الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الحادية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام
على نبي الرحمة، الذي بعث في الأميين ليعلمهم الكتاب والحكمة، محمد النبي،
العربي الحجازي، وعلى آله وأصحابه خير الآل والأصحاب، ومن تبعهم واهتدى
بهديهم إلى يوم المآب {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ
مَئَابٍ} (الرعد: 29) .
أما بعد فإن المنار بحمد الله وعنايته، وتوفيقه وهدايته قد أتم عشر سنين
كاملة، وتجاوز الأعداد المفردة إلى الأعداد المركبة، وهو في نمو طبيعي، وارتقاء
تدريجي، لم تطفر به مساعدة الكبراء، كما طفرت بكثير من العاملين، ولم تظفر
به مكايدة الرؤساء، كما ظفرت ببعض المصلحين، بل سار لطيته على استقلاله
في جميع أعوامه وأحواله، سلاحه تحرِّي الحق، وعدَّته التزام الصدق، وجُنته
الإخلاص لله، وحصنه تقوى الله باتباع سنن الله {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ
مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} (ص: 49-50) .
جاهد في سبيل الإصلاح بقدر الإمكان، وما تقتضيه حال الزمان والمكان،
فهاجمته السياسة بدسائسها، فنالت من قريبه وصديقه، ولكنها لم تزحزحه عن
طريقه، وواثبته الخرافات بوساوسها، فحالت دون سرعة انتشاره، ولكنها لم تقو
على صد تياره، وصادمته التقاليد بهواجسها، فصدت الكثيرين من متقلديها عنه،
ولكنها لم تنل منه، بل عزَّ هؤلاء وأولئك في الخطاب {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ
الأَحْزَابِ} (ص: 11) .
نعم، قد انهزم من أمامه الدجالون فلا يجدون قوة ولا حولاً، وانهزم كذلك
المقلدون فلا يرجعون إليه قولاً، وأنى للمتوكئ على عكاز القال والقيل أن ينافح
منتضي سيف الدليل تحت لواء السنة والتنزيل؟ ألا إنهم لا يصدونه بل يصدون
عنه، ولا يقولون له ولكن يقولون فيه، وكذلك كان يقول المقلدون إذ دعوا إلى
غير ما كانوا يعتقدون {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5){أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8) .
الحق أبلج، لا يخيل سبيله، ولا تخفى على الناظر البصير غرته وحجوله،
فلا يضره ضعف الداعي وغربته إذا قويت عارضته وعرفت حقيقته، والباطل
لجلج، وإن كثر قبيله، ودعمت فروعه وأصوله، فلا تنفعه قوة الداعي وعصبته
إذا ضعفت مريرتة ودحضت حجته، وإنما يثبت المقلدون حيث لا يوجد المستدلون،
ويسود المتواكلون ما سكت عن معارضتهم المستقلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
لا خوف على الحق إلا من الاستبداد بمنع حرية العلم والإرشاد، فالحق لا
يوجد إلا حيث توجد الحرية والاستقلال، وتظهر آثار مواهب الناس في الأقوال
والأعمال؛ لهذا لا نخاف على دعوة الإصلاح في هذه البلاد، أو تعود إليها سلطة
الاستبداد، نعم إن سيره قد يسرع وقد يبطئ، وإن الداعي إليه يصيب في رميه
ويخطئ، ولكنه يستفيد من الخطأ كما يستفيد من الإصابة، وقد يزداد مضاء في
الرفض والإجابة، حتى يعمل الاستعداد لإصلاح عمله، ويبلغ الكتاب أجله {لِكُلِّ
أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)، {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) ، {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40) .
إن للإسلام ثلاث مظاهر أو مراتب: التقليد وعليه أكثر المسلمين المعتقدين،
والبصيرة وعليها نفر من العلماء المحققين، والجنسية وهي تشمل حتى المارقين
من المتفرنجين، وقد هوجم أولاً في تقاليده لتحويل العامة عنه، وهوجم في كتابه
وسنته لزلزال الخاصة فيه، وهوجم في جنسيته لحل رابطة المعتصمين به، على
أنه لا يخشى عليه من مهاجمة الأجانب عنه، وإنما يخشى عليه من مهاجمة الذين
يعدون منه، فالمتفرنجون منهم يفتنون العامة عن تقاليدهم باسم المدنية، وشُبَه العلوم
والفنون العصرية، ويحلون جنسيتهم الإسلامية بدعوتهم إلى الجنسية الوطنية،
وهم لا يتهمون في ذلك بالإيقاع بالدين؛ لأنهم يأتون العامة عن اليمين، ويدعون
إلى ما يدعون معتقدين أنهم مصلحون، فتعيَّن على أهل البصيرة والعرفان أن
يناقحوا عن هذا الدين بالبرهان واقفين عند حدود السنة والقرآن، فإن كلا من
مسلمي التقليد والجنسية يعترفون بأن مرتبة البصيرة هي المرتبة العلية {أَفَمَن
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الرعد: 19) .
ألا وإن من المحال حفظ تقاليد المقلدين من غارة إخوانهم المتفرنجين، فإنها
من قبيل العادات التي يعروها (كما نشاهد) المحو والإثبات، ألا وإن مصارعة
الجنسية الوطنية للجنسية الإسلامية، مجهولة العواقب، إلا حيث يساعدها الحكام
مع الأجانب، فهنالك يرجح أن تكون آية الوطنية هي المرفوعة، والراية الإسلامية
هي الموضوعة، ويتبع ذلك سرعة تسلل العوام من هذه التقاليد المعزوة إلى
الإسلام في مثل هذه البلاد غريبًا كما بدأ؛ لأن أهل البصيرة هم الأقلون عددًا،
والأضعفون ساعدًا وعضدًا، إذا غَلبوا بالبرهان يُغلبون بالسلطان، فهم إما
مضطهدون جهرًا، وإما مهددون سرًّا على أنهم لا يقنطون من رحمة الله، ولا
ييأسون من روح الله {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)
ها أنا ذا أقول على رءوس الأشهاد: إن طالب الإصلاح الديني مهدد حتى في
هذه البلاد، ورب مقاومة خفية شر من صدمة علنية، ورب اصطدام أحدث ظهورًا
خير من إهمال أوجب فتورًا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن
تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة: 216) فما ظهر حق إلا بعد اضطهاد، ولا
خذل باطل إلا بعد عناد، فلا يغررك تقلب الظالمين في البلاد، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (الزمر:21) .
فيا أيها الكائدون الظالمون، إنما كيدكم على ملتكم إن كنتم تعقلون، ويا أيها
المقلدون الجامدون، إن تقاليدكم تتحول عنكم تحول الظل وأنتم لا تشعرون،
ويا أيها العابثون بالجنسية إنكم لبنائكم تهدمون، وتبنون لغيركم من حيث لا تعلمون،
ويا أيها المصلحون المستبصرون اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون،
102) ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم
مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران:
103-
104) لا تفرقنكم عوامل المدنية فإن دينكم عون لكم عليها إن كنتم تفقهون،
ولا يفتننكم سلطة الأمم الأوربية فتقلدوها فيما لا تعلمون، فإن روح المدنية والسلطة
هو الدين والآداب، وقد أنعم الله عليكم من ذلك بأكمل مما أنعم به على أهل الكتاب
{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة:
200) ، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ} (البقرة: 201){أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 202) .
إن الفساد قد طرأ على جسم هذه الأمة من زمن بعيد، فهو يحتاج إلى تكوين
جديد، ومن المبشرات أن نرى المسلمين قد تنبهوا إلى الحاجة إلى هذا التكوين،
ولكن اختلفت فيه الآراء، وعبثت به الأهواء، ولا زعيم يرجع إليه، ولا إمام
يقتدى به، وما على طلاب الإصلاح الآن إلا إقامة الحجة والبرهان، وتربية
استعداد الأمة إلى أن ينهض زعيم من الأئمة، ولا بد من مسالمة الفرق والأحزاب،
وإحاطة استقلال الرأي بسياج الآداب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-
18) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا الحسيني
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
إننا نكرر الدعوة إلى انتقاد المنار في كل عام ونعد بنشر ما ينتقد به على ما
ننشر من المسائل الدينية والعلمية لعدة أمور:
(1)
أننا نتحرى في كل ما نكتب الحق والإرشاد إلى الخير، ونعتقد أننا
عرضة للخطأ مهما بذلنا من الجهد في تحري الإصابة، فغرضنا الأول من دعوة
العلماء إلى انتقاد ما نكتبه هو تكميل نفسنا ومساعدتنا على ما نتوخاه من
الإرشاد.
(2)
حرصنا على تكميل غيرنا من قراء المنار بما نحب أن نكمل به نفسنا
من معرفة الحق والخير والمصلحة، وكراهة أن يعلق ما عسى أن نقع فيه من الخطأ
بنفس بعض القراء فلا يجدوا عنه مصرفًا.
(3)
إقامة فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كثيرًا من أهل
العلم يعتذرون عن تركهم لذلك بأن الناس لا يقبلون أمرًا ولا نهيًا، بل يعادون من
ينصح لهم ويرشدهم إلى الحق وربما آذوه بالقول أو الفعل فها نحن أولاء نؤمّنهم من
العداء والإيذاء، ونعدهم بقبول النصح والإرشاد.
(4)
فتح باب المناظرة التي تعلم كل واحد من المتناظرين ما لم يكن يعلم
وتدفعه إلى بذل الجهد والعناية في استكناه الحقائق، والإحاطة بأطراف المسائل،
وترك الحكم للقراء.
(5)
قطع ألسنة أهل الدعوى، والمتبعين للهوى، الذين يقولون: هذا حق
وهذا باطل، وهذا حلال وهذا حرام، وفلان مخطئ أو ضال، أو نافع أو ضار،
وهم على غير بينة فيما يقولون، أو على غير إخلاص فيما به يحكمون، فالمنار
يقول لمن يخوض فيه منهم: إن كنتم تقولون الحق فأبرزوه للقارئين، وهاتوا برهانكم
إن كنتم صادقين، وإلا فأنتم بأكل لحم أخيكم بالغيبة، وبحسدكم الذي زين لكم هذه
الوقعة تقولون ما لا تعملون، أو تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم
تعلمون.
هذا، وإننا نشترط على المنتقد الذي نعد بنشر انتقاده أن يوجه انتقاده إلى
ما كتبنا من المسائل العلمية دينية أو غير دينية مبينًا موضع المسألة من المنار بأن
يقول: ذكرتم في صفحة كذا من مجلد كذا ما هو كيت وكيت وهو خطأ، ويبين ذلك
بالدليل.
ولا نعد بنشر الانتقاد المبهم (نحو: أنتم تقولون كذا) مما لعلنا لم نقله ولم
يخطر ببالنا، وإنما جاءه من وقيعة بعض الكاذبين أو من سوء الفهم - ولا الانتقاد
الغفل من الدليل - ولا ما كان موجهًا إلى الأعمال الإدارية أو الشخصية أو اختيار
المباحث والمسائل أو أسلوب الكتابة، فكل هذا مما نترك لنفسنا الخيار فيه، مع
الشكر عليه؛ لأن فائدته في الغالب خاصة بنا وعدم العلم بها لا يضر القراء شيئًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شرط الاشتراك
(1)
كل من قبل الجزء الأول من مشتركي المنار السابقين يعد مشتركًا إلى
آخر السنة ، ويجب عليه دفع ستين قرشًا إن كان من مصر أو السودان ، وثمانية عشر
فرنكًا إن كان من سائر الأقطار، وإن ردّ المجلة في أثناء السنة لأن ضياع بعض
أجزاء السنة علينا كضياع جميعها.
(2)
يجب على من يطلب الاشتراك أن يرسل القيمة سلفًا ، وأن يكون
اشتراكه من أول السنة (المحرم) أو منتصفها (رجب) .
(3)
إذا لم يصل إلى المشترك أحد الأجزاء فإن الإدارة ترسله إليه بغير ثمن
إذا هو طلبه في مدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا من موعد وصوله إليه في بلده، وإذا طلبه
بعد ذلك كان عليه أن يرسل ثمنه كمن فقد الجزء وطلب بدله ، وثمن الجزء الواحد
ستة قروش مصرية.
تنبيه
لم ننشر في هذا الجزء شيئًا من التفسير لسبب عارض.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القرآن ونجاح دعوة النبي عليه الصلاة والسلام
آراء علماء أوربا في ذلك
ألّف القسيسون وأعوانهم من المتعصبين للنصرانية كتبًا في القرون المتوسطة
يمثلون بها الإسلام في أقبح صورة ينتزعها خيال الكاتب منهم على حسب تمكنه في
الكذب والبهتان، ولما ارتقت العلوم والفنون في أوربا وضعف التعصب الأعمى على
المخالف بقدر ذلك كثر الباحثون من علماء الإفرنج في شئون الشرق بالإنصاف ،
فتغير لذلك اعتقادهم في الإسلام والمسلمين، وألفوا في بيان مزايا هذا الدين التي كانت
مجهولة ، وفضائل أهله التي كانت مهضومة كتبًا كثيرة. ومن هؤلاء المؤلفين:
البرنس كايتاني الإيطالي فإنه ألف كتابًا في تاريخ الإسلام يقال إنه كتبه بحرية
وإنصاف بحسب ما وصل إليه علمه.
وقد زار مصر في هذا الشتاء فاحتفى به نادي المدارس العليا ، وأكرم مثواه ،
وأثنت عليه جرائد المسلمين ثناءً حسنًا. وقد ترجم المؤيد في أوائل هذا الشهر تقريظ
جريدة التيمس لتاريخ البرنس كايتاني ومنه هذه العبارة:
(ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن ، وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أي حمية دينية) اهـ نص ترجمة المؤيد لعبارة التيمس.
وهذا الذي قاله هو اعتقاد الإفرنج العارفين بنشأة الإسلام، وسيرة النبي عليه
الصلاة والسلام؛ أي إنهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بما قام به
بحنكته وسياسته، لا بتأييد الله تعالى له بوحيه وعنايته، ولولا هذا لما كان لهم
مندوحة عن الدخول في الإسلام، ومثل الإفرنج في هذا الرأي كل من لا يدين
بالإسلام من علماء المشرق. فدعوى أن نجاح النبي صلى الله عليه وسلم كان
بسياسته وحنكته - أي تجاربه - هي أكبر شبههم على الإسلام.
ومن الشواهد على ذلك من كلام علماء بلادنا غير المسلمين الأسطر والأبيات
الآتية التي كتبها إليّ الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور بعدم التدين. حمله
عليها قراءة المنار ، وهي:
إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار:
أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيمًا ، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله
أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض ،
فالجامع بيننا: العقل الواسع ، والإخلاص في القول ، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.
…
...
…
...
…
...
…
من صديقك الدكتور شميل
الحق أولى أن يقال
دع من محمد في سدى قرآنه
…
ما قد نحاه للحمة الغايات [1]
إني وإن أك قد كفرت بدينه
…
هل أكفرنَّ بمحكم الآيات
أو ما حوت في ناصع الألفاظ من
…
حكم روادع للهوى وعظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها
…
ما قيدوا العمران بالعادات
نعم المدبر والحكيم وإنه
…
رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة والدَّها
…
بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خلب النهى
…
وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى
…
من سابق أو لاحق أو آت
(المنار)
كتب الدكتور إليَّ بهذا لا لينشر بل ليقرأ على أنه خواطر جاشت في صدره، ثم
بعد أن نشر المؤيد ما نشره عن التيمس ، ورددت عليه في الجريدة استأذنت الدكتور
بنشر ما كتبه فأذن ، وهو كما يرى القارئ أكثر من البرنس كايتاني تعظيمًا للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وكذا للقرآن الحكيم الذي لم يدرك البرنس كايتاني تأثيره؛ لأنه
لا يفهمه كالدكتور شميل.
ونحن-على كوننا نشكر لشميل ما اعترف به من مزايا نبينا وكتابنا، ونسأل الله
أن يهديه للباقي منها وهو المهم الأعظم - لا نقول: إنه اعترف بنبوته ولا بحقية
كون كتابه إلهيًّا. وننكر عليه أشد الإنكار قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم من
حيث كونه رجلاً أعظم منه من حيث كونه نبيًّا على أنهم لا يعنون بمثل هذا التعبير
الذي قاله شميل وكايتاني أنه نبي وسياسي وأن نبوته أقوى من سياسته. بل يعنون أنه
نجح بسياسته لا بنبوته التي ادعاها ، ولكن المؤيد غفل عن هذا وادعى أن ما قاله
كايتاني حق، ولو كان حقًّا لكان هو وجميع علماء أوروبا وعلماء أهل الكتاب
والوثنيين العارفين بتاريخ الإسلام كلهم على الحق ، واستلزم ذلك كون المسلمين
على غير الحق فيما يتعلق بأصل دينهم؛ لأنهم يقولون بخلاف هذا القول! !
نبهت (الجريدة) المؤيد إلى هذه الهفوة ، وقالت: إن ما ترجمه عن التيمس
من قول كايتاني كفر ما كان لصاحب جريدة تفتخر بأنها إسلامية أن ينقله ويقره.
فرد عليها صاحب المؤيد بقوله الآتي نقلاً عن عدده الذي صدر في 3 المحرم ،
والعنوان منا فقط:
رأي المؤيد في القرآن
أمّا نحن ، فنقول للجريدة: إننا نقلنا عبارة البرنس كايتاني عن التيمس ،
ونحن نعتقد أنها ليست كفرًا فلا نلام إذا لم نرد عليها ، وأمّا الجريدة فقد نقلتها وهي
تعتقدها كفرًا ، ولم ترد عليها فهي المقصرة والملومة.
إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر ، وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له.
والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ،
فلم يُرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا
للقرآن الكريم ، وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق
العالية التي اشتهرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن نفسه يقول: {وَلَوْ
كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) فجعل مناط قوة
ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة
أخلاقه من العيوب المنفرة.
فلو كان فظًّا غليظ القلب ما نفعه قرآن ، ولا حمية دينية. وهذا كلام يقوله كل
مسلم يعقل، ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني.
(وليس المقام مقام مقارنة بين القرآن والنبي صلى الله عليه ، وأيهما أفضل؛
لأن هذا لا يؤخذ من عبارة البرنس كايتاني ولا هو غرض مؤرخ كبير كهذا ، بل
هذه المباحث العقيمة الآن تليق بجريدة مثل (الجريدة) لا يذوق محررها طعمًا لكلام
مؤلف ، ولا يعرف وزنًا لقيمة رأي مؤرخ) .
أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام الحقيقية كانت في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها
الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهل أخلاقه الفائقة إلا موهوبة من عند
الله ، وهي معجزة من معجزاته؟ فهل يكون كافرًا بالله من قال: إن قوة هذه
المعجزة بخصوصها كان لها دخل في فتوحات الإسلام على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم أكثر من كل معجزة دينية أخرى.
إن للقرآن الكريم وظيفة أخرى لا يشاركه فيها مشارك وهي كونه شريعة
إلهية ، جمعت بين مصالح الدين والدنيا ، ففاق بهذه المزية كل الكتب الإلهية
الأخرى كما فاقها في الأسلوب والبيان ، فهل ينقص من فضل القرآن ومزيته أن
يقال: إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت فوقًا تأثيرًا في فتوحاته وبسطة
سلطانه.
هذا ما أردنا بيانه ، ونترك للجريدة المشاغَبة واللغط والوثوب من خطأ إلى
غلط) . اهـ كلام المؤيد.
(المنار)
إن المؤيد جرى في الرد على الجريدة في هذه المسألة على طريقة المراء
المعتاد في المناقشات السياسية ، فحرف كلام كايتاني عن موضعه ، وجعله من باب
الإعجاب بالأخلاق التي أكرم الله بها نبيه وتفضيل تأثيرها على القرآن ، وإنما كلام
كايتاني في غير ذلك إذ زعم أن جُلَّ نجاح النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ كله بسياسته
وحنكته - أي تجاربه - لا أخلاقه الموهوبة من الله، كما قال فيه الدكتور شميل:
إِنه رب السياسة والدهاء.
وكان للمؤيد مندوحة عن تأييد شبهة كايتاني وتقويتها، بأن يقول للجريدة: إنه
سكت عليها؛ لأنه لا يطالب غير المسلم بأن يقول في الإسلام أكثر من ذلك ، مع العلم
بأن المسلمين لا يأخذون عقيدتهم عن مؤرخ نصراني. ولكنه لم يوفق لذلك؛
فاضطررنا إلى كشف الشبهة بالمقالة الآتية في الجريدة:
رد شبهة المؤيد على القرآن [2]
يقول المنكرون لنبوة نبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - سواء كانوا
من الأوربيين أو غيرهم: إن ما تم على يديه من جمع كلمة العرب وكذا وكذا مما
ثابت في التاريخ إنما كان بالدهاء والسياسة وسمو الأفكار وعلو الأخلاق الذي يكون
عادة لكثير من الرجال كالبرنس بسمارك ونابليون الأول. وإن ما ادعاه من النبوة ،
وما جاء به من القرآن لا تأثير لهما في نفسهما ، وإنما التأثير له هو بنفسه وبهما؛
لأنه استخدمها في تنفيذ سياسته {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} (الكهف: 5) .
ويعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر لا يمتاز
على غيره إلا بالنبوة وما تستلزمه كما هو نص قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) الآية. وقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم} (يوسف: 109) .
ويعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سن الشباب وبلغ الأربعين ولم
يعمل عملاً اجتماعيًّا ولا سياسيًّا ، وأن ما تم على يديه بعد ذلك إنما كان بالنبوة التي
اختصه الله بها وبالقرآن الذي أوحاه إليه ، فكان روحًا أحياه به حياة جديدة، وأحيا به
من اتبعه فكان اهتداء الجميع بالقرآن لا بتأثير صفات النبي الشخصية كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن
جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) ، فالله تعالى هو الذي
هدى المؤمنين بكتابه ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي هداهم بصفاته
البشرية وكفاءته الشخصية؛ ولذلك أنزل الله عليه قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56)، وقوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: 63) .
بل يعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتقي في أفكاره
وأخلاقه بالقرآن نفسه فكلما أنزل الله عليه شيئًا منه ازداد كمالاً به؛ ولذلك قالت
عائشة رضي الله عنها لِمَنْ سألها عن أخلاقه: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه
وسلم القرآن) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما.
ومما هَدَاه الله تعالى إليه بكتابه مشاورة أصحابه في الأمر ، فكان يستشيرهم ،
ويعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد ، وكانوا يسألونه إذا
أشار بأمر: هل هو وحي فيُطاع بلا بحث ولا تردد أم هو الرأي؛ ليذكروا ما
عندهم ، فإذا قال: هو الرأي. ذكروا ما عندهم كما كان يوم بدر. وقد ترك صلى
الله عليه وسلم رأيه إلى رأيهم.
فمن هذه العجالة يعلم أن القرآن هو الأصل في هداية الرسول صلى الله عليه
وسلم وهداية أصحابه عليهم الرضوان إلى ما تم على يديه وأيديهم معه وبعده مما
أدهش التاريخ إذ لم يجد له نظيرًا، ولو شئنا لأتينا بأكثر مما أتينا به من الشواهد
على ذلك من الآيات والأحاديث، ووقائع السيرة النبوية، وتاريخ الراشدين ، ولكن ما
جئنا به كافٍ في التذكير بما يؤمن به كل مسلم.
هذا هو اعتقادنا نحن السلمين ، وذلك الذي ذكرنا في أول المقال هو اعتقاد من
ينكر صحة ديننا ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ويزعمون أن الإسلام وما فيه من
المزايا، وما تم له من النجاح كان منشؤه سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وحنكته
كما يعهد من الرجال العظام عادة.
وقد نقل المؤيد في يوم الأحد الماضي عن جريدة التيمس عبارة للبرنس
كايتاني الإيطالي مؤلف تاريخ الإسلام في ذلك الاعتقاد الذي يراد به هدم الإسلام ،
وهي: (ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر
من إفادة القرآن وأي حمية دينية) .
نقل المؤيد هذه العبارة وأقرها فأنكرت عليه الجريدة أن ينقل الكفر ويقره على
فخره بكون جريدته إسلامية وكونه من أبناء الأزهر. فبماذا أجاب المؤيد على هذا
الإنكار؟
أجاب بأنه يعتقد أن تلك العبارة (التي تنيط نجاح عمل النبي صلى الله عليه
وسلم بالحنكة والسياسة لا بالنبوة) ليست كفرًا وبين ذلك بما هو العجب العجاب. قال
في العدد الذي صدر أمس (يوم الأربعاء ثالث المحرم) ما نصه:
(إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر ، وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له والله تعالى يقول
في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) فلم يرد البرنس
كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم، وماذا
يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل القرآن نفسه يقول: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، فجعل مناط قوة ارتباط
المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه
من العيوب المنفرة ، فلو كان فظًا غليظ القلب ما نفعه قرآن ولا حمية دينية ، وهذا
كلام يقوله كل مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني) .
ونحن نقول له: إنه لا يوجد مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام يقول ما يزعم
صاحب المؤيد أن كل مسلم يقوله. وإنما يقول كل مسلم: إن روح الإسلام هو
القرآن الذي به بلغت أخلاق من أنزل عليه تلك الدرجة العالية - كما قالت عائشة -
وهذه هي العقيدة التي صرح بها القرآن في الآية التي أوردناها آنفًا وهي: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52) ، ولولا القرآن لَمَا اجتمع حوله
صلى الله عليه وسلم أحد ، وَلَمَا فعل شيئًا ، ولَمَا فداه المؤمنون بالنفس والمال ، فقد
صرح الله تعالى بأن كل عمل له كان بالقرآن ، فهل نتبعه أم نتبع كايتاني وأضرابه
الذين يقولون: إن كل ذلك كان بمزاياه الشخصية البشرية؟
كاد يقع بين الأوس والخزرج العدوان وتصلى نار الحرب لِمناظرة وقعت؛
فنزل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:
103) الآيات ، فرجعوا وتابوا وأنابوا، وحبل الله هو القرآن ، ولم يقل: إن
سياسة النبي وحنكته وأخلاقه هي التي ألفت بين قلوبهم. على أن أخلاقه هي القرآن
فهو أصل كل شيء.
قال صاحب المؤيد بعد ذلك في الاستدلال على عدم كون القرآن هو منبع قوة
المسلمين: (أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام كانت في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله
عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم؟) .
ونقول في دفع هذه الشبهة: إن المسلمين كانوا في قوة وعزة ما كانوا
عاملين بالقرآن ، ففي عهده صلى الله عليه وسلم كانوا أشد استمساكًا بحبله المتين
وعُرْوَته الوُثْقَى لا لصفات النبي الشخصية البشرية، بل لنبوته وما لها من المزايا ،
وللقدوة به قي تَمَسُّكهِ بالقرآن التي عاتبه الله تعالى على مبالغته فيها بمثل قوله:
{طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى} (طه: 1-2) ، ثم كانوا في زمن أبي بكر
وعمر مقربة من ذلك ، ثم صاروا يتدلون بترك القرآن. ويعتقد كل مسلم عاقل
عارف بحقيقة الإسلام أنهم إذا عادوا إلى الاعتصام به تعود إليهم قوتهم وعزتهم
فهم ليسوا حجة على الإسلام (يا صاحب السعادة) بل القرآن حجة عليك وعليهم.
فأدعوك إلى التوبة والرجوع عمّا كتبت في تأييد أقوى الشبهات على الإسلام
والقرآن والنبوة ، وأن تعلن توبتك في جريدتك ، وتصرح بأنك تؤمن بأن القرآن هو
روح الإسلام وبوحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم واهتدائه به عمل بعناية الله ما
عمل، وبرد قول كايتاني إن حنكته وسياسته أكثر فائدة من القرآن ومن كل حمية
دينية. حباه الله هو ومن اتبعه إياها فإن ذلك كفر وهدم للإسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... صاحب المنار
وقد أجاب المؤيد عن هذه المقال بما يأتي بنصه نقلاً عن عدد المؤيد الذي
صدر في سادس المحرم وهو:
ماعدا مما بدا
قال اللورد كرومر أمس: (إن الجامعة الإسلامية تستلزم السعي في القرن
العشرين في إعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة
والسذاجة ، وهذه المبادئ منها ما يجيز الرق ، ومنها ما يتضمن سُنَنًا وشرائِعَ عن
علاقات الرجال والنساء مناقضة لآداب أهل هذا العصر ، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم
من ذلك كله وهو إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل
تغييرًا ولا تحويرًا وهذا ما وَقَّفَ تَقَدُّمَ البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام) .
وقال البرنس كايتاني اليوم: (إن مزية النبي هي في كفاءته العجيبة كسياسي
محنك أكثر منه كنبي موحى إليه! إن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أية حمية دينية) .
فلماذا اتسع صدرنا لعبارة اللورد ، ورأينا من اللياقة وحسن الأدب تأويلها -
مع أنها كادت تكون صريحة في أن الدين الإسلامي دين وضعي - ولم يتسع صدرنا
لما قاله البرنس، مع أن عبارته تُشْعِر بأنه معترِف للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه
نبي موحى إليه وأن قرآنه مفيد؟
إذا كان هناك بواعثُ حملت الشيخ رشيد على التفرقة بين الاثنين ، وتشنيع
إحدى العبارتين ، فإن الحق الذي لا تتلاعب به البواعث يشهد بأن عبارة البرنس لا
توجب اللوم ولا التعيير بله التضليل والتكفير! !
بل الإنصاف يتقاضانا الثناء على جناب البرنس والإعجاب بحرية ضميره؛
لاعترافه بصدق النبوة كما أشرنا إليه آنفًا.
أمَّا كون البرنس جعل التأثير في تأييد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم للمزايا
التي انطوت عليها نفسه الشريفة أولاً، ثم القرآن ثانيًا كما هو نص عبارته ، فهذا لا
يقدح في قوله ولا يجعله من باب الكفر. نعم إذا كان للبرنس رأي خاص في النبي
صلى الله عليه وسلم كآراء بعض رجال أوربا فيه على ما أشار إليه الشيخ رشيد
في مقدمة كلامه فهذا لا يلزمنا مناقشته فيه ما دام أنه مستور في نفسه ، بل نراه قد
صرح بِضِدِّهِ في عبارته حيث قال: إنه (نبي موحى إليه) فهل لا تكون تلك
العبارة قرينة على أن البرنس ليس على رأي أولئك المُنْكِرينَ لنبوته صلى الله عليه
وسلم؟ .
وإذا راجعنا ما قاله المفسرون في تفسير آية {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ
لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) رأيناهم يفسرونها بكلام يأتلف مع ما
قاله البرنس كايتاني. فلم تكن عبارة البرنس إذًا كُفْرًا بل هي الحقيقة الدينية التي
علم بها القرآن الكريم.
(قال الطبري في تفسير هذه الآية: احتملت يا محمد أذى من نالَكَ منهم أذاه ،
وعفوت عن ذي الجُرْم منهم جرمه ، وأغضيتَ عن كثير ممن لو جفوته وأغلظت
عليه لتركك فيفارقك ولم يتبعك. ولا (أي ولم يتبع) ما بعثت به من الرحمة)
فقوله الأخير نص في أن مزايا النبي الذاتية كانت السبب في أن يتبعه العرب
ويصدقوا بالقرآن الذي أتى به. وقال الألوسي: (لانفضوا مِن حولك) أي:
لتفرقوا عنك ، ونفروا منك ، ولم يسكنوا إليك ، وتردوا في مهاوي الرَّدَى ، ولم
ينتظم أمر ما بعث به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط) فعدم فظاظته وغلظته
اللتين لو كانتا فيه لَذَهَبَتَا بكفاءته وحنكته وسياسته هو السبب الأول في انتظام أمر
بعثته.
وقال بعض المفسرين ما هو أصرح من كل ذلك كله قال: (وكل واحد من
الأمرين (أي: الفظاظة والغلظة) لا يليق بمنصب النبوة؛ لأن المقصود من البعثة
أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه ، وسكون
نفوسهم لديه ، وهذا لا يتم إلا إذا كان رحيمًا بهم كريمًا يتجاوز عن ذنوبهم ويعاملهم
بالبر والشفقة) ، فلولا كفاءته الذاتية التي هي عبارة عن مجموع مواهبه ومزاياه
وَخِصاله الكريمة لَمَا تَمَّ أمْر البعثة ، فلم يلتفوا حَوَالَيْهِ صلى الله عليه وسلم ، ولم
يَعُوا القرآن الكريم الذي أنزل عليه؛ فالكفاءة إذن هي العامل الأول في تأييده أو
تأييد سلطته الذي أراده البرنس.
فهل تكون بعد هذا كله عبارة البرنس كفرًا وطعنًا في الدين إلى حد لا تَسعه
صدورنا كما وسعت كلام اللورد ، ويكون المصريون مخطئين في إقامة الاحتفال له
وإعلان الثناء عليه ، أم لا يكون شيء من ذلك وإنما للشيخ رشيد حكمة من وراء
صنيعه هذا يعلمها هو والواقفون على أطواره وخفي أسراره. اهـ كلام المؤيد.
وقد رددنا هذا التمويه والمغالطة بمقالة أخرى نشرناها في عدد الجريدة الذي
صدر في اليوم السابع من المحرم وهي:
جواب المؤيد عن شبهته
(على القرآن)
لا يترك المؤيد شنشنته في الجدال ، فهو يشاغب ويكابر في أصول الدين
وعقائده كما يفعل في المناقشات السياسية والشخصية ، فقد أنكرنا عليه ما كتبه في
قيام الإسلام وثبات سلطته، وعزوه إياه إلى المسلمين ، وقوله: إنه اعتقادهم. وهو
أن السبب الأول والعُمْدة فيه هو - كما يقول البرنس كايتاني - سياسة النبي صلى الله
عليه وسلم وحنكته، أي ما أفادته إياه التجارب. أنكرنا عليه هذه الدعوى ، وَبَيَّنَا له
بالآيات البَيِّنات أن ذلك كان بما آتاه الله من النبوة ، وأنزل عليه من القرآن.
فرد علينا أمس بأننا أَوَّلْنَا طعْن لورد كرومر في الإسلام ، فلماذا ننكر على
البرنس كايتاني ، ونشنع عليه ونُخَطِّئ المصريين الذين قاموا له بالاحتفال ، فحاصل
جواب الشيخ علي يوسف عما أنكرناه عليه هو أننا فعلنا فيما مضى فعلاً كان يجب
علينا أن نعيده الآن ، وأننا شنعنا على البرنس كايتاني وذلك يتضمن تخطئة
المصريين الذين احتفلوا به.
