الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد المهدي
ترجمة الخنساء [*]
هي السيدة تماضر، الصحابية الشهيرة الجليلة، بنت عمرو بن الحارث بن
الشريد من سراة سُليم، كانت رضي الله عنها من شواعر العرب المشهود لهن
بالتقدم، وإنما لقبت الخنساء تشبيهًا لها بالظبية؛ لأن الخنس من صفات الظباء،
وهو تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع في الأرنبة، ويقال لها خناس على سبيل
التمليح، وقد كانت من أجمل نساء العرب وأفصحهن، نشأت عزيزة حرة، لا
تفتات عشيرتها عليها بأمر.
مر بها دريد بن الصِّمَّة فارس هوازن وسيد بني جُشَم وهي تهنأ بعيرًا لها ،
فانخلع لبّه على كبر سنه وانصرف إلى رحله وهو يقول:
حيوا تُمَاضرَ واربعوا صحبي
…
وقفوا فإن وقوفكم حسبي
أخناس قد هام الفؤاد بكم
…
وأصابه تبل من الحب
ما إن رأيت ولا سمعت به
…
كاليوم طالي أينق جرب
متبذلاً تبدو محاسنه
…
يضع الهناء مواضع النقب [1]
متحسرًا نضخ الهناء به
…
نضخ العبير بريطة العصب [2]
فسليهم عني خناس إذا
…
غض الجميع هناك ما خطبي
ثم غدا إلى أبيها فخطبها إليه، فردته أحسنَ ردٍّ، ثم طلب إلى أخيها معاوية أن
يشفع له عندها، فأبت بعد امتحانه، وقالت: أأترك أولاد عمي كعوالي الرماح
وأتزوج شيخًا من بني جشم هامة [3] اليوم أو الغد!! فألحّ عليها، فقالت القصيدة
التي مطلعها:
أتكرهني هبلت على دريد
…
وقد أصفحت سيد آل بدر
معاذ الله يرضعني حبركي
…
قصير الشبر من جشم بن بكر [4]
فهجاها دريد ، فقيل لها: ألا تجيبينه؟ فقالت: والله ، لا أجمع عليه أن أرده
وأهجوه، ومن هنا تعلم مقدار أدبها وحريتها وعزتها عند قومها.
وقد كانت في أوائل أمرها تقول البيتين والثلاثة، فلما قتل شقيقها معاوية يوم
حورة الأول سنة 612 م ، وقتل أخوها لأبيها صخر يوم كلاب سنة 615 م في
خبرين طويلين، أكثرت من الشعر وأجادت ، وأُنسِيَتْ بهما من كان قبلهما وأكثرت
المراثي، وأجود مراثيها ما خلط فيه مدح بتفجيع، فإنه يكاد يكون الغاية من كلام
المخلوقين، كقولها في معاوية:
سأحمل نفسي على حالة
…
فإما عليها وإما لها
تهين النفوس وهَوْن النفو
…
س يوم الكريهة أبقى لها
فإن تك مرة أودت به
…
فقد كان يكثر تقتالها
فيومًا تراه على هيكل
…
أخا الحرب يلبس سربالها
ويومًا تراه على لذة
…
وعيش رضي فقد نالها
فخرّ الشوامخ من فقده
…
وزلزلت الأرض زلزالها
وكقولها في صخر:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني
…
فقد أضحكتني زمنًا طويلا
دَفَعْتُ بك الخطوب وأنت حي
…
فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل
…
رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقولها فيه:
أعينَيَّ جُودَا ولا تجمدا
…
ألا تبكيان لصخر ندى
ألا تبكيان الجريء الجميل
…
ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما
…
د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم
…
إلى المجد مد إليهم يدا
فنال الذي فوق أيديهم
…
من المجد ثم مضى مُصْعِدا
يُحَمِّله القومُ ما عالهم
…
وإن كان أصغرَهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته
…
تأزر بالمجد ثم ارتدى
وقولها:
يا أم عمرو ألا تبكين معولة
…
على أخيك وقد أعلى به الناعي
فابكي ولا تسأمي نوحا [5] مسلبة
…
على أخيك رفيع الهم والباع
فقد فجعت بميمون نقيبته
…
جم المخارج ضرّار ونفّاع
فمن لنا إن رُزِئْناه وفارقنا
…
بسيد من وراء القوم دفاع
قد كان سيدنا الداعي عشيرته
…
لا تبعدن فنعم السيد الداعي
وزائيتها المشهورة التي تقول فيها:
كأن لم يكونوا حمى يتقى
…
إذ الناس إذ ذاك من عزيزا
هم منعوا جارهم والنسا
…
ء يحفز أحشاءها الموت حفزا
ببيض الصفاح وسمر الرماح
…
فالبيض ضربًا وبالسمر وخزا
وخيل تكدس بالدارعين
…
وتحت العجاجة يجمزن جمزا
جززنا نواصي فرسانها
…
وكانوا يظنون أن لن تجزا
فمن ظن ممن يلاقي الحروب
…
بأن لن يصاب فقد ظن عجزا
نعف ونعرف حق القرى
…
ونتخذ الحمد مجدًا وكنزا
ونلبس في الحرب نسج الحديد
…
ونلبس في الأمن خزًّا وقزا
ورائيتها السائرة مسير الأمثال:
أغر أبلج تأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
جلد جميل المحيا كامل ورع
…
وللحروب غداة الروع مسعار
حمال ألوية هباط أودية
…
شهاد أندية للجيش جرار
لا يمنع القوم إن سألوه خلعته
…
ولا يجاوزه بالليل مرار
وقد فاخرتها سلمى الكنانية، وكذلك هند بنت عُتْبَة في عكاظ ففخرتهما في
حديث مشهور.
* * *
رتبة الخنساء بين الشعراء
أجمع علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة قط قبل الخنساء ولا بعدها أشعر
منها، ولقد كان النابغة الذبياني تضرب له قبة حمراء، فيجلس لشعراء العرب بعكاظ
على كرسي فينشدونه، فيفضل من يرى تفضيله، فأنشدته الخنساء فأُعْجِبَ بشعرها،
وقال: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لفضلتك على شعراء الموسم. فاغتاظ حسان
بن ثابت رضي الله عنه من تفضيل الأعشى على شعراء الموسم، وقال
للنابغة: أنا أشعر منك ومن أبيك، فقال له النابغة يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن
تقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
…
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم قال للخنساء، أنشديه، فأنشدته، فقال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت:
ولا فحلاً، فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومن أبيك حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وَلَدْنَا بني العنقاء وابني محرق
…
فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟!
قالت: قلتَ: لنا الجفنات، والجفنات ما دون العشْر، فقللت العدد، ولو قلت:
الجفان، لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت: البيض
لكان أكثر، وقلت: يلمعن، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت: يُشْرِقن لكان
أكثر؛ لأن الإشراق أكثر من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت: بالدُّجَى لكان
أكثر في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: أسيافنا، والأسياف دون
العَشرة، ولو قلت: سيوفنا لكان أكثر، وقلت: يقطرن، فدللت على قلة القتل،
ولو قلت: يَسِلن لكان أكثر؛ لانصباب الدم، وقلت: دمًا، والدماء أكثر من الدم،
وفخرت بمن وَلَدْت ولم تَفْخر بمن وَلَدَكَ!! فسكت حسان ولم يحر جوابًا، وقام
منكسرًا منقطعًا، وقد سئل جرير، من أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا الخنساء، قيل
بم فضلتك؟ قال بقولها:
إن الزمان وما يفنى له عجب
…
أبقى لنا ذَنبًا واستؤصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما
…
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعرًا إلا ظهر الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك غلبت الفحول.
