الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نهضة اليابان
بين جيلين
يروي أستاذ أوروبي عاش زمنا طويلا في اليابان أن احد كبار رجال السياسة اليابانيين تكلم مرة في مجلس جمع بعض ممثلي الدول الأجنبية وذلك سنة 1907
بعد مدة قصيرة من انتصار اليابان على الروس فقال:
إننا نحن اليابانيين من الجيل القديم كنا نقطع رؤوس أعدائنا بالسيوف ونعود بها ظافرين إلى بيوتنا. ثم خاطب السفير الانكليزي قائلا:. . وفخامتكم تعلمون إنني كنت بين الجنود الذين هجموا على سفارتكم في 5 تموز 1861.
إننا لم نستطع الدخول إلى السفارة لأن الحامية التي وضعتها الحكومة إذ ذاك كانت قوية. ولكنني تعديت شخصيا على اثنين من المحافظين فقطعت رأسيهما ورجعت بهما في يدي. وقد كنت مرتديا درعا ثقيلا فشعرت بتعب شديد من حمل الرأسين الكبيرين واضطررت لان ارمي بهما في عرض الطريق
استولى على السفير الانكليزي جمود وذهول ظاهر عند سماعه هذا الحديث الغريب الذي لم يكن في استطاعة الحاضرين أن يعرفوا هل هو حقيقي أم لا. فقد كان في عيني السياسي الياباني بريق ممزوج بالسخرية جعل الشك يدب إلى نفوس سامعيه حتى اعتقدوا انه إنما يريد الهزؤ بهم.
على انه ليس من المستعبد أن يكون حدث للرجل مثل هذا. فقد كانت اليابان في منتصف القرن التاسع لا تزال تعيش في التقاليد القديمة المتوارثة من آلاف السنين.
والذي يدعو إلى الدهشة هو انتقال اليابان في عشرين سنة فقط من تلك الحالة إلى دولة حديثة لا تختلف في شيء عن الأمم الأوربية الراقية.
لقد ولد هذا السياسة الياباني في القرون الوسطى ولكنه لما مات كان أولاده وأحفاده الناشئون يصنعون الطيارات والغواصات والدبابات والمحركات ويلهون بآلات الراديو ويفحصون صحة نظرية النسبية. . .
اليابان القديمة
كانت اليابان قديما مسكونة بقبائل من الشمال تسمى (آينو) مشهورة بغزارة الشعر في
أجسامها خلافا لليابانيين الحاليين الذين يرجع أصلهم إلى العرق المغولي. وهم يشبهون الهنود الأميركيين في تكوينهم الظاهري ولا يستبعد أن يكون اليابانيون قد اختلطوا بالعرق المالائي أو بالزنوج.
ولكن مهما كان أصل اليابانيين فلا شك في أنهم قد اقتبسوا حضارتهم القديمة وكتابهم وتقاليدهم الأدبية والفنية من الصينيين. وهم قد خرجوا من دور الهمجية
والفطرة في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. وكان أول ظهورهم في ميادين الحروب والفتوح لما استولوا على شبه جزيرة (قوره آ) في عهد الملكة (جينغو)
التي لعبت دورا هاما في تاريخ الحضارة اليابانية.
وقد عاشوا مدة طويلة تحت نظام أقطاعي سادت فيه الفروسية وكثرت الحروب الأهلية والغارات المتوالية على الصين وبالأخص على (قوره آ)
وهناك فرق عظيم بين اليابانيين الذين تشبه جزرهم في وضعها الجغرافي الجزر الانكليزية في أوربا وبين جيرانهم الصينيين الذين تجمعهم بهم وحدة العرق الأصفر فان اليابانيين جنود محاربون بطبيعتهم يمتازون بالشجاعة والبطولة والتضحية وحب الوطن. ثم أنهم قد اشتهروا بالذوق الفني وخفة الروح وسرعة النكتة والتفكير
والتدبير والملاحظة وشدة الذكاء وسهولة المؤالفة والميل إلى الأمور العملية النافعة. إلى منتصف القرن التاسع عشر ظلت اليابان إمبراطورية إقطاعية يتولى عرشها (الميكادو) الذي يعتبر من سلالة الآلهة وله مقام مقدس ولكنه لا يتمتع بشيء من الحكم السياسي الحقيقي. بل أن الأمر كان في أيدي القائد العام ورئيس
البلاط الملقب (شوغون) من جهة وفي أيدي الأمراء الأغنياء من الطبقة الارستوقراطية العسكرية (دايميو) من جهة أخرى. أما النبلاء الذين لا يملكون شيئا من المال فإنهم يندمجون في خدمة أمراء المقاطعات ويؤلفون الحرس والفرسان المحاربين ويسمون (ساموري).
