المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الذكرى صورة حلم للدكتور: عادل العوا لو كنت شاعراً لأنشدت الخلود في صورة - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٣

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌الذكرى صورة حلم للدكتور: عادل العوا لو كنت شاعراً لأنشدت الخلود في صورة

‌الذكرى

صورة حلم

للدكتور: عادل العوا

لو كنت شاعراً لأنشدت الخلود في صورة الذكرى، ولقلت مع شاعر لا أعرف أن الذكرى صورة حلم، فهي حلم الوجود الجديد يبدو في صورة لحن تنشد صغيرات بريئات في شفق الشمس على ذرى لبنان، وهي الحلم بالبقاء في صورة اصفرار يعلو وجوه سفَرْ يغرقون، وهي صلاة المستجير بآلهه والأنبياء والقديسين، وهي اندفاع اللقاء بين غائب وحاضر، وصلة الترابط بين القديم والجديد، تنسج الحاضر من خيوط الماضي، وتبقى على الحياة الحياة، فهي الثغر الجميل يدعوك إليه، والبريق في عين تصرح قتلاها بين الرصافة والجسر، إنها نزهة في ليلة حارة قمراء، وغرفة تشريح تفقد الخائف شجاعته، وهي مبضع الجراح، وزاد التلميذ، وألوان الشاعر، وحرارة تنعش أصابعك فتوحد باللمس الشفة والجبين، فالذكرى وجود الموجود، وكل مالا يتذكر وجوده لا يعود إلى وجودك، وهي نور وعاطفة وخوف ورجاء.

الذكرى بعض من الإله في روح الإنسان، فهي الهبة العليا، والمنحة السماوية. بعض القلوب تذكر فتعشق. وبعض الحب يذكر فلا يموت. وبعض النفوس تذكر ضعفها فتتسامى، ونقصا فتتكامل، ذكر (ديموستين) الألكن عجزه عن الإفصاح فأقسم ليخطبن في الناس حتى أصبح المفوَّه المصقع ذائع الصيت. وذكر (بيتهوفن) صممه فهز البشرية بأصواته وموسيقاه. بعض الأفكار تذكر ذاتها فتنسجم، وبعض الأرواح تذكر الآله فتحيا بذكراه، وتطمئن إليه، وتنزع نحوه، والذكرى عند الإنسان عاطفة وفكر معاً، لا يحيا فؤادان إلا بها، ولا يخاف عقل إلا فناءها، ولا تطلب النجاة نفس إلا بدافعها، ولا يتم بدونها وجود ولا خلود.

يأس وأمل

غير أن الذكرى في صورة البكاء مريرة سامية، تهدم وتدك، وهي عذبة منعشة في صورة الأمل، ترفع وتشيد. وأنا لا أطيق من الذكرى البكاء على الحلم. حلم ترك فلم تبق وإياه كما وددت. أو حلم تركته لأنك لم تبقيه لديك كما وددت. والبكاء وقوف بالأثافي. وجمود أمام

ص: 1

الأطلال. وهو تواكل ويأس ثم قنوط وفناء.

أستميح القارئ معذرة إذا أسمعته في هذه الأسطر ألحان ذكريات شعرائنا البكائين. فتلك سمة أولى من سمات نفسيتنا التاريخية. ولون قديم قائم من ألوان شرقيتنا الباقية. هذه كبد السادة والسيدات من شعرائنا وشاعراتنا، السابقين والسابقات، تنفطر تحرقا وألماً في ذكراهم، وعلى ذكراهم، وهذه أفئدتهم تهلك أسىً ولوعة، ودموعهم لؤلؤ أسود في عقد حزين، يعصف وجودهم لذكرى الحلم البادي كباقي الوشم في ظاهر اليد، انه حلم بعيد يرجع إليه زهير بعد عشرين عاماً فلا يعرف الدار إلا لأيا، ولكنه يعرف سكان الدار. لا بلمسه وسمعه وشمه وذوقه، بل يراهم في نفسه فيحلم بعاطفته وقلبه، فذكراه حلم وتوهم:

وقفت بها من بعد عشرين حجة

فلأيا عرفت الدار بعد توهم

يبكي زهير بعد التحية، تحية العرب. وبعد السلام، سلام الصباح لأم أوفى. ويمتشق عنترة الحسام، فيقتل ويشفي بالقتل من يشكو سرور الحياة، ولكنه ينعطف إلى ذكرى عبل، ويركع أمام التي في معبد الهوى، فيبكي مع الحمام منشداً:

