المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سعادة الإيمان للكاتب الافرنسي أندره موروا تعريب جميل صليبا - قلت للسيد الشرقاوي - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٣

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌سعادة الإيمان للكاتب الافرنسي أندره موروا تعريب جميل صليبا - قلت للسيد الشرقاوي

‌سعادة الإيمان

للكاتب الافرنسي أندره موروا

تعريب جميل صليبا

- قلت للسيد الشرقاوي وأنا انظر إلى الخنجر الأعوج الموضوع في غمده البسيط

كم ثمن هذا الخنجر؟

فوقف وتمتم بضع كلمات بالعربية. ثم انحنى البائع أمامه وقبل يده البضة التي كانت أجمل من يد الغندورة الحسناء.

وقال -. . .

فابتسم الشرقاوي في لحيته وقال لي:

- انه يطلب خمسين فرنكا. ولكن يكفي أن تعطيه ثلاثين.

كنا في أسواق مراكش. وكان العبيد الراكبون على ظهور الحمر الصغيرة ينادون بالك، بالك. ثم يشقون الطريق غير مبالين بالازدحام. وكان الناس يفتحون لهم الطريق بأعجوبة. وكانت النساء وراء الخمار الأبيض جميلة ساحرة. وكان الرجال جالسين أمام الدكات الخشبية فيقفون عند مرورنا بالقرب منهم ويسلمون علينا يرفعون أيديهم إلى جباههم وينزلونها إلى صدورهم. فقال لي الشرقاوي:

- ليس هؤلاء الباعة كتجاركم في أوروبا. لأنهم لا يحسبون دخلهم ولا خرجهم ولا يعرفون ما عندهم من البضائع بل يشترون ويبيعون ويعيشون غير مكترثين بالأرباح، فإذا بقي لديهم شيء من المال في آخر السنة اشتروا به بضائع جديدة أو ابتاعوا أرضا وبيوتا. أما العقلاء منهم فيشترون به نساء وسجادا.

- أليس لهم حساب في الصارف؟

وكنا ذاك قد وصلنا إلى سوق الدباغين حيث تلمع مراجل النحاس في الظل الوارف. وكان الهواء مفعما برائحة الصوف المحروق ورائحة النيلج وكان بعض أولاد العرب يعقلون كبب الخيوط البنفسجية والحمراء على أبواب المخازن الخشبية.

فقال السيد الشرقاوي:

- ليس للمسلم حساب في المصارف لان ديننا قد منع الربى وأمرنا أن نستثمر أموالنا في

ص: 59

التجارة، أما استثمار المال بالمال فلا يريده الله.

فقلت - ولكن أنت يا سيدي الست موظفا كبيرا؟ إن راتبك ضخم وليس لك تجارة تستثمر بها ما يزيد عنك. فماذا تصنع بهذه الزيادة. إلا تشتري بها أسهما مالية؟

فقال الشرقاوي، وكنا نجتاز سوق الحدادين بين نغمات المطارق:

- معاذ الله، كيف استطيع أن املك الأسهم المالية وأحافظ على ديني؟ لقد اضطرتني الظروف في بعض الأحيان أن أودع أموالي في بعض المصارف، ولكنني كنت في كل مرة ارفض الفائدة.

فقلت - ولكن يا سيدي يجب على المسلم أن يفكر في مستقبله! فماذا تصنع إذا طعنت في السن، بل ماذا يصنع هؤلاء الباعة؟

قال - إن حاجات الإنسان تصبح في الشيخوخة قليلة جدا. ومن السهل عليه تأمين حاجاته ببيع احد عقاراته التي اكتسبها في صيف حياته. الشيخ لا يحتاج إلى عدد كبير من النساء ولا إلى كمية كبيرة من الغذاء، بل يكفيه من ذلك كله شيء قليل.

ويمكنه أن يقتصر على حديقة صغيرة في بيته يخصصها لنزهاته القصيرة.

قلت - ولكن يا سيدي يجب توقع كل شيء، ماذا يصنع الشيخ إذا عاش أكثر مما كان ينتظر، فباع كل عقاراته ولم يبق له شيء أليس من العقل أن يبتاع أسهما مالية أو سندات تجارية يعيش من فائدتها حتى الموت؟.

قال - انه يجد عند ذلك في أولاده عونا على الدهر.

قلت - وإذا لم يكن له أولاد فماذا يصنع -؟

قال - انه يكل أمره عند ذلك إلى الله، والله لا يترك أحدا. .

وكنا نسير إذ ذاك في سحاب من الطيب، وكانت أوراق الورد وأزهار البرتقال تتساقط من سلات القصب. وكان الحمارون يصرخون بالك، بالك،

والنساء يبتعن الأزهار والشيوخ يقولون لنا السلام عليكم، وكانت أشعة الشمس محرقة بينما رفيقي الشرقاوي يمشي بقدم ثابتة لا تقوى على حمل حذائه الثقيل. فرددت في نفسي عبارة الشرقاوي: إن الله لا يترك أحدا.