ولم تتغير أوضاع الحكم في اليابان إلا في أواخر القرن التاسع عشر بعد الاختلاط بالغربيين واقتباس أنظمتهم ومظاهر حضارتهم. . .
اليابان والأجانب
ترجع معرفة الغربيين باليابانيين إلى القرن السادس عشر إذ وصل بعض البرتغاليين في سفينة إلى صينية إلى شواطئ اليابان سنة (1542). ثم هاجر إلى هناك بعد سنوات (فرانسو كزاوية)، رفيق (لوايولا) مؤسس جمعية اليسوعيين للتبشير بالمسيحية بين السكان اليابان الذين أحسنوا في أول الأمر وفادة الأوربيين من مبشرين وتجار واظهروا رغبة صادقة في ربط العلاقات الطيبة ودخل الكثيرون منهم في الدين المسيحي بل إنهم عينوا رجلا انكليزي اسمه (وليم آدامس) مستشارا لدى الحكومة يعلمهم صنع السفن الكبيرة.
ولكن بعد ازدياد عد المبشرين الذين كانوا من طوائف وأمم مختلفة احتدام النزاع بين الدومينكس الاسبانيين واليسوعيين البرتغاليين والبروتستانت الانكليز والهولانديين وأخذت كل طائفة تحذر اليابانيين من الطائفة الأخرى وتكشف لهم عن مطامعها السياسية وترشيدهم إلى مواضع النقد في عقائدها وأعمالها. ثم لم يتورع اليسوعيون خاصة عن إظهار ما عرفوا به من التعصب واخذوا يحتقرون البوذيين ويتعقبون فاقتنع حينئذ اليابانيون بان الأوربيين والمسيحية كلها معهم من الشرور والمصائب التي لا يمكن احتمالها وظهرت لهم المقاصد السياسية الخفية التي يرمي إليها المبشرون فقاموا يطردون جميع الأجانب من بلادهم ولم يسمحوا بعد سنة 1638 بدخول احد من الأوربيين إلى اليابان ما عدا القائمين بالمعمل الهولاندي في الجزيرة الصغيرة بميناء (ناغازاكي). وهؤلاء أيضا لم يكن لهم الحق في الاختلاط بالشعب بل كانوا إنما يتفاوضون مع موظفي الحكومة اليابانية فقط.
ومنذ ذلك الوقت عاشت اليابان في عزلة تامة عن العالم فقطعت كل صلة لها بالخارج ولم تكتف بمنع دخول الأجانب إليها بل حظرت على اليابانيين أنفسهم مغادرة البلاد بتاتا. وكان لا يسمح لليابانيين بإنشاء سفن كبيرة يستطيعون السفر بها في عرض البحار إلى البلاد الأجنبية.
وبينما كانوا اليابانيين يعيشون مدة مائتي سنة تحت رحمة النظام الإقطاعي تفتك ببلادهم الحروب الأهلية والفتن الداخلية وتسيطر عليهم فئة صغيرة لا يتجاوز عددها (5) في المائة من مجموع السكان هي طائفة (الساموري) إي الفرسان الذين كانوا يتجاوزون الحدود في ظلمهم وعسفهم - في هذه المدة كان العالم قد تقدم بخطوات واسعة في طريق الرقي والمعرفة وبدأ اليابانيون يلمحون في البحار سفنا كبيرة لا عهد لهم بها تمر قرب شواطئهم.
وفي تموز سنة 1853 ظهر في ميناء (ايدو) أسطول حربي ترفرف عليه الأعلام الأميركية تحت قيادة الأميرال (بري) الذي قدم كتابا من رئيس الولايات المتحدة يطالب فيه (الشوغون) بعقد معاهدة صداقة بين أمريكا واليابان.
