الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
أبو حامد الغزالي [*]
(5)
رأيه في حكمة التكليف ورد شبهات الباطنية عليه [1]
جواب المسائل الأربع التي سألها الباطنية بهمدان
من الشيخ الأجلِّ أبي حامد محمد بن محمد الغزالي رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلوات الله على سيدِنا محمدٍ ، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
سئل: ما قول سيدنا الشيخ الإمام الأجل، حجة الإسلام، شرف الشريعة،
مقتدى الفرق، إمام الأئمة، في هذه المسائل الأربع التي لبس (بها) هؤلاء القوم
الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، وموهوا بها استجلابًا لقلوب الخلق،
وهي هذه.
(المسألة الأولى) أليس أهل الإسلام متفقين على أن الباري جل ذكره غَنِيّ
عن كل شيء غير محتاج إلى شيء ما؟ ثم مع ذلك كلهم معترفون بأنه كلف العباد
العبادة وأقر بها ، فكيف تراك نسيت بحجة العقل أن غَنِيًّا عن كل شيء يكلف من لا
يحتاج إليه أن يعمل عملاً هو غني عنه؟ بَيِّنْ لي كيف ذلك لَعَلِّي أن أكون من
العالمين.
(المسألة الثانية) إن الله تعالى كلف العباد الطاعة ، ونهاهم عن المعصية
ليثيبَ مَن أطاع ويعاقبَ من عصى، وهذا مستحيل جدًّا في العقول، فأي حاجة به
إلى معاقبة خلقه حتى يدعوه ذلك إلى أن يكلفهم أمرًا إذا لم يأتوه عاقبهم عليه ، وإن
كان لا حاجةَ به إلى ذلك، فالقول مستحيل جِدًّا ولا توجبه حكمة، وإن كان تعالى به
إلى ذلك حاجة فما يصنع بالتكليف وهو قادر على أن يثيب من يريد ، ويعاقب من
يريد؟ فالتكاليف أيضًا حشو لا توجبه حكمة والحاجة نقص، وإنه سبحانه وتعالى لا
ينسب إلى نقص وهو غني غير محتاج.
(المسألة الثالثة) إن الله تعالى كلَّفَ العبادَ الطاعة لِينفعَهم بها، أتراه جل
ذكره عجز عن أن ينفعهم بغير التكليف حتى يحتاج أن يكلفهم ثم ينفعهم؟ إن كان
غرضه نفعهم فالتكليف ساقط وهو حشو ، وإن كان يعجز عن ذلك إلا بالتكليف
فالقدرة ساقطة والعجز ثابت وهو محال.
(المسألة الرابعة) إن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهذا باب
تحير فيه العقول، هل يجوز أن يَأْمُر حكيم بِأَمْرٍ يخرج عن الحكمة، وينبو عنه
العقل ، ثم يحظر على العاقل البحث عنه؟ أليس ذلك ضربًا من الجور والظلم؛
لأنه جعل الحُجّة على هذا الخلق العقل وأمر أهله ونهاهم وخصّ غيرهم من البهائم
على ما خلقوا عليه بالآلات التي خلقت لها ، وألهم العقل استعمالها بمثل اللجام الذي
تروض الدّابّة به وغير ذلك من حبالات الصيد والحيل المعروفة التي يطول شرحها؟
وإذا كانت حجة العقل على المكلفين والمأمورين والمنهيين بأمره ، ثم يكلفون أمرًا
ويمنعون من الفحص عنه والتماس سبب يتصور به ما يكلفونه عندهم ويصح في
معقولهم ومعلومهم الذي هو حجة عليهم، أليس يكون ذلك ظلمًا صريحًا؟ ووجدنا
المتحلِّين بالعلم من جميع الأصناف يقولون: إن الله جل جلاله لا يقبل عملاً إلا على
بصيرة ، فإذا منع العاقل من البحث والنظر أين يكون بصيرًا، وهل يرجى أن
يوحى إليه؟ هذا مُنْكر من القول لا يعقل، وما لا يعقل فليس بشيء. ووجدنا هذا
الكتاب الناطق بين الخلق من الحق يخبر في موضع بآية: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) ويخبر في موضع آخر بأنه يُسْأَلُ ، ويقتضي الجواب
في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ
بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: 124-126) ،
فأي سؤال أتمّ من هذا السؤال الذي اقتضى هذا الجواب، وفي القول مثل هذا كثير،
والتناقض في مثل هذه الآيات ظاهر موجود إذا لم يعبر عنه ببيان يقبله العقل،
فهذه أعزك الله المسائل الأربع قد شرحت لك بعضها فلا بُدَّ من قول خامس تصح به
التكليفات، لأن سقوطها أيضًا لا يصح. أَبِنْ لي ذلك فإني أراك من المحسنين، إلى
هنا كلامهم فإن رأى سيدنا أن يجيب عن هذا ويوضح هذه الإشكالات ويكشف عن
هذه التلبيسات حاز به الأجر الجزيل والثواب الكثير إن شاء الله تعالى.
