الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشوء التصوف
للأستاذ عز الدين التنوخي
اختلف كلمة الباحثين من الشرقيين والمستشرقين في منشأ التصوف وتكامل علمه فذهب أنصاره إلى كونه مقتبسا من نور الهدى النبوي وسيرة الصحابة والسلف الصالح، ومال خصوم التصوف البدعي لا الشرعي كشيخ الإسلام ابن تيمية وإتباع مدرسته السلفية إلى تأثره بالنصرانية ومناسك الرهبانية فقد جاء في رسالته الفرقان مانصه: إن الصوفية ونحوهم إلى النصارى اقرب فان النصارى عندهم عبادة وزهد وأخلاق بلا معرفة ولا بصيرة والإسلام بعيد عن الرهبانية وتعذيب البدن واتخاذ الأربطة الشبيه بانفراد الرهبان في الأديرة، والزهد الكلي الذي يخرج به المرء عن الملك الكلي والانقطاع عن الاستمتاع، وعن الزينة التي لم يحرمها الله، وفي الكتاب المبين: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وأي تعظيم لقدر المال اكبر من جعله قواما لمعيشة الإنسان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: لان تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يثكففون الناس وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر وقال أيضا لعمرو بن العاص: نعم المال الصالح للرجل الصالح، وكان النبي العربي (ص) باتفاق المسلمين ازهد البشر وقد ادخر قوت سنة لعياله، كان علي بن أبي طالب والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعثمان من الزهاد على كثرة أموالهم، وأبو الفرج ابن الجوزي ممن حمل على جهلة المتصوفة في كتابه تلبيس إبليس ونقد مسالكهم وبدع مناسكهم، وأشار إلى أن بعض عاداتهم وآرائهم هو مقتبس من الرهبانية وبعضها ملتمس من العقائد الهندية، وكفر الاشاعرة شيخ الحلمانية أبا حلمان الفارسي الحلبي المعدود من شيوخ الصوفية وطريقته حلولية كالطريقة الحلاجية القائلة بحلول اللاهوت في الناسوت وقد كفر الحلاج لهذه المقالة كثير من الفقهاء والمتكلمين والحكماء والصوفية، وذهب ابن خلدون في مقدمته إلى إن الصوفية نظام الأقطاب من نظام النقباء عند الشيعة، وإلى أنهم خالطوا الإسماعيلية الرافضة فاخذوا عنهم الحلول، ولم تدخل دسائس الباطنية على المسلمين ومنهم هؤلاء الإسماعيلية، إلا من بابي التشيع والتصوف، والباطنية هم الذين جاؤا بالباطن والظاهر (ويغلب على الظن إن أخوان الصفا كانوا من الإسماعيلية وقد توفقوا برسائلهم المشهورة لدس كثير من الفلسفة الإغريقية والحكمة الهندية
في الشريعة السمحة الإسلامية، وفسروا القرآن تفسيرا باطنيا.
والشيخ محمد عبده، وهو من حكماء الصوفية المتأخرين، كان يقول إن التفسير الباطني المنسوب إلى ابن عربي والمطبوع في جلدين هو للشيخ الكاشاني الباطني، وفي بعض كتب الصوفية ذكر للبراهمة وتفريق بين كشفهم والكشف الصوفي بكون الهندية صوريا وظلمانيا، والإسلامية معنويا ونورانيا.
هذا غيض من فيض مما في ثقافتنا الصوفية من إشارات لما خالطها من الدخائل التي عمرت صفوها، وباعدت بينها وبين تصوف السلف، وأما الباحثون من المستشرقين قهم كذلك مختلفون في تخصيص هذه العناصر الغربية، فالأستاذ بروان مثلا يذهب في كتابه النفيس تاريخ فارس الأدبي إلى أن ما ينزع من التصوف إلى حلول هو من أصل فارسي، وما يتعلق بالفلسفة فمقتبس معظمه من الأفلاطونية الجديدة - ومنهم فون كريمر الذي يرى أن نظريته الفناء في التصوف مثلا هي من التعاليم البوذية، وان الذي نقلها إلى العرب هو أبو يزيد البسطامي البلخي الذي أخذها عن مربيه أبي علي السندي، وقد بالغ كثيراً باعتقاده إن للمدرسة الفلسفية الهندية أعظم التأثير التصوف الإسلامي.
وأما نيكلسون تلميذ بروان والذي نشر كثيرا من كتب السلف في التصوف وألف كثيرا فيه فقد خالف أستاذه على ذلك بملاحظة دقيقة وهي حياة كل نم إبراهيم بن ادهم وشقيق البلخي اللذين عاشا في بلخ على اتصال وثيق بالبوذية وليس مع ذلك في أقوالهما ما يدل على الفناء، فهو لذلك يرجح تأثر التصوف بالرهبنة النصرانية والفلسفة الأفلاطونية الجديد، واستشهد لذلك بأقوال ذي النون المصري ومعروف الكرخي اللذين عاشا في زمن الرشيد انتشرت فيه الثقافة الإغريقية النصرانية.
