المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التربية والسلام العام - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٣

[عادل العوا]

الفصل: ‌التربية والسلام العام

‌التربية والسلام العام

للأستاذ عبد الحميد الحراكي

مدير معارف حمص

لا أعتقد أني بحاجة إلى الأسباب وإطالة الكلام وإيراد الأدلة والبراهين لإثبات أن الحياة قد تغيرت عن ذي قبل تغيراً كلياً بارزاً وظاهراً للعيان وأنها بتغير دائم مستمر بكل ما فيها من قوانين وأنظمة وعادات وأخلاق وتربية وما شاكل ذلك، وأنها لا تزال تتغير وتتطور وفقاً لحاجات العصور التي مرت عليها فما كان يصلح في الأمس البعيد أو القريب لم يصلح اليوم. وما هو صالح اليوم سيصبح عديم الصلاح في الغد وهكذا دواليك إلى ما شاء الله، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. لذلك وجب على أبناء هذه الأمة أن ينبذوا الجمود ويألفوا الحركة ويتتبعوا سنن النشوء والارتقاء الكونية، ويدرسوا سير الأمم الغابرة والمعاصرة ويكيفوا حياتهم بمقتضى حركتها الدائمة وسيرها المتواصل السريع ويرافقوها ولا يتخلفوا عنها ولو قيد خطوة كيلا تسبقهم إلى الأهداف المقصودة وتستأثر بها كما شاهدناه وشاهده غيرنا من الأمم من قبل أو كما نشاهده اليوم في حياتنا الدنيا هذه لأن الطبيعة لا تعرف الوقوف بله الجمود، فمن لا يتقدم إلى الأمام يتأخر إلى الوراء، وحرام، بل إجرام، التخلف عن ركب الحضارة إذ بينما نرى بعض الأمم في عصرنا الحاضر تسير السير الطبيعي المعتاد، وتتمكن من القبض على أزمة العالم وموارده الحيوية كلها تقريباً، نرى بعض الأمم الأخرى تسير السير المخالف للقوانين والنواميس الطبيعية ولا تسايرها المسايرة التي تتطلبها الحياة الحقيقية، فتتأخر وتتأخر حتى تصل إلى آخر دركات التأخر والانحطاط والجمود من الفقر والجهل والغباوة، حتى تصل إلى درجة الذل والمسكنة والاستعباد ويستولي عليها غيرها من الأمم القوية المسايرة لروح العصر بحجج مختلفة ودواعي باطلة وأدلة غير معقولة ما أنزل الله بها من سلطان ولا يرضى ولا يقول بها إنسان فيبدأ الصراع الدائم بين الحق والباطل ويدوم ما شاء الله أن يدوم حتى تتبدد الغيوم الكثيفة وتزول الظلمة وتهدأ العاصفة ويصفو الجو ويظهر الصبح لذي عينين وتستيقظ الأمة من سباتها العميق وتشرع بإتباع سنن النشوء والارتقاء وتساير الحركة الكونية وتوفق حركاتها على قوانينها وسننها وتنهض لاسترداد حقوقها المغتصبة فتصول وتجول