ولقد رأى القراء أنه ليس في عبارتنا تشنيع على كايتاني ، وأكثر ما يفهم من
ردنا على صاحب المؤيد أن ما قرره عن البرنس كايتاني مخالف لعقيدة المسلمين في
القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام ، وليس هذا بتشنيع عليه؛ لأنه ليس بمسلم ،
فيطالب بأن يكون كلامه مُطابقًا لعقيدة المسلمين.
وأمَّا احتفال المصريين به فلم يَأْتِ له ذكر في كلامنا لا تصريحًا ولا تلويحًا ،
وهم لم يحتفلوا به لأنه مسلم؛ بل لأنه كتب تاريخًا صرح فيه باعتقاده من غير
تحامل ولا تعصب. وقد صرح لورد كرومر بانتقاده ، فرأيت كما رأى المؤيد أن
كلامه كاد يكون طعنًا في أصل الإسلام فكتبت إليه كتابة كان أثرها أنه كتب يبرئ
القرآن والسنة من الطعن. وقد صرح صاحب المؤيد يومئذ بأن ما كتبه لي اللورد هو
رجوع عما كتب في تقريره. فأنا الآن أطلب من صاحب المؤيد كما طلبت من
اللورد تبرِئة القرآنَ مما كتبه؛ فعسى أن لا يكون لورد كرومر خيرًا منه في الرجوع
إلى الحق بعدما تبين له.
وغرض صاحب المؤيد مما كتبه ظاهر وسببه بين وهو أنه عجز عن رد
الحجج التي دمغنا به دعواه في القرآن وصعب عليه الاعتراف بالحق الذي طالبناه
به ، فانتقم منا بتحريض من احتفلوا بالبرنس علينا ، وهم أعلى فَهْمًا وآدابًا من أن
ينخدعوا بمثل ما كتب. ولم يذكر إنكارنا عليه حتى لا يدري به من يقرأ المؤيد ولم
يكن اطلع على الجريدة يوم الخميس الماضي.
تلك شنشنته ، وذلك مبلغه من العلم ولولا أنه عاد إلى تأييد قوله الأول بأن
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فوق كل قوة دينيه كانت له؛ أي: فوق اصطفاء الله
له بالنبوة وتأييده بالقرآن ، وأن العُمْدة في نفوذه هي السياسة والحنكة، واحتج بقوله
تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)
لَمَا كتبنا اليوم شيئًا في إعادة دعوته إلى التوبة مما كتب والرجوع عنه كتابة في
المؤيد.
أقمنا الدليل في المقالة الأولى على ما قلنا: إنه اعتقاد المسلمين. وأيدناه
بالآيات والأحاديث ، ومنه أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم العليا وسياسته
المثلى مستمدة من القرآن ، فصرف الشيخ علي نظره عن ذلك، وعاد ينقل لنا ما قاله
بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، ولم يذكر الآية بتمامها؛ لأنها حجة عليه فكان مَثَلُهُ كَمَثَلِ
مَنِ استدل على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ} (النساء: 43) وسكت عن قوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء:
43) إلخ. هذا نص الآية: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) ، فهل تدل هذه
الآية على أن تلك الأخلاق العالية والمعاملة الحسنة كانت بتأييد الله إياه وتأديبه له
بالقرآن كما نعتقد نحن المسلمين أم كانت بسياسته وحنكته؛ أي: تجاربه صلى الله
عليه وسلم كما يقول الشيخ علي يوسف تأييدًا لكلام البرنس كايتاني؟ .
ألم يصرح جهابذة المفسرين بأن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} (آل عمران:
159) يفيد أن هذا كان برحمة الله وتوفيقه إياه ، وأن تأكيد السببية هنا بلفظ (ما)
يدل على الحصر كما في الكشاف ، ومعنى هذا أنه لم يكن ذلك بكسبه واجتهاده ولا
سياسته وتجاربه وإنما هو بتأييد الله وتوفيقه. وذلك من آثار النبوة التي هي غير
مكتسبة بالتجارب والسياسة؟ ويؤيد ذلك بقية الآية وبامتثالها بمعونة تلك الرحمة كان
رءوفًا رحيمًا لا فظًّا ولا غليظًا. ويدعم ذلك قوله في آخرها: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159) ولم يقل: توكل على سياستك وتجاربك.
ومن أمثلة هذا في القرآن قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1-2) الآيات وسببها معروف ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يدعو عظماء قريش إلى الإسلام في أول الإسلام فجاءه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى
- وهو من السابقين الأولين - يسأله أن يعلمه، فعبس صلى الله عليه وسلم،
وأعرض عنه؛ لئلا ينفر من إقباله عليه أولئك الكبراء ، وكان من اجتهاده صلى الله
عليه وسلم يومئذ أن الكبراء إذ دخلوا في الإسلام أولاً لا يلبث أن يتبعهم الناس ، فعاتبه
الله على ذلك عتابًا شديدًا ، ونهاه عن مثل ما فعل فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ
الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَاّ} (عبس: 1-11) فعمل صلى الله عليه وسلم بهذا التأديب
والتعليم الإلهي من أول الإسلام ، فكان ذلك عونًا على استمرار دعوته التي كان
روحها والمؤثر الأكبر فيها هو القرآن لا السياسة والحنكة كما يَدِّعِي الشيخ علي
يوسف.
أما الدلائل النقلية على تأثير القرآن في جذب العرب إلى الإسلام فهي كثيرة ،
وأذكر لسعادة صاحب المؤيد منها إسلام عمر رضي الله عنه ، وهو الذي أعز الله به
الإسلام كما ورد. كان عمر في الجاهلية فظًّا غليظًا ، ولمَّا سمع بإسلام أخته وختنه
(زوجها) عظم عليه الأمر ، فجاءها وضربها حتى أَدْمَاهَا ، وكانت تقرأ هي
وزوجها صُحفًا من القرآن الكريم ، فأخفتها عنه فما زال حتى أخذها وقرأها فجذبته
إلى الإسلام جذبًا ، وكان بعد ذلك من رحمته أنْ كان يطوف بالليل يتفقد المحتاجين؛
وقصته في حمل الدقيق ليلاً إلى موضع تلك المرأة البائسة وطبخه مشهورة.
وحَسْبُك من تأثير القرآن أن كان الغالون في العناد والجحود من كفار قريش
يهربون من سماعه لئلا يجذبهم إلى الإسلام بقوة تأثيره {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .
فأدعو سعادة الشيخ علي يوسف بعد هذا البيان إلى الرجوع عما كتبه مِن قَبْلُ
والتصريح بأن قوة النبي الدينية كانت فوق كل قوة له بشرية، وكل سياسة
وحنكة عادية، وأن القرآن الحكيم هو منشأ آدابه وأخلاقه وسياسته عليه الصلاة
والسلام ، وأن سيادته ونجاحه كانا بذلك قبل كل شيء وفوق كل شيء والسلام على
من اتبع الهدى.
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار
وبعد أن نشرنا في الجريدة ما تقدم رأينا كثيرًا من أهل العلم والغيرة مرتاحين
مسرورين مما كتبناه ، وقالوا: إن هذا الرد من فروض الكفاية قمت به فسقط الحرج
عن كل عالم قادر عليه. وكتب إلينا عبد الله أفندي الأنصاري مدرس العلوم العربية
في المدرسة التوفيقية ما يأتي:
حضرة العلامة المفضال صديقنا الصادق في الله تعالى السيد محمد رشيد
رضا:
السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد ، فلقد اطلعت في صحيفة المؤيد على ما
نشرته من رأي البرنس كايتاني في محمد صلى الله عليه وسلم ، ومجادلتها عنه ،
وعلى ما جاء في الجريدة عن ذلك ، وردكم هو الحق الصراح، والنور الوضاح،
والبيان الفضاح لدسائس الملحدين لنور رب العالمين، فجزاكم الله خيرًا عن الإسلام
وأهليه، والشرع وحامليه، ولما رأيت مجادلة صاحب المؤيد عن ذلك الرأي،
وإصراره على عدم رَتْقِ هذا الفَتْقِ، والانصياع إلى سلطان الحق محاباة في الرد،
ومداراة للقصد اختلست ساعة من أوقاتي المملوءة بالأشغال المدرسية - كما لا
يخفى - لتحرير هذه المقالة تأييدًا لِرأيكم الأصيل، وتسديدًا لقولكم النبيل، فأرجو
نشرها إن استحسنتم في مناركم الرفيع ، والسلام عليكم أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.
من أخيكم عبد الله الأنصاري.
وهذه هي مقالة الأنصاري المفيدة بنصها:
لا هَوَادَةَ في الدِّين
لقد جاء انتقاد الجريدة وردودها على ما نشرته صحيفة المؤيد من رأي البرنس
كايتاني في مبلغ الرسالة الإسلامية ، وإعجابها به مطفئًا لِمَا اتَّقَدَ في صدور ذوي
الغيرة على الدين بنفثات الذين يريدون المحاباة في الإسلام، والتساهل الذي قد اتخذه
كثير من دعاة المدنية العصرية من المسلمين وسيلة إلى إحداث شأن جديد في الدين
عِندَ مَنْ أكبرتهم نفوسهم ممن لا تروج لديهم بضائع أهل الملل والأديان، ولا يروق
في نظرهم أن ينسبوا ما جاء في الشرائع الإلهية، وعلم من آداب الأديان السماوية،
إلا إلى مجرد فطنة ودهاء ، واضعها بصفة كونهم ساسة عقلاء لا رُسلاً وأنبياء.
ذلك ما يقرع الأسماع كثيرًا من بعض المخالفين في كنه العقيدة الإسلامية ، وما
القصد من ذلك إلا أن يغيض اعتقاد المسلمين في قرآنهم القائم بين أيديهم إلى الآن ،
وتنفصم عراه من قلوبهم فلا يتمسكون به حتى يضعوا أيديهم في يد أهل المدنية
الغربية، ولو آلَ الأمْرُ إلى المجازاة في مثل ذلك الرأي ونبذ عقيدة أن الدين وضع
إلهي وأن الكتاب وحي سماوي لم يكن للرسل فيه ولا للالتفاف الناس حولهم إلا
التبليغ والتبيين {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) هوَّن ذلك التساهل على سعادة صاحب المؤيد أن
ينشر على ملأ المسلمين ذلك الرأي بصورة رائقة ويجادل عنه وكله كما لا يخفى
على بصير مغامز مخالفة لصريح القرآن، هادمة لمبنى الإيمان، إذ يجعل نجاح
الدعوة المحمدية بما كان له صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق البشرية
والحنكة - التي ربما يقولون بَعْدُ: (إنها كما تكون له تكون لغيره من البشر قبله
وبعده من العقلاء المجربين، والساسة المحنكين) أكثر من كونه نبيًّا مرسلاً،
وصاحب كتاب منزل.
هكذا قال أُبَاةُ الحق من العرب ومكابروهم فيه ، وقد خصهم الله وألزمهم
الحجة ، وانتهى الأمر باعتراف المؤمن وغير المؤمن بسمو مكانة القرآن الكريم عند
من يدرك معناه ويتصور مبناه من حين نزوله إلى اليوم. أمّا الآن وقد مضى على
التنزيل أكثر من ثلاثة عشر قرنا فقد أصبحنا نُرَوِّج هذه الدعوى ونرضاها على
لسان المسيو كايتاني؛ لِيُقالَ إنَّا متساهلون متسامحون، أو متنورون متمدنون.
لست أقصد رمي سعادة صاحب المؤيد بما رمته به الجريدة من المروق لنشر
هذا المعتقد وترويجه بين المسلمين ، وإنما أقول أولاً: لا نصدق أن سعادته لا يصل
ذهنه إلى أعماق هذا الرأي وما وراءه، ولا نُسِيءُ الظن فيه بكونه يرضاه عقيدةً له؛
فلم يكن هناك إلا ذلك التساهل الذي ما ساق كثيرًا من الناس إليه الآن إلا إعظام كل
ما جاء على ألسنة متنقصينا من موافق ومخالف، والزهد فيما لدينا من تالد وطارف،
وإلا فليس ما رضيه الشيخ اليوم عن كايتاني بأهون مسًّا ولا أخف وخزًا في
أحشاء الإسلام من ذلك الرأي الغابر الذي أرهف له قلمه وجرده يقطر غيرة وحمية،
أم هي الأهواء تقبح وتحسن ما تشاء.
ما أخسرنا وأضيعنا في كل حال لو بذلنا في أغراضنا ومقاصدنا الدنيوية
إسلامنا وطوحنا بقرآننا في مهاوي التساهل الماحي ، والتسامح الماحق لدرك كلمة
تقال فينا ، أو جذب عاطفة تشهد لنا بأننا ترقينا وأدركنا من شأو المتقدمين ما تشرئب
إليه الأعناق ، وما نحن ببالغي ذلك منهم ولو صرنا لعبادتهم خاضعين.
نشأ محمد صلى الله عليه وسلم أُميًّا بين أميين ليسوا أهل ملك وسياسة حتى
بلغ الأربعين ولم يكن له من شئون دنياه في أكثر حالاته إلا الاشتغال بعبادة ربه،
والانقطاع عما فيه الناس حينئذ ، فهو إلى ذلك الحين أبعد عن مجاري السياسة،
وموالج حيل الرئاسة حتى صدع بالدعوة بلا هوادة فيها ، وسار بها من أول أمرها
وفي جميع أطوارها برعاية ربه وعناية مُرْسِلِهِ سيرًا حثيثًا كان له فيه الغلب من
أوله إلى آخره بين جدال وجلاد، وبلاء واجتهاد، والقرآن لا غير مصدره ومورده،
ومرشده ومعتمده في كل شيء.
ولقد كان يُرْجِئ الأمر حتى يتلقى فيه قرآنًا ونحن نخاطب بذلك من يتصورون
أطوار الرسالة المحمدية ، ويتخيلون حالة الأمة العربية حينئذ ، ويمضون في فهم
كتاب الله ويقدرونه قدره ، وما كان عليه العرب من النزول على حكم البيان الذي
بلغ في القرآن مبلغ الإعجاز ، فكان عليه وحده في الهداية ونجاح الدعوة المعول أكثر
من كونه صلى الله عليه وسلم على خُلُق عظيم أو ذا سياسة وحنكة.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ
وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 52-53) .
لم يَذُقْ أحد من نبغاء المسلمين اليوم ولا قبل اليوم بقرون - فضلاً عن المسيو
كايتاني حتى سعادة الشيخ علي يوسف - ما ذاق أصحاب النبي في عهده من القرآن.
وهم في حجور الوثنية، وأحضان الهمجية، فانتشلهم، وطَهَّرَهم، فكان موقع القرآن
منهم موقع الزُّلال من ذِي الغُلَّةِ، والدواء من ذي العِلَّةِ، وإلا فما كان يفعل محمد
صلى الله عليه وسلم بدون تأييد الوحي المنزل الذي هو حجته الكبرى ، وآيته
العظمى القائمة عند مَنْ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فلا يقال حينئذ: وإلا
فالقرآن بين أيدينا ولم يعمل عمله فينا {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) .
لم يرتض أصحاب رسول الله ما قاله أبو سفيان ، وقد أقبلت جموع الفتح قبيلةً
قبيلةً وهو قائم بين جمع من الصحابة وفيهم العباس أحد أعمام النبي صلى الله عليه
وسلم حتى أقبل مع أبي بكر وعمر في كتيبته الخصراء يقولون: الحمد لله وحده
صدق وعده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فقال أبو سفيان لعثمان: صار
لابن أخيك مُلْكٌ عظيم. فقال: مَهْ يا أبا سفيان ، إنما ذلك الوحي والرسالة. فكيف
نرضى أو نقبل أن يكون ما وصل إليه نبينا مِنَ الظَّفَرِ والغَلَبِ في أمْر دعوته إلى
الله بسياسته وحنكته أكثر من نبوته ورسالته؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا براءة
الحق من الباطل. فليصن سعادة صاحب المؤيد غيرته على الإسلام من أن يغمض
طَرْفه على أَذًى فيه فَرُبَّ تلميح أنكأ من تصريح، ومدح آلم من تجريح، وليحفظ
مكانته في قلوب أهل مِلَّته مِن أنْ يُحَابِيَ في دينهم على مرأى ومسمع منهم، فإنه
لا هوادة في الدين.
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الله الأنصاري
(المنار)
هذا وإن الموضوع يتسع لإطالة القول وإيراد الشواهد الكثيرة من الآيات
الكريمة والسيرة النبوية، وإنما اكتفينا بما كتبناه على عَجَلٍ في إدارة الجريدة؛ لأننا
نقصد به تذكير المسلمين، لا إقامة الحجة على المخالفين، وقد سَكَتَ صاحب المؤيد
بعد نشرنا المقالة الثانية ، ويغلب على ظننا أنه ندم على ما فرط منه ، ولكن كان
يجب عليه أن ينشر حقيقة العقيدة الإسلامية في ذلك بالمؤيد لِيَطَّلِعَ عليها من قرءوا
كتابته الأولى إِذْمَا كُلُّ مَن يقرأ المؤيد يقرأ الجريدة (وبالعكس) ولو فعل لَمَا
نشرنا شيئًا من هذا البحث في المنار.
_________
(1)
يريد بالغايات معناها اللغوي ، وهي المقاصد ، يَعْنِي الدينية ، ويعني بالأمر بتركها تركه البحث فيها؛ أي: إنه يبحث في القرآن من حيث هو كتاب اجتماعي لا من حيث هو كتاب ديني كما قال لنا مشافهة.
