الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سحر الألفاظ
جاء في كتب الأدب أن سعيد بن عثمان بن عفان قال لطويس المغني أينا أسن أنا أو أنت يا طويس. فقال بابي أنت وأمي، لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب، فانظر إلى حذقه وإلى معرفته بمخارج الكلام كيف لم يقل بزفاف أمك الطيبة إلى أبيك المبارك، وهكذا كان وجه الكلام فقلب المعنى (البيان والتبيين).
وفي الحق أن للمعرفة بمخارج الكلام وساعات القول وانتقاء الألفاظ أعظم الأثر في نفوس السامعين لان لا تساق الألفاظ سحرا يضاهي تأثيره تأثير الألحان.
والجمال غاية الألفاظ كما أن الحقيقة غاية المعاني ومثلها الأعلى. فللألفاظ وامتزاجها ولمخارج الحروف وتركيبها جمال لا يقل سحرا عن جمال النغمات الموسيقية والألوان المتسقة، وقد قيل أن من البيان لسحرا.
لقد بحث أدباؤنا في تأثير اللفظ وسحره وحسن دلالته وأسهبوا في ذلك، حتى ملأوا كتب الأدب بالأحبار التي تدل على حسن انتقاء اللفظ وتأثيره في المعنى الوحشي البعيد وتقريبه للأذهان مما لا أجد الآن حاجة إلى ذكره
والناس قد افتتنوا بالألفاظ منذ القديم فلم يقتصروا في بيان تأثيرها على نقل الأفكار من المتكلم إلى السامع بل اعتقدوا أن لها بعض الخواص السحرية. وأي سحر هو أعظم وأمتع من صوت تسمعه فتفهم معناه، وكيف تتألف الألفاظ من الحروف، لا بل كيف تفرق بين الأصوات، وكيف تكون دلالتها. أن في الألفاظ لسحرا. فلا غروا إذا افتتن الإنسان الأول بالألفاظ وعز إليها خاصة سحرية وظن انه يستطيع أن يؤثر بها في حوادث الطبيعة.
كنا ونحن في المدرسة الثانوية نقصد منجمة من منجمات دمشق لاستماع حديثها العذب وألفاظها الساحرة. وكان كل من أصحابي يسألها عن طالعه وحاجات فؤاده، وكانت لا تحفل بهزئنا وضحكنا بل تتمتم وتدمدم وتقرأ لنا سجعا لا تزال نغماته ترن في أذني. ثم تعطي كلا منا تميمة (حجابا) وتطلب منا أن نحلها في الماء ونشرب محلول ألفاظها. لم اتبع يوما من الأيام علاج المنجمة ولكني اعرف كثيرين ممن شربوا محلول الألفاظ واستشفوا بسذاجة الاعتقاد.
فألفاظ تشفي من بعض أمراض النفس ولعلها تشفي أيضا من بعض أمراض الجسد. وربما كان علاج بعض الأمراض بكيمياء الألفاظ لا يقل تأثيرا عن العلاج بالعقاقير، بل ربما كان
بعضهم أميل إلى التأثر بالكلام منه إلى التأثر بالمادة. إلا تقول العامة في بلادنا إن الكلمة الطيبة تخرج الحية من وكرها، إلا يسعى المشعوذون لإخراج الشياطين من صدور المجانين بالألفاظ التي يهمسون بها إليهم. وكم عليل تحسن حاله بالكلام، وكم هم بدده سحر البيان وقوة البلاغة. فكأن الألفاظ أدوية وكأن الخطباء أطباء.
ومن تأثير الألفاظ عند الشعوب الأولية إنها كانت تحرس المال وتحفظ الملك كما كانت تشفي من الأمراض. فكان الإنسان لا يجسر أن يسرق أموال أخيه خوفا من الألفاظ، لان الذي سرقت أمواله ينادي بالويل والثبور ويشتم ثم يدعو إلى الله أن يصاب السارق بالمرض والجوع والغرق والحريق والهلاك. فإذا علم السارق بذلك ارجع ما سرقه إلى صاحبه خوفا من تأثير تلك الألفاظ وسحرها، وكان الناس يكتبون بعض الألفاظ على الواح من الحجر أو من الرصاص ويضعونها في المحل الذي يريدون أن يحرسوه أو في معبد الإله الذي يبتهلون إليه ولا يزال قسم كبير من هذه العادات موجودا اليوم عند قبائل (الداياك) من جزيرة بورنئو.
وهذا ما يدعو إلى القول أن الألفاظ سلاح يستطيع الإنسان أن يدافع به عن ماله كما يستطيع أن يدافع به عن نفسه. نقل لي احدهم أن في بلاد الأفغان عادة تقضي أن يستأجر النساء المتخاصمات شتامات كنا نستأجر في بلادنا ندابات. كل شتامة تنازل أختها باللعنات والشتائم. فإذا غلبتها شعرت موكلتها بلذة الانتصار وشرف الغالب. فهناك إذن مبارزة تقتصر على اللفظ ولا تحتاج إلى الفعل وهي اقل خطرا من المبارزة بالسلاح. وكم مرة خلص الكلام صاحبه من القتل. من ذلك أن الحجاج ضرب مرة أعناق أسرى فلما قدموا إليه رجلا ليضرب عنقه قال: والله، لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيها احد مثل هذا وامسك عن القتل. فالمعاني المختلجة في النفوس والمتصلة بالخواطر لا تجدي نفعا إذا لم يظهرها اللفظ وتدل عليها الإشارة.