***
(الخنساء في صدر الإسلام)
…
اتفقت كلمة الرواة على أن السيدة تماضر الخنساء رضي الله عنها كانت
صحابية، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وقومها بنو سليم وأسلمت
معهم، بيد أنها لم تدع ما كانت عليه في الجاهلية من تسلبها [6] على أبيها وأخويها،
وقد بلغ مِنْ وُجْدها على صخر أنها عميت من البكاء، فلما كانت خلافة عمر رضي
الله عنه أقبل بها بنو عمها عليه، وقالوا: يا أمير المؤمنين لو نهيتها، فدخل عليها
فوجدها على ما وُصفت من تقريح مآقيها، فقال لها: ما أقرح مآقي عينيك يا خنساء؟
فقالت: بكائي على السادات من مضر، فقال: حتى متى؟ اتق الله إن الذي
تصنعين ليس من صنع الإسلام، وإنه لو خلد أحد لخلد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاء اللهب وحشو جهنم،
فقالت: ذلك أطول بعويلي عليهم، ثم استنشدها فأنشدته ارتجالاً:
سقى جدثًا أكناف غمرة [7] دونه
…
من الغيث ديمات الربيع ووابله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى
…
فأنت على من مات بعدك شاغله
فرقَّ لها عمر وقال: خلوا سبيل عجوزكم فكل امرئ يبكي شجوه.
وقد رآها مرة تطوف بالبيت محلوقة تبكي وتلطم خدها، وقد علقت نعل
صخر في خمارها، فوعظها، وقال: إنه لا يحل لك لطم وجهك، ولا كشف رأسك،
فكفت عن ذلك، وقالت:
هريقي من دموعك واستفيقي
…
وصبرًا إن أطقت ولن تطيقي
بعاقبة فإن الصبر خير
…
من النعلين والرأس الحليق
ولما لامتها السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقالت لها: إن الإسلام
قد هدم كل الذي تصنعين أنشأت تقول:
ألا يا صخر لا أنساك حتى
…
أفارق مهجتي ويُشَق رَمسي
يذكرني طلوع الشمس صخرًا
…
وأذكره بكل مغيب شمس
فلولا كثرة الباكين حولي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أسلي النفس عنه بالتأسي
فقد ودعت يوم فراق صخر
…
أبي حسان لَذَّاتي وأُنسي
فقالت عائشة: ما دعاك إلى هذا إلا صنائع منه جميلة، فقالت: نعم، إن
لشعاري سببًا، وذلك أن زوجي كان رجلاً متلافًا للأموال، يقامر بالقداح، فأتلف
فيها ماله حتى بقينا على غير شيء، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي
صخرًا، فأتيته وشكوت إليه حالنا وقلة ذات اليد بنا، فشاطرني ماله، فانطلق
زوجي فقامر به، فقمر حتى لم يبق لنا شيء، فعدت إليه في العام المقبل أشكو إليه
حالنا، فعاد لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فلما كان في الثالثة خَلَتْ بصخر امرأتُهُ
فعذلته، ثم قالت: إن زوجها مقامر، وهذا ما لا يقوم له شيء، فإن كان لا بُدَّ من
صلتها فأعطها أخس مالك، فإنما هو متلف، والخيار فيه والشرار سيان، فأنشأ
يقول:
والله لا أمنعها خيارها
…
وهي حصان قد كفتني عارها
ولو هلكت قددت خمارها
…
واتخذت من شعر صدارها [8]
ثم شطر ماله فأعطاني أفضل شطريه، فلما هلك اتخذت هذا الصدار، والله لا
أخلف ظنه، ولا أكذب قوله ما حييت. وقد مكثت أكثر من أربعين سنة وهي أحزن
نساء العرب على فقيد، غير أن الإسلام اجتث جاهليتها ووجهها إلى رضوان الله
وابتغاء مثوبته، يشهد لذلك ما كان من خطبتها في بنيها الأربعة يوم القادسية سنة
16 هـ، وذلك أنه لما ضرب البعث على المسلمين لفتح فارس، سارت مع بنيها
الأربعة وحضرت الوقعة وأوصت أولادها من أول النهار فقالت: يا بني إنكم أسلمتم
طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم
بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت
نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين،
واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} (آل عمران: 200) الآية، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله
سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا
رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى سياقها، وجللت نارًا على
أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم
والكرامة، في دار الخلود والمقامة. فقاتلوا حتى قتلوا رضي الله عنهم ورحمهم
أجمعين، فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن
يجمعني بهم في مستقر رحمته. ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك،
أجرى عليها أرزاق أولادها الأربعة، وكان لكل واحد مائتا درهم، حتى قبض
رضي الله عنه، وكانت وفاة الخنساء زمن معاوية بالبادية سنة 50 هجرية 670
ميلادية.
_________
(*) خلاصة درس ألقاه على طلاب مدرسة القضاء الشرعي، الشيخ محمد المهدي، الأستاذ المشهور المدرس بمدرسة القضاء.
(1)
الهناء: القطران، والنقب: القطع المتفرقة من الجرب في جلد البعير.
(2)
النضخ - كسفح - الرش، والعبير: أخلاط من الطيب، والريطة: هي الملاءة أو الثوب اللين الرقيق، والعصب: ضرب من البرود.
(3)
الهامة: طائر صغير، يألف القبور.
(4)
الحبركي: القصير الرجلين، الطويل الظهر، والشبر: الخير والعطاء.
(5)
النوح: جمع نائحة، على غير قياس.
(6)
تسلبت المرأة: لبست السلاب، وهو الحداد، والتسلب هو الإحداد على الميت.
(7)
غمرة: مكان، والأكناف: النواحي.
(8)
الصدار: ثوب بلا كمين غير مشقوق، تلبسه نساء العرب في الحزن، ويصح أن يطلق على ما يسميه المصريون الصديري، والشاميون الصدرية.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
السنن والأحاديث النبوية
(3)
كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الأحاديث والسنة
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [1]
(الكلمة السادسة) في التواتر.
