ظُباكَ لراحَتَيْهِ لَبانا
هَوِّنْ عليكَ فكم جموحٍ قبْله
…
ألْجَمْتَهُ هذا الحسامَ فَلانا
وارتَعْ وإنْ تَبْغِ ارْتِياحَكَ منهمُ
…
فلقد قبَضْتَ نُفُوسَهم أثمانا
سيُنيرُ رُمْحُكَ كوْكَباً ترمي بِهِ
…
من نجْلِ إسحاقَ الرَّدى شيطانا
ويشبُّ سيفُكَ في الوغى ناراً تُقَرْ
…
رِبُ رأْسَ باديسٍ لها قُرْبانا
قدرٌ من الله العظيم مُعجَّلٌ
…
منْ يستطيعُ دفاعَ ما قدْ آنا
أَبْشِرْ فقدْ لاحَ الصباحُ لناظرٍ
…
ورأوا لمُلْكِكَ فيهمُ بُرهانا
إنْ كُنْتَ منْ لخْمٍ وسُدَّتِهمُ فقد
…
سادَ النبيُّ محمدٌ عدْنانا
ولئن تملكْتَ الزَّمانَ فإنَّما
…
أعْطيتَ حقَّكَ فيه لا عُدْوانا
أنتَ القريبُ من النُّفوسِ محَلَّة
…
هذا وإنْ عرَّشْتَ في كيوانا
والله لا صُححَتْ أيْمانُ امرئٍ
…
حتى يُصححَ حُبُّكم إيمانا
إنْ كنتُ معتقداً هواكمْ مِلَّةً
…
فلقدْ تلوتُ بمدحكُمْ قُرآنا
كيف السبيلُ لشكرِمَا أوْليْتَنَا
…
ونَدَاكَ أفحم من أعدَّ لسانا
حَمّلتنا ثمرَ الأيادي مُفْضَلاً
…
أشْفِقْ فقدْ أثقَلْتنا أَغْصانا
أمْطرْتَنا سُحْبَ المكارم ثرَّةً
…
أمْسِكْ فقد خوَّفْتَنا الطُّوفانا
لا صُبْحَ أشْرَق منْ جبينِكَ في وغىً
…
قد حيَّرتْ في ليلها الأجْفابا
أحيانُ تصدُرُ عنْ أعاديكَ الظبا
…
وِِرْداً وَقَدْ أوْرَدْتها سَوْسانا
في مجلسٍ أَجْريتَ فيه دماءَهم
…
راحاً جعلتَ لها القنا رَيْحانا
ياأيُّها الملكُ الذي عهدي به
…
منْ كان ظمآنَاً إلى ظمآنا
مالِي يُعَطِّلُني زماني بَعْدَما
…
حلَّيْتُ فيه بمدحكَ الأزْمانا
إنِّي تجِرْتُ ورَأْسُ مالي حُبُّكم
…
أيَحِلُّ لي أَنْ أشْتَكى خُسْرانا
بَدِّدْ دُجى ليلي بأَقْمارِ النَّدى
…
فلقدْ بقِيتُ بليلها حيرانا
وامنُنْ بِتَسْريحي وصكٍّ يَقْتَضي
…
بُرْئي ونُصْحي للزَّمانِ أمانا
واقْبَلْ إليكَ جوادَ شكري مُسْرَجاً
…
إنْ أنتَ أعددتَ النَّدى ميدانا
لوكان أحْراراً عداؤكَ موئلي
…
لدَعوتُ أنْ تَسْتاقَهُمْ عُبْدانا
لكِنْ هوى بهمُ الضَّلالُ وأَصْبَحَتْ
…
هاماتُهُم لسيُوفِكمْ أَجْبانا
قال أبو إسحاق:
نَكْتَفي بهذا القصيد الفريد الزّاهي، على نكتَة الخطبة، ودُرَّةِ التاج، ووسْطى العُقود. والمنظومُ في هذا
المعنى كثير الأنواع والضروب، ومنه المُتَعارَفُ المعاني والقصيُّ الغريب، وأبو بكر بن عمار
مشهور في أكابر الأدباء، وأعلام الشعراء، مديدُ الباعِ، كثيرُ الانْطباع.
وكتب أبو نصر يهنئ بولاية:
سيدي الأعلى، ومعتمدي للجَلَّى، وبدْرَ أسْعُدي المُجْتَلى، ومنْ أطالَ الله بقاءهُ، والأيامُ تُرْقيه أرْفَعَ
مراتِبِها، وتنتظُمُ مجْدَه على ترائبها. لقد سرَّني - دام عِزُّكَ - أنْ حليَ بِكَ ذلكَ الكرسِيُّ بعد عَطَلِهِ،
وحفِيَ منْكَ بفارسِهِ وبَطَلِهِ، فأنِسَ بعدَ نفاره، واقتبسَ ناراً منْ مرْخِهِ وعفارِهِوقد قَذِيَ نَاظِرُه، وشجِيَ
خاطرُهُ، أسفاً على نُزُولِكم عنْ أعْوادِه، وكَلَفا بكمْ لمْ يُزِلْكم عنِ فُؤادِه، فالحمد لله الذي أصارَالأمر إلى
أرْبابِهِ، وأعادَ إليْهِ أيَّامَ شبابِهِ، وسقى الله تلكَ الحضرة فإنَّها مُشْرِقَة، وغُصونُ المُنى فيها مورِقة. فكمْ
حَمِدْتُ عَصْرَها، وواليتُ جنيَ الأماني وهَصْرَها، ورَحِمَ الله الذِّاهبينَ منها، فلقدْ أجْرَوْني في ميدانِ
البِرِّ طلَقاً، وأرَوْني الدَّهرَ صُبْحاً وفلقاً، لا أرى مثْلَهمْ مُنْجداً ولا مُعيناً، ولا يزالُ دَمْعِي أبداً عليهم
معيناً، والله تعالى يُبْقي سيدي الأعْلى جابِراً لذلكَ الصَّدْع، ورادِعاً للوْعَتِهم وأنالها بالرَّدْعِ.
أبو عبد الله بن أبي الخصال:
أطال الله فيما ترضاهُ يقاءكَ، ومَكّنَ سعْدَكَ وعلاءَكَ، وأَظْهَرَ مجْدَكَ وسناءكَ، وعمَّر بالآمال فناءكَ،
ورفعَ في كلِّ صالحة بناءكَ، ولازِلْتَ تتعرَّفُ منْ نِعَمِهِ المزيدَ، وتَجْتَلي الصُّنْعَ الجميلَ الحميدَ، وتُدْرِكُ
الشأوَ الصالِح البعيد.
كتَبْتُهُ - أدامَ الله عزك - وقدْ بَلَغَني ما نيطَ بكَ من الأمر، وقُلِّدْتَ منْ حمايَةِ الثَّغْرِ، فسألْتُ الله تعالى
لكَ أَعَمَّ الآضْطِلاعِ والاكتفاء، وأتَمَّ الاستقلال
…
،
وأنْ يؤيدكَ بنصره العزيز، ويكتُبَكَ في أهل السبْقِ
والتَّبْريزِ، وأنْ يجْعَلَكَ في كنَفِهِ المنيعِ الحريزِ، وأنْ يُظْهِرَكَ على منْ يليكَ من الأعزاء، ويُبْقيكَ
ميْمُونَ الأمر منصور اللِّواء، وهو تعالى بمَنِّهِ يستجيبُ لك صالحَ الدُّعاءِ، ويَمُدُّكَ بالتوفيق والتسديد
في جميع الأنحاء.
وله يهنئُ بولاية القضاء:
أطال الله بقاء الوزير الفقيه الجليل، ذي القدر النبيل، والذكر الجميل، والمجد الأثيل، والبيتِ
المُعْرِضِ في المكارم المستطيل. وَجَنَابُهُ بِدِيَمِ النِّعمِ خَضِلٌ، ومكانُهُ بِوُفُودِ السَّعدِ مُسْبِلٌ هَطِلٌ، وأيَّامُهُ
تتبارى في معالٍ لهُ تبْنيها، وحظُوُظٍ تُدْنيها والقدرُ موافق فيها.
مِثْلُكَ - أدامَ اللهُ عِزَّكَ - مِنَ السَّادات، المُهَيِّئينَ لدرجاتِ المجْدِ والسيادات، المُعْرِقينَ في الوجاهة،
المُشْرِقينَ في مطالِعِ النَّباهَة، إذا تَبَوَّؤوا ذِرْوَةَ علاءٍ، واقتَعَدوا غاربَ سناء، وانتظموا مع النجوم في
سلكِ سماءٍ، فإنَّما حازوا تُراثَ آباءٍ عنْ آباء. وتِلْكَ سبيلُهُ في خُطَّة القضاء التي هامتْ بمعاليه،
ومَثُلَتْ ضارِعَةً تناديه، وتَشَبَّثَتْ بهِ تشبُّثَ العاطل بالحُلِيِّ، والعاطش بالمنهلِ الرَّوي، حتى رقَّ لها
الزَّمان، فاطمأنتْ لها الدَّارُ واسْتَقَرَّ بها المكانُ.
فهنيئاً لها من فاضلٍ أرْوَعَ فازتْ بعُلُوِّ هِممِهِ،
وأصْبَحَتْ في ذِممِهِ، وعزَّتْ بكرمِهِ؛ فالعدل لباغيه مُتاحٌ، والحَقُّ لسائلِه مُباح، ولئنْ عَمَّتْ هذه النِّعمة
أُمَمآً، وشفَّتْ صُدُوراً ونَفَتْ لَمَماً. فإنِّي لمخصوصٌ منها بفضْل مزيَّةٍ، وحصَّةٍ على الحضيض عَلِيَّةِ،
لِما يَجْمعُنا منْ أَذِمَّةٍ تُرْبي على النَّسَبِ، وترجح وزناً بأواصر الحسب. ولذلك ابتدرتُ المُساهمة
ابتداراً، ورفقْتُ بما بيننا نداءا وشعاراً. والله يعرِّفُنا وَإيَّاهُ بركة ما قلَّده، ويُطيلُ مُدَّته ويفسحُ أمده. وبي
إلى مُطالعتكَ ظمأٌ وبَرْحٌ، وشوقٌ لا يَأتي عليه تفسيرٌ ولا شَرْحٌ. والله تعالى يُعرِّفك السداد في القول
والعمل، ويُبْلِغُكَ أَقْصى العُمرِ والأمل بقدرته.
