الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللذة
للأستاذ ميشيل فرح
لا أرى ما يحوجني أن أقول لكم: عليكم أن تتفاهموا على تباين لغاتكم واختلاف عناصركم وتعدد نزعاتكم بلغة الألم، لأنها لغة الضعفاء وهي اللغة الوحيدة التي تتفاهمون بها اليوم ولكني أرى انه حقيق بي أن ادعوكم لتتفاهموا بلغة اللذة لأنها لغة الأقوياء والجبارة، لغة الألم هي لغة كل مريض وسجين وخائف وطريد، هي لغة كل امة غلب عليها. ولكنكم متى وصلتم الألم باللذة من طرفيه كما يتصل ليلكم بنهاركم من طرفيه أصبحتم تحلمون بللذة كما يحلم الساري بطلوع الفجر، وليس الحلم باللذة سوى اللذة نفسها.
المريض الذي يحلم بالصحة صحيح في مرضه والخائف الذي يحلم بالأمن آمن في خوفه والطريد الذي يحلم بالأوبة آيب في طروده والأمة المغلوب عليها أمة غالبة إذا حلمت بالغلبة، أن أحلامكم مبعث إيمانكم وليس إيمانكم بغلبتكم سوى غلبتكم نفسها ولذتكم بهذه الغلبة نفسها.
سمع الكثيرون يتشدقون حتى من أعلى المنابر بقولهم: يجب علينا نحن الشرقيين أن نحمد الظلم الذي جمعنا تحت لواء المشرقية وجعلنا إخوانا نتألم للحقوق الواحدة التي اغتصبناها. وأنا أقول أن الأحرى بنا أن نجتمع تحت لواء التحرر من هذا الظلم. وان نحمد التحرر وحدة ونلتذه، أما إذا كنا نلتذ الظلم لأنه آخانا وجمعنا تحت كنفه فلسنا غلا كالمسجونين الذين اعتادوا الشقاء والذل وأصبحت أيديهم وأرجلهم لا تنوء بأعباء قيودهم ولا أظنني مبالغا إذا قلت: إنهم قد يسمعون برنين قيودهم نغمات موسيقى مطربة
لا تحسبو إنني لست من البشر الذين لهم دم يجري في عروقهم وجسوم
ينال منها الحر والبرد وأعصاب حساسة في أناملهم تشعر بالخشن والناعم بل اعلموا أنني صحيح الجسم صادق الحسن ولكنني أيضا صحيح الإرادة فكما إن الدم الذي يجري في عروقي يجب أن احتفظ بقوة اندفاعه الواحدة لكي اثبت صحة جسمي كذلك يجب أن احتفظ بملمس واحد للأشياء فلا المس الخشن منها إلا من وراء طبقة صفيقة تحول دون تخديش أناملي وكذلك يجب أن البس الثقيل من اللباس فلا يؤثر في البرد إذا خشيت شره. وتلك الطبقة الصفيقة التي البسها أناملي وذاك اللباس الثقيل الذي ارتديه قد لا أفتش عنهما طويلا
وقد لا أفتش عنهما بعيدا لأني أجدهما متى أردت وهما موفوران لي، معسرا كنت أم موسرا أجدهما في نفسي، نفسي الجبارة التي تجعل الأشياء باكسيرها متشابهة بل واحدة
أنا لا أريد أن لا تميزوا بين الصباح والمساء، بين الشروق والغرب بين الظلمة والنور بل أريد أن تنير نفوسكم إذا أظلمت الدنيا وان تشرق شمس نفوسكم إذا غربت شمس سمائكم