أجاب ، وقال: أما السؤال الأول وهو استبعاد التكليف مع الاستغناء ، وتوهم
التناقض بينهما ، فمصدره الجهل بحقيقة التكليف، فكأن السائل لم يسمع قوله تعالى
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) وقوله: {فَلأَنفُسِهِمْ
يَمْهَدُونَ} (الروم: 44) وقوله: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) كأنه ظن أن تكليف الله تعالى عباده يضاهي تكليف الإنسان عبده،
فإن السيد يكلف عبده الأعمال التي يرتبط بها غرضه ، وما لا حظ له فيه ولا يحتاج
إليه فلا يكلفه به، فكأن هذا السائل ثبت في وهمه قياس فاسد، وهو تشبيه تكليف
الله تعالى بتكليف عباده، فجعل نفسه مثالاً لله، تعالى الله وتقدس عن خياله ومثاله،
والكشف عن حقيقة التكليف مما يطول، ومن اقتبس حقائق العلوم عن رأيه السخيف،
وعقله الضعيف، وقياسه الفاسد، كثر تعثره بالضلالات، بل ينبغي أن يطلب
حقائق العلوم من أهله وهم العلماء الأقوياء القائمون بحقيقة المعقولات، المطلعون
على أسرار الشرع، العارفون بشروط الأدلة والبراهين، المستبصرون بمداخل
الغرور والتلبيس فيها. وإذا كان شرح ذلك مما لا يسمح به عداوة؟ على مثل هذه
الأسئلة الضعيفة الصادرة عن ضعف البصيرة، فلا علاج للأفهام الضعيفة أنفع من
ضرب الأمثلة؛ فلنقتصر على ضرب مثلين.
(المثال الأول) تكليف الله عباده يجري مجرى (معالجة) الطبيب للمريض،
فإنه إذا غلبت عليه الحرارة مرة يشرب المبردات، والطبيب غني عن شربه لا
يستضر بمخالفته ولا ينتفع بموافقته، ولكن الضرر والنفع يرجع إلى المريض،
وإنما الطبيب هادٍ ومرشد فقط، فإن وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي وتخلص،
وإن لم يوفق تمادى به المرض وهلك، وبقاؤه وهلاكه عند الطبيب سِيّان، فإنه
مستغنٍ عن بقائه، فكذلك خلق للعبادة الأخروية أسبابًا تفضي إليها إفضاء الدواء إلى
الشفاء، وهي الطاعات ونهي النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائل
الأخلاق مشقيات في الآخرة ومهلكات، كما أن رذائل الأخلاط ممرضات في الدنيا
ومهلكات، والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة كالسموم بالإضافة إلى حياة الدنيا،
وللنفوس طبّ كما أن للأجساد طبًّا، فالأنبياء أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى
طريق الفلاح لتمهيد طرق التزكية للقلوب، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10)، ثم كما يقال: إن الطبيب أمر
المريض بكذا ونهاه عن كذا، وإنه زاد مرضه لأنه خالف الطبيب، وإنه صح لأنه
راعى قانون الطبيب ، ولم يقصر في الاحتماء، وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض
بمخالفة الطبيب لعين المخالفة ، بل لأنه سلك غير طريق الصحة التي أمره الطبيب
بها ، فكذلك (مداواة) النفوس هي الاحتماء الذي ينفي عن القلوب أمراضها،
وأمراض القلوب تفوِّت حياة الآخرة، كما تفوت أمراض الأجساد حياة الدنيا.