ولبعضهم يهنئ بولاية الوزارة:
في إحاطتكَ الوافية، ودِرايَتكَ الوافرة، إنِّي بكَ - أعزَّكَ الله - راجِحُ ميزان الذُّخْر، مُنْهَلُّ ماء الفخْرِ،
ثريُّ أرْضِ الوِدِّ، عطرُ رائحة العهد، وأنَّ بُشْرايَ تتابعتْ، وأنَّ هِلالكَ في الوزارةِ طَلَعَ بدْراً، وأنَّ
مداكَ بها صار شَفْعاً وكان وِتْراً، فقلتُ ساقها شغفها، وزانها شرفهُ لا شرفها. فَلْيَهْنكَ حُلُولُكَ بِفَرْقَدَيْها،
وجَمْعُكَ بينَ نَيِّرَيْها. وإنَّكَ مُقَلَّدُها منْ خلالِكَ فذَّا وتَوْءماً، ومُلْبِسُها منْ صفاتِك
طرْزاً وَعَلَماً، حُسْنَ يقينٍ، ومَتانَةدين، وطيبَ جِذْمٍ، ورُسُوخَ ورعٍ وعِلْمٍ، وأدباً كالروضِ نبَّهتْهُ الصَّبا، وكرماً كالغيثِ عَمر
الرُّبا. ولقد قعدتُ للتَّهْنِئةِ فأقْبَلَتْ عليَّ هواديها، وانْقادتْ عليَّ منْ حاضرها وباديها، فإنْ تقدَّمْتُ فَلِفَرْطِ
الهبَة، وإنْ تَأَخَّرْتُ فلعِظَمِ الهيْبة.
قوله: (فقلت ساقها شغفها وزانها شرفه لا شرفها) من قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك
أنَّهُ لما عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة، ودفع إليه عهده مختوماً، وعمر لا يعرفُ
ما فيه. فلمَّا عرفَ ما فيه رجع إلى أبي بكر حزيناً كَهَيْئَةِ الثَّكْلى، وهو يقول: (حمَّلْتَني عِبْئاً لا
أَضْطَلِعُ به، وأَوْرَدْتَني مورِداً لا أدْري كيْفَ الصَّدَرُ عنه). فقال له الصديق: (ماآثرتُكَ بها، ولكني
آثرْتُها بك، وما قَصَدْت مساءَتك ولكنْ رجوتُ إذخال السرور على المؤمِنين بك). ومن هذا أخد
الحطيئة قوله:
ما آثروكَ بها إذْ قدَّموكَ لها
…
لكن لِأَنْفُسِهم كانتْ بها الأمرُ
وتبعه الحسين بن مُطَيْرْ فقال:
مُبْتَلَّةُ الأطْرُفِ زانتْ عُقُودها
…
بأحْسَنِ مِمّا زَيَّنَتْها عُقُودُها
ويروى: (مُحَصَّرة الأوساط). وتبعه الآخر فقال:
وتزيدين أطيب الطِّيب طيباً
…
إنْ تَمَسِّيه أيْن مثلكِ أيْنا
وأخذه علي بن العباس الرومي فقال:
وأَحسنُ من جيدِ المليحة عِقْدُها
…
وأحسنُ من سِرْبالها المتَجَرِّدُ
إنما هو: (وأحسن من عقد المليحة جيدُها). وما وقع في الكتاب وهمٌ. فانظره.
ويروى: (آنق من عقد المليحة) وأخذه الشريف الرضى فقال:
حُلِيُّهُ جيدُهُ لا ما يُقَلِّدُهُ
…
وكُحْلُهُ ما بِعَيْنَيْهِ منَ الكَحَلِ
قال أبو إسحاق:
وفي حفظي أبيات لأبي بكر الصولي من النظم المستحسن، والكلام العذب الحسن، وهي في معنى
التهنئة بالوزارة؛ غريبة المنحى والمنزع، ويحسن إثباتها في هدا الموضع. فقال:
لِيَهْنِكَ يا خير مُسْتَوْزَرِ
…
خِلَافةُ خير الورى جعفرِ
إمام هدى عمَّنا جوده
…
فأصبح كالعارض الممطرِ
أَتَمُّ من الشمس في حسنها
…
وأزهرُ منْ بدْرِها الأزهَرِِ
وَلِيتَ أموراً فأوردتها
…
موارد محمودة المصدرِ
وحُطْتَ الإمامَ وأموالَهُ
…
على رغمِ باغٍ وَمِنْ مُكْبِرٍ
وقد أقبلتْ نحونا فتنةٌ
…
ترُوعُ بجانِبِها الأوْعرِ
فأشرق رأيكَ في ليلها
…
ؤأوضح للسامع المبصرِ
وأصلحتَ بالعدل منْ جوْرها
…
وأسرعتَ بالعُرفِ في المنكرِ
وكانت سعودك في نَحْسْها
…
أتمَّ سعودٍ من المشتري
بحزمٍ يُجلِّي الدُّجى والعمى
…
ورأيٍ يُقيم صغا الأصعرِِ
فقوَّمت في ساعة بيعةً
…
تميلُ لغيرك في أشْهُرِِ
وددت إليها على رغمهم
…
شوارد من معشر نَبَّرِِ
فألْسنَة الناس مجموعة
…
فمنْ بينِ داعٍ ومستبشِرِِ
بقيتَ ولا زلتَ في نعمةٍ
…
تدوم وتبقى على الأعْصُرِ
قوله: (خِلافَةُ خير الورى جعفر) هو جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن طلحة ابن المؤمن بن جعفر
المتوكل. بويع له بالخلافة لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، وسنه
يومئذ ثلاث عشرة سنة. ودامت خلافته خمسا وعشرين سنة إلاستة عشر يوماً. استوزر في مدة
خلافته اثني عشر وزيراً، وكانت في أيامه أمور وعجائب لم تكن قبل مدته. وله ألف أبو بكر محمد
بن يحيى الصولي قائل هذه القصيدة، كتاب (الشبان) تسمى المقتدر بالله. وكان دُرِّيَ اللون. أحور،
أصهب، ربع القامة توفي يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر شوال سنة عشرين وثلاث مائة.
وقوله: (فأشرق رأيك في ليلها) معناه أضاء. وفي كتاب الله تعالى (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا). أي أضاءت بنور ساطع ظهر
فيها.
قال الشاعر:
أَشْرَقتَْ دارُنا وطابَ جَنَاهَا
…
واسْتَرَحْنا منَ الثَّقيل فراسِ
وقوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي حيث طلعت عليهم الشمس، لأن المَشْرَقَةَ، والمشْرُقَة بفتح الراء وضمها حيث
يقعد المَشَرِّقُ في الشمس.
قال الشاعر:
تُحِبِّينَ الطَّلاقَ وأنتِ عندي
…
بعيشٍ مثْل مَشْرُقَةِ الشِّتاءِ
ويقال: شَرَقَت الشمس شُروقاً إذا طلعت.
قال امرؤ القيس:
فَصَبَّحهُ عند الشُّرُوقِ غُديَّةً
وأشرقتْ، إذا أضاءت. قال الله تعالى (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ). ويقال:(لاأفعل ذلك ماذرَّ شارِقٌ): أي ماطلع قرن الشمس.
ويقال: المَشْرِقُ والمغْرِبُ، والشَّرْقُ والغَرْبُ لمطلعِ الشمس ومغْربِها.
وقال أبو بكر بن دريد: الشرْقُ والمَشْرِقُ صد الغرْب والمغرب والمشرقان والمغربان مَشْرِقا الشتاء
والصيف ومغْرباهما. والمشارِق مطالع الشمس كل يوم، وكذلك المغارب، حتى تعود إلى المشرق
الأول في الحول.
وأيامُ التَّشْريق أيام يُشَرَّقُ اللحم في الظِّلِّ.
وقال صاحب العين: أيامُ التشريق. كانوا يُشَرِّقُون اللحم في تلك الأيام للشمس، وهي الأيامُ
المعدودات، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة.
ويقال: شَرِقَ الرجُلُ يشْرَقُ شَرَقاً بكسر الراء في الماضي، وفتحها في المستقبل، وفي المصدر إذا
اغتص. قال عدي بن زيد:
لو بِغَيْرِ الماء حَلْقِي شَرِقٌ
…
كُنْتُ كالغَصَّانَ بالماء اعتصاري
وقال أبو تمام:
أغْنَيْتَ عنِّي غَنَاء الماء في الشَّرق
ويقالُ: شرِقَ الثوبُ بالصَّبْغ إذا احمرَّ واشتدت حمرته. ولَطَمَ فلانٌ فلاناً فشرقَ الدم في عينيه إذا
احمرت.
وذكر الأصمعي أن رجلاً لَطَمَ رَجُلاً بآخر فاشرورقَتْ عينه، واغْرورقتْ، فقدِم إلى الشعبي فقال:
لها أمرها حتَّى إذا ماتبوَّأتْ
…
بأخْفافِها مأوىً تبوَّأَ مَضْجَعا
يعني أنه لا يحكم فيها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها.
وأصل الباب الطلوع.
وفي الحديث (لاتَشْرِيقَ إلاّ في مصرٍ وفي مسجدٍ جامع) أي: لا صلاة عيد.
وسمي الغَصَصُ شَرَقاً لأنه يطلع راجعاً. وكذلك شرق الثوب بالصبغ إذا اشتدت حمرته مشبَّه
بالشمس الطالعة.
وقولهم: ناقة شرقاء، إذا شقت أذنها بنصفين طولاً، لأنه شقٌّ يطلع منه ضوء وكذلك الشاة.
والشَّرْقُ أيْضاً طائر من الطير والصوائد مثل الصَّقر.
قال الشاعر:
قدَ اغْتَدي والصُّبْح ذو فَليقِ
بمُلْجَمٍ أكلف شوذنيقِ
أجْدَلَ أوْ شرْقٍ من الشروقِ
وقوله: (يقيم صغا الأصعر)؛ أي ميَل المائل. وقد ذكر الصَّغا مشروحاً في موضعه من الجزء الثاني
من هذا المجموع.
والصَّعرُ داءٌ يأخُذ الإبل في أعناقها ورؤوسها، فتلوي أعناقها إلى ناحية من أجله. فشبه المتكبِّر على
الناس، المُعْرِض عنهم تكبّراً لذلك.
وفي الحديث (كلُّ صعَّارٍ مَلْعُون).
يقال: رجل صعار؛ وهو ذو الكِبْر والأبَّهة، لأنه يميل بوجهه، ويعرض عن الناس. قال المتلمس:
وكُنَّا إذا الجبَّار صعرَ خدَّه
…
أَقَمنا له منْ ميْلِه قتقَوَّما
وقال بشر بن خازم:
ألا يا عينِ فابكي لي سُمَيْرا
…
إذا صعرت من الغضبِ الأُنُوفُ
وسميرا أخوه.
وذكر الصَّعَّار مالك بن أنس رحمه الله، وفسره بالنَّمَّام. وفي كتاب الله تعالى (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ). قرأه ابن كثير وابن
عامر وأبو جعفر يزيد بن القعقاع ويعقوب (ولا تصعّر) بغير ألف مشدد العين. وقرأ سائر السبعة
بالألف من غير تشديد. وقيل هما لغتان بمعنى: لا تُعرض بوجهك عن الناس تجبراً وتكبراً.