(2)
كتبنا هذه المقالة في إدارة الجريدة على عَجَلٍ ، ولم يكن في يدنا مصحف نراجع فيه عدد السور والآيات للشواهد التي أوردناها فيها فوضعنا الأعداد الآن ، ولم نَزِدْ في المقالة شيئًا سِوَاهَا، بل نقلت عن الجريدة بحروفها.
الكاتب: أحمد فتحي باشا زغلول
ما هي اللغة
خطبة أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية في نادي دار العلوم.
الفكر: حركة نفسية يحتاج في ظهوره إلى معونة الجهاز المخصوص الذي
يكون به الكلام. وعليه، فالكلام هو حركة ذلك الجهاز المنبعثة عن مجرد الطبع، أو
المدفوعة بالإرادة للتعبير عن حركة من حركات النفس.
ينتج من هذا أن الكلام يتنوع باختلاف الشارات التي تدل على الأفكار ، وأن
تلك الشارات تنقسم إلى قسمين: طبيعية ، وصناعية.
فالأولى هي التي تصدر عن الذات من حيث هي؛ أي: بمقتضى وجودها
المادي، وكل شارات هذا القسم عَرَضِيَّة ، مثل شارات اليد ، والرأس ، والعين ،
وبقية الأعضاء ، ومثل الأصوات التي ليست ألفاظًا ، والكلام؛ أي: النطق.
والثانية خارجة عن الذات ، وهي تحدث من تأثير الإنسان في المباديات
الخارجة عنه ، وكل شارات هذا القسم جوهرية ، بمعنى أن لها دوامًا طويلاً كان أو
قصيرًا ، كالأعلام والنقش ، أو الرسم والحفر والكتابة.
ومما تقدّم يتبين أن الكلام الطبيعي عامٌّ لِكونه مفهومًا بذاته مع جميع الناس
ومن الحيوان أحيانًا ، كما هو الحال بالنظر لشارات الأعضاء وأصوات الغضب ،
أو الاستحسان من غير أن يكون هناك اتفاق سابق على مفهوم تلك الشارات.
وعلى خلاف ذلك الكلام الصناعي أو الاتفاقي؛ لأنه عبارة عن مجموع الألفاظ
المخصوصة الموضوعة للمعاني المخصوصة ، وعن التراكيب أو الصيغ الناتجة من
تأليف هذه الألفاظ لتوصل إلى الذهن بواسطة الأذن أو العين معاني مخصوصة متفق
عليها.
وقد يتأتى أن يكون الكلام الصناعي عامًّا؛ أي: إن كل الناس يدركون المراد
منه كالرسم مثلاً ، وعلى هذا يتضح خطأ تعريفهم اللغة بأنها أصوات يُعَبِّر بها كل
قوم عن أغراضهم.
والصحيح أن اللغة: هي مجموعة من العادات المخصوصة التي تجري عليها
كل أمة في التعبير عن أغراضها بواسطة الكلام أو الكتابة ، وتقدم بيان معنى الكلام.
ولا يصح إطلاق اسم اللغة على ذلك المجموع إلا إذا كانت النسبة تامة بين
اللفظ ومدلوله؛ لأن قوة اللغة متوقفة على شِدة المطابقة بحيث إن الأذن أو العين
ترسم في ذهن السامع أو القارئ صورة المدلول كما هي، ولا يتم ذلك إلا باجتماع
شروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون لكل مدلول علامة خاصة به تدل عليه دائمًا ، ولا
تدل على غيره أبدًا.
الشرط الثاني: أن تكون هذه العلامة قابلة للتعبير بتغير المدلول وتبعًا له.
الشرط الثالث: أن تكون قابلة للاشتقاق لمدلولها ، فإذا اشتق منه مدلول اشتق
منها علامة دالة عليه بالشروط عينها.
وبناءً على ما تقدم تكون شروط اللغة الحقيقية بهذا الاسم ثلاثة أيضًا:
الأول: أن يكون تعبيرها محكمًا ، وذلك عبارة عن تمام المطابقة بين الدال
والمدلول ، ولا سبيل إلى هذا إلا إذا سهل استعمال اللفظ قَدْر المعنى، ولم يزد المعنى
عن اللفظ المستعمل لأجله ، وهذا الشرط صعب التوفر؛ فما وُفِّقت لغة حتى الآن
لِنَيْل هذه المزية ، اللهم إلا لغة علماء الرياضة ، بل إن اللغات الأخرى لن تنالها أبدًا.
الثاني: الملابسة ، وهي الخاصة الموجودة في الألفاظ والتراكيب، أي
الصيغ، تلك الخاصة التي يدرك بها الفاهم نظائر المدلول ونقائضه ، والملابسة
تقتضي تحليل الفكر الإنساني، وذلك غير ميسور عادة في اللغات الأصلية إلا
نادرًا.
الثالث: الوضوح التام ، وهو يرجع للشرطين السابقين ، ولصناعة ترتيب
الألفاظ ، وتركيب الجمل ترتيبًا وتركيبًا ينتفي معها الإبهام، ويرتفع الشك والالتباس،
ومن اللغات ما تميل بأهلها إلى الإغراب في التعبير ، وهذا هو السبب في ظلمتها
وتعسر فهمها وكلما كان القول طبيعيًّا؛ أي: بسيطًا ازداد وضوحًا ، فالبساطة هي
أمثل طرق الكلام على أنها طريقة العلم والواقع وهي التي يسهل بها التعبير عن
الأفكار وحركات النفس كما ينبغي.
وكأني بحضراتكم وقد استنتجتم مما ذكرته إلى الآن خطر مذهب التجوز أو
الاشتراك في اللغة وذكرتم أنه يذهب بجمالها، ويخفي من وضوح دلالتها ويجعلها
ثقيلة على أهلها بعيدة المنال على طُلاّبها من الأمم الأخرى.
سمعت في الاجتماعين الماضيين كلامًا كثيرًا في اللغات الأجنبية ، وأن لها
أصلاً أو أصولاً ترجع إليها، وتستمد روح التجدد منها ، فأهلها في حِلّ مما يفعلون ،
وأما نحن فلا أَصْلَ للغتنا، ويبنون على هذه المقدمة نتيجة هي أنه يجب علينا أن
نعرف كلمة أعجمية لنضيفها إلى لغتنا العربية.
الحق أني ما فهمت النسبة بين تلك المقدمة وهذه النتيجة؛ فإني أنظر إلى تلك
اللغة اللاتينية التي هي أصل لغات أمم أوروبا المعروفة بهذا الاسم من فرنساوية
وتليانية وأندلسية وغيرها ، فأجدها لغات ممتازة تمامًا عن ذلك الأصل، بل أجد
الفرنساوي من حيث هو لا يعرف كلمة واحدة من أصل لغته ، وكذلك بقية من ذكرنا
وأرى أن كل لغة حية هي لغة مستقلة قائمة بنفسها لها قواعد خاصة بها ، وتراكيب
وصيغ تميزها عن أصلها تمامًا ، فإذا استعاروا لِمُحْدَثٍ جديد اسمًا من ذلك الأصل
فإنما هم يستعيرونه من لغة أعجمية بالنظر إلى لغتهم.
ألا ترون أنهم لا يقصرون الاستعارة على اللغة اللاتينية، ويتعدونها إلى
اليونانية القديمة ، وأحيانًا يستعيرون كلمتين، من كل لغة كلمة، وينحتونها ويدمجون
هذا المزيج في لغتهم فيصير جزءًا منها ، ويفسحون له في كتب اللغة محلاًّ بين
كلمتين أصليتين بحسب ترتيب حروفه الأبجدية.
إنهم يعملون أكثر من هذا: إن لكل بلد عادات في أكلها وسكناها ولباسها
وأطوارها ، ويتبع ذلك وجود أسماء عند قوم لمسميات لا يعرفها قوم آخرون إلا أن
التجارة وطرق المواصلات تنقل هذه المسميات، أو تجعلها تشاهد في أماكنها من
النازحين إليها؛ فيرى أهل البلد ما يروق لهم من بعض تلك الخصوصيات لأهل
البلد الآخر ، ولا يجدون من لغتهم نصيرًا على التعبير عنه تمامًا ، لكنهم لا يختارون
ولا يقصدون الاجتماع تلو الاجتماع، ولا يفترقون شيعًا وأحزابًا ، بل يقدمون على
تناول المسمى واسمه ويدرجون عليه من ساعتهم فيمتزج بلغتهم، ويعرفه الكل،
ويتحرون في حديثهم أن يلفظوه كأنهم في نطقهم به من أهله، والأمثلة على ذلك لا
تُحْصَى يعرفها كل من تعلم لغة واحدة أجنبية.
هم يعملون ذلك حتى في العلوم فترى الحكيم الفرنساوي وهو يقرر مذهبه عندما يأتي على ما يخالفه من مذاهب الألمان إذا وصل إلى معنى خاص بأحدهم لم يفكر أن يعبر عنه بغير لفظه الألماني وهكذا ، ثم يذكر بهامش كتابه معناه.
ما كان هذا لِيُفْسِدَ لغة من تلك اللغات ، ولا يثير عاطفة الحنان والإشفاق عليها ،
بل ما ازدادت لغاتهم بهذا إلا طلاوة ويُسرًا ، بل تكاد هذه الطريقة تجري عند الأمم
الغربية عامَّة لتكون الألفاظ الغريبة عن لغتهم برهانًا عن سَعَة مداركهم ، ورحب
صدورهم لكل نافع وكل مفيد ، ولتكون دليلاً على مصدر المسمى ومذكرة بجزء من
ترجمته.
قالوا: إن ذلك جائز عندهم لتماثل أحرف هجائهم واتحاد صدورها وأشكالها ،
وأما نحن فلا قبل لنا على عمل ما يعملون لاختلاف أحرف هجائنا، وصورها
وأشكالها، ولست أرى في هذا الاعتراض إلا أنه دليل أحد أمرين ، فإما شعور
يعجزنا عن المجاراة لفتور في همتنا أو قصور في معارفنا ، وإما أن أحرف هجائنا
وأشكالها وصورها محتاجة هي أيضًا إلى الإصلاح؛ لنتمكن من تناول
كلمات الغير بأشكال وصور تجعلنا ننطق كلماتهم كما ينطقون، وننقل عنهم كما هم
عن بعضهم ينقلون.
نحن إما عرب أو مستعربون ، وإما أجانب عن لغة العرب أو مولدون ، فإن
كنا الأولين فلنا حقنا في التصرف بلغتنا كما تقتضيه مصلحتنا ، وإن كنا مستعربين
فبحكم قيامنا مقام أصحاب هذه اللغة وبكوننا ورثناها عنهم بعد أن بادوا ليس لأحد أن
ينازعنا في استعمال ما كان مباحًا لآبائنا من قبلنا ، وإن كنا أجانب أو مولدين فمن له
يسيطر علينا، ويحرمنا ثمرة الكدّ في حفظ هذه اللغة وتفضيلها على غيرها من سائر
اللغات ، فيلزمنا بالبقاء على القديم ويحكم علينا بالجمود واعتقال اللسان.
أَخَذَ العرب العلوم عن أهلها ، ونقلوها إلى لغتهم ، فلما وجدوا منها استعصاء
في بعض المواضع ذللوها وأخضعوا الغريب عنها لأحكامها فأيسرت ودرجت بعد
الجمود ، فكانت لهم نعم النصير على إدراك ما طلبوا من نور وعرفان.
نسينا نحن أن زماننا غير زمانهم فكانوا أصحاب حَوْل وطَوْل ، وذوي مجد
وسلطان ، ونحن على ما نعلم من الضعف والانزواء على أنهم في عِزِّهِم وبعد
فِخَارِهِم وتمكنهم من أنفسهم لم يعتزوا بلغتهم فينفروا من العُجْمَةِ؛ لأنها عُجْمَة بل
استخدموها حيث وجب الأخذ بها تمكينًا للغتهم وحذرًا من أن يصيبها الوَهْن إذا قعدوا
بها عن مجاراة تيار التقدم، وهم أَُولُو الرأي فيه ، وخوفًا من أن يعيقهم الجمود فيها
عن حفظ مركزهم العظيم بين الأمم التي كانت تعاصرهم.
أيجوز لنا أن نتخلف عن السير في طريقهم، والاسترشاد بهديهم، والعمل
بطريقتهم بحجة أنهم انقرضوا وبادوا ، فلا حق لنا في متابعة الرقي ، ولا يجوز أن
نخطوا بعدهم خطوة إلى الأمام؟ لكن من الذي استأجرنا حراسًا من الخرس على هذه
الوديعة؟ وبأي قوة أخضعنا على الوقوف هذا الموقف؟ موقف الاستكانة، وقطع
الرجاء، وفقدان الهمة، وانحلال العزائم؟ أنقص في الأفهام، أم قصر في الأجسام،
أم جهل بأنا من البشر لنا كل حقوق الإنسان؟
ليس لنا أن نتمسك بالقديم لقدمه وإن أصبح عديم الجدوى، وإلا فأولى بنا أن
نكف عن الدرس والمطالعة ، وأن نكتفي من كل شيء بما ورثنا عن الآباء لنعيش كما
عاش الأوَّلُون.
غير أني أرجوكم أن تتعلموا الصبر فلا تجزعوا إذا أصابتكم مصائب التقدم
فتركتم آخر القوم، ولا تحزنوا إذا هَصَرَتْكُمْ عوامل الرُّقِيّ ، فَمُنِيتُمْ بِمَن يقف
متفرجًا عليكم وأنتم كالصور المتحركة الناطقة ، لكنها تتحرك بحركة هي عبارة عن
اهتزاز الشيء مكانه ، وتنطق بلغة دائرة قد خَلَتْ من العلم الذي أصبح دارجًا على
ألسنة المتفرجين.
جزع خصوم مذهبنا على اللغة العربية، وحسبوها طعامًا سهل التناول والهضم
في مَعِدِ اللغات الأعجمية ، فاستجاروا من التعريب ، وصاحوا: إننا لا نطيق اسمًا
عجميًّا يدخل عليها.
أليست هي تلك اللغة الحافلة بالألفاظ والتراكيب العالية والقول الفصيح ،
المصونة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي لن تتأثر ببعض
كلمات تدخل عليها في كل عام ، بل إن هذا العمل مما يؤيدها ، ويشد أزرها، ويرفع
مقامها بين اللغات فلا يطمع الأعاجم في اعتبارها من اللغات الميتة.
قالوا: ذلك يفسد علينا لغة القرآن ، وما أشد ما أجاب به عن هذا الاعتراض
حضرة الفاضل السيد رشيد أفندي فلا خوف على القرآن ما دام في الوجود مسلم.
ألا ترون أن القرآن محفوظ مصون عند من لم يعرف العربية من المسلمين، إليكم
الترك والهند والصين والقوقاز والروسيا تلك أُمَم تعد خلقًا كثيرًا من المسلمين ،
لا يعرف الواحد منهم غير لغة أمته وهو مع ذلك يحرص على القرآن أشد من
حرص الجبان على دمه.
أيعجزكم أن تحافظوا على القرآن بيمينكم ، وتفسحوا المجال في لغتكم للتقدم
باليسار؛ لتنالوا السعادتين ، وتكونوا من الناجحين في الدارين؟
قالوا: العلم النافع. قالوا: كثير منه مخالف للدين. قالوا: الحضارة تهددنا
فلنتقها بها. قالوا: هي تخالف الدين. قالوا: حدثت مستحدثات ، فسموها. قالوا:
حرام عليكم إن كنتم فاعلين. من جَرَّاء هذا قال الفرنج عنا أنا قوم جامدون ، وما
جمودنا إلا من الدين ، فصِحنا مع هذا ، وقلنا لهم: بل أنتم قوم ظالمون.
ما لنا وللدين نَجُرُّهُ في كل أمر ونقيمهُ حاجزًا في وجه كل باحث حتى في
الأمور التي يأمر هو بتناولها. يأمرنا الدين بتعلم ما خلق الله ، وأن نسير على سنة
التقدم التي سَنَّها للبشر ونحن كل يوم في إحجام بدعوى يعلم الله مقدار بُعْدِهَا عن
الحق والصواب.
عليكم بالتقدم فادخلوا أبوابه المفتحة أمامكم ، ولا تتأخروا؛ فلستم وحدكم في
الوجود ، ولا نقدم لكم إلا بلغتكم، فاعتنوا بها، وأصلحوها، وَهَيِّئُوها؛ لتكون آلة
صالحة فيما تبتغون ، لكن لا تكثروا من الاشتقاق الخارج عن حد القياس المعقول ،
ولا تشوهوا صورتها الجميلة بتعدد الاشتراك أو التجوز ، ثم لا تقفوا بها موقف الجمود
والعُجْمَة تهددها على ألسنة العامَّة، وهي لا تلبث أن تدخل على لغة الخاصَّة.
