المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خصم جديد كتب الأستاذ الموسيو جان غولميه الذي حبانا صداقته منذ - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٣

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌خصم جديد كتب الأستاذ الموسيو جان غولميه الذي حبانا صداقته منذ

‌خصم جديد

كتب الأستاذ الموسيو جان غولميه الذي حبانا صداقته منذ سعدنا بلقائه على مقاعد التدريس في جامعة الصور بون مقالا في عدد الثقافة الماضي لعله لم يوجه إلينا إلا انه حمل فيه حملة شعراء على علم الاجتماع الحديث الذي يعرف إننا من مريديه ومن المعجبين به. وقد تعرض لتنفيذ ما يرتئيه أصحاب هذا العلم ودحض مذهبهم الاجتماعي هازئا بقواعد دور كايم ونظريات أشياعه من أمثال بوكله، وموص ودافي، وليفي برول، من أساتذة جامعة الصور بون ثم بين ما دعاه إلى ذلك بقوله إن هذه القضية هي ذات بال في البلاد السورية حيث علم الاجتماع يستهوي عددا كبيرا من الشبان فيعتبرونه كأنه احدث ما ظهر مما أنتجه القرائح العلمية في الغرب ويضعون، كما اتضح لنا، في قواعده وأصوله من الثقة ما تدعو الحيطة لان نحذرهم منه وننبهم إليه.

نشكر صديقنا الأستاذ غولميه على ما أراد أن ينبه قراء الثقافة إليه، على أننا نرى من الواجب أن ننبههم بدورنا إلى ما ربما لم يخف على احد منهم وهو أن الأستاذ غولميه ليس هو أول متهجم على علم الاجتماع وأئمته هذا التهجم الشديد فلقد لقي دور كايم واضع هذا العلم الجديد بعد شيخه اوغست كونت من المصاعب والعقبات وتحامل الناس عليه، شأن كل مصلح يلامس ما تجمد في الأدمغة من عقائد وآراء قديمة، ما أوشك أن يثنيه عن الغاية التي رمى إليها، فلقد رموه بالإلحاد، واتهموه بالكفر والإباحية، ووصفوه بالمادي المتجمد والطائش الأبله، ولكن الرجل ظل مثابرا على عمله يدحض المزاعم بالأدلة العلمية وينفي الأوهام بشواهد الغابر والحاضر حتى وفق في أيامه الأخيرة لان يجمع حوله طائفة من الرجال الذين يعدون اليوم بما صنفوه وألفوه من أكابر رجال العلم ومن مفاخر الجامعات الافرنسية.

ولا بدع أن يكون بين أخصام دور كايم وأعداء علم الاجتماع طائفة من الفلاسفة في هذا العصر، فالفلسفة أم العلوم والفلاسفة أصحابها هم أخصام كل ما خرج عن نطاق فلسفتهم، فليس من علم نشأ واستقل بنفسه عن الفلسفة إلا ونال من ظلمهم وعسفهم حينا من الدهر حتى كاد يقضي عليه وهو في المهد لولا ثبات أصحابه وجهادهم في سبيل تأييده وتصنيفه في عداد العلوم المستقلة الأخرى. وان ما يصيب علم الاجتماع اليوم هو نفس ما أصاب العلوم الأخرى في حين نشأتها وقبل أن تستقل استقلالا اعترف لها به العلماء والفلاسفة

ص: 18

أنفسهم.