حكى سيبويه أن ضاعف وضعَّفَ بمعنىً
…
صاعر وصَعَّر. وقال الأخفش: لا تصاعر بالألف لغة
أهل الحجاز، وبغير ألف معَ التشديد لغة بني تميم. وروى شِبْل عن ابن كثير
(ولا تُصْعر) بإسكان الصاد.
وروى ذلك عن الحسن وعاصم الجحدري. والمشهور عن ابن كثير تشديد العين من غير ألف كما
تقدم.
وقرأتُ في كتاب النوادر لأبي علي البغدادي أخبرنا أبو عبد الله يعنى أبا بكر بن دريد. قال: أخبرنا
عبد الرحمن عن عمه قال: قال أعرابي كبير السِّن: أصبحتُ والله تُقيِّدني الشعرة، وأعثر بالبعرة.
وقد أقام الدَّهْرُ صَعَري، بعد أن أقمت صَعَرَه. قال أبو علي:(الصَّعر: المَيَلُ) ومعنى صَعَري في هذا
الخبر، أي مَيَلي إلى اللهو والصِّبا والعوج الذي كان في زمان الشبيبة.
يقال: رجل أصْعَر: أى مائلُ العنق، وكذلك المتكبر على الناس، يميلُ بوجهه عن الناس إلى ناحيةٍ
من الكِبْر.
رجع
وكتب بعض الأدباء إلى صديق له مهنئاً بالابتناء بأهله. وأهل الرجل زوجه. والتأهُّلُ: التَّزَوُّج،
وأهل الرجل أيضاً أخصُّ الناس به، وأهلُ الإسلام من يدين، به وأهل القرآن: من يقرؤه، ويقوم
بحقوقه. وأهل البيت سكانُه. وقولهم: مرحباً وأهلاً، أي اختصاصاً بالتحية والتكرمة. وأصل الباب:
الاختصاص. ويقال أهَّلته لهذا الأمر: أي جعلتُه أهلاً له. والأهلي خلاف البَرِّي.
وأول الرسالة:
بأيْمَن طائر وأتمِّ سعدٍ
…
يكون من الكريمين اجتماع
أما أنَّه المجد اليفاعُ، والحسن المُطَاعُ، تعارفت الطباعُ، فتلاءمتِ الأنفس
الشعاع، كما التقى الكوكبانِ، واقترن النيران كما حاصر الريحُ الضَّيْغَم، وهاصَر النسيم الغصنَ المنَعَّم:
كما راقَ فوقَ المِعْطَفِ الصارِمِ العضبُ
…
كما التفَّتِ الصهْباءُ والبارِدُ العذْبُ
بل كما فاوت القداح، ونُظم الوشاح، واعتلقَ الروضُ عبَقه، واعتَنَقَ شنٌّ طَبَقَه، فحَبَّذا النسبُ، شابكهُ
الصِّهر والحسبُ، عانده التقي البَرُّ على حين جرتِ الأيامِن، واكتنفَ الحرمَ الآمن، فبالبنين والرَّفاء،
والنعيم والصفاء، والثروة والنماء، والعزَّة القعساء الشماء، وعلى الموافقة والوفاق، والدوامِ والاتفاقِ،
والحظُوظ والحدود، والبسطاط الممدودِ، وتتابُعِ البُشرى بالفارس المولود، ومالي تأوَّدْت أعْطافاً،
وتأنَّقْتُ أوْصافاً، وتهللتُ جَذَلاً، وبسطتُ في الدعاء مَذَلاً. أَهَنَّاني الأربُ؟ أم صفا لي المشرب؟ وقد
غبتُ عن اليوم المشهود، وما عَلِمت الإذن للوفود. ولم أقم في السماط، سافراً عن وجه الاغتباط،
أتلقى الدَّالِجَ بمبرورِ التحية، وأبدي الخارج بحكم السرور والأريحيَّة، وأتَخَدَّمُ وقْعَ الوحي والإيماء،
وأتقدَّم منَ المُصافاةِ والمُوالاةِ في الغفير الجمَّاء. كلاّ، ولا شهدتُ ليلة الزفاف، وما حَلَّتْ من محاسنها
الأفواف، حيث دارت المنى سلاماً، وصارت العلا دوحة ألفافاً، وأبدى رَوْنَقَ السيف حلاء، وأبرز
عقيلة الحي هِداءً. هنالِكَ جلَّتِ النَّعماء، ونهلتِ الأظْماءُ. فيالهُ منظراً، ووعداً مُنْتَظراً، لو ناجيتهُ منْ
كثب، وَكَرَعْتُ منه في المنهل الأعذب، ولَنعمَ ما
مُنِحَ ذلكَ الموكبُ لماسح أهْداها جُمَلاً، فكَأنَّما أَسْداها
أملاً، أثْلَجَ الفُؤاد، وأورى الزناد، وأحقبَ المراد، وفاء بالنفس أوكاد، وقلَّتْ عنْ قراهُ، نفسٌ جندلت
يسراه، وأوجب لذكراه، وقد كان من الحقِّ أن أهاجر، وأَعْصِيَ الناهي والزاجر، فأرْقى جواراً،
وأُشْفى بالمحاضرة أُواراً، ولكنها الأيام تزع، ويغيرما أودُّ تقع، فأبْسُطُ عُذراً، وإني لك ذخراً، وطبْ
مدى الدهر خَبَراً وخُبْراً، وتملَّكْها منه أيادي غرّا. والسلامُ.
وكتب بعض الأدباء عن أمير زفَّ ابنته إلى صهره:
قد انتظَمْنا انتظام السلكِ، وصَرَّحنا عن مشارِبِ الحال الجامعة لنا قذاه كلَّ إفْكٍ وشكٍّ، وظهر الحقَُّ
المبينُ من الميْنِ، (وتبيَّنَ الصُّبح لذي عينين)، وأنفَذَتِ الهديةالمُقْتَضاة محفوفةً بالحرم والمحارمِ،
مكنوفة بالكرائم، تمَّ بالأعلامِ الأكارمِ. وأنا أسألُ الله في متوجهها ومُنْقَلَبِها الرِّعايةَ الموصولة بك،
والكفاية المعهودة منك، حتى يفئ عليها ظلُّكَ، وَيَبُوءَ بها مثوى الحماية مَحَلَُكَ، ويحميها حرْزُكَ
ومكانُك، ويأويها عزُّك وسلطانُك، ثم حسبي عليها كرمُكَ وكَنَفُكَ، وخليفتي عليها برُّكَ ولُطْفُكَ. فهي
الآن ملكُكَ، وأنت الكريمُ المُسْجِح، وبضاعة متجري وأنت المربح المنجح، والله يُبقيكَ ويُعْليكَ، وتَشُدُّ
قبْضَتُكَ على رقابِ أمانيكَ وأراجيك. ذخر الأبد، وعِمادَ الأهل والولد، وعندَكَ ثمرةُ النفسِ وفلذةُ الكبد.
فارَقْتَها عنْ شدَّةِ ضَنَانَة، وأسْلمتها بعد طول صيانة، وما زُفَّتْ إلا إلى كريمٍ يحملها محمل الأمانة،
ويقضي فيها الديانة، ويرعى لها حق انقطاعها عن أهلها، واغتِرابِها عنْ ملائها ومنْشئِها. وهو حكمُ
الله الواجب، وقدره الغالب،
وسُنَّتُه المشروعَة، ومشيئتُهُ المتبوعة. ولنا في رسول الله أسوة، وفيما
قاله في مثل هذه قدوة. وتلا قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) وقد قال عليه السلام: "فاطمة بِضْعَةٌ مني فمن أكرمها فقد
أكرمني ومن أهانها فقد أهانني اللهم بارك لها وبارك عليها".
وقد تصور لي أنّ قطعة مني فاقت منفصلة عني، فلمَّا تفكرتُ في خُرُوجِها إليك، وأنت منْ أنت
تماسكتُ، وتراجعْت عند ذلك وتمالكتُ. والله تعالى يُطْلِعُني منْ سلامة الوُصول، وكرامة الحُلُول، ما
يُقِرُّ العين، ويَسُرُّ النَّفسَ بمَنِّه.
وذكر أبو منصور في كتابه قال: لما زفّ بختيار ابنته إلى تغلب بالموصل، أمر أبا إسحاق الصابي
فكتب عنه فصلاً في المعنى استحسنه البلغاء وتحفظوه، وهو:
وقد توجَّه أبو النَّجم بدر الحرمي وهو الأمين على ما يلحظُه، والولي بما
يحفظه، يحمل الهدية وإنَّما نُقلتْ منْ وطنٍ إلى وطن، ومن مُعَرَّسٍ إلى مُعَرَّس، ومن مأوى برٍّ وانعطاف، إلى مأوى كرمٍ
وألْطاف، ومن منبت درتْ له نَعْمَاؤُهُ، إلى منشإ يجود عليه سماؤه، وهي بضعة مني انفصلت إليكَ،
وثمرة من جَناني حصلت لديك، ومابان عني منْ وصلتُ حبله بحبلكَ، وتخيَّرْتُ له بارعَ فضْلِكَ.
جواب هذا الفصل من إنشاء أبي الفرج الببغاء قال بعد الصدر:
وأمَّا أبو النَّجم فقد أدى الأمانة إلى أهلها، وسلَّمَ الذَّخيرة الجليلة إلى مُتَقَبِّلها، فجَلَّتْ عنِ العزِّ في
وطنها، وأوتْ منْ حِمى الأسد إلى مُستقرها، وسكنها، منتقلة من عطن الفضل والكمال، إلى كنف
السعادة والإقبال، وصادرة عن أنبل وِلادَةٍ ونسب، إلى أشرف نصاب وحسب وفي اليسير منْ لوازمِ
فُروضها، وواجباتِ حُقُوقها، ما يُغْني عنِ الوصاة بها. وكيف يوصي الناظر بنوره، أو يُحَضُّ القلبُ
على حفظِ سُرُورِه؟
قال أبو إسحاق:
وكناية الأُدباء عن الزوجة بالهَدِيَّة، كنايةٌ رفيعة سَنِيَّة، وكان شُعراءُ العرب في الجاهلية، وصدرِ
الإسلام يُشَبِّبُون بالنساء، ويُعلنون بأسمائهم، حى توَعَّدهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك،
وعهد إليهم ألا يُشبب أحد منهم بامرأة معلناً باسمها. وقد نفى نَصْر بن الحجاج بن علاط البهزي من
المدينة، وكان فتى جميلاً، من أحسن أهل المدينة صورة حين سمع امرأة تنشد:
هلْ منْ سبيلٍ إلى خمر فأَشْرَبَها
…
أمْ هل سبيلٌ إلى نصر بن حجاج
وحكى الفضل بن موسى عن داوود العطار، أنه قال: سمع سليمان بن عبد الملك في معسكره صوت
غناء، فَدَعا بهم، فقال: أمَا أنَّ الفرسَ ليصهل فتستودق له الرَّمَكَةُ، وأنَّ الجمل لَيَخْطِرُ فتضبع له
النَّاقة، وأن التِّيس لينهب
فتستحرمَ له العَنْز، وأن الرجل ليغني فتشتاقُ إليه المرأة. أُخْصوهُم. فقال له
عمر بن عبد العزيز إنها مُثْلة وطلب إليه فخلَّى سبيلهم.