وقد رأى الأمير كيونان السفن الحربية الأربع التي كانت تؤلف هذا الأسطول
كافية لإملاء إرادتهم على شعب يبلغ (30) مليونا. وفي الحقيقة فان اليابانيين لم يكونوا إذ ذاك ليستطيعوا مقاومة القوة الأميركية المعتزة بتفوقها الصناعي والحربي. ورغم هياج الشعب في طول البلاد وعرضها فقد اضطرت الحكومة اليابانية إلى قبول مطاليب الأميركيين ثم الروس من بعدهم. وتقول المصادر اليابانية إن المندوبين اليابانيين الذين أرسلوا لمفاوضة القائد الروسي كانوا راكبين سفينة حربية أنشئت قبل 250 سنة. ثم أن خزينة الدولة كانت خالية خاوية وليس لدى الحكومة جنود منظمة ولا أسلحة صالحة عدا ما يهددها من الفتن والاضطراب الداخلية ولذلك خضعت لإرادة الأجانب ورضيت بفتح بلادها للتجارة الخارجية.
النهضة
هذه الصدمة كانت مبدأ النهضة اليابانية. ويظهر إن الأمم لا تفكر في خيرها وكيانها إلا إذا كانت نزلت بها الولايات وذاقت طعم الذل والخضوع.
وقد كان لإرغام اليابان على فتح بلادها للغربيين صدى بعيد في جميع طبقات الشعب ورد فعل شديد في هذه الأمة القوية الإرادة البعيدة الطموح فقامت فجأة وبعد أن ثبت لديها أن لا حياة لها إلا باقتباس الاختراعات الحديثة في تنظيم الجيوش قبل كل شيء اندفعت في هذه السبيل جميع العقبات مهما عظمت.
بدأت النهضة بثورة على الأوضاع السياسية القديمة في إدارة البلاد فتأسس حزبان بين الأمراء والنبلاء احدهما يريد القضاء على سلطة (الشوغون) - القائد العام ورئيس البلاط - وتوطيد حكم الميكادو بينما الحزب الآخر ظل متمسكا (بالشوغون) وإنما اخذ يطالب بتوسيع العلاقات مع الجانب لاقتباس صنع الأسلحة والسفن منهم.
وبعد اعتلاء الميكادو الجديد (موتسو هيتو) على العرش أرغم (الشوغون) على اعتزال الحكم ونقل العاصمة من (كيوتو) إلى (ايدو) التي سميت
(توكيو) أي عاصمة الشرق (سنة 1868)
في هذه السنة يبدأ العهد الجديد في اليابان، عهد النهضة والتقدم (مه ئي جين)
وكانت الحكومة هي التي قامت بالإصلاحات الجديدة.
وكانت طبقة الارستوقراطيين العسكريين هي المتعلمة وقد نشأ على فكرة التضحية التي كانت تظهرها قديما في الفروسية والحروب الأهلية فاندفعت الآن بهذه الروح إلى اقتباس الأنظمة العسكرية والإرادية والسياسية والعلوم والصنائع الأوربية.
وتقدمت الجهود في هذه السبيل بسرعة خارقة فألغي النظام الإقطاعي وأعلنت مساواة جميع اليابانيين تجاه القانون واستدعيت البعثات العلمية والعسكرية والفنية من انكلترا وفرنسا والمنايا وأرسل آلاف من الطلاب إلى الجامعات الغربية وأسست المدارس الحديثة وأصدرت القوانين المدنية العصرية. ومنذ 1870 بوشر في إنشاء السكك الحديدية والأسلاك البرقية والأساطيل الحربية والتجارية وأعلنت الخدمة العسكرية الإجبارية ونظم الجيش على أسس حديثة وزاد عدده حتى بلغ في مدة قصيرة ما يقارب 400. 000.
واصدر الميكادو في سنة 1889 دستورا يحتفظ فيه بالقوة التنفيذية لنفسه ولكنه يجعل القوة التشريعية في أيدي مجلس الشيوخ ومجلس النواب.
ولما نشبت الحرب الروسية - اليابانية سنة 1905 وانتصر اليابانيون ذلك الانتصار الباهر عرف العالم اجمع مبلغ التقدم الذي وصلت إليه اليابان في مدة قصيرة.
ومنذ ذلك الوقت ازدادت اليابان سرعة في تقدمها حتى أصبحت اليوم في مقدمة الدول العظمى يبلغ عدد سكانها مع ممتلكاتها 90 مليونا. وتزاحم تجارتها جميع الأمم الأوربية العريقة في الحضارة والصناعة.
وأنظار الأمم الشرقية متجهة اليوم إلى اليابان تعترف لها بالزعامة والقيادة في النضال العنيف القائم بين الشرق والغرب. . .
كامل عياد