الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصول من كلامهم في معنى التَّعْزية
لما توفي الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن أصبغ، كتب أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال إلى
بنيه رقعة افتتحها بهذه الأبيات:
أَعَلِمْت منْ حَمَلُوا على الأعْوَادِ
…
أرأيْتَ كيْف خبا ضِياءُ النادي
جبَلٌ هوى، لوْ خرَّ في البحر، اغتدى
…
منْ وقعه، مُتتابِعَ الأرْبادِ
يالَيْتَ أنِّي ما اقْتَنَيْتُكَ صاحِبَا
…
كمْ قِنْيَةٍ جَلَبَتْ أسىً لِفُؤاد
بَرْدُ الضُّلُوع بمَنْ تُحِبُّ بَقَاءَهُ
…
مِمَّا يَجُرُّ حَرَارَةَ الأكبادِ
ياسَادَتي المُعَظّمين وكُبَرَائِي، وأنْصاري المُقَدَّمين وظهرائي، والعُمدةُ المنيعَةُ الذين أَعُدُّهم منْ خيرِ
العتادِ لِمَنْ ورائي. كلأَكُمُ الله وكَلأَ المجْدَ فيكمْ بعِصمَتِهِ المُطيفِةِ، وتكَفَّلَ بِهِممِكُمُ الباسِقَةُ المنيفَةِ،
وحَجبَكُم بصونِهِ عنْ صُرُوفِ الأيام وحَوادِثِها العنيفَةِ، وأحسن عزاء المسلمين وعزاءكم في البحر
الذي أسْلَمْنا بعده إلى ضَحْضَاح، والجبلِ الذي كُنّا نَلُوذُ بظلِّهِ فتَركَنا أيَّ تركٍ إلى أجْرد
صاحٍ، ندفعُ ظالمنا ببنانٍ وراحٍ. وقدْ كُنّا نذُودُه منْ جَلالَتِهِ ومَهَابَتِهِ بأمْضى سُيُوفِ وأنْفذِ رماحٍ. يا حَرَّها على
الأكبادِ، ويالها مُصيبَةً فتَّتْ على الأعضادِ، وعَمَّتْ أهل الرُّبا والوهادِ، وقدحتْ في الجوانِحِ والعُيُون
نارَ الجَوَى والسهادِ:
إذا ما دَعَوْنَا الصَّبْرَ بعدَكَ والبُكَا
…
أجابَ البُكَا طَوْعاً ولم يُجِبِ الصَّبْرُ
فإنْ ينقطعْ منكَ الرَّجاءُ فإنه
…
سيبْقى عليكَ الحُزْنُ ما بَقِيَ الدَّهْرُ
أُشْهِدُ لقدِ اسوَدَّ ناظري من الأرضِ حينَ نُعيَ، وتَمنَّيْتُ أني دُعيتُ فأجَبْتُ حينَ دُعي:
وأقبَلَ ماءُ العينِ مِنْ كُلّ زَفْرَةٍ
…
إذا ورَدتْ لمْ تَسْتَطِعْها الأضالِعُ
فُجِعْنا به حينَ نَظَم الفَضائلَ كُلّها نَظْماً، واستولى على أمدِ التَّقْوى شدَّا وحزْماً، واستوى على ذِرْوَةِ
المَعَالي سيِّداً ضخْماً، نراهُ للإسْلامِ أمْنَةً وسكَناً، ونَعْتَدُّهُ قيماً على أماناتِ الدَّهرِ مُؤتَمَناً، ونَعْتَقِدُهُ مِمّنْ
بَشَّرَ الله منَ المؤمنين الَّذين يعملونَ الصالحاتِ أنَّ لَهُمْ أجراً حسناً:
وَكُنْتُ أرَجِّي أنْ أُمَلَاّهُ حِقْبَةً
…
فحالَ قضاءُ الله دُونَ رجَائِيا
ألا لِيَمُتْ منْ شاء بعْدَك، إنَّما
…
عليكَ، مِنَ الأشياءِ كان شائيا
ولئنْ سُرّ بيوْمِهِ الشامتُ والكاشحُ، فما ألْوى به الخطبُ الفادحُ الكالِحُ، إلاّ
حينَ لمْ يبْقَ مَشرِقٌ ولا مغْرِبٌ إلا ولهُ فيه مُثْنٍ ومادِح، ووراءهُ - بحَمدِ اللَّه - منكم مَنْ يُدافِعُ عنْ مَجْدِهِ ويُنَافِح، ويَسْمُو مِنَ
المَكَارِمِ إلى حيثُ سما، ويَرْمي في المآثر إلى حيثُ رمى، وينْتَمي إلى جُرْثُومَةِ العربِ إلى أكرمِ
مُنْتَمى. فالتَّعَزِّي عليهِ بكُم ماثلٌ، والسُّلْوانُ عنِ الأحزانِ بِمَكانِكُمُ السَّادِّ لِمكانِهِ حاصِلٌ، وكُلُّكُمْ بعدَ ذلك
السَّيِّدِ الماجدِ سيِّدٌ فاضِلٌ، لا يَتَّكِلُ على الحسبِ، ولا يَقْصُرُ عنْ أهْلِ الرُّتَب.
وإنِّي، وإنْ عَزَّيْتُكُمْ - أعَزَّكُمْ الله - لَمِمَّنْ يُعَزَّى بمجْدِه، ويجدُ به حَقَّ وجْدِهِ، ولا يَرى فَقْدا كفَقْدِهِ. كانَ
في كلِّ فضيلةٍ قريعَ دَهْرِهِ، ونَسَيجَ وَحْدِهِ. وأنْتُمْ - بحمدِ الله - السَّادُّونَ في الدِّينَ والدُّنْيا مَسَدَّهُ منْ
بَعْدِهِ. وأعْتَذِرُ إليكمْ - أعَزَّكُمْ الله - منْ أشْغالٍ وكيدَةٍ مُسْتَحَقَّة، وفِكَرٍ في أشْتاتٍ مُسْتَرَقَّة، ولوْ أعْمَلْتُ
في هذا الرُّزْء قدَمي، مكانَ قَلَمي، لمَا بلغتُ قَدَرَه، ولقدْ شهِدْتُ بقلبي معَ مَنْ شهِدَهُ وحضره، وفيكم -
بحمد الله - منْ تُرْفَعُ إليه الأبصار إجْلالاً، فَتَرى فيه منَ الماضينَ - رحمكم الله - مُشابهةً كريمةً
وأمثالاً. وأنتُم - أعزَّكمُ الله - تَجْعلُونَ سَيْرَهُ وهَدْيَهُ إماماً ومِثالاً، وتَمْلؤونَ الحَضْرةَ بَهَاءً وجَمالاً.
بُدُورٌ يَسْري بها السَّارونَ، ويَقْتَدي بها المُقْتَدُون، ولا يتجاوزُها المُنْتَهُون. أقَرَّ الله بكم عُيُونَ الأوْلياء،
وأفاضَ عَلَيْكُمْ سَوَابِغَ النَّعْماءِ، وأشْرَبَ قُلُوبَكمْ جميلَ الصَّبْرِ والعزاءِ، بِكَرَمِهِ. وأَقْرَأُ عليكمْ أعَمَّ السّلامِ
وأنْماهُ، وأبَرَّهُ وأحْفاهُ، ثمَّ السلامُ المُرَددُ، عليكُم ورحمةُ الله وبَرَكاتُه.
قوله: (فما ألوى به الخطب الفادح الكالح، إلا حين لم يبق مشرق ولا مغرب إلا وله فيه مُثْنٍ ومادح)
من قطعة شعر قرأتها في النوادر لأبي علي أولها:
مضى ابنُ سعيدٍ حينَ لم يبْقَ مَشْرِقٌ
…
ولا مغرِبٌ إلَاّ له فيه مادِحُ
وما كُنتُ أدْري ما فواضِلُ كفه
…
على الناس حتَّى غيَّبَتْهُ الصَّفائحُ
فأصبح في لَحْدٍ من الأرض ميِّتاً
…
وكانت به حياً تضيق الضحاضح
فما أنا من رُزءٍ وَإِنْ جَلَّ جازِعٌ
…
ولا بسرور بعدَ موتِكَ فارح
كأنْ لم يَمُتْ حَيٌّ سواك ولم تقم
…
على أحدٍ إلا عليك النَّوائح
لئنْ حَسُنَتْ فيكَ المراثِي وَذِكْرُهَا
…
لقد حَسُنَتْ من قبلُ فيكَ المدائح
سأبكيكَ ما فاضتْ دُموعي فإنْ تَقْضِ
…
فَحَسْبُكَ مِنِّي ما تحنُّ الجوانِحُ
وكتب أبو القاسم بن الجد في المعنى:
لا بدَّ منْ فقْدٍ ومنْ فاقدٍ
…
هيهاتَ ما في الناسِ منْ خالِدِ
كُنِ المُعَزّي لا المُعَزّى بِهِ
…
إنْ كانَ لا بُدَّ منَ الواحِدِ
إذا لمْ يَكُنْ بُد منْ تجَرُّعِ الحِمامِ، وتَشَتُّتِ النَّظامِ، وانصداع شملِ الكِرامِ، فمِنَ الاتفاقِ السعيدِ، والقدَرِ
الحميدِ، أنْ يرثَ أعْمار البيْتَةِ الكريمة مُشَيدُ عُلاها، وتسْلَمَ منَ القِلادَةِ وُسْطاها، فمَدارُ الكِنايةِ على
مُعَلاها، وفخَارُ الحَلْبَةِ بِمُحْرِزِ مداها، وفي هذه النُّبْذةِ إشارةٌ إلى منْ فَرَطَ منَ الإخوةِ الفُضلاء، ودَرَجَ
منَ السَّاداتِ النُّجَباء، فإنَّهم، وإنْ كانوا في رُتْبَةِ الفضلِ صُدُوراً، وبَدَوا في سماءِ النُّبْلِ بُدُوراً، فإنَّ
شمسَ عُلاكَ أبْهرُ أضْواءً، وأزْهرُ أنْواراً، وظِلَّ حمايتِكَ على بنيهم ومُخَلَّفيهم أنْدى آصالاً، وأبْرَدُ
أسْحَاراً.
ونُعي إليَّ، أوْشَكَ الله سُلْوانَكَ، ولا أخْلى منْ شَخْصِكَ الكريمِ مَكَانَكَ، الوزيرُ أبو فُلان بَرَّدَ الله ثراه،
وكرَّم مثْواه، فكَأنَّما طعنَ ناعيه في كبدي، وظعَنَ حاديه بذخيرةِ خلَدي. لا جرمَ أنِّي دُفِعْتُ إلى غَمْرَةِ
من التلدُّدِ لو صُدم بها الدَّهرُ لحار، أَوْدُهِمَ بِمِثْلِها الحزمُ لخار، ثمَّ ثابَتْ إليَّ نفسي وقدْ وَقَدَها الجَزَعُ،
وعَضَّها الوَجَع، فأطلْتُ الاسْتِرجاع، وجمَعْتُ الجلَدَ الشعاع، وهَاأنا عندَ الله أَحْتَسِبُهُ جُماعَ فضائل،
وجمالَ محامل، وحديقةَ مكارم ضَرَّحَتْ، وصحيفة محاسِن درستْ وامَّحَتْ؛ وما اقتصرتُ منْ رسْم
التعْزِيَّةِ المَألُوفِ، على القليل المَحْذُوف، إلَاّ لِعِلْمي بأنّ التَّعَزِّي لا يُورِدُ عَلَيْكَ غريباً، ولا يُسْمِعُكَ منْ
موْعِظَةٍ عجيباً، فيكَ يقتدي اللبيب، وعلى مثالكَ يجْتَزئ الأريبُ، وإلى غَرَضِكَ يرْمى المُصيبُ، وفي
تجافي الأقدارِ عنْ حَوْبائِكَ، وسُقُوطِها دُون فِنَائكَ، ما يَدْعُو إلى حُسْنِ العزاء، ويُهَوِّنُ جلائلَ الأرْزاء،
لا صَدَعَ الله جَمْعَكَ، ولا قَرَعَ بِنَبْأةِ المكْروهِ سمْعَكَ، بِعِزّتِه.
وفي المعنى للكاتب الماهر أبي عبد الرحمن بن طاهر:
أَقَمتُ لَهْفَانَ وقدْ أسْمَعَ النَّاعي، فأضْرِمَ نار الأسى بينَ أضْلاعي، للرَّزِيَّةِ العُظْمى، التي رمى سَهْمُها،
فأصْمى، بوفاةِ منْ جُمعَتْ فيه المحاسنُ والخِلال، وزالَ كما تَزُولُ الجبالُ، وقَلَّ له المُشاَبِهُ والنَّظيرُ،
وماتَ بمَوْته البشرُ الكثيرُ، أبو فُلان ربُّ الشَّرَفِ الصَّميمِ، والحَسَبِ العِدِّ الكريمِ، أوْ سَعَهُ الله رحماهُ،
وجعلَ الجنّةَ مَأْواه، فإنّا لله وإنَّا إليهِ راجِعُون؛ على الرَّزِيَّةِ فيه،
لَيّتَني بالنفسِ أَفْديه، فأمّا القلبُ فَمُنْحَلّ
ومُسْتَلبٌ، وأمّا الدمعُ فمُنْهَلّ ومنْسكِبٌ. سقى الله جَدَثَهُ سَبَلَ القَطْرِ، ونَفَّعهُ بحسنِ المذهبِ وجلالَةِ
القدْرِ، وجزاه جزاءَ المُحسنينَ، وأنْزلهُ دارَ المُقامَةِ في علّيّين، وهَنَّاكَ الله ميراثَهُ منَ الرِئاسةِ، ومَكَانَهُ
من النَّفاسَةِ، ومَنَحَكَ العُمْر الطَّويل، وأمْتَعَكَ العِزَّ الظليل، وساعدكَ بكلِّ ما تهواهُ الزمانُ، ولا زالَ بكَ
يتَحَفَّلُ ويَزْدان.
قول أبي عبد الرحمن رحمه الله: (ومات بموته البشر الكثير) مأخوذ من قول الشاعر:
لًَعَمْرُكَ ما الرَّزِيةُ فَقْدُ مالٍ
…
ولا شَاةٌ تموتُ ولا بَعيرُ
ولكن الرَّزيَّةَ فقدُ قرْمٍ
…
يَمُوتُ بموته بشَرٌ كثيرُ
ويروى: يموت من آجِلِهْ. وهذا من قول عَبْدَة بن الطبيب يرثي قيس بن عاصم:
عَلَيْكَ سلَامُ الله قيْسَ بن عاصمٍ
…
ورَحْمَتُهُ ما شاء أنْ يتَرَحَّما
تحِيَّة منْ غَادَرْتَهُ عَرَضَ الرَّدى
…
إذا زار عنْ شحطٍ بلادكَ سَلَّما
فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحدٍ
…
ولكنه بُنْيانُ قومٍ تهَدَّما
والمتقدم بهذا المعنى امرؤ القيس حيث يقول:
فَلَوْ أنّها نفْسٌ تَموتُ جميعةً
…
ولكنّها نفْسٌ تساقَطُ أنْفُسا
أخذه أبو العباس أحمد بن عبد ربه صاحب (كتاب العقد) فقال:
منْ يُرْتَجَى بعدكَ أوْ يُتَّقى
…
وفي يدَيْكَ الجودُ والباسُ
ماعِشْتَ عاش الناسُ في نِعْمَةٍ
…
وإنْ تَمُتْ مات بكَ النَّاسُ
وقول الشاعر: (فقد قَرِمَ) القَرْمُ: هو السيد الكريم من الرجال، وأصله الفحل من الابل يُكْرَم ويُصان،
فلا يُمْتَهن ولا يُذَلَّلُ بالحَبْل، وإنَّما يُعَدُّ للضِّراب. قال الشاعر:
فَحَزَّ وظيفُ القرْمِ في نصف ساقه
…
وذاكَ عِقال لا يُنَشَّطُ عَاقِلُهْ
ويقال له أيضا المُقْرَم. قال الشاعر:
إذا مُقْرمٌ منَّا مَضى لسبيله
…
تَخَمَّطَ فينا نابُ آخرَ مُقْرَمِ
ومثل هذا قول المرار الأسدي:
وإذا فُلانٌ ماتَ عنْ أُكرومَةٍ
…
رقعُوا معاوزَ فقْده بفُلانِ
وفي حديث علي رضي الله عنه، أخبرنا أبو الحسن القرم كنى به عن نفسه.
قال: وعزّى عبد الرحمن بن أبي بكرة سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ منْ طالَ
عمره فقد الأحِبَّة، ومنْ قصر عمره كانت مُصيبتُه في نفسه. قال: ونظر أعرابيٌّ إلى قومِ يدفنونَ
حريمَة لهم، فقال: نعمَ الصّهر صاهَرْتُم، تَأْمَنُونَ به العار، وتكفون به سوء الأُحْدُوثَة، وما لِمَضْنونٍ
بها من النِّساء أكرمُ من قبْر.
وحكى الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يقول: غَفَلْنا ولمْ يغْفل الدَّهرُ، ولم نتَّعِظْ فيه بغيرِنا، حتى وعَظَ
غيرَنا بنا. فقد أدرك السعادة منْ تنَبَّهَ، وأدرك الشقاء منْ غفَلَ، وكَفى بالتَّجربة واعظاً.
قال: وسمعت أعرابياً يقول لقوم يدفنون ميْتاً لهم: جافى الله عنْ ميتِكُم الثَّرى، وأعانَه على طُولِ
البِلى، وآنسه في الهُوَّةِ الظَّلماء، حين تتصدَّعُ عنه الأقرباء. قال: ودخلتُ على امرأة من العرب
بأعلى الأرض في خِباءٍ لها، وبين يديها بُنَيٌّ لها، قد نزل به الموت، فقامتْ إليه فأغْمَضَتْهُ، وعَصبَتْه،
وسجَّتْهُ، ثم قالت: يا ابن أخي. قلتُ: ما تشائين؟ قالت: ماأحَقَّ منْ أُلْبِسَ النعمة، وأُطيلتْ به النَّظرة،
ألايدَعَ التوثق من نفسه قبل حلِّ عُقْدته، والحُلُولِ، بعَقْوَته والمَحَالة بينه وبين نفسه. قال: وما تقطر
من عَيْنَيْها دمعة صبراً واحتساباً، ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان مالُكَ لِبَطْنِكَ، ولا عُمْرُكَ لعِرْسِك.
ثم أنشدت:
رحيبُ الذِّراعِ بالتي لا تُشينُه
…
وإنْ كانتِ الفحشاءُ ضاقَ بها ذَرْعا
قال: وحجَّتْ امرأة من العرب ومعها ابن لها، فأصيبتْ به، فلمّا دُفِنَ قامتْ على قبره، وهي مُرَجِّعةٌ
فقالت: والله يا بُنيَّ لقد غذَوْتُك رضيعاً، وفقدْتُكَ سريعاً، ولم تكن بين الحالين مدةً أَلتَذُّ بعيشِك منها،
فأصبحتَ بعد النَّضارة والغضارة ورونقِ الحياة صديعاً، تحت أطباقِ الثَّرى جسداً هامداً. أي بُنيَّ، لقد
سحبت الدُّنيا أذْيالَ الفناء، وأَسْكنتْكَ دارَ البَلى، ورمَتْني بعدكَ بالداهية الدَّهْياء. أي بُنَيَّ لقد أوْرَثَ
الحُزْنُ نَفْسي فادِحَةً وهي لقلبي شاذِخة. ثم قالت: أيْ رَبِّ، منكَ العدْلُ، ومنْ خَلْقِكَ الجَوْرُ، وهَبْتَ لي
قُرَّة عَيْن فلم تُمَتِّعْني به كبيراً، بل
سَلَبْتَنيه وشيكاً، وأمَرْتنى بالصبر، ووعَدْتَني عليه بالأجْرِ، فصدَقْتَ
وَعْدكَ، وأصبْتَ قضاكَ. اللهمَّ ارحمْ غُرْبَتَه، واسْترْ عَورته، يوم تُكْشَفُ الهَناتُ والسَّوْءات. ثم
انصرفت، فلما أرادت الخروج إلى أهلها عادت إلى قبره، وقفت عليه وقالت: أيْ بُنَي، قدْ تزَوَّدْتُ
لسفري، فياليتَ شعري؛ ما زادُكَ لسَفَرِكَ، وبُعْدِ طريقَك، ويومِ ميعادِك. اللهمَّ إنِّي أسألُكَ لَهُ الرِّضى
بِرِضائي عنه. ثم قالت: اسْتَوْدَعْتُكَ من استودعَنيكَ في أحْشائي جنيناً، وَاثُكْلَ الوالِدات. ما أمضَّ
حرارة قُلُوبِهِنَّ. وأقْلَقَ مضاجعهُنَّ، وَاثُكْلَ الوالدات. ما أطول ليلهُنَّ. وأقْصرَ نَهارَهُنَّ، وَاثُكْلَ الوالدات
ما أقلَّ أُنْسَهُنَّ، وأكثر وحْشَتَهُنَّ، وَاثُكْلَ الوالداتِ ما أبعَدهنَّ من السَُّرور. وأقْرَبهُنَّ من الأحزانِ.