قال: ولَمّا كان ذلك من أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عادَ الشعراء بعد ذلك يُكنون عن
النساء بالشجر، والثِّيابِ، والأزُرِ، والحُلَلِ، وما أشبهها. من ذلك قول أحدهم:
فيا سَرْحَةَ الرُّكْبانِ ظِلُّكِ بارِدٌ
…
وماؤُكِ عذْبٌ لو يُباحُ لشارِبِ
ومنه قول حُمَيْد بن ثور الهلالي:
أبَى الله إِلَاّ أنَّ سرْحةَ مالِكٍ
…
على كلِّ أَفْنانِ العِضاه تروقُ
فالسرحة في هذين البيتين كناية عن امرأتين.
وقال الآخر:
يا سرحَةً حرمتْ عليَّ وإنَّها
…
لألذُّ منْ ماءِ الحياةِ وأعْذبُ
ما بعد ظلِّكِ لي مَقيلٌ فاعْلمي
…
كَلاّ ولالِيَ بعد مائكِ مشربُ
والسَّرحة: الشجرة الملياء، ليس فيها شوك، ترتفع وتطول. وقال عمر بن
أبي ربيعة:
فَوَاعِدِيه سَرْحَتَيْ مالِكٍ
…
أو الرُّبا بينهما أَسْهَلا
وانتصاب (أسهلا) في هذا البيت بإضمار فعل كأنه قال: ائتِني مكاناً أسهلاً. ومثله قول الآخر:
ألا يا نخلةً منْ ذاتِ عِرْقٍ
…
عَلَيْكِ ورحمة الله السلامُ
كنى بالنخلة عن امرأة. وقال أبو بكر بن الأنباري في قول ليلى تصف الإبل:
رَمَوْها بِأثوابٍ خفافٍ فلنْ ترى
…
لها شبهاً إلَاّ النِّعَامَ المنَفَّرا
معناه: بأَنْفُسٍ. وقال الآخر:
ألا أْبْلِغْ أبا حفْصٍ رسولاً
…
فدىً لكَ من أخي ثقة إزاري
أى: فدى لكَ أهلي، وقيل نفسي.
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار ليلة العقبة: "أبايعكم على
أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". أخذ البراء بن مَعْرُور بيده وقال: نعم، والذي بعثك بالحقِّ لَنَمْنَعَنَّك مما نمْنَعُ
منه أزُرَنا؛ أي أنفسنا ونساءنا.
وعن إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي في قول الله تعالى وجل في سورة المدثر (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: معناه
نساءك طهرهن.
وعن ابن عباس والنَّخعي، وغيرهما من أهلِ العلمِ بالتفسير، أن معناه ونفسك فطهر.
وعن مجاهد فيه: أي وعملك فأصلح. والعرب تقول: فلانٌ طاهرُ الثوب، ونقيُّ الثوب. إذا كان حَسَنَ
العَمَل، طاهراً من الذنوب، ومن كل فعل مذموم. قال الشاعر:
طاهر الثوب لا يقارب حَوْباً
…
أريحيّ متوّج ذُو نوالِ
وقال الآخر:
مُطَهَّرُ الثوب لا كَفاءَ له
…
من قومه حين يذكر الكرمُ
فأما حديث أبي سعيد: إن الميت يُبْعَث في ثيابه التي مات فيها، فقال
فيه الخطابي أبو سليمان هذا يتأول على وجهين:
أحدهما أن يكون الثيابُ كناية عن العَمَل الذي يموت عليه ويختم له به، ويدلّ على ذلك حديث
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث العبد على مامات
عليه".
ويقال: فلانٌ دَنِسُ الثوب، إذا كان خبيث الفعل والمذهب. ولَبِسَ الرجلُ ثوب غدْرٍ إذا غَدَرَ. قال
الشاعر:
فإنَّي بحمد الله لا ثوبَ غَدْرَةٍ
…
لَبِسْتُ ولا منْ ريبَةٍ أتَقَنَّعُ
ويروى: (لاثوب غادر) ويروى: (ولا من فجرة).
والوجه الآخر، أن يراد بالثياب ما يُلبسُ ويكتسى؛ يُريدُ أنهم يُبعثون من قبورهم، وثيابهم عليهم ثم
يُحْشرونَ إلى الموقف حفاة عراة.
وروى بعض الصحابة أنَّهُ لمَّا حضره الموت قال: أحْسِنوا كفَني فإن الميت يُبْعَثُ في ثيابه التي مات
فيها.
وفي الحديث فيما روى قتيبة عن الليثي عن هشام ابن سعيد عن عطاء الخرساني قال: كان عمر بن
الخطاب قد خطب إلى علي بن أبي طالب ابنته أم كلثوم فقال عليّ: إنها صغيرة، وإني مرْسِلُها إليكَ
حتى تنظر إلى صِغَرها. فأرسلها إليه، وقال لها: قولي له إنّ أبي يقول لك: هل رضيت الحُلَّة؟
فجاءته وقالت له ما قال لها أبوها. فلما نظر إليها، قال: نعم، قد رضيتها. فكنَّى عنها رضي الله عنه
بالحُلَّة.
والحُلَّةُ ثوبان: إزارٌ ورداء. ولا تُسمَّى حلة حتى تكون جديدة تحل عن طيها.
وقال الله تعالى وجلّ (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) فاللباس في هذه الآية كناية عن الأنفس، لأن النساء يَصِرْنَ بمنزلة ما يُلْبس.
وقال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيجُ ثنَى عِطْفَهُ
…
تَثَنَّتْ عليه فكانتْ لِباسا
وقد كنَّت العرب عن النساء بغير ما ذكرناه من الشجر، والحُلل والأزر. من ذلك قول علقمة:
يحملن أترجَّةً نضْحَ العبير بها
…
كأنَّ تَطْيابَها في الأنف مشمومُ
فجعل الأترجة كناية عن امرأة. ومنه قول عنترة:
ياشاةَ ما قنصٍ لمن حلَّتْ له
…
حرُمَتْ عليَّ وليتَها لم تَحرمِ
فكنَّى بالشاة عن المرأة. وقال الأعشى:
فَرَمَيْتُ غَفْلةَ عينه عن شاته
…
فأصبتُ حبَّةَ قلبها وَطَحَالَهَا
وقال ابن نُمير:
كأنَّ على الظَّعائن يوم بانوا
…
نعاجاً ترتعي بَقْلَ البِراثِ
البِراثُ: الأماكن السهلةُ. واحدها: بَرثٌ، مفتوح الأول قاله أبو العباس فكنى بالنِّعاج عن النساء.
ومثله قول امرئ القيس:
هما نَعْجتانِ منْ نِعاجِ تبالَةٍ
…
لدى جُؤْذُرين أو كبعض دُمى هَكِرْ
وفي كتاب الله تعالى (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ).
فهذا كله كناية عن النساء. والنعجة عند العرب: البقرة الوحشية. قال امرؤ القيس:
فَبَينا نعاجٌ يرْتعين خَميلةً
…
كَمَشْيِ العَذارى في المُلاءِ المُهَذَّبِ
وكلُّ هذه الكُنى، إنما تقع على الفتيات والكواعب الحِسَان الخفرات؛ من
كل طَفْلَةٍ عرُوبٍ هيفاء، ريَّا المخلخل:
إلى مثلها يرنو الحليمُ صبابةً
…
إذا ما اسبكَرَّتْ بين درْعٍ ومِجْولِ
وما سِوى هذا الجنس من ذَوات الأسْنان اللاتي لايَعْلقن بقلب إنسان، فلهنَّ أسماء غير مستحسنات
بألفاظ وصفات مختلفات، كمثلِ ما ورَدَ في كتاب "أنواع الأسْجاع" من تأليف ابن أبي الزلازل. قال:
وجدت في كتاب أبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي حدثني محمد بن سهل قال: أخبرنا عمارة
بن وثيمة قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد قال: أخبرنا المفضل بن موسى المروزي
قال لي أبو حنيفة ألا أحَدِّثُكَ حديثاً ظريفاً. قلت: بلى. قال أخبرنا حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعي عن
رجل يقال له عبد الله أظنه ابن بجينة. قال: جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال
له النبي عليه السلام: أَتَزَوَّجْتَ يا زيد؟ قال: لا. قال: تَزَوَّجْ تَسْتَعِفَّ مع عِفَّتِكَ ولا تَزَوَّجْ خمساً من
النِّساء. قال: وماهُنَّ يارسول الله؟ قال: لا تزوَّجْ شهْبَرَةً، ولا لَهْبَرَةً، ولا نَهْبَرة، ولا هيْذَرَة ولا لَفوتاً.
قال زيد والله يارسول الله ماأعرف مما قلت شيئاً. قال: أما الشَّهبرةُ فالزرقاءُ البدينة، وأما اللَّهبرة
فالطويلة المَهْزُولَة، وأما النهبرة فالعجوز المُدْبرة، وأما الهيدرة فالقَصيرَة القبيحة الدَّسيمة، وأما اللفوت
فذات الوَلَدِ من غيرك.
قال المروزي: وضحكَ أبو حنيفة لها ضَحْكاً طويلاً وكان لا يضحك إلا تَبَسُّماً.
وذكر الخطابي أبو سليمان هذا الحديث ولم يسنده. وهذه الأسماء فيه. إلا أنه قال هيْذَرَة بالدال
معجمة، وقال: الهيذرة الكثيرة الهَذَر؛ وهو الكلام الذي لايُعْبَأُ
به. يقال: هَذَرَ الرجل في منطقه يهذِرُ هَذراً، ورجُلٌ هذَّارٌ ومِهْذارٌ. قال: وأرى اللهبرة، إنما هي النَّهْبَلَة، وهي العجوز المدبرة. يقال شيخ
نهبَل، وعجوز نهبلة. قال الشاعر:
مأوى اليتيم ومأوى كل نهبلةٍ
…
تأوي إلى نهبلٍ كالنِّسْر عُلْفُوفِ
وقال في الشهبرة، هي الفانية. يقال شَهْبَرَة وشَنَهْبَرَة، وشَهْبَرِيَّة. وقال في النهبرة، إن كان محْفوظاً
فهي التي قد أشرفت على الهلاكِ. والنَّهابِرُ المَهَالِكُ. ومنه الحديث: "من جمعَ مالا منْ تَهَاوُش أذْهبَهُ
الله في نهابِرَ".