أهم ما يطعن به في وجوب التواتر فيما يعمل به في الدين، مسألة إرسال
النبي صلى الله عليه وسلم الآحاد للتعليم وللحكم بين المسلمين وللملوك. فاعلم أن
خبر الواحد - كما قلنا - لا يوجب اليقين، ولا يجب العمل به إلا إذا أيدته قرائن
أخرى قطعية، فهؤلاء الآحاد الذين كان يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهات للتعليم ما كان يجب على الناس فيها أن يوقنوا بما يخبرونهم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يجوز عليهم الخطأ والنسيان، كما أنه يجوز عليهم الكذب أو الارتداد. وإنما هؤلاء الناس الذين كانوا في تلك الجهات تحققوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم هؤلاء الرسل وأوجب عليهم طاعتهم والأخذ عنهم، وقبل أن يحققوا ذلك لا تجب عليهم طاعتهم ولا الأخذ عنهم، فهم في طاعتهم لهم وأخذهم عنهم بعد تيقنهم من أنهم مرسلون إليهم من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هم مطيعون لله ولرسوله ولأولي الأمر، فإذا قالوا لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا فاعملوا به، وجب عليهم أخذ هذا القول عنهم كما أمرهم الرسول
صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم العمل به، لا لأنهم أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة قاله،ولكن لأنهم أمروا بطاعة أولياء أمورهم فلا يجوز مخالفتهم أو رفض كلامهم إلا إذا علموا بكذبهم، وحينئذ يرفعون الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيحكم بعزلهم عن تولي أمورهم وتسقط عنهم طاعتهم فيما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعليه فهؤلاء القوم ما كانوا عاملين بالظن، وإنما هم مطيعون لأمر يسمعونه من أولياء أمورهم بآذانهم، فيأخذون به ويعملون به كما أمروا، وسواءٌ في ذلك أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله أو لم يقله، فالعهدة فيه على رواته.
فإن قيل: إن لم يكن هؤلاء عاملين بالظن، فالرسول صلى الله عليه وسلم
نفسه عامل بالظن؛ وإلا فكيف يوفق بأن هؤلاء القوم لا يبلغون عنه إلا ما يريدون؟
قلت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إن لم يعلم ذلك بطريق الوحي كما كان
يخبره الوحي بحالات كثيرة مثل هذه عن أصحابه البعيدين عنه كما هو مشهور في
سيرته صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم مِن هؤلاء المبعوثين
الصدق والإيمان وقوة العقل والعلم بالدين، وقد اختبرهم بنفسه زمنًا طويلاً حتى علم
أخلاقهم وأميالهم وأحوالهم وسبر غورهم، فهو يكاد يجزم بصدقهم وإخلاصهم كما
يجزم أحدنا - وإن كان نظره أضعف من نظر الرسول صلى الله عليه وسلم
بصدق صاحبه وإخلاصه بعد معاشرته له زمنًا طويلاً في أحوال مختلفة. وإن بقي
في النفس أدنى شكّ في ذلك أو تجويز للخطأ أو النسيان عليهم، فهؤلاء المبعوثون
ما كانوا يذهبون إلى جهات منقطعة عن المسلمين، بل كان بينهم وبين المسلمين
صلة وثيقة وعلاقة كبيرة، فكان يأتي منهم الكثيرون إلى المسلمين مرات عديدة في
السنة للزيارة والتعارف والحج والتجارة وغير ذلك، ويذهب إليهم المسلمون لمثل
هذه الأغراض، فإذا حاد المبعوثون عن شيء مما تلقوه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أو أخطئوا فيه وصل ذلك إلى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أقرب وقت، فيصحح هذا الخطأ أو يعزلهم أو يعاقبهم. فبالوحي وبثقته الأكيدة بمن
أرسله بعد التحقق منه زمنًا طويلاً، وبإخبار الذاهبين إليهم والآتين مِن عندِهم يكون
الرسول صلى الله عليه وسلم واقفًا على ما يبلغ عنه في تلك الجهات ومهيمنًا عليه،
فإن حصل خطأ أو كذب في شيء منه فالعاملون به مطيعون لأولياء أمورهم وليسوا
عاملين بالظن، ولا يلبث هذا الخطأ أو الكذب إلا قليلاً، فيمنعه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أقرب وقت. وهذه الحالة ضرورية في مبدأ الدعوة حتى يعم الدين
تلك الجهات، ويكون فيها وفي غيرها مشهورًا مستفيضًا متواترًا، فلا يتطرق لشيء
منه بعد ذلك ريب أو شك، وهي تشبه حالة التلاميذ مع معلمي المدارس وتلقيهم
العلم عنهم وعملهم به، فإن الأمة رقيبة عليهم، فإن أخطئوا في شيء أو دسوا عليهم
أمرًا، فسرعان ما يصل إلى علم الأمة وأولياء أمورها، فيتلافونه في أقرب وقت.
أما أحاديث الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فهي تختلف عن ذلك
اختلافًا كبيرًا؛ لأن رواتها ليسوا أولياء أمر المؤمنين حتى تجب طاعتهم من هذه
الوجهة، ولم يثق بهم الرسول، ولم يعرفهم ولم يُعيّنهم لهذا الأمر ولم يَقُمْ رقيبًا
عليهم، لا بالوحي ولا بأخبار الناس عنهم، فالفرق بين الحالتين عظيم.
أما رسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، فالغرض من ذلك إلفات نظرهم
إليه وتنبيههم للبحث في دعوته وتشويقهم للنظر في أمره وحالته، وإلا فلا يمكن
الإيمان لأجلها إلا بعد التثبت منها والتحقق من أمر الدعوة والداعي، فهي كالتمهيد
للدعوة الحقيقية، بوصول الدين إليهم متواترًا على أيدي الناس كما حصل بعد وفاته.
والخلاصة أن القرآن الشريف يذم العمل بالظن كثيرًا، فلا يمكن أن الله
سبحانه وتعالى يلزم عباده المؤمنين بالعمل بما لا يوجب عندهم اليقين، وإلا كان
أمرًا لهم بما يذم به غيرهم، ويلومهم على اتباعه.
وحيث إن أحاديث الآحاد مِن حيثُ هي لا تفيد اليقين كما بيناه في الكلمة
الرابعة، فلذا اشترطنا التواتر فيما يجب علينا الأخذ به في الدين، فدليلنا على ذلك
مبنيّ على حكم العقل وما جاء به الكتاب العزيز.
(الكلمة السابعة) معنى السنة، وبيان وُجُوب العمل بها.
السنة في اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة، فسنته
صلى الله عليه وسلم هي طريقته التي جرى عليها في أعماله واقتدى به أصحابه فيها،
وهي واجبة الاتباع حتمًا على كل مَن آمَنَ به وصدقه صلى الله عليه وسلم، وهذا
هو المراد بما جاء في الحث على اتباع السنة في أقوال الصحابة والسلف رضوان
الله عليهم جميعًا، كما لا يخفى على متأمل في أقوالهم، ومن ذلك حديث: (عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) أي عليكم بطريقتي وطريقة خلفائي
الراشدين مِن بعدي، فلا نِزاعَ في أن اتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في
الدين هي واجبة على جميع أتباعه المؤمنين، أما أقواله صلى الله عليه وسلم التي لم تكن طريقة متبعة له ولا لأصحابه، فهي موضوع بحثنا، وهي المقصودة
في مقالاتنا الأخيرة، تلك التي رواها الآحاد وانفردوا بها، ولو كانت واجبة الاتباع
لعلمها الناس جميعًا في عصره عليه السلام وجروا عليها في أعمالهم، وهذا هو أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا لجميع البشر، بل هي خاصّة لمن وجهت
إليهم لأحوال خاصَّة وظروف مخصوصة أو أنها كانت للإرشاد والندب لا
للوجوب، ولذلك لم يكن اتباعها عامًّا بينهم. فهناك فرق عظيم بين لفظ (السنة)
ولفظ (الأحاديث) ويجب على كل باحث في هذا الموضوع أن يدرك هذا الفرق
جيدًا، حتى لا يقع في الخلط والخبط. وقد أدرك الإمام مالك هذا الفرق، فكان
رضي الله عنه يقدم عمل أهل المدينة على الأحاديث، ويرد منها ما خالف
سنتهم التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صحت أسانيدها، وقد رد من ذلك مئات كثيرة.
أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة، فهي من اصطلاح المتأخرين، ولولا هذا
الاصطلاح لما احتجنا في مقالاتنا إلى تقييد لفظ السنة بقولنا (العمليَّة) فإن السنة
لا تكون إلا عمليَّة، وأما القول الذي يقال ولا يكون مبدأً يجري عليه العمل دائمًا فلا
يسمى سنة عند المتقدمين.
فاتّباع سنة أي شخص، هي الجري على منهجه والتزام طريقته ومبادئه
وأصوله، وليس معنى ذلك أن يتقيد المتبع بكل جزئية من جزئيات كلام المتبوع،
مثلاً قد أكون متبعًا لسنة الأستاذ الإمام رضي الله عنه في تفسير القرآن الحكيم ومع
ذلك أرى في بعض الآيات خلافَ ما يرى، ولا يخرجني ذلك عن كوني متبعًا سنته،
فإن سنته هي في ترك التقليد واستعمال العقل وعدم القول بالنسخ وتحري الحق
والصواب، لا في التزام كل قول من أقواله التزامًا أعمى، فكذلك ترك بعض أقواله
صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية المحضة، وما حكم فيه بالرأي والاجتهاد،
وما خالف المصلحة في زمننا لا يُخْرِج المسلمَ عن كونه متبعًا سنته صلى الله عليه
وسلم، فإن سنته هي في اتباع الحق والصواب وتجنب الضار ومراعاة المصالح،
كما دل عليه الكتاب العزيز، وترادفت فيه الأخبار المتعددة المصادر المختلفة المبنى
المتحدة المغزى، وكما جرى عليه عمل كبار المسلمين وعقلائهم في كل زمان
ومكان. فسنته صلى الله عليه وسلم هي في اتباع مبادئه الشريفة والجري على
خطته ومنهجه وإطاعته فيما أوحي به إليه، أو ما وافق الصواب والمصلحة من
آرائه واجتهاداته، وليست سنته في الجمود والتقليد والبعد عن العقل والتفكير، كما
عليه أكثر المسلمين اليوم، ولذلك كان أصحابه يخالفونه في كثير من المسائل في
حياته وكان عليه السلام يرجع عن رأيه لآرائهم، ولذلك أمر بمشاورتهم، وما قال
أحد بأن من خالفه منهم خرج عن سنته، فإن سنته هي الشورى والتفكير ورعاية
مصالح العباد وتحري العدل والإنصاف وعدم الاستبداد بالرأي. وقد خالف أصحابه
رضوان الله عليهم في حياته وبعد مماته بعض أقواله وبعض ما حكم به مراعاة
للمصلحة، ولولا خوفُ الإطالة لذكرت شيئًا من ذلك كثيرًا، وقد وفيت هذا البحث
في رسالة لي طويلة وفقنا الله لطبعها عن قريب.
وسنته صلى الله عليه وسلم في الأمور تعلم من نصوص الكتاب العزيز ومما
تواتر بين المسلمين عنه قولاً وعملاً ومن مجموع ما رُوِي عنه من المصادر المختلفة
في المسائل المتعددة. فسنته معلومة للمسلمين باليقين وواجب اتباعها على جميع
المؤمنين. وهذا هو المراد بما جاء في الكتاب الكريم من الأمر باتباعه والاقتداء به
والجري على منهجه والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم ، وهو أيضًا المراد مما
ورد عن أصحابه وعن سلف المسلمين من القول بوجوب اتباع السنة النبوية.
وأما أخبار الآحاد التي لم يجر عليها العمل بلا انقطاع بين المسلمين فهي
موضوع النزاع في كل عصر وجيل، كما يتضح لك من الكلمة الآتية:
(الكلمة الثامنة) آراء أئمة المسلمين في أخبار الآحاد، وما قالوه فيها، وكيفية معاملة الصحابة لها.
(1)
قال الإمام أحمد بن حنبل ما معناه: إن الأحاديث الواردة في تفسير
عبارات القرآن الشريف لا أصل لها. كما نقله عنه الحافظ السيوطي في الإتقان.
(2)
وقال الإمام الشافعي: (إن نسخ القرآن بالحديث لا يجوز) .
(3)
وقالت الظاهرية: إن تخصيص عموم القرآن بها غير جائز، وإن
العمل بها غير واجب.
(4)
وقال جمهور الأصوليين: (إنها ظنية) .
(5)
وقال جمهور المسلمين: (إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد) .
(6)
وقال كثير من الأئمة، كالقاضي عياض: (إنه لا يجب الأخذ بها في
المسائل الدنيوية المحضة، ولو كانت موثوقًا بها) .
(7)
وقال جميع المحدثين: (إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير،
وفي بعض الأحوال مستحيل) راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة.
(8)
وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس: (إن الصحيح منها
قليل جدًّا) حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثًا.
(9)
وقال مالك رضي الله عنه: (إن عمل أهل المدينة مقدم عليها) ،
وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي عليها.
(10)
أجمع جمهور المسلمين على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها.
(11)
إن تناقضها كثير، ومعرفة ناسخها من منسوخها عسير أو مستحيل،
وكذلك أكثر أسباب قولها.
(12)
قام الدليل الحسي على أن الله لم يتكفل بحفظها من التحريف والتبديل
والزيادة والنقصان.
(13)
لم يجمعها الصحابة، ولم يتفقوا عليها.
(14)
لم يبلغوها إلى الأمم بالتواتر، مع علمهم بأن اتباع الظن غير جائز
في الإسلام إلا لضرورة.
(15)
إنهم نُهوا عن كتابتها، وأُمروا بإحراق ما كتبوه منها، كما في
الروايات التي صحت عندكم.
(16)
قد نهى بعضهم عن التحديث وكرهه، وكذلك علماء التابعين.
(17)
كان أفاضلهم أقل الناس حديثًا ويصدفون عنه، ولو كان واجبًا لَمَا
كان هذا حالهم.
(18)
من كان من الصحابة كثير الحديث ملوا منه ونهوه وزجروه، كما
فعل عمر بأبي هريرة، وشكوا فيه ، وقالوا: إنه يضع الشيء في غير موضعه،
ونسبوه للجنون، كما في كتبكم.
(19)
إن أئمة المسلمين لم يتفقوا على الصحيح منها، وما منهم من أحد إلا
خالف في مذهبه كثيرًا منها.
(20)
لم يعتن المسلمون بحفظها في صدورهم كما اعتنوا بحفظ القرآن
الشريف.
