الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ستة عشر أديبا يفتشون عن
امرأة المستقبل
في أيام الدراسة بجامعة برلين كنت أنا وصديق إيراني نجلس في درس اللغة اللاتينية إلى جانب فتاة ألمانية لا نلتقي بها إلا و (راحة) التنيس معها. وقد كانت
في مظهرها مثال المرأة المغربة بالرياضة البدنية: لها جسم قوي مفتول العضلات ووجه أحمر يطفح نشاطا ترتدي لباسا في غاية البساطة رغم غناها. وكنا كلما سألناها إلى أين هي ذاهبة بعد الدرس أجابتنا: إلى ملعب التنيس أو إلى البحيرات في ضواحي برلين للسباحة أو التجذيف.
ليس من الغريب انهمال هذه الفتاة في الرياضة البدنية فان كل الشعب الألماني
وفي مقدمته النساء قد جعل للرياضة المقام الأول في حياته ويكاد الناظر يعتقد أن ألمانيا كلها قد أصبحت ملعبا كبيرا يتبارى فيه الجميع في سبيل القوة والجمال.
ولكن الأمر المهم الذي يستحق التفكير هو تأثير الرياضة ليس في الصحة العامة والجمال فقط في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والفكرية أيضا. فان الحياة الرياضة الطلقة قد حررت أفرادها هذا الشعب من القيود البالية ونفخت فيه روحا جديدة اقرب إلى الطبيعة.
وقد صرحت لنا هذه الفتاة في احد الأيام، لما انتقل بنا الحديث إلى العلاقات بين الرجل والمرأة، انه أخذها العجب منا نحن الطالبين الشرقيين اللذين تسيطر علينا التقاليد القديمة، البعيدة عن الفطرة ولا تزال نعيش في الخيالات والأوهام الشعرية. وقالت: يجب أن تسود الصراحة والبساطة في علاقات الجنسين ولا يجوز
إن يضيع الناس في هذا العصر أوقاتهم في الأحلام والعواطف.
وبينما الجمهور في ألمانيا وغيرها من البلاد الغربية أصبح لا يؤمن إلا بهذه العقيدة التي قلبت العلاقة الجنسية نرى أصوات بعض المفكرين من الأدباء ترتفع بانتقاد التطرف والغلو في هذه السبيل التي أوشكت أن تنتهي إلى الإباحة والمادية.
وقد كثرت في السنيين الأخيرة المباحث حول موضوع المرأة وعلاقتها بالرجل ونريد هنا تلخيص كتاب جديد انتشر في ألمانيا يشرح فيه ستة عشر أديبا من ابرز الكتاب الألمان
والنمساويين الحديثين آراءهم في امرأة المستقبل. . .
يقول أميل لوقا، الكاتب المعروف بمباحثه الفنية وتحليله للحب: إن المثل الأعلى لعلاقة الجنسين ظل في أوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر يتمسك بمبدأ التضاد والتقابل أي أن المرأة والرجل كان ينظر إليهما كقطبين متناظرين يجذب احدهما الآخر لما فيهما من اختلاف في الطبيعة ولان كل واحد منهما يتمم ما في الآخر من نقص. ومنذ أول القرن العشرين تزعزع هذا المثل الأعلى واخذ يقوم مكانه مثل أعلى أخر معارض له مبني على فكرة التوازي والاتساق بين الجنسين.
أن هذا المثل الأعلى الجديد يبغض كل اختلاف وتضاد وتطرف ويتطلب في الجنسين الصفات المتشابهة، المشتركة المتقاربة: انه لا يحفل بغرائز الأنوثة أو الرجولة البارزة بل يميل إلى الصفات البشرية العامة الجامعة بين الرجل والمرأة وهذه الفكرة قد انتشرت بين الأمم الشمالية ولا تزال بعيدة عن البلاد الأوربية الجنوبية. ومن مظاهر هذه الفكرة انتشار الحب الجنسي. .
لقد تقارب الجنسان في مظهرهما الخارجي ولكن المثل الأعلى ليس هو أن تصبح المرأة مشابهة للرجل ومساوية له بل أن تقرب من الغلمان والشبان سواء في ظاهرها أو في شعورها الباطني. إن رغبة الرجل والمثل الأعلى الذي ينشده في صميمه ولو لم يصرح به هو إلا تكون المرأة مثله تماما بل أن تكون كمخلوق بين الشاب والغلام، بين الفتى والصبي أو بالأحرى كالأخ الأصغر: أكثر منه نضارة ورشاقة ونعومة ورقة ولطفا. . .
على أن هذا المثل الأعلى قد اخذ منذ الآن في التضاؤل والاضمحلال وبدأت حركة رد الفعل.
