الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكونتس دي نوايل
للدكتور أنور حاتم
فقدت فرنسا بموت (الكونتس دي نوايل) اكبر شاعرة من شواعرها. كانت حياة هذه الشاعرة وأعمالها وأفكارها تحوم دائما حول أنشودة الموت. ولقد انتهت هذه الأنشودة اليوم إلى غايتها.
ولدت الكونتس من أب روماني وأم يونانية ونشأت في باريس وتغذت بالثقافة الافرنسية فكانت باقة شعر مجردة عن قيود التعابير واللغات.
أنشدت الشعر وهي لم تبلغ التاسعة من عمرها وقد استقبل أعاظم الأدباء مثل ميسترال وأناتول فرانس الأبيات الأولى التي نشرتها في مجلة باريس بكثير من الإعجاب والدهش ورحب كبار النقدة في شخصها بشاعرة كبيرة يختلج في فؤادها جميع ما يهز النفس الإنسانية من وحي وألم وأنين.
قضيت عمرها منعزلة عن الناس كأن الحياة كانت منفى لها وظلت يهزها الحنين إلى أوطان أبدعها خيالها فكانت رغم ما يحيط بها من نعيم وعز ومال لا تشعر بلذة في هذا الوجود بل تطمح دوما إلى الخلود ولم تكشف لها الأيام إلا عن معنى
الفناء فكان الموت بتمثيل لها في كل ساعة من أفراحها ويرافقها شبحه في أسفارها وهي التي نطقت بهذا البيت الخالد:
اعتبرني قد مت
…
لأنني سأموت
تغنت بالموت كما يتغنى غيرها بالربيع أو بالشباب وكان الموت يحوم حولها ليزيدها حبا بالعيش ومقتا له وحقا فان عاطفة الموت أعظم ما خلده الأدب الافرنسي من (فيلون) شاعر القرون الوسطى إلى (باريس) و (بييرلوتي).
كانت الكونتس (دي نوايل) مصورة وموسيقية فشعرها تصوير وموسيقى معا. وتعتقد أن الفنون الجميلة كلها واحدة متلازمة يزداد احدها بالآخر قوة ونموا فكل موسيقى كبير مصور وكل مصور كبير شاعر. وليس الشاعر وهو ينظم إلا كالنقاش الذي يفرغ أحلامه في الرخام لتخلد فتعيش وتقاوم طوارئ الأيام. ولا نعرف بين الشعراء من فهم روح الموسيقين العظام كالكونتس دي نوايل التي
أحيت ذكرى هؤلاء الموسيقين في اضاميم من ارق الأشعار.
عبثا حاول بعض الأدباء توجيه النقد إلى لغة الكونتس دي نوايل التي يبدو عليها أحيانا شيء من الضعف في التعبير. وحقا كانت تنظم أشعارها كما يرتل البلبل أناشيده، إنها كانت تقول الشعر مندفعة إليه من طبيعتها فلا تهتم بما قيل وما يقال
ولا تحفل بما فرضه المتعصبون من قواعد ركيكة يريدون بها خنق لغة اشتهرت
بسذاجتها وسهولة تعبيرها. إن شعر الكونتس (دي نوايل) يشبه البركان الهائج أو السيل المتدفق يجرف كل ما في طريقه.
أحبت (دي نوايل) الطبيعة حتى امتزجت روحها بالرياض والرياح والأنهار والجبال والصخور فأصبح شعرها أنشودة حية لجمال الكون. سمعت حفيف الأشجار في الغابات فذهبت تعرب عن الأنين الذي يتخلل هذه الأصوات ونظرت إلى الرياحين في الرياض فغدت لا ترى في العالم كله سوى ريحانة بديعة وكانت ترغب في أن تعانق الطبيعة كما تعانق طفلا تقبله وتستنشق عبيره وتتلذذ بلمسه وتتمتع بالتهام محاسنه فان نظراته كلها غرام وقد هتفت يوما: لقد أثرت الغابات والغدران والسهول الخصبة في مقلتي أكثر من لحاظ البشر فلجأت إلى جمال الكون ولست أريج الفصول بيدي
ودت لو تعيش سائحة حول الأرض وقد زارت صقيلة ورومية والبندقية نتغنت بمحاسن تلك البلاد كأنها صديقة لهن فرق بينهن وبكت البلاد التي
لم يساعدها الحظ على زيارتها وأرادت أن تبعث جمالها حيا في الخيال وهكذا أعربت في أبيات خالدة عن حسرتها لأنها لم تشاهد دمشق فحيت مياهها العذبة
المتدفقة وسماؤها الساحرة وجنانها الفتانة وتغزلت بورد اصبهان وجوامع القسطنطينية وقصور بغداد (التي شيدتها أحلامها) ورددت تقول إنها إنما خلقت لتعيش الشرق.