(المثال الثاني) إن الملك من الآدميين قد يخصّ بعض خدمه وعبيده الغائب
عن مجلسه بمال ومركوب ليتوجه إلى مجلسه تارةً لحظ الملك في استخدامه
والاستعانة على نظام مملكته ومصالحها به، وهذا القسم ونظيره في حق الله تعالى
محال، وتارةً ليتوجه العبد إلى مجلسه وينال رتبة القرب منه ويسعد بسببه مع
استغناء الملك عن الاستعانة به ، وتصميمه العزم على أن لا يستخدمه أصلاً، ولكن
ليقربه من نفسه، لمجرد حظ العبد، والزيادة في قربه. ثم العبد إن ضيع المركوب،
وأنفق المال، لا في الطريق إلى السيد، عدّ كافرًا للنعمة، وإن ركب المركوب
وأنفق المال في الطريق متزوّدًا به عدّ شاكرًا للنعمة، لا بمعنى أنه نال الملك حظًّا
لنفسه، ولكن أراد سعادة العبد، فإذا وافق مراد السيد فيه، كان شاكرًا، وإن خالف
عدت مخالفته كفرانًا، والله يستوي عند كفر العباد وإيمانهم، بالإضافة إلى جلاله
واستغنائه، ولكن لا يرضى لعباده الكفر، فإنه لا يصح لعباده، فإنه يشقيهم، كما لا
يرضى الملك المستغني لعبده الغائب الشقاوة بالذل والفقر، ويريد له السعادة بالقرب
منه، وهو غني عنه، قرب منه أو بعد. فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكليف، فإن
الطاعات أدوية، والمعاصي سموم، وتأثيرها في القلوب، ولا ينجو إلا من أتى الله
بقلب سليم، كما لا يسعد بالصحة إلا من أتى بمزاج معتدل، وكما يصح قول
الطبيب للمريض قد عَرَّفتك ما يضرك وما ينفعك، فإن وافقتني فلنفسك، وإن
خالفت فعليها، فكذلك قول الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) .
(وأما السؤال الثاني) فهو فرع من هذا السؤال، فإن قوله: إن الله مستغنٍ
في إثابة عبده عن الطاعة، وهو لم يتضرر بها، يضاهي قول القائل: إن الله
مستغنٍ في إنشاء الإنسان عن الأمر بالوقاع، وفي إنماء الطفل عن الرضاع، وفي
إشباعه عن الطعام، وفي إروائه عن الشراب، وفي تصحيحه عن الأدوية، فما باله
عاقب بعقوبة الجوع من ترك الأكل، وعاقب بالمرض من ترك الأدوية، وعاقب
بموت الطفل من ترك رضاع ولده، وهذا خيال من يظن أن الله تعالى يفعل ذلك
غضبًا وانتقامًا، وليس يدري أن لفظ الغضب والانتقام مستعار ومأوّل، وإنما
غضب الله عبارة عن إرادته الإيلام، فكما أن الأسباب والمسببات يتأدى بعضها إلى
بعض في الدنيا بترتيب مسبب الأسباب، فبعضها يفضي إلى الإيلام، وبعضها إلى
اللذات، ولا يعرف عواقبها إلا الأطباء، فكذلك نسبة الطاعات والمعاصي إلى آلام
الآخرة ولذاتها من غير فرق.
وكذلك (السؤال الثالث) ينحل به، فإن الله تعالى لا يوصف بالعجز عن
الإشباع من غير أكل، والإرواء من غير شرب، والإنشاء من غير وقاع، والإنماء
من غير رضاع، ولكنه قد رتب الأسباب والمسببات كذلك، لسر وحكمة لا يعلمها
إلا الله عز وجل، والراسخون في العلم، وليس ذلك بعجب، إنما العجب في
التعجب من هذا التدبير المحكم والنظام المتقن، وَلَعَمْرِي مَن لا يهتدي إلى سر
الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته، ومثاله في التعجب مثال الأعمى الذي دخل
دارًا فتعثر بالأواني الموضوعة في صحن الدار، فقال لأهل الدار ما أَرَكَّ عقولَكم،
لماذا لا تردون هذه الأواني إلى مواضعها، ولِمَ تركتموها على الطريق؟ فقيل: إنها
موضوعة في مواضعها، وإنما الخلل في فقد البصيرة [2] ، والجملة فمن لم يدرك
الفرق بين التعجب وبين البرهان كثر خبطه وضلاله، وليس في هذا إلا تعجب
محض، وأن الله تعالى لِمَ رتب الأسباب؟ ولو رتبها على وجه آخر لتصور أن
يتعجب منه جاهل ويقول لم لم يفعل ضده، وهذه التعجبات منبعها أوهام العوامّ، ولا
يلتفت المحصل إليها، بل إلى مقتضى البراهين.