أيا عبلَ كم يشجى فوادي بالنوى

ويروعني صوت الغراب الأسود

كيف السلو وما سمعت صائحاً

يندبن إلا كنتُ أول منشد

ثم يبكي الشاعر الملك امرؤ القيس، ويأمر بالبكاء، ويقف على مطيته في مسرح البادية الفسيح، ويأمر بالوقوف، فتملئ دنيا الجاهلية بالجاهليين، وتبكي الملكة الشاعرة، ولم تتوج، الخنساء تماضر، فتدوب وتسمو وتبقى خالدة فلا تموت:

يا عين جودي بدمع منك مسكوب

لؤلؤ جال في الأسماط مثقوب

إني تذكرته، والليل معتكر

ففي فؤادي صدع غير مشعوب

يبكي هؤلاء الناس ذكراهم، ولكل عاشق حبيب، كما بكى ابن ساعدة خليليه، سحابة عمره كاملاً، وأقام على قبريهما ليس بارحاً طوال الليالي أو يجيب صداهما.

نحن

يبكون حلماً كأن الحقيقة المثلى، وهم الناس أسلافنا، ونحن بعض منهم نتمم أجسامهم وعبقريتهم، وقوميتهم في أرواحهم، وأرواحهم في قوميتهم، زال من أحدهم واقع راهن، وحبيب مرتحل، وبقيت ذكرى الحبيب الغائب، فبكى صورة الحلم الماضي عندما وعى

ص: 2

الطلل والرماد، وما نحن العرب اليوم إلا لفتة نحو الماضي، هذا الحلم المجيد نستعيد ذكراه، لننهض به ونجعله الذكرى في الدهر كله، واللحن في سمع الوجود، بدأ عند أمتنا الوعي لأنها بدأت تذكر الماضي الحبيب، وتحن إليه، وتعيش صورته الجليلة من جديد، أو تحاول. الآن على وجودنا_عفواً أقول_نطلع على آثاره القليلة التي لا تزال، لسعد حظنا، ماثلة لم يقف كل رسمها. وكأننا جميعاً زهير بن أبي سلمى الحكيم يتفرس مجدنا الغابر بعد غياب وفراق، وبعد وبعاد، وهجر وإغفال، ندرك حلمنا الرائع، ونعرف ذكرى أمتنا الباقية، وكأننا جميعاً عنترة يبحث عن أسلحة لجيشه، ومعامل لطائراته، وطائرات لرمحنا، نحمله إلى صدر الأعداء، لنروع الغربان بعد أن راعنا الاستعمار ويرجع أحدنا الفارس العنيد وهو قد انقلب حمامة وديعة فقدت أليفها فانهارت أدمعها تترى. . .

البكّاؤون

وعى الشعراء مصاباً وذكروا حلمهم في صوره الباقي، فبكوا الفردوس، ووعى مفكرونا الصادقون مصاب تاريخنا فذكروا لنا حلماً جميلاً، وفقط بعضهم فكانوا البكائين من الدرجة الأولى، دأبهم عبادة الذكرى، والجمود أمامها، والتصلب حتى الموت، أو الذوبان حتى الفناء، يقدسون الأثافي، ولا يرجعون القدر فوقها، يتلمسون الظل ولا يقبلون الجسم، يلمسون الأحجار ولا يعيدون البناء، هم التقليديون المفكرون، يفكرون بما زال، ولكن يضيقون عما يحدث. فكرهم ذكرى، وأملهم حلم وحلمهم فناء.

وهم رجعيون في اعتبار، يتمنون الخلود في السكون، وخلودهم أدنى وأرخص من الحياة. غير أني لا أود تخليد الذكرى في الموتى والموت، فالأفراد هم الفانون. والوطن يستقل عن أبنائه الزائلين، وأنا أطلب الخلود للوطن الذي لا يزول، ولو قلت شعراً لطلبت بالشعر حياة الوطن، وجعلت الذكرى حقيقة الحلم، بل أبهى وأصح.