فإذا كان هذا حال الأحاديث وما قاله المسلمون فيها وما عملوه بها، فأي فائدة
منها ترجون؟ وأي ثقة بها تثقون؟ وأي شيء خالفتُ فيه الإجماع أو ابتدعته حتى
أُرْمَى بالكفر أو المروق؟ مع أن هذه المطاعن وأمثالها كثير لم يخل منها عصر
من عصور المسلمين، ولم تصدر إلا منهم. فيجب علينا أن نقدر أخبار الآحاد
قدرها ولا يعمينا الجهل والتعصب عن حقيقة أمرها.
أما قول حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي في الجواب عن بعض هذه
المطاعن إن الصحابة اختلفوا في جمع القرآن وكتابته، فهو لا يرد شبهة ولا
يدحض حجة. فإن القرآن الشريف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
اليوم قد حفظ حفظًا جيدًا في الصدور، لم يسبق له مثيل ولم يعرف عند أمة أخرى
في كتبها. وكُتِبَ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبأمر منه عليه السلام
وبإملائه على ما عرفوه إذ ذاك من أنواع القرطاس (كل ما يكتب عليه) ولم يختلف
أحد منهم في وجوب كتابته ولم يمت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع سوره مرتبة
الآيات محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في سطورهم المحفوظة عندهم، وإنما
كان اختلافهم بعد وفاته عليه السلام في كيفية جمعه على طريقة لم يكونوا يعرفونها
من قبل وما كانوا عهدوها، وهي كتابته على صحف من الكاغد (كالورق الآن)
مع ضم هذه الصحف بعضها إلى بعض بالطريقة المعروفة اليوم في عمل الكتب،
فإن الكاغد وعَمَلَ ما نسميه الآن كتابًا، ما كان معروفًا لهم في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم، وإنما هو رقي في الصناعة التابع لرقيهم في المدنية بعد وفاته عليه
السلام، ولو كانوا علموه من قبل لعملوا المصاحف في زمنه، ولما اختلف في ذلك
منهم اثنان (راجع مقالة تاريخ المصاحف، المنشورة سابقًا في المنار) . ولما لم
يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس شيئًا من الصناعات وغيرها من
أمورهم الدنيوية التي يمكنهم أن يصلوا إليها بعقولهم وتدرجهم في سلم المدنية
واقتباسهم أشياء من الأمم الأخرى الراقية، فلذا لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام
بتعليمهم صناعة ما نسميه الآن ورقًا وكتبًا، كما أنه لم يوح إليه بتعليمهم أي صناعة
أخرى، بل تركوا وشأنهم حتى يصلوا إلى ذلك بمرور الزمان.
والخلاصة أن القرآن محفوظ في الصدور مكتوب في السطور من عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم وبأمره، لم يختلف في ذلك أحد، وإنما الاختلاف كان
في مجاراة الترقي في الصناعة. وقد ترقت صناعة عمل المصاحف شيئًا فشيئًا،
كما ترقّى كل شيء آخر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحالي.
وأما كتابة الأحاديث، فقد كتبت فيها مرات، وأفاض القول فيها بعلمه الواسع،
أستاذ المنار، فلا حاجة للتكرار.
(الكلمة التاسعة) أسباب استشهادي بأحاديث الآحاد في مقالاتي.
اعلم بأن من الحجج ما يسمى (بالإقناعي) ، وذلك أن تحتج على الخصم بما
هو مسلم عنده، كأن تحتج على النصراني ببعض ما في الإنجيل الحالي، وإن كنت
غير معتقد له. فأنا أورد الأحاديث غالبًا لا لأثبت معتقدي لنفسي، بل لأقنع من لا
يقنع إلا بها، ولست أعول في براهيني القطعية إلا على ما يفيد اليقين، فما
أذكره من الأحاديث إما لإقناع المسلمين وإلزامهم بها أو التكثير من الأدلة بضم ضعيفها
إلى قويها ليقوى بها مع استعمال مبدأ الاستنتاج والنقد فيها. وقد اتبعت في ذلك
خطة علماء التاريخ العصريين، فإنهم يؤيدون آراءهم في التاريخ القديم ببعض ما
يعثرون عليه من الروايات ولو كانت من الأساطير ويستنبطون منها ما لا يستنبطه
الجهلاء من الحقائق بعد أن يستنيروا في دياجير ظلماتها بمصابيح من نور العقل
والعلم، فإنه جرت عادة الناس بتضمين حكاياتهم شيئًا من حقائق التاريخ فيأتي أهل
النظر والبحث فيعرفونها ويلتقطونها من وسط الخرافات ويتثبتون من صحة ما
التقطوه بالأقيسة المنطقية والقضايا العقلية، فإذا أراد بعضهم أن يعرف مثلاً أصل
الحجر الأسود عندنا، عمد إلى رواياتنا فيه وحكها بمحك النقد والعقل، فإذا سمع
رواية (إن الله استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام
وقال له: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر،
نادى أبو قبيس إبراهيم فجاء فحفر عنه فجعله في البيت) استنتج منها بعد أن يزيل
قشورها وأوهامها حقيقة هذا الحجر، وهو أن أصله قطعة أخذها إبراهيم عليه
السلام من أحجار جبل أبي قبيس السوداء القريبة من الكعبة، ووضعها في أحد
أركان الكعبة علامة على الركن الذي يبتدأ منه بالطواف ليعرف الطائف كم
مرة طاف بالبيت، وليبتدئ الناس بالطواف من نقطة واحدة، حفظًا للنظام وتسهيلاً
للطائفين [2] ، وكذلك يأخذ علماء التاريخ كثيرًا من حقائق تاريخ اليونان مثلاً مما
يجدونه عندهم من الأشعار والحكايات القديمة، كإلياذة (هومير) ، فإذا كان
هذا ما يفعله العلماء في الأساطير، فهل يستنكر مني أن أستشهد لقوم بأحاديثهم
الصحيحة المسلمة عندهم وهي التي يعولون عليها في مذاهبهم؟ وماذا يكون قولهم إذا
لم أؤيد مقالتي بشيء من ذلك؟ أما كانوا يقولون: إنها محض رأي له غير مؤيد
بشيء من النقول، ولو كان صحيحًا ما خلت أحاديثنا منه، إنها تكاد لا تغادر
شيئًا (إني والله لفي حيرة من أمرهم! !) على أن كثيرًا مما أذكره في مقالاتي مروي
عن كثير من الصحابة بالأسانيد المسماة عندهم صحيحة، والروايات فيه
مترادفة تكاد توجب اليقين والقول بأنها جميعًا موضوعة لا يكفي عند الباحثين في
نشوء الروايات لإرواء غلتهم وإشباع نَهْمَتهم في العلم، فلا بُدَّ إذًا من البحث
والتنقيب. ولو رفض المسلمون الآن ما ألزمهم به من الأحاديث بعد تدوينهم لها
في كتبهم واعتبارهم لها صحيحة أفما يكونون متعسفين؟ وكيف إذًا يكون
التمييز عندهم بين الصحيح والضعيف والموضوع؟ فاللهم اجعل العقل رائدنا.