أقيموا في وجه هذا السيل الجارف سدًّا من الاشتقاق المعقول والترجمة الصحيحة
والتعريب عند الضرورة لتكونوا من الناجحين. اهـ
(المنار)
ألقى أحمد فتحي باشا هذه الخطبة في الاجتماع الثالث لنادي دار العلوم ، وزاد
عليها ما جادت به البديهة ارتجالاً من الفوائد والنصائح. وخطب بعده حفني بك ناصف رئيس النادي خطبة مطولة في اللغة وفنونها. واتفق الجمهور بعد ذلك على
وجوب التماس الألفاظ العربية للمستحدثات بالترجمة والتَّجَوُّز والاشتقاق، ثم يلجأ
إلى التعريب إن لم يتيسر ذلك وقد كتب إلينا النادي صورة هذا الاتفاق بالعبارة الآتية ،
وأرسلها إلى جميع الصحف المشهورة:
قرار نادي دار العلوم
في الترجمة والتعريب
هذه صورة القرار الذي صدر بنادي دار العلوم في الساعة العاشرة من مساء يوم
الخميس 20 فبراير 1908 بعد سماع ما قاله جميع الخطباء في موضوع تسمية
المسميات الحديثة ، فقرر أن يكون العمل على النحو الآتي:
يُبْحَثُ في اللغة العربية عن أسماء للمسميات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة ، فإذا لم يتيسر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية ، ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلف لهذا الغرض.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
رئيس النادي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حفني ناصف
(المنار)
قد تحامى رئيس النادي في عبارته اللفظ الذي اتفق عليه جمهور من حضروا
الاجتماع الأخير من أعضاء النادي وغيرهم وهو لفظ (التعريب) فقال (يُستعار
اللفظ الأعجمي) وهو يرمي بذلك إلى عدم تسمية ما يؤخذ من الكَلِمِ الأعجمي
مُعَرَّبًا محافظةً على اصطلاح المتقدمين. ولكنه عَبَّر بلفظ اصطلاحي آخر من
الاستعارة ، وهو لا يقصد به معنى الاستعارة في فن البيان ، وإنما يقصد معناه
اللغوي المرافق للاصطلاح الشرعي ، والمتبادر أنه يرمي بذلك إلى أن هذا الأخذ
يجب أن يكون من قبيل العارية التي تستعمل زمنًا، ثم تُرَدُّ ، ولكن هذا خلاف ما
وافق عليه الجمهور كما تقدم ، ولعله قرار خاص لمجلس إدارة النادي. وعلى هذا
يكون الخلاف في المسألة على حاله.
_________
الكاتب: علي سيد يوسف
الدين الإسلامي والمدنية
رسالة لصاحب التوقيع اقتبس بها بعض شهادات علماء الإفرنج للإسلام
والعرب. نشرناها ترغيبًا لمثله في هذا الموضوع وإن سبق لنا نشر هذه الأفكار في
المنار.
(فهرس)
حالة العالم قبل وجود الديانة الإسلامية - حقيقة الديانة الإسلامية - أخلاق
محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته - الدين الإسلامي دين الفطرة - الدين
الإسلامي دين المدنية والترقي - سديو ودروي - إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم
- قول العمرانيين فيه - حكم المؤرخين عليه - الإسلام ليس بدين جديد - الدين
الإسلامي ليس بالدين الضيق - كل رقي في العلوم الطبيعية يدعو إلى التقرب من
الديانة الإسلامية - الدين الإسلامي هو أنشودة الفلاسفة في المستقبل.
إني أكتب ما أكتب عالمًا عِلْمَ اليقين أن الديانة الإسلامية ليست بالشيء
العويص الذي لا يمكن للإنسان استكناه مجاهيله، أو استشفاف مساتيره، بل هي مما
يمكن تحققها بالاختبار والتجربة إذا صعد الإنسان بِمنْطَاد بحثه إلى سماء الحقيقة
غير متعصب لفريق دون آخر؛ فبهذا يطل الإنسان على كبد حقيقتها ، ويعرف
كُنْهَهَا من سموّ ترتيبها ومتانة قواعدها وإحكام نظامها ، فيحكم بأنها ليست بالديانة
التي أوجدتها قريحة آدمي مهما حاز الصفات والكمالات ولكنها هي هداية إلهية،
يخالف جوهرها جوهر الأفكار البشرية.
ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب وقد كان قومه في هُوَّةِ
الانحطاط بَعيدين عن التمدن والرقي الفكري ، يدلُّك على ذلك وَأْدُهُمْ لِبَنَاتِهِمْ وهُنّ
على قيد الحياة ، وعبادة الأوثان ، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي تقضي
بمتبعها إلى الخسران والهلاك المبين ، وليست بلاد العرب فقط هي التي كانت في
تلك الحالة بل ما جاورها أيضًا من بلاد الرومان في الغرب، وبلاد العجم في الشرق ،
فإن هاتين الدولتين كانتا يتنازعان الحياة ، وناهيك بما حصل في شأن ذلك من الفتن
والقلاقل التي لم تدع قلبًا سليمًا في البشرية يتمتع بالراحة إلا وَأَسْقَتْهُ مما هو أمرّ من
الصابِ والعَلْقَم - كل هذه القلاقل المزعجة والكوارث المُدْلَهِمَّة جاء الإسلام ليمحوها
من على ظهر الوجود، وليؤيد السلام العام، والوئام التام، وليكون واسطة بين
التمدن الحديث وبين التمدن القديم ، فلم يمض غير قليل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
إلا ورأينا بلاد العرب في وقت واحد ترسل جيشين ، أحدهما: لمحاربة
القياصرة ، والثاني: لمحاربة الأكاسرة ، ففتحوهما وانهالت عليهم خيراتهما وظلوا
ناهجين في التقدم إلى أن بلغوا في ظرف ثمانين سنة ما لم يبلغه الرومان في ظرف
ثمانية قرون ، واستخرجوا كنوز اليونان والأعاجم والهنود في العلوم والمعارف ،
وبلغوا الطبقة الثالثة من الرقي في العلوم الطبيعية، وهي طبقة الامتحان والتجربة ،
وإليك شهادة عالم من كبار علماء الطبيعة.
قال: (يجب علينا مَعَاشِرَ الباحثين أن نهتم بالكنوز التي تركها العرب؛ فإن
فيها حقائق وأفكارًا سامية تدعو إلى الاكتشاف والاختراع؛ لأن العرب تقدموا في
العلوم الطبيعية تقدمًا مدهشًا للغاية حتى بلغوا الطبقة الثالثة من الرقي فيها ألا وهي
طبقة الامتحان والتجربة ، وناهيك أن نظرية الانحراف في الضوء لم يكن ترقيها إلا
بواسطة ما عثرنا عليه في مؤلفات الخازن) .
وقال العلاّمة سديو في البحث السادس عشر من تاريخه في اشتغال العرب
بالعلوم الرياضية: (لما اشتغل العرب بالفلك التفتوا إلى العلوم الرياضية، فأتوا
بالعجب العجاب في الهندسة والحساب والجبر وعلم الضوء والميكانيكا، وترجموا
من ابتداء خلافة المأمون هندسة أقليدس وتيودوس وأبولونيوس وو
…
وشرحوا مؤلفات أرشميدس في الكرة والأُسْطُوَانَة وغيرها ، واشتغلوا قرونًا بدقائق
الهندسة ، وظهرت حميتهم في المناظرات العلمية خصوصًا في المراسلات
الرياضية، وطبقوا الجبر على الهندسة، وترجموا كتب هيرون الصغير في الآلات
الحربية وقطيزيبوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه ،
وألف حسن بن هيثم في استقامة النظر وانعكاسه في المرايا التي تحدث النار ، وألف
الخازن في علم الضوء والنظر كتابًا في انكسار الضوء ، وفي المحل الظاهر
للصورة من المرايا المنحنية ، ومقدار الأشياء الظاهرة وكبر صورتي الشمس والقمر
إذ رُئِيَا على الأفق عند الشروق أو الغروب) .
وقال أيضًا دروي في تاريخه: بينما أهل أوربا تائهون في دُجَى الجهالة لا
يرون الضوء إلا من سَمِّ الخِيَاط إذ سطع نور قوي من جانب المِلَّة الإسلامية من
علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك حيث كانت بغداد والبصرة
وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة
المعارف ، ومنها انتشرت في الأمم ، واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة
مكتشفات وصناعات وفنونًا عظيمة.
وهذه هي أقوال الفلاسفة وكبار المؤرخين في الديانة الإسلامية شهادة علنية
على أن الدين الإسلامي دين الترقي والمدنية. هذه هي آثار الدين وآثار أهله الذين
تمسكوا به ، وأما حقيقة الدين فهي كما قال مسيو مسمير رئيس الإرسالية المصرية
ردًّا على الفيلسوف أرنست رينان في خطبة له في جمعية العلماء: (نحن مَعَاشِرَ
المحققين من الفلاسفة نقول: إن من تأمل كلام القرآن رأى أن محور الإسلام
الوحدانية وقطبيه المؤاخاة وتحسين شئون العالم بالتدريج بواسطة العِلْم وهذه هي
حقيقة أسباب نصرة الإسلام) .
وقال كاتب آخر من مشاهير كتاب الغرب في مجلة (الكوارترلي رفيو) في
مقالة عنوانها: (الأسباب الحقيقية في ارتفاع وانحطاط الأمم الإسلامية) : لما كان
الدين الإسلامي جامعًا بين الدين والدنيا كان ذلك من أهم أسباب كثرة الواردين إليه ،
فإن الرجل عندما يسلم يصبح أخًا لثلاث مائة مليون من النفوس ، له ما لهم وعليه ما
عليهم ، وَلَعَمْرِي إن ذلك مما يزيد علائق المَحَبَّة ويربط الهيئة الاجتماعية ، ثم
استدل على ذلك بكلام كتبه بوسويرث سميث في كتابه المسمى (محمد والديانة
المحمدية) لا حاجة لنا بسرده في هذا المقام.
يرى القارئ الكريم من خلال هذه السطور التي كتبناها عن الديانة الإسلامية -
مستندين على أقوال الفلاسفة والحكماء وكبار المؤرخين والكتاب - أن الديانة
الإسلامية تزداد كل يوم في الحجج ، ويشهد العلماء المحققون بروحانيتها حتى إن
المسيو أرنست رينان - الذي حمل حملته على الديانة الإسلامية والعلوم العربية -
كتب بعد أن زَمْجَرَ وأوعد، وأبرق وأرعد: (إن في دين الإسلام أحكامًا رفيعة
المقام ، وما دخلت جامعًا إلا وحصل لي انجذاب لدين الإسلام ، وتأسفت على عدم
كوني مسلمًا لولا أن هذا الدين أَخَّرَ العقل البشري، وحجبه عن التأمل في حقائق
الأشياء) ولكن عبارة مسيو رنان الأخيرة ليس لها أدنى نصيب من الصحة ، وقد
علم من كلامنا الذي أسلفناه الجواب الشافي من علة المسيو رنان.
وإلى هنا نمسك عِنَان اليَرَاع عن الخوض في هذا الموضوع؛ فإن في ذلك القدر الكفاية لأرباب العقول والهداية.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
علي سيد يوسف
(المنار)
إن حَكِيمَي الإسلام السيد جمال الدين والأستاذ الإمام قد رَدّا في أوربا على
رينان، وقطعا ما جاء به من الزور والبهتان بسيف الحجة والبرهان حتى اضطر
إلى الإذعان، فرحمهما الله وحباهما الروح والريحان.
_________
الكاتب: عالم غيور
كلمات عن العراق وأهله
لعالم غَيُور على الدولة ومذهب أهل السنة
العراق ولا أَزِيدك به عِلْمًا من أفضل الأقطار تربةً ، وطيب هواء ، وعذوبة
ماء ، وبه أنهار عظيمة كدجلة والفرات ورياله وقارون ، تنساب فيه انسياب
الأُفْعُوَان، وتخترق منه كل مكان، غير أن أكثره خراب، ينعق فيه البوم والغراب؛
لعسر المواصلات ، وفقد الأمن ، وحرمانه من نور المعارف والمدنية. والحكومة
فيه كما هي في غيره: عبارة عن شركة سلب ونهب وفساد تعمل في خراب البلاد
وهلاك العباد، وهم في غمرتهم ساهون، وعن الدسائس الأجنبية عَمُون، حتى
أصبح بر العراق كله متسلحًا بالسلاح المارتين مما ترسل به إنكلترا كل حين
بوسائل متوفرة لديها، ووسائط سهلة عليها.
ومن البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق كله حتى أصبح ثلاثة
أرباع أهله شيعيين وذلك بفضل جدّ مجتهدي الشيعة وطلبة العلوم منهم، ومؤازرة
الحكومة لهم، بأخذها على يد أهل السنة عن مقاومة سعيهم، وخفض كلمتهم، وفي
النَّجَف مجتمع مجتهدي الشيعة وفيه من طلبة العلوم ستة عشَر ألفًا. ودأبهم أنهم
ينتشرون في البلاد ويجِدُّون في إضلال العباد، ولذلك يحسب عقلاء العراق أن
القطر قد انسلخ من الدولة ، ولم يبق لها فيه من الرسم إلا الاسم.
ولقد استحكمت النفرة منها في قلوب الجميع فلا يذكرونها بلسانهم، وقلما
يراجعونها في شئونهم، ولقد استطلعت وأنا أتقلب في البلاد طوايا النفوس من أمير
ومأمور، وعالم وجاهل، فوجدت الكل في ضجر وسخط، وملل وهم من صلاحها
يائسون، وبسوء إدارتها ساخرون، وذوو العقول والفضل منهم في كَمَد، قد أرهق
منهم الجسد، وهم شاعرون بضرورة الإصلاح، وأن لا حياة للإسلام
بدونه ولا نجاح، وقد أعدتهم الحوادث والعِبَر لتحسس هذه الروح ، وتلمس المخرج
مما هم فيه، وتراهم مع غلبة اليأس منه لا تزال تتناجى به نفوسهم، وتحنّ إليه
أرواحهم، وتلهج به ألسنتهم، ولكنهم في محيط مظلم وضغط مؤلم، لا يهتدون
الطريق، ولا يجدون الرفيق، ولا يصل إليهم من آثار دعاة الإصلاح إلا النَّزْر
القليل؛ لشدة المراقبة على هذا الأمر الجليل، ولقد تطلبت المنار، فلم أجد له أثرًا في
تلك الديار.
ولقد اجتمعت بكثير من علماء بغداد وعقلائها وأشرافها ، ولم أر فيهم أجمع
لفنون الفضل، وصفات الكمال كشكري أفندي الآلوسي وابن عمه الحاج علي أفندي ،
فلقد رأيت من سَعَة اطلاعهما ، وقوة دينهما ، وسلامة عقيدتهما السلفية ، واستنارة
عقولهما ، ووقوفهما على حكمة الدين وأسراره، واطلاعهما على أمراض الإسلام
والتهابهما غيرة وحمية على الدين ، ومجاهدتهما في سبيله فريقًا من الجامدين من
المقلدة وعباد القبور - ما بهرني وعشقني فيهما.
ولقد أوذوا في هذا السبيل ، وامتحنوا فما ضعفوا وما استكانوا ولا يزالان
يصدعان بالحق ، ويهتفان بضرورة الإصلاح مع منازعة اليأس لهما. وأعداؤهما
من عبدة القبور والأوهام وأنصار التقليد والخرافات ينبذونهم باسم الوهابية؛
لينفروا منهم، ويحرضوا الحكومة على اضطهادهم غير أن حزبهم من ذوي
العقول النيرة وطلاب الإصلاح أخذ ينمو عدده، ويكثر عضده، وكلهم أَوْجُلُّهم من
الأعيان، وذوي المكانة ورفعة الشأن، ولم أر أحدًا يقدر مؤلفات ابن تيمية وابن
القيم قدرها مثلهما ولهما تعشق غريب فيها، وقد سعيا في طبع الكثير منها، وهمتهما
مصروفة وراء تتبعها والسعي في طبعها لا طمع لهما في ذلك سوى خدمة العلم
والدين ، فَلِلَّهِ دَرُّهُمَا وعلى الله أجرهما
…
ولشكري أفندي قوة على التأليف عجيبة وقد ألّف في رمضان ردًّا على الشيخ
يوسف النبهاني في سبعين كراسًا بياضًا من دون تسويد ، وقد تكفل بطبعه أحد تجار
جده فأرسله إليه ، وهو كتاب نفيس يقضي على النبهاني قضاءً لا يسمع له
صوت من بعده؛ والسبب في ذلك أنه ألَّف رسالة في تضليل ابن تيمية وابن القيم ،
وانتقصهما ما شاء ، ثم عدّ من مصائب الدين انتداب بعض الزائغين في زعمه لنشر
مؤلفاتهما وتمثيلها للطبع ، وندد بالشيخ نعمان أفندي الآلوسي رحمه الله لتأليفه كتاب
(جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) وذمه وذم عائلته ، وذكر أنهم أصيبوا بالمحن ،
فلم يعتبروا ، ولا اتعظوا ، ويزعم أنه من مجددي الدين في هذا العصر. وهكذا
بلغ به الغرور إلى هذا المبلغ والجنون فنون. اهـ ما أردنا نشره من هذه الرسالة ،
ويليه كلام حسن في الأستاذ الإمام والمنار وصاحبه يتعلق بالإصلاح أضربنا عن
ذكره مع حمد كاتبه وشكره.
ونقول: قد ذكرتنا هذه الرسالة بما كنا كتبناه في المجلد الثاني من المنار (في
رمضان سنة 1317) من نشر مذهب الشيعة في العراق وهذا نصه:
قرأنا في بعض الجرائد أن الدولة العلية قد عزمت على إرسال بعض العلماء
إلى سَنَاجِق البصرة والمنتفك وكَرْبَلَا لإرشاد القبائل الرحالة هناك ، وقرأنا في بعضها
أنه قد صدرت الإرادة السنية بذلك فعلاً ، ونحمَد الله تعالى أن الدولة العلية قد تنبهت
لهذا الأمر قبل أن يخرج من يدها بالمرة ، فقد سبقها الشيعة ، وبثوا الوعاظ
والمرشدين في هذه القبائل وغيرها من العُرْبَان الضاربين على ضفاف الدجلة
والفرات فأدخلوا معظمهم في مذهب الشيعة.