ثمَّ لمْ تَزَلْ تقُولُ من الكلامِ مثْلَ هذا، حتَّى أبْكَتْ منْ سَمِعَها، ثمَّ حَمِدت الله عز وجل، واسترجعتْ
وصلَّتْ عند قبره ركعاتٍ وانطلقتْ.
قال: وسمعتُ صالحاً المُري يُعَزِّي رجلاً على ابن له توفي فقال له: إن كانت مُصيبَتُكَ بابنِك لم
تُحدثْ لكَ موعِظة في نفسك، فمُصيبتُكَ بابنكَ جَلَلٌ في مُصيبتكَ في نفسك، فإيَّا ها فابْك.
قال: وماتَتْ أخْتٌ لرَجُلٍ فوجدَ عليها وجْداً شديداً، فقال له رجل آخر:
وإذا تُصِبْكَ مُصيبَةٌ فاصبِْر لها
…
عَظُمتْ بليَّةُ مُبتلىً لا يصْبِرُ
قال: ونالتْ أعْرابياً مُصيبةٌ، فسَمِعْتُهُ يقول: إنَّها والله جعلتْ سُودَ الرُّؤوسِ بيضاً، وبيضَ الوُجوهِ
سوداً، هَوَّنَت المصائب، وشيَّبَت الذَّوائبَ.
قال: وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا عزَّى عن ميِّتِ، قال لِوَلِيِّه: ليس
مع العزاء مُصيبةٌ، ولا معَ الجزعِ فائدة. والموتُ أهْوَنُ ما بعْدَه.
واذكرُوا فقْدَ نَبِيِّكم، تهونُ عنْدَكمْ مُصيبتُكُم، صلى الله علي محمد، وعَظَّمَ أجْرَكُم.
قال: وكان علي رضي الله عنه يقول إذا عزَّى أهل المَيِّت؛ إنْ تجْزَعوا فمَحَلُّ جزَعٍ، وإنْ تصبِرُوا
ففي ثوابِ الله العوَضُ منْ كلِّ فائتٍ، صلى الله على محمد وعظمَ أجْركم.
ولما قُتِل زيد بن الخطاب بن نفيل أخو عمر لأبيه، حزن عليه أخوه عمر رضي الله عنه حزناً
شديداً، وقال: ما هَبَّت الصَّبا إلا وأنا أجِدُ منها ريحَ زيد. وقال رضي الله عنه حين نُعِيَ ابنه: رَحِمَ
الله أخي، سَبَقَني إلى الحُسْنَيَيْن، أسلم قبْلي واستُشهد قبلي. ولما أنشده متمم بن نويرة اليربوعي راثية
في أخيه مالك. قال رضي الله عنه لو كنت أُحْسِنُ الشعرَ لقُلتُ في أخي زيد ما قُلتَ في أخيكَ مالك،
فقال له متمم: لو أنَّ أخي ذهبَ على ما ذهبَ عليه أخوك لَمَا حَزَنْتَ عليه. فقال له عمر: ما عزَّاني
أحدٌ بأحسن ممَّا عزَّيتني به.
وكتب أبو نصر في تعزية وضمَّنها غريقاً:
أتاني ورحلي بالعراقِ عشيةً
…
وأيدي المَطايا قدْ قَطَعْنَ بنا نَجْدَا
نَعِيٌّ أطارَ القلبَ عن مستقره
…
وكنتُ على قصدٍ فأغلطني القَصْدَا
نَعَوْا واللهِ باسِقَ الأخلاق لا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه وماأخْلَف. لقد سام الرَّدى فيه
حُسناً ووسامة، وطوى بطيِّه نجدةً وقسامة،، فتعطَّلَ منه النَّدى والنَّدِيّ، وأشكَل فيه الهُدى والهَديّ. كمْ
راعَ البدْرَ ليلة إبْدارِه، وروَّع العدُوَّ في عُقْر داره. وكمْ سلَّ السيوفَ طولُ قراعه، ودلَّ عليه الضيوفَ
موقدُ النَّار بيفاعه، وتشوَّفَ إليه السرير والمنبرُ، وتصرَّفَ فيه الثناءُ المحبَّرُ. أيُّ فتى غدا له البحر
ضريحاً، وأَعْدى عليه الحينُ ماءً وريحاً، فتبَدَّلَ منْ ظِلِّ عُلاً ومَفَاخر، إلى قَعرٍ طامي اللُّجَجِ زاخر،
وعوَّضَ من صهواتِ الخيْلِ، بلهواتِ اللُّجَجِ واللَّيْلِ، غريقٌ حَكى مُقْلَتيَّ في دَمْعِها، وأصابَ نفسي في
سمعها، ومنْ حُزْنٍ أنِّي لا أسْتَسقي لهُ الغَمامَ فمالَهُ قبرٌ تَجودُه، ولا ثرى تُرْوى بِه تهائِمُهُ ونُجُوده، وقدْ
آليْتُ ألا أُودِعَ الريحَ تحيَّةً، ولا يُورِثُني هُبُوبُها أَرْيَحِيَّةً، فهي التي أثارتْ منَ الموجِ حنقاً، ومشتْ
عليها خَبَباً وعَنَقاً،
حتى أعادَتْهُ كالكثبان وأوْدَعَتْهُ قضيب بان. وَوَاأَسَفاً لزُلالٍ غاضَ في أَُجَاج،
وسلْسالٍ فاضَ عليه بحْرٌ عَجاج. وما كان إلا جوهرٌ آبَ إلى عُنْصره، وغاب عنْ عينِ مُبْصرهِ، ولقد
آن للحُسامِ، أن يُغمد ولا يُشامَ، وللعَذارى ألا يَحْجُبهنَّ الخَفْرُ والاحتشام، يَنُحْنَ فتى ما درَّتِ الشمسُ إلا
ضَرَّ أَو نَفَعَ ويبْكينَ منْ لمْ يدَعْ فقْدُهُ للأنْسِ من مُنْتَفَعٍ. صديقٌ ما حمِدْتُ فيه الأيامَ إلا ذَمَمْتُها، ولا
بَنيتُ به أرْكان المُنى إلا هَدَمْتُها. فكم غدوْنا بروضة مُوَشِّيَة، ووقَفْنا بالسراةِ عشيةَ، وبِتْنا لمْ نَرُمِ
السَّهر، ولم نَشِمْ برْقاً إلا الكأسَ والزّهرَ؛ ولو غير الحِمام زحَفَ إليه جيشه، أوْ سِوى البحر رجف
إليه ارتجاجه وطيشه، لثناهُ من أَسِرَّتِه منْ يتَهَيَّبُهُ ليثَ الشَّرى، ويرهَبُه البطلُ الباسلُ إذا استشرى،
منْ كلِّ أروع، إن عجَّل إليه المكروه ثبَّطهُ، أوْجاءه الشرُّ تأَبَّطَهُ؛ لكنه الموتُ لا ترُدُّهُ الصَّوارمُ ولا
الأسل، ولا يُفوتُه ذئابُ الغضا العُسَّلُ وذكرتُ بمعنى هذا المُزْدَوج الكافي، قولَ الأديب الكامل أبي
عبد الله الرصافي من أبيات له في المعنى وهي:
يا بدر حمصٍ والسِّرار ثلاثةٌ
…
عدْ عودةً لا توحش الأيامَا
أما البهاء فقد خلعت رداءه
…
يومَ ادرعت من الخليج غماما
وقضتْ وفاتك أن أُقول لعبرتي
…
يا ماء كُنْ سقياً له وسلاما
والنهر لا تبق الربيع بشطه
…
زهراً ولاألف القضيب حماما
فلقد أرقت به حشاشة مهجة
…
ثنت المشارب مسكةً ومداما
ماذا عليه وقد علاك مفاضة
…
تياره لو لم يقلك حساما
وأبو نصر قُدْوةُ الكُتاب، وصاحبُ إبداعٍ في كتابته وإغرابٍ، مُخْتَص بالانْطِباع، وجودَةِ القريحة
وذكاء الطِّباع، وهو القائل في المعنى:
أطال الله بقاء أمير المسلمين، وناصر الدين، الشائع عدْلُه، السابِغِ فضْلُه، العظيمِ سلطانه، العلي
شأنه، السني قدره ومكَانُه. في سعدٍ يصرفُ عنه أعْيُنَ النوائب، وجدٍّ يضربُ دونَهُ أوْجه المصائب.
كلُّ رُزْءٍ - أدامَ الله تأييده - وإن عَظُمَ وجَلّ، حتى استولى منه على النُّفوسِ الوجَل، إذا عدا بابه،
وأخطأ حجابَهُ. فقد أخْطَأ - بحمد الله - المقتل، وصدَّ عنْ سواء الغرض وعدل. وإذا كانت أقدار الله
تعا لى غالبةً لا تُطاول، وأحكامه نافذة لاتُزاوَلُ، فالصَّبرُ لِمَواقِعِها أوْلى، والتَّسليمُ لِجَوازِها أقربُ
لِرِضَى المولى، والتزامُ أوامِره أشرفُ وأعْلى.
كتبتُهُ - أدامَ الله تأييدَكَ - والنفسُ بنار زَفْرَتِها مُحْترقة، والعينُ لعبرتها شرقَةٌ مُغْرَوْرِقة، لِما نفذَ بهِ
قَدَرُ الله المَقْدُور، وقضاؤُهُ المسطورِ، منْ وفاةِ الأميرِ الأجلِّ أبي فُلان قدَّسَ الله روحَهُ، وسقى
ضريحهُ، فيالَهُ رُزْءٌ أقْصَمََ الظَّهرَ، ووسَمَ النُّجومَ الزُّهرَ، وأبْكى الأجْفانَ، وأذْكى الأحزانَ، بِمكانَتِه منَ
الدَّوْلَةِ المُنيفَةِ، ومنزِلته من السَّوْرةِ الرَّفيعةِ الشريفةِ، وعندَ الله عز وجل تحْتَسبُه ذخيرةً
عُظْمى، ونسْأَلُ لهُ المغفرة والرُّحْمى. فإنَّه كان - نضر الله وجْهَهُ - مُتَوَفِّرَ الهِمَّةِ على الجهادِ، منْ أهلِ الجدِّ
في ذلكَ والاجتهاد. وحسْبُه أنَّه لم يَقْض نَحْبَهُ إلَاّ في عَسْكَره، فأدْرَكَهُ الموتُ مُهاجراً، ومَعَ الله سبحانه
وتعالى تاجرا، وأرْجُو أن يكونَ الله تبارك وتعالى قدْ قرَنَ لهُ فاتِحةَ السعادَةِ، بخاتِمَة الشهادةِ.
وأنّ أمير المُسْلِمينَ أوْرى في الرِّئاسةِ زَنْداً، منْ أنْ تُضَعْضِعَهُ الخُطوبُ وإنْ أهَمَّتْ، أو تُوجِعَهُ
الحوادثُ إذا ادْلهمَّتْ. والله يُحْسنُ عزاءهُ على فجَعِه، ولا يُدْني كارثةً منْ وَلَعِه.
ولغيره في المعنى:
الدُّنيا، صرفَ الله عنْكَ صُرُوفَها، على الفجائِعَ مَبْنِيَة، وقُصَاراها كَدَرٌ أَوْمَنِيَّةٌ، (وإن الحازِمَ من وطَّنَ
لأحداثها)، وأيْقَنَ بانتِكاثِها، فأوْسَعها صدْراً رحيباً، وقلباً صليباً.
كتبتُه - أطال اله بقاءكَ - والدُّمعُ محْدُورٌ، وقدْ حُمَّ قضاءٌ ونفذَ مقْدور، بوفاةِ الشيخِ أبي فلان أبينا
وقُرَّة أَعْيُننا. كان نضَّرَ الله وجْهه ولقاه مغْفِرته ورحمَتَه، ورفعَ في دارِ المُقامَةِ منزلتَهُ. فناهِيكَ أسفي
عليه وتَوَجُّعي، وما أوْ قدَ نارَ الأسى بينَ أَضْلُعي، فأيُّ ذِهنٍ - أعزّكَ الله - ينْطاعُ، أمْ أيُّ كلامٍ
يُستطاعُ، واللسانُ معقولٌ، والفُؤادُ منْقولٌ، والشَّجْوُ دائم، والدَّمعُ ساجِم، لما طرقتْ به الأيامُ، وقرعَتْ
به أسماعَ الأنامِ. فإنّا لله وإنّا إليه راجِعون. لقد أظْلَمَتْ لهذا الرُّزْء الآفاق، وأدركَ بدْرَ تمامِها المُحاقُ،
وإلى الله الشَّكْوَى، فهو
الذي أضْحكَ وأبْكى، وهكذا تزول الجبالُ، وينْصَرِمُ المآل، ويتهَدَّم البناءُ،
ويضْمَحِلُّ السَّنا والسناء. وما أُعَزِّيك - أعزك الله - وأترك نفسي، وقد شرذتما سكَني وأُنْسي، ونالني
من الكربِ لهذا الخطبِ ما لوْ شهِدْتَهُ لراعكَ المنظر، ولجَعَلت نفْسَكَ الكريمة تنْفَطر.
وفي فصل:
وإنَّ الدُنْيا لفي حداد، لما قصدَتْ به منْ داهية نآد، فقد كان قائماً بأعْبائها، مبيداً لأعدائها، فهي تَبْكِيه
بأدمُعٍ سجام، وتنْدُبُهُ في كلِّ مقامِ، فيا سُرْعَ ما سلَبَتْهُ المنون، وقد قرَّتْ به العيون، وفَخَرَ به المجْدُ
والفخارُ، وأنابَ قدرُهُ على الأقدار، وعندَ الله تعالى نحتسبُهُ كريمَ النِّصاب قرْماً رفيعاً، وطوداً منيعاً،
وقدْ تساويْنا في الرَّزِيَّةِ، فلْنَعُدْ إلى التَّسليةِ بذلكَ أوْفَرَ ذُخْراً، وأعظمَ أجراً.
وفي هذا المعنى من المنظوم الجَزْل المُشتمل على فنون الانطباع، والنبلِ المُوقِظِ من نوم الغفلة
والسِّنة، والداعي إلى الادِّكار والموعظة الحسنة، المُذكَّر بانصداع الشمل، وفراقِ الوطن والأهل،
وانخرامِ النظامِ، وتجرُّعِ كؤوسِ الحِمام، قصيدٌ فريد للأديب الكامل أبي العباس أحمد بن شكيل في
رثاء والده أبي الحكم، وتوفي في شوال سنةثلاث وستمائة رحمة الله عليه وبركاته:
حَذَار حذار منْ ركُون إلى الزَّمَنْ
…
فمن ذا الذي يُبقيعليهِ ومَنْ ومَنْ
أَلَم تر للأحداثِ أقْبَلَها المُنى
…
وأقَتلها ما عرَّضَ المرء للفتنْ
تُسَرُّ منَ الدُّنيا بما هو ذاهبٌ
…
ويبكي على ما كانَ منها ولم يكنْ
أرى دارنا ليْسَتْ بدارِ إقامَةٍ
…
أرَدْنا ثواءً عنْدَها وهيَ في ظعَنْ
فكمَ سكن الدُّنْيا ملوك أَعِزَّةٌ
…
تفانوا فلم تَسْتَبْقِ منهم لها سكنْ
وكمْ في الثَّرى دَسَّتْ جَبينَ مُتَوَّجٍ
…
فأصبحَ بالأقدامِ يُوطا ويُمْتَهَنْ
وذي جُنَّةٍ كانت تقيه منَ الرَّدى
…
أتاه الرَّدى فاعْتاض منها ثرى الجَنَنْ
وكالصَّقرِ فوْقَ السابِقاتِ اعْتَضَتْ به
…
أعَاليَ أعْوادٍ منَ النَّعْشِ فارْجَحَنْ
ومنْ ضاقَتِ الدُّنْيا به وبِجَيْشِه
…
طوتْ شخْصَهُ في قيْدِ شبْرٍ من الكفنْ
ومحْتَجِبٍ لا يخرقُ الإذْنُ حُجْبَه
…
ولَجْنَ مناياهُ عليه وما أَذِنْ
وذي حرَسٍ لا يَغْفَلُونَ احتراسهُ
…
رمَتْهُ فلم يُنْصَرْ عليها ولم يُعنْ
وماسحِ عِطْفيهِ منَ الدَّرنِ انبرَتْ
…
لَهُ الدُّودُ أكْلاً فانْثنى دَرَنَ الدَّرَنْ
وذي أَمَلٍ منْ دُونِه أجَلٌ لَهُ
…
غَدَا شرَكاً ما كانَ قبلُ له وسَنْ
فما أَعْثَرَ الآمالَ في أجلِ الفتى
…
وأقربَ أيَّامَ السرورِ من الحزَنْ
عفاءٌ على الدنْيا فإنَّ نعيمَها
…
كأَضْغاثِ أحلامٍ تلَذُّ بلا وسنْ
فبَيْنا الفتى في ظلِّها إذْ تقَلَّبَتْ
…
بهِ فاتَّقَتْهُ وهيَ قالِبَةُ المجَنْ
لعَمْركَ إنِّي قدْ حزنْتُ فلمْ أَهِنْ
…
وكُنْتُ جديرَ الرُّزْءِ بالحُزْنِ والوَهَنْ
دَهَتْني المَنَايا في أبي حَكَمٍ أبي
…
ومنْ قبْلُ وارَيْتُ الشَّقيقَ أبا الحَسَنْ
فيالَكُما بدْريْ علاء تساقطا
…
وكانا سنا عيْني وأسْناهُما الأسنْ
تَضَمَّنَ شَوَّالُ مناياهُما معاً
…
فبينَهُما حوْلٌ وفَقْدَُهُما قَرَنْ
تلا فقْدُ هذا فقْدُ ذا مُتتابِعاً
…
فشمْسٌ تلتْ بدْراً وأصْلٌ تلا غُصُنْ
خلا منْهُما النَّادي وكانا وقارَهُ
…
فزُلْزِلَ رَضْوى واستُطِيرتْ به حَضَنْ
ولمْ يُبْقِ رَوْضي بعدَ هَلْكهِمَا الحَيَا
…
وكُنْتُ أسَقِّي مِنْهُما السُّحُبَ الهُتُنْ
فَلِلَّهِ صبري بلْ شُجُوني فإنَّني
…
نشَرْتُ اصْطِباراًوانْطَوَيْتُ على شجَنْ
بدا أعْظم الأرْزاء واكتَتَمَ الأسى
…
فناقَضْتُ جُلَّ النَّاسِ في السِّر والعَلَنْ
فَقُلْتُ لجِسْمِي خالياً أنتَ والضَّنى
…
وللرُّوحِ بِئسَ الرُّوح مالَك لمْ تَبِنْ
فقال فُؤادي هلْ أذُوبُ منَ الأَسَى
…
فَقُلتُ تعَجَّلْ لا أبا لكَ وافْعَلَنْ
وقالتْ دُمُوعي هلْ أَفيضٌ وإنْ جَرى
…
معي الدَّمُ مسْفُوحاً فقلتُ افعَلي وَإنْ
أبْعدَ يعيشٍ سلْوَةٌ وتَصَبُّرٌ
…
لقدْ فَسَدَتْ عنْدي صنائعُهُ إذَنْ
فأيْنَ الأيادي السَّالِفاتُ التي بها
…
شهيدٌ عليَّ الطِّفْلُ والكهْلُ واليَفَنْ
وأيْنَ حَنانٌ كنْتُ أعْرِفُهُ بهِ
…
فيا قَلْبُ ما أشْجى عليهِ وما أحَنْ
وكمْ مِنَنٍ من دون مَنِّ تتابَعَتْ
…
عليَّ لهُ، والنَّاسُ مَنٌّ بلا مِنَنْ
وكمْ منْ عظيمٍ قدْ وقاني بنفسه
…
فهانَ ولولا عَطْفُهُ بِيَ لمْ يَهُنْ
سأُثْني عليه بالذي هُوَ أهلُهُ
…
وإنْ يَكُ تَقْصِيرٌ فإقْصارُ ذي لسنْ
أبي ما أبي لا يُبْعِدِ اللهُ مثلَهُ
…
وَمَنْ مِثْلُهُ ذو اليُسرِ في عُسْرَةِ الزَّمَنْ
جوادٌ يزينُ الجُودَ منْهُ تواَضُعٌ
…
ففَوْقَ الذي أبْدى منَ الجُودِ ما أكَنْ
إذا سُئلَ المعروفَ أسْبَلَ وابِلا
…
وإنْ هو لمْ يُسْألْ تفَجَّرَ أوْ هَتَنْ
ولَمْ يَدَّخِرْ في أمْسِهِ قُوتَ يَوْمِهِ
…
نزاهَةَ نفْسٍ لا كَمَنْ حَاطَ واخْتَزَنْ
ولو قال أبو العباس رحمه الله: (قناعة نفس) عوض (نزاهة نفس) لكان المعنى أطبع، والمساق أبهى
وأبدع. على أن قوله مطبوع موافق، وسنا البلاغة عليه لافح ورائق، لأنه كان في النظم قدوة أهله،
وسالك فِجَاجِه وسُبله، حسن التصرف في ميدانه، ومُبَرَّزاً أمام حلْبته وفرسانه، ولم أقصد بهذا التنبيه
الطعن عليه، ولا نسبة التقصير إليه، فلست مِمَّن يعدل السَّبَج بالذهب، ولا يعرف الفرق بين النَّبعْ
والغَرَب.