وقال في اللفوت كما جاء في الحديث. قال: وسُمِّيَتْ لَفوتاً لأنها لا تزال تَلْتَفِتُ إلى ولَدِها وتَشْتغِل به
عن الزوجِ.
قال ابن الأعرابي: أوصى بعض الأعراب ابن عمِّ له أرادَ التَّزَوُّجِ. فقال له: إًيَّاكَ والحنانة، وهي
التي كان لها زوج قبلك فطلَّقَها، فهي تحِنُّ إليه. وإِيَّاك والمنانة. وهي التي لها شيء تُعْطِيكَ منه، فتمُنُّ
عليك بذلك. وإِيَّاكَ والمُسَوِّفَة. وهي التي إذا أراد زوجها منها الخُلْوة، تقول له سوفَ سوف حتى
يكسل وينام. وإياك واللفوت وهي التي لها ولدٌ من غيرك، فهي تلتفتُ إليه وتشتغل به عنك. وإياكَ
والمشْفاة؛ وهي التي دفنتْ ثلاثةَ أزواج.
قال ابن الأعرابي أنشدنا المفضل:
مِشَفَّاةٌ إذا عَلِقَتْ بِقِرْنٍ
…
دنا َذاك القَرِينُ من الحِمَامِ
وفي الحديث "خيْرُ نسائكم العطرةُ المطرةُ" فالعطرة من العِطْر، والريح
الطيبة، يريد المرأة التي تُكثر استعمال الطيب. قال حسان بن ثابث:
شأنها العِطرُ والفراشُ ويَعْلُو
…
هَا لُجَيْنٌ ولُؤْلُوٌ منْظُومُ
والمطِرَةُ من المطرِ، يريد التي تُكثِرُ الاغتسال والتنظُّفَ بالماء.
وقال أبو عمر المُطَرِّز: المُطْرُ: كثرة السواك.
وحكى عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: وصف أعرابيٌّ جاريةً فقال: (بيضاء فضَّة،
عَطِرة مَطِرة، مشياصٌ خفِرَة). والمِشْياصُ: الكثيرة السِّواك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالأبكارِ فإنَّهنَّ أطيبُ أفواهاً وأنْتَقُ أرحاماً وأرْضى
باليَسير".
وقد ذكر أبو علي البغدادي في نوادره، أسماء زوج الرجُلِ بألفاظ مختلفة باشتقاقها وتفسيرها. فإنَّ
قال قائل أيُّما أفصح؟ زَوجُكَ بلفظِ التذكير، أو زوجَتُكَ بإثباث علامة التأنيث؟ قيل له: زوجَكَ على
لفظ التذكير، لأن الله تعالى يقول في كتابه العزيز (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وقال الله تعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وقال (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ). فأزْواجٌ جمع زوج
بطرح الهاء، ولا يصِحُّ أنْ يكون جمع زوجة.
وأنشد أبو العباس المبرد:
وأراكُمْ لَدى المُحَامَاة عندي
…
مثل صَوْنِ الرجال للأزْواجِ
فإن قال: لِمَ لفْظُ التذكير أفصحُ وأكثر في الاستعمال، والمعنى مؤنث؟ قيل له لما كانت الإضافة
تلتزمُ الاسم في أكثر الكلام، كانت مبنية له، وكانت بطرح الهاء أفصح؛ إذ كانت أخفّ مع الاستغناء
بدلالة الإضافة عن دلالة هاء التأنيث.
وحكى أبو عبيدة قال: رأيت الأصمعي يوثر ترك الهاء في الزوجة، ويرى أن أكثر كلام العرب
عليه. وكان الكسائي يرى أن أكثر كلام العرب بالهاء، ومن ذلك قول الفرزدق:
فإنّ الذي يسعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي
…
كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يستبلُّها
ومنه قول الآخر:
فبَكى بَنَاتي شجوهنَّ وزَوْجتِي
…
والطَّامِعون عليَّ ثُمَّ تَصَدَّعوا
قال الكسائي: وطَرْحُ الهاء لغة لأزد شنُوءة. وكان أبو العباس المبرد يقول بقول الأصمعي من أن
الوجه طرح الهاء، وبه قال أبو الحسن الرماني.
وقال صاحب العين. الزوجُ: امرأة الرجل، وهي لغةٌ في الزوجة، زوجة الرجل. والزوج يقال
للذكر، ويقال للأنثى وهو لفظ مشترك. فالزوج المرأة التي لها بعْل، والزوج: الرجل الذي له امرأة،
والزوج ضد الفرد. وأصل الزوج: الشكل. يقال: زاوَجَ بين هذين؛ أي شَاكَلَ بينهما. وقال أبو بكر
بن دريد: كُلُّ اثنين زوجٌ، وكلُّ أنْثى وذكر: زوجان. وفي كتاب الله تعالى
(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) فيه (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). ويقال: لفلان
زوجان من الحمام؛ أي ذكر وأنثى، وقوله سبحانه وتعالى (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) أي الأصناف.
والزِّوجُ النَّمط ويقال الدِّيباج. قال لبيد:
من كُلِّ محْفُوفٍ يظل عَصِيُّهُ
…
زَوْجٌ عليه كِلَّةٌ وقِرامُها
وقال الله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)
فمن نعمةِ الله على عباده، أن جعلَ للرجل زوْجاً من شكْلهِ، لأنَّ الشَّكْلَ إلى شكله أسكن، وله آلف،
وبه آنس. وقال:
يألَفُ الشكْلُ شكْلَه
…
ليسَ هذا بِمُشْكل
فَجَعَلَ جَلَّ وعزَّ المرأة من شكل الرجل، لِيُتِمَّ نعمته على عباده، وتَعْظُمَ منَّته عليهم. فله النِّعمة
السابِغَة، والحُجَّة البالغة، تبارك وتعالى علوَّاً كبيراً.
رجع
ولمَّا وصلت قطرُ الندى بنت خمار بن أحمد بن طولون المعروف بخمارويه إلى المعتضد بمدينة
السلام. قال علي بن العباس الرومي في
ذلك:
ياسَيِّدَ العرب الذي قُدرتْ لهُ
…
باليُمن والبَركات سيدةُ العجمْ
أَسْعِدْ بها كَسُعودِها بِكَ إنَّها
…
ظَفِرتْ بما فوقَ المَطالِبِ والهِممْ
ظَفِرَتْ بِمالِئ ناظريها بهجةً
…
وضميرها نُبْلاً وكفيها كرمْ
شمسُ الضُّحى زُفَّتْ إلى بدْرِ الدُّجى
…
فتَكشَّفتْ بهما عن الدنيا الظُّلمْ
قوله: (ظفرت بمالئ ناظريها) البيت، كقول أبي تمام:
ملءُ عيني سماحَةً وجمالَا
…
وفُؤادي مَهَابةً وجَلالا
إلا أن قول ابن الرومي أتم وأكمل، لا شتماله على ثلاثة ألْفاظ تتضمَّنُ ثلاثة معانٍ، وألْفاظ أبي تمام
أربعة، واقعة على معنيين في الحقيقة، فتأمله.
ولما زُفَّتْ الأُتْرُجَّة بنت أشناس إلى الحسين بن الأفشين وأقيم لهما العرس الذي جاوز الحدَّ في
المِقدار، ولم يُر مِثْلُهُ في سالف الأعمار، وكانا غايتين في الحُسْنِ والجمال، والبهجَة والكمال. قال
المعتصم فيهما:
زُفَّتْ عَروس إلى عَروس
…
بنت رئيسٍ إلى رئيسِ
أيُّهما كانَ ليت شِعْري
…
أَجَلَّ في الصُّدور والنُّفوسِ
أَصاحِبُ المرهف المحلَّى
…
أمْ ذو الوِشاحَيْنِ والشموس
قال أبو إسحاق:
وهذا الاسم، أعني العَرُوس، يشترك فيه المذكر والمؤنث.
فمن وقوعه على المذكر قول الشاعر:
كأن الصِّبا والشَّيْبُ يطمسُ نورَه
…
عروسُ أناس مات في ليلة العُرسِ
فأمَّا قول امرئ القيس:
لها ذنبٌ مثلُ ذيلِ العروسِ
…
تَسُدّ بِهِ فَرْجَها من دُبُرْ
فيحتمل الوجهين.
وكتب بعضهم يهنئ بمولود:
إنَّ أَحَقَّ ما انبسطَ فيه للتهنئة لسانٌ، وتصرَّفَ في ميادينِ معانيه بيانٌ وبنانٌ، أملٌ رُجِيَ فتَأَبَّى زماناً،
واستدعِيَ فلَوى عِناناً، وطاردَتْهُ المُنى فأتعَبَها حيناً، وغازَلتْهُ الهِممُ فأشعرها حنيناً، ثمَّ طَلَع غيرَ
مُرْتَقَب، وورَدَ منْ صُحْبَةِ المناصِح في جَحْفَلٍ لَجِب، فكان كالمُشيرِ إلى ما بعْدَه من مواكبِ الآمالِ،
والدليل إلى ما وراءهُ منْ كواكِبِ الإقبال، أو كالصبْحِ افترَّتْ عنِ أنوارِ الشمس مباسِمُهُ، والبرْقِ
تَتَابَعَتْ إثْر وميضهِ غمائمهُ، وفي هذه الجملة ما دلَّ على المولود، الذي بَشَّرَ بترادُفِ الحُظوظ
وتضاعُف السعود، ونيلِ الأملِ المولود. فيالَهُ نجمُ سعادةٍ، طلَعَ في أُفْقِ سيادة، وغُصْنُ سناءِ، تفرعَ
من دوحة هناء. لقد تهَلَّلَتْ وجوهُ المحاسِنِ باستهلالهِ، وأقْبَلتْ وفودُ الميامِنِ لاسْتِقْبالِه، ونُظِمتْ له قلائدُ
التمائم، من جوهرِ المكارِمِ، وخُصَّ بالثُّدِيِّ الحوافل، بلسانِ الفضائل،
وما كان منبِتُ الشرَفِ بانفرادِ تلْكَ الأرومَة الكريمة إلا مُقْشَعِرَّ الرُّبا، مُغْبَرَّ الثرى.
