المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حول حركة الإصلاح - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٣

[عادل العوا]

الفصل: ‌حول حركة الإصلاح

‌حول حركة الإصلاح

للدكتور نور الدين حاطوم

لم تكد تهب علينا من ديار الغرب نسمات الحرية في أواخر القرن التاسع عشر حتى قامت في بلادنا العربية حركة الاستقلال والتحرر من نير الترك بعد أن رزحت تحته طويلاً. غير أن هذا الغرب لم يكن ليأخذ بيدنا في سبيل الحرية للتخلص من العثمانيين إلا ليوقعنا في قيود القسر والعسف والاستعمار.

على أن نفوسنا وقد استيقظت من سباتها العميق وتفتحت للحياة وآمنت بحقها،

لم يعد من السهل الضغط عليها، ونهضت تكافح في فترة ما بين الحربين حتى كانت حوادث مايس 1945 التحررية وكان منها أن توج النضال بالفوز وحرزنا على الاستقلال.

وكما أن ربان السفينة بعد هبوب العاصفة وتلاطم الأمواج يتفقد رجاله وما

أبقت ثورة الطبيعة من أجهزته وأدواته، فمن الطبيعي أيضاً أن نتساءل ونحن في وضعنا الحاضر عما سلم من تراث الماضي بعد أن نالته أيدي الدخيل بالسلب والنهب والتهديم. ومن الطبيعي جداً أن يفكر كل منا وخاصة قادة الفكر حملة المشاعل في حل المشاكل المعلقة والصعوبات التي نجتازها ككل أمة ناشئة تتطلع إلى الحياة من جديد. وليس ذا بغريب لأن تاريخ كل أمة من الأمم كجسم الإنسان لا يكون سليماً في غالب الأحيان، فكثيرا ما تعترضه عقبات وأزمات وحوادث تضعف جسمه فيمرض إلا أن هذا المرض يمكن شفاؤه إذا أحسن تشخيصه وأعطيت إليه الإسعافات والأدوية الناجعة.

ودراسة التاريخ ترينا أن ما من حرب أو مقاومة وطنية أو حركة قومية مرت بأمة إلا وكانت مسبوقة ومتبوعة بحملات صحفية منظمة يقوم بها طائفة من رجال العلم والفلسفة والأدب، حفظه التقاليد وحارسو الكيان الوطني من الضياع.

وأسند هذه الحملات قوة يتجلى عندما يداهم الوطن خطر أو تنزل به نازلة تفقده وعيه فيضل السبيل. هنالك يقوم أهل الرأي يشمرون عن سواعدهم ويعمدون إلى قرائحهم تملي على أقلامهم ما يهيب بنشاط الشباب ويستفز حماسه ويرفع همته، نراهم ينظمون جهود هذه العناصر الفتية في أقنية ويوحدونها طبقاً لبرنامج قومي نبيل شأنه استرجاع الماضي أن فقد أو دعمه إذا تداعى أو بناؤه إذا انهار. هذه الحملات نراها تتجه لا في سبيل الدفاع

ص: 22

عن نظام معين أو مبدأ خاص بل لينهض هذا الوطن ويبقى حيا.

وكم كنا نتمنى منذ أن جلا الأجنبي عن بلادنا أن تقوم عندنا حركة فكرية وحملة أصلاحية مماثلة، تتناول مرافق حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إننا لم نر في صحافتنا على كثرة عددها حملة من هذا النوع تدعو إلى التفاؤل. ومن النادر النادر جداً أن ترى بين حين وآخر مقالاً يعالج ناحية معينة ويقتلها درسا وتمحيصا متبعاً في ذلك البحث العلمي المفيد، هذا البحث الذي يعود على الشعب بالنفع ويرفع مستواه، وينير رجال الحكم ويعبر لهم عن إرادة صحيحة.

أن كل ما رأيناه منذ استلام الصلاحيات حتى يومنا هذا هو هذه المقاومة السلبية والاشتغال بالسياسة والدفاع عنها أو مناوأتها. ولقد مضى عهد الفرنسيين ولكن حكمهم ما زال ممتد الظلال، وكأن المقاومة السلبية أصبحت فينا عادة واستحكمت وغدا من الصعب الخلاص منها.