وكما يصح أن نقول إن الألفاظ سلاح فكذلك يمكن القول إنها ثروة. فالخطيب والمحامي والأستاذ يتاجرون بالألفاظ ويبتاعون الرطب بالخطب. ولولا استثمارهم للألفاظ كما تستثمر رؤوس الأموال لما نجحوا في أعمالهم. ولعل تجارة الألفاظ أكثر إنتاجا في بعض الأحيان من تجارة البضائع ومبادلة الأموال، لان معينها لا ينضب ولا يجف بكثرة الاستعمال بل
يحسنها الصقل ويزيد قوتها الانتقال وهكذا فان الألفاظ واسطة من الوسائط التي استطاع الإنسان أن يتغلب بها على الطبيعة حتى لقد كان الملوك يستمطرون الرحمة من السماء بالألفاظ التي كانوا يبتهلون بها كأن لألفاظهم تأثيرا في حوادث الكون فكانت الأمطار تهطل بتأثير الألفاظ كما يزداد الخصب ويمتنع الجراد وتزول الأوبئة.
جاء في كتاب (عمل بسيشه) لفريزر، إن الكارنيين من قبائل برمانيا يعتقدون أن للزنى مثلا تأثيرا في الطبيعة فإذا انقطع المطر وأجدبت الأرض اجتمع عقلاء القبيلة وابتهلوا إلى الله أن يعاقب الجاني. ثم إنهم يبتاعون خنزيرا ويذبحونه ويعطون كلا من الزاني والزانية رجلا من رجليه ثم يشقون في الأرض تلما ويملأونه من دم الخنزير ويرددون هذه الألفاظ: يا اله السماء والأرض ورب الجبال والآكام. لقد أيبست ثمار الأرض بعملي، فلا تؤاخذني، ولا تبغضني لأنني جدير برحمتك وعفوك. انظر إلي. ها أنا ذا أصلح الجبال واحيي الروابي والأنهار. رب رحماك لا تضع أتعاب الناس ولا تهلك أموالهم الخ. (ص - 80) ويعتقدون إنهم يستطيعون بمثل هذه الألفاظ أن يؤثروا في حوادث الطبيعة ويعتبروا مجرى النواميس وهناك أمثلة عديدة مقتبسة من عادات الشعوب وأخلاقهم تدل على هذا السحر في الألفاظ.
ولو لم يكن في الألفاظ إلا تأثيرها في نقل الأفكار وتفهم المعاني لكفى بذلك دليلا على سحرها. لولا الألفاظ لما اطلع الإنسان على فكر صاحبه ولا إدراك ما هو قائم في صدر أخيه. فبالألفاظ تحيي المعاني وعلى قدر وضوحها ودلالتها يكون البيان. والمعنى لا يظهر ولا ينقل من الضمير إلى الضمير ولا يمر من القوة إلى الفعل ولا يثبت إلا باللفظ. فلولا الألفاظ لما أمكن حصر القياس ولا حسن الاختصار ولا دقة المدخل في الكلام. ولولاها لما ثبت المعاني العلمية. ولا أغالي إذا قلت أن الاصطلاحات العلمية تعادل نصف العلم.