(وأما السؤال الرابع) ففي إيراده خبط، وكأن السائل لم يقدر على أن
يفصح عما في ضميره، والذي يتحصل منه تعجبات أربع:
(التعجب الأول) قوله: كيف أمر بالشيء ومنع عن البحث عنه والبصيرة لا
تحصل إلا بالبحث؟ وهذا تعجب فاسد، فإن العمل يستدعي اعتقادًا جازمًا أو معرفة
حقيقية، والاعتقاد الجازم يحصل بالتقليد المجرد عن سبيل التصديق والإيمان،
والمعرفة تحصل بالبرهان، والوصول إليها بالبحث، ولم يُمْنَع عن البحث كل
الخلق، بل الضعفاء القاصرون عن الاطلاع على عويصات البراهين ومعاصات
البحث، وإنما مثال ذلك أمر الطبيب المريض (بالدواء) وامتناعه عن ذكر العلة
في كون الدواء نافعًا، ومنعه المريض عن الاشتغال بالبحث عنه، لعلمه بأنه يقصر
عنه فهمه، ولو اشتغل بالبحث عن علل الطب لشق عليه، وعجز عنه، وزاد
المرض، واستضر به، فإن وجد على الندرة مريضًا ذكيًّا آنسًا بمنهاج الطب، وعلل
الأمراض لم يمنعه من البحث، ولم يمتنع عن ذكر المناسبة بين الدواء وبين علته،
بل إذا علم أنه ليس يكتفي بمجرد قوله وليس يصدق بمحض التقليد وتفرس فيه من
الذكاء ما يفهم به العلة، وعلم أنه إذا فهم العلة والمناسبة اشتغل بالعلاج، وإن لم
يفهم أعرض عن التقليد، وجب عليه ذكر المناسبة والعلة، إن كان يريد صلاحه،
ولم يمنعه عن البحث، إذا علم اشتغاله له، إلا أن ذلك نادر في المرضى جدًّا،
والأكثرون يضعفون عن ذلك، وكذلك معرفة العلل والأسرار والبحث عنها في
الشرعيات من هذا القبيل.
(التعجب الثاني) وهو تسخير البهائم للإنسان يضاهي تعجب الإنسان ممن
يمشي خطوات لينظر إلى منتزهات ووجوه حسان، فيقال كيف أتعب رجله وسخرها
لأجل عينه، والعين آلته كما أن الرجل آلته، فما بال إحداهما جعلها خادمة وأتعبها،
وجعل الأخرى مخدومة وطلب راحتها، وهذا جهل الأقدار والمراتب، بل البصير
يعلم أن الكامل يفدى بالناقص، وأن الناقص يتسخر لأجل الكامل، وهو عين الحكمة،
وأما قوله إن ذلك ظلم، فهو جهل بحد الظلم، فإن الظلم هو التصرف في ملك
الغير، والله تعالى لا يصادف لغيره ملكًا، حتى يكون تصرفه فيه ظلمًا، فلا
يتصور منه الظلم، بل له أن يفعل ما يشاء في ملكه، ويكون عادلاً. [3]
(التعجب الثالث) أن الشرع كيف يرد بما ينبو عنه العقل؟ وهو فاسد لأن
قوله: (ينبو عنه العقل) لفظ مشترك، فإن أراد به أن برهان العقل يدل على
استحالته، كخلق الله مثل نفسه والجمع بين المتضادين، فهذا مما لا يرد به الشرع،
ولم يرد، وإن أراد به ما يقصر العقل عن دركه ولا يستقل بالإحاطة بِكُنْهه، فهذا
ليس بمحال، بل مقصود بعثة الأنبياء إرشاد الخلق إلى ما تقصر عقولهم عنه،
فليس بمحال أن يكون في علم الأطباء مثلاً جذب المغناطيس للحديد، والمرأة الحامل
لو مشت فوق حبة مخصوصة ألقت الجنين، وغير ذلك من الخواص، وهذا مما
ينبو عنه العقل، بمعنى أنه لا يقف على حقيقته، ولا يستقل بالاطلاع عليه، ولا
ينبو عنه، بمعنى الحكم باستحالته، وليس كل ما لا يدركه العقل محالاً في نفسه،
بل لو لم نشاهد النار قط وإحراقها، فأخبرنا مخبر ، وقال: إني أحك حبة بحبة ،
وأستخرج من بينهما سنًا أحمر بمقدار عدسة تأكل هذه البلد وغيرها حتى لا يبقى
فيها شيء من غير أن ينتقل ذلك إلى جوفها، ومن غير أن يزيد في حجمها، بل
تأكل البلد ثم تأكل نفسها، فلا تبقى، لا هي ولا البلد، لكنا نقول: هذا شيء ينبو
عنه العقل، ولا يقبله، وهذه صورة النار، والحس قد صدق ذلك، فكذلك يستعمل
الشرع على مثل هذه العجائب التي ليست مستحيلةً، وإنما هي مستبعدة ، وفرق بين
البعيد والمحال، فإن البعيد هو الذي ليس بمألوف، والمحال ما لا يتصور كونه.