وأَنِرْ بصائِرَنا. واجعل كتابك هادينا ومرشدنا. ونبيك إمامنا وقدوتنا ولا تخزنا يوم
يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلى مَن أتى الله بقلب سليم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تابع لما نشر في (ص 688 ج9 م 11) من مقالة الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(2)
حاشية للكاتب - تقبيل الحجر الأسود هو كتقبيل آثار رجال التاريخ العظام احترامًا لهم وإجلالاً لشأنهم وحبًّا فيهم، كمن يقبل سيف نابليون أو دواة شكسبير وقلمه إن وجدت، ولكل أمة آثار موروثة عن رجالهم العظام ويقبلونها، وهذا الحجر هو من آثار إبراهيم في بنائه الكعبة، ومحفوظ بالتواتر في الأمة العربية، فلذا قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبل غيره من أركان الكعبة واتبعه المسلمون في ذلك إلى اليوم، وإن لم يقل أحد منهم بوجوب ذلك، ولم يذكر هذا الحجر في القرآن الشريف، ومن اعتقد أن شيئًا من هذه الآثار يضر أو ينفع فقد خرج عن عقله وكفر بالله ورسله، ومن العجيب أن الإفرنج يسمون تقبيلنا لهذا الحجر عبادة - مع أن التقبيل لا يسميه أحد في الدنيا عبادة - ولا يسمون سجودهم لصورهم وصلبانهم وقديسيهم وقديساتهم والخبز في قربانهم، لا يسمون ذلك عبادة لهذه الأشياء، مع أنه شتان ما بين السجود والتقبيل، فانظر وتعجب! ! .
الكاتب: أحمد الإسكندري
إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام
لحضرة جرجي أفندي زيدان
(2)
ذكرنا في مقالنا الآنف الأمر الأول من الأمور التي تؤخذ على المؤلف وهو
(تردده أو إنكاره بعض الحقائق التاريخية البديهية في موضع. وتشبثه بتحقيق
بعض الظنون والتخرصات في موضع آخر اعتمادًا على أوهام وتخيلات قامت
بذهنه فقط) ومَثَّلنا للشق الأول من هذا الأمر وأدحضناه بما عرفه القراء. والآن
نمثل للثاني ونأتي على بقية الأمور التي تؤخذ على المؤلف، فنقول:
مثال الثاني - أنه عندما تكلم على دولة النبط في بطرا نقل عن التوراة وعن
كاتر مير الفرنسي وعن كوسين دي برسفال وعن آخرين ما يفيد أن الأنباط ليسوا
عربًا ، وأنهم آراميّون أتوا من الشرق فأجلوا الأدوميين عن بطرا واحتلوها ، ثم
رفض كل هذه النصوص والآراء وغيرها من النصوص التي لم يذكرها مما جاء في
السفر الأول من أسفار المكابيين وفي تاريخ يوسفيوس من غير أن يذكر برهانًا
واحدًا على نقضها، واستنبط هو بنفسه أنهم عرب، وذكر لذلك دليلَيْنِ:
الأول أن اليونان حيثما ذكروهم سموهم عربًا (ولعله يعني تقسيمهم جزيرة
العرب إلى عرب بترية في الشمال وسعيدة في الجنوب) .
والثاني أن أسماء ملوكهم عربية. وهما دليلان يتضاءلان أمام النصوص
التاريخية، ولا سِيَّمَا إذا كان ثمة ما يجعل هذين الدليلين ينعكسان على غير مراد
المؤلف، فيكونان حُجَّةً عليه لا له. ونحن ننفي أولاً هذين الدليلين ثم نأتي بأدلتنا
الوجودية على آرامية النبط، أما الدليل الأول فإن تسمية اليونان لسكان الشمال
العربي من جزيرة العرب بالعرب البترية هي تسمية جغرافية، كما أننا نسمي ما
وراء أسوان بالسودان، مع أن أكثرهم عرب لا زنوج، وكما نسمي الصحراء
الشرقية من مصر الصحراء العربية مع أن سكانها من البشارية والبجاة، لا يعرفون
العربية. على أن جميع ما عرف من حروب القائد اليوناني أنتيفونوس وابنه
ديمتريوس أنه وجد حولهم قبائل يظاهرونهم ويستجيبون لصراخهم، ويؤيد ذلك ما
نقله حضرة العلامة المفضال جبر ضومط عن يوسفيوس (جزء ثالث. مجلد 33
مقطتف) على أن سِفْر المكابيين من التوراة سماهم نبطًا وجعل العرب أحلافًا لهم
حينما استعان بهم يهوذا المكابي، وهو كان معاصرًا لهم أيضًا.
وأما الدليل الثاني - فإن ما عثر عليه من أسماء الملوك العربية لا يثبت أن
الشعب عربي، فقد ثبت أن النبط في آخر أمرهم خضعوا للعرب وخصوصًا قضاعة،
وأن الملوك الذين عاصروا منهم ملوك اليونان هم عرب حكموا أمة النبط، كما
يستفاد من تاريخ يوسفيوس. وكما أننا لا نسمي الأمم الهندية إنجليزًا؛ لأن
إمبراطور الهند إنجليزي، كذلك لا نسمي النبط عربًا؛ لأن ملوكها في بعض
الأحيان كانوا عربًا، على أن هذه الأسماء لم تكن خاليةً من التحريف والصبغة
الآرامية والعبرية، مع أننا عثرنا على كثير منها مكتوب بالخط النبطي نفسه لا
اليوناني الذي مظنة التحريف، وأما كون لغة الكتابة عند النبط غيرَ لغةِ التخاطب،
فهو مما لم يقم عليه دليل، وما كان أحوج المؤلف إلى ذكره لو وجده.
أما أدلتنا على أن النبط ليسوا عربًا وأنهم خليط من الأدوميين القدماء ومن
الآراميين الذين جاءوا مع بُخْتَنَصَّرَ ومن اليهود ومن العرب، فهي:
(1)
ما هو مشاع مستفيض عن العرب قبل الإسلام وبعده أن النبط غير
العرب، وأنهم كانوا يعيرون العربي بأنه نبطي، واعتبر كثير من الفقهاء أن نداء
العربي بِيَا نبطيُّ قَذْف وسبّ، ناهيك بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا
تكونوا كنبط السواد إذا سئل عن نسبه قال: أنا من بلد كذا.
(2)
أن لغتهم لغة خاصة بهم تخالف العربية وتنال حظًّا من الآرامية وحظًّا
من العبرية وحظًّا من العربية. بل فيها كثير من اليونانية.
(3)
أن جميع النصوص التاريخية من التوراة في إشارة أرميا وحزقيال
وفي أسفار المكابيين ما يفيد أن النبط غير العرب، وأن الإله انتقم من الأدوميين
وضربهم بغارة بختنصر، فدمر عليهم وأورث الأرض من بعدهم الكلدانيين الذين
جاءوا معه من بابل، وأن النبط كانوا في بعض أدوارهم أحلافًا ليهوذا المكابي،
وأنهم استأجروا جيوشًا من العرب يظاهرونهم، وهذا يدل على أن المستأجر غير
الأجير.
