الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شعر ابن زيدون
لخليل مردم بك
ابن زيدون احد أدباء الأندلس الذي جمعوا بين الشعر والنثر وجودوا فيهما كابن عبد ربه صاحب العقد الفريد ولسان الدين الخطيب. وتلك مزية كاد الأندلسيون ينفردون بها لأنك قل أن تجد بين أدباء المشرق من نبغ في الصناعتين معا وان كان شعراء المشرق على انفراد اكبر من شعراء المغرب وكذلك قل في الكتاب. على إن الكلام في هذا الفصل سيكون مقصورا على شعر ابن زيدون دون نثره.
كان الأديب الأندلسي يأتم بأدباء المشارقة ويقلدهم ويطبع على غرارهم في أساليب الشعر والنثر ولا يرى الأدب الحق إلا ما روي عنهم فهذا كتاب العقد الفريد وصاحبه من أئمة الأدب في الأندلس مروي من أوله إلى آخره عن أهل الشرق ليس فيه من الأدب الأندلسي غير أرجوزة واحدة في خلفاء بني أمية بالأندلس لصاحب الكتاب مع قليل من شعره. قيل إن الصاحب ابن عباد حرص على إن يطلع على ذلك الكتاب فلما حصل عليه وتأمله قال: بضاعتنا ردت إلينا، ظننت إن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم فإذا هو يشتمل على أخبار بلادنا لا حاجة لنا فيه ثم رده. وإذا نبغ بينهم شاعر أطلقوا عليه اسم شاعر من شعراء المشرق أو لقبه كابن هاني الأندلسي الملقب بمتنبي الغرب وابن زيدون المعروف ببحتري المغرب.
على انه مهما بالغ الأندلسيون في اقتفاء اثر المشارقة فان لطبيعة الأندلس أثرا لم يخف في شعرهم، فاعتدال الجو وحسن المناظر في الأرض والسماء وكثرة الافياء والأنداد وامتداد الظلال والأنهار، رقق من طباعهم وهيأ نفوسهم لتقدير محاسن الطبيعة في تلك البقعة المباركة، فمالوا إلى الترقيق ووصف الطبيعة، كابن خفاجة الأندلسي الذي يحق له أن يسمى شاعر الطبيعة.
فهم من هذه الجهة يشبهون شعراء الشام لتشابه طبيعة القطرين.
ولعل ابن زيدون من طليعة أولئك الشعراء الذي تتبين في شعرهم طابع الأندلس السحري. لان ابن هانئ الذي كان قبله لا يتميز شعره بتلك السمة الخاصة. وهو بلا شك أوفرهم حظا من الشهرة حتى كأن اسم الأندلس مقرون بابن زيدون وكأن شهره ذكرى عذبة لذلك
الفردوس المفقود، ولا تكاد تجد شاعرا يجعلك تتصوره بلاده مثله حتى إن القصائد التي عارض بها الشعراء قصيدته التي مطلعها:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
…
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
سميت بالأندلسيات.
نشأ ابن زيدون في بيت معروف بالوجاهة والعلم بقرطبة عاصمة الدولة الأموية في الأندلس ولم يكد يبلغ الحادية عشرة من سنة حتى فقد أباه ويدلنا شعره ورسائله على ثقافة عالية ورواية للأدب واسعة. وكانت قرطبة إذ ذاك على اضطراب أمر الدولة فيها تضاهي بغداد في الحضارة ونعيم العيش وتوفر أسباب الترف واللهو. ومن أجدر من ابن زيدون الفتى النبيه بالأخذ بأوفر نصيب من حياة قرطبة في شتى مناحيها، فطلب العلم والأدب واختلف إلى مجالس الحسان ومقاصيرهن واشتغل بالحوادث السياسية التي انتهت بانقراض دولة بني أمية. ولكل ذلك اثر واضح في شعره.