غير أن العمل المجدي المثمر هو هذا العمل الدائب الصامت، هو الإنشاء والإصلاح وفقاً لغايات قومية تستهدف النهوض بالوطن والسير به في الطريق السوي الذي سارت فيه الأمم من قبلنا. وهذا لا يكون إلا بتأسيس منظمات اجتماعية ذات برامج وطنية معينة، فإذا ما استلم الحزب مقاليد الأمور، باشر في تطبيق هذه

الخطط المرسومة من قبل. أما سياسة النقد والتجريح للوصول إلى الحكم والعمل بعد على حل المشاكل بطريق ارتجالي فذلك منهج عقيم والحلول الناجمة عنه لا تكون إلا بمثابة مسكات لا يدوم تأثيرها إلا إلى حين.

نحن الآن في بلبلة فكرية: فمن الناس من يشكو أن ساسة الأمور لم يحققوا الآمال التي عقدت عليهم، ومنهم من استنكف وارتد منطوياً على نفسه صامتاً لم يعجبه كل شيء، ومنهم من يود العمل مخلصاً فأطاحت به أمواج الأنانية فقعد يائساً يغص بريقه، ومنهم من أغرق في المبالغة يضلل نفسه والناس معه بأننا انتهينا إلى ما نصبوا إليه وكفى الله المؤمنين القتال، كأنما يعتقد أن حياة الأمة مرحلة إذا اجتازتها ووصلت إلى نهايتها بلغت كل شيء، وذهب عن باله أن هذا التحول الدائم الذي هو حياتنا إنما هو سلسلة من التعاقب مستمرة لا تقف عند حد. وكمحصلة لكل ما ذكر جمود في التفكير وضعف في الإنتاج.

ص: 23

ليست المشاكل التي نتخبط بها غريبة من نوع خاص، فهي كأكثر المشاكل التي اعترضت الأمم الفتية من قبلنا، وكما استطاع الأبناء الخلص لتلك الأمم أن يخطوا بها وينشلوها من وهدة الحيرة والتردد، فنحن الآن مفتقرون إلى الاستنارة بآراء أمثال هؤلاء القوم.

ولعل رجال التعليم قبل غيرهم الذين شعروا بالحاجة الماسة إلى من يعبر عن آلامنا وآمالنا فلفتوا النظر إلى النقص الذي نلمسه في تربيتنا على اختلاف أنواعها. ولكن هل هذا التحسس كاف لحل المشكل الذي نشكو منه. أنني لم أتحدث إلى رجل من أبناء وطني إلا وصور لي أمراض مجتمعنا أبدع تصوير، ونحن مجتمعون إن مجتمعنا فاسد وتربيتنا ناقصة وإن هذه الحال يجب أن تبدل بما هو أحسن وأكمل. غير أننا نقف عند هذا الحد تنقصنا الجرأة والإقدام على الإصلاح، يذكيهما شعور بالنقص وضعف في الإيمان. وأنانية مسكينة تقعدنا عن العمل خشية فقد امتياز أو ضياع منفعة خاصة. ولذا فنحن نحوم دوماً حول دائرة سقيمة، نشكو آلامنا وأوجاعنا ونشخصها تشخيصاً قل إن يأتي بمثله نطس الأطباء، وأغرب من هذا وذاك إننا نعرف الوصفة التي إذا عملنا بها أوصلتنا إلى النقاهة فالشفاء. ولكننا نأبى العمل، وإذا أقدمنا عليه فما أكثر المثبطات ونرجع القهقرى ولا نعمل شيئاً.

لقد اعتدنا أن ننظر إلى آراء الخارج وصفحه ومجلاته نظرة أعجاب وتقدير، فنحن نقبل على قراءتها بلهف وشوق ونبذل في الحصول عليها الغالي والرخيص، غير أننا أن قامت في بلادنا مجلة فقلما تلقى من التحبيذ والتشجيع ما يكفل لها البقاء ولا تكاد تظهر إلى عالم الوجود حتى تنثال عليها أقلام الكتاب طعنا ونقدا وحزا كأننا لسنا أهلاً لأن يكون عندنا آراء ومفكرون. ولعل هذا السبب هو ما يحدو بكثير من رجالنا إلى اليأس والنفور. ولو أنصفنا وبدلنا مفاهيمنا وأخذنا بيد كتابنا وأدبائنا لكان لدينا مجلات قيمة ومفكرون يؤخذ برأيهم ويستفاد من تجاربهم وخبرتهم.