رأى دور كايم كما رأى الكثيرون من قبله إن حياة الجماعات هي غير حياة الأفراد وان الفرد الواحد يحس ويفكر ويعمل وهو مجتمع مالا يحسه ويعمله ويفكر به وهو منفرد وان الجماعات وان تألفت من أفراد فكيانها غير كيان الأفراد وأحكامها غير أحكامهم وان هذه الأفراد كالعناصر العضوية إذا هي اجتمعت كان لها من الخصائص مالا تملكه وهي مفترقة ولذلك فقد جعل هذه الجماعات الهدف الذي يرمي إليه في علمه كما إن علماء البسيكولوجيا جعلوا مشاعر الفرد وعواطفه وتصوراته وأهواءه هدف علمهم وموضوع بحثهم. ثم رأى دور كايم أن للهيآت الاجتماعية من المظاهر والقواعد والأصول ما يخضع له الفرد مضطرا لا اختيار له فيه فالمذهب الذي ننتحله واللغة التي نتكلمها والقواعد التي نجري عليها والنظم والتقاليد التي نخضع لحكمها والنزعة التي ننزعها ليست جميعها أثرا من آثار الفرد أو نتيجة من نتائج عمله بل هي حادثات اجتماعية أملتها علينا الجماعة التي نشأنا فيها ولدنا فتجمدت في أدمغتنا وتحكمت في عقولنا وسيرتنا تبعا لأهوائها حتى أصبحت وكأنها قطعة من نفوسنا نكاد لا نشعر بسيطرتها علينا وتحكمها فينا. وجد علماء الاجتماع وعلى رأسهم دور كايم وأصحابه إن لهذه الحادثات الاجتماعية في تطورها وتحولها وتأثيرها على النفوس قواعد وسننا يجب تسجيلها وتصنيفها فجعلوها موضوع علمهم وقالوا علم الاجتماع هو علم الحادثات الاجتماعية، وانبروا يبحثون وينقبون عن ذلك بفرضيات وضعوها ثم سعوا لتأييدها بوصف الواقع ووصف مظاهره تبعا للأصول العلمية التي جرى العلماء جميعا عليها في تأييد علومهم واكتشاف قوانينها ونظمها الثابتة وافترقوا بذلك عن أصحابها الفلاسفة الذين اعتادوا أن يعالج الموضوعات الاجتماعية كغيرها من المباحث الفلسفية بطريق التحليل اللفظي والجدل الفكري والتعميم الذي لا يستند إلا على النظريات الفلسفية التي كثيرا ما تناقض الواقع وتخالفه في كل مظاهره.

ولقد راع بعض الناس أن يروا طائفة من العلماء يقدمون على درس الحادثات الاجتماعية التي لها مساس بالدين والعقائد والتقاليد وجميع مظاهر الفكر على هذا الشكل الذي تدرس به بقية العلوم كعلمي الكيمياء والفيزياء مما لم يعتادوه أو يألفوه

شأنهم مع كل جديد لا يتفق مع ما تمركز في العقول من المبادئ والآراء القديمة وزاد في

ص: 19

روعتها القاعدة الأولى التي وضعها دور كايم لعام الاجتماع ومفادها انه من الواجب على الباحث الاجتماعي أن يعتبر الحادثات الاجتماعية كالأشياء وقصده بالأشياء كما أوضح ذلك لاخصامه في مواقف كثيرة الأشياء المنفصلة عنا والتي لها كيان قائم بذاته. وغايته التي رمى إليها في اعتبار الحادثات الاجتماعية كالأشياء هو أن يتجرد الباحث ما استطاع عند درس الحادث الاجتماعية عن كل عاطفة وهوى يقومان في النفس فلا يترك مجالا في الاستقصاء والتتبع والتحليل لسوى العقل السليم والمنطق الصحيح، فالعلم لا دين ولا وطن له والقواعد العلمية هي هي في كل زمان ومكان لا يصح أن تنال لقب العلم إلا بهذه الصفة العامة الثابتة.

لم يشأ صديقنا الأستاذ جان غولميه أن يصرح في مقاله انه من أولئك الناقمين على هذا التجدد في المباحث العلمية بل حاول أن يثبت انه ليس لعلم الاجتماع بعد من الحادثات الاجتماعية التي درست في مختلف الأقطار ما يكفي لان نستخرج

منه بطريق الاستقراء قوانين اجتماعية عامة لا تقل ثباتها وصحتها عن بقية القوانين العلمية وان ما جمع من هذه الحادثات الاجتماعية حتى اليوم أكثره مشكوك في صحته لا يمكن للعلم إن يتخذ حجة يعتد بها ولذلك فحري بعلم الاجتماع الذي يستعجل الشيء قبل أوانه أن يتلاشى ويخلي المكان لشيء آخر سموه (سوسيو غرافيا) أي وصف الجماعات الذي يكتفي بوصف الحادثات الاجتماعية في مختلف الأقطار دون أن يتعرض لشرحها وتفسيرها واستنباط سنن اجتماعية من مقايستها ومقابلة بعضها ببعض. والغريب في ذلك أن الأستاذ غولميه يقول هذا وهو يعرف حق المعرفة أن كل علم من العلوم يستحيل عليه أن يوفق، وعلى الأخص في بادئ عهده لجمع كل الحادثات والأشياء التي يمكن أن تكون مدار بحثه ومصدر قواعده. فإذا كان في علم الكيمياء مثلا أجسام كثيرة لم تعرف خصائصها بعد ولم يتوصل العلماء لاكتشاف صفاتها فليس معنى ذلك أن علم الكيمياء يجب أن يتلاشى ويخلي المكان لفرع من فروعه يقتصر على الوصف دون الاستنباط. ومن المعروف أيضا أن أسلوب وصف الجماعات هو فرع من فروع علم الاجتماع يساعد على جمع الحادثات الاجتماعية ووصفها وإعدادها. وأي شأن لهذا الأسلوب لو لم يبين علماء الاجتماع الفوائد العملية المتأتية عن وصف الحادثات والأوضاع الاجتماعية وتشخيصها