يذهب المُلا الشيعي إلى القبيلة ، فيمتزج بشيخها امتزاج الماء بالراح بما
يسهل عليه من أمر التكاليف الشرعية ويحمله على هواه فيها كإباحة التمتع بالعدد
الكثير من النساء الذي له الشأن الأكبر عند أولئك الشيوخ ، وغير ذلك؛ حتى يكون
وليجته وعيبة سره ومستشاره في أمره ، فيتمكن المُلَاّ بذلك من بث مذهبه في القبيلة
بأقرب وقت ، ويكتفي من السياسة غالبًا بإفهام القوم أن رئيس طائفة الشيعة
المحقة شاه العجم ورئيس الطائفة الأخرى المسماة بالسنية السلطان عبد الحميد ،
ولا شك أن هؤلاء يكونون عونًا لرئيس مذهبهم إذا وقع نزاع (لا قدر الله) بينه
وبين رئيس المذهب الآخر وإن كانوا في بلاد الآخر ، ويمكن للدولة العلية أن تتدارك
الأمر بعض التدارك إذا كان الذين تختارهم للإرشاد والتعليم أهل حكمة
وغيرة حقيقية يهمهم الإصلاح والإرشاد ، بحيث يقدمونه على منافعهم الشخصية على
أن الذي يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة لا يحرم من أجر الدنيا ، بل ربما كان
نجاحه أتم ، وقد استغنى جميع دعاة الشيعة في تلك القبائل مع حصولهم على غرضهم
في نشر المذهب. وليبدأ دعاة الدولة العلية بمن على الفرات ، فإن فيهم عددًا
كبيرًا لم يزل على مذهب أهل السنة، والله الموفق. اهـ (من ص687م2) .
هذا ما كتبناه من نحو تسع سنين. ونقول الآن: إن أكثر من أجابوا دعوة
علماء الشيعة هناك لم يكونوا على شيء من مذهب أهل السنة ، فإذا كان أولئك
الدعاة يبثون فيهم الوعاظ يعلمونهم الفرائض وأحكام الحلال والحرام ، فإن ذلك يكون
خيرًا لهم في دينهم من الحالة التي كانوا عليها، فنحن لا نعد الأمر من الجهة الدينية
بلاءً نازلاً كما عدَّه الأستاذ كاتب الرسالة ، ولكن الأمر مهم من الجهة السياسية؛ فإن
السياسة هي التي كانت ولا تزال مَثَار الخلاف بين أهل السنة والشيعة ، ولولاها لَمَا
كان خلاف وما أضاع الدين والدنيا علينا إلا الخلاف.
وقد كان طلاب الإصلاح بالوحدة الإسلامية مغتبطين بما حصل هذه في السنين
الأخيرة من التآلف والتعارف بين الفريقين ، حتى وقع أخيرًا ما وقع من التعدي على
الحدود ، فباتوا يخشون أن تهدم السياسة السوءى في سنة واحدة ما بناه دعاة الإصلاح في عشرات من السنين. فنسأل الله أن يقي الإسلام شرها ويكفي المسلمين فتنتها
وضرها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من الحجاز
القُطْب والأبدال والأنجاب والخَضِر وسند أهل الطريق
(س 1 - 7)
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
حضرة الأستاذ الحكيم والمصلح العظيم علامة الزمان سيدي العزيز السيد
محمد رشيد رضا منشئ المنار حفظه الرب المنان.
أحييكم تحية تليق بمقامكم الكريم، وأسأل الله تعالى أن يحفظكم بحفظه
السَّرْمَدِيّ ، وأن يهدي الله بكم الضالين. وها أنا ذا مقدم لمقامكم الكريم أسئلة ذات
بال نرجوكم الجواب عنها على صفحات مناركم المنير:
ذكر الشيخ يوسف النبهاني في كتابه شواهد الحق (ص101) أحاديث استدل
بها على وجود الأقطاب والأبدال والأنجاب والأوتاد والنقباء ، ووجود الخضر عليه
السلام ، وهذا لفظها:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن
لله تعالى في الأرض ثلاثمائة قلبهم على قلب آدم ، وله أربعين قلوبهم على قلب
موسى ، وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم ، وله خمسة قلوبهم على قلب جِبْرَائِيلَ ،
وله ثلاثة قلوبهم على قلب مِيكائيل ، وله واحد قلبه على قلب إسرافيل ، فإذا مات
الواحد أبدل الله سبحانه وتعالى مكانه من الثلاثة. إلخ.
عن علي رضي الله عنه أنه قال: البدلاء بالشام ، والنجباء بمصر ،
والعصائب بالعراق ، والنقباء بخُرَاسان ، والأوتاد بسائر الأرض ، والخضر عليه
السلام سيد القوم. إلخ
ولم يذكر النبهاني سندًا ، ولا من أي كتاب من كُتُب الحديث أخرجها ،
فأرجوكم أن تفيدوني: هل تصح هذه الأحاديث؟ وهل الخضر عليه السلام حي إلى
هذا الزمان؟ وما قولكم فيمن يُكذِّب بوجود الخضر وغيره من الأقطاب؟ نرجوكم
الجواب الكافي الشافي.
وفي كتاب النبهاني شواهد الحق ص132 يقول: إن الشيخ الأمير أجازه
بثبته ، وما اشتمل عليه من علوم الشريعة والطريقة ، ومن معقول ومنقول وذكر سنده
من الأمير إلى الحسن البصري عن سيدنا علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
عن جبريل ، عن ميكائيل ، عن إسرافيل ، عن عزرائيل ، عن اللوح ، عن القلم ،
عن الرب الجليل جل جلاله ، وتقدست صفاته وأسماؤه.
أرجوكم أن تفيدوني عن هذه الإجازة بهذه الصيغة المذكورة ، هل هي معتبرة
عند المحدثين ويعمل بها ، أم هي ضرب من الخرافات؟ وما على من أنكرها؟
وهل يصح اجتماع الحسن البصري بسيدنا علي أم لا؟ ؛ أفيدوني ، ولكم الأجر
سيدي.
في كتاب النبهاني صحيفة 130 قال: ومن كتب الإمام ابن تيمية كتاب العرش ،
قال في كشف الظنون: ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلس على العرش ، وقد
أخلى مكانًا يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر ذلك أبو حيان في
النهر في قوله سبحانه وتعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (البقرة:
255) وقال، يعني أبو حيان: قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية ما صورته
بخطه. انتهت عبارة كشف الظنون ، ثم نقلها من طريق آخر عن السبكي
وحط على الشيخ ابن تيمية ، ونسبه إلى القول بالتجسيم وهو بَرَاء من ذلك.
فلما رأيت هذه العبارة بحثت عن كتاب العرش ، ووجدته عند بعض
الأصدقاء ، فقرأته مِرَارًا ، ونسخته بيدي من النسخة ، وما وجدت لهذه العبارة رائحة ،
والنسخة التي قرأتها ونسختها هي بخط يماني بدون نقط الظاهر أنها من عهد قديم ،
وكادت أن تمزق من قِدَمِها ولحقتها الأَرَضَة. فما قولكم في هذه العبارة؟ أيجوز نسبتها
إلى هذا الإمام بعد أن بحثنا عنها ، فما وجدناها في كتابه؟ أفيدوني ولكم الأجر
سيدي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محبكم بالحجاز
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... م ح ن
(أجوبة المنار)
نقول قبل كل شيء: إن الشيخ يوسف النبهاني لا يوثق بعلمه ولا بنقله، ولا
ينبغي أن تحفلوا بكتبه، وقد سُئِلْنا غير مرة عن بعض الخرافات التي يبثها في كتبه
الملفقة ، فلم نجب السائلين بشيء؛ إذ كان يتوقف ذلك على مراجعة الكتب التي يسألون عما ورد فيها ، وأي عاقل يسمح بإضاعة وقته في مراجعة تلك الكتب. أما
وقد ذكرتم في هذا الرقيم ما سألتم عنه؛ فإليكم الجواب ، والله الهادي إلى الصواب.
أما الجواب عن السؤال الأول ، فاعلم أنه قد ورد في الأبدال عدة روايات لا
يصح منها شيء ، وإن أشار في كنز العمال إلى تصحيح حديث علي عند أحمد
(الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً ، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً
يسقي بهم الغيث ، وينتصر بهم على الأعداء ، ويصرف عن أهل الشام بهم
العذاب) وفي رواية عنه إنهم ستون. وفي رواية عن عُبَادة عند أحمد ، وأخرى
عن أبي هريرة أنهم ثلاثون أخرجها عنه ابن حبّان في تاريخه.
ولم أرَ أحدًا من المحدثين الحفاظ خرج ما ذكره النبهاني عن علي ، ولكن ذكره
ابن حجر الهَيْتَمِيّ في الفتاوى الحديثية على أنه من كلام علي كرّم الله وجهه ، لا من
روايته المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك حديث ابن مسعود لم أر
من أخرجه عنه باللفظ الذي ذكره. ولكن ابن حجر أورده في فتاواه بعد أثر علي
عازيًا إياه إلى اليافعي (وذكر في نسخة الفتاوى المطبوعة بمصر الرافعي وهو غلط
مطبعي) ، ولم يقل عن ابن مسعود ، ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
وكان ابن حجر نقل عن اليافعي أن الأبدال سبعة على الأصح؛ ولذلك قال
بعد أن أورد حديثه: (والحديث الذي ذكره - إن صح - فيه فوائد خفية ، منها
أنه مخالف للعدد السابق قبله ، ومنها أنه يقضي أن الملائكة أفضل من الأنبياء، يَعْني
خلافًا لجمهور أهل السنة) . إلى آخر ما قاله على تقدير صحة الحديث ، وما
هوبصحيح ، فلا حاجة إلى التعب في استنباط الفوائد والمباحث فيه. ثم قال ابن حجر
بعد بحثه فيه: واعلم أن هذا الحديث لم أر من خرجه من حفاظ المحدثين الذين
يُعتمد عليهم ، ولكن وردت أحاديث تؤيد كثيرًا مما ورد فيه.
وذكر ما ورد وحاول تقويته بالحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من
طرق كثيرة ، وهو: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق ، لا يضرهم من
خذلهم ، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ، وهم ظاهرون على الناس) ثم نقل
عن الإمام أحمد أن الأبدال هم أهل الحديث ، وعبارته: (إن لم يكونوا أهل الحديث ،
فمن هم؟) واعتمد ابن حجر أن الخلاف في العدد من قبيل الاصطلاح.
ثم ذكر واقعة له مع مشايخه في ذلك، نذكرها هنا لِما فيها من الدلالة على
أنهم كانوا يقلدون المتصوفة في هذه المسائل من غير أن يقوم عليها دليل من النقل.
قال:
(ولقد وقع لي في هذا المبحث غريبة مع بعض مشايخي هي أني إنما رُبِّيت
في حجور بعض أهل هذه الطائفة - أعني القوم السالمين من المحذور واللوم - فوقر
عندي كلامهم؛ لأنه صادف قلبًا خاليًا فتمكن. فلما قرأت في العلوم الظاهرة وسني
نحو أربعة عشر سنة (كذا) فقرأت مختصر أبي شجاع على شيخنا أبي عبد الله الإمام
المجمع على بركته وتنسكه وعلمه الشيخ محمد الجويني بالجامع الأزهر بمصر
المحروسة ، فلازمته مدة ، وكان عنده حدة ، فَانْجَرَّ الكلام في مجلسه يومًا إلى ذكر
القطب والنجباء والنقباء والأبدال ، وغيرهم ممن مر ، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك
بغلظة ، وقال: (هذا كله لا حقيقة له ، وليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه
وسلم) فقلت له - وكنت أصغر الحاضرين معاذ الله بل هذا صدق وحق لا مرية
فيه؛ لأن أولياء الله أخبروا به ، وحاشاهم من الكذب. وممن نقل ذلك الإمام اليافعي ،
وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة.
فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه علَيّ ، فلم يَسَعني إلا السكوت فسكتُّ وأضمرت أنه
لا ينصرني عليه إلا شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين وإمام الفقهاء والعارفين أبويحيى
زكريا الأنصاري ، وكان من عادتي أني أقود الشيخ محمد الجويني لأنه
كان ضريرًا ، وأذهب أنا وهو إلى شيخنا المذكور - أعني شيخ الإسلام زكريا -
يسلم عليه. فذهبت أنا والشيخ محمد الجويني إلى شيخ الإسلام ، فلما قربنا من
محله قلت للشيخ الجويني: لا بأس أن أذكر لشيخ الإسلام مسألة القطب ومن دونه
وننظر ما عنده فيها. فلما وصلنا إليه أقبل على الشيخ الجويني ، وبالغ في إكرامه ،
وسؤال الدعاء منه ، ثم دعا لي بدعوات منها:(اللهم فقهه في الدين) وكان كثيرًا ما
يدعو لي بذلك، فلما تم كلام الشيخ ، وأراد الجويني الانصراف قلت لشيخ الإسلام:
يا سيدي القطب والأوتاد والنجباء والأبدال وغيرهم مِمن يذكره الصوفية هل هم
موجودون حقيقةً؟ فقال: نعم ، والله يا ولدي، فقلت له: يا سيدي إن الشيخ -
وأشرت إلى الشيخ الجويني - ينكر ذلك ويبالغ في الرد على من ذكره. فقال شيخ
الإسلام: هكذا تفعل يا شيخ محمد؟ وكرر ذلك عليه حتى قال له الشيخ محمد: يا
مولانا شيخ الإسلام آمنت بذلك وصدَّقت به وقد تُبْت. فقال: هذا هوالظن بك يا
شيخ محمد. ثم قمنا ، ولم يعاتبني الشيخ الجويني على ما صدر مني. اهـ
فيؤخذ من هذه الواقعة أمور (منها) : أن ابن حجر الهيتمي تربى في حِجر
بعض أهل الطريق ، وصار تقليدهم وجدانًا له لا يقبل فيه قول مشايخه ، وإن كانوا
عنده من أئمة العلم والعمل والتنسك كالشيخ الجويني ، وهذا هوالسبب في إنكاره
الشديد على شيخ الإسلام ابن تيمية ، الذي كان لا يقبل في الدين شيئا إلا إذا ثبت في
الكتاب أوالسنة نصًّا أودلالة. ومن اتبع وجدانه وشعوره النفسي في الأمر لا يقبل
فيه دليلاً وقد قال الأستاذ الإمام: (إن غاية التصوف جعل الدين وجدانًا للإنسان
الذي يتربى عليه ، لا يقبل فيه مناقشة ولا جدالاً) وهذا حسن إذا لم يدسّ في
الدين ما ليس منه.
(ومنها) بيان أنه كان يوجد في علماء الأزهر الأعلام الصالحين إلى ذلك
العصر من ينكر جَهْرًا على من يقول بوجود القطب والأبدال وأضرابهم.
(ومنها) أن سؤال شيخ الإسلام زكريا عن المسألة كان مبنيًّا على أن ما
يقوله الصوفية في القطب والأبدال صحيح أم لا لا على أن ذلك هل صحّ في
الأحاديث أم لا. وكذلك كان جواب ابن حجر لشيخه الجويني ، فقد قال له: إن
الأولياء أخبروا بذلك وحاشاهم من الكذب. ولم يقل: إن ذلك قد صح في الحديث.
وهذا يوافق قوله الذي أشرنا إليه آنفًا في الاختلاف في عدد الأبدال أنه من
الاصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح.
(ومنها) أن شيخ الإسلام لم يحتج على الشيخ الجويني بحديث في ذلك.
ونحن نقول أيضًا: إن الصوفية اصطلحوا على وضع هذه الأسماء لمسميات ،
اعتبروا فيها صفات خاصة ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، كما قال ابن حجر.
وجملة القول أن حديث ابن مسعود الذي أورده النبهاني لم يروه الحُفّاظ عنه ،
فهو مُخْتَلق عليه ، وإن حديث علي لم يَرِد أيضًا باللفظ الذي أورده النبهاني ، بل
ورد بألفاظ أخرى أقواها ما أخرجه الإمام أحمد ، وقد تقدم. ومن هنا تعلم أن
النبهاني لا علم له بالحديث ، وإنما هو حاطب ليلٍ لا يوثق بنقله ، كما لا يُوثق برأيه ،
ولا يُعتد باختياره؛ فإنه مقلد للمقلدين الذين يروجون الخرافات وكل ما يحظى
صاحبه عند العامة. فهذا هوالجواب عن السؤال الأول.
وأما الجواب عن الثاني ، وهو: هل الخضر في الأحياء إلى اليوم؟
فاعلم أن العلماء قد اختلفوا فيه ، فنفاه بعضهم ، وأثبته آخرون ، ولكن لم يقل
أحد: إنه يجب على الناس الإيمان به. والنفي هوالأصل ، وليس عند المثبتين دليل
من كتاب الله ، ولا من الأحاديث التي يُحتج بها ، ولا من الإجماع الأصولي (كيف
والمسألة خلافية) والقياس لا مدخل له في المسألة ، فدعوى وجود الخضر في
الأحياء لا تقوم لها حُجة شرعية ، وإنما تبع القائلون بها الصوفية؛ لِثقتهم بهم في
كل شيء ، حتى إنهم لا ينكرون عليهم ما يخالف الشرع مخالفة صريحة ، بل
يؤولونه إن لم يؤولوا النص الشرعي.