رجع
شبيبَتُه بينَ المَكارِمِ واللُّها
…
وشيبَتُهُ بينَ الفرائضِ والسُّنَنْ
لَعَمْري لنِعْمَ المرءُ حيَّا وهالِكاً
…
لِدَافِنِهِ الفخْر العظيمُ بمَنْ دَفَنْ
فبُورِكَ منْ قبْرٍ وطُهِّرَ منْ ثرى
…
وقُدِّسَ منْ روحٍ وعُوفيَ منْ بدَنْ
رجَوْتُ لهُ عفْوَ المُهَيْمِن إنَّهُ
…
هوَ المَلِكُ الغَفَّارُ ذو الطَّوْلِ والمِنَنْ
لَه المُلْكُ في الدَّارَينِ والحُكْمُ مثْلَ ما
…
لَهُ المَلَوَانِ والَّذي فيهما سكَنْ
وأرْجُو لَهُ حُبَّ النَّبِيِّ مُحمَّدٍ
…
فذَنْبُ مُحِبِّيه بِغُفْرانِه قَمَنْ
وأرْجُو لِسُقياهُ سِقايةَ مورِدٍ
…
حَلا حوْضُهُ ما بينَ أَيْلةَ واليَمنْ
فقدْ قامَ بالتَّوحيدِ والخمسِ عُمْرُهُ
…
وصلَّى على المُخْتار واتَّبَعَ السُّنَنْ
خَلِيلَيَّ إنَّ الصَّبْرَ صبْرٌ ولا أرى
…
سِواهُ لشَجْوي إنَّهُ أعصَمُ الجُنَنْ
قِفا حَيِّيا القَبْرَ الذي حَلَّهُ أبي
…
معي إنَّهُ رأْيٌ بريءٌ منَ الغَبَنْ
ولسْتُ وإنْ أنْحَى الزَّمانُ بصرفِه
…
علَيَّ ونالَتْني صُروفٌ منَ المِحنْ
بفاقِدِ شيءٍ منْ أبي غيرَ شخْصهِ
…
ولا بائِع القُربَى ببخْسٍ منَ الثَّمَنْ
عَسى الله في الفِرْدَوْسِ يجْمعُ بَيْننا
…
فإنَّ الرَّدى إنْ كانَ يجْمَعُنا حَسَنْ
قوله: (الملوان والذي فيهما سكن) المَلَوان: اللَّيلُ والنّهار. قال: ابن مقبل:
ألا يا ديَار الحَيِّ بالسَّبْعَانِ
…
أمَلَّ عليْها بالبَلى المَلَوَانِ
ويقال: الليل والنهار أيضاً الجَدِيدَان. قال سويد بن عامر:
فالخيرُ والشرُّ مقرُونان في قرَنٍ
…
فكلُّ ذلك يأتيكَ الجديدان
ولهما أسماء سوى ما ذكرنا.
وفي رثاء أخيه أبي الحسن رحمه الله يقول، وذلك في شوال من سنة اثنتين وستمائة:
رِضىً بقضاءِ الله فَهْوَ مُصِيبُ
…
وصبراً على الأحداثِ فهيَ تَثُوب
خليليَّ قَدْوارى التُّرابُ أحبَّتي
…
فَلَمْ يَبْقَ لي فَوْقَ التُّرابِ حبيبُ
أَقِلَاّ وقُوفاً بالمنازِل أَوْقِفا
…
فإنَّ الذي تَسْتَبْعِدان قريبٌ
ألَم تُخْبِرا عنْ صاحِبِ القَبْرِ إنّه
…
بِمَرْأى منَ الأهلينَ وهو غريبٌ
تَنَاذَرَهُ الخِلَاّنُ يأْساً فأصْبحوا
…
لهم جيئةٌ منْ حَوْلِه وذهُوبُ
وأيُّ نوىً أنْأى منَ القبْرِ شُقَّةً
…
وأيُّ بَقاء بالممَات يطيبُ
على الجدثِ المَهْجُور عُوجاَ فسلِّما
…
سقاهُ الحَيا الوَسْمِيُّ حينَ يَصُوبُ
وإلاّ فَعَيْني، إنْ أبى الغَيْثُ، مُزْنَةٌ
…
يدِرّ شمالٌ صوبها وجَنُوب
إذا هاجَها ذِكْرُ الأحِبَّة أجْهشَتْ
…
وأسْبلَ دَمْعٌ بالدِّماءِ مَشوبُ
تَأَوّبَني هَمّي فَبتُّ كَأنَّني
…
على مُسْتَقِلَاّتِ النُّجُومِ رقيبُ
كأنَّ اطَّلَاعَ الشُّهْبِ بينَ محَاجِري
…
فَمِنْ ناظري تَبْدو، وفيه تغيبُ
كأنَّ الدُّجى، والشُّهْبَ هَمِي ونارَهُ
…
إذا شبَّ منْها في الضلوعِ، لَهيبُ
تقطَّعُ أنْفاسي فأقْطَعُ لَيْلَتي
…
حَنيناً، كما حنَّتْ روائِمُ نيبُ
أقولُ ونفْسِي والأسى قدْ تَمازَجا
…
وقَلْبيَ منْ حَر الفِراقِ يذوبُ
أَلَا مَثَلٌ لي إنَّه لِيَ مُعْجِزٌ
…
وإنِّي لأَمثَالِ الوَرََى لَضُرُوبُ
إذا قُلتُ في شيء كأنِّي كُنْتهُ
…
وسِرُّ اتِّخَاذِ المُشْبِهينَ عجيبُ
أنا الميْتُ والثَّكْلانُ والصَّبُّ والشَّجِي
…
فأيُّ شبيهٍ بَعْدَ ذاكَ أُصيبُ
وما سكَني إلَاّ ضريحٌ كأنَّهُ
…
لأنْسي به، ظَبْيٌ أحَمُّ ربيبُ
أعاوِدُ لثْمَ التُّرْبِ فيه كأنَّهُ
…
لِرشْفي لهُ، ثَغْرٌ أغر شنيبُ
أقامَ عَلِيٌّ في ثراهُ مُغَيَّبا
…
ولِلْبَدْرِ منْ بعدِ الطُّلوع غرُوبُ
بعيداً عنِ الإخْوانِ رهْنَ قرارةٍ
…
تَضَوَّعُ منْ أنْفاسِهِ وتَطيبُ
على سفَرٍ لا زادَ فيه سوى التُّقى
…
ولا ظَاعِنُ الأقْوام عنهُ يؤوبُ
أخي سَلَبَتْنيه الخُطُوبُ مُشيحَةً
…
وما الدَّهْرُ إلا سالِبٌ وسَليبُ
وكنتُ أرَجِّي أنْ تزيدَ حَيَاتَهُ
…
حياتي، فَشَانَتْها عليَّ شَعُوبُ
وكُنتُ أرجيه لكُلِّ مُلِمَّةٍ
…
فقالَ الرّدى إنَّ الرَّجاءَ كَذُوبُ
وكانَ سريعاً حينَ يُدْعى إلى النَّدى
…
وكمْ منْ فتىً يُدْعى وليسَ يُجيبُ
وكان حَياً في المَحْلِ يعْلَمُ ضيفُهُ
…
إذا أمَّهُ أنَّ المحلَّ خصيبُ
وكانَ أخا حِلْمٍ يزينك شاهداً
…
وتَأمنُ منهُ الغيبَ حين يغيبُ
ولمْ يكُ ذا عيبٍ ولا كان عائباً
…
ولكنْ نقيُّ اللِّبْسَتَيْن أديبُ
فتًى هُوَ حدُّ السيْفِ إنْ رُمْتَ ضيْمَهُ
…
وغُصْنٌ لمَنْ رام السَّماحَ رطيب
غَنيٌّ عن الأقوامِ ليسَ بباسط
…
يداً لثوابِ وَهْوَ كانَ يُثيبُ
جميلٌ فأمَّا وجْهُهُ فمُنَوَّرٌ
…
طليقٌ وأمَّا صدْرُهُ فرحيب
رُزِيناه لَمَّا لمْ يكُنْ فيه مَطْعنٌ
…
ولمْ يكُ راجي الخير منهُ يخيبُ
وألْوى به المِقْدارُ غضّاً شَبابُهُ
…
تميلُ إليه أعْيُنٌ وقلُوبُ
فَضاعَفَ وجْدي واسْتَحَرّ مُصَابُهُ
…
وولَّى عزائي عنهُ وهو مريبُ
وليسَ كمَفْقودٍ تقادَمَ عهْدُه
…
وغطَّى عليهِ مسحقٌ ومشيبُ
أقولُ، وقدْ غنَّتْ حمامةُ أَيْكَةٍ
…
ومالَ بِها بينَ الأراك قضيبُ
أساجِعةَ الأغصانِ نوحاً، فإنني
…
على النَّوْحِ منْ بينِ اللُّحُونِ طرُوبُ
سُقيتُ حُمَيَّا الشّوقِ، فالهَمُّ سُكْرُهَا
…
وأكثرُ ما ألْهى المَشُوقَ نحيبُ
ومُسْتَبْشِر أبْدى السُّرُورَ لِنَكْبَةٍ
…
ألَمّتْ بنا والحَادِثاتُ ضُرُوبُ
فَقُلْتُ انتظرْ عُقْبى الزَّمانِ فَرُبَّما
…
سقاكَ ذُنُوباً إنْ كَفاكَ ذُنُوبُ
فنحنُ بكينا نبْتَغي الأجر في البُكا
…
ونحنُ صبَرْنا والصَّبُورُ لبيبُ
وما جَزَعي للحادثات استِكانةٌ
…
ولكنَّه للهالكين نَصيب
ولا جَلَدي عنهم سُلُوَّا وقسْوة
…
ولكنَّ عُودَ الأكرمين صليبُ
فطوبى لمَنْ لمْ يُعْنَ إلاّ بنفسِه
…
ويا ربَّنا إنّي إليكَ أتُوبُ
وله يرثي جدته للأم ونقلتها من خطه:
أدارَ البِلَى أما عمَرت بِمَعْشري
…
فأنتِ الَّتي تُدْعينَ قَفْراً وبلْقَعاَ
على كثرةِ الأهْلينَ أوْحشتِ زائراً
…
وأُلْهَبتِ أكباداً وأجْريْت مدْمَعا
إليك مآبُ الكُلِّ منهمْ مُلَبّثٌ
…
قليلاً، وَمِنْهُمْ منْ توَلَّى وودَّعا
ألا ليْتَ شِعْري كيفَ مسَّ الثَّوى بِها
…
فإنِّي أرى فيها مِهَادا ومَضْجَعا
مَضاجِعُ ليْسَ النَّوْمُ فيها بِلَذَّةٍ
…
ولا النَّوْمُ فيها أنْ تَهُبَّ وتَهْجَعَا
إلى الحَشْرِ، واسم الحَشْرِ وَفْقٌ لِشَكْلِهِ
…
جمَاعُ أمورما أهمَّ وأشْنَعا
مقامٌ يَعُمُّ الإنْسَ والجِنَّ هَو لُهُ
…
ويُحْشَرُ فيه الوحشُ سِرْباً مُفَزَّعاً
تُبَدَّلُ فيه أرْضُهُ غيْرَ أرْضِنا
…
وتُطْوى السَّمَواتُ العُلى طيّةً مَعاَ
فيالكَ يوْماً قلَّ سعْي الورى لهُ
…
وما فيه للإنْسانِ إلَاّ الذي سعى
تُغَرُّ بِدُنْيا ليسَ تترُكُ منْزِلاً
…
أنيساً ولا شملاً لقومٍ مُجَمَّعاَ
رماني الرَّدى قصْداً فأقْصَدَ مُهْجَتي
…
وأخْطَأَ جُثْماني فأخْفى وأوْجَعَا
أُصِبْتُ بأصلٍ كنْتُ فرْعاً لفرْعِهِ
…
وشَأْنُ الرَّدى أنْ يهْصِرَ العُود أجْمَعَا
فنَفسي التي أبْكي، وإنْ كنْتُ باكِياً
…
عَليها، فدَمْعي قدْ تقسَّمَ أَدْمُعا
دَعَتْها المنَايا فاسْتَجابَتْ دُعَاءها
…
سريعاً وداعِي الموتِ أسرعُ منْ دَعاَ
فَخِلْتُ عَلَيَّ الأَرضَ حَتَّى كأنّما
…
حرامٌ على الأجْفانِ أنْ تتطلَّعا
وحَتْمٌ عليْها أنْ تَصُوبَ فما هَمَتْ
…
على مُمْحِلٍ إلَاّ وأَصْبَحَ مُهْرَعَا
بَكى بَعْدَها المِحْرابُ شَوْقاً لقربها
…
وروَّضَ منْها التُّرْبُ خِصْباً فأيْنَعَا
وصلَّى عليها كاتِبا ها وصَحْبُها
…
وجيرَتُهَا شيْخاً وكهلاً ومُرْضِعاً
سأُثْني عليها بالِّذي هيَ أَهْلُهُ
…
فإنَّ ثنائي طابَ قيلاً ومَسْمَعاَ
وما المدحُ والتَّأبينُ ممَّا يَرُدُّهَا
…
ولكنَّهُ قدْ صار مَبْكى ومجْزَعَا
عليكِ سلامٌ لا تلاقي بينَنا
…
سلَامُ امرئٍ أمْسى بِفَقْدِكِ موجِعاَ
وله يرثي ابنين لأبي الحجاج يوسف بن مطروح من خطه أيضا:
قِفْ بِرَبْعِ الأسى وُقُوفَ الطَّليح
…
وشِبِ الدَّمْعَ بالدّمِ المَسْفوحِ
واقضِ منْ واجِبِ البُكاء فَعَيْنَا
…
كَ تَجُودانِ عنْ فُؤادٍ قريحِ
إنَّ شدْوَ الزَّمانِ نوْحُ الثَّكَالى
…
وحُمَيَّاهُ كلُّ دمْعٍ سفوحِ
وسيفْنى كما فنينا ويلْقى
…
مالَقينا منْ فُرْقَةٍ ونُزُوحِ
وتَغُولُ المنُونُ مِنَّا أناساً
…
ذهَبُوا إذْ مَضَوا بجِسْمي ورُوحِي
وأرى الدَّهّر شامِتاً بالمَعالي
…
في سَلِيلَيْ فتى بني مَطْروحِ
طلعا طَلعَة الهلالِ علَيْنا
…
واسْتَسرا سِرَارَه في الضَّريحِ
هَصَرَتْ منْهُما المَنُونُ قَضيبي
…
نِ فَمَالَا مَعاً إلى التَّصْريحِ
يَا تُراباً أَجنَّ شَخْصَيْهِما أج
…
ننْتَ رُكْنَيْ عُلا وبَابيْ مديحِ
وصغيرين غيرَ أنَّ المَعَالي
…
قدْ يُمَتَّعْنَ بالصَّغير الصَّريح
أرِجَتْ تِلكم البطاحُ لطيبٍ
…
ساطِعٍ منْهُما بعرفٍ نفُوحِ
لَيْسَ مِسْكاً وإنَّما هُوَطِيبُ الذْ
…
ذِكْرِ تَسْري بعرْفِهِ كُلُّ ريحِ
ضَلَّ سَعْيُ البُكاةِ إلَاّ على أحْ
…
مَدَ، يانَفْسُ أَسْعديني ونُوحي
مُر إذْ لا مُحمَّدَ الحيِّ باقٍ
…
فاسْتَشِفَا ثَمَادَ قلْبي القريحِ
أسْعداني يافَرْقَدان وغُورا
…
فَرْقَدا الأرض غوَّرا في الصفيحِ
كيفَ تَبْقى النُّجومُ بعدَهُما لمْ
…
تنْكَدِرْ والجِبالُ ذاتُ جُنُوحِ
كيفَ لمْ تلْفظِ المَقابِرُ موْتَا
…
هَا ويبْدُو الأديمُ غيرَ صحيحِ
ليسَ إلاّ أنَّ التَّصبُّر أجْدى
…
منْ بُكاء يدُومُ غيرَ مُريحِ
ولقدْ قُلْتُ للوَزير أبي الحَجْ
…
جَاج صبْراً لِريبِ دهْرٍ مُشيحِ
مِثْلُ مَفْقُودِكَ اسْتباحَ حِمى الصَّبْ
…
رِ كما مِثْلكَ ارْعَوى للنَّصيحِ
فاصْطَبِرْ وارتقِبْ مُراجَعَةَ الحُسْ
…
نى مِنَ اللَّهِ فَهْوَ غيرُ شحيحِ
قوله في أول القصيدة (وقوف الطَّليح) يريد الفَاتِرُ المُعْيي.
يقال طَلَحَ الرَّجُلُ يَطْلَحُ طَلْحاً: إذا عَيِيَ وفَتُرَ. قال الشاعر:
لقدْ طَلَحَ البينُ القَذُوفُ ركائبي
…
فَهَلْ أَرَيَنَّ البَينَ وَهْوَ طليحُ
ويقال: ناقةٌ طليح أيضاً بغير هاء. وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى لأبي حية النُّمَيْري:
وقالوا حماماتُ فَحُمَّ لِقاؤُها
…
وطَلْحٌ فَزِيرَتْ والمَطِيُّ طليحُ
وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ كُفارَ قريش لَمَّا بَلَغَهم إسْلامه ثاروا عليه، فمَا برِحَ
يُقاتِلُهُم حتّى طَلَحَ. والطَّلَحُ أيْضاً، النِّعْمَةُ. قاله ابن السكيت وأنْشد قول الشاعر:
كم رأيْنا من أُناسٍ هَلَكُوا
…
ورَأينا المَلْكَ عَمْراً بِطَلَحْ
أي: صَاحبُ نِعْمة.