فها أنت ترى أن للألفاظ شأنا عظيما في الشعور والتفكير والإرادة وحسن الدلالة فقد توحي إليك بالمعنى الذي لم يخطر على قلبك وقد تفسد المعنى اللطيف وترفع المعنى الوحشي. ولا غرو إذا عشق الناس الكلام والكلام أصل الوجود: في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله وقال فيكتور هوغو: اللفظ هو الكلمة والكلمة هو الله. فكأن اللفظ آلة للسحر وكأن الكلام إله معبود
ولو لم أقف من سحر الألفاظ إلا على هذه الأمثلة لوجدتها كافية، إلا أن هناك أمثلة عديدة تدل على سحر اللفظ وتدل في الوقت نفسه على مضرته. وأنا لم امتدح
لك الألفاظ إلا لا حذرك من معاطبها. ثم أن الألفاظ تثبت المعاني وتعين الفكر، إلا أن تصور المعنى يسبق الدلالة باللفظ والإنسان لا يستطيع أن يوضح باللفظ عن كل ما في نفسه من المعاني المكنونة والأفكار الخفية حتى قال العلماء إن الألفاظ لا تدل على قسم مما يخالج النفس من المعاني، لأنها محصورة معدودة أما المعاني فعير محصلة غير محدودة وهذا ما يعبرون عنه بقولهم إن المعاني متصلة والألفاظ منفصلة. وقد يحمل الاهتمام بالألفاظ على إهمال المعاني فيفتتن الكاتب باللفظ دون المعنى ويشوه الفكر حبا بموسيقيه الألفاظ وينسى أن للأفكار جمالا بذاتها حتى لقد يبعثه هذا الغرام بالألفاظ على استعمال الكلام دون فهم معانيه فيحدثك عن شآبيب الرحمة وافواف الوشي وهو لا يفهم معنى ما يقول. ولكن أعجبه ما في العبارة من الوقع وما في نغمتها من الصدى فاستعملها وستر معناها بحجاب من الرضا والإغضاء. إن شدة الاعتناء بالألفاظ توقف نمو الفكر فيصبح آلة تكرر ما حفظت وتغربل ما نقل إليها من غير أن تبدع. وقد قيل أن إضاعة العمر بالوسائل مانعة من الوصول إلى المقاصد لقد ورثنا هذا الشغف بالألفاظ عن أجدادنا فتأخر الإبداع في آدابنا وازداد تقيدنا بالأوضاع المعروفة والتعابير المألوفة. وقد فتنتنا صناعة اللفظ حتى ذهلنا عن المعاني. وما أكثر أدباءنا الذين أضاعوا عمرهم في وزن السجع وصقل الألفاظ. أنهم يكتبون بلغة غير طبيعية ولهجة غير معتادة كأن بساطة التعبير حرمان من الأدب أو كأن وضوح العبارة نقص من العلم. قرأت في كتاب للموسيو (لودانتك) إن استعاذا من أساتذة الفلسفة كتب على إحدى مقالات تلاميذه ملاحظة قال فيها: إن عبارة المقالة واضحة جدا وان القارئ يفهمها بسهولة. وقد قال فولتير عن نفسه انه مثل الجداول الصغيرة فهي شفافة لأنها غير عميقة. . ولكن هل يجوز أن تكون اللغة العلمية غير واضحة. إن الذي يريد أن يكتب المواضيع العلمية
بلغة الحريري أو بلغة الهمذاني أشبه بالمرأة الجميلة التي تفسد جمالها بالمساحيق.
ولم يقتصر حب الألفاظ على الأدباء بل عم العلماء أيضا حتى نظموا العلوم شعرا فهناك أراجيز للنحو والمنطق والطب تدل كلها على هذا الميل المخالف للطبيعة. إن نظم الطب
شعرا يضر الطب والشعر معا. وكذلك نظم النحو فهو لا يكسب ملكة اللغة والإنشاء بل بكسب صناعة لفظية لا فائدة للعلم منها. قل لي بربك ما الفائدة من نظم كتاب إقليدس؟ إن القضايا الواضحة يجب التعبير عنها بألفاظ واضحة. غير أن الميل إلى المجاز واستعمال الكنايات والحرص على موسيقى الألفاظ فتن العلماء كما فتن الشعراء حتى نال بعضهم أن الفن والعلم إخوان لا يفترقان وان للحقيقة شعرا كما للشعر حقيقة. لا جرم إن في الكشف عن الحقيقة جمالا لا يقل روعة عن جمال الفن نفسه إلا انك إذا حاولت ستر الحقيقة بحجاب من الألفاظ شوهت الحقيقة. فالحقيقة يجب أن تبدو بثوبها الطبيعي لا بثوبها الصناعي، وإذا ظهرت بثوب غير ثوبها فقدت جمالها.
ولعل السبب في هزء العلماء بالأدباء إنهم لا يتكلمون بلغة واحدة ولا يدل اللفظ عندهم على معنى واحد. فالعالم إذا أراد أن يبحث عن تأثير الريح في أمواج لا يقول: نسج الريح على الماء زرد بل يسمي الأشياء بأسمائها. ولو استمر العلماء على البحث في خواص المادة الخفية كما كانوا يفعلون في دور ما بعد الطبيعة لما تقدم العلم. إلا أنهم اقتصروا اليوم على البحث في الأعراض الظاهرة. فلفظ الرمان يدل عندهم على الرمان فقط وهم يبحثون عن لونه وتركيبه أما الأدباء
فلا يزالون يبحثون عن معنى (الرمان) وصوره، ولعلهم إذا أكلوا الرمان تغدوا
بحقيقة الرمان كما يتغذى اليوم بعضهم بسحر الفيتامين.
ولعل السبب في عشقنا للألفاظ فساد طرق التربية في مدارسنا. فتربيتنا تربية
لفظية. تملأ عقل التلميذ بالألفاظ دون المعنى، وتشحن ذاكرته بالكلام دون أن تحرك عقله بالأشياء والتجارب. فيحفظ الطفل الألفاظ ولا يرى الأشياء بل يبتعد عن التجربة ثم إذا خرج من المدرسة حافظ على احترام الألفاظ وعبادة الكلام فيكلمك وأنت تظنه يفكر وهو يردد أفكار غيره ويرن كما ترن الآلة، لأن الألفاظ لا تغذي العقول ولا تفتق الأذهان بل تخلق أشخاصا مقلدين ليس لهم قوة على الإبداع ولا ميل إلى التجديد.
جميل صليبا