وتدل الظواهر على أننا في أوائل عهد جديد يجمع بين الفكرتين المختلفتين
ويبدع منهما فكرة جديدة أكثر سموا. فان المرأة الراقية ترفض اليوم أن تكون مشابهة ومساوية للرجل وهي لا تريد أن تصبح بشرا مطلقا لا جنس لها بل تريد أن تكون قبل كل شيء امرأة بكل معنى الكلمة.
امرأة تتصف بالأنوثة، ذلك هو المثل الأعلى الذي يتكلم عنه أميل لوقا ويطالب به جميع زملائه الكتاب الستة عشر.
وهذا (لئوماتياس) الذي اشتهر بكتاب عن رحلته في الشرق قد نشر رسالة يخاطب فيها ابنته قائلا: إياك ومحاولة التساوي مع الرجل! فإن المرأة أيضا لها قيمتها ولكن هذه القيمة عن قيمة الرجل. ويجب أن تنصرف همة النساء إلى نيل امتيازاتهن الخاصة كما ينبغي أن تصبح لهن قواعد أخلاقية خاصة.
ويبحث الأديب الروائي (آلفونس باكة) عن الخطر في إخضاع قوة الحب والشهوة الجنسية لسلطان العقل وسيطرة المنطق.
أما الكاتب الفيلسوف (اوتو فلاكه) فيقول أن تحكم العقل والمنطق مما ينتهي بالحب إلى الحقارة والتفاهة. وامرأة المستقبل لا مهمة لها في الحياة غير المهمة التي تقوم بها امرأة اليوم وقامت بها امرأة الأمس وهي: العناية بالحب والسمو به عن الانحطاط والابتذال.
ويدعي (روبرت موزيل) الكاتب الروائي أن المرأة قد سئمت أن تبقى دائما موضوعا لمثل الرجل العليا. وعدا عن أن الرجل لم يعد من القوة بمكانة
يستطيع معها إبداع المثل العليا الجديدة وتصورها فان المرأة بدورها قد أخذت اليوم على نفسها مهمة التفكير في أمانيها ورغباتها الخاصة في المستقبل.
ويتعرض (آكسل اككه بريخت) إلى الجمود واليأس الذي استولى على العالم الأوربي الغربي في أمور الحياة الجنسية ومسائل الحب ثم يثبت أن الناس
أمسوا لا يعتبرون الحب والعلاقات الجنسية إلا كحادث شخصي تافه لا وزن له في حياتهم ومن هنا ينشأ التردد والتذبذب الذي لا يطاق في موقف الرجل تجاه
المرأة ويقول (اككه بريخت): أن معضلة الحب ناجمة عن فقدان الحب. وغاية ما نرغب فيه هو أن نقدر على الرغبة.
وكذلك (هاينريخ ادوارد ياقوت) ينشد المرأة التي يجب أن تبتعد عن عالم الرجل وان تثير فيه الشوق غير المتناهي وان تعبن بأفكاره المنطقية التي تجلب إليه الشؤم والاضطراب بوضوحها وجلائها.
ويحاول (والترفون هوللاندر) إن يصور لنا المثل الأعلى للمرأة فيقول:
إن الأنوثة شيء قائم بذاته ولذاته، إنها في صورتها النقية الخالصة عنصر
ضروري وركن لا يستغنى عنه في بناء الحياة والعالم. ثم ينتقل إلى التطور الحديث
ويطالب المرأة بان تتغلب على الشعور بالنقص في نفسها الذي يلازمها والذي يجعلها تعتقد إنها لا قيمة لها في ذاتها وإنها لا تعتبر شيئا مذكورا إلا إذا كانت إلى جانب الرجل والولد. يجب أن تتحرر المرأة من قيود الدائرة الضيقة التي تدور حول الرجل والزواج والولد والتي تمنى فيها كل يوم بخيبة الأمل وانكسار الخيال فتعود على نفسها وتصبه امرأة مستقلة في ذاتها وفي أنوثتها أيضا بعداد لت تم لها ذلك من الوجهة الحقوقية والاجتماعية قبلا.
جميع هؤلاء الكتاب يعتقدون أن الحياة الزوجية، كما كانت قبل اليوم
قد انقض عهدها وأصبحت لا تصلح للأجيال المقبلة. فليس هناك احد ينكر على المرأة الحق في أن تشارك الرجل في حياة العمل وان تتمتع بالمساواة الحقوقية والاجتماعية.
ولكن المعضلة التي تشغل الأفكار هي معرفة التطور في علاقات الجنسين وحل هذا اللغز المسمى بالمرأة لان حياة الرجل لن تستقر ويسود فيها الاطمئنان والسعادة والإبداع إلا إذا أصبحت المرأة جزءا متمما له تنفحه القوة والنشاط وتغذي شعوره وتفكيره كما تتلقى منه ما ينقصها في حياتها الخاصة من عواطف ومبادئ. . .
كامل عياد