وكتب لأحد أصحابه يُعَزِّيه في ابنة أخ له من خطه أيضاً:
صبْراً أبا عبد الإله عنِ الَّتِي
…
سَلَبَتْ جميلَ الصَّبْرِ يوم تَوَلَّّتِ
عنْ دُرَّةٍ جَلَّى الضَّريحُ جَمَالَها
…
وعَقيلةٍ بالمَكْرماتِ تَحَلَّتِ
حُجِبَتْ بِتُرْبِ القَبْرِ عنْ أبْصارِنا
…
لكِنَّها بينَ الجوانِحِ حَلَّتِ
بَخِلَ الغَمامُ بِصَوْبِه عنْ ترْبِها
…
فَسَقيتُها العَبَراتِ لَمّا انْهَلَّتِ
عَزت على الكُرَماء مِنْ مفْقُودَة
…
ودهتْ مُصيبَتُها الجلالَ فَجَلَتِ
لوْ تسْتَبينُ الأرْضُ قدْرَ جَلالِها
…
بِكُمُ لألْقتْ شخْصها وتَخَلَّت
ريْحانَةٌ ذبَلَتْ وقَرَّتْ أعْيُنٌ
…
ألْقَتْكِ أيَّامَ السُّرورِ وقلَّتِ
حازتْ بكُمْ شرَفَ العُمُومَةٍ فانجلتْ
…
شَمساً دَهَاهَا الكسفُ حين تجَلَّتِ
فاصْبِرْ فإنَّ الحُرَّ منْ إنْ تَدْعُهُ
…
للصَّبْرِ طابتْ نفسهُ وتَسَلَّتِ
فالموْتُ أمْرٌ عمَّ فينا حُكْمُهُ
…
خَضَعَتْ لعِزَّتِهِ الرِّقابُ وذَلَّتِ
وقال أيضاً يرثي:
وخَبَّرَني النَّاعُون ما صَنَعَ الرَّدَى
…
بِأسْماءَ منْ أفْعالهِ النَّكراتِ
فكَذَّبْتُ ما قالُوا، وإنْ كانَ صادِقاً
…
فيَا خيْرَ مُنْعىً، وشرَّ نُعَاتِ
أساءتْ بأسْماء الخُطُوبُ صنيعَها
…
إليْنا، فأَنْسَتْ سالِفَ الحَسَنَات
طَوى التُّرْبُ منها في حَشاهُ سريرَةً
…
منَ المجْدِ، والأسْرارُ للْمُهَجَاتِ
ورَوَّضَ ظَمْآنَ الثَّرى منْ سَمَاحِهَا
…
فأنْبَتَ زهْرَ الحمْدِ أيَّ نباتِ
سَقَاها الحَيا، والفخْرُ في ذاكَ للحَيا
…
وَإلاّ سَقَاها سائلُ العَبَراتِ
وإلاّ سقاها جُودُها في ضريحِها
…
فقدْ كانَ مثْلَ الغيثِ في اللَّزَباتِ
وقالوا: عَجُوزٌ. قُلْتُ: رُبَّ صَنيعَةٍ
…
تزيدُ بها حُسْناً على الفَتَيَاتِ
مَضَتْ سَلَفاً، والكُلُّ يقْفُو سبيلَها
…
مُشَيَّعةً بالبِرِّ والصلَواتِ
شَفَى النَّفْسَ أنْ لمْ يَخْلُ منها مَكَانُها
…
ولمْ تَكُ مثْلَ الأعْظُمِ النَّخرَاتِ
ولَكِنَّها أبْقَتْ فُرُوعاً كثيرةً
…
حياةً لَها منْ بَعْدِ كُلِّ مَمَاتِ
كَمِثلِ أبي بَكْرٍ، ومثْلِ سليلِه
…
خَلِيلِي أبي إسْحَاقَ خيْرِ لِداتِي
لَعَمْرُ المَنَايا لا تَفُوزُ بِمِثْلِها
…
فقدْ فَعَلَتْها أعْظمَ الفَعَلاتِ
تداعَتْ سماءُ العِزِّ فانْفَطَرَتْ لها
…
وأضْحتْ نُجُومُ الفَخْرِ مُنْكَدِراتِ
وباتَ الأسى فيها يَقُضُّ مَضاجِعي
…
ويَمْنَعُ أجْفاني لذيذَ سِناتِ
فَقُلْ للْمَنَايا قدْ وتِرْتِ سَرَاتِنا
…
تراتٍ بَظَنِّي مِنْهمُ بِترات
فَلَوْ كُنْتِ شَخْصاً ما اجتَرأتِ عليْهم
…
وجَنَّبْتِهِم عنْ هيْبَة وَهِباتِ
خليليَّ منْ عَلْيا مُراد تَصَبَّرا
…
ففي الصَّبْرِ أعْوانٌ على الحَسَراتِ
وكُفَّ الدُّموعَ الواكِفاتِ فإنَّما
…
دُمُوعُ الفَتى وقْفٌ على العَرَصَاتِ
فيَارُبَّ مَنْ تَبْكيه يَضْحَكُ فرْحَةً
…
وأنْت عليهِ دائِمُ التَّرحَاتِ
فإنَّكَ لاقٍ من سُرورٍ ومنْ أسىً
…
وما هُوَآتٍ لا مَحالَةَ آتِ
وقال أبو العباس أيْضاً في رثاء الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
أحَقُّ ما كان منْ قَلْبي تباريحُ
…
فَلْيَهْنِئِ العَيْنَ أنَّ الدَّمْعَ مَسْفُوحُ
تَأَلَّقَ البرْقُ غَوْرِيا فسَحَّ لَهُ
…
سُحْبٌ منَ الدَّمْعِ لَمَّا هَبَّتِ الرِّيحُ
يَاأَيُّها البرْقُ إنِّي عنكَ في شُغُلٍ
…
دُونَ المزارِ فَيَافٍ بيْنَنا فيحُ
تخْدي النَّجائبُ حوْلاً في نَفَانِفِها
…
لا يأتيهنَّ إعياءٌ وتطْليحُ
وكيْفَ بالسيْرِ في جَرْداء بَلْقَعَةٍ
…
أقْرى مراتِعَها القَيْصُومُ والشيحُ
وسوْفَ أَجْشَم نَفْسي سيْرَ تلكَ إلى
…
بيتٍ أطافَ بهِ في فُلْكِهِ نوحُ
قَبْرٌ بِيَثْرِبَ هَمِّي لوْ ظَفِرْتُ بِهِ
…
ومقْصدٌ بِجِبالِ الطَّفِّمَطْرُوحُ
منْ كانَ في جَفْنِه دَمْعٌ يَضِنُّ بِهِ
…
فُإنَّ دَمْعي لأهلِ البيتِ ممْنُوحُ
آلَ النَّبيِّ لَقدْ سُقْيتُمُ عَلَلاً
…
كأسَ المَنايا فَمَغْبُوقٌ ومَصْبُوحُ
صَلَّى الإلهُ على أشْلاءِ مُنْجَدلٍ
…
بِكَرْبلاءَ يُحَيِّي رَوْحَه الرُّوحُ
أوْفى على معْرِك الأبْطال مُحْتَسِباً
…
ليْت شِعَاراهُ تَهْليلٌ وتَسْبيحُ
يافارساً هاشمِياً ما أضرَّبِه
…
تثاقُلُ القومِ إذْ نادَاهُمُ رُوحوا
طاروا وأثْبَتَ في الهيْجَاء أَخْمَصَهُ
…
صبْراً، وكانَ لَهُ عنْها مناديحُ
حتَّى ثَوى الفارِسُ الحجَّاجُ يتْبَعُهُ
…
منْ هاشِمِ الخَيْرِ فُرْسانٌ جَحاجِيحُ
لمْ يتقوا الضرْبَ بالأكتافِ إذْ صُرِعوا
…
بل النَْجيع على اللَّبَّاتِ مَنْضُوحُ
تنْدى الوُجُوه نجِيعاً وَهْيَ مُشْرِقةٌ
…
كَأنَّها في دُجَى الهَيْجَا مَصَابيحُ
لوْ كُنْتُ شاهِدَ يوْمِ الرَّوْعِ قُلْتُ له
…
لشائحُ القومِ جَلْدٌ دونهُمْ شِيحُ
ولا اخْتَضَبْتُ أمامَ الصِّفِّ منْ جَسَد
…
جُوداً بنَفْسي، وبعْضُ الجُودِ مرْبُوحُ
ضلَّتْ حُلُومُ أناسٍ كيفَ لمْ يَرِدوا
…
نارَ الكِفاحِ، وزنْدُ الحرب مقدُوحُ
أمَّ الحسينُ بِهِمْ عَدْناً فلَمْ يَلجُوا
…
بابَ الجنان عِياناً وهْوَمفْتُوحُ
أمَّا ابنُ حرب فَدَعْ حرْباً وأسْرتَه
…
تلكَ الجُسومُ لَو انَّ العِرْضَ ممْدُوحُ
طافوا برأسِ ابن خَيْر الناس كُلِّهم
…
بئْسَ الطَّوافُ ونِعْمَ الرَّأسُ والرُّوحُ
ولسْتُ أبْسُطُ قَوْلاً في دَعِيِّهِم
…
كُلُّ الدَّعيينَ مَلْعُونٌ ومَقْبُوحُ
ياعينُ جُودي على قتْل الحُسين دَمآً
…
وابْكي جَهَاراً، فإنَّ الوَجْد تصريحُ
ويا لساني عاوِدْ مَدحَهُ أبَداً
…
وإنَّ أيْسَرَ ما فيه الأماديحُ
قوله رحمه الله: (فيَافٍ بَيْنَنَا فيح)، أي: أرض مُقْفرّة مُتسعة بعيدة. قال الشاعر:
ونَاحتْ وفَرْخاها بِحيثُ تراهُما
…
ومنْ دُون أفْراخي مَهَامهُ فيحُ
وقوله:
(ولست أَبْسُطُ قولاً في دَعِيِّهم). فالدَّعِيَّ يعني به عبيد الله بن زياد دَعِي ابن أمية. ووالده كان يقال له
زياد بن أبي سفيان ويقال زياد بن أبيه وزياد ابن أبه وزياد بن سمية بكل هذه الأسامي كان يدعى
وكان قبل الاستخلاف ببني أمية. يدعى بزياد بن عبيد الثقفي وأمه سمية جارية للحارث بن كِلْدَة
الثقفي وكان زياد طويلاً جميلاً يَكْسِرُ إحدى عيْنَيْه. وفي زياد هذا قال الفرزدق للحجاج:
وقَبلك ما أَعْيَيْتُ كاسِرَ عَيْنِه
…
زياداً فلمْ تَعْلَقْ عليَّ حَبائلُهْ
وبَعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إصلاح فسادٍ وقع باليمن، فلما رجع من وجهته خطب
خطبة لم يسمع الناس مثلها، فقال عمرو بن العا ص: أمَا والله لوْ كَان هذا الغُلامُ قُرَشِيَّا لَسَاقَ النَّاس
بِعَصاه، فقال أبوسفيان بن حرب: والله إِنِّي لأَعْرِفُ الَّذي وضَعَهُ في رحِمِ أُمِّه. فقال له علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال أنا. فقال له علي: مَهْلاً يا أبا سفيان. وأنشد في ذلك
أبو سفيان أبياتاً من الشعر وهي:
أما والله لَوْلا خَوْفُ شخْصٍ
…
يراني يا عَلِيُّ من الأعادي
لأَظْهَر أمْرهُ صخْرُ بنُ حربٍ
…
ولم يُكْنِ المَقالة عنْ زياد
وقد طالت مجاملتي ثقيفاً
…
وتركي فيهِمُ ثَمْرَ الفُؤادِ
وفي زياد وأخويه، يقول يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري وقيل ان عبد الرحمن بن الحكم هو
القائل:
إنَّ زياداً ونافعاً وأبا
…
بكرة عندي من أعجب العَجَبِ
هُمُ رِجَالٌ ثلاثةٌ خلقوا
…
من رحم أنثى كُلُّهُمْ لأب
ذا قُرشِيٌّ، كما يقولُ، وذا
…
مولىً وهذا ابن عمه عَربي
وحكى الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أنه قال: قال عبيد
الله بن زياد ما هُجِيتُ بشَىءٍ أشَدَّ عَلَيَّ منْ قوْلِ ابن مفرغ:
فكِّرْ ففي ذاك إنْ فكَّرتَ مُعْتبَرٌ
…
هَلْ نلْتَ مَكْرُمةً إلَاّ بتَأميرِ
عاشتْ سُمَيَّةُ ما عاشتْ وما عَلِمَتْ
…
أنَّ ابْنَها من قريشٍ في الجماهير
وليزيد بن مفرغ في هجاء زياد وبنيه أشعار كثيرة كقوله:
أعَبَّادُ ما للرُّومِ عنك مُحَوَّلٌ
…
ولالك أُمٌّ من قريش ولا أبُ
وقلْ لعبَيْدِ الله: مَالكَ والِدٌ
…
بِحقٍّ، ولا يَدْري امرؤُ كيف تُنْسبُ
وقصته مع عباد وعبيد الله أخيه مشهورة. وقال هو أو غيره في زياد:
زيادٌ لسْتُ أدْري منْ أَبُوهُ
…
ولكنَّ الحمار أبو زياد
وفيه أيضا يقول:
شهدتُ بأنَّ أمّك لم تُباشِرْ
…
أبا سُفيان واضعةَ القِنَاع
ولكنْ كان أمْراً فيه لَبْسٌ
…
على وَجَلٍ شديدٍ وارْتِياع
وفيه يقول عبد الرحمن بن الحكم حين اعتذر من هجائه من أبيات
له:
زيادٌ من أبي سُفيانَ غُصْنٌ
…
تَهَادى ناضراً بينَ الجِنَان
أرادَ أخَاً وعَمَّا وابنَ عمٍّ
…
فمَا أدري بعينٍ ما تَراني
وأنتَ زيادةٌ في آل حربٍ
…
أحبُّ إليَّ من وُسْطى بَنَاني
وعبيد الله هو الذي وجه عمر بن سعد بن أبي وقاص لقتال الحسين بن علي رضي الله عنهما، حين
ولاه يزيد (الكوفة) وهو (بالبصرة) فخرج مسرعاً حتى قدم الكوفة، وبعث عمر بن سعد لقتال الحسين
وأردفه شمر بن ذي الجوشن الضبابي لعنه الله، والخبر مشهور. وقتل الدَّعي عبيد الله ابراهيم بن
الأشتر ليلة التقائه معه بالمجاز وقيل حارر وهو اسم نهر بناحية الموصل. وكان إبراهيم بن الأشتر
على جيش المختار بن عبيد، وعبيد الله على جيش لعبد الملك بن مروان، فتقاتلا في ذلك الموضع،
حتى دخل عليهما الليل من يوم عاشوراء سنة سبع وستين بعد قَتْلِ الحسين بست سنين، وتمادى
القتل، فقتل إبراهيم عبيد الله، وانهزم أصحابه أشد هزيمة. فلمّا كان عند الصبح قال إبراهيم
لأصحابه: إنِّي قتلتُ البَارِحَة رَجُلاً، فَوَجدْتُ عليه أثر طيب، فمَا أراهُ إلَاّ عبيد الله بن زياد فالتَمِسُوه،
فإنِّي قَسمتُهُ بنصفين، فرميتُ ذِراعيهِ نحوَ المَشْرِق، وساقَيْهِ نحوَ المَغْرِب فالْتَمِسوه. فَوَجَدوه كما ذكر،
فلمَّا قُتِلَ عُبيد الله حُزَّ رأسُهُ، وبَعَثَ به المختار بن عبيد بن مسعود إلى علي بن الحسين،
وحكى الرّسولُ الذي مشى برأسه إلى علي بن الحسين، قال: دَخَلْتُ على علي بالرأس، وهو يتَغَذَّى، فقال:
سُبْحان الله. لقدْ أُدْخِلَ رأْسُ أبي عبد الله، يعني الحسين على عبيد الله بن زياد، وهو يتغدَّى.
رجع
وقال أبو العباس أيضاً:
يابَرْقُ بَرقاً بينَ مَرْوَةَ والصَّفا
…
باكِرْ بِسُقْيا الحَجِّ ديناً قدْ عَفا
واهْدِ الحَجيجَ إلى مَعالِم مكَّةٍ
…
فلقدْ تركْتَهمُ حَيَارى وُقَّفا
حَمِّل عِمَامَكَ ديمَةً منْ زَمْزَمٍ
…
وانْضَحْ بِريَّاها القُلوب الرُّجفا
وَاكْحَلْ جُفُوني منْ سَوافي ريحها
…
إنِّي أشحُّ بتُرْبِها أنْ يَنْسِفَا
بينَ الحجونِ إلى الحطيم لأحْمدٍ
…
أثَرٌ زكَامنْهُ الثَّرى وتَشَرَّفا
بِمِنىً بجَمْرَتِه إلى عَرَفاته
…
ناهيكَ مسْعى للنَّبي وموْقفا
والحِجْرُ والحَجَرُ الأحمُّ تَأَلَّقتْ
…
أَنْوارُهُ فأبى الهُدى أنْ تُكْسَفا
وَمَقامُ إبراهيمَ يَدْعو رَبَّهُ
…
قد أثَّرَتْ قَدَمَاهُ في صُمِّ الصَّفا
والبيتُ ذو الأستار تمْسَحُ رُكْنهُ
…
وُرْقُ الحَمَامِ عِياذَةً وتعَطّفا
يالَيْتَ أنِّي في ذراهُ حَمَامَةٌ
…
أدَعُ الهديل سُدًى وَأَبْكي المصطفى
يا عيْنُ بَكِّي للدَّفينِ بِطيبَةٍ
…
ولِمَفْرقٍ بِدَمِ الوَصيِّ تغَلَّفا
أخَوَيْنِ خَيْرُهُما بِحَرَّةِ يثْرِبٍ
…
ثاوٍ وَآخَرُ بالعِراقِ تَخَلفا
شُلَّتْ يمينُ المُلْجَميِّ فإنَّهُ
…
تَرَكَ الإِمَامَة بالإمام على شَفا
أرَتِ الشَّماتَة بالوَصِيَّ أمَيَّةً
…
لا سَرَّها قتْلُ الوصيِّ ولا شَفى
ودَّت أمَيَّةُ لوْ يُصابُ بِسَيْفِها
…
يكْفِيكَ جَمرُهُ يا أميةُ لوْ كَفى
أشَفَاكُمُ منْ يومِ بدْرٍ قَتْلُهُ
…
تِلْكَ الشَّهادَةُ ما بذلكَ مَنْ خَفَى
وَابْكِي على السِّبْطين بعْدَ أبيهماَ
…
حُبَّا لِجَدِّهِما الرَّحيمَ الأرْأفا
عَمْري لقدْ جَارَ الضَّلالُ على الهُدى
…
بالطَّفِّ في قتْلِ الحُسينِ وطَفَّفا
واهاً لَها منْ عَثْرةٍ لوْ تُتَّقى
…
واهاً لَها من ضِلَّةٍ لوْ تُقْتَفى
ماكانَ أجْدَرَها بأنْ تَدَعَ الظُّبا
…
متَشَظِّياتٍ والقَنا مُتَقَصِّفَا
رضِيَتْ قُرَيشٌ أنْ يُقَتَّلَ هاشِمٌ
…
فعَلى قُريشٍ بعْدَ هَاشِمٍ العَفا
لا دَرَّدَرُّ العَبْشَمَيَّةِ كمْ لَها
…
منْ فَتْكةٍ فيهم عَلَتْ أنْ تُوصَفا
لوْ أنَّ صقْراً في مكانِ أمَيةٍ
…
لَحْماً لَحَامَ على الحُسين ورَفْرفا
أوْ أنْ لَيْثاً يوْمَ خَرَّ مَكَانَها
…
غَرَثاً لَمَهَّدَ للحُسين وأَلْطَفا
أوْ أنَّ سِرْبَ قطاً غداةَ شَكا الصَّدى
…
وافاه مجَّ لِوِرْدهِ ما اسْتَخْلَفَا
مَنَعُوهُ ماءَ النَّهرِ ليْتَ مَدَامِعي
…
مَعَهُ إذاً لَسَقى الرِّكابَ ولا اشْتَفى
إنّي لأشْرِقُ بالزُّلالِ تَذكُّراً
…
هُمُ وأقْلقُ بالنَّعيم تَأسُّفا
يا لَيْتَ شِعْري كيفَ كانَ على العَصا
…
رأْسُ الحُسَيْن ونُورُهُ كيفَ انْطَفا
أمْ كيفَ تُقْرعُ بالقضيبِ ثنِيَّةٌ
…
كانتْ ملذاً للنَّبِي ومَرْشفا
إنْ يرفعُوا رأسَ الحُسين فقبْلَه
…
رَفَعوا لواذاً منْ أبيه المُصْحَفا
إيهاً حديثاً عنْ فُؤادي إنَّهُ
…
ذكرَ الرسولَ وآله فتشوَّفا
مَالي طَرِبْتُ بذكْرهمْ فكَأنَّني
…
عاقَرْتُ منْ ذكرِ الأحِبَّةِ قرْقَفا
أقِمِ الصلاةَ على النبيِّ فإنّها
…
تذَرُ الذُّنوبَ الشُّمَّ قاعاً صَفْصَفَا
صلّى الإلهُ على النبيِّ وآلهِ
…
من ضَمَّ خَمْسَتَهُمْ كِساءٌ قدْ صَفا
ياربِّ إنِّي قدْ أنِسْتُ بِحُبِّهم
…
فاجعلهُمُ لِيَ عنْ سِواهُمُ مَصْرِفَا
قوله: (والحِجر والحَجَرُ الأَحَمُّ) يعني الأسود، وإنما قال: الأحمُّ لِيقُوم له الوزن. وفَضْلُ هذا الحجر
عظيم، وشرفه معلوم، وذُكِرَ أنه يمين الحيّ القيوم.