ص: 7

وتكافح وتناضل وتبذل الأموال والمهج في سبيل خلاصها حتى تتخلص من الكابوس الجائم فوق صدرها وتبرأ، ولكن إلى حد محدود، من المرض الذي استولى عليها وأنشب مخالبه فيها ردحاً من الزمن، يطول أو يقصر، بحسب استعدادها للمرض وإلا بلال منه، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وهكذا دواليك كما قلنا آنفاً، حتى أدت الحال إلى نزاع دائم بين الأمم كاد يقضي على معالم البشرية والحضارة ويدكها من أساسها إن لم يكن اليوم فغداً كما هو مشاهد في الماضي وكما نشاهده اليوم بأم عيننا. مما دعا المفكرين والمصلحين في كافة العصور منذ ابتداء الخليفة وفجر التاريخ إلى السعي وراء إصلاح البشرية وتخليصها مما يحيق بها من الويلات والعصائب وأسباب الاندثار والانقراض، بدعوتها إلى السير في الطريق السوي المستقيم، ونبذ الأحقاد والتنافس والخصام وتسوية القضايا المختلف عليها بالتشاور والتراضي بدلاً من اللجوء إلى القوة والحروب وزوج البشرية في أتونها اللاهب. وتخليصها من الويلات التي تحل بها من جراء ذلك والسعي وراء إيجاد إخاء عام وسلام دائم، ووضع قوانين وأنظمة تؤمن معيشة الجميع وأمنهم ورفاهيتهم. وقد ظهر كثير من المصلحين والفلاسفة والمفكرين دعوا الناس بأساليب شتى للوصول إلى هذا الغرض الأسمى، حتى انتهى بهم الأمر إلى التفكير بتوحيد العالم وتأليف جمعية واحدة تضم كافة أفراد البشرية تحت لوائها وتعاملهم معاملة واحدة تؤمن لهم حياتهم وحاجاتهم على اختلاف أنواعها ليسود السلام العام وينتشر لواء الإخاء والمحبة والعدل والمساواة بين الناس وتزول المطامع من أذهان البشر ويصل الجميع إلى الغاية الإنسانية القصوى، والهدف الإنساني الأسمى، والمثل الأعلى المقصود من الحياة ضمن نطلق أسرة واحدة، كما سأبينه إلا إنهم اختلفوا على الطريق الواجب سلوكها للوصول إلى هذه المثل العليا والأهداف السامية التي لا حياة للبشرية بدونها، فمنهم من اتخذ الوعظ والإرشاد وسيلة لذلك، ومنهم من اتخذ العلم وافتتاح المدارس ونثر الثقافة واسطة لهذا الغرض، ومنهم من استعمل القوة والسيطرة على الأمم بواسطتها للتمكن من تسيرها حسب أغراضه بدعوى إيصالها إلى هذه الأمنية الغالية، ومنهم من استعمل أو فكر باستعمال طرق وأساليب مختلفة أخرى لا تعد ولا تحصى فشلت كلها ولم يكتب لها النجاح، حتى فطن في المدة الأخيرة وبعد طول التجارب بعض المصلحين إلى طريقة جديدة يعتقد أنها هي الطريقة المثلى التي تخلص البشرية من هذه

ص: 8

الفوضى وتوصلها إلى أهدافها السامية ومثلها العليا التي خلقت لأجلها، إلا وهي تغير أساليب ومناهج فني التربية والتعليم وسن قوانين وقواعد وطرائق جديدة وتأليف الكتب اللازمة لها ونشرها في كافة أنحاء العالم لتسير بموجبها مدة كافية من الزمن، علَّ البشرية تصل إلى ما تصبو إليه من الطمأنينة والرفاهية والسعادة، وتحقق ما أخفقت في تحقيقه منذ فجر التاريخ.

وبالفعل فقد شرع في تأسيس الجمعيات الثقافية وعقد المؤتمرات التعليمية الخاصة والعالمية لبث الدعاية لهذا الغرض الأسمى الذي يقضي بأن يتجه التدريس في العالم كافة نحو تأكيد أهمية السلام والتعاون بين الأمم، وإشراك الطلاب وأساتذتهم في دروس تعالج الشؤون العامة، ونشر المقالات والمناهج المتضمنة التعليمات والأساليب في الاتجاهات الدولية الجديدة، وتبادل بعثات الطلاب والأساتذة وتسهيل كافة الطرق واتخاذ جميع الوسائل التي تؤول فائدتها إلى الوصول إلى هذه الغايات الإنسانية ووقاية الأجيال القادمة من توارث الحروب وويلاتها ومصائبها، وقد وجد بالفعل اتجاه جديد للتعليم تبحث أسسه ومناهجه الحديثة الجمعيات الثقافية التربوية وتنشر المقالات الصافية بما تبحثه هذه الجمعيات من المشاكل الأساسية لتنظيم المدارس والمناهج والأساليب الدراسية لما لها من الأهمية العظمى والفائدة المتوخاة في تنظيم