هذا ولم يقتصر تأثير النصرانية وحدة فقد أثرت كذلك في زعم بعض المستشرقين على الكلام حتى ذهب منهم فون كريمر إلى أن فرقه المعتزلة نشأت من النصرانية لان آباء الكنائس كانوا يتجادلون في حرية الإرادة وبعبارة أخرى في مسألة القدر كما كانوا يتجادلون في صفات الله، وقد رد عليه الأستاذ احمد أمين في ضحى الإسلام (1) ذلك السفر الممتع مبينا له إن مسألة القدر مصدرها الكتاب والسنة واستشهد لذلك بكثير من الآيات وبورود أحاديث كثيرة تتعرض للقدر، كذلك رد على غولدزيهر نظرة تبجيل الفقر وإنها نصرانية
بحتة واستشهد على كونها إسلامية صرفة بما ورد في القرآن نفسه من الآيات التي تمجد الفقراء الصالحين، وبهدي الرسول الذي عف عن الغنى ولم يشأ أن يكون غنيا وكان ذلك في إمكانه، كذلك بين لغولدزيهر إن دخول أقوال من الإنجيل في الحديث قد ادخلها فيه مسلمة النصارى، ونحن لا ننكر إن الإسلام فيه روح من التعاليم الآلهية النصرانية فان الإسلام على رأي الحكم الأفغاني هو نصرانية وزيادة، وفيه كذلك روح من الموسوية الصحيحة.
اشرنا في كلمة التصوف الأولى على إن أصوله كلها موجودة في الكتاب والسنة وفي هدي الصحابة والسلف الصالح، لان غاية التصوف تطهير النفوس وتهذيب الأخلاق، بيد إن هذه الأصول قد أخذت في التفرع منذ صدر الإسلام، والأصل الأول الذي ابتدأ التصوف منه هو الورع في العبادات والمعاملات، فان روحه ما زالت تنمو في القلوب الوجلة من الذنوب، وقوته ما برحت تهيمن على الأرواح المشفقة من غضب المحبوب حتى جمحت بكثير من أرباب الورع الصادق إلى الزهد، فالورع مقدمه والزهد نتيجة، وإلى هذه الحقيقة أشار أبو سليمان الداراني بقوله: الورع أول الزهد كما إن القناعة أول الرضا، وجاء في منازل السائرين للعارف الهروي إن الورع أول مقام للمريد.
وهذا الزهد قد غلب إطلاقه على المعنى الذي عرفه ابن خفيف به إذ يقول: الزهد سلو القلب عن الأسباب، ونفض الأيدي من الأملاك وهذا الزهد لم يكن بهذا المعنى متفشيا بين الصحابة الذين فهموا روح الإسلام، وفهموا معنى قوله تعالى: ولا تنسى نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك يدل على ذلك إن الرسول (ص) حث مرة على الصدقة فجاءه الفاروق بنصف ماله، فقال له الرسول وما أبقيت لأهلك فقال له: مثله أي أبقيت نصف مالي الآخر، قال ابن جرير الطبري وفي هذا الحديث دليل على بطلان ما يقوله جهلة المتصوفة إن ليس للإنسان ادخار شيء في يومه لغده، وان فاعل ذلك قد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله.
وقال الحسن البصري: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وان تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها ارغب منك فيها لو لم تصبك ولعمري إن هذه الكلمة لمن جوامع الكلم في الزهد.
وكما إن الورع ينتهي بالسالك إلى الزهد، كذلك ينتهي به الزهد - إذا صدقت إرادته - إلى التصوف، فالزهد على ذلك أول التصوف كما إن الورع أو الزهد والقناعة أول الرضا، والتوكل أول التسليم.
الفرق بين الزهد والتصوف. - إن للصوفية طريقتين في السلوك: فمنهم من يستحب الرجاء على الخوف، وهؤلاء قلما تجد في عباراتهم إلا ذكر الرجاء والمحبة، ومنهم من يفضل للسالك الخوف على الرجاء، والسهر وردي يميل في عوارفه إلى الطريقة الأولى، فجعل مبنى الزهد على الخوف، ومبنى التصوف على الحب والرخاء ومن أنصار الطريقة الثانية أبو سليمان الداراني القائل: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد، وأبو سليمان هذا من صوفيه الشام وأركان التصوف، وأهل طريقته هذه يشبهون القلب في سيره إلى الله بطائر فالمحبة رأسه، والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى عدم الجناحان فهو عرضة صائد وكاسر.