حدَّث يحيى بن سليم عن ابن جُرَيْج قال: سمعت محمد ابن عباد ابن جعفر المخزومي يقول: سمعت
عبد الله بن عباس يقول: إن هذا الرُّكْنَ الأسوَد، هو يَمينُ الله في الأرض، فَصافَح بِه عبادَهُ مُصافحة
الرجل أخاه.
وقال القاضي أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن العثماني كتبَ إلَيَّ الشًّيْخُ أبو الفتوح طاهر بن علي
الرفاء المصري وأجاز لي الرواية عنه قوله:
في الحجَر الأسْود سرُّكُمَا
…
في غامضات العلم أسرارُ
فَهْوَ يمينُ الله في أرضه
…
واللَّهُ للأشياء يختارُ
وإنَّما الأمثال مضروبةٌ
…
وفي رموز القول تذْكارُ
وطاعةُ الله وعصيانُهُ
…
عقباهما الجَنَّةُ والنَّارُ
والوَصِيُّ الذي ذَكَرَ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسنذكر بعد هذا طَرَفاً من خبره.
والملجمي هو عبد الرحمن بن ملجم التَّجُوبي. وقيل
السُّكُوني، وقيل الحميري. قال الزبير بن بكار:
تَجُوبُ رجل من حِمْير كان أصاب دماً في قومه، فلجأ إلى مراد فقال: جئت إليكم أجوبُ البلاد، فقيل
له: أنت تجوب. فسمي به. وهو اليوم في مُراد، وهم رهط ابن مُلْجَمُ المرادي ثم التَّجُوبي، وأصله من
حمير، ولم يختلفوا أنه حليفٌ لمراد، وعِدادُه، فيهم، وكانَ فاتكاً ملعُوناً انتدب من لقايا الخوارج لِقَتْل
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقتله ليلة الجمعة لثلاث عشرة، وقيل لإحدى عشرة ليلة خلت،
وقيل بقيت من رمضان. سنة أربعين، وفي ذلك يقول شاعرهم:
علاه بالعَمُودِ أخو تجوبِ
…
فأوهى الرأس منه والجبينا
وقُبِضَ رحمةُ الله عليه ورضوانه في أول ليلة من العشر الأواخر منه.
وذكر المزني عن الشافعي عن سفيان بن عيينة قال: قال لي جعفر بن محمد توفي علي بن أبي
طالب وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقتل الحسين بن على، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي
علي بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي محمد بن علي بن الحسين وهوابن ثمان
وخمسين سنة.
قال سفيان: قال لي جعفر بن محمد وأنا بهذه السنة في ثمان وخمسين سنة، فتوفي فيها رحمة الله
عليه وعليهم.
(حُبَّا لِجَدِّهِما الرَّحِيم الأَرْأَفَا) جاء به منصوباً على المدح للمبالغة فيه. ومثله قول الشاعر:
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمَامْ
…
وليثَ الكَتِيبَةِ في المزْدَحَمْ
فنصب (ليث) على المَدح. وقال الآخر:
الخائضَ الغَمْرَ والميْمونَ طائرُهُ
…
خليفَةَ الله يُسْتَسْقى به المطرُ
نصب الخائض والميمون وخليفة الله على المدح والترفيع.
ومثله أيضا قول الآخر:
لقد حَمَلَتْ قَيْسُ ين عيْلَانَ
…
حَرْبَها على مُسْتَقلِّ بالنَّوائبِ والحربِ
أَخَاها إذا كانتْ غضاباً سمَالَها
…
على كلِّ حالٍ منْ ذَلولٍ ومنْ صعْبِ
فنصب (أخاها) على المدح. ولولا ذلك لخفضه على البدل من مستقل.
وقال يونس في قوله عز وجل (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)، وفي قوله تعالى
(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ): نصبهما على المدح. ونظير هذا من الكلام:
مرَرْتُ بِزَيْدٍ الرجَل الصَّالحَ. فإن خفضته جعلته بَدَلاً من زيد، وإن رفعته على إضمار هو. والنصبُ
على المدحِ والذم والترحُّم والاختصاص؛ إنَّما هو بإضمار: أعني. فمثال النصب على المدح ماذكرناه
من الأبيات، ومن قول الله عز وجل. ومثال الذم قوله عز وجل في صفة المنافقين (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ) وقوله تعالى (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا)
و (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) على قراءة عاصم ومنه قول الشاعر:
سَقَوْني الخمر ثمَّ تَكَنَّفُوني
…
عُداةَ الله من كَذِبٍ وَزُورِ
وقول النابغة:
وَجُوهَ قرودٍ تبْتغي من تُخَادِعُ
نصب عُدَاة الله، ووجوه قرود على الذَّم. ونظيره في الكلام: مررت بزيد الفاجرَ. والفاسقَ. ومثال
الترحُّم قولك: مررت بزيد المسكينَ والضعيفَ. ومنه قول الشاعر:
ولقدْ خَبَطْنَ بُيُوتَ يشْكُرَ خَبْطةً
…
أخْوَالَنَا وهُمُ بَنُو الأعْمَامِ
فنصب (أخوالنا) على الترحم، ومنه قول امرئ القيس:
فأَسْقِي بِهِ أُخْتِي ضَعيفَةً إذْ نأَتْ
…
وإذْ بعُِدَ المزار غير القريضِ
فنصب ضعيفة على الترحم. فأمّا قول ذي الرمة:
وَأَنْتُمْ بني قيسٍ إذا الحربُ شَمَّرَتْ
…
حُمَاةُ الوغى والخائضُونَ العواليَا
فانصبه إن شئت على المدح، وإن شئت على الاختصاص. ومن المنصوب على الاختصاص قول
الشاعر:
إنَّا بني مُنْقَرٍ قوم ذوو شَرَفٍ
…
فينا سراةُ بني سعد وناديها
ويروى هذا البيت على مساق آخر وهو:
إنَّا بَني منقر لا نَنْتَمِي لأبٍ
…
عنْه ولا هَو بالآباء يَشْرِينا
أي يبيعنا. كأنه قال: إنا، أعني بني منقر. وهذه الوجوه التي ذكرناها كثيرة في الشعر والكلام.
رجع
وقول أبي العباس (أم كيف تُقْرَعُ بالقضيب ثنية) الحسين. وذلك أنه لما قتل رضي الله عنه يوم
عاشوراء سنة إحدى وستين، قتله سِنَان بن أنس، وقيل سنان بن
أبي سنان النخعي، وقيل قتله شَمْر بن ذي الجَوْشَن الأبرص الضبابي، وأجهز خولي بن يزيد الأصبحي لعنة الله عليهم ثلاثتهم وسخطه.
حزّ رأسه خولي، وأتى به عبيد الله بن زياد، وهو يقول:
أوْ قِرْ رِكَابي فِضَّةً وذَهَبا
…
إني قتلتُ الملِكَ المُحَجَّبا
خيْرُ عِبادِ الله أُمَّا وأبا
…
وَخَيْرُهم إذْ يُنْسَبُون نَسَبا
فقال له عبيد الله بن زياد: فَلِمَ قَتَلْتَه إنْ كان خير عباد الله أمَّا وأباً؟ فضرب عنقه ثم أمر بحمل
الرأس إلى يزيد بن معاوية، فحكى القوم الذين حَمَلُوه، أنّهمْ نزَلوا منْزلاً من المنازِل، ووضعوا الرأس
بين أيديهم، فرأوا يداً من حديد قد خرجت فكتبت على جبين الحسين بالدم:
أتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَت حُسيناً
…
شَفَاعةَ جَدِّهِ يوْمَ الحِسَابِ
ويروى أنّ هذا البيت وجد مكتوباً في كنيسة من كنائس الرُّوم، وعليه تاريخه مذ كتب، فَعُدَّ تاريخه
فوجد قبل الإسلام بثلاث مائة سنة. فلما وصل الرأس إلى يزيد جعل ينكث بقضيب كان في يده على
ثَنِيَّةِ الحُسين وهو يقول:
نُفلِّقُ هاماً من رجالٍ أعزَّةٍ
…
علينا وَهُمْ كانوا أَعَزَّ وأظلما
فقال له أبو برزة نَضْلة بن عبيد الأسلمي: ارفعْ قضيبَكَ فَطَالَ واللهِ ما رأيتُ رَسول الله صلى الله
عليه وسلم يُكِبُّ عليه يقبله فذلك الذي عنى أبو العباس بقوله: (أم كيف تقرع بالقضيب) البيت.
وحكى أبو عمر المطرز عن أحمد بن يحيى بن ثعلب عن عمر بن شبة قال: دخل سِنَان بن يزيد
النَّخَعي على الحجاج: فقال له الحجاج كيفَ صنعتَ بالحسين؟ فقال: دَسَرْتُهُ بالرُّمْح دَسْراً، وهَبَرْتُهُ
بالسيفِ هَبْراً، ووكَلْتُه إلى امرئ غيري وَكْلاً فقال الحجاج: ألَا واللهِ لا تَجْتَمِعُونَ في الجنَّةِ أبَداً. وأمَرَ
له بخمسة آلاف درهم. فلما ولي قال: لا تُعْطُوه إياها.
وحكى مروان بن معاوية الفزاري عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مسلم النخعي انه قال: رأيت
رأس الحسين قد جيء به، فوضع بدار الإمارة بالكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد. ثم رأيت رأس
عبيد الله بن زياد قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي المختار بن عبيد. ثم رأيت رأس
المختار قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي المصعب، ثم رأيت رأس المصعب قد جِيء
به، فُوُضِعَ ذلكَ الموْضع بين يدي عبد الملك بن مروان، فرأى عبد الملك مني اضطراباً يوم جيء
برأس المصعب، فسألني، وأخبرته بالقصة. وقلت: وهذا رأس المصعب بين يديك، فَوَقاكَ الله يا أمير
المومنين. قال: فوثب عبد الملك عن ذلك المجلس وأمَرَ بهَدْمِ الطَّاق الذي كان عليه.
رجع
وقال أبو العباس أيضاً يمدح أهل البيت صلوات الله عليهم. وقد سئل بعض الجفاة عن تفضيلهم
وتطهيرهم وتقديمهم على من سواهم فقال:
عَادَيْتُ في الله قوْماً أنْكَرُوا رَصَداً
…
للدِّينِ تَطْهيرَ أهْلِ البيتِ ذي الحُجُب
ياأهْلَ بيتِ النَّبِيِّ المصطَفى حَرَبي
…
ممَّنّ يُخَفِّضُ منْ أَقْداركُم حَرْبِي
منْ لمْ يَقُلْ إنَّ خيرَ النَّاسِ كُلهُمُ
…
أنْتُم، فقدْ سدَّ بابَ الصِدْق بالكَذِبِ
اللهُ طهَّرَكُم والرِّجْسَ أذْهَبَه
…
عنْكم، شَهادَةُ ربَّ العرْشِ في الكُتُبِ
وقائلٍ لا، جَوَاباً عنْ طَهارَتكمْ
…
ويْلٌ لِقَائلِها، إنْ كانَ لمْ يَتُبِ
أخو الرَّسول، أبو السِّبْطَيْنِ، أكْرمُ منْ
…
يَمْشي على الرّتبِ أوْ يَرْقى على الشُّهُب
يا منْ يُفاخِربالأْنساب، هلْ لكَ في
…
فخْرٍ فحُبُّ النبيِّ المُصْطَفى حَسَبي
وحُبُّ فَاطِمَةٍ والمرتضى حَسَنٍ
…
وصِنْوِهِ وعليِّ كاشف الكُرَبِ
يومَ البعير ويومَ النَّهْروانِ
…
وفي صفِّين داوى شُكاةَ الدينِ بالقُضُبِ
ما كنتُ أجْعَلُ شَكاً في أبي حَسَنٍ
…
ولوْ رَمَتْني جميعُ العُجْمِ والعَرَبِ
وقال أيضاً في المعنى ردَّا على ذلك الجافي المذكور بعينه:
لقدْ طَهَّرَ الرحْمنُ آلَ محمدٍ
…
وأذْهَبَ عنْهُمْ رِجْسَهُمْ وَهَدُوا كُلَاّ
عَجِبْتُ لِقوْمٍ لا يرَوْنَ وصيَّة
…
أبا حَسَنٍ للأمْرِ يومَ انْتدوا أهلاً
أَمَا كان في آلِ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ
…
بِزَعْمِهم منْ يَشْهَدُ العقْدَ والحَلَاّ
كَذَبْتُمْ، أخُوهُم كانَ فيهمْ وَعَمُّهُ
…
أشَدُّ الوَرى رأْياً وأوْثقُهم إلَاّ
فمَنْ كان يَدْعُوهُ الرَّسُولُ لنصْرِه
…
إذا لَقَحَتْ حرْبٌ ومنْ كانَ للْجُلَاّ
ومنْ كان في دارِ النَّبيِّ خليفَةً
…
كهَارُونَ من مُوسى، ومنْ بسَطَ العْدْلا
ومنْ كانَ مَوْلىً منْ يُوالي مُحَمَّداً
…
ومنْ كانَ أَسْمى في المنَاسِبِ أوْ أعْلى
فموسى وهارُونٌ كأحْمَدَ والرِّضا
…
عَليٍّ فهلْ من ثالِثٍ نَالَ ذا الفضْلَا
أخُوَّةُ خيْرِ النَّاسِ خيْرُ مزِيَّةٍ
…
فأيْنَ بِكُمْ عنْ هذه أوْضَحُوا السُّبْلَا
وأرْبَعَةٌ والمصطَفى خامًسٌ لهُم
…
أفاضَ عليهمْ مرطهُ وتَلا فَصْلَا
وفيهم عليُّ بالكِسَاء مُلَفَّعاً
…
وفي سورة الإنسان أمْداحُهُ تُتْلى
وإني لأعْطي أوَّلَ الفضْل رُتْبَةً
…
وإنْ لامَنِي قوْمٌ لأوَّل منْ صلَّى
قوله رحمه الله: (ومن كان في دار النبي خليفة) إلى آخر الأبيات، إشارة إلى علي بن أبي طالب
رضي الله عنه. ذلك أن علياً أول من آمن بالله من الناس بعد خديجة، وأول من صلى مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم معها، وأنه صلى القبلتين، وهاجر وشهد (بدراً) و (حديبية) وسائر المشاهد،
وأبلى يوم (بدر) و (أُحُد) و (الخَنْدَق) و (خَيْبَر) بلاء عظيماً، ولم يتخلف عن مشهد شهده الرسول
عليه السلام إلاّغزوة (تَبُّوك)، فإن رسول الله صلى الله عليه خلفه على (المدينة) وعلى عياله، وقال
له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي
بعدي)، وقال له عليه السلام:(أنت أخي وصاحبي).
وآخى بينه وبين نفسه صلى الله عليه وسلم يوم آخى بين المهاجرين والأنصار، وقال له:
"أنت ولي كل مؤمن بعدي، وأنت الذائذ عن حوضي يوم القيامة، تذود عنه الرجال كما يُذادُ البعيرُ
الصادي". وزوَّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة في سنة اثنتين من الهجرة، وهي سيدة
أهل الجنة ماخلا مريم ابنة عمران، وقال لها:"زَوَّجْتُكِ سيِّداً في الدنيا والآخرة" وفضائله رضوان
عليه كثيرة لا تحصى، وخصوصية بالنبي صلى الله عليه وسلم مشهورة. وكان رضي الله عنه يقول:
"أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يقولها أحد غيري إلاّ كذَّاب". وروى عن جماعة من الصحابة عن النبي
عليه السلام انه قال يوم (خيبر) لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله،
ليس بفرار يفتح الله على يديه. ثم دعا لعلي وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه الراية، ففتح الله
عليه. ولما نزلتْ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً وحسناً وحسيناً، وهو في بيت
أم سلمة، فأقعد علياً عن يمينه، وفاطمة عن شماله، وحسناً وحسيناً في حجره، وألقى الكساء على
نفسه صلى الله عليه وعليهم، وقال:"اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرَّجس وطهرهم تطهيرا"
وإلى هذه الفضائل أشار أبو العباس في أبياته المذكورة.
وقال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله، ومكانه من العلم
والفَضْل والوَرَع مَعْلُومة: كُلُّ منْ نازَعَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خلافته، فهو باغ. على هذا عهدت
مشايخنا لقوله عليه السلام: "تقتل عمار الفئة الباغية" يعني عمار بن ياسر بن عامر العبسي. وقتل
عمار رحمه الله (بصفين) وكان مع علي رضي الله عنه، ووُجِدَ مقتولاً على باب سرادق معاوية.
وأتى يومئذ رجلان إلى معاوية يختصمان في رأسه وسلبه، أحدهما: أبو الغادية الجهني، والآخر هوى
بن ماتع. وقيل هوى بن جزء طعنه أبو الغادية واحتزّ هوى رأسه، ويقال إنهما اختصما في رأسه،
وسلمه إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فقال لهما، اخرجا عني، فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "أولعت قريش بعمار يا ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار".
وفي مقتل عمار يقول الحجاج بن غزية الأنصاري من أبيات رثاه بها:
قال النَّبِيُّ له تَقْتُلْكَ شِرذمةٌ
…
سِيطَتْ لُحومهمُ بالبَغْي فُجَّارُ
فاليَوْمَ يعلمُ أهلُ الشام أنهمُ
…
أصحابُ تلك وفيها العارُ والنارُ
وكان أهلُ الشّام يسمون قتل عمار فتح الفتوح. وفي عمار قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقد سمع رجلاً من المهاجرين قد أغلظ عليه في شيء، فقال: "عمَّار جِلْدةُ ما بين عيني وأنفي فمن بلغ
منه فقد بلغ مني" وأشار بيده فوضعها على عينيه.
وقال أبو العباس في طريقة الصوفية:
حدَّثني الشوقُ عنْ تباريحي
…
أن ضنى الجِسْمِ صَيْقَلُ الرُّوحِ
وأنَّ صُفْرَ الوُجُوه مُسفرَةٌ
…
تُشْرِقُ في الليل كالمَصابيح
وأنَّ رَوْحَ الإلهِ مُطَّلِعٌ
…
على المحبينَ في التراويح
أفْلَحَ عبدٌ جَفا الكرى سَهَراً
…
بين سجودٍ وبين تسبيح
خلا بمولاه غيرَ مُلتَفِتٍ
…
في الجمْعِ للفَرْقِ غيرَ تَلْوِيح
أصبح منْبتُ سيْرهِ فَلَه
…
منْ لُطْفِ مَوْلاه أيُّ تَرْويحِ
شاهدٌ ماغَابَ في سَريرَتِه
…
وطَارَ إحساسُهُ معَ الرِّيحِ
لا مثْلَ منْ لُوِّنَتْ مَسَالِكُه
…
فَتاهَ بينَ المَهَامهِ الفيحِ
عرِّضْ بالحقِّ في المثال لهُ
…
والفوْزِ، لوْ نالَهُ بتصريح
موْلاي إنِّي علَيْكَ مُعْتَمدٌ
…
فجُدْ بفضْلٍ عليَّ ممْنوحِ
ونجِّني فالذُّنوبُ مُغْرقتي
…
وأنتَ نجَّيْتَ تابِعي نوحِ
وفي المعنى أيضاً يقول:
أجيرَةَ بيتي مالَكُمْ بِكُمُ السَّهوُ
…
أمَرَّلكمْ شَجْوٌ وطابَ لي الشَّجْوُ
خَدعْتُكُم واسْتَأثرَ القلبُ بالهَوى
…
لكُم مُرّهُ البادي وفي كبِدي الحُلْوُ
أبَتْ كَبِدُ المشتاقِ أنْ تَسْأمَ الجَوَى
…
ولو سئمتْ لم يَسْأم الجَسَدُ النِّضْوُ
لقدْ سَقَمَتْ أهْواؤُكُم فَزَلَلْتُمُ
…
ولوْ صحَّتِ الأهْواءُ لا تّصَلَ الخطْوُ
وَليَ سيِّدٌ لمْ يَعْلَم النَّاسُ كُنْهَهُ
…
قريبٌ فإنْ هَاجَرْتُهُ بعُدَ الشَّأوُ
جَوادٌ إذا فرَّ المُسِيءُ بِذَنْبِهِ
…
إليه فأدْنى جُودِهِ الصَّفْحُ والعَفْوُ
تشاغَل أقْوامٌ بِخِدْمَةِ عِزَّةٍ
…
فعَزُّوا وأعْلى عزَّهُمْ ذلكَ القَتْوُ
رَدَدْتُ بِحُبِّيهِ على النّاسِ حُبَّهمْ
…
وهلْ كنْتُ أسْتَسْقي وفي يَدِيَ الدِّلوُ
وما سرني أنْ أملكَ الأرضَ كُلّها
…
وأنَّ فُؤادي منْ مَحَبَّتِه خِلْوُ
ولوْ أنَّ قلبي في يَدَيَّ بلا هَوى
…
لجُنَّ فما ظَنِّي به وهوَ الحشْوُ
إذا هاجَ لي شَوْقٌ تَيَمَّمْتُ نَحْوَه
…
على أنَّ منْ أحْبَبْتُ ليسَ لهُ نَحْوُ
وليسَ لَهُ أيْنٌ وليسَ له لَدُنْ
…
وليسَ لَهُ مثْلٌ وليسَ لهُ صِنْوُ
أمَثِّلُهُ في خَاطري فيفُوتُنِي
…
وبالقَلْبِ منْ عِرْفانهِ التِّيهُ والزَّهْوُ
وقدْ طارَ حتَّى قرَّ في مطْلَعِ الهُدى
…
فسَوْداؤُهُ حَضْرٌ وأضْلاعُهُ بَدْوُ
أُوَاصِلُهُ في كُلٍّ خَطْرَةِ خاطِر
…
ولا لعبٌ عندَ الوِصال ولا لَهْوُ
وُقُوفاً على سُفْلِ البِساطِ تَجِلَّةً
…
ولوْلا انْبِساطي كانَ موقِفيَ العُلْوُ
فواحسْرَتي إنْ خابَ مَسْعايَ عنكُم
…
ولوْ خابَ أيضاً ما اعْتَرى حُبِّيَ السَّهْوُ
ولا كهذا فَلْيَهْوَ منْ كانَ ذا هَوى
…
وإلاّ فحُبُّ النَّاسِ أكْثَرُه لهْوُ
سُقيتُ الهَوى صِرْفاً فَعربَدْتُ صاحِياً
…
ولكنَّ صحْوي دُونَ أيْسَرِهِ النَّشْوُ
حَنَانَيْكَ إنَّ الحُبَّ كَأْسٌ شَرِبْتُها
…
على ظَمَأ صَفْواً فكَدَّرني الصَّفْوُ
فدُونَكُمُ يا أيُّها الشَّرْبُ فانعَموا
…
دُموعي لكم خمرٌ ونَوحي لكم شدْوُ
قال أبو إسحاق:
انتهى ما اختلسْتُه واخْتَطَفتُه، ومن أزْهارِ كَلامِهِ واقْتطَفْتُه. ويا حُسْنَها من أزَاهِر، وبدائِعَ وجَواهِر.