فأمَّا وقد اهتزَّ في أيْكَةِ السيادة قضيبٌ، ونشأَ منْ
بيتِ النجابَةِ نجيبٌ، فأخْلِقْ بذلك المنبِت أنْ تُعاوِدَه نضرَتُهُ، وترفَّ عليه حَبْرَتُهُ، ويراجِعه رَوْنَقُهُ
وبهاؤهُ، وتُضاحِكَهُ أرْضُهُ وسماؤُهُ. فالحمد لله الذي ثنى الأمل بعد جماحه، وعادَ يَخْتالُ في حلْيَةِ غُررِ
الجذَلِ وأوْضاحه، وهو المسؤول أنْ يَهْنِئَكَ منه صنعاً يَحْسُنُ في مثله الحسدُ، ويُتَمَنى لفضله النسْلُ
والولدُ.
وفي المعنى لأبي عبد الله بن أبي الخصال:
هنيئاً - أعزَّكَ الله - بهلالٍ جلا غياهِبَ الحندِسِ. وطلع بين الجواري الكنَّسِ لله درَّهُنَّ منْ جوارٍ
خمس، كالجواري الخمس، طلعن بين القمر والشمس، إلا أنَّهُنَّ كالدُّرِّ المكنون، لا يُلْمَحنَ بالعُيونِ، لقد
استزدن به جَمالاً، وحَسُنَّ بهاء وكمالاً، فجِئنَ ككعُوبِ قناةٍ رُكِّبَ عليها سِنانُها، وأَلْفاظِ عُلا جاءَ آخراً
بيانُها؛ بلْ كبيْتِ القصيدِ، منْ عَرُوضِ المديد، رُكِّبَ منْ سِتِّةِ أجزاء كساها الآخر ثوب بهاء، فُضِّلَ
دُونهُنَّ بالرويِّ، وخُصَّ منَ العافية بأحسن الزَّيِّ.
فلله أصلٌ أثْمَرتْهُ أبْراعُهُ، لقدْ عَظُمَ بسُوقُهُ وارتفاعُهُ. أَنْجَبَ، فما تُهْصَرُ أغْصانُهُ باليدينِ، وأعْرَبَ،
فتعدَّى فعْلُ كرمِهِ إلى مفْعُولينِ
وله في المعنى:
هنيئاً - أعزَّكَ الله - بهلالٍ، طلَع بأُفْقِ جلالٍ، وفرْعٍ كريمٍ، تولَّدَ بين فهرٍ وتميم، ما أزْكى ثراهُ،
وأسْنى مُنْتَماهُ، بطلَ زماناً بالطُّلُوعِ، ولوى أعْرافاً بالبُسُقِ والفُروعِ، حتى جاء في زمانٍ جَمَعَ المحاسِنَ
وجنَّدَ، وبدا في مكانٍ فضَّلَهُ ذو التَحْصيلِ فأنشد:
فمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أعْجَبَتْهُ
…
فأيُّ رِجالِ باديةٍ ترانا
ومنْ ربَطَ الجِحاشَ فإنَّ فينا
…
قَناً سُلْبا وأفْراساً رهانا
لقد تشوفَت إليه الدفاتِرُ، وتزَيَّنَتْ لَهُ الأقْلامُ والمَحابِرُ، وقرَّتْ بهِ عينُ العليا، وابتهجتْ للقائه الدُّنيا.
انظرْ إلى الأشجارِ كيف افترَّتْ عن جذلٍ مباسمها، وإلى الأزهارِ كيفَ شُقِّقَتْ من طَرَفِ كَمائِمِها،
وإلى الأنهار كيفَ سَحَبَتْ ذُيُولها، وإلى الأطيارِ كيفَ رجَّعتْ خفيفَ أغانيها وثقيلَها. فصلْ به -
أعزَّكَ الله - قوادِمَ سعْدِكَ بالخوافي، (وارْمِ أعْداءكَ بثلاثَةِ الأثافي)، واسعدْ بهذا
الولدِ، مثل اليوم بالأمسِ والغد. ثلاثة تألَّفتْ منها الشهورُ، واجتمعتِ الأعوامُ والدُّهورُ. سوَّغَكَ الله ما أتاكَ وبلَّغَكَ في
الدارينِ هَناكَ بقدرته. والسلامُ.
قال أبو إسحاق:
كان هذا المولود وُلد بالبادية زمن الربيع، بعد وَلَدَيْن تقدّماه وسبِقاه في عُنْصُره ومنْتماه. فلذلكَ أنْشَدَ
أبو عبد الله رحمه الله ماأنشده، ونبه على طيب النجار والمَحْتِد، وأبْلَغَ فيما نص، وخصَّه من الثناء
الجميل بما خَصَّ.
وقوله:
(فمنْ تَكُنِ الحضارةُ أعْجَبَتْه) في الحَضارة لغتان معروفتان: الحضارة بفتح الحاء، والحِضارة
بكسرها وكذلك الغشاوة والغِشاوة. كسر الغين في الغشاوة أفصح ويجوز فيها الضم، أعني في الغين
من الغشاوة. وحكى يعقوب عن أبي زيد: البداوة بفتح الباء، والحضارةُ بكسر الحاء.
وعن الأصمعي: البِداوَةُ بالكسر، والحضارَةُ بالفتح. وحَكى أبو علي البغدادي عنهما مثل ذلك. وقال
أبو سليمان الخطابي في (شرح غريب الحديث): البَدَاوَةُ: الخروجُ إلى البادية، وفيهما لغتان.
قال أبو زيد: البِدَاوَةُ والحِضارةُ، يعني بالكسر. وقال الأصمعي: البَداوة: والحضَارة بالفتح. وأنشد:
فمن تكن الحضارة أَعْجَبَتْهُ
…
فأيُّ رجال باديةٍ تَرَانا
فقول الخطابي مخالف لما حكى يعقوب وأبو علي.
وقال صاحب العين: البادية اسم الأرض التي لا حضَرَ فيها، وإذا خرج الناس منَ الحَضَرِ إلى
المراعي والصحاري قيل: قد بدَوْا بَدْءاً. والاسم البدء.
وقال الله تعالى وتباركَ (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ). يُرْوى أن مسكن يعقوب عليه السلام كان بأرض كَنْعَان، وكانوا أهل
مواشٍ وبرية.
ويقال: أهل البدو وأهل الحَضر، ويقال: بدَا الشيء يَبْدو بُدُوّاً إذا ظهر. وبدا لفلان في هذا الأمر بداً
وبدْءاً. ونظير بدا: ظهر وعلن، ويلتبس به بدأ يَبْدَؤُ بدَاءً بالهمز، وليس منه في لفظ ولا معنى؛ لأن
الأول من الظهور، والثاني من الإستئناف.
وفي كتاب الله تعالى (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ). قرأه أبو عمرو بن العلاء (بادئ) بالهمز على معنى: اتّبعوك في أول
الرأي، ولم يفكروا ولم ينظروا ورواها نصير بن يوسف عن الكسائي.
وقرأ القُرَّاء الستة بادي بغير همز. والمعنى: اتبعوك في ظاهر الأمر.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها فيما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن شريك عن المقدام بن شريح
عن أبيه عنهما. قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع وأنه أراد البداوة
مرة، فأرسل إليَّ ناقة محرمة من إبل الصدقة" قال: والناقَةُ المحرَّمة: هي التي لم تُرْكَبُ ولم تُذَلَّل،
وأعرابي محرَّم إذا لم يُخالِط أهل الحضر. ويقال: سَوْطٌ مُحَرّم وهو الذي لم يكمل دِباغه. قال
الشاعر:
وإنَّ قليل المالِ للمرءِ مُفْسِدٌ
…
يَحُزُّ كَمَا حَزَّ القطيعَ المُحرَّمُ
وذلكَ أنه إذا لم يبالغ في دباغه، كان أشد لضربه.
قال أبو بكر بن دريد: القطيعُ: السوط من العَقب. والجميع قُطُع.
قال: والحَضَرُ خلاف البَدو، ويقال: حَضَرْتُ القوم أحضرهمْ حُضوراً: إذا شهدتهم. والحاضرُ خلاف
الغائب. وحاضرتَ الرجل مُحاضَرة وحِضاراً، إذا عَدَوْتَ معه. وحاضَرْتَه إذا جَاثتَتهُ عند السلطان أو
في خصومة. والحضيرة: الجماعَة ما بين الخمسة إلى العشرة يُغْزَى بهم. قالت الجهينية:
فَرِدِ المياهَ حضيرةً ونَقيصَةً
…
وِرْدَ القَطاةِ إذا اسمألّ التُّبَّعُ
وَمحْضَرُ القَوْمِ: مرْجِعُهُمْ إلى المياه بعدَ النجْعَةِ. ويقال أَحْضرَ الفرس إحْضاراً: إذا عدا عدْواً شديداً.
واستحضرته استحضاراً. ومن نوادر كلامهم (فَرَسٌ مِحْضير) ولا يَكادُون يقولون مِحْضَاراً. وإبلٌ
حِضَار، وهي الإبل البيض، ولا واحدلها من لفظها مثل الهجان سواء. وقال أبو ذؤيب:
معتَّقَةٌ صِرْفٌ يكونُ سِباؤها
…
بناتُ المخاضِ شُومُها وحِضارُها
وألقت الشاة حضيرتَها، وهو ما تُلقيه بعد الولد من المَشْأمة وغيرها. وحضْرةُ الرجل: فناؤه.
وأصل الباب الحُضُور خلاف الغيبة، فمنه إحضار الفرس، لأنه أحضر ما عنده من العدو. ومنه
الحضيرة: الجماعة، يُغْزى بهم، أي من حَضَر من غير احتشاد. ومنه حضيرة الشاة، ما تلقيه بعد
الولد من المشأمة وغيرها، وهو ما يَحْضُرُها من ذلكَ بعد الولادة. ومنه الحِضارُ: الإبل البيض لأنها
على ألوان أهل الحَضَر من البياضِ دون البادية.