وفي الحقيقة، ليس كل ما يأتينا من الخارج قيماً مفيدا كما أن أكثره لا يعبر عن حاجاتنا النفسية وأهدافنا الوطنية، إنما يعبر عن الإقليم الذي كتب فيه وحاجات النفوس البشرية التي يكتب لها. ولست أعني أن مطالعة هذه الآثار لا تجدي نفعا ولكني أقول إنها تفيد كزاد ثقافي لمن يود الاطلاع وكدليل لمن يحب العمل، غلا إنها لا تكفي لسد رغباتنا. ونحن الآن

ص: 24

بحاجة ماسة إلى أقلام من صنع بلادنا تعبر عن نزعاتنا وأهوائنا.

وشبيه بذلك النهج الذي يجب أن يسلك في تطبيق الإصلاح إذ ليس من الضروري أن نأخذ البرامج الأجنبية ونطبقها بحذافيرها فهي وليدة بيئة ليست بيئتنا، ووضعت لا ناس هم في وضع مغاير لوضعنا فإن نجحت هذه البرامج فلأنها اعتمدت في وضعها وتطبيقها على حاجات البيئة التي أوجدتها. على إن هذا لا يمنعنا من الاستنارة بها في تطبيق الإصلاح عندنا.

ولسنا نشك في قيمة النظريات التي يأتي بها فلاسفة الغرب ومُربوه إلا إن معظم هذه النظريات يفقد قيمته التطبيقية في مدارس كمدارسنا لاختلاف الشروط المحيطة. وما يقال في إصلاح المدارس صحيح في إصلاح المجتمع. فهل فكر كتابنا وقادة الرأي فينا في حل المشاكل التي نجابهها وفي الطريق الناجعة لتذليل الصعوبات التي نصطدم بها إذا ما سرنا في تحقيق برنامج أصلاحي معين ولنورد لذلك مثلاً:

تجابه وزارة المعارف في وقتنا الحاضر أزمة نستطيع أن نسميهامشكلة التعليموتشمل هذه البرامج والأساتذة والطلاب والمدارس. وتزداد تفاقماً عاماً بعد عام. فهل فكر رجال التعليم في حل لها لأنهم يتحملون مشاقها قبل غيرهم؟ وكيف الوصول إلى حلها بوسائل عملية فعالة بعيدة عن كل حشو نظري ولفظي؟ كلنا تقول إن الفردية داؤنا الوحيد وان لا تقدم ولا نهوض لبلادنا إذا ما بقيت الأنانية السياسية والاجتماعية والأخلاقية رائد أعمالنا. وكلنا نقول إننا نريد أن نشيد بناء الوطن وان فاتحه كل بناء تكون بتقويض الفردية الهدامة التي تلعب في مجتمعنا دور الطفيلي تعيش على حسابه وتأخذ عنه فلا تعطيه، ونصرح علنا أن تربيتنا الاجتماعية ناقصة وإن النشء الجديد يجب أن يشبع بالأفكار الاجتماعية والوطنية والقومية. فهل فكرنا في مكافحة النقائص وعملنا على نشر المبادئ الصحيحة بالطرق التي تكفل نجاحها في مجتمع كمجتمعنا ضل السبيل في تيه الحياة. وهل فكر المثقفون من أبناء الوطن في الجهاد الأكبر قبل أن يحملوا من دونهم ثقافة على الكفاح؟

لست ممن يعتقد أن مجتمعنا ابتدائي وان ليس باستطاعتنا أن تكون أمةكما يزعم الكثيرون، أو انه راق بلغ مرحلة الكمال، بل أقول انه مريض بحاجة إلى معالجة. فعلى محتكري الأدوية التي هيئتنا الاجتماعية من آلامها أن يتذكروا دوماً وأبداً إن واجبهم الوطني

ص: 25

والقومي يفرض عليهم إلا يبخلوا عليه بما يخفف عنه ويعيد له نضارة الصحة.

نور الدين حاطوم

ص: 26