السلم العام في المستقبل، وقد ثبت وتأكد مؤخراً أن المدرسة هي الوسط الملائم الذي يقوم الأستاذ فيه بتعيين وتوجيه العلاقات الإنسانية بين التلاميذ ويضطلع بمسؤولية توجيه الأجيال القادمة الجديدة من المجتمع، وفيها تعين الأفكار والغايات المنتظرة الحديثة للتعليم والتربية، سواء في الدروس أو في طرائق التعليم والتهذيب أو في تنظيم المدرسة أو في اختيار الكتب المدرسية التي تؤمن التعاون العالمي الذي يتوقف عليه تنظيم السلم بمنع تدريس الكثير من الكب المدرسية والمواد الدراسية لاشتمالها على أشياء كثيرة لا تتلائم مع هذا الغرض الأسمى واستبدال غيرها بها من كتب وموارد دراسية جديدة تبذر وتغرس في أدمغة التلاميذ ونفوسهم المبادئ والتعاليم الحديثة التي تتطلبها القومية الصحيحة المبنية على حب وطنها واحترام وطنية الأمم والشعوب الأخرى وتحقيق التعاون والتقدم وازدهار مبادئ الإنسانية والمحبة والعدالة والإخاء والمساواة. وفي النتيجة توطيد أركان الإنسانية

ص: 9

والحضارة واطراد تقدم مبادئ الإنسانية الحقيقية.

وعليه ولأجل ذلك كله، أرجو أن لا تنتظروا مني البحث عن أساليب التعليم المتبعة في كافة المعاهد الثقافية في أنحاء العالم وفقاً لنظريات ابن خلدون والغزالي وبستالوتزي وفروبل وهربرت سبنر ومونتسوري ودالتن وغيرهم من أساطين فني التعليم والتربية ممن عنوا العناية التامة بأصول تدريس المواد الدرسية من لغات وتاريخ وجغرافيا وفيزياء وكيمياء وهندسة وحساب وسواها، فهذه طرائق ونظم ومناهج معرفة عند الأساتذة والمعلمين الأخصائيين ومن مارسوا مهنة التعليم وستعالج من قبلهم، بل القصد هو السعي وراء ابتكار أساليب وطرائق ونظم جديدة لإيجادهم علاقات البشر بعضهم مع بعض، أثناء تدريس المواد الدرسية على اختلاف أنواعها، ليتمكن البشر من العيش بسلام ووئام، وبذلك تصبح الدروس والعلوم التي يتعلمها الإنسان في المدارس أداة خير لا أداة شر، يتلقنها الطفل منذ نعومة أظفاره فيشب عليها ويحصر جهده وجهوده في سبيل نشرها والسير على غرارها وضمن نطاقها باعتبار أن القضية هي قضية الإنسانية المعذبة التي ضلت الطريق المستقيم ولم تهد إليه حتى الآن، والتي آن لها أن تحطم تلك القيود والأغلال التي تشل حركتها وأن تلقي عن كاهلها تلك الأحمال الثقيلة التي عاقت تقدمها وازدهارها، وأن تنطلق من عقالها وتتنسم نسمات الحياة العليلة الحقيقية وتتمتع بما حبتها به الطبيعة من النعيم الإلهية التي حرمت منها أحقاباً طويلة من الدهر لعدم اهتدائها حتى الآن إلى الطريق المستقيمة المؤدية إليها. وقد لفت نظري بهذه المناسبة جملة قرأتها في إحدى الجرائد وهي كما يلي:

(إن المدنية لا تعيش بعد حرب ذرية)

كتبت الجريدة هذه العبارة بخط ثلث لافت للنظر، وبعبارة أوضح، كتبها بالقلم العريض للفت الأنظار إليها، ولا شك في أنها ذلك لما تضمنته هذه العبارة والمغازي العسيفة التي توجب على كل إنسان أن يفكر فيها تفكيراً جدياً ويفهم ما ترمي إليه من المقاصد والأهداف البعيدة المرمى، ولا سيما وأن هذه العبارة قيلت في خطاب ألقى في حفلة مرور مئة عام تأسيس إحدى الجمعيات وإليكم موجز نص الخطاب:

نيويورك_شهد الرئيس ترومان احتفالات جامعة فورد بمرور مئة سنة على تأسيسها وتلقى

ص: 10

من رئيسها شهادة فخرية بلقب دكتور في القانون وألقى خطاباً مهماً دع فيه أهل العلم إلى إيجاد الوسائل الدفاعية ضد القنبلة الذرية وقيادة الولايات المتحدة وسائر الدول إلى إقرار سلم عالمي. وقالإن العصر الجديد عصر القوة الذرية يشدد علينا ضغطه. انتبهوا لذلك جيداً. إن ما كان كافياً أمس لم يبق اليوم كافيا، فهناك ضرورات جديدة هائلة وتبعات جديدة هائلة ألقيت على عاتق التعليم فالجهل، وأدواته التعصب وعدم التسامح والاشتباه ضد الآخرين، هو ما يخلق الطغاة المسيطرين، وهؤلاء يخلقون الحرب. إن المدنية لا تعيش بعد حرب ذرية لن يبقى بعدها شيء سوى الأنقاض والخرائب يضمحل ويزول أمل الإنسان في الحشمة واللياقة، ويضيع رجاؤنا بأعظم عصر في التاريخ البشري_العصر الذي يستطيع أن يحول القوة الذرية لفائدة الإنسان_ثم أشار ترومان إلى المرحومالرئيس فرنكلان روزفلتفقال في خطاب كتبه قبل وفاته ولم يتسن له أن يلقيه قال: نحن نواجه حقيقة واقعية عظيمة وهي. إن كان لابد للمدنية أن تبقى حية وجبت علينا تنشئة علم العلاقات البشرية أي مقدرة جميع الشعوب على العيش والعمل معاً في عالم واحد بسلام. فإلى إن يتعلم أهالي أميركا وسائر العالم هذا العلم_علم العلاقات البشرية_الذي تكلم عنه الرئيس روزفلت ستبقى القنبلة الذرية سلاحاً مروعاً يهددنا جميعاً بالفناء.

ولكن هناك وسيلة واحدة للدفاع ضد القنبلة الذرية تقوم بإتقاننا علم العلاقات البشرية في كل أقطار العالم، وهو الدفاع عن التساهل والتفاهم والتعقيل والتفكير فإذا تعلمنا هذه الأمور أمكننا أن نثبت أن هيروشيما لم يكن نهاية التمدن بل بداية عالم جديد أفضل من ذي قبل.

يتضح من هذا الخطاب أن الرئيس ترومان قلق على مستقبل المدنية وإن هذه المدنية لا تعيش فيما إذا أنشبت حرب ذرية، وأن كان كافياً بالأمس أصبح غير كاف اليوم، وأنه توجد ضرورات وتبعات هائلة وعلى غاية من الأهمية ألقيت على التعليم (وهذا هو بيت القصيدة الذي سأوجه إليه الأنظار في كلمتي من خطاب الرئيس ترومان وما أشار إليه من أن المرحوم الرئيس فرنكلان روزفلت كان قاله في خطاب كتبه قبل وفاته ولم يتسن له أن يلقيه) وهو أننا نواجه حقيقة واقعية وهي: إن كان لابد للمدنية أن تبقى حية وجبت علينا تنشئة علم العلاقات البشرية_أي مقدرة جميع الشعوب على العيش والعمل معاً في عالم واحد بسلام.

ص: 11

قرأت هذه العبارة الموجزة التي ربما لا تكون لفت أنظار الكثيرين من أبناء هذا العصر المادي، الذي طغت فيه المادة على كل شيء وضربت سداً من الحديد تجاه العقول الجبارة والساذجة. والأدمغة المفكرة والخامدة على حد سواد لمنعها من رؤية أي شيء غيرها في كل نواحي هذه الحياة، وتوجيهها في كل عام عمل يقوم به مخلوق ما على وجه البسيطة، فهي منقوشة في دماغ كل مخلوق على اختلاف أنواعه حتى أصبحت الحركة المحركة لكل ما يحدث في الكون من حركات وسكنات وما يتبعا من أعمال مختلفة لا يمكن عدها.