وقدر له وهو في عنفوان شبابه أن يقع في شرك ولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي، وولادة أميرة برعت في الأدب والجمال كان مجلسها ناديا لأعيان قرطبة وذلك لفرط أدبها وجمالها وحسن محاضرتها وحلو عشرتها ولين حجابها وخفة روحها، كانت تجالس زوارها وعليها ثوب كتب بالذهب على طرفه الأيمن:
إنا والله أصلح للمعالي
…
وامشي مشيتي واتيه تيها
وعلى طرفه الأيسر:
أمكن عاشقي من لثم خدي
…
وأعطي قبلتي من يشتهيها
فكان الأعيان والأدباء يتبارون في ذلك الميدان ويتنافسون في محبتها. ولكن ابن زيدون الشاب الشاعر الجميل أحبها حبا شديدا وأحبته هي أيضا ففاز منها بما لم يفز به غيره. واسمه يحدثك عن علاقة ذلك الحب بينهما ويصف لك ليلة لقائهما قال: كنت في أيام الشباب وغمرة التصابي هائما بولادة فلما قدم اللقاء وساعد القضاء كتبت إلي:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي
…
فاني رأيت الليل اكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا
…
وبالشمس لم تطلع وبالنجم لم يسر
فلما طوى النهار نوره، ونشر دنانيره، أقبلت بقد كالقضيب، وردف كالكثيب، وقد أطبقت
نرجس المقل، على ورد الخجل، فملنا إلى روض مدبج، وظل سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وفاضت سلاسل أنهاره، ودر الطل منثور، وجيب الراح مزرور، فلما شببنا نارها، وأدركت منا ثأرها، صرح كل منا بحبه، وشكا ما بقلبه، وبتنا بليلة نجني أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدر، وكانت عتبة قد غنتنا:
أحبتنا إني بلغت مؤملي
…
وساعدني دهري وواصلني حبي
وجاء يهنيني البشير بقربه
…
فأعطيته نفسي وزدت له قلبي
فلما انفصلنا عنها صباحنا أنشدتها ارتياحا:
ودع الصبر محب ودعك
…
ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن
…
زاد في تلك الخطا إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنا
…
حفظ الله زمانا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم
…
بت أشكو قصر الليل معك
وكتب إليه ولادة مرة:
ألا هل لنا من بعد هذا التفرق
…
سبيل فيشكو كل صب بما لقي
وقد كنت أوقات التزاور في الشتا
…
أبيت على جمر من الشوق محرق
فكيف وقد أمسيت في حال قطعه
…
لقد جعل عجل المقدور ما كنت اتقي
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي
…
ولا الصبر من رق التشوق معتقي
سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا
…
بكل سكوب هاطل الوبل مغدق
فأجابها:
لحى الله يوما لست فيه بملتقي
…
محياك من اجل النوى والتفرق
وكيف يطيب العيش دون مسرة
…
وأي سرور للكئيب المؤرق
ونافسه في حب ولادة الوزير ابن عبدوس وكاد له من اجله عند أميره ابن جهور فكان
من اكبر أسباب محنته وحبسه وكان اشق شيء عليه في السجن بعده عن ولادة فلما فر من السجن ورحل عن قرطبة كانت ذكرى ولادة شغله الشاغل فولادة هي التي اوحت إليه تلك الأغاني الشجية الساحرة وحبها كان اشد العوامل أثرا في حياته وشعره. فلا تحفل بعد ذلك من شعر ابن زيدون إلا بما كان في ولادة وذكراها. هذه قصيدته التي كتب بها من سجنه
إلى ابن جهور يستعطفه بها يقول في أولها متشوقا إلى ولادة:
ما جال بعدك لظي في سنا القمر
…
إلا ذكرتك ذكر العين بالأثر
ولا استطعت ذماء الليل من أسف
…
إلا على ليلة سرت مع القصر
فليت ذاك السواد الجون متصل
…
لو استعار سواد القلب والبصر
فهمت معنى الهوى من وحي طرفك لي
…
إن الحوار لمفهوم من الحور
حسن أفانين أعيننا
…
غاياته بأفانين من النظر
فإذا انتهى من هذه الأنغام العلوية وبلغ ابن جهور يستعطغه انحط عن تلك المرتبة مع إن القصيدة نظمت برسم ابن جهور.
يروقك من شعر ابن زيدون اثر الترف الماثل فيه وحب اللهو وتلك اللوعة الوثابة والشوق المبرح والحنين الشديد وكل ما يمت إلى الغرام وأهواء النفس بسبب ووصف مغاني الإنس ومعاهد الذكر فهو كشاعر غزلي
اكبر منه في كل فن من فنون الشعر وما قاله في ولادة شعر حي يتغنى به منذ عهدهما إلى الآن.
ابن زيدون وان أحب الصنعة واقبل عليها في شعره فهو مطبوع يتدفق ماء الطبع من أكثر شعره ولا شك في أن غرامه رقق ذلك الطبع وشحذه فظل باب الغزل في شعره أحسن من جميع الأبواب التي عالجها.
صنعة ابن زيدون أشبه بصنعة البحتري لا تعارض الطبع بل تجاريه وتعتمد عليه فهناك حسن انتقاء للألفاظ العذبة في الذوق والسمع وبعد نظر في استعمالها وإنزالها منازلها مع تتبع برفق وبراعة لأنواع البيان والمحسنات بنوعيها معنوية ولفظية. قالوا أن ابن زيدون بحتري المغرب والحقيقة إن بين الشاعرين تشابها من حيث السلاسة والعذوبة والاهتمام بموسيقى اللفظ وحسن الرصف بما لا يعارض الطبع والتسلسل والتساوق ومخاطبة النفس والدقة في وصف المرئيات والهواجس وان كان البحتري أكثر فنونا وأوسع مضطربا في أغراض الشعر. ومهما يكن فقد كان ابن زيدون معجبا بالبحتري يجاريه فلا يقصر عنه في الغزل والحنين قال الصفدي إن قصيدة ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا. . . . . . .