على أن بعض الصوفية يقولون: إن الخضرية مقام أومرتبة لبعض الصالحين يطلق لفظ (الخضر) على كل من يصل إليها. فما ذكر من اجتماع بعض الصوفية
بالخضر يفسر بذلك. ومنهم الشيخ الأكبر صاحب الفتوحات المكية؛ فإنه
يذكر أنه اجتمع بالخضر كثيرًا ، ويذهب بعضهم إلى أنَّ مراده بذلك الاجتماع
الروحاني ، كما يقول: إنه اجتمع بفلان ، وفلان من الأنبياء. وغيرهم ممن علم
موتهم باليقين كالسبتي ابن هارون الرشيد ، فإنني قرأت له في الفتوحات أنه رأى
إنسانًا يطوف بالبيت مع الطائفين ، فينفذ من بين الرجلين المتلاصقين من غير أن
يفصل بينهما أو يشعرا به فعلم أنه روحاني ، فتبعه حتى كلمه وعلم أنه السبتي ابن
هارون الرشيد.
وقد أطال السيد الآلوسي الكلام في المسألة في تفسيره روح المعاني ، فكتب فيها
عدة أوراق لعله أودعها كل ما قيل فيها ، وخرج منها على أنه لا دليل على وجود
الخضر حيًّا لا من الشرع ولا من العقل.
وأما الجواب عن الثالث ، وهو ما حكم من يكذب بوجود الخضر وغيره من
الأقطاب؟ فقد علم مما مر أنه لا يطالب مسلم بأن يؤمن بذلك ، ولم يقل أحد من أئمة
الأصول والكلام: إن ذلك من عقائد المسلمين. فلا شيء على من كذب ذلك، وقد
رأيت أن الشيخ الجويني كان ينكر ذلك وهو معدود من أئمة العلماء الصالحين
بالأزهر ، ولولا واقعة ابن حجر معه التي استتبعت معاتبة شيخ الأزهر أو شيخ
الإسلام زكريا لبقي على إنكاره ككثير من العلماء.
وأما الجواب عن الرابع ، وهو: هل إجازة أهل الطريق التي ذكرها النبهاني
معتبرةً عند المحدثين؟ وعن الخامس وهو هل أخذ الحسن البصري عن علي كرم
الله وجهه؟ فجوابهما: (لا لا) . قال الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة
المتعارفة عند الصوفية باطل لا أصل له. قال ابن حجر: (لم يرد في خبر صحيح
ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة
المتعارفة بين الصوفية أحدًا من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعل ذلك.
وكل ما يُروى في ذلك صريحًا فهو باطل) ، وقال: (من المفترى أن عليًّا ألبس
الخرقة الحسن البصري. فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا ، فضلاً عن أن يلبسه الخرقة) ، وقد صرح بمثل ما ذكره ابن حجر جماعة من الحفاظ
كالدمياطي ، والذهبي ، وابن حبان ، والعلائي ، والعراقي ، وابن ناصر. اهـ
وأما الجواب عن السادس - وهو (ما على من أنكرها) أي إجازة الصوفية
بخرقتهم عن الحسن عن علي - فقد علم جوابه مما قبله ، وهو أنه ليس على المنكر
لذلك إلا ما على كل من ينكر الأحاديث الموضوعة المعزوة إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم - كذبًا وافتراءً عليه ، وهل عليهم إلا الثناء الحسن؟
وأما الجواب عن السابع ، وهو: أيجوز نسبة تلك العبارة في التجسيم إلى شيخ
الإسلام ابن تيمية بعدما وجد كتاب العرش التي قيل إنها فيه ، فتبين أنها ليست فيه؟
فجوابه أن ذلك لا يجوز ، بل كان من الأدب مع هذا الإمام الجليل أن يبرأ من مثل
هذه العبارة وإن وجدت في كتاب معزو إليه، ويحكم بأنها مدسوسة في ذلك الكتاب
عليه، فقد عهد من المضلين أن يدسوا في كتب المشهورين، كما وقع للشعراني في
حياته وأثبت هو وغيره وقوع ذلك لغيره.
كيف لا ، وإن بين أيدينا كُتبًا كثيرة في التوحيد من مصنفات ابن تيمية ، وكلها
مؤيدة لمذهب أهل السنة الصحيح وسلف الأمة الصالحين لا تعدوه قط.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إلى الأحرار في روسيا وفي البلاد العثمانية
وفي سائر البلاد [*]
أيها الإخوان ، نخبركم بمزيد الأسف أن الدستور الإيراني الجديد صار على
شفا السقوط بسعي الحكومة المستبدة. نعم إن حكومتنا الإيرانية المستبدة لضعيفة
أمام حزب المجاهدين الإيرانيين. ولكن ما الحيلة والحكومات المستبدة تتعاون وتتحد
على اضطهاد الفقراء، واستئصال المطالبين بالحرية والعدل.
كانت الحكومات المستبدة المجاورة لفرنسا تساعد إمبراطور فرنسا على محاربة
طلاب الحرية ، كذلك تساعد الحكومة الروسية والحكومة العثمانية حكومة إيران
المستبدة على إسقاط الدستور الإيراني ، وتبديد شمل أحزاب الاشتراكيين
الديموقراطيين في إيران.
أيها الإخوان ، إذا كانت الحكومة المستبدة تتعاون على محافظة استبدادها
ومصالحها ، فماذا يكون إذا نحن معاشر الأحرار اتحدنا على محاربة الاستبداد
والمستبدين ، فنحن معاشرَ حزب الاشتراكيين الديموقراطيين الإيرانيين نرجو من
إخواننا الأحرار في روسيا والبلاد العثمانية ، وغيرها من البلاد باسم الإنسانية
والحرية ، والنصيحة للنوع البشري أن يساعدونا في هذا السبيل ، ويظهروا امتعاضهم
واستياءهم من الحكومتين الروسية والعثمانية اللتين لا تألوان جهدًا في السعي لإسقاط
الدستور الإيراني بالتداخل في أمور إيران الداخلية ، نحن معاشر المجاهدين نرفع
أصواتنا على عتبة مجلس الشورى الإيراني قائلين:
ليحيا جميع الأحرار والناصحين لوجه الإنسانية على وجه البسيطة ، لتحيا
الجمهورية الديموقراطية ، ولتسقط الحكومة المقلقة ، وليسقط الأغبياء الظالمون
حزب الديموقراطيين الاشتراكيين الإيراني 28 ذي الحجة سنة 1325.
_________
(*) جاءتنا هذه الرسالة باللغة التترية ، فترجمناها ونشرناها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فقيد الصحافة والوطنية
مصطفى باشا كامل
ما لنا لا ننتهي من نعيٍّ إلا إلى نعيٍّ، ولا نفرغ من ترجمة مبكيٍّ إلا ونفجأ
بتأبين مبكيٍّ، وما بال (أم لهيم) تلتهم من المسلمين أشهر الكتاب والسياسيين، فها
هي ذي قد اغتضرت اليوم أندى الصحافيين المصريين صوتًا ، وأبعدهم في عالم
السياسة صِيتًا، وأشدهم في دهماء بلده تأثيرًا، وأكثرهم وليًّا ونصيرًا، مصطفى
باشا كامل صاحب جريدة اللواء العربية ومدير جريدتي اللواء الفرنسية والإنكليزية، ورئيس الحزب الوطني الذي تأسس في مرض مماته واختاره رئيسًا له مدة حياته.
قضى رحمه الله تعالى عن أربع وثلاثين ربيعًا قضى نصفها في السياسة،
ونصف هذا النصف في الصحافة باذلاً فيما أخذ فيه جميع أوقاته مفرغًا فيه
منتهى وجدانه وشعوره، وما زال الشعور والوجدان أقوى المؤثرات في الإنسان،
وقد أعجب بخطته في اللواء جمهور القارئين، ثم تحزبت له نابتة كبيرة من
المتعلمين، بل عشقه بعض طلاب الحقوق عشقًا، وملك قلوبهم ملكًا، فظهر أثر
تحزبها في تشييع جنازته بمظهر غريب، ما رؤي مثله من نسيب ولا قريب، حتى
أثرت حالهم في جميع المشيعين، وجذبت قلوب الناظرين، بل استعبرت المقل
الجامدة، وسعرت الأفئدة الخامدة، بل كان لهم بعد ذلك سلطان على أكثر الجرائد
المصرية، حتى المخالفة للفقيد في آرائه السياسية، ومن كان بينه وبين أصحابها
مناصبة شخصية، بل صار لهم ظهور سياسي يرجو الجذع نائله، ويخشى القارح
عقابله، ومشى في جنازته خلق كثير في مشهد لم يعهد له نظير، حمل فيه تلاميذ
المدارس رايات للحداد يعلوها السواد، وقدر عدد من شهد الجنازة بخمسة عشر
ألفًا، ورأى بعضهم أنهم يناهزون ثلاثين ألفًا.
كان رحمه الله تعالى مصداقًا بينًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما
خلق له) . فقد كان في سن الدراسة يحدث نفسه بالسياسة، ويمنيها بالرياسة،
فيحدو به ذلك إلى مثافنة الكبراء، ويزجيه إلى مناقشة الرؤساء والوزراء حتى
فتحت له السياسة وهو في مدرسة الحقوق أبوابها، وزينت له بأن يكون طَلابها،
فآثر لحبها التناوة على المذاكرة بجد وعناية، حتى ظهر أثر ذلك في الامتحان،
على ما كان من اللوذعة وجرأة الجنان على أنه نال بعد ذلك شهادة الحقوق في
مدرسة طولوز الفرنسية.
وكان كبير النفس، طموحًا إلى المعالي، جريء الجنان، طلق اللسان، قوي
الشعور والوجدان، متلافًا للمال إذا اقتضت الحال، فهذه هي الصفات الفطرية
التي أهلته لتلك الغاية الكسبية بافتراص الحوادث، ومواتاة الوقائع، ومساعدة
الزمان، واستعداد البيئة والمكان.
أما استعداد البيئة ، فمنشؤه أنه كان قد سبق لهذا الشعب حركة حيوية،
ونهضة اجتماعية أدبية تلتها يقظة وطنية أنتجت ثورة شعبية عسكرية، وعقب
ذلك احتلال الإنكليز للبلاد؛ وإيقاف حركة ذلك الاستعداد، فسكتت الألسنة وسكنت
الأقلام، وغلت الأيدي، وقيدت الأقدام، ولكن هذا الوقوف كان في الظاهر، دون ما
تنطوي عليه السرائر من ضغائن مضطربة، وحفائظ مضطرمة، وأوهام مفزغة،
وأحلام مزعجة، مع مجاراة الأمير توفيق للاحتلال، ومواتاته له في كل حال.
فبعد أن قضى الأمير توفيق وولي الأمير عباس دخلت البلاد في عهد جديد
من الحركة الوطنية تجلت فيه كتجليات الحقيقة الكلية، فكان تجليها الأول هو
التجلي العام الذي ظهر في الخواص والعوام، وكان لسانه الناطق جريدتا المؤيد
والأهرام، ثم فتر التجلي في جميع الطبقات، ثم ظهر في طبقة الضباط وقتًا من
الأوقات، ثم فتر طائفة من الزمان، ثم ظهر في مظهره الذي هو عليه الآن بأن
نفخت روحه في الناشئين، ففعلت فعلها في غير أصحاب العمائم من المتعلمين،
لأن هؤلاء لا يعرفون لهم جنسية إلا في الدين، وقد كان مصطفى كامل رحمه الله
هو المجلي، في ميدان هذا الطور من أطوار التجلي، ثم صار داعية النابتة إلى هذه
الوطنية وهاديها، أو سائقها وحاديها، وهي هي فوق المدعو والهادي، وأمام
المسوق والحادي.
وقد كنت أُعجبت بما رأيت من تجلي الوطنية أول مقدمي لهذه البلاد ، فكتبت
فيها مقالة في المؤيد عنوانها (الحياة الوطنية) أُعجب بها كثيرون حتى استظهرها
بعض أساتذة المدارس الأميرية، ثم رأيت الدعوة موجهة إلى جعل الوطنية جنسية
للمسلمين، فأنكرتها في المنار بالبرهان المبين، وأكثرت من الكتابة فيها حتى في
تفسير القرآن، ولا ينبغي لي الخوض في ذلك الآن.
عرفت مصطفى كامل في السنة الأولى من هجرتي لهذه البلاد ، وكنت أَراه
كثيرًا في إدارة المؤيد إذ كنت أطبع المنار في مطبعة الآداب وكان معجبًا بالمنار حتى
كان يهنئني أحيانًا ببعض المقالات ، ويقول لي: إنك قادر على خدمة الإسلام أنفع
خدمة وأجلها ، ولكن الكتابة لا تكفي وحدها ، فاطلب من الشيخ محمد عبده أن
يجعلك خطيبًا في أحد المساجد الكبيرة؛ فإن له نفوذًا يمكنه من ذلك ، وهو صاحبك
فيما أرى ، ولو كان لي به صحبة لطلبت لك منه ذلك، ومن هذه العبارة يعلم رأيه في
تأثير الخطابة.
ثم أصدر جريدة اللواء - والمنار يومئذ في أصيل سنته الثانية - فنصحت له
في تقريظها بأن يتتبع ما يكتب في الجرائد الأوربية عن الإسلام ، ويترجمه
لجريدته ليكون لها امتياز عن غيرها من الجرائد الإسلامية ، وأن يترك ما اشترطه
من عدم إرسالها إلا لمن يدفع الاشتراك سلفًا ، فساءه ذلك ، ولكنه علم بعد التجربة
أنه لباب النصيحة.
وانتقدت عليه الإرجاف بمسألة الخلافة العربية؛ إذ كان كتب أن في مصر من
يسعى لها سعيها ، وبينت له وجه الضرر في ذلك الإرجاف، فكبر عليه ذلك ، وقطع
المبادلة الصحافية بيننا وبينه ، وأنحى علينا بعد ذلك كثيرًا؛ لما كان عليه - عفا
الله عنه - من الشدة على من خالفه ، ولو مهضومًا، ونصر من وافقه ظالمًا كان أو
مظلومًا، وكان الأول من أسباب بُطْء انتشار اللواء، على ما كان فيه من مواضع
إعجاب الدهماء، كالمبالغة في ذم المحتلين، وانتقاد الحكومة، ومدح الأمة،
وتحامي الانتقاد عليها، والتنويه بالاستقلال، والتعجيل بطلب محو الاحتلال، ولكن
اللواء صار في هذه المدة الأخيرة من أهم الجرائد المصرية وأكثرها انتشارًا.
فرحم الله مؤسسه ، وعفا عنه! ولعلنا نوفق بعدُ إلى كتابة شيء عن العبرة بسيرته في
حياته وموته.
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
تاريخ العرب والإسلام
في سلك القصص والروايات
لأسلوب القصص المعروفة بالروايات تشويق للمطالعة لا ينال منه الملل،
وجذب إلى القراءة لا يخشى معه السأم، فإذا هي أودعت من الفوائد النافعة في
التاريخ والآداب والأخلاق والسياسة وشئون الاجتماع ما يتفق مع اللذة كانت من
أقوى ذرائع تهذيب الجمهور ، ورفع طبقات العامة إلى مستوى يتصلون به مع
طبقات الخاصة حتى تكون الأمة كسلسلة ، إذا تحرك أحد طرفيها انتقلت الحركة
إلى الطرف الآخر.
وإنه ليحزننا أن نرى أكثر القصص أو الروايات كما يقال خالية من هذه الفوائد
مشتملة على كثير من المفاسد، تغري الفتيان والفتيات بالغرام، وتجرئ الحيي على
ارتكاب الحرام، وتعلم الأغرار حيل الشطار.
هذا ، وإننا نحن المسلمين قد أصبحنا وأمسينا أجهل الأمم بتاريخنا، وكيفية
تلك النشأة الصالحة لملتنا، وينابيع تلك الآداب التي أخضعت أمم المدنية لشراذم
من الأعراب؛ ذلك بأن تاريخ تلك النشأة لم ينظم في السلك العلمي الحديث، وإنما
بقي روايات متفرقة كروايات الحديث، لم يرزق مِن فلاسفة التاريخ مَن يستنبط
حكمه، كما رزق الحديث مِن الفقهاء مَن استنبط أحكامه.
فنحن الآن في حاجة إلى وضع تاريخ الإسلام في أسلوب علمي؛ لأجل
الخواصّ، وإلى إيداعه في أسلوب قصصي يسهل تناوله حتى على العوامّ، وقد كان
الوضع الأول آخر عمل توجهت إليه همة الأستاذ الإمام، وفي عزمنا أن نخلفه فيه
إن شاء الله وأمهلتنا الأيام، وأما الثاني فقد شرع فيه صديقنا السيد عبد الحميد
الزهراوي العالم الإسلامي والكاتب الاجتماعي، وقد سمى الرواية الأولى (خديجة
أم المؤمنين) وسننشرها في المنار بالتدريج، وهاك مقدمتها في هذا الجزء:
خديجة أم المؤمنين
(1)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل ثلاثة عشر قرنًا على الحساب القمري حدث في الكون حادث عظيم جدًّا
لم يحدث بعده مثله إلى الآن، وقد كان له دويّ قويّ وأثر كبير في آسيا وأوربا
وأفريقيا، وخلفه انقلاب عظيم في ممالك الأرض، وتغير جسيم في أحوال الأمم
والشعوب. ذلك الحادث هو قيام العرب بعقيدة جديدة وانضمامهم جميعًا إلى كلمة
النبي الذي قام فيهم منهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام ، وشروعهم جميعًا بالهجوم
على الممالك، وفوزهم بهذا الهجوم، وانتصارهم وغلبتهم على الأمم ، وانضمام أمم
كثيرة إلى عقيدتهم وتكوّن ملكهم العظيم من حدود الهند إلى البحر الأطلانتيكي شرقًا
وغربًا ، ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل بحر قزوين شمالاً وجنوبًا في أسرع
ما عرف في التاريخ كله من الفتوحات الكبيرة السريعة.