(4)
ما جاء في تاريخ يوسفيوس من أن النبط بقوا مستقلين عن العرب إلى
أيام الإسكندر مانيوس بن أرستو بولوس بن يوحنا هركاتوس بن سمعان أخي يوناتان
ويهوذا المكابي اليهودي، فإنه بعد وفاة هذا الملك أخضعهم العرب وقام منهم عليهم
عدة ملوك، كانوا يسمون تارةًَ ملوك النبط وتارة ملوك العرب، وإن كانت الجنسية
متميزة بينهما، وبقوا كذلك إلى أن استولى عليهم الرومان سنة 105 م.
(5)
حقق كل من كاتر مير الفرنسي وكوسين دي برسفال وغيرهما من
علماء الآثار أن سكان بطرا بعد الأدوميين هم أمم نازحة من العراق وبابل، ولا
ينطبق ذلك إلا على زمن بختنصر، إذ سكان بطرا قبل بختنصر لم يعرفوا إلا باسم
الأدوميين، وبعده لم يعرفوا إلا باسم النبط، من أنه من الثابت أن بختنصر أباد
الأدوميين تحقيقًا لوعيد حزقيال وأرميا النبيين، مع أن الله ينزل عليهم بلاءه ويجعل
جبال عيصو خرابًا وميراثًا لذئاب البرية، وأنه حارب العرب حتى كاد يفنيهم، فلو
كان النبط عربًا لما استبقاهم فيها، فظهر من ذلك أن الأنباط بقايا القبائل الآرامية
التي أسكنها بختنصر في بطرا ليكونوا حراسًا ونقلة لتجارة بابل؛ لأن فتوحاته كانت
كلها تجارية، ثم امتزجوا بغيرهم من اليهود والعرب، وما يرى في لغاتهم من
الألفاظ العربية لا يربو على ما يوجد في العربية المضرية من الألفاظ العبرية.
على أن المؤلف لما أحس بضعف دليله عن تبريره تلك الحلية التي هاجها في
أكثر من خمس صفحات من كتابه مع تيقنه أن المكتوب من آثارهم ليس عربيًّا،
زعم بلا دليل أن لغة تخاطبهم غير لغة كتابهم، ثم رجع وقال:
(على أننا لا نظن اللغة العربية التي كان يتفاهم بها النبطيون هي نفس اللغة
العربية التي عرفناها في صدر الإسلام، ولا بُدَّ من فرق بينهما اقتضاه ناموس
الارتقاء) .
هذا مع علمنا أن النبط دخلوا في حوزة الرومان في أوائل القرن الثاني بعد
الميلاد، وإننا نروي كثيرًا من شعر العرب وأمثالهم منذ القرن الرابع من الميلاد،
مما يظهر لنا تمام الإظهار أن هذه اللغة العربية الفصيحة بإعرابها واشتقاقها وكثرة
أساليبها التي لا تتناهى قد تكونت بهذه الصورة قبل ذلك بكثير أي وقت ما كان النبط
نبطًا، بل قبل هذا الوقت، ولا سِيَّمَا إذا علمنا أن اللغة العربية هي لغة أهل بادية،
وهم أبعد الناس عن الانقلابات اللغوية، كما يصرح بذلك حضرة المؤلف في أكثر
من موضع من كتابه.
(6)
إن النبط الذين كانوا في الشرق في صحراء الكوفة وعلى ضفاف
الفرات وبقوا متميزين عن العرب إلى ما بعد الإسلام بنحو مائة وخمسين سنةً، هم
يشبهون نبط الشام من أكثر الوجوه، بدليل أن ما وجد من آثارهم ومعبوداتهم
وخطوطهم يدل على أنهم من عنصر واحد، وأطلال تدمر والخط التدمري صِنْو
النبطي تشهد بذلك، فإن كان نبط الشام خالطوا قضاعة، فنبط العراق خالطوا لخمًا
وجذامًا وبكرًا وتغلبَ وعبادًا.
ومن أمثلة الشق الثاني، وهو تشبثه بتحقيق بعض الظنون إلخ، أنه عندما
تكلم على دول اليمن ذكر من بينها دولة، زعم أن العرب لم تعرفها، وهي أهل
(معين) ، وقَفَّى على إثر ذلك بأن استظهر أنها أمة قديمة جدًّا تبتدئ أخبارها منذ
أربعين قرنًا قبل الميلاد لعثورهم على أثر قديم من آثار بابل ذكر فيه بالخط
المسماري: (أن زام سين حمل على مغان وقهر ملكها معنيوم) واستنتج أن مغان
هذه هي مغان طور سيناء، وأن الميم في (معنيوم) للتنوين، وبالطبع يعتقد أن
اللفظ حرف واختزل حتى صار (معينًا) ، وكذلك نقل عن سفر الأخبار (أن الله
أعان عزريا على الفلسطينيين وعلى العرب المقيمين بجوار بعل وعلى المعونيين)
أي المجاورين طبعًا للفلسطينيين، وكل هذه الحوادث حدثت في برية الشام والأمة
يمانية.
أيها المنكح الثريا سهيلا
…
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
…
وسهيل إذا استقل يماني
ولو كان الشبه بين لفظين يكفي أن يبنى عليه تاريخ أُمّتين، لقد حقّ لنا أن نقول على التاريخ العفاء.
ثم اقتضب الكلام ورأى رأيًا أخيرًا، أنهم من جالية الآراميين، أتوا من العراق
في هذه العصور السحيقة واستعمروا اليمن، ثم أشكل عليه الأمر بأن المعينيين لو
كانوا من العراق لكتبوا بالخط المسماري، مع أن آثارهم مكتوبة بالخط المسند المشتق
من الفينيقي، فلم يَرَ حَلاًّ لهذا المشكل سوى ادعائه بأنهم استبدلوا بالخط المسماري
الخط الفينيقي لسهولة هذا الأخير في نظره! ! ! ولكن كل هذه العراقة في القدم لم
تمنعه من وصفهم في موضع آخر أنهم كانوا معاصرين للسَّبَئبِيِّين الذين لم تبتدئ
دولتهم على رأيه إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، ونقل عن اليونان في صفحة
(116)
أن هذه الأمم وغيرها كانت متعاصرة، وأن عاصمتهم (مأرب) ثم
يتشبث في موضع آخر بأن القحطانيين السبئيين كانوا بعد المعينيين، أو أنهم
ورثتهم أو أنهم حبشان أوانهم عمالقة جاءوا من مصر، هذا إلى اضطرابات
وتناقضات توقع طالب التاريخ في حيرة وارتباك، يهون عليه معهما نبذ كل هذه
التخرصات، والاعتقاد بأن كل هذه الأمم كانت قبائل متجاورة في مخاليف
متقاربة أعظمها مأرب.
الأمر الثاني من الأمور التي تؤخذ على المؤلف - تناقض عبارات كتابه في
عدة مواضع.
منها ادعاؤه أن أسماء ملوك حمير لم يكن بينها أسماء عدنانية، حتى قال في
صفحة (166) لم نجد لذلك أثرًا في الآثار المنقوشة، ثم نقل في صفحة (159)
أثرًا عظيمًا لأبرهة الحبشي، وفيه يسمي ولاته من حمير وأقْيالهم يزيد وكبشة ومرة
وثمامة وحنشًا ومرثدًا كما تقدم.