العاملون

والذكرى صورة حلم إليه تعود قوته، وطلل ماض يكتسب كماله، ووشم يد يغزو جماله، وينمي جمالها، والصورة التي تفقد نورها لا تستحق نفحة الحياة، والحلم الذي يقصر عن تدارك حرارته سلب وانتقاص، وهو جدير بالسلب والانتقاص، والقلبان اللذان ألف بينهما قدر فتفاهما واتحدا عليهما البقاء في التفاهم والاتحاد، عليهما العمل على زيادة التفاهم

ص: 3

واشتداد الاتحاد، أما إذا افترقا وهزلا وزال كل شيء سوى الذكرى، فالذكرى الجامدة تأكل نفسها، وتزول لأن الأيام تمحوها، ويجب لها أن تزول لأنها وحدها حياة اليأس المريرة، وليس قلب يعيش باليأس، وليس شعب يحيا بالبكاء، وليست امة تخلد بالنواح والتقليد.

الذكرى قدسية في قدسية العمل والتطور والتقدم والارتقاء، والعاملون في امتنا هم المفكرون التقدميون، فكرهم عاطفة وعقل، إيمان وذراع، يطلبون الحركة في صميم الجاد، ويبغون السير بمركب المواطنين والإنسان، ويحرصون على معاقرة الوجود، ويسعون إلى إتراع الكأس، وتنظيم التاريخ، وتوجيه الأمة في التاريخ، وخلقه وخلقها، وإعادة المجد، وإرجاع الذكرى وتحقيق الحلم.

الكتلة السوداء

وبين هذين التيارين يشاهد السواد الجاهل، وهو المصدر الغامض، والعجلة الثقيلة، والجمهور الغافل، الأمي عن الوعي، الأكثر عدداً، والأقل عدة، الراقي رقماً، والأدنى قيمة، الضال عن العلم، والمضل بالجهل، وكان الأحرى به الرقي والتقدم والذكاء والعلم ولعل الأمة العربية حيث يسود الجهل في أوساط كثيرة منها_مع الأسف الأليم_أشبه برأس ضخم، تتجاذبه أذنان صغيرتان واعيتان، الأولى تعي ذات اليمين، والأخرى ذات اليسار، وبينهما الكتلة السوداء تسوقها دعاية، ويستفزها ضلال، وكأنها حجر صلب في منصف أنبوب، ليس يفسح للنور مجالاً، ولا للحياة نوراً، كيما ينضح ويثمر بعد أن يستفيق.

وكشف المصاب في رأينا طريقة النهضة، والنهضة الواعية الصادقة، التي هي غير ذات اليمين فحسب، وغير ذات اليسار المطلق، بل هي نهضة أمة حاجة هذه الأمة، ويقظة شعب حسب ميول هذا الشعب، ونزوة تاريخ حسب هدف هذا التاريخ، ورجوع حلم حسب فلسفة هذا الحلم، والأصل في كل ذاك أن ترتكز إلى دعامة العرب الصحيحة، ومجد العرب الصحيح، وتلك ذكرانا الأولى.

الذكرى العربية

لنفتح إذن قلب الأمة العربية ونشاهد حياة الذكرى فيه.

لقد كانت هذه الذكرى حاضراً صحيحاً، وكانت في العصر الجاهلي تمخضاً، بزغت عنه القوة العربية في النهضة الإسلامية المتحررة الواثبة، والقوية المنطلقة من قيود الجهل

ص: 4

والتفرقة، فكانت أمة انتهى البيان إليها، وسارت في غلاب الجهل والتفكك ركبانها، وأتيح للعرب جمع عناصر المدنية الإنسانية في توحيد جديد، ودخلت العناصر الرومية والفارسية والشرقية والإفريقية في تفاعل إنساني طريف، وامتزجت في قصور الشام أبهة الروم، وأنس الحب، ووداعة الاعتقاد مع فخر التوسع ولذة الانتصار. فكانت أمية في الطليعة، وكانت الإمبراطورية العربية