ولا أريد أن أبحث عن اشتباك مصالح الناس المادية الاقتصادية ببعض بصورة

مفصلة، ولا عن علاقات الأمم والدول والشعوب ومصالحها مع بعض وما ينشأ عن ذلك من التنافس والتطاحن والتناحر والمساعي التي يبذلها كل منهم للحصول على القسم الأعظم من الفائدة وجمع وما يمكنه جمعه من المادة على أية صورة كانت. مما أدى بالبشرية إلى هدم هذه الحياة التاعسة التي يحياها كل من أبنائها بشق الأنفس، وإلى هذه الحالة البائسة التي هم فيها من كد وعمل ودأب متواصل أناء الليل وأطراف النهار، والتوسع في اختراع وابتكار الوسائل المختلفة المؤدية إلى استيلاء كل منها على ما في أيدي الآخرين جميعه وإدخاله في ملكيته وجعله تحت تصرفه، وإيجاد هذا التناحر وهذا التكالب وهذا الحرص على المادة باسم الاقتصاد حباً في الحياة التي ستؤدي بهم جميعاً إلى الدمار والهلاك والفناء والاندثار والاضطراب إلى استعمال القنبلة الذرية التي ستكون سبب نهاية هذا العالم إذا لم يحفل البشر ويفكر التفكير العميق، ويستعمل العقل والحكمة لإيجاد الوسائل الفعالة الموصلة إلى تنشئة علم العلاقات البشرية كما قال المرحوم الرئيس روزفلت، وإذا لم ينتبه إلى الضرورات والتبعات الجديدة الهائلة التي ألقيت على التعليم كما قال الرئيس الحالي ترومان.

نقرأ من يوم لآخر على صفحات الجرائد والمجلات أخبار عقد المؤتمرات والاجتماعات، وتأسيس الجمعيات المختلفة في أكثر أنحاء العالم، ولا سيما بعد انتهاء الحرب الأخيرة، للمذاكرة والسعي وراء الوصول إلى إيجاد حل سلمي للمسائل المشتركة بين الدول والشعوب، وتأمين المصالح بإزالة الخلافات الكثيرة في المسائل والقضايا المختلفة عليها وإيجاد سلم علم يعيش الناس فيه براحة واطمئنان على أنفسهم وأولادهم وذرا ريهم، كما