أفْكارٌ وألْبابٌ، أحْسَنُ منْ ساعَاتِ الوِصالِ والاقتِراب، بعدَ يَأْسٍ منَ الأحْباب، أُمْنِيةُ راغِبٍ، وعَقِيلَةُ
مُبْتَغٍ وطالِبِ. موالك للقلوب والأسماع، وأفتَنُ منَ الحَسْناء سافرَةَ القناع:
لوْ كنَّ في فَلَكٍ لكُنَّ كواكِباً
…
أوْ كُنَّ في وجْهٍ لكنَّ عُيُونَا
وكان الأديب أبو العباس رحمه الله فريد الإبداع في زمانه، معروفاً بانطِبَاعه وإتْقانِه، ولَهُ في أنواع
المديح قصائدُ سُلْطَانيات، تُوليكَ كثْرة طائل، وتدلكَ على أنْبَلِ قائل. بصير بمعاني اللغاتِ والآداب،
كثير التَّنْديرِ في كَلَامِه والإغرابِ، وقدْ أثْبَتُّ في هذا الديوان من شعره المليح المعاني، السَّالمِ المبَاني،
ما يَسْترِقُّ القُلوبَ والنفوس، وتتيه بحُسْنه المَهَارِقُ والطُّرُوسُ.
وُلِدَ لعشر ليال خلت من شهر رجب الفرد سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، وتوفي رحمه الله ضحى
يوم الثلاثاء الثالث عشر لجمادى الأخرى سنة خمس وستمائة.
وقال الفقيه الوزير أبو الربيع سليمان بن موسى الكَلَاعي البلنسي من أهل عصرنا، في مدح
الرسول وأزواجه، والصحابة وأهل البيت، وسَمَّى هذه القصيدة: "نَتِيجةُ الحُبِّ الصَّميمَ وزَكَاةُ المنثُور
والمنْظوم" نفعَهُ الله بما صَنَّفَ ونظم في أهل البيت، وفي تَعْزِيزِ نبينا المصطفى المكرم، وفي
أزواجه، أمَّهاتِ المؤمنين
الخَفَرات الطَّاهرات، العَفائف المكرمات، وبلغه من إحسانه الجزيل ما أمَله،
وتقبل دعاءه وعمله فقال رضي الله عنه وأجاد في النسق والنظام، وضمّن أولها ذكر مثال نعل النبي
عليه السلام:
يا مَنْ لِصَبٍّ يرى أشْجَانَه النظرُ
…
مَهْمَا تَبَدَّى له من حُبِّه أثَرُ
يَفي لهُ الصَّبر عند النائبات فإن
…
يَلُحْ لهُ أثرٌ لمْ يبْقَ مُصْطَبِرُ
وذاكَ غيرُ ذميم من مواقِعِهِ
…
إذا تعقَّبهُ التنقيحُ والنَّظَرُ
فلا يُبالي الشَّجَى وَجْداً يُعَالجه
…
في ذاكَ لوْ طارَ من حافاتِه الشَّرَرُ
ولا يرْوي اعتذاراً عن لواعِجِه
…
فما عن الرُْشد والتوفيقِ معتذرُ
هدىً أضَل عزاء المستهامِ بِما
…
رأى فيَا لِضلالٍ بالهُدى يفِرُ
رأى مِثالاً لنعلِ المُصْطَفى فَهَفا
…
بِهِ النِّزاعُ وهَاجَتْ شَوْقَهُ الذِّكَرُ
وليْسَ نُكْرُ نزاع عند رُؤيَتِه
…
لكنْ قَسَاوَتُهُ في مثْلِها نُكُرُ
أعوذُ بالله من قلبٍ يُطالِعُها
…
فلا يُرى بأليمِ الوجْدِ ينْفَطِرُ
وحَاشَ للهِ أنْ تُهدى الضُّلوعُ على
…
أبْصَار آثارِ منْ حيزَتْ لهُ الأَثَرُ
مَن صَرَّحتْ بِمزايا فضْل سُؤْدَدِه
…
آيُ الكتاب وشادت مَدْحهُ السُّوَرُ
محمدٌ خيرُ خَلقِ الله كُلِّهِمُ
…
مَمَّنْ نمَت يمَنٌ أوْ من نمت مُضرُ
وغيرهم من جميع العالَمين فَلا
…
يَزِغْ بِذي العقْلِ عنْ سمْتِ الهُدى البَصَرُ
فَيا مُطارَ الحشَى شوقاً لرُؤيته
…
والعينُ تشْتاقُ مهْما أبْصرَ الأثَرُ
مثالُ نعْلِ النبي المصطفى عِوَضٌ
…
منْ نعْلِهِ حينَ حالتْ دُونَهُ الغِيَرُ
فمَرِّغ الشَّيْبَ في ذاكَ المِثَالِ عَسى
…
بِذاكَ شوْبُكَ للأعْمالِ يُغْتَفَرُ
واسْتَشْعِرنْ لَثْمَها في لَثْمِ مَمْتَثِلٍ
…
به حذاءً لهَا أَودى به العُصُرُ
ففي مُشابهِ آثارِ الأحِبَّةِ مَا
…
يُرَى به وجْدُ مَشْغوفٍ ويَسْتَعِرُ
واركبْ من الشَّوقِ نحو المصطفى مَتْناً
…
شَجْوَ الضلوع فلا يَفْنى ولا يَذَرُ
وَادْأَبْ على ذكَ واصْبِرْ تجنِ خيْرَ جَنىً
…
في جَنَّةٍ إنَّما يَحْظَى بها الصَّبرُ
وفي الصلاةِ عليه أيُّ ما وَطرٍ
…
فلا يَعُوقَنْكَ عنْ إدْمانِها وَطَرُ
واذْكُرْ مواعدَهُ الحُسْنى لِمُنْتهِجِ
…
سَبيلها يتَقَرَّاها ويَغْتَفِرُ
ونادِ في كلِّ نادٍ إذْ تمُرُّ بِهِ
…
نِداءَ منْ أُحْكِمَتْ منْ حُبِّهِ المِرَرُ
صلَّى الإلهُ وأهلُ الأرْضِ كُلُّهُمُ
…
معَ السماء وشمسُ الأُفْقِ والقمرُ
والأنْجُمُ الزُّهْرُ منْ أَعْلى معَارِجِها
…
والنورُ والظُّلُماتُ البُهْمُ والغُرَرُ
والوحشُ في القَفْرِ والطيرُ المطيفَةُ في
…
جوِّ السماء تعالى ثمَّ تنْحَدرُ
وكلُّ ما ضمَّنَهُ عُلْوٌ وضُمِّنَه
…
سُفْلٌ من الخلق مما ليس يَنْحصرُ
أزْكى صلاةٍ وأنآها مَدى شرَفٍ
…
بكُلِّ معنى لَدى الإعْياءِ يُعْتَبَرُ
كالشَّمسِ في أُفُقٍ كالمِسْكِ في عَبَقٍ
…
كالدُّرِّ في نسَقٍ بلْ دُونَها الدُّرَرُ
على البَشير النَّذيرِ المنْتَقى كَرَماً
…
من مَحْتِدٍ طابَ منْهُ الخُبْرُ والخَبَرُ
منْ مَعْشَرٍ إنَّما هُمْ منْظراً بَشَرٌ
…
لكنْ مزاياهُم يُعْنى بِها البَشَرُ
على المبارك منهم مذهباً وأباً
…
وشيمةٌ شأْنُها في الذِّكْرِ مُسْتَطِرُ
على الَّذي ابتهجَتْ سُبُلُ النَّجَاة به
…
على الذي خُتِمَتْ فَخْراً به النُّذُرُ
على ابنِ آمِنَةَ المَرْجُوِّ نائُلُهُ
…
يوْمَ القيامَةِ إذْ يُهْدى لَهُ الظَّفَرُ
على المُؤَثِّل دُونَ الأنبياء إذا
…
جَدَّ الحسابُ وأَدَّتْ فَيْحَها سقَرُ
على الذي كَلَّمَتْهُ الشاةُ مُشْعِرَةً
…
بِسُمِّها فانْثَنى عنْ قصْدِها الضَّرَرُ
على الَّذي لمْ تُهْدِ تَحِيَّتها
…
إليه مَهْمَا رَأَتْهُ الأرضُ والشَّجَرُ
على الذي كان يُسْتَسْقى الغَمَامُ به
…
فَتَسْتدرُّ بِهِ منْ صَوْبِه الدُّرَرُ
على الذي نبعتْ بالرَّيِّ أنْمُلُهُ
…
للوارِدِينَ فهالَ الوِرْدُ والصَّدرُ
فَيَا لِيُمْنِ مُحَيّاً إنْ سألْتَ بِهِ
…
في الجَذْبِ جاءَكَ وَفْقَ البُغْيَةِ المَطَرُ
ويا لَيُمْنى ويُسْرَى ما عَطَاؤُهُما
…
في أَعْسَرِ العُسْرِ إلَاّ اليُمْنُ واليُسرُ
وضُوعِفتْ بركاتُ الأرْض فانْبَعَثَتْ
…
مَشاهِبُ الخِصْبِ بالأَرْزاقِ تَبْتدِرُ
على الذي أَسْعَدَ الأيامَ مَبْعثُهُ
…
فاستشْعرتْ طيبَها الآصالُ والبُكَرُ
على الذي حُبُّهُ موت بِمُخْلصه
…
على مشارع صَفْوٍ مَا بِها كَدَرُ
صلاةُ صدق وإخْلاصٍ إذا صَدَرَتْ
…
عن الضمير فلا ريْبٌ ولا سَدَرُ
تزُورُ تُربتَه دأْباً نَوَافِحُها
…
فيسْتَمِدُّ شذاها الرَّوضُ والزَّهرُ
إذا انْبَرَى رائحٌ منها يُيَمِّمُها
…
بَاراهُ في قصده المَحْمودِ مُبْتَكِرُ
فلا تزالُ بها الآذانُ عَالِيَةً
…
يَحْدوبِها السَّفْرُ أوْ يحْلو بها السَّمرُ
بلا انقضاءٍ ولا عدٍّ ولا أَمَدٍ
…
ما غرَّدَ الوُرْقُ أوْ ما أوْرَقَ الشَّجَرُ
وَبعده صلواتُ الله عَاطِرَةً
…
على الصَّحابَة تَتْلُو زُمْرةً زُهَرُ
جماعة تَحْسِبُ الصديقَ أوَّلَهُمْ
…
وَتِلْوُهُ في تناهي فضْلِه عُمرُ
وللشَّهيد ابن عَفَّانٍ مَكانتُه
…
وفي عَلِيٍّ أثارتْ سِرَّهَا الأثَرُ
وللزُّبيرِ حوَارى النبي سنَا
…
جَلَالةٍ هي في عيْن العُلا حَوَرُ
وطَلْحَةُ الخيْرِ لا تُهْمِلْ فَضَائِلَه
…
وفيضَ كفٍّ لَهُ بالجودِ تَنْفَجِرُ
ومِلْ إلي الخَالِ سعْدٍ فَهْوَ مَنْ قَصَفَتْ
…
بهِ الأكَاسِر قَصفاً والقنا كِسَرُ
في موقفٍ يُعْذَرُ الفرَّارُ فيه فَما
…
ثناهُ عن هولِهِ جُبْنٌ ولا خَوَرُ
والمُسْتَقِلُّ بِشُورى القومِ مُؤتَمِناً
…
على الخِلافَةِ يأْبَاهاً ويَنْشَمِرُ
ذاكَ الأمينُ ابنُ عَوْفٍ فارْضَ عَنْهُ وَعَنْ
…
جَمِيعهمْ فَهُمُ أهلُ الرِّضى الزُّهُرُ
ثمَّ اذْكُرنْ عَامِراً واعْمُرْ بِمِدْحَتِهِ
…
أَسْماعَ كلِّ عِبادِ الله ما عَمَرُوا
ذاكَ الذي طلَّقَ الدُّنيا وزُخْرَفَها
…
فما تعَلَّقَهُ منْ غمْرها غُمَرُ
فيالَهُ منْ أميرٍ باتَ مُدْرَكُهُ
…
في كلِّ ما كانَ يأْتِيهِ ويَأْتَمِرُ
وما تأخَّر عنْ إهْمالِ واجِبِه
…
ذِكْرُ ابنِ زيْدِ ولكنْ قبْلَهُ أُخَرُ
هُمُ الأُلى سَبَقَتْ ذكراهم وَهُمُ
…
أهْلُ السَّوابِقِ لا ميْنٌ ولا هَذَرُ
وَكُلُّهمْ وسَعيدٌ عاشرٌ لَهُمُ
…
لَايَدَّعي شَأوَهُمْ في الفخْرِ مُفْتَخِرُ
وأمْرُ حمْزَة لا يَخْفى على أحدٍ
…
ولا مَكَانَتُهُ في الدِّينِ تُفْتَقَرُ
عمُّ النَّبيِّ وليْثُ الحرب ما بَرِحَتْ
…
تَشْقَى بأسْيافِهِ الأعْداءُ والجذُرُ
ومَدْرُهُ البَأْسُ عبَّاسٌ وموقِفه
…
مُسْتسْقيا وغَزَالَى السُّحْبِ تَنْهَمِرُ
ساقي الحجيج وعَمُّ المصطفى وَأَبو ال
…
أمْلَاكِ تُنْبِيكَ عنْهُ الكُتْبُ والسِّيَرُ
وفي بَنِيهِ مَعَاني المَجْدِ أجْمَعها
…
قدْ قَرَّ في كلِّ سمعٍ عنهم خَبَرُ
وكُلُّ أبناء منْ حَبَّرْتَ مِدْحَته
…
لهُ بُرُودُ ثَناءٍ دونها الحِبَرُ
ولا كَسِبْطَيْ رسولِ الله منْ أَحَدٍ
…
وهلْ كفاطِمَةٍ من صفها بَشَرُ
ومَنْ دنَتْ مِنْ رسول الله نِسْبَتُهُ
…
دُنُوُّها لهُمُ لمْ يَخْتَطِرْ خَطَرُ
وكُلُّ ذي رَحِمٍ منه فإنّ لهُ
…
بذاكَ فَخْراً قُواه ليْسَ يَنْبَتِرُ
وسائرُ الصَّحْبِ والأنْصارِ أَوَّلُهُمْ
…
أهلُ الثَّناءِ فهم آوَوْا وهُمْ نَصَرُوا
أيَّامُهُمّ بَيَّضَتْ وجْهَ النبي رضىً
…
وَسَوَّدَتْ أوْجُهَ القوْمِ الأُلى كفَروا
وَإِنَّهُمْ لَخيارٌ فارْعَ حَقَّهمُ
…
فَسُنَّةُ الحَقِّ ألَاّ تُهْمَلَ الخِيَرُ
وانظِمْ إلى سِلْكِ منْ تُهْدي الثَّناءَ لَهُ
…
أزْواجَهُ فلهَنَّ الشَّأْنُ والخَطَرُ
خديجَةُ البَرَّةُ العُلْيا مَكَانَتُها
…
وزيرَةُ الصِّدقٍ في الإسلام والوَزَرُ
وأُمُّ كُلِّ بَنيه غَيْرُ منْ وَلَدَتْ
…
عَقيلةُ القبْطِ أدَّى ذلكَ الأَثَرُ
وهْيَ المُحَيَّاةُ منْ جبْريلَ مُبْشِرَةً
…
بِبَيْتِ دُرٍّ فَحُمَّتْ عِنْدَها البَشَرُ
وبَعْدَها ابنَةُ أَعْلى النَّاسِ منْزِلَةً
…
عِنْدَ الرسول بَما أَعْلاهُ مُخْتَبَرُ
فتِلْكَ عائِشَةُ المشهورِ موضِعُها
…
من حُبِّه فاعْذِرُوها إنْ عَرَا أَشِرُ
وليسَ من شَأْنها لكن مَكَانَتُها
…
حَرى بِهِ فَلْيُزايِلْ صَدْرَكَ الوحَرُ
عَلامَةُ الدِّين أُمُّ المؤمنين متى
…
يَحْضُرْنَها العِلْمُ يَضْمَنْ سَبْقَها الحضرُ
وَحَفْصَةُ بنتُ فاروقَ الهُدى فَلَهَا
…
سَعْيٌ منَ السِّرِّ عند الله مُدَّخَرُ
صَوَّامَةٌ ونَهَارُ الصيف مُحْتَدِمٌ
…
قَوِّامَةٌ والدُّجى مُرْخَى لَها الأُزُرُ
وكُلُّ أزْواجِه بالدين مشتملٌٌ
…
وكلُّهنَّ بتقوى الله مؤتزرُ
وكلُّهن لنا أُمٌّ مباركةٌ
…
منْ كُلِّ منْ ضَمَّت الأبياتُ والحُجُرُ
مُباركاتٌ تَوَلِّى الله معتَلياً
…
تَطْهيرَهُنَّ فَهُنَّ الصَّوْنُ والطُّهُرُ
وإنْ غَدَوْنَ احتقاراً للْحُلَى عُطُلاً
…
فَخَيْرُ زينَتهن الدِّين والخَفَرُ
وما حُلاهُنَّ بالأَصوافِ مُدْركَةٌ
…
وكلُّ ما طال منها فهو مُخْتَصَرُ
كذاكَ وصْفُ الصِّحابِ الغُرِّ تَعْجِزُ عَنْ
…
أَدْناهُ ما نَظَموا منه وما نثَروا
فليسَ إلَاّ الرِّضى عَنْهُمْ وصدْقُ هَوى
…
فيهم تَوَفَّرَ عن إِخْلاصِه العِذَرُ
وذَكِّرْ ما ساعد الإمْكانُ ذاكرةً
…
فالعَجْزُ من بعد بَذْل الجَهْدِ مُغْتَفَرُ
وليسَ عجزٌ ولَكِنْ شَأْوُ حَقِّهمُ
…
شيءٌ يُقَصِّرُ عنه الطولُ والقِصَرُ
فيا لِساني وقَلْبي ما يَعُوذُكُما
…
عَمَّا يَحِقُّ لَهمْ عِيٌّ ولا حَصَرُ
أوتيتُما حسنَ إدْراكٍ فلا تنياَ
…
واجْرِيا لمدى باغيهِ مؤْتجِرُ
وبالِغا إنْ ونى بُعْدُ المَدى بِكُما
…
في الاجتهادِ فإعْذارُ الفتى عُذُرُ
وأيُّ عَتْبٍ على منْ رامَ مُجْتَهداً
…
مثْلُ الّذي رُمْتُما فاعْتَاقَهُ قَدَرُ
خُصَّا وعُمَّاً عسى ألَاّ يَفُوتَكُما
…
من الصَّحابَة لا أُنْثى ولا ذَكَرُ
وَكَرِّرا وأَعيدا أنتُمُ فئةً
…
غَيْثُ الرِّضى مُسْتَهِلٌّ كُلَّما ذُكِروا
واسْتَجْزِلِ الدُّخْرَ من إخلَاصِ حُبِّكَ يا
…
قلبي لهُم فَلَنِعْمَ الزادُ والدُّخْرُ
وفي الدُّعاءِ رجاءٌ لا يَخيبُ ولا
…
يغِبُّ مُرْتَقبٌ منه ومنْتَظِرُ
فاصْدَعْ به يالِساني ضارِعاً أَبَداً
…
ففي الضَّراعَةِ ما يُقْضى بِهِ الوَطَرُ
ويا إلهيَ أَمْتِعْني بِحُبِّهمُ
…
حتَّى يُعَمِّرَ بي أَحْشاءَهُ العَفَرُ
وجَازِ يا رَبِّ قلبي عنْ مَحَبَّتهمْ
…
عَفْواً يُزوِّدُني إذْ جَدَّ بي السَّفَرُ
واصرف عِنانَ اعتنائي نحْوَ خِدْمَةِ مَا
…
يُرْضيكَ عنْ زَلَلِي ما امْتَدَّبي العُمُرُ
كَمُلَ ما أَسْداهُ الفقيه العلم وألْحَمَهُ، ويا حُسْنَ ما أَنْشَأه ونَظَمَه منَ الثَّناء الجميل وتَمَّمه، ولقد سَلَكَ
سبيلاً لا يَعْدَمُ سالكَهُ ثواباً، ولا يزْدادُ من الله تعالى إلاّ دُنُوَّا واقتراباً، والله تعالى يَنْفَعُهُ بما قال، ويأ
جُرُهُ كما أطْنَبَ في الثناء على منْ يُحِبُّ وأطالَ، وكُلُّ ما ذَكَرَهُ منْ مناقِبِ الرسول عليه السلام
وأصحابه مَعْلُومٌ مشهور، وفي الكتب بالأسانيد الصحاح مذكورٌ، وجاء بالعشْرة رضي الله عنهم على
النَّسقِ الواجبِ، في الأماكن من الفضلِ والمراتِب، والسَّنن الذي اتَّفَقَ عليه الأئمة والعُلَماءُ المتقدَّمون
سرحُ هدْي الأُمَّة.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله في كتاب (الصحابة): وقف جماعة من أئمة السلف وأهل السنة في
علي وعثمان، فلم يُفَضِّلوا واحداً منهما على صاحبه، منهم مالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان
وابن معين. وأهل السُّنة اليوم على تقديم أبي بكر في الفضل على عمر، وتقديم عمر على عثمان،
وتقديم عثمان على علي، وعلى هذا جماعة أهل الحديث من زمن أحمد بن حنبل؛ إلاّ خواصّ من
جِلَّة الفقهاء، وأئمة العلماء، فإنهم على ما ذكرناه عن مالك ويحيى وابن معين. فهذا ما بين أهل الفقه
والحديث في هذه المسألة، وهم أهل السنة.