كانت في حياتها شعلة من الحب فنثرت حبات قلبها التي لا تحصى فوق الأحياء والأشياء فهي أسيرة كل كائن تحبه - وما أكثر الكائنات التي تحبها -.
بكت مع الأطفال وجرحى الحرب ومع الخريف والسحاب وتبسمت مع الزهر والنور والشباب فتدفق شعرها كأنه ينبوع عطف يشمل جميع المخلوقات وتمنت
أن تتلاشى في الطبيعة وتتحول إلى شجرة تتقاذفها الأعاصير.
لم تكن الكونتس دي نوايل مقيدة بدين من الأديان المنزلة فهي وثنية المذهب وقد قالت أن قلبي يشبه غابة تزورها الآلهة، وكنت تعتقد أن كل شيء على الأرض من نبات وجماد وحيوان هو اله فالله وهو الكل والكل واحد، وهو الله. أما هي فليست الاجزء صغيرا من ذلك الهيكل العظيم ستفنى فيه كقطرة ماء في ثبج البحر. وليست صاحبة كتاب ظل الأيام أول من دان بهذه العقيدة التي هي من أقدم المذاهب الفلسفية ولكنها جددتها واستخرجت من تلك الأوتار المشوشة ألحانا علوية فيها شيء من تلك الحسرة السائدة على قلوب شباب العصر.
ورثت عن أمها حب اليونان، كعبة الفن والاعتدال والجمال وكثيرا ما حاولت عبثا زيارة تلك البلاد ونظمت فيها قصائد تفيض حنانا تناجي الآلهة وتوسلت إلى تلك الروح التي نفختها الآلهة اليونانية أن تهب إليها سلوى لم تجدها في بقية الأديان. وكانت تقضي أيامها كئيبة لا تعرف سببا لبؤسها فقضت شبابها متلهفة خائفة من
اليوم الذي يذهب فيه الشباب وقضت كهولتها باكية على شبابها وماتت قبل أن تدرك الشيخوخة.
كان اثر (الكونتس دي نوايل) في الأدب الافرنسي عظيما فهي آخر شاعرة من شعراء الرومانتيك (الإبداعيين) الذين بدأت نهضتهم في فرانسا عام 1820 والذين اشتهر منهم هوغو ولا مرتين وموسه ودوفيني وجورج ساند واسكندردوماس وميشلة. وكما يمثل بول فاليري الشعر المحض كذلك تمثل الكونتس دي نوايل الإلهام المجرد فقد جعلت أبياتها آلة تعبر عما في قلبها من آلام وأحلام فهي بعيدة عن كل تطرف وتحفظ في عواطفها، صريحة في فنها كما هي صريحة في حياتها. فكانت تنتمي إلى أحزاب الشمال معجبة بسياسة اريستيد بريان وقد قاومت مرارا تعصب أولئك الذين جعلوا العقيدة الوطنية الضيقة حائلا دون الرحمة والشفقة والحنان على الإنسانية المتألمة. بيد أن هذا لم يمنعها من أن تكون أشهر من نظم بفرنسا في رثاء أبطال الحرب الذين ذهبوا ضحية الواجب. وكانت لها صلات ود مع اكبر رجال السياسة في فرنسا حتى مع الملكيين وبينهم ليون دوده وشال موراس وقد مدحتهما مرارا وصرحت بإعجابها بهما وقد استقبلت في دارها بشارع (شيفر) عظماء الرجال في أوروبا وباتت شاعرة الجمهورية الرسمية في فرنسا.
عاشت آخر سني عمرها متألمة، صابرة على مصائب الدهر، رابطة الجأش. لقد افقدها الموت اعز أحبائها ونزل بها ذلك الداء الذي أودي بها بعد أن نشرت في عام 1920 أبدع مؤلفاتها الشعرية اعني (القوى الأبدية) كما نشرت في العام الماضي مذكراتها التي سمتها (كتاب حياتي) وكأنها أرادت قبل موتها أن تخلد أجمل ما مر من الحوادث بها.
فجأها الموت في آخر يوم من شهر نيسان المنصرم. ولعل نزعها كان اهدأ يوم في حياتها. فلقد كانت منذ يفعت متأهبة للرحيل وفراق ما الفت من ضروب العيش عساها تجد في العالم الآخر تلك الراحة التي طالما حنت لها وهي في الحياة الدنيا،
حيث خلدت اسمها مع الخالدين. . .
أنور حاتم