ينبوعاً لذكريات مجيدة، يخطب طارق في الغرب على جبله، ويغني عمر بن أبي ربيعه هواه، ويفتح التراجمة أسفارهم، وتتفتح أكمام الفكر العربي، فتلد العلوم تلو العلوم، وتنمو الدراسات تلو الدراسات، وتنفجر الفلسفة العربية من ينابيع الدين والعقل، فهذه حركة الفقه والتفسير، وأبحاث اللغة واللسان، وهذه حركة القصص والتاريخ والاجتماع، وهذه حركة تمازج الثقافات، يلتئم فيها النمو العلمي والنمو الأدبي والنمو الفكري في روح عربية شرقية جامعة، وينجلي ذاك عن علم بالفلسفة، وفلسفة بالعلم، وكلام فيهما وفي الدين، وهذا هو علم الكلام تلقى بذوره في الشام فتنبت أصوله في مساجد البصرة، وتزهر أغصانه في مدارس بغداد، ويأتي أكله في بلاط العباسيين، وتردد رجعة العجوز في دارها، والتاجر في حانوته، وهذا الفارابي يصنع السعادة في مدينته الصنعية الفاضلة، وهذا ابن سينا يداوي الجسم والروح، فيضع القانون ويستهدف النجاة عن طريق الإشارات والتنبيهات والشفاه. ويجرب الرازي سيمياه وكيمياه، وينظر ابن الهيثم في رياضياته ومناظره بعد أن جال البيروني في علوم الهند، ومقولاتها ومعقولاتها، ويضع الخوارزمي أسس اللوغاريتمات، ويؤلف في الجبر، وينطلق التحرر، فلا التنجيم سحر، بل علم، ولا الشعر بكاء على الأطلال، بل تجدد وانبعاث، ويتحدث عن كل ذاك إخوان في موسوعة. وهذه موسوعة إخوان الصفاء، عربية وحيدة في النوع، يقرؤها الغزالي، ويتأثر منها، ويثور عليها لأنه انتهى بالثورة على الفلسفة جميعا، وألقى في الشرق النداء الأخير، فجاء مزيجاً من العقل والنقل، ودك الفكر بسلاح الفكر، فانصرف الناس إلى الأكل قبل الفلسفة، وتحولوا من الإبداع إلى الإتباع فدهمتهم الحروب الصليبية، وعانت الأمة العربية ما عانت ولكنها صمدت صميدة بإباء، ورسمت آخر الألوان القوية في لوحة ذكرياتها المثلى، ثم نكبت بالتفرقة والانقسام وطغا جنكيز وأهلك هولاكو، واستعلى الترك من بني عثمان، حتى كانت

ص: 5

خلافة في غير أهلها من العرب، ولم يتقلص ظل العثمانيين رسميا قبل عام 1922.

واجبنا

هذه أرض ذكرانا وسماؤها، هذا تراثنا ورأسمالنا، فما عسانا نفل في الأرض وفي السماء؟ بعضنا وفيهم السواد منا ناعم البال قرير العين يعيش عيش الإنعام ويموت موت البعير، فلا كان احترام للأنعام ولا مجد للبعير، الهناء لديهم جهل وخلو من الذكريات، والإنسانية عندهم طعام واجترار، لا وطنية يفهمونها مع الإيمان، ولا قومية يقدمونها مع الوجود، تباً لهم ورحمى، إنهم كالمادة أعماها الاستعمار، فهي ترجو النور، وكالمعدن أثقله التراب فهو يأمل الخلاص، وهذه الشعوب من جماهير الأمة العربية ترسف وتتألم، وقد آن لها أن تقدس وتحب وتنقذ، إن حياة الأمم لا تحتمل الإهمال، ونهضة البلاد لا تقوم على القيد وبالقيد، حارسها أخلاقها الطبيعية، والطبيعية فحسب، وسلاحها العلم، والعلم من غير السحر، أما منقذوها فهم أبناؤها، وأبناؤها العاملون، المفكرون المتقدمون، يفهمون الذكرى، ويجدون فيها هواهم وصوتهم وعقلهم، ويحيون مجداً عربياً ليس المجد العربي السالف غير أصله وصداه، ويطلبون نهضة ترتكز إلى الماضي من غير أن تكتفي به، ويرمون إلى الحياة بالحياة، وإلى الشعر بالأمل، يتوسعون في فتح مغالق الإنسانية، واكتساح ظلمات الجهل والضيق، صدورهم معامل تنقية لا منافخ العبث وإلا فساد، وقلوبهم انبساط بعد تقلص لا انقباض على ضيم، المعلم عندهم حجيرة ينمو عنها الدماغ، والتاجر عندهم جسر للتقدم لا بئر للاحتكار، ليست أقوالهم ألفاظا، ووعودهم سرابا، وشعرهم صياحا، وصياحهم بكاء.

الوجود كتلة الحب في الفؤاد، وروح الحلم في النفس، وصورة الذكرى المتجددة بالود، والمتقدة بالعاطفة، والمنتهية إلى اليمن والإقبال، والأمة وجودها عقل في القلوب، وشعرها ابتسامة في القومية، وأدبها جوهر في العقد، وإما تاريخها. . . فهو الذكرى في صورة حلم مجيد.

عادل العوا

ص: 6