قال: وكان يحيى بن معين يقول: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقته
وفضله، فهو صاحب سنة. ومن قال أبو بكر وعمر وعلى وعثمان، وعرف لعثمان سابقته وفضله،
فهو صاحب سُنَّة.
قال يحيى بن معين: خَلَوْتُ بأحمد بن حنبل على باب عثمان بن مسلم فقلت: ما تقول؟ قال: أقول:
أبو بكر وعمر وعثمان.
وفي الحديث عن محمد بن طلحة عن أبي عبيدة بن الحكم عن الحكم بن جَحْل قال: قال لي علي
رضي الله عنه: لا يُفَضِّلُني أحدٌ على
أبي بكر وعمر إلَاّ جَلدْتُه جلد المفتري. وأنكر ابن معين قول منْ قال:
كُنَّا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم
نسكت. وتكلم فيه بكلام غليظ، لأن القائل بذلك، قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنة من السلف
والخلف من أهل الفقه. والأثر أن علياً أَفْضَلُ الناس بعد عثمان. هذا مما لم يختلفوا فيه، وإنما اختلفوا
في تفضيل علي وعثمان.
وقول أبي الربيع: (وللزبير حواري النبي) البيت، هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن
أسد ابن عبد العزيز بن قصي، وفي قصي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه، وهو حواريه، وابن
عمته صفية بنت عبد المطلب.
وقال عليه السلام: "الزُّبير ابن عمتي وَحوَاري من أمتى".
وقال عليه السلام: "لكل نبي حواريّ وحواري الزبير" وسمع ابن عمر رجلاً يقول: أنا ابن الحواري
فقال: (إن كُنْتَ ابن الزبير وإلَاّ فلا).
قال محمد بن السائب:
الحواري الخليل، وأنشد قول جرير:
أَفَبعْدَ مَقْتَلِهمْ خليلَ محمَّدٍ
…
تَرجُو العُيُونُ مع الرسول سبيلا
رقال غيره، الحواريُّ: النَّاصر، وأنشد:
ولكنه ألقى زمام قَلُوصِه
…
فيحيا كَرِيماً أو يَمُوتَ حواريا
وقال غيره: الحواريُّ: الصَّاحبُ المستَخلص. وقيل غير ذلك.
وأصلُ الحَوَرِ في اللغة: شِدَّةُ البياض.
وقوله: (وَمِلْ إلى الخَالِ سَعدٍ) يعني سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن وهب. وقيل:
وهب بن عبد مناف الزهري القرشي.
جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء سعد فقال:
أنت خالي، وكان سعد مجاب الدِّعْوة مشهوراً بذلك، لأن النبي عيه السلام دعا له وقال: "اللهم سَدِّدْ
سَهْمهُ وأجبْ دَعْوَتَه" وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وذلك في سرية عبيدة بن الحارث. وفي
ذلك يقول سعد:
ألا هَلْ جاءَ رسول الله أني
…
حَمَيْتُ صحابتي بصدور نَبْلِي
أذودُ بها عَدُوَّهمُ ذياداً
…
بكلّ حَزُونةٍ وبِكُلِّ سَهْلِ
فما يعتد رامٍ من مَعَدٍّ
…
بسهمٍ مَعْ رَسُولِ الله قبلي
ولما قُتِل عن راية المشركين من بني عبد الدار يوم أحد من قتل، أخذ اللواء غلام لهم أسود، وكان
اللواء قد انتكس فنصبه العبد وبربر يسُبُّ. رماه سعد بسهمٍ ُأصاب ثغرته، فسقط العبد صريعاً، فأقبل
أبو سفيان، وقال: منْ رَدَاهُ منْ رَدَاهُ؟ أي، منْ رماهُ، ومن أصابَه.
يقال: رَدَيْتَ الرجل، إذا رميته. وأكثر ما يستعمل رَدَيْتَ في رمي الحجارة.
وسعد والزبير جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، فقال لكل واحد منهما: "ارم فِداكَ أبي
وأمي" وكان سعد بن أبي وقاص من القُرَّاء وكان يكنى أبا إسحاق.
وقوله: (ذاك الأمين ابن عوف) يعني عبد الرحمن بن عوف. روى عن رسول الله صلى اله عليه
وسلم أنه قال: "عبد الرحمن بن عوف أمينٌ في السماء أمين في الأرض". وقال فيه عبد الرحمن: سيد
من سادات المسلمين. وفي الحديث فيما روى ميمون بن مهران عن ابن عمر أن عبد الرحمن ين
عوف قال لأصحاب الشورى، هل لكُم أن أخْتار لَكم، وأُشْفَى منها؟ فقال علي رضي الله عنه: أنا أولُ
منْ رضي، فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: "أنت أمينٌ في أهل السَّماء، أمينٌ في
أهلِ الأرض".
ومناقبهم رضوان الله عليهم أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تُحْصى وتُحْصَرُ، وهمُ الأولياءُ الذين
طلقوا الدنيا ثلاثاً، وتركوا أسباب زخارفها رِثَاثاً. آياتُ فضلِهم ظاهِرة، وأَقْمار شَرَفِهم وسؤدَدِهم نَيِّرَةٌ
باهِرةَ، ومراتِبُهمْ عالية، وأماكِنُهم هائلة، ورحمَةُ الله عليهم مُتَواتِرةٌ مُتوالية، رضي الله عنهم أجْمعين.
وقال الوزير الأجل أبو عمرو بن غياث شيخنا في رثاء ابن لأحد أعيان بلدنا:
هذي المَطالِعُ أيْنَ بَدْري السَّارِي
…
أَتُرى اعْتَراهُ مَدارُه بِسِرارِ
أومَلَّ مطلعهُ فَمَال إلى الثَّرى
…
يَسْري على فُلْكٍ به دَوَّارِ
هَيْهَاتَ أعْجَلَه الأُفُولُ بأفْقه
…
إنَّ الأُفولَ لآفةُ الأَقْمار
يا كَوْكَباً ما كانَ أَقْصَرَ عُمْره
…
وكذاكَ عُمْرُ كواكِبِ الأسْحَار
لَهْفي عليْكَ وقلَّ لَهْفي أن أرى
…
حَيَّاً وما غيْرُ البُكاءِ شِعارِ
ياموتَ كِبْدي قد أَخَذْتُ ولم تدَع
…
إلاّ أنينَ الحُزْنِ تحتَ دثار
أقْسمتُ لوْ أنِّي بمُقلةٍ نائم
…
ما إنْ أحسَّتْ غيرَ دَمْعي الجاري
بكَ كُنْتُ أُبْصِرُ يا بُنَيّ وها أنا
…
أعْمى وإنيِ منْ ذوي الأبْصارِ
بكَ كنتُ أسْطو أوْ أصولُ على العِدَى
…
في جُنْح ليْلٍ أوْ ضياء نَهارِ
بكَ كنُت مُنْتَصِراً فما أَسْلمْتَني
…
للنَّائبات ولا أضَعْتَ ذماري
لهْفي عَلَيْكَ وتمَّ لَهْفي دائماً
…
ضَعُفَتْ قوَايَ وَبُدِّدَتْ أنصاري
سلَبَتْكَ عَنِّي النَّائباتُ بسُرْعَةٍ
…
سلبَ النَّواظر منْ حِمَى الأشْفار
كُنْتَ المُهَنَّدَ حيْثُ شمَتُك لمْ تزَلْ
…
في نُصْرتي أمْضى من الأقْدار
والسّيفُ مهْما شيمَ رُدَّ لِغِمْدِهِ
…
معنى الغَمُودِ صيانَهُ الأشْفارِ
إنْ تَعْذِلُوني لَسْتُ أوَّلَ والِهٍ
…
أوْ تَعْذِرُوني قدْ بَدَتْ أَعْذاري
إنْ كُنْتُ معْتَرِفاً فمِنْ حُكْمِ الأسى
…
أوْ كُنْتُ أُنْكِرُ لمْ يُفِدْ إنْكاري
لوْ كانَ دَمْعي قدَّرَ بَعْضِ تَفَجُّعِي
…
أَغْنى الورى عنْ وابِلِ الأمطارِ
ياأيُّها المُغْتَرُّ منْ أَيَّامِهِ
…
دَارِ انْقِلابَ صُرُوفِها بكَ دارِ
لاتخْدَعَنْكَ بَوارِقٌ منْ أُفْقِها
…
وحَذارمنها ما اسْتَطَعْتَ حَذارِ
لا تخْدعَنْكَ من الزمانِ مَسَرَّةٌ
…
خُلِقَ الزَّمانُ مَساءَةَ الأحرارِ
وإليكِ يا دُنْيا فلسْتُ بِغافِلٍ
…
عَمَّا جَرى لبََنيك أوْ هُوَ جارِ
أَجَهِلْتِ ما تُطْوى عليهِ بِذي الورى
…
أوَ ما درَيْتِ بأنَّني بِكِ دَارِ
كَمْ كدْتِ منْ أَهْلِ العُلُومِ وغيرهِمِ
…
حتَّى منَ الرُّهْبَانِ والأحْبارِ
وفَتَكْتِ بالأبْطالِ دُونَ أَسِنَّةٍ
…
وَقَواضِبٍ فَتكاتِ ليْثٍ ضارِ
وإذا قَتَلْتِ بلَا قتالٍ لمْ يُفِدْ
…
كَسْبُ المُهَنَّدِ والقَنا الخَطَّارِ
دارُ الفَناء نَعُدُّها لِبَقائنا
…
عيْنُ المُحالِ بَقاءُ هذي الدارِ
دارُ الرَّحيلِ نعُدُّها لِقَرارِنا
…
كَيْفَ القرارُ بغيرِ دارِ قرارِ
مَكَّارَةٌ غَرَّارَةٌ غَدَّارَةٌ
…
وثَّابَةٌ سلَاّبَة الأعْمارِ
أكَّالةٌ أبْنَاءَهَا قَتَّالَةٌ
…
من غيرِ خَوْفِ مُطالبِ بالثَّارِ
دَرَّاكَةُ الأوْطارِ منْ مَطْلُوبِها
…
قدْ أمَِّنَتْ منْ طالِب الأوتارِ
إنْ أًَقْبَلَتْ فَلْتَرْتَقِبْ إدْبارَهَا
…
لا بُدَّ للإقْبالِ منْ إدْبارِ
أوْ أوْردَتْ فلْتَرْتَقِبْ إصْدارَهَا
…
لا بُدَّ للإيرادِ منْ إصْدارِ
وإذا صَفَتْ حِيناً تَشُوفُ صَفَاءَهَا
…
لِلْحَيْن بالأقدارِوالأكْدارِ
إسْكَنْدَرٌ طَوَّافُها جَوَّابُها
…
فَتَكَتْ بِه وبِجَيْشِهِ الجَرَّارِ
جَيْشٌ يَظَلُّ به الفَضاءُ مُعَضِّلاً
…
تَرَكَ الإكَامَ كَأنَّهُنَّ صَحَار
أيْنَ الفَراعِنة الَّذين تَمَرَّدُوا
…
وتَجَبَّروا سَفَهاً على الجَبَّارِ
أيْنَ الّذين إلى الرِّياحِ تعرَّضوا
…
صاروا لَنا خبَراً منَ الأخْبارِ
عَصَفَتْ علَيْهِم للمَنُونِ عَواصٍفٌ
…
نَقَلَتهُمُ منها لدَارٍ بَوَار
وهذه القصيدة طويلة، ذكربها أسماء أفناهم المَلَوان، وأخْلََق جَديدَهُم الجديدان، وعَفَّتْ آثارَهُم خُطُوبُ
الأزْمان، ولا يَبْقى على الخدمان، إلاّ القائم الدَّائم الواحدُ المَنَّان، وكُلُّ شيءٍ بعْدَه فمنقطع وفان.
وقوله:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره
البيت بكماله لأبي الحسن التهامي.
وقوله:
جيش يظل به الفضاء
البيت بكماله للنابغة الذبياني.
وقال أيضا:
رجاءٌ كانَ فانْقَطَعَ الرَّجاءُ
…
وللأشْياء حدٌّ وانْتِهاءُ
إذا سَبَقَ القضَاءُ فلا مرَدَّ
…
لِمَا فينا به سَبَقَ القَضاءُ
يُريدُ المرءُ أنْ يُوتى مُناهُ
…
ويأبى الله إلاّ ما يَشاءُ
فلا تغْتَرَّ بالدُّنْيا وذَرْها
…
فَعُقْباها وعُقْبَانَا فَنَاءُ
إذا ما افْتَرَّ عنْ أمَلٍ صَباحٌ
…
فرَاقِبْ مَابِهِ يَأْتي المَسَاءُ
فيا مغرور إنْ أثرى تنبَّه
…
فما تحتَ الثَّرى يعني الثواءُ
ويا مغرور بالفاني بعز
…
يسومُ الذُّل حيث هُوَ البَقَاءُ
سَيَفْنى كلُّ مَخْلُوقٍ سَريعاً
…
فلا يَبْقَى الخَلاءُ ولا الملَاءُ
ألا يا موْتُ حَسْبُكَ لمْ تدَعْ لي
…
بما يقْوى به عنْدي العزاء
سَلَبْت الرُّوح عن جِسْمٍ ضعيفٍ
…
فأيْنَ الرِّفْقُ أوْ أيْنَ الحَياءُ
إذا لمْ تَرْثِ يَوْماً للثَّكَالى
…
بَدَتْ منْكَ القَسَاوَةُ والجَفَاءُ
أَلَاهَلْ مُبْلِغُ مِنِّي سلاماً
…
يَهُبُّ مع الرِّياحِ به رَخَاءُ
إلى القبر الّذي في كُل حينٍ
…
يَطوفُ بِهِ المَكَارِمُ والعلاءُ
إلى شخْصٍ إذا أَنْصَفْتَ فيه
…
فَقُلْ فَضُلَ الرِّجَالَ به النساءُ
أسامِعَةً ندايَ إذا أُنَادي
…
شقيتُ وخبْتُ إنْ خابَ النِّداءُ
دعوتُ وما أرى لكِ منْ جَوابٍ
…
أيَنْبو عنْ مَسَامِعِك الدُّعاءُ
بَكَتْكِ إذاً عَدِمْت الأُنْسَ حتى
…
بكتْ لي الأرْضُ حُزْناً والسّماءُ
وكادَتْ شُهْبُهاتَنْقَضُّ ثَكْلى
…
لِتَبْكِيني وأَدْمُعُها دِماءُ
فكمْ أخْفَيْتُ حُبَّكِ في ضميري
…
وأمّا الآنَ قدْ بَرَحَ الخَفاءُ
ولوْ يُجْدي البُكاءُ عَلَيكِ شيْئاً
…
لكانَ لكُلِّ جارِحَةٍ بُكاءُ
ولوْ تُفْدى من الدُّنيا بشَيْءٍ
…
لقَلَّ بما حَوَتْهُ لَها الفِداءُ
وَلَوْ وقِيتْ بشيءٍ منْ رَدَاها
…
لَدامَتْ والنُّفوسُ لَها وقاءُ
ومنها:
فلَيْتَكِ في مَحَلك منْ فُؤادي
…
دُفِنت ولا يَطُولُ بيَ الشَّقاءُ
وإلاّ في سَوادِ العينْ منِّي
…
فعيني فيكِ أوْ قَلْبي سَواءُ
فإنَّكِ قدْ ثَويتهما زماناً
…
وليتَ يَدُومُ بيْنَهُما الثَّواءُ
ومنها:
عَجِبْتُ لهالَةٍ عَجِلَتْ أُفولاً
…
وَكَمْ عن .....
فَيا بعضي فقدْتَ الكُلَّ مِنِّي
…
وهَلْ للبَعْضِ عنْ كلِّ بَقاءُ
سأَدْعو الله في سِرٍّ وجَهْرٍ
…
مَحَلكِ حيثُ حَلَّ الأَوْلِياءُ
ونَفْسي سوفَ تُقْضى عنْ قريبٍ
…
وليس ِلحُزْنها فيك ِانْقِضاءُ
قوله:
يريد المرءُ أنْ يوتى مُناه
البيت بكماله لأبي الدرداء عويمر بن عامر وقيل ابن قيس الأنصاري رحمه الله، روى من حديث
ابن عيينة، ومن حديث إسماعيل بن عباس أيضاً، أنه قيل لأبي الدرداء: مالكَ لا تقول الشعر، وكل
لبيب من الأنصار قال الشعر. قال: وأنا قد قُلْتُ شعراً. فقيل: وما هو فقال:
يريد المرء أن يُؤتَى مناه
…
ويَأْبَي الله إلاّ ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي
…
وتَقْوَى الله أَفَضَلُ ما استفادا
كذا قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيره.