وأما (التعجب الرابع) وهو أنه لا يسأل عما يفعل وهم يُسْأَلون ، ثم سئل ،
وقيل: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: 125-126) فمصدر هذا السؤال الجهل
بكون (لفظ) السؤال مشتركًا، فإن السؤال قد يطلق ويراد به الإلزام، كما يقال
ناظر فلان فلانًا، فتوجه عليه سؤاله [4] وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يقال
سئل التلميذ، والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال، بمعنى الإلزام، وهو المعني بقوله
(لا يسأل عما يفعل) إذ لا يقال له: لم؟ قول إلزام، فأما أنه لا يستخبر، ولا
يستفهم، فليس كذلك، وهو المراد بقوله:{لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} (طه: 125)
وهذا القدر كافٍ في جواب هذه الأسئلة. ا. هـ. والذي أوصي به هذا السائل أن
ينظر لنفسه ودينه ويتقي ربه ، ويطلب عالمًا مَليًّا بعلم العقل والشرع ليهديه إلى
الطريق، فإن مَن ترقى عن مجرد التقليد بأدنى كياسة ، ولم ينتهِ إلى رتبة الاستعلاء
كان من الهالكين، فنعوذ بالله من فطانة نزالة، وكياسة ضعيفة، فإن البلاء منه
أولى إلى النجاة منها، آمين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما في الجزء 12 م 10.
(1)
عَثَرَ على هذه الرسالة في بعض المجموعات القديمة ببغداد، عالم العراق السيد محمود شكري أفندي الآلوسي، فأرسلها إلينا لننشرها في المنار فحمدنا سعيه، وشكرنا فضله، ونشرناها بنصها، إلا كلمات قليلة علمنا باليقين أنها محرفة فرددناها إلى أصلها، وبقيت فيها وقفات تركناها على حالها.
(2)
كذا في الأصل، ويظهر أن ههنا سقطًا، وتصحيحه بحسب المعنى أن يقال: وإنما الخلل في فقد البصر، وكذلك الخلل فيما ضرب له المثل في فقد البصيرة، والمثل مذكور في الإحياء، ولا أجد سعة في الوقت لمراجعته.
(3)
المنار: فسر الظلم هنا بما جرى عليه الأشعرية، وفيه نظر ظاهر، وقد بينا حقيقة الظلم، وكونه محالاً على الله تعالى في مواضع من التفسير والمنار.
(4)
هذا ما يعبر عنه الآن بالمسئولية، وهي بمعنى التبعة والمؤاخذة، فمعنى كونه تعالى لا يسئل عما يفعل أنه ليس لأحد سلطة فوق سلطته فيسأله عن فعله سؤال من يلقي عليه التبعة ويؤاخذه على ما عمل.
الكاتب: خليل سعادة
استحالة المادة
للدكتور خليل سعادة
(1)
كتبها عند إذاعة خبر هذا الاكتشاف
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أومض من كعبة العلم نبأ خطير، دوت له أرجاء العالم المتمدّن أي دوي،
وعندي أنه أعظم اكتشافات البشر، وأسمى ما بلغت إليه مداركهم، فلا يحسب
بجانبه كشف العالَم الجديد شيئًا مذكورًا، وما بلوغ القطب الشمالي إليه سوى ألعوبة
من ألاعيب الصبيان، كيف لا وهو الأمنية الكبرى التي طمحت إليها أبصار فلاسفة
العصور، والغاية القصوى التي اشرأبت إليها أعناق الحكماء في جميع الدهور،
حلم رآه أسلافنا في ليل مُدْلَهِمّ بظلمات الأوهام، فتجلى لنا نورًا باهرًا يبدد دياجي
الجهل، وينير بصائر الأفهام، بل قل هو الحق أنزل على عيون مبصرة، وآذان
مصغية، وقلوب واعية، فزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا.
نريد بهذه التوطئة الاكتشاف الحديث الخطير، وهو استحالة المادة الواحدة
البسيطة من عضو إلى آخر، كما تبين الآن في استحالة بخار الراديوم إلى عنصر
الهليوم. أجل أماطت الطبيعة أخيرًا نقاب الخفاء عن وجهها الوضاح، ورفعت
الحجاب بعد دلال ونفار، طال أجله ألوفًا من السنين، غادة وضاءة لا كالغادات
تعشقها العالم، فهام لأجلها في البيد والقفار، وجرى وراءها إلى قنن الجبال ولجج
الأبحار، تقفى أثرها في الرمضاء اللاذعة تحرقه أشعة شمسها، وفي الثلوج
المتراكمة يلذعه قارس بردها، سهدته قرونًا طوالاً وهو يرقبها طول ليله في
السيارات والدراري وليل العاشقين طويل، وتطلبها في قطرات الماء ورشاشه يحدق
فيها بمجهره، وهي غزال نفور كالزئبق الفرار، إذا دنت نأت، وإن قربت بعدت،
هي أشبه بِرَهْرَهَات الآل وسراب الظمآن، لم تكشف القناع عن ثغرها البسام لحظة
من الزمن، تطلبها في الحرارة والنور، وامتطى في أثرها الكهربائية والبخار،
وكالمها بين الزهور والرياحين، وشرح لها وجده بين الرياض والبساتين، فكانت
إذا أدنته منها ابتسامة، أوقفته عن الدنوّ منها مهابة، جمال تكلل بالجلال، وأنفة إلا
أنها دلال، منها نحل العاشق سقمًا، وضاق ذرعًا، فلما أيقنت منه التفاني في سبيل
غرامها، والاستقتال في هيامها، أماطت الآن اللثام، بعد آلاف سنين في التحجب
والدلال، والتلاعب والمطال.