أما طريقة الرسول، وفيها الأسوة الحسنة، فمبنية على تغليب الخوف على الرجاء كيف وهو القائل: شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة، وإذا الشمس كورت، وعم يتساءلون، ومن اجله صحابته الزاهدين معاذ بن جبل القائل: إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه، ومما يدل على خوف الصوفي من النار ما حدث به ابن القارح في رسالته قال: حدثني من أثق به ولا اتهمه عن أبيه وكان زاهدا، قال: كنت مع أبي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق، فرأينا شاويا قد اخرج حملا من التنور، وإلى جانب قد عمل حلاوي فالوذجا، فوقف ينظر إليهما، وهو ساه مفكر، فقلت: يا مولاي، دعني آخذ من هذا وهذا ورقاقا وخبزا، ومنزلي قريب، تشرفني بان تجعل راحتك اليوم عندي فقال: يا هذا، أظننت إني قد اشتهيتهما؟ وإنما فكري في إن الحيوان كله، لا يدخل النار إلا بعد الموت، ونحن ندخلها أحياء:
يا رب عفوك عن ذي شيبة وجل
…
كأنه من حذار النار مجنون
قد كان ذمم أفعالا مذممة
…
أيام ليس له عقل ولا دين
ويرى الأستاذ نيكلسون (1): إن الحب قوام التصوف، وانه قلما يلتئم لذلك مع روح المسلم
التقي المتأثر بغضب الله وانتقامه أكثر من تأثره برحمته وحنانه، ويزعم إن القرآن يمثل الله بوجه عام ربا عبوسا مخيفا غشوما لا يسأل عباده إلا الخضوع المطلق لإرادته العاتية، وهو مع ذلك لا يعبأ بما للبشر من عواطف ورغائب، ويظن إن مثل هذا المعبود لا يمكن أن يرضي الغريزة الدينية، وانه لذلك كان تاريخ التصوف باجمعه شبه احتجاج على جفاء غير فطري بين الرحمان والإنسان الذي تغمره هذه المعرفة، ثم ذكر نيكلسون هذا رأيه المعهود في تأثير النصرانية في الحقائق الصوفية التي قامت بها على الحب والرحمة، لا على الخوف والنقمة.
إن التصوف الصحيح الذي هو روح الإسلام يخالف رأي هذا المستشرق المخالفة كلها، ذلك إن القرآن، وقوامه الترغيب والترهيب، قد اشتمل على آيات تصف الله بشدة العقاب والعزة والانتقام ترهيبا للعامة الذين ينجع الخوف والشدة في ردعهم وزجرهم أكثر مما يؤثر اللين والتسامح، واشتمل كذلك القرآن على آيات أكثر عددا، وهي تصف الله بالرحمن الرحيم، والبسملة في أوائل السور من الشواهد، وبأنه هو ارحم الراحمين، واللطيف الغفار، والرؤوف الستار، ومنها قوله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، وهذه الآية يسميها الصوفية والسلف الصالح آية المحنة أي الاختبار، قال أبو سليمان الداراني: لما ادعت القلوب محبة الله انزلها محنة، وقال بعض السلف: ادعى قوم الله فانزل الله آية المحنة (قل إن كنتم الآية. . .) فالصوفية، وشواهد أقوالهم جمة، تعتقد على ذلك إن القرآن قد قام على المحبة وبالمحبة تعاليمه الروحية، فهم يتلون آية المحنة كثيرا، وهو يرتلون: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وكما يلهج المحب باسم حبيبه إذا ما نأى، وكما يشتاق إلى رؤية وجهه، وصف الله محبيه الصادقين في كتابه بقوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. وأما الحديث فشواهده أكثر من الآيات، من أشهرها، وهو مما اعتمد عليه التصوف في شرح حقائقه، وما لهج به العارفون كثيرا، وجاء في صحيح البخاري: ما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وان سألني لأعطيه، ولئن استعاذني لأعيذنه. . .
وفي الصحيحين: إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض وفي جامع الترمذي من حديث أبي إدريس الخولاني (1) عن أبي الدرداء عن النبي (ص) انه قال: كان من دعاء داود: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد، ولو أردت استقراء آيات المحبة وأحاديثها وأقوال السلف الصالح من التابعين والصوفية العارفين لا تسع مجال المقال ولخشيت على نفس نيكلسون من السأم والملال.
إن التصوف الشرعي الصحيح ليشمل على الخوف والرجاء والحب والصفا معا والرجاء حادي المحبة، وما كان الحب والخوف ضدين يوما، ذلك إن الحب مع الاشتياق يمازجه الخوف والإشفاق، وأي محب - عمرك الله - لم يخف هجران حبيبه أو تجنبه، وأي متيم لم يحذر مع الوصال من فرقته وتنائيه، وما أصدق الشاعر إذ يقول:
وما في الأرض أشقى من محب
…
وان وجد الهوى عذب المذاق
تراه باكيا في كل حين
…
مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي - إن نأوا - شوقاً إليهم
…
ويبكي - إن دنوا - خوف الفراق!
عز الدين التنوخي