عارض بها البحتري في قوله:
يكاد عاذلنا في الحب يغرينا
…
فما لجاجك في عذل المحبينا
نلحى على الوجد من ظلم فديدننا
…
وجد نعانيه أو لاح يعنينا
مذهب ابن زيدون في الشعر مذهب الوجدانيين الذين يعبرون عن هواجس النفس وخوالج الضمير بصورة فنية خلابة تستفز الطرب وتستثير الإعجاب وان لم يكن فيها ابتكار أو عمق في التفكير لذلك فلا تكاد تجد له معنى مخترعا أو رأيا يعتمد على المحاكة العقلية والتفكير العميق فإذا شئت أن تقف على براعته وسحره فالتمسهما في غزله ووجده وشوقه وحنينه كقوله:
لا سكن الله قلبا عن ذكركم
…
فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الصبح حين سرى
…
وافاكم بفتى أضناه ما لاقى
كان التجاري بمحض الود مذ زمن
…
ميدان انس جرينا فيه إطلاقا
فالآن احمد ما كنا لعهدكم
…
سلوتم وبقينا نحن عشاقا
أما الوصف في شعره فجيد بالغ إذا تناول محاسن الطبيعة لاسيما إذا كانت مربعا للهواة أو باعثا لذكرياته كالقصيدة التي كتبها إلى ولادة يصف الزهراء في الربيع ويشكو إليها شوقه:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
…
والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله
…
كأنه رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم
…
كما شققت عن اللبان أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت
…
بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر
…
جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت ارقي
…
بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته
…
فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سرى بنافجة نيلوفر عبق
…
وسنان نبه منه الصبح إحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا
…
إليك لم يعد عنها الصدر إن ضاقا
وصور الطبيعة تتراءى في مواضع شتى من شعره على اختلاف الأغراض كقوله في الشكوى من السجن:
ألم يأن أن يبكي الغمام على مثلي
…
ويطلب ثأري البرق منصلت النصل
وهلا أقامت أنجم الليل مأتما
…
لتندب في الآفاق ما ضاع من نثلي
ولو أنصفتني وهي أشكال همتي
…
لا لقت بأيدي الذل لما رأت ذلي
ولا فترقت سبع الثريا وغاضها
…
بمطلعها ما فرق الدهر من شملي
وكقوله في قصيدة يمدح بها ابن جهور:
إلى أن بدت في دهمة الأفق غرة
…
ونفر من جنح الظلام غراب
وقد كادت الجوزاء تهوي فخلتها
…
ثناها من الشعرى العبور جناب
كأن الثريا راية مشرع لها
…
جبان يريد الطعن ثم يهاب
كأن سهيلا في رباوة افقه
…
مسيم نجوم حان منه إياب
كأن السها فاني الحشاشة شفه
…
ضنى فخفات مرة ومثاب
كأن الصباح استقبس الشمس نارها
…
فجاء له من مشتريه شهاب
كأن إياه الشمس بشر ابن جهور
…
إذا بذل الأموال وهي رغاب
وما سوى ذلك من الأبواب التي عالجها كالمديح والرثاء والعتاب والتهاني لا يستدعي في جملته الإعجاب على ما فيه من أحكام في النسج وصنعه تدل على أدب جم ورواية واسعة وثقافة عالية لان اثر التصنيع ظاهر عليه ينبيك بأن الباعث على نظمه ضرورة أو مجاملة أو قضاء حق أو دفع مغرم أو جر مغنم كقصائده التي مدح الملوك بها في حبسه وبعد فراره من السجن أو التي هاجم بها حساده ومنافسيه فلا تكاد تجد بها معنى مبتكرا أو إبداعا في جملتها بل هي من المتعارف المعهود وبعضها من المردد المعاد الذي ألح عليه الشعراء حتى بلي.
فالوزير ابن زيدون شاعر يجري طلقا ويأتي سابقا في ميدان صبابته وهواه فإذا تعدى حدود ذلك الميدان لم يكن من السابقين. فأناشيد غرامه وحدها هي التي تستحق الخلود ولأجلها قارن بعض المستشرقين بينه وبين طيبو لوس الشاعر اللاتيني وبيترارك الشاعر الايطالي.
خليل مردم بك