طمحت أبحاث أسلافنا منذ الأعصر المترامية في القدم إلى اكتشاف أمرين
خطيرين، أولهما أكسير الحياة الذي يتذرع به المرء إلى دَرْء كأس الحمام ، ونيل
الخلود على وجه البسيطة، وثانيهما حجر الفلاسفة الذي يباح له به تحويل المعادن
إلى ذهب، فيصبح المرء بهذين الاكتشافين خالدًا مثريًا، ولبث القدماء يخطون في
دياجير الأوهام، ويتلمسون الحقيقة في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى نبغ نحو
أواخر القرن الثامن رجل هو لغز من ألغاز التاريخ، غريب الأطوار، كثير
المطامح، بعيد المرامي، يسمى جابرًا، تفرغ إلى البحث في المعادن، وانقطع إلى
إجراء الامتحانات المتعددة بشأنها تذرعًا لتحويلها ذهبًا، وكان مذهبه أن المعادن
خليط من عناصر متعددة يمكن ترقية الدنيا منها إلى الأشكال العليا، ومافتئ يكثر من
التجارب، ويعيد في الامتحانات، وهو في كل ذلك يتراوح بين الحقيقة والضلال،
حتى أصبح له في عصره شأن خطير، ومنزلة راقية في عيون أهله، وهو أحق
رجل بأن يسمى شيخ الكيماويين، ولكنه منطق الحقيقة بالجهالة، واكتنف الحقّ
بالباطل، ولم يدر خطورة قوله، ولم يحلم حينئذ أن سيقوم في فجر القرن العشرين
رجل من أشهر الكيماويين ويكتشف أعظم اكتشاف قدر للمرء حتى الآن، ويجيء به
مصداقًا لأقواله.
بيد أن العلوم الراقية لبثت قرونًا طوالاً خليط فن واحد، فكان الباحث متكهنًا
في الطب، وعالمًا في التنجيم وطوالع السعد، وصهارًا للمعادن، وطال أمره دهورًا
يتلمس الحق على غير صراط الهدى، حتى بزغت عليه أشعة العرفان فانبثق الطب
من الكهانة والفلك من التنجيم وكيمياء الحق من كيمياء الباطل.
ولما انتظمت الكيمياء فنًّا قائمًا بنفسه نبذ طلابها آراء الأقدمين نبذ النواة فتبين
لهم أن العناصر الأربعة التي قال بها السلف، وهي النار والهواء والماء والتراب،
ليست بعناصر، بل هي مواد مركبة تنحل إلى مواد أخرى بسيطة، أطلقوا عليها
لفظ العناصر الصحيحة، وكان من أوائل اكتشافاتهم بهذا الصدد الأكسوجين. ولما
تم لهم هذا الفتح المبين، نشطت الهمم من عقالها، واستولى على المنقطعين إلى هذه
الأبحاث هوس شديد. نضرب لك مثلاً واحدًا لتفقه إلى أي حد بلغ بهم ذلك الهوس،
وهو الكيماوي الطائر الصيت (لافوازيه) ، فإنه كان في صدر جلة الكيماويين
الذين تحروا البحث والامتحان بشأن الأكسوجين، فبعث إلى الأكاديمي في أواخر
القرن الثامن عشر رسالة ضافية الذيول بخصوص تأكسد المعادن، [1] وكانت له
أثرًا خالدًا، ومازال يوالي التجارب حتى انفجر بركان الثورة الفرنساوية، واندلع
لهيبها في باريس وسائر أرجاء فرنسا، وكان (لافوازيه) ، لنكد الطالع رجلاً عريقًا
في نسبه، كبيرًا في حسبه، وافرًا في ثروته، فأصبح هدفًا للثائرين، وغرضًا
لسهام الحاسدين، فصوب أعداؤه نحوه شكايات باطلة أصابت منه مقتلاً، فحكم عليه
بالإعدام، وكان إذ ذاك منهمكًا في تجارب كيماوية خطيرة، فطلب من لجنة الثورة
أن تمهله بضعة أيام ريثما يتمّ أبحاثه واكتشافاته، فعاملته بغلظة يندى منها جبين
التمدن، وأجابته بفظاظة يحمر لها وجه الحرية، قائلة أنْ لا حاجةَ بالجمهورية
للعلماء! فقيد من كعبة العلم إلى باحة (الغليوتين)[2] وهو الذي قال بشأنه ساعتئذ
(لاغرانج) أحد مشاهير مواطنيه: بعد دقيقة يسقط رأسٌ تَمرُّ بكم أجيال وقرون
قبل الحصول على مثله.