رجع
وولد لأبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله، وهو المتسمى من الألقاب السلطانية بالمقتدر مولود،
فكتب إليه أبو بكر الصولي بأبيات يقول فيها:
بالرُّشدِ والإِقْبالِ والجِدِّ
…
والطَّائرِ الميْمُونِ والسَّعْدِ
هَنَّاكَ ياخيرَ الوَرَى قادمٌ
…
أقبل للبيعة والعهدِ
مبارََكُ الطلعةِ ميمونُها
…
مومنٌ للحلِّ والعًقْدِ
لو بيَّنَ المنْبِرُ عن نفسه
…
شكا إليه شدةَ الوجد
وفيها يقول:
تنطقُ بالسُؤدد أَعْطافُه
…
كنُطقِ عيسى وهو في المهْدِ
زاركَ عن شوق إلى قُرْبه
…
زَورَةَ معشوقٍ على وعد
وما أحسن قول أبي بكر بن عمار في المعتمد، وولد له ابن وابنة في يوم واحد:
اِهنأْ بنَجْلَيْكَ منْ أُنْثى ومنْ ذكرٍ
…
لا يعدم الضَّوء بين الشمسِ والقَمَر
وقبله قال ابن الرومي:
شمسٌ وبدرٌ ولدا كوكباً
…
أقسمتُ بالله لقد أنْجَبَا
ثلاثةٌ تُشرق أنوارُها
…
لا بُدِّلَتْ من مشْرِقٍ مغْرِبَا
تباركَ الله وسبحانه
…
أيَّ شهاب منكم أثقبا
إن طاب أو طبتم فما أبعدت
…
فروع مجدٍ أشبهت منصبا
أنتم أناسٌ بأياديكمُ
…
يستغفرُ الدهرُ إذا أذنبا
إذا جنى الدهرُ على أهله
…
وزاد في عِدّتكم أعتَبا
وأخذ معنى أول هذه الأبيات بعضهم فقال:
شمس الضُّحَى قُرنتْ إلى بَدْرِ الدُّجى
…
حتَّى إذا اجتمعا أتَتْ بالمشتري
قال: ولَمَّا قدم أبو القاسم الهوزني من الحَضْرَة بعد النَّبْوة التي خَلَصَتْ إلى غَرْبه، والروعة التي
كادت تذهب بِرُوحه وسِرْبه، كتب إليه أبو القاسم بن الجد برقعة يُهَنِّيه فيها بالعافية، وبنعم الله التي
أثوابُها عليه سَابِغَةٌ ضافية:
وَكَمْنِعْمَةٍ لا يُسْتَقَلُّ بشُكْرِها
…
إلى اللَّه في طَيِّ المكارهِ كامِنَهْ
قد يُجْتَنى - أعزَّكَ الله - من شجرةِ المساءةِ ثمْرُ المَسَرَّة، ويُجْتَلى وجْه المحبوب غِبَّ المكروهِ
مُشرقَ الأسرَّة، وربما تهجَّمَ القدرُ وضميرهُ مُبْتَسم، وتصَلَّب الزمنُ وعهدهُ مُحْتَشمُ؛ وإنَّما يُنظرُ إلى
مواقع الأقدار في الإصْدارِ، وتُحمدُ مجاري الأعمال عند المآل. وفي هذه المُقدمة دلالةٌ على النَّبْوةِ
التي ما اعتكرَ جُنْحُها، إلاريثما وضح صُبْحُها، ولا نَعَبَ بالبعد غُرابُها، حتى التَفَتَ إلى
سانِحِ السعْدِ رِكابُها، ولا استطارَلها في قلبِ الولي صَدْعٌ، حتَّى اشتَمَلَ منها على أنْفِ العَدُوِّ جَدْعٌ، وما ذاكَ إلَاّ أنَّ
سُلطانَ الحقِّ أَنْجَدَكَ وأيَّدَكَ، وبُرْهانَ الفضْلِ قامَ معكَ وأطالَ يدك، وحاش للعلمِ أنْ يُلبِسَ حامِلَهُ
خُمولاً، وأن يَحثَّ له نحو الإذالة حمُولاً، فَوَشْكَانَ ما استقلَّتْ بكَ أيدي الآثار، في الصُّدورِ العثار،
وخاصمتْ عنكَ ألْسُنَ السَّنن عوارضَ المِحن، وما سِرْتَ إلا وظِلُّ الكرامةِ عليكَ ظليلٌ، وصنعُ الله
لكَ رَسِيلٌ، وبكَ كفيلٌ. فلئنْ أوْحَشَ مسيرُكَ لقد آنَسَ ظُهورُكَ، ولئنْ سَمُجَ اغتِرابُكَ لقد حَسُنَ اقترابُك؛
ولئنْ سخِنَت العينُ بعدكَ، لقد بينَ البينُ فقدَكَ. فالحمدُ لله الذي أوشك مقْدَمَكَ، وأعْلى قَدَمَكَ، ورفع في
كل مِكْرُمَةٍ عَلَمَكَ، وإيّاه تعالى أسأل، أنْ يهنيكَ ويهنئَ فيك عارفة السلامة، ويُبْقيكَ بعيدَ الصِّيتِ رفيعَ
القدْرِ في الظَّعَنِ والإقامةِ. ولولا تَرَدُّدي في عقابيل سُقم لزمتْ جسمي شهوراً، واتخذتْهُ ربعاً معموراً،
لما استنبْتُ في التهنِئةِ خطاباً، ولحثَثْتُ نحوكَ رِكاباً. وأنتَ بِسَرْوكَ تُوسع العُذْرَ قَبولا، وتقْبلُه وجهاً
جميلاً.
وكتب يهنئ منْ صَدَرَ عن بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي محمد عليه الصلاة والسلام:
كتبتُ، وقدْ هزَّني وافدُ البُشْرى، واستَخْفَّني رائدُ المَسَرَّةِ الكُبْرى، بما سناهُ الله تعالى منْ قُدُومِكَ
محوطَ الجوانبِ والأرجاء، منُوطَ الفخارِ بِذوائبِ الجَوْزاء، مَخْطوطَ الأثر في مواطئ الرُّسُلِ ومواطنِ
الأنبياء. فيالَهَا حجَّةً مبرورة ما أتمَّ
مناسِكَها، وأوْضَحَ في مناهجِ البِرِّ مَسالِكَها، لقدْ شهدَ فيها الميقاتُ
بِخُلُوصِ إحْلالِكَ وإحرامِكَ، واهتزَّ البيتُ العتيق لطوافِكَ واستِلامِكَ، ورضيَتِ (المرْوَة) و (الصفا)
عن كمالِ أشواطِكَ، وتهلَّلَ (بَطنُ المسيل) لسعيِكَ فيه وانحطاطِكَ، ثمَّ بالموقف الأعظمِ منْ (عَرَفَة)
سطعَ عرفُ دُعائكَ وتَخشُّعِكَ، وارتفعَ خفْضُ رغْبَتِكَ وتضرُّعِكَ، في البيت المكرم من المُزْدَلِفَةِ حظي
تقَّرُّبُكَ وتزَلُّفُكَ، وزكا تهجُّدُكَ وتَنَفُّلُك، وعندَ (الإفَاضَةِ) فاضتِ الرحمة عليكَ، وكمُلَتِ النعمةُ لديكَ.
وأمَّا (منىً) ففيها قضيْتَ مُناكَ وأَوْطارَكَ، وقُبِلَتْ هَدَايَاكَ وجِماَرُكَ، وحُطَّتْ خَطَاياكَ وأوْزارُكَ، فما
صدرت عنْ تِلْكَ المعالم المُكرمة، والشعائر المُعَظَّمة، إلا وهيَ راضيةٌ عنْ عَجِّك وثجِّكَ، شاهدةٌ لكَ
بكمالِ حجِّكَ، مُشْفِقَةٌ منْ فِراقِكَ وبُعْدِكَ، مُتَعَلِّقةٌ لوْ أمْكَنَهَا بِبُرْدِكَ، وقَبْلَُ أوْ بَعْدُ ما تأنَّستْ بكَ يثرِب،
ورفعَ لكَ في جَنَباتِها مضرب، فشافهتَ منازلَ التنزيل، وطالَعْتَ معاهِدَ الرَّسولِ، وقَضيْتَ منْ زيارةِ
القبرِ الكريمِ واجباً، وقُمْتَ بينَهُ وبينَ المنْبَرِ ضارِعاً وراغِباً. فما حُجِبَ عنهُ عليه السلام زَوْرُكَ
وإلْمامكَ، وقصْدُكَ وائْتمامُكَ، وصلاتُكَ وسلامُكَ؛ بَلْ كانَ لكُلِّ ذلكَ واعياً سامعاً، ويكونُ لكَ بحولِ الله
شاهداً شافعاً، فهَنَّأكَ الله، وما منَحَكَ منْ جزيلِ الأجرِ في موقفِ الحَرمين، وأطارَ لكَ منْ جميلِ الذكرِ
في الخافقيْنِ.
ولمَّا قعَدَ بي عنْ قصْدِكَ ما قَعَدَ، ولمْ يُمَكنِّي الوفودُ عليكَ في جُمْلَةِ منْ وفد، استنَبْتُ كتابي منابي،
والسلام.
قال أبو إسحاق:
وأبو القاسم بن الجد هذا ممن له في الآداب السبقُ والتقديمُ، وفي المجد والحسب محلٌّ إلى جانب
الجوزاء مقيمٌ، وكان مليحَ الكلامِ في المنثور والمنظوم، تصرَّفَ في النوعين تصرُّفاً غير مذموم.
وهو القائل في صفة المطر بعد تمادي القَحْطِ وتوالي الكَدَر:
لله تعالى في عباده أسرارٌ، لا تُدْرِكُها الأفكار، وأحكامٌُ، لا تنالُها الأوهامُ، تختلفُ والعدلُ متفرّقُ
وتفترق والفضلُ مجْتَمعٌ مُتَّسق، ففي مِنحها نفائسُ المأمولِ، وفي مِحَنها مداوِسُ العُقول، وفي فوائدها
حدائقُ الإنْعامِ رائقةٌ، وبينَ أرجاءِ شدائدها بوارقُ الإعذار والإنذار خافقة، وربَّما تفتَّحت كمائم
النَّوائب عنْ زهْرِ المواهب، وانسكبتْ غمائمُ الرَّزَايا، بنفحاتِ العطايا، وَصَدَعَ ليلَ اليَأْسِ صُبْحُ
الرَّجاءِ، وخلعَ عامِلَ البَأْسِ وَالِي الرخاء، وذلك بتدبير اللطيف الخبير، وتقديرِ العزيزِ القدير.
ولمَّا ظَنَّتْ بِتَثَبُّطِ الغيثِ الظُّنون، وانْقَبَضَ منْ تَبَسُّطِ الشَّكِّ اليَقِينُ، واسْتَرابَتْ حِياضُ الوِهادِ، بعُهودِ
العهادِ، وتأهَّبَتْ رياضُ النِّجَادِ، لبُرودِ الحداد،
واكتحلتْ أجْفانُ الأزْهارِ، بإثْمِدِ النَّقْعِ المُثارِ، وتعَطَّلَتْ
أجْيادُ الأنْوارِ، منْ حُلِيِّ الديمَةِ المِدْرارِ، أرْسلَ الله تعالى بين يديْ رحمته ريحاً بليلةَ الجناحِ، مَخيلَةَ
النَّجاحِ، سريعةَ الإلقاح، فنَظَّمتْ عقودَ السحابِ، نَظْم النِّجاب، وأحْكَمتْ بُرُود الغَمَام، رائقَةَ الأعلام.