ص: 20

ومراقبتها في أماكنها وجمعها كمواد يدرسها علم الاجتماع ويقابل بعضها ببعض فيستخرج منها دساتير علمية ثابتة؟

ومن الغريب الذي نكاد نميل معه إلى الاعتقاد بتحامل الأستاذ غولميه هو انه لم يتطرق في مقاله كله إلى ذكر الاتنوغرافيا أي وصف الأقوام والشعوب الذي يعد اليوم احد أركان علم الاجتماع فيبين لنا الفرق بينه وبين وصف الجماعات الذي يشيد بفوائده وصحة أسلوبه ولعله لو فعل ذلك لعز عليه أن يؤيد ما ذكره من عدم صحة أكثر الحادثات الاجتماعية التي يجمعها العلماء وصعوبة الوصول إلى ما يمكن أن يعتد به العلم منها، لان علماء الانتوغرافيا قد توصلوا اليوم إلى تلافي كل ما من شأنه أن يدعو للشك بصحة وصف الأوضاع الاجتماعية وان للمعاهد والمجامع الانتوغرافية وعلى الأخص في انكلترا وأمريكا من الوسائل وإعداد الأخصائيين الذين انصرفوا إلى هذا العلم دون سواه مالا نظن انه يخفى على الأستاذ غولميه، فوصف الجماعات هو كوصف الشعوب والأقوام وكلا الأسلوبين هو مما يهيئ لعلم الاجتماع مواد صحيحة يجمعها تبعا لما تقتضيه قواعد هذا العلم الذي لولاه لما وجدت هذه الأصول ولما نشط العلماء لدرسها والتعمق في جميع فروعها.

بضيق بنا المجال في هذه الرسالة أن نورد أكثر مما أوردناه في تفنيد بعض ما أدلى به الأستاذ غولميه من الشواهد على ما يدعيه من لزوم إحلال وصف الجماعات محل علم الاجتماع ولكن لا بد لنا من أن نشير إلى أمر هام أورده في مقاله دون أن يتعرض لبيان أسبابه. فلقد ذكر أن علم الاجتماع يستهوي الكثيرين من الشبان في بلادنا ولعلة لو بحث عن السر في ذلك لعرف أن هذا العلم لم يستهونا إلا لأننا رأينا فيه ضالتنا التي ننشدها، وشعرنا بأننا أحوج ما يكون لدرسه وتفهم قواعده، فأوضاعنا ونظمنا وأكثر مناحي حياتنا الاجتماعية بحاجة للإصلاح بعد أن جمدنا حينا من الدهر ثم نهضنا نسير الهوينا وإننا إذا انصرفنا إلى هذا العلم الجديد واهتمامنا بأمره فما ذلك إلا لأننا وجدنا فيه ما يعيننا على هذا الإصلاح ويرشدنا إلى الطريق التي يجب أن نسلكها في تجددنا وتطورنا ومجاراة غيرنا ممن سبقنا من الأمم، فهو ينبهنا إلى أن ماضينا لا يموت وان حاضرنا يحتاج إلى الاستقصاء والدرس وان مستقبلنا بأيدينا إذا علمنا ما يجب أن نهيئ له، ولعل هذه الحاجة

ص: 21

الماسة سوف تحدونا إلى الاختراع فلا نكتفي بالاستقصاء والدرس بل نطمح أيضا لان نساعد على إظهار ما لم يهتد إليه هذا العلم الجديد بعد فنؤيد قواعده بما استنبطناه بأنفسنا ونقدم الأدلة على أصول جديدة هدانا إليها ما اختبرناه من مراحل تطونا وما اكتشفنا من صلات بين حاضرنا وماضينا فنفيد علماء الغرب في هذا العصر كما استفدنا منهم ونجاريهم ونماثلهم فنكون وإياهم في العمل على حد سواء.

كاظم الداغستاني

ص: 22