ص: 12

قرأنا سابقاً في الكتب والتواريخ أخبار عقد مؤتمرات واجتماعات وتأسيس جمعيات عديدة من هذا القبيل، ولنفس الغاية، وهي الوصول إلى حلول مناسبة تؤمن مصلحة الجميع وتزيل الخلافات وتنشر راية السلام في ربوع العالم، إلا أن النتائج التي نتجت في الماضي وتنتج في الحال وستنتج في المستقبل من هذه المؤتمرات والاجتماعات والمباحث كانت عكس المطلوب تماماً. فلا يكاد عقد المؤتمر ينفرط إلا وتبدأ الخلافات والمنافسات من جديد، هذا إذا لم يختلف المؤتمرون أثناء انعقاد المؤتمر ويخرجوا منه بدون نتيجة ويعودوا إلى التناحر والتنافس الذي أدى ويؤدي في أغلب الأحيان إلى امتشاق الحسام وزج البشرية من جديد في حروب وقودها الناس والأنفس البشرية البريئة والأموال الكثيرة، ونتائجها تخريب المدن وتهديم المصانع والمدارس، وتيتيم الأطفال، والقضاء على الملايين العديدة من البشر وتأخير سير البشرية آلاف السنين إلى الوراء وهكذا إلى ما شاء الله حتى أصبح قسم عظيم من الناس_حتى الذين أوتوا نصيباً وافراً من العقل والإدراك والدراية، وعلى رأسهم مالتوس شيخ المتطيرين والمتشائمين_يعتقدون اعتقاداً جازماً إن الحرب سنة طبيعية لازمة وضرورية للبشرية لزوم الماء والهواء للحياة، وإنها من السنن الطبيعية الكونية التي ترتكز عليها الحياة البشرية والتي لا يمكن تغييرها ولا تبديلها، ويوردون أدلة وبراهين شتى لإثبات نظريتهم هذه. ولا يقنعون بما يسرد لهم من الأدلة القاطعة والبراهين الجازمة المعاكسة لتلك النظرية الراسخة في أدمغتهم رسوخاً قوياً منذ أقدم الأجيال، بالنظر للتربية المادية الاقتصادية النظرية التي تلقوها في المهد من أمهاتهم، وعلى مقاعد الدرس من أساتذتهم، وفي صفحات الكتب التي يقرؤونها، والمبادئ التي يتثقفونها في محيطهم وبيئتهم ووسطهم وفي كل مكان وكل مناسبة تاريخ ولادتهم حتى تاريخ وفاتهم، أي من المهد إلى اللحد، لذلك لم يحصل حتى يومنا هذا من كافة الاجتماعات والمؤتمرات التي عقدت منذ فجر التاريخ بنتيجة توصل البشرية إلى سلم عام يعيش فيه الجميع على السواء براحة واطمئنان حاصلين على ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء وسكن وعلاج، وما تتطلبه الحياة من الاحتياجات الضرورية الأخرى ولم تنجح البشرية رغم ما قدم إليها من نصائح وما نشأ فيها من مصلحين وما سن فيها من قوانين وأنظمة على اختلاف أنواعها، في الوصول إلى الهدف الأسمى والغاية الحقيقية التي خلقت من أجلها وهي العيش بسلام واطمئنان كما

ص: 13

أسلفنا، مما حدا ببعض المصلحين والمفكرين إلى ابتداع طرق شتى ومذاهب مختلفة وقوانين وأنظمة لا تعد ولا تحصى لإيصال البشرية إلى ما تصبوا إليه من الهدوء والسكينة وحال الاستقرار، وقد ذهب ذلك كله أدراج الرياح ولم يأت بالنتيجة المنتظرة، وفي اعتقادي إن الأسباب الجوهرية لهذا الفشل المريع هو عدم العناية بالضرورات والتبعات الجديدة التي ألقيت على التعليم وعدم توجيهه التوجيه الإنساني الصحيح وعدم السعي وراء إنشاء علم العلاقات البشرية وتدريب جميع الشعوب بلا تفريق على العيش معاً في عالم واحد بأمان عن طريق إصلاح التعليم ووضع أسس وقواعد إنسانية جديدة له تلتئم مع روح العصر الحديث والتطورات الجديدة وتلقينها للأطفال منذ سن الحداثة والسهر على تنفيذها بكل أمانة وإخلاص والانتظار مدة كافية من الزمن ريثما يتعلم الجيل الجديد مبادئه الجديدة وهي أصول علم العلاقات البشرية ومن ثم يشرع بوضع الأسس اللازمة لتأسيس جمعية عالمية واحدة وعالم واحد، وتوحيد هذا العالم وجعله أسرة واحدة كبرى تعيش كما تعيش الأسرة الواحدة في دارها المشتركة لا فارق بين إنسان وإنسان إلا بالمقدرة على العمل الذي خلق له والذي تؤهله مواهبه للاضطلاع به ضمن نطاق أنظمة وقوانين تؤمن مصلحة الجميع لا يتسرب إليها الخلل ولا تعتورها الفوضى ولا تدع مجالاً لنفس ما للطمع والتطلع إلى ما في أيدي نظيراتها من النفوس التي من حقها أن تنال حاجتها مما تحتاج إليه من ضروريات الحياة بصورة عادلة لا توجب تذمراً ولا عدم رضاء ولا خوفاً من عدم الحصول على ماهية بحاجة إليه من مقومات الحياة التي لا يمكن الاستغناء عنها. يتبع

حمص // عبد الحميد الحراكي

ص: 14