وحينَ ضرَبَتْ تلك المَخيلةُ في الأُفقِ قِبابها، ومدَّتْ على الأرضِ أطنَابَها، لم تَلْبَث أن انتهِكَ رواقها،
وأنْبَتَكَ وشيكاً نِطاقُها، وانبَرتْ مدامِعُها تَجْري بأجفانِ المُشْتاقِ، غداةَ الفراقِ، وتحْكي بنان الكرامِ، عند
أَرْيَحِيَّةِ المُدامِ، فاسْتَعْبَرَتِ الرِّياضُ ضَحكاً ببكائها، واهتزَّتْ رباب النَّباتِ طرباً لتغْريدِ مُكائِها،
واكتَسَتْ ظهورُ الأرْضِ منْ فيضِ آلائها، خُضْرَ ملائها، فكأنَّ صنْعاء قدْ نشرتْ على بساطها بِساطاً
مُفَوَّفاً، وأهْدتْ إليها منْ زخارِفِ بَزّها ومطارفِ وشْيِها ألْحافاً وتُحَفاً، وخُيِّلَ للعُيُون أنَّ زُهْر النُّجُومِ،
قدْ طَلَعَتْ منْ مواقِعِ التُّخومِ، ومباسِمَ الحسانِ، قد وصلتْ بافترارِ الغيطان، فيا بَرْدَ موقِعها على القُلوبِ
والأكبادِ، ويا خُلوصَ رَيِّها إلى غُلل النُّفوسِ الصواد، كأنَّما استعارتْ أنْفاسَ الأحْبابِ، أوْ ترشَّفَتْ
شنَبَ الثَّنايا العذاب، أو تَحَمَّلتْ ماء الوصال، إلى نارِ البَلْبال، أوْ سرَتْ على أنْداء الأسحارِ وريْحانِ
الآصال. لقد تبينَ للصُّنْع الجميلِ منْ خلالِ ديمِها تنَفُّسٌ ونُصولٌ، وتمكَّنَ للشكر الجزيل في ظلالِ
نعَمها مُعرَّسٌ ومقيل.
فالحمد لله على ذلك ما انسكبَ قَطْرٌ، وانصدع فَجْرٌ، وتوقَّد قبس، وتردّد نفس، وهو الكفيلُ تعالى
بإتمام النَّعماء، وصلة أسباب الحياة والحياء بمنِّه.
وفي هذا المعنى فصل لأبي عمر الباجي يقول فيه:
إنَّ لله تعالى وجلَّ قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل، ومنحاً يجعلها لقومٍ صلاحاً وخيراً،
وعلى آخرين فساداً وضيراً. فلا نظير له ولا نديد (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) وبعد ما كان من إمساك الحيا، وتوقف السُّقْيا،،
قد ريع به الآمن، واستطير له الساكن، ورجفت الأكبادُ فزعاً، وذُهلت الألباب جزعاً، وأذكت ذكاء
حرها، ومنعت السماء درَّها، واكتست الأرض غُبْرَةً بعد خضرة، ولبستْ شُحُوباً بعدَ نضْرة، وكادتْ
بُرُودُ الأرض تُزْوى ونِعمُ الله تُطوى. نشرَ الله العزيزُ الكريمُ رَحْمَتَهُ، وبسطَ نعمتَهُ، وأتاح منَّته،
وأزاح محنته، فبعتَ الرياحَ لواقِح، وأرسلَ الغمام سوافح، بماءٍ دفقٍ، ورواءٍ غَدِقٍ، منْ سماءٍ طبقٍ،
واستهلَّ جفْنُها فَدَمَعَ وسحَّ دمعها فهمع، وصابَ وبْلُها فنَقَعَ، فاستوْفَت
الأرضُ ريَّا، واسْتَكْملَتْ منْ نباتها أثاثاً وريَّا، فزينة الأرض مشهورة، ومِنَّةُ الرَّبِّ موفورةٌ، والقُلوبُ ناعِمةٌ بعد بُؤْسها، والوجوه
ضاحكةٌ بعد عُبُوسها، وآثارُ الجزعِ ممحُوَّة، وسُوَرُ الشُّكرِ متْلُوَّة. ونحنُ نستزيدُ من الواهبِ نعمةَ
التَّوفيق، ونستهديه في قضاء الحقوق، إلى سواء الطريق، ونستعيذُ به من المِنَّةِ أنْ تَصيرَ فِتْنَة ومنَ
المَحْنَةِ أنْ تَعودَ مِحْنة، وهوَ حسْبُنا ونِعْم الوكيل.
قال أبو إسحاق:
وذكرتُ بهذا المزدوج البديع المَسَاق والتَّرتيب، خبر الأعرابي أبي مجيب إذْ هو في معناه، وكان
رجلاً من بني ربيعة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم فيما ذكر ابن الأعرابي قال: لقد رأيتنا في
أرض عَجْفاء، وزمانٍ أعْجَف، وشجرِ أغْشم في قُفٍّ غليظٍ وحارَةٍ مُدَرَّعَةٍ غَبْراء، فبينما نحن كذلك، إذْ
أنْشَأ الله من السماء غيثاً مُسْتكِفَّا أنْشأهُ مُسْبِلَةً غزالية، ضخاماً
قطْرُهُ جَوْداً زاكياً نزَّله رزقاً لنا، فنعش
أموالنا ووصل طرقنا وأصابنا. وإنّا لَبِنَوْطَةٍ بعيدة الأرجاء، فاهْرمَّعَ مَطَرُها حتى رأيتُنا، وما نرى إلا
غير السماء والماء، وصهواتِ الطَّلْحِ يضرب السيلُ النِّجَافَ، وملأ الأودية فرعبها، فما لبثنا إلا عشراً
حتى رأيناها روضة تَنْدَى.
تفسير غريب هذا الخبر. قال قاسم بن ثابث: قوله مُدَرَّعَّة؛ أي أكل ما حولها. وشاة درعاء؛ إذا
ابيضَّ رأسُها وسائرها أسود. ويقال ماء مُدْرِعٌ؛ إذا أُكِلَ ما حوله من الكلأ. والمُسْتَكِفُّ؛ المستدير،
وكل مستدير كِفَّةٌ. وكل مستطيل فحرفُهُ كُفَّةٌ، وكلُّ شيء جَمَعْتَه فقد كفَفْته. واسْتَكَفَّ القوم الشيء، إذا
أحدقوا به، واستَكَفَّ السائلُ إذا بسطَ كفَّهُ يسأل. وتَكَفَّفَ السائلُ الأبواب إذا مدَّ
كفَّه للسؤال. ويقال كفَّ عن الشيء يكُفُّ كفَّا إذا انقبض عنه. قال الله تعالى: (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) وكِفَّةُ الميزان بالكسر، كِفُّ الذي توضع فيه
الدراهم. وكُفَّةُ الثوب بالضم حاشيته. والكُفَّة بالضم أيضا ما يُصادُ به الظِّباء يجعل كالطوق. والكِفَفُ
دَارَاتُ الوَشْمِ. والمكفُوفُ الأعمى. وأصل الباب الجمع.
وقال أبو إسحاق الزجاج: أُخِذَ من المنع. تقول كَفَفْتُهُ عن كذا أي منعته. وفي كتاب الله تعالى (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)،
وانتصاب كافة على الحال.
والغزالي: أفواه الجراد. شَبَّه تَحَلُّبَ المطرِ بالغزالي.
وقوله: (ووصَلَ به طُرُقنا لأنهم لا يقدرون على الضَّرب في البلاد) كذا قال قاسم. قال: وهذا
كالحديث المرْوِيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً شكا إليه الجَدْب فقال: يا رسول الله
هَلَكَتِ الأموالُ، وانقطعت السُّبُلُ فادْعُ الله لنا.
والنَّوْطَةُ المَفازةُ، وجمعها نِيَاط سُمِّيتْ بذلكَ لأنها كأنها من بعدها مَنُوطَةٌ بِمَفَاوزَ أُخَر لا تَكادُ تنقطعُ.
والإهْرِمَّاعُ كالإنْهمال. اهرَمَّعَ الرجلُ في منطِقِهِ وحديثه، يهرمِّعُ اهرمَّاعاً، وهو مُهْرَمِّع، والعينُ
تهرمِّعُ، إذا درَّت الدَّمْع سريعاً. ورجل مُهْرَمِّعٌ أيْ سريع البكاء.
وقوله (رعب الأودية) أي ملأها. قال الشاعر:
يقابل جُوعَهُم بمُكلَّلاتٍ
…
منَ الفُرْنِيِّ يَرْعَبُها الجميلُ
والنِّجافُ واحدتها نَجَفَة، وهي تكون في بطنِ الوادي شِبْهِ جدارٍ ليسَ بحدٍّ عريض.
رجع
وكتب بعض الأدباء إلى صديق له قدم من سفر:
طَلَعْتَ طُلُوعَ البَدْرِ بعدَ مُحَاقِهِ
…
وأُبْتَ كما آبَ الرَّبيعُ المُزايِلُ
وَرَدَنِي، أطال الله بقاء عمادي الأعظم، وملاذي الأعصم، كتابه الأكرم، يُبَشِّرُ بِقُدومِهِ، وتَطلُّعِ المجْدِ
منْ رُسومِهِ، فجَذَبَ الزَّهو عِطفي، وجادَ صوبَ النعمة والمَسَرَّة رَبْعِي وكهفي، وجاذبَتْني النفسُ إليهِ
عِناقَ السباقِ، واسْتَخَفَّني الطَّرَبُ والجذلُ حتى كِدْتُ أطيرُ بجَناحِ الاشتياق، وحُقَّ لمن أرهفْتَ طبعه
وغربَهُ، وأمَّنْتَ بِمُحَامَاتِكَ سرْبَه، وكنتَ شرْقَ طرْفِه إذا نظرَ وغرْبَه، أنْ يحُلَّ إلى لُقْياكَ، ويهيمَ
بعُلاك، ولا يَسْتَقرَّ حتى يجْمَعَه وإيَّاكَ أرضٌ، ويتمَكَّنَ لهُ منْ قضاء حقكَ فرْض. ولولا أنِّي قدْ وردْتُ
منَ السَّاقة على اختلالٍ قدْ أخذتُ في سَدِّهِ ورَمِّه، وانتشار قد شرعتْ يدي في جَمْعِهِ وضمِّه، لأعْمَلْتُ
إليك ركابي، قبل كتابي، ولقدَّمْتُ إعْمالَ قدمي، وأخْفيتُ شَبَاةَ قلمي، وعنْدَما أفْرغُ من حالي ومُعاناتها،
ونَسْتَطِبُّ - إن شاء الله - منْ سدِّ خَلَاّتِها، أنقضُّ إلى ذلكَ الأفقِ انقضاضَ الأجْدَل، وأرْكَبُ صهوةَ
العجَلِ. والله تعالى يُعَرِّفُكَ يُمْنَ مَقْدمِك، ويُورِدُ الإخوانَ مشارِع كرَمِك، بمَنِّه.