أرأيتم في احد الأيام بل في كثير من الأيام في طريقكم إلى جامعكم أو كنيستكم فقيرا بائسا فتت منظره أكبادكم ولآلم نفوسكم ولكنكم لو أردتم، وقلما أردتم، لحولتم فقره إلى غنى ونعمة بل على الأقل إلى عدم فقر وبؤس، مدوا أيديكم إلى جيوبكم فلا يعود يؤلم منظره نفوسكم ويفتت أكبادكم، وقد تستطيعون إذا كانت جيوبكم فلا يعود يؤلم منظره نفوسكم ويفتت أكبادكم، وقد تستطيعون إذا كانت جيوبكم فارغة أن تصلوا من اجله ليقيل الله عثرته بل على الأقل أيضا قد تستطيعون أن تصلوا من اجل نفوسكم ومن اجل أن تكونوا صما وعميا فلا تعودون تسمعون صوت تألمه الذي استنكرتموه. ولا تعودون ترون منظره الذي فتت أكبادكم ولكن تعلمون لماذا لا تعملون شيئا من هذا وذاك؟. . لأنكم لا تريدون أن تعملوا بل بالأحرى لأنكم تريدون أن لا تعملوا وفي ما أرى إن ليس بين عدم إرادة الشيء وارادة عدم الشيء فرق يذكر. ليس بين عدم إرادتكم تهوين بؤس البائس وإرادتكم عدم تهوين بؤسه فرق يذكر. إذا كنتم لا تريدون أن تكفكفوا دمعة شقي فأنتم تريدون أن لا تكفكف دموعه بل تريدون أن يبكي وحينئذ تكونون مصرا ألمكم بل مصدر شقائكم.
تباينت آراء الأدباء والشعراء حتى الفلاسفة في حد اللذة، فلستم ولا شك تنتظرون مني أن أحدهم لكم بما يرضيكم كما إني لست أجرؤ أن آتيكم بحد هو القول الفصل ولعل كل الحدود التي حدها بها الناس صادقة، لعلها كألوان الأطعمة التي يستسيغ الواحد منها ما لا يستسيغ الآخر، لعلها كأنواع الألبسة التي نرتديها والتي لأذواقنا المتباينة أعظم الخطر في اختيارها. ولكن مهما كنتم مخيرين في انتقاء ألبستكم وأطعمتكم فللبرودة شأن وللدفء شأن في أنواع ألبستكم كما أن للمعدة شؤونا
في تناول ألوان الأطعمة متناسبة مع حالاتها وإذا لم تراعوا هذه الشؤون فأنكم مرضى تحتاجون إلى غير أدوية الفيلسوف والأديب وكما انه لا يضركم اللون الواحد من الطعام بل اللونان حتى الألوان العدة ولا يضركم النوع الواحد من الألبسة أو النوعان أو الأنواع
العدة، كذلك ربما لم تجدوا في الحد الواحد للذة ما يسبر غور نفوسكم فاطلبوها في الحدين والعشرة بل بكل ما حد به الفلاسفة في
تحديد اللذة فقد لا تتناقض، وإذا تناقضت فلا يدل ذلك على أن اللذة حلم نائم لا يقبض المستيقظ منه على شيء، أو أن اللذة ليست من أحلام أهل الأرض. إن حاسة اللذة والألم موجودة في الناس وهي حاسة واحدة ولولاها لما ميزنا بين الفرح والترح والحق والباطل والفضيلة والرذيلة والأمن والخوف. قلت أن حاسة اللذة والألم واحدة كما أن الحاسة التي نشعر فيها بلذة الطعام ورديئة واحدة وكما أن الحاسة التي نشعر فيها بالروائح الطيبة والروائح الخبيثة واحدة وكما أن الحاسة التي نسمع بها أصوات الغناء وأصوات الندب واحدة. في العالم اللذيذ والرديء من الأطعمة والطيب والخبيث من الروائح، في العالم لذة وألم مرتبطان بتكيف الطبائع بالإرادة الحرة الخاصة. في وسعكم أن تجعلوا حواسكم لا تشعر إلا من صفحتها الواحدة الصالحة التي تريدون أن تشعر بها. وفي وسعكم أيضا بقناعتكم وصبركم وقوتكم أن تريدون كل ما هو كائن وكل ما يكون وفي وسعكم حينئذ أن تلتذوا كل شيء
ميشل فرح