فانقشعت إذا ذاك غياهب الجهل عن بصائر أولي النهي، ففقهوا أن جل المواد
المعروفة إنما هو مركبات وخليط مواد بسيطة متعددة، فحسروا عن ساعد الجد
وقذفوا بالأوهام القديمة من حالق، وتواردت عندئذ اكتشافات العناصر تَتْرَى على
نوادي العلم ومجامع العرفان، فبنيت صروح المعارف على أطلال الخرافات،
ووطد بنيان الكيمياء على عمد راسخة الأركان، واكتشف الباحثون في العناصر
نواميس كيماوية عجيبة لم تكن لتخطر في بال أسلافنا ولا في الأحلام.
العروة الوثقى التي وقفت عندها الألباب حيرى، هي الذريرات الأصلية لهذه
العناصر، فقالوا: إنها جواهر مادّيّة تتألف من جواهر فردة إذا تجزأت بَطَلَ
العنصر أن يكون عنصرًا بالخصائص والمقومات التي يتميز بها عن سواه، غير
أنه لما كان الجوهر الفرد لا يقبل التجزؤ فعلاً إذ لم يكشف البشر ذريعة أو وسيلة
تؤدّي إلى ذلك، لبث العنصر ثابتًا على ممر الأدهار.
بَيْدَ أن القول بوجود هذه العناصر المتعددة الأشكال، المتباينة الخواص ثابتة
على هذا المنوال منذ الأزل، مناف لمطمح الفلسفة السامية القائلة بوحدة المادة ،
وخصوصًا إذا اعتبرت أرضنا نفسها ذريرة من مجاميع ونظامات هذا الكون العجيب
الذي يملأ القلب مهابة ورهبًا متى تجلى لك خلال أستار الدجى كواكب ودراري
سابحة أو معلقة في فضاء يتطاول الطرف إلى الإحاطة بعظمته وفقه رموز أسراره،
فيرتدّ عنه وهو كليل.
ذلك ما حدا جلة المتضلعين من العلوم الطبيعية إلى القول بأن سائر العناصر
المعروفة مشتقة من عنصر واحد، متناه في بساطة التركيب، ولطافة القوام، وخفة
المادة، غازي الشكل، ولما لم يكن معروفًا عندهم حينئذ من العناصر التي يمكن
الحصول عليها، ما يصح أن يكون أصلاً لجميع المواد سوى الهدروجين، حسبوه
ذلك الأصل حتى أنبأ بعضهم من هذه الاستدلالات بوجود عناصر أخرى كانت لم
تزل مجهولة، لكي تملأ فراغًا في حلقات العناصر المعروفة، فجاءت الاكتشافات
التالية مصداقًا لنبوتهم.
ثم إنه تبين من الأبحاث الحديثة أن الجوهر الفرد للهدروجين على ما فيه من
التناهي في الصغر، هو كبير جدًّا في حجمه بالنسبة إلى ما كشف مؤخرًا من
الذريرات الكهربائية، التي أطلقوا عليها اسم الإلكترون، بحيث إن جرم الجوهر
الفرد الواحد من الهدروجين يوازي ألف جرم من الإلكترون، وثبت لهم أن هذه
الذريرات الكهربائية تستقل عن الجواهر الفردة، وتقوم بنفسها، ويكون لها جميع
الخواص المقومة للجوهر الفرد، حتى تَرجَّحَ عند كبار الطبيعيين الآن أن الجواهر
الفردة لجميع العناصر تتألف من هذه الذريرات الكهربائية فقط، التي بعضها إيجابي،
وبعضها سلبي، بمقادير متساوية، وأن اختلاف العناصر متوقف على اختلاف
مقادير هذه الذريرات في تأليف جواهرها الفردة، فما العناصر إذًا سوى مجاميع هذه
الذريرات التي يثبت قوامها بقوتي الجذب والدفع.