ومنها تناقضه في أن الجبائيين لم يعرفهم العرب، بل عرفهم اليونان وحدهم ثم
ذكر في صفحة (134) أن الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب، قال: (جبأ
مدينة المفاخر وهي لآل الكرندي من بين ثمامة آل حمير الأصغر) مع أن اليونان
لم يذكروهم بأكثر من أنها قبيلة تجارية.
ومنها تناقضه في استظهار أن السبئيين حبشان، ثم ذكر في صفحة (136)
أن المعينيين القادمين من العراق نقلوا معهم حضارة العراق ونظام حكومته،
وقسموا اليمن إلى محافد وقصور، وطمعوا في جيرانهم وأخضعوهم، وأنشئوا
الدولة المعينية والسبئية والحميرية.
ومنها تناقضه في أن المعينيين لم تعرفهم العرب، مع أنه نقل في صفحة
(111)
عن الهمداني في كتاب الإكليل، أن (محافد اليمن براقش ومعين، وهما
بأسفل جوف الرحب مقتبلتان، فمعين بين مدينة نشان وبين درب شراقة) وروي أن
مالك بن حريم الدلاني يقول فيها:
ونحمي الجوف ما دامت معين
…
بأسفله مقابلة عرادا
وفيها وفي براقش يقول فروة بن مسيك:
أحل يحابر جدي عطيفًا
…
معين الملك من بين البنينا
وملكنا براقش دون أعلى
…
وأنعم إخوتي وبني أبينا
ومنها تناقضه في أن العرب لم يعرفوا دولة النبط في الشام، ثم ذكر في
عدة حوادث أنهم عرفوها خصوصًا في صفحة (79) ، حيث نقل عن ابن خلدون
وحمزة الأصفهاني معرفتهما لنبط الشام، وأن بطرا كانت تسمى بعد الإسلام الرقيم،
ولهم فيها شعر، هذا إلى مناقضات كثيرة لا تسع سردها ولا تفصيلها هذه المجلة.
الأمر الثالث من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، جسارته على وضع الأسماء
والتقسيمات التاريخية مع ضعف الاستظهار، كتقسيماته أدوار تاريخ العرب،
وكتسميته الأمة التي سماها استرابون اليوناني جرهيين، بالقرييين، نسبة إلى قرية،
وهي اسم اليمامة قديمًا، وهم الذين قال فيهم استرابون: (إنهم أغنى أهل الأرض،
ويكثرون من آنية الذهب والفضة، ويزينون جدران منازلهم بالعاج والذهب والفضة
والأحجار الكريمة) ، فمتى كان أهل اليمامة أغنى أهل الأرض؟ ومتى كان لهم
جدران تزين بالذهب والفضة والأحجار الكريمة؟ ! ! أليس كلام استرابون أشبه
بالخرافات التي تقال عن مدينة شداد بن عاد (إرم ذات العماد) التي يبكت حضرة
جرجي أفندي زيدان جهلة مؤرخينا على ذكرهم لها! ولكنه لا يبكت استرابون،
بل لم يكتف بقوله حتى حرف لفظه (جرها) بلفظ (قرية) وجعل أهلها دولة لم
تعرفها العرب وفتح بابًا لها خاصًّا في كتابه، ورسمها على المصور الجغرافي! !
الأمر الرابع من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، ارتياب القارئ في تهجينه
أخبار العرب في حوادث الفخر والغلبة، كفتوحات شمر يرعش وأسعد ذي كرب في
آسيا وأفريقس في أفريقيا وحسان بن تبع. وتصديقه خرافات استرابون
وهيريدوت، مع أنهما لم يدخلا بلاد العرب ولم يرياها. واقرأ ما نقله عن استرابون
في صفحة (138) تتحقق صدق ما نقول، وهذا نصه:
وذكر استرابون ضربًا من الاشتراكية عند أولئك العرب غريبًا في بابه، فبعد
أن أورد اشتراك كل عائلة بالأموال والمتاع بين أفرادها، وأن رئيسها أكبر رجالها
سنًا، قال: والزواج مشترك عندهم، يتزوج الإخوة امرأة واحدة، فمن دخل منهم
إليها أولاً ترك عصاه بالباب، والليل خاصّ بأكبرهم، وهو شيخهم، وقد يأتون
أمهاتهم، ومن تزوج من غير عائلته عوقب بالموت. كان لأحد ملوك العرب
ابنة بارعة في الجمال، لها 15 أخًا، كل واحد منهم يهواها حتى ملتهم، واحتالت
على منعهم بعصا اصطنعتها تشبه عصيّهم، وكان لكل منهم عصا عليها علامته.
فكانت إذا خرج أحدهم من عندها حمل عصاه ومضى، فتضع هي مكانها العصا التي
اصطنعتها على مثالها، فيتوهم سائر الإخوة أنه لا يزال عندها، وقد يجيء أحد
يتفقد الباب، ولما يرى العصا بجانبه يرجع، فتبدل العصا الأولى بعصا مثل
عصاه وهكذا. فاتفق مرة أن الإخوة كانوا جميعًا في ساحة، ورأى أحدهم بباب أخته
عصا، وليس من إخوته أحد غائبًا، فظن فيها السوء فشكاها إلى أبيها، ولما اطلع
على عذرها برأها. هذه حكاية استرابون، ولم نذكرها إلا لغرابتها، ولا نعلم مقدار
ما فيها من الصحة. اهـ
يذكر هذه الحكاية هنا بالتفصيل ويعتذر بهذا العذر، مع أنه عندما يقتضي
المقام شيئًا صحيحًا تاريخيًّا عن العرب يدمجه ويجمل فيه ويحيل القارئ على الكتب
الأخرى! .
الأمر الخامس سوء التعبير من الوجهة الدينية في عبارات الكتاب، كقوله
في صفحة (10) أقدم المصادر العربية المدونة عن تاريخ العرب وأقربها إلى
الصحة القرآن (؟) .
الأمر السادس من الأمور التي تؤخذ على المؤلف أنه أغفل مدة حكم الفرس
على اليمن بعد ذي يزن، فلم يذكر أحدًا من عمالهم مع أن عمال كسرى استمروا
يحكمون اليمن إلى الإسلام، فكان آخرهم باذان، الذي كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأسلم ثم صارت اليمن إلى الإسلام.
الأمر السابع من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، كثرة شكه وتردده وتناقضه
في أكثر الحوادث، حتى إنه لا يرى المطلع على كتابه خبرًا مبرهنًا على صحته
بدليل مقنع، ويظهر ذلك ظهورًا بينًا في آرائه الخاصة واجتهاداته التاريخية.
الأمر الثامن من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، تخريجه الأعلام تخريجًا
غريبًا، قال: إن اسم امرئ القيس يظنه محرفًا عن مرقس! ! وأن اسم الحارث
ربما كان ترجمة جيورجيوس، واسم صخر، ترجمة بطرس! ! إلخ ما ذكر من
التخريج.
الأمر التاسع اختصاره التاريخ جدًّا، وهو أحد العيوب التي عابها على
مؤرخي العرب، فلم يسلم هو منها، والكمال لله وحده.
_________
(1)
تابع لما نشر في ص 681 م 11 من مقالة الشيخ أحمد الإسكندري.