ثم قلت له:

ص: 60

- هل تظن إن الله يهتم بما يجري في هذه الدنيا وهي حفرة من الوحل فيلهو بمصير كل واحد منا ويحول دون موت الفقراء جوعا ويحرس أموال الناس؟

قال وهو ينظر إلي بدهش

- وهل تشك في ذلك يا سيدي؟

- قلت - أود لو اصدق ذلك، ولكنني لا أخفي عليك إنني إذا نظرت إلى ما يحيط بي من الأشياء لا أجد أثرا لهذه الحكمة الربانية والعناية الإلهية، والدنيا لا توالي إلا الأشرار ولا تكافئ إلا الطماعين، ولا تؤيد إلا المغتصبين. أما الفاضل في الطول شقوته! الأمراض تفترسه والجوع يضنيه. إلا ترى كيف يعشق الرجال المرأة اللعوب ويعرضون عن المرأة الفاضلة!؟ قال - انك كثير الاهتمام بالحاضر، ولولا ذلك لما زعمت أن الأشرار سعداء. كنت وأنا في ريعان الحداثة ألوم الزمان مثلك، وأتظلم من تغلب عدوي علي بالرياء والكذب والافتراء، فكنت اغضب من ذلك، وأريد أن أنازل خصمي وافضح فعله. ال أنني أدركت الآن معنى رواية الحياة، وعلمت أن الدهر دولاب، يوم لك ويوم عليك، وسينقلب الزمان على عدوي شر منقلب من غير أن أزعج نفسي واقاسي مضض الانتقام

- قلت - وكيف ذلك، هل تريد أن تقول أن كل شرير ينال عقابه في هذه الحياة، الم تر كيف يموتون وهو راتعون في بحبوبة العيش، رافلون في حلل السعادة؟

- لعل بلدكم مراكش يختلف عن البلدان التي شاهدتها في أوربا وأميركا!

فقال لي، وقد أوقفه احد البائعين ليسمح رداءه بشيء من الطيب.

- عفوا يا سيدي، لم اقل أن كل شرير ينال جزاءه قبل الموت بل شاهدته أنا أيضا بعض الأشرار يموتون قبل أن ينالهم العقاب. ولكنني اعرف أن الله سيعاقب أولادهم وأحفادهم حتى الجيل العاشر. ومهما تحاول تبديل الأشياء فلن تفلح أبدا. لأنه لا مرد لحكم الله وكل شيء مقدر مكتوب

وكنت لا تسمع إلا قول الحمارين بالك. بالك، ولا ترى في مدخل الأسواق عند ساحة (جامع الفنا) إلا زمرا من الفقراء، بينهم خمسة عبيد عميان يطلبون الصدقة. وكان مقدمهم ينشد بعض الأذكار بنغمات محزنة ثم يتبعه الأربعة قائلين آمين. ثم يعود المقدم إلى الإنشاد على نمط واحد بينما المارة يقفون وينظرون ويتصدقون

ص: 61

لقد ودعني السيد الشرقاوي بين أولئك الرجال المتربعين أمام جدران الأسواق كأنهم قد طردوا من نفوسهم كل فكرة أو كأنهم صمموا أن يعيشوا نائمين لا حراك لأجسامهم المسندة ولا حركة في أعينهم الشاخصة.

وبينما كان القاص العربي يتكلم في المقهى وقد أحاط به السامعون كأنهم هالة من الصوف الأبيض قلت في نفسي: إن الله لا يترك أحدا. إن الناس لا يبدلون ما هو مقدر مكتوب. ما اشد اعتقاد الشرقاوي وما أقوى إيمانه بهذا المذهب! إن حياته مطمئنة هادئة. أما نحن الأوروبيين والأميركيين فلا نستطيع احتمال هذا الركود فنتكهن ونتنبأ ونحسب وندبر ونبدل ما هو مقدر ولا نرضى بالعدالة

الإلهية ولا نرتاح لهذا العالم الذي أبدعه الخالق. نعم، إننا نتنبأ، ولكننا نتنبأ ونخطئ، ثم نعمل ونبني، ونهدم ما بنيناه، وننتج، ويولد الإنتاج قسوة الفقر وشقوة الفاقة في حياتنا. فهل نحن أكثر حكمة وأحسن حالا من هؤلاء الباعة الذين يشترون النساء والسجاد ويتمتعون بقوة أجسادهم ونضارة شبابهم؟.

وكانت وجوه بعض الراقصين تشبه وجوه الأولين بلونها النحاسي وعيونها الواسعة الجاحظة، فقلت في نفسي:

إن الإنسان لا يبدل ما هو مقدر مكتوب

لا أذكر الآن ممن سمعت هذه العبارة قبل هذه المرة:

ليس في الإمكان أبدع مما كان.

كل ما أذكره إنني كنت في بلاد النور مانديا واقفا إلى جانب احد الأبواب انظر عن كثب إلى الوادي المحصور بين الآكام. وكانت الخيل تعدو بين أشجار التفاح الباسقة. وكان السكون عميقا لا تقاس قوته إلا بضجة المحرك البعيدة.

هناك قال لي المالي لا يجوز أن نبدل شيئا. هناك قال لي المالي يجب أن ندع المقادير تجري في أعنتها، لنترك قليل الفطنة يهلك في معترك الحياة. هناك سمعت الاقتصادي يقول لي وهو يقطف الأزهار، أن كل مداخلة وكل تجربة تمنع النواميس الاقتصادية من أن تجري مجراها.

فالمالي يقول أطلق لنواميس الطبيعة العنان ولا تقيدها والشرقاوي يقول أن الإنسان لا يبدل

ص: 62

ما هو مقدر مكتوب. . وكان الطبل يزيد الراقصين احتداما. وكان البقر يدور ببطء حول الحواجز البيضاء فقلت. إن حكمة الحضارة وحكمة البداوة تلتقيان في الشقاء، فالأزمات الاقتصادية قد جعلت الغربي يستحسن الكون

الذي أبدعه الله ويرضى بحكم الطبيعة ويجد علاج للازمات الاقتصادية في الاستسلام للمقادير. فكأنه لا مرد لحكم الله وكأنه ليس في إلا مكان أبدع مما كان.

هنا شعب أنهكه العراك وأضناه الإنتاج، وهناك في الغبار شعب متربع على الأرض ينتظر مصيره ساكنا من غير أن يفكر يوما في تغيير قضاء الله.

ص: 63