وقال الوزير أبو عمرو أيضاً:
سَحُّوا دُمُوعَكُمْ وإلاّ كَفْكِفُوا
…
فالمجد يبْكي والمَكارمُ تَهْتِفُ
والحُزْنُ جَلَّ كَأَنَّما هذا الورى
…
يعْقوبُ والمفْقودُ منهُ يوسُفُ
رُزْءٌ عَظيمٌ حلَّ حتَّى إنَّه
…
لِوُقُوعهِ اهتزَّ المَقامُ الأشْرَفُ
ياكَوْكَباَ أوْ يا هِلالاً اطْفَأَتْ
…
أنوارهُ ريحٌُ ولكنْ حرْجَفٌ
هَلْ تُكْسَفُ الأقْمارُ غيرُ كوامِلٍ
…
أعَلِمْتُمُ أنّ الأهِلَّةَ تُكْسَفُ
بَكَتِ السماءُ لفَقْدِهِ ونُجُومها
…
والأرضُ قدْ كادَتْ تَميدُ وترْجُفُ
ونَعَتْهُ إذْ سَمِعَتْ بهِ أمُّ القُرى
…
وبَكى الحطيمُ وزمزم ومُعَرَّفُ
والعالمُ الأعْلى يطيبُ بقبْرهِ
…
وعليه أفْواجُ المعالي عُكَّفُ
عجباً لقبْرٍ حلَّ منه ضريحُهُ
…
أنْ ليسَ يَنْبُتُ في ثراه الزخرفُ
لو كانَ بالدُّنْيا الذي بي أصبحت
…
منها المعالم وهْيَ قاعٌ صَفْصَفُ
ياليتهمْ دَفَنوه بين جوانحي
…
تسقيه فيها سَحْبُ دمعي الوكَّفُ
أوَ ليْسَ أهْلُ الأرضِ طُرّاً أُثكِلوا
…
فجُفُونُهُمْ أبداً نجيعاً تذْرِفُ
سُكَّانَ أَحْنَاءِ الجوانح ربعُكم
…
منكم خلاءٌ والأسى مُسْتَخلف
عيناي أفْقَدني الرَّدى إحداهما
…
أَوَ ليست الأخرى لدمعي تضعُفُ
ويدايَ أفقَدني الردى يُمْناهما
…
وليست الأخرى
…
تعطف
والقصيد طويل، ولفظه لفظ جزيل، ومعناه معنى جليل، والنظير في مساقه نزرٌ قليل. وكلام الوزير
الأجلِّ كلّه رفيع، ومنحاه بديع، يحلُّ من القلوب في صميمها، ويزين العيون بهجة بأزاهر آداب حياة
النفوس في نسيمها، كثيراً ما يأتي بالمبدعات، ويبرز من خاطره أنواع المعجزات، حتى كان ما أنزل
على الملكين أو مرتبط في مُجَاجِ أقلامه.
وفي رثاء أحد الأعيان يقول أبو الحسن بن عطية رحمه الله:
كذَبَتْ ظُنُونُكَ ما العَزاءُ جَميلا
…
أو ما رأيتَ َدمَ العُلا مَطْلُولا
هذا جَوادُ أبي شجاعٍ مُخْبِراً
…
أن الجواد انقضَّ منه قتيلا
ولَطالما لَبِسَ الدُّروعَ غَلائلاً
…
ولطالما جَرَّ الرّماحَ ذُيولا
وسَرى إلى الغاراتِ وهْي كتيبة
…
مِلْء الفضاء فَوارِساً وخُيُولا
واسْتَقبَلَ الزَّمَنَ البَهِيم فَلمْ تزلْ
…
أيَّامُهُ غُرَراً به وحُجُولا
حتى اسْتَفاضَ عليه بَحْرُ حِمامِه
…
يَرْبَدُّ فيه أَسِنَّةً ونُصُولا
في مأزِقٍ ضنَْك المسالك رَتَّلَتْ
…
فيه الظُّبَى سُوَر الرَّدى تَرتيلا
حَامَ الكُماةُ فكَرّ كَرَّةَ ضيغمٍ
…
لم يرْض إلا السَّمْهريَّة غِيلَا
لَبِسَ الشهادَةَ حُلَّةً حمراء منْ
…
عَلَقٍ تَعُمُّ السَّامِريّ فُضولا
يا شَدَّ ما اتَّخَذَ المنية خِلَّةً
…
منْ بعْدِ ما اتَّخَذَ الحُسامَ خَليلا
وأجالَ عادِيةَ الجيادِ مُحَارباً
…
وأذالَ أعْناقَ التِّلادِمُنيلا
يا رَاحِلاً رَكِبَ الحِمَامَ مَطِيَّةً
…
هَلْ تَرْتَجي بعْدَ الرَّحيلِ ٍقفولا
غَادَرْتَ مَعْمُورَ المَكارِمِ بَلْقعاً
…
وتَرَكتَ رَبعَ المَعْلُوّاتِ مَحيلاْ
إنْ كُنْتَ وَدَّعْتَ الحَياةَ فإنَّما
…
ودَّعْتَ داءً في القلوب دخيلا
إنْ كانَ واراكَ الصَّفيحُ فإنَّما
…
وارى رَقيقَ الشَّفْرتينِ صقيلا
أزْرى بهِ طُولُ الضِّرابِ وغادَرَتْ
…
في مضْربيه الحادثاتُ فُلولَا
أمَّا الأنامُ عُيُونُهم وقُلُوبُهم
…
فلقد مُلئنَ مَدامِعاً وَغليلَا
عِنْدِي حديثٌ عنْ وجيبِ ضُلُوعهم
…
لوْ كنت تُصْغي للحَديثِ قليلا
لمْ تبقِ منْ نطفِ المَدامعِ قَطْرةً
…
إلاّ وراحَ مَصُونُها مَبْذُولا
مازِلْتَ صَبَّاً بالشهادةِ في الوغى
…
حتى وجدْتَ إلى الوصال سبيلا
فبكى الحصانُ الأعْوَجِيّ تَحَمْحُماً
…
والهُنْدُ وانيّ الجُرازُ صليلا
واغرورقت عينُ السَّماءِ ورُبَّما
…
رفعتْ كواكِبُها عليكَ عويلا
وتَغيَّر الصُّبْحُ المُنيرُ فَخِلْتُهُ
…
ممَّا تَسَرْبَلَ بالشَّحوبِ أَصيلا
ياحسرةً نفتِ الرقادَ وأَطْلَعتْ
…
للشَّيْبِ في رأس الوليد نُصُولا
ما كانَ أجْدرَنا لمَصْرَعِ أرْقم
…
أنْ تَغتدي بي حيثُ حلَّ حُلُولا
أببعده نَبْغي الحياةَ إذنْ فلا
…
نَقَعَ م البُكا منَّا عليه غليلا
قُلْ للمؤمل كُفَّ عنْ شَأوِ المُنى
…
رمت المنُونُ فأصمَتِ المأمولا
واهْتِفْ بَمَنْ رَكِبَ السُّرى نَسْراً فَمَا
…
تُجْدي السُّرى بعد الوزير فتيلا
خَلَعَ ابنُ لَبُّونٍ ثيابَ حَياتِهِ
…
فاخْلَعْ وجيفاً بعْده وذميلا
يا حامِليه إلى الثَّرى رِفْقاً به
…
فالمجدُ أصبح للثَّرى مَحْمولا
خُضُّوا به قلبي الشجيَّ لفقدِه
…
ولْتَجْعَلُوه من الضريح بَديلا
أوْ فاكفليه يا سماءُ فإنه
…
مااعْتادَ نجْمٌ في سِواكِ أُفولا
كان الشِّهاب المستضيء فلم يَنُبْ
…
عنْ نُوره نور السماك دليلا
كان الغمامَ المُسْتَهل فما لنا
…
نشْكو وإنْ همت السحاب مُحُولَا
عَظُمَ المُصابُ وقدْ أُصيبَ بَمَعْرِك
…
أخذَتْ بهِ منْهُ العُداةُ ذُحولا
والرُّزْءُ ليسَ يَحُلُّ أوْ يُلْفِي الذي
…
أَصْماه سهمُ الحادِثاتِ جليلا
أين الذي ْهُدِمَتْ صَوارِمُه الطَّلى
…
وغدا بتشْييدِ العلاءِ كفيلا
أيْنَ الذي مَلَكتْ حُلاهُ نَواظِراً
…
ومَسامِعاً وقرائحاً وعُقُولا
وسَرى فَسَميْنا النجوم حَبّا حَبَا
…
وحَباً فَسَمَّيْنا الغمامَ بَخيلا
من ذاْ يَسُدُّ مَكانَه في غارَةٍ
…
تَرَكَتْ سوابقها الحزُونَ سُهُولا
أمْ منْ يُنُوبُ منابَه لحوادث
…
تَذَرُ العَزيزَ بحكمهن ذليلا
أوَ لَمْ يكن يغشى الحُروبَ منَازِلاً
…
فيشبُّها بحُسامه مسْلُولا
أَوَ ما غَدا بِجياده فتَبَخترت
…
مَرَحاً وَرَجَّعَت الغناءَ صهيلا
ما بالُهُ نبَذَ السَّوابح والقنا
…
وأقامَ عنْ شُغْلٍ بها مَشْغولا
ما بالُه تَرَكَ الجُفونَ سَحائباً
…
ما بالُه تركَ الجُسُومَ طُلُولا
يا دَهْرُ أما غِلْتَ منه مُثَقَّفاً
…
لَدْنَ المِهَزِّ وصارماً مصقولا
يا قبرُ كيفَ وسعت منه سحابة
…
وَطْفاء ساجية الذُّيولِ هَطُولا
قدْ زُرْتُ موضِع قبره فكأنّما
…
قابَلْتُ منه روْضَةً وقَبُولا
ونشرْتُ حرَّ ثنائهِ فكأَنما
…
عاطيْتُ منهُ السامعين شَمولا
ما رَاعَنا موْت الوزير فلمْ يزَلْ
…
حَيّاً لِمَنْ يَتَأَوَّلُ التَّنْزيلَا
لكِنْ جَزِعْنا للفراقِ وقدْ نَوى
…
عَنَّا إلى دارِ القرارِ رَحيلا
الله أنْزلَهُ الجِنَانَ ومَدَّ منْ
…
رضْوانه ظِلاًّ عليهِ ظليلَا
وقال أبو الحسن أيضاً:
ألا يا واقِفاً بي عنْدَ قَبْري
…
سَلِ الأجْداثَ عنْ صرفِ الليالي
وعنْ حالي فإنْ عَيَّتْ جَواباً
…
فعبْرتُها تُجيبُ أَخا السُؤالِ
لئنْ شمِتَ العدُوَّ بِنا فَمَهْلاً
…
سَيُنْقَلُ للصفائح كانتقالي
وأيُّ شَماتَةٍ في ترْكِ دُنْيا
…
لِذي أملٍ رأى عنها ارْتِحال
وكنتُ أُقيمُ بين النَّاسِ فيها
…
فصرت إلى المُهَيْمن ذي الجلالِ
ومعنى هذه القطعة من قول الحُصْرِي في ابنه:
لا يَشْمَتَنَّ الأعادي
…
فليس بالموتِ عارُ
لا الياسمينُ المندَّى
…
يبقى ولا الجُلُّنَارُ
وقال أبو الحسن أيضاً:
أَإِخْوانُنَا والموتُ قد حالَ بيننا
…
وللموت حكم نافذٌ في الخلائٍق
سبقتكم للحين والعمر حلبة
…
وأعلم أن الكل لا بُدّ لا حِقي
بِعيشكم أو با ضطجاعي في الثَّرى
…
ألم يكُ في حلوٍ من الودّ رائق
فمن مرّ بي فليمض بي مترحّماً
…
ولا يك منسيّا وفاء الأصادقِ
وقال أبو الحسن أيضاً:
بيْني وبينَ الحادِثاتِ خِصامُ
…
فيما جَنَته على العُلَا الأيَّامُ
كسَفت هِلالَ سَمائها منْ بَعْدما
…
وافاهُ منْ كرمِ الخلال تَمامُ
ورَمتْ قضيبَ رِياضها بتَقَصفٍ
…
غَضّاً سقاه منَ الشّبابِ غَمامُ
فاليَوْمَ بُستانُ المَكارِمِ ما حِلٌ
…
واليومَ نُورُ المَعْلُواتِ ظلَامُ
رامتْ صُرُوفُ الحادِثاتِ فأدْرَكَتْ
…
منْ كانَ لم يبْعدْ عليه مَرَامُ
أوْدَتْ بِمُهْجَتِهِ اللّيالي بعْدَما
…
فخَرتْ بهِ الأسْيافُ والأقْلامُ
وغدا وراحَ المجْدُ ذا ثقةٍ بهِ
…
أنْ يردعَ الأحداثَ وهْيَ جِسامُ
وبدَتْ عليه منْ حُلاه شَمائلُ
…
لا تَهْتَدي لِنُعُوتِها الأوْهامُ
كالرّوْضِ لمّا دَبَجتْه غَمامَةٌ
…
والمسْكُ لمّا فُضّ عنهُ خِتام
ناحَتْ عليهِ الشهبُ وهي عَوابِسٌ
…
وبَكى عليه الغيمُ وهْوُ جَهَامُ
وانْجابَ ظِلُّ الأُنْسِ فهوَ مقلَّصٌ
…
وامتدَّ ليلُ الخطْبِ فهوَ تَمامُ
وارْبَدَّ نورُ الشمس في رَأْد الضُّحى
…
حتّى استوى الإشْراق والإظلامُ
ما للمَدامِعِ لا يطَلُّ بها الثرى
…
والسَّادَة الكُبراء فيه نِيامُ
أكَذا يُبادُ حُلاحلٌ ومُهَذَّب
…
أكذا يُقالُ مُسَوَّدٌ وهُمام
تعس الزّمانُ فإنما أيّامُهُ
…
وَمُقامُنا في ظِلِّها أحْلامُ
لَتَرى الدِّيارَ وهُنَّ بعدَ أنيسها
…
دُرُس المَعالِمِ والجُسُومُ رِمامن
والنسرُ مقْتنصٌ بأشراك الردى
…
وبناتُ نَعْشٍ في الدُّجى أيتامُ
بأبِي قتيلٌ قَاتِلٌ حُسْنَ العزا
…
مُذْ أقصدته من المنُونِ سهامُ
غدَرتْ به أمُّ اللُّهَيْمِ وَطالما
…
فلَّ الخميسَ المجْرَ وَهْوَ لُهَامُ
وأبى له إلاّ الشهادَةَ ربُّه
…
ومَضاؤُهُ والبَأْسُ والإقْدامُ
يا عيْنُ شَانُكِ والمدامعُ فَاسْجِمي
…
ولْتَعْلَمي أنَّ الهُجوع حرامُ
إنَّ الذي كان الرجاءُ مُشيَّداً
…
بِوفائه غَدَرَتْ به الأيامُ
فتكَ الرَّدى بأبي شُجاعٍ فَتكَةً
…
زَلَّتْ لها رَضْوى وخرَّ شَمَامُ
فُقِدَتْ لها الآدابُ والألْباب
…
والأحْسابُ والإسْراجُ والإلْجامُ
بَدْرٌ ولَيْثٌ أَقْفَرتْ منْ نُورهِ
…
وآبائهِ الهالاتُ والآجامُ
نَدَبَتْهُ أبْكارُ الحُرُوبِ وعُونُها
…
وبكاهُ حِزْبُ الله والإسلامُ
أيُّ السُّيوفِ قَضى عليه وبينَهُ
…
قِدْماً وَبَيْنَ ظُبا السُّيوفِ ذمامُ
وبأيّ لحْدٍ أوْ دَعُوه وإنه
…
ماقَطُّ أودِعَ في الضّريحِ حُسامُ
ما كانَ إلاّ التبْرُ أُخلِصَ سبكُهُ
…
فاسْتَرْجَعَتْهُ تُرْبَةٌ ورغامُ
يا حامِليه قِفوا عليْنا وقْفَةً
…
يَشْفى بها قبلَ الوداعِ هُيامُ
رُدُّوا وليَّ الله حتَّى نَشْتفي
…
من أروعِ شُفيتْ بِهِ الآلامُ
لا تُسْلِمُوهُ إلى الثَّرى فلسيفه
…
مُذْ كان مِنْ أعدائه استسلامُ
ولتدْفِنُوه في الجَوانِح والحشا
…
إنْ كانَ يُقْنِعه بهن مقامُ
واسْتَنْشِقُوا لِثَنائهِ عَرْفاً كما
…
يَنْحطُّ عنْ نَفْسِ الصَّباحِ لِثامُ
أعْززْ عليّ بِزَهْرةٍ مَطْلُولة
…
أمْسَتْ ولا غيْرَ الضَّريح كِمَامُ
أعزِزْ عليَّ بِضيغم ذي سَطْوةٍ
…
أجَمَاتُه بعد الرِّماح رِجَامُ
إنْ كانَ أَفْنَتْهُ الحُرُوبُ فشَدَّما
…
فنِيَتْ بِمُنْصُله الطلى والهامُ
أَوْرَاحَ مَهْجورَ الفِناء فَطالَما
…
هَجَرَتْ به أرْواحَها الأجْسامُ
أمُضرّجاً بِدِ مائه هي ميتَةٌ
…
وقْفٌ عليها السَّيّد القمقامُ
البأسُ والإقدامُ أوْ ردكَ الرَّدى
…
إنْ كان أنجَى غيرَك الإحجامُ
قدْ كنتَ في ذاكَ المُقامِ مُخَيَّرا
…
لكنْ ثبتَّ وزلّتِ الأقدامُ
لم تُلف فيه سِوى الفرارأو الرَّدى
…
فاخترتَ صِرْفَ الموتِ وَهْوَ زُؤامُ
فأَبَتْ لَكَ الذَّمَّ المكارِمُ والعُلا
…
والسَّمّهريُّ اللدنُ والصمصامُ
اللَّيلُ بعْدَكَ سَرْمدٌ لا ينقضي
…
فكأنما ساعاتُه أعوامُ
والأُنْسُ غمٌّ والسُّرورُ كآبةٌ
…
والنَّومُ سُهْدٌ والحياةُ حمامُ
لمن اطَّرَحْتَ المجدَ وَهْوَ كأنه
…
طُللٌ تُعَفِّيهِ صَباً وغمامُ
ولمنْ تركتَ الصَّافِنات كأنها
…
موسُومَةٌ باللؤمِ وَهْيَ كِرَامُ
ولقدْ عَهِدْتُكَ كوكباً أبراجُهُ
…
جُرْدُ المذاكي والسّماءُ قَتامُ
وعَهِدْتُ سيْفَكَ جَدْوَلاً في وَرْدِهِ
…
يَوْمَ الكريهَةِ للنُّفوسِ زِمامُ
بَكَتِ السَّوابقُ منْ تَسَمَّى أرْقماً
…
والحرْبُ سلْمٌ إنّه ضرغامُ
زفرتْ لموتِ أبي شجاعِ زفرةً
…
لم يَبْقَ سَاعتَها لَهُنَّ حِزامُ
عَمَّتْ رَزِيَّتُه القُلوبَ فَكُلُّها
…
كَأْسٌ وأنواعُ الهُمومِ مُدامُ
كَثُرَ العَوِيلُ عليه يومَ نَعِيِّه
…
حتّى كأن العالمينَ حِمَامُ
وَحَكَتْ دموعَ الغانياتِ عقُودُها
…
لو لم يَكُنْ لِعُقُودِهِن نِظام
يا حامِلينَ النَّعْشَ أيْنَ جِيادُه
…
يا مُلْبِسيه التُّرْبَ أيْنَ اللامُ
أيْنَ السَّماحةُ والفَصاحَةُ والنُّهى
…
منهُ وأيْنَ الجُودُ والإكرامُ
أضْحى لعمرُ الله دون جلاله
…
سَتْرٌ منَ الأجداث ليس يُرامُ
أأبا شجاعٍ إنْ حُجِبْتَ بربوةٍ
…
فالزَّهْرُ مَنْبتُه رُبى وأكامُ
قُمْ تبصر الخفراتِ حولكَ حُسَّراً
…
إنْ كان يُمكنكَ الغداة قيامُ
واسمعْ عَويلَ بُكائها فلقد بكتْ
…
لِبُكائها الأصْواءُ والأعْلامُ
ضَجَّتْ لِمَصْرَعِكَ النَّوادِبُ ضجَّةً
…
سَدَّتْ مسَامِعها لها الأيَّامُ
أبْشِرْ بِدارِ الخُلْدِ منكَ بِمَوْعِدٍ
…
واهنأْ فَفيها غِبْطَةٌ ودَوامُ
مرَّ الغمامُ على ثَراكَ محيِياً
…
فَعلى الغمامِ تحِيَّةٌ وسلامُ
هاهنا كمل الباب بعون الله وتأييده.