فمتى فقهت ذلك علمت كيف تتأتى استحالة المادة من عنصر إلى عنصر
على ما صدرنا به هذه المقالة، بَيْد أنه لم تتح لبشر مشاهدة هذه الاستحالة عيانًا،
إلا منذ نحو أسبوعين من الزمن، وتفصيل ذلك أنه قدم إلى مدينة باريس، منذ
بضع سنوات، في أواخر القرن المنصرم، فتاة بولونية المحتد في غضاضة الشباب
وريعان الصبا، لمتابعة بعض دروس فلسفية، ولو علم أهل تلك المدينة ما سيكون
لهذه الفتاة في العالم من خطورة الشأن والصيت الذائع لاحتفوا بها احتفاءهم
بالأميرات والملكات من زوّارهم، فينقضي ذكر الملوك والملكات الذين زاروا
باريس، أما اسم مدام كُري، فيبقى خالدًا، وهي الفتاة التي نعنيها، فإنها ما لبثت
حينًا من الدهر حتى تزوجت الأستاذ كُري، فأقاما في بيت بعيد عن ضوضاء
المدينة وجلبة القوم، يواليان الامتحانات الكيماوية، حتى ظفرا أخيرًا بأمنية ما
وراءها أمنية، ألا وهي اكتشاف الراديوم.
أما وجه أهمية هذا الاكتشاف، فهو أن العلماء وجدوا أن معدن الراديوم يختلف
عن جميع المواد والعناصر المعروفة على وجه البسيطة في أمر هو إشعاع الحرارة
والنور على الدوام، دون أن يخسر شيئًا منهما، فسواء وضعته في الماء والثلج، أو
الهواء، بقيت حرارته مرتفعة عما يحيط به، وهو أمر لو سمعه العلماء في حلم لما
صدقوه، ولما وجد الباحثون عنصرًا يختلف في خصائصه عن سائر العناصر
ذعروا منه، بيد أنهم توسموا به أخيرًا خيرًا، إذ علموا أنه سيلقي بين أيديهم مقاليد
الكون، وينشر أمام أبصارهم رموز الطبيعة وأسرارها، فتهافتوا عليه تهافت
العطاش على الماء، حتى بلغت أثمانه في الأشهر الأخيرة مبلغًا فاحشًا، لم يسمع
بمثله من قبل، فإن المقدار الذي لا يتعدى جزءًا من خمسة عشر جزءًا من القمحة
منه، يساوي خمسين ألف جنيه.
وكان في عداد الذين اشتغلوا بالبحث في الراديوم وأسراره الكيماويّ الشهير
السير وليم رمزي، فوجد نظير غيره من المشتغلين به أن في جملة ما ينبعث من
هذا المعدن مادة غازية كثيفة بقيت لديهم حينًا من الدهر لغزًا من الألغاز، لأنها
كانت تلبث ردحًا من الزمان ، ثم تخفى دون أن يتمكن أحد من الوصول إلى كنهها،
فوضع السير رمزي أخيرًا هذا الغاز في زجاجة دقيقة جدًّا سدها سدًّا محكمًا،
ومافتئ يراقبها حتى تبدت له معجزة من المعجزات، وهو أن تبدى من هذا الغاز
بعد يومين من الزمن بواسطة السبكترسكوب خط ضارب إلى الاصفرار، وهو
الخط الذي يشير إلى وجود عنصر الهليوم، وهو مادة توجد في الشمس، ولم يعثر
عليها في أرضنا إلا حديثًا، ثم بعد نحو أسبوع من الزمن، زاد الخط إشراقًا دلالةً
على أن مادّة الراديوم الغازية استحالت إلى عنصر الهليوم، ولم يبق لها من أثر.
وهذا الاكتشاف الذي نحن بصدده هو باكورة الاكتشافات العظيمة في فجر
القرن العشرين، وسيكون له من الخطورة ما هو أهل له، وسَيُقَيَّضُ لنا على يده
كشف كثير مما غمض على أفهامنا من أسرار الطبيعة، وغرائب الكون، فإن
الباحثين جارون إلى هذه الغاية سباقًا، يبذلون النفس والنفيس، ويجودون بالمال
والأرواح، لغرض ترقية شأن العقل البشري والنهوض به من حضيض الجهل إلى
فتن العلم، ولعله لا تغيب شمس هذا القرن حتى تبزغ شموس من سماء الحقيقة
والعرفان تتجلى نورًا باهرًا على الأفهام، وتميط الطبيعة عن محياها الصبوح
حجاب الإبهام ، ومن يعش يره.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الدكتور سعادة
…
_________
(1)
المنار: التأكسد عندهم عبارة عن اتحاد المعدن بالأكسجين، بحيث يتولد عنهما جسم ثالث غيرهما كالصدأ في الحديد، وهو أكسيد الحديد.
(2)
المنار: هي الآلة التي اخترعوها لقطع الرقاب بسرعة.