هذا الحادث العظيم يتلقاه بعض الناس بغير تفكر ، كأنه معتاد الحدوث كثيرًا
فلا يبحث هؤلاء عن سر حدوثه ، ولا يريدون أن يستفيدوا من التدبر والتفكر بسر
ذلك النجاح العظيم الذي أوتيه أولئك القوم بسرعة جديرة أن نشبهها بلمح البصر.
وبعضهم يتلقاه كما هو ، أي: يفهم أنه حادث من أكبر الأحداث التي حدثت في الدنيا ،
ويراه جديرًا بالبحث والتأمل وإمعان النظر ، ولدى التأمل نجد هناك جزئين تمَّ
بهما هذا الحادث العظيم؛ الأول: النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، والثاني:
الذين آمنوا به ونصروه من العرب، وبديهي أن أول مؤمن به هو صاحب الفضل
الأول بعد النبي في إقامة هذا الصرح العظيم.
ومن الأمور التي يحق أن يفخر بها جنس النساء أن هذا الفضل الأول - أي:
السبق بالإيمان به والموافقة له - كان نصيب سيدة من أشراف قومه هي زوجته السيدة
خديجة بنت خويلد من قريش، ولما كانت سيرة هذه السيدة الشريفة المساعدة في وضع
الأحجار الأولى من هذا الحادث العظيم لا تخلو بالبداهة من فوائد جسيمة أزمعت أن
أقدم في هذه الأوراق لمحبي الفوائد الأدبية والاجتماعية والسياسية والتاريخية أعظم
هدية مقتطفًا هذه الثمرات من دوحة حياة هذه السيدة الجليلة ، ولكن رأيت من اللازم
جدًّا قبل دخولي بالقارئ على سيرتها أن أمر به مرة على قومها العرب عامة، ثم
قريش خاصة؛ فإن تعرفه بهم يساعده على معرفة هذه السيدة الجليلة.
* * *
العرب
العرب كسائر الأمم: أوائلهم مجهولة، وأحوالهم منذ عرفوا معروفة. نقف
الآن عند هاتين الكلمتين ونلتفت قليلاً إلى مبحث لطيف نختصر فيه الكلام ، ثم
نعود إلى سياق حديثنا.
يزعم كثير من الأقوام أنهم يعرفون أصول أمتهم إلى أبي البشر الأول ، ومن
الأقوام من يزعمون أنهم يعرفون سلاسل أصول الأمم كلها حتى يصلوا بها إلى
ذلك الأصل الأول.
ومن التزم التحقيق لا يستطيع أن يجزم بشيء مما يذكر عن تلك الأصول
والأوائل، ومن تسامح بتصديق ما يُرْوَى يتشابه عليه الأمْر ، فَيَحَارُ في تصديق
المتناقضات، والترجيح بين المختلفات، ومهما جنح الحريص على المعرفة إلى
الاستئناس بما يمكن قَبوله من الحكايات في هذا الباب لا يستغني عن طرح كثير
منها مما تقوم الأدلة على بطلانه.
لماذا حرص كل الشعوب على معرفة أسلافهم إلى أول أصل؟ لا ندري ،
ولكن يلوح لنا أنه لذَّت للأكثرين دعوى هذه المعرفة؛ فابتدع كل قوم أسطورة في
بيان أصلهم ، ينقلها الآباء للأبناء ، ويسطرونها في كتبهم تسطيرًا.
أما الباحثون عن أنساب الشعوب فلما يئسوا من هذه المعرفة قنعوا بأن
تكون لهم معرفة ما بأصول الشعوب التي وجدوها متقاربة في اللغات وغيرها من
المميزات ، وقد آنسوا من كثرة البحث والاستئناس بالمنقول أن البشر المعروفين
اليوم هم من ثلاث سلالات:
(1)
السامية و (2) الإريانية و (3) التورانية.
وظاهر من هذا أنهم لما أرادوا وضع أسماء للأصول القليلة التي تفرعت منها
هذه الشعوب المعروفة تساهلوا بقبول بعض ما لفق في حكاية البشر مما قبل التاريخ ،
ولكن هذا لا يروي في الحقيقة غليل المحققين ، ولا غليل الخياليين؛ فسيظل
المحققون صابرين على جهل مثل هذا، ويبقى الخياليون مستمسكين بما قد حُكي لهم
من قبلُ ، وربما تسلى محب الحقيقة عن احتجابها برؤية تماثيلها ، وما تماثيلها إلا
أساطير الأولين.
أما نحن ، فنرى أنه لا حاجة للتسلي بتلك الأساطير؛ لأننا إذا اشتهينا المعرفة
فأمامنا - مما قد نستطيع معرفته - ما ننفذ مراحل أعمارنا من غير أن نقطع في
ميدانه شوطًا بعيدًا، وما الوصول إلى غاية في هذا الميدان مما يجوز أن نطمع
فيه.
فإذا أردنا الآن أن نعرف العرب فعلينا قبل كل شيء أن نريح أنفسنا من الطمع
بمعرفة سلسلتهم الآدمية إلى آدم ، أو إلى نوح بالتفصيل ، كما قطعنا طمعها من
معرفة ذلك في سائر الأمم؛ فلهذا لا حاجة إلى ما يذكره علماء الأنساب من كون هذا
الجيل من الأجيال السامية إذ يقال: أَنَّى لهم العلم بسام أبي الشعوب السامية؟ وكيف
يبني أهل الفن مبادئ على شيء غير معروف بالطرق التي تفيد العلم اليقيني؟ وما
أغنى من يريد أن يعرف جيلاً كالعرب عن الاستعانة بأساطير الأولين.
يقول المؤرخون: إن العرب ثلاثة أقسام: (1) بائدة ، و (2) عاربة ،
و (3) مستعربة. أما البائدة: فهم العرب الأُول الذين ذهبت عنا تفاصيل
أخبارهم؛ لتقادم عهدهم وهم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وجرهم الأولى، وأما العرب العاربة فهم عرب اليمن من ولد قحطان، والعرب المستعربة هم ولد إسماعيل بن إبراهيم.
هذا قولهم ، وهو لا يعجبني؛ لأن البائدة ليست موجودة حتى تعدّ ، وإن كانوا
يعدونها؛ لأن منها اشتق غيرها فهذه شهادة بأنها لم تَبِدْ. وقد ذكروا في هذا التقسيم
عرب اليمن من ولد قحطان قسمًا مستقلاًّ ، ولم يذكروا لنا من هو قحطان هذا.
وذكروا أولاد إسماعيل بن إبراهيم قسمًا مستقلاًّ ، ولم يأتوا بدليل قويم على أنه
تفرع من إسماعيل ذرية مستقلة هم العرب المستعربة. وَجُلّ ما ذكروه أن إسماعيل
الذي كان غريبًا في جوار مكة المكرمة تزوج بامرأة عربية من تلك القبائل التي كانت
حولها. فهل انقطع نسل تلك القبائل حتى أصبح لا يذكر إذا ذكر العرب ، ثم تبارك
نسل إسماعيل الغريب وحده حتى صار قسمًا مستقلاًّ هو ثالث ثلاثة أو ثاني اثنين إذا
ذكر العرب؟ لسنا ندري ولكننا نعرف أن هذا من جملة الأقوال التي تكتسب بكثرة
الموافقة في مرور القرون صبغة لا تزول ، فتغر الأكثرين وهي في الحقيقة لا تصبر
على النقد والحك ، فليت أولي الألباب يكثرون من حك هذه المشهورات.
وإنما يعجبني جدًّا في هذا الباب ما روي من أن النبي العربي عليه السلام
كان إذا انتسب يقف عند عدنان ولا يتجاوزه؛ ويقول: (كذب النسابون)[1] ،
ويعني بذلك الذين يزعمون معرفة الأنساب إلى آدم أو إلى نوح.
أما الذي لا يغير النقد من سطوع جوهره شيئًا ، فهو أن العرب يوم ظهر فيهم
النبي الذي أعلى شأنهم كانوا متفرقين في أقطار جزيرة العرب ومنقسمين قبائل
كل قبيلة تذكر لنفسها نسبًا فيه عند رجل معروف لديها، وتمسك عما وراءه.
والمشهور أنَّ لقبائل الحجاز أصلاً، ولقبائل اليمن أصلاً آخر، وللقبائل بعد ذلك
أصول متفرعة من أحد الأصلين. وعرب العراق والشام ترجع إلى أحد هذين
الأصلين أيضًا، فعدنان هو أبو عرب الحجاز غالبًا، وقحطان هو أبو عرب اليمن
والعراق والشام غالبًا.
وإن قال قائل: كيف عرف هذا عن العرب وهم أهل بادية متشتتون متفرقون،
متقاتلون متذابحون، لا ملك لهم جامع، ولا شرع فيهم وازع، ولا يد لهم في
الأعمال الاجتماعية، ولا نصيب لهم في الشئون السياسية، وليس لهم قبل الإسلام
كتاب معروف تدون فيه أخبارهم، وتذكر فيه مآثرهم وآثارهم، فمن أجل ذلك لا
يجوز الثقة بما ينقل ويحكى عنهم ولسنا نعرفهم إلا بالإسلام، فالإسلام قد جمع
الأوزاع من أهل هذه اللغة الواحدة على كلمة الغزو، وهذا لا يثبت أن العرب كانوا
يعرفون لقبائلهم أصولاً ، وأنهم كانوا يتعارفون بأنسابهم؟ ؟
نقول لصاحب هذا القول: إن العرب لم يكونوا مجهولين ولا مجهولة أخبارهم.
فإذا قلنا: إنهم لم يكونوا أهل كتابة وتاريخ ، فأشعارهم المحفوظة المنقولة هي
ديوان سيرهم، وإذا لم نثق بنقل أشعارهم استطعنا أن نعرف العرب من تاريخ الأمم
المجاورة لهم. فالفرس قد سبروهم؛ لأن من العرب ملوكًا كانوا لهم خاضعين،
وقوادًا كانوا بأمرهم عاملين. والروم قد خبروهم؛ لأن مملكتهم ملوكًا وقوادًا وولاة
من العرب، والديانة المجوسية تعرفهم؛ لأن منهم من كان على دين ملوك فارس،
والكنائس تعرفت بهم؛ لأن منهم نصارى بل قسيسين ورهبانًا، وبيع اليهود ما
جهلتهم، والفلسفة ما أنكرتهم، والحضارة قد ألمت بمساكنهم (في اليمن والعراق
والشام) ومخالطة الأمم أخذوا بقسط منها وأخذت بقسط منهم، فكيف يكون هذا
الجيل مجهولاً بعد كل هذا؟
إن العرب كانوا معروفين. ومما عرفوا واشتهروا به الحرص على وحدتهم
القومية ، فكانوا أمام الغريب أمة واحدة لها وحدة باللغة والنسب واتصال الديار
والعصبية عند التناصر ، فإذا رجعوا إلى ما بينهم كانوا قبائل شتى تنتمي كل قبيلة
إلى أب لها ، ثم يجمع قبائل كثيرة منهم أب واحد وهكذا.
ولا يستبعد من أمة محتاجة إلى التناصر وليس لها كسائر الأمم كتاب يجمع
أخبارهم وسير أبطالها أن يُعْنَى كثير من أفرادها بحفظ ذلك في أذهانهم ، وأية أمة ممن
نرى يتناسى أفرادها سيرة أبطالهم.
وقد كان الرجل من العرب إذا عظم أمره أو كثر ماله انفرد بأهله ، وانتمت
إليه الذرية ، ووضعوا لأنفسهم نسبة جديدة من غير أن يضيعوا حظهم من
الارتباط بالنسبة الأولى؛ لأن لهم عند التناصر حظًّا منها عظيمًا.
يذكر أحد علماء هذا الشأن أن العرب كانت قبائلهم أرحاء وجماجم ،
فالأرحاء هي القبائل التي أحرزت دورًا ومياهًا لم يكن للعرب مثلها ، ولم تبرح من
وطانها ، ودارت في دورها كالأرحاء على أقطابها إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء
وعام الجدب. والجماجم هي القبائل التي يتفرع من كل واحدة منها قبائل اكتفت
بأسمائها ، دون الانتساب إليها ، فصارت كأنها جسد قائم ، وكل عضو منها مكتف
باسم معروف بموضعه.
وكان علم النسب من جملة علوم العرب قد أثره عنهم أهل الرواية أول كل
شيء. ونقلوا فيه حكايات كثيرة منها ما ذكروه عن يزيد بن شيبان بن علقمة بن
زرارة بن عدس وذلك أنه رأى في مِنى رجلاً على راحلة ، ومعه عشرة شباب ،
بأيديهم المحاجن ، ينحون الناس عنه ، ويوسعون له ، فدنا منه ، وقال له: ممن
الرجل؟ فقال: (إني رجل من مَهْرَة ممن يسكن الشجر) قال يزيد: فكرهته ،
ووليت عنه. فناداني من ورائي: ما لك؟ قلت: (لست من قومي ، ولست تعرفني
ولا أعرفك) . قال: (إن كنت من كرام العرب فسأعرفك) قال يزيد: فكررت
عليه راحلتي. وقلت: (إني من كرام العرب) . قال: (فممن أنت؟) قلت:
(مِن مُضَر) قال: (فمن الفرسان أنت ، أم من الأرحاء؟) ، فعلمت أنه أراد
بالفرسان قيسًا وبالأرحاء خندفًا. فقلت: (بل من الأرحاء) قال: (أنت امرؤ من
خندف؟) قلت: (نعم) . قال: (من الأرومة أنت ، أم من الجماجم؟) ، فعلمت
أنه أراد بالأرومة خزيمة وبالجماجم بني أدّ بن طابخة قلت: (بل من الجماجم) .
قال: (فأنت امرؤ من بني أدّ بن طابخة) قلت: (أجل) قال: (فمن الدواني أنت ،
أم من الصميم؟) فعلمت أنه أراد بالدواني الرباب ومُزَيْنة وبالصميم بني تميم. قلت:
(من الصميم) . قال: (فأنت إذًا من بني تميم) . قلت: (أجل) . قال: (فمِن
الأكثرين ، أم من الأقلين ، أو من إخوانهم الآخرين؟) فعلمت أنه أراد بالأكثرين
ولد زيد ، وبالأقلين ولد الحارث ، وبإخوانهم الآخرين بني عمر وبني تميم. قلت:
(من الأكثرين) قال: (فأنت إذًا من ولد زيد) . قلت: (أجل) قال: (فمن
البحور أنت ، أم الذرا ، أم من الثماد؟) فعلمت أنه أراد بالبحور بني سعد ،
وبالذرا بني مالك بن حنظلة، وبالثماد امرأ القيس بن زيد. قلت:(بل من الذرا)
قال: (فأنت رجل من بني مالك بن حنظلة) قلت: (أجل) قال: (فمن السحاب
أنت ، أم من الشهاب ، أم من اللباب؟) فعلمت أنه أراد بالسحاب: طهية،
وبالشهاب: نهئلاً، وباللباب: بني عبد الله بن دارم. فقلت له: (من اللباب) قال:
(فأنت من بني عبد الله بن دارم) قلت: (أجل) قال: (فمن البيوت أنت ، أم من
الدوائر؟) فعلمت أنه أراد بالبيوت: ولد زرارة ، وبالدوائر: الأحلاف. قلت (من
البيوت) قال: (فأنت يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس ، وقد كان لأبيك
امرأتان فأيهما أمك؟) .
ولقد غلط من ظنوا أن العرب لم يكن لهم من حضارة ، ولم يكونوا على شيء
مما عليه الأمم من الروابط؛ كلاّ بل لهم حضارات وملوكهم التبابعة في اليمن معروف
أمرهم عند المشتغلين بالتاريخ. وملوك الحيرة (في العراق) مشهورون ، مَن
عرف تاريخ الفرس عرفهم وإن جهل تاريخ العرب أولهم مالك بن فهم بن غنم بن
دوس من سلالة الأزد من ولد كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان ، وكان
ملكه في أيام ملوك الطوائف الفارسيين ، وملك بعده أخوه عمرو بن فهم، ثم ملك بعد
عمرو ابن أخيه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، وجذيمة هذا هو صاحب الحديث
المشهور مع الزباء (زنوبيا) صاحبة تدمر ، وخلاصة الحديث فيما يروي مؤرخو
العرب أن جذبمة قتل أباها ، فاحتالت عليه الزباء ، وأطمعته في نفسها حتى اغتر
وقدم إليها ، فقتلته وأخذت بثأر أبيها. وبعد قتله انتقل الملك إلى يد ابن أخته عمرو
اللخمي جد الملوك المناذرة اللخميين.
والملوك الغسانيون في الشام مشهورون أيضًا ، لا يجهلهم من عرف تاريخ
الرومان إذا جهل تاريخ العرب. وأصل غسان من اليمن من بني الأزد ابن الغوث
تفرقوا من اليمن بسيل العَرِم، ونزلوا على ماء بالشام يقال له: غسان، فنسبوا إليه
وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهم الضجاعمة من سليح، فأخرجتهم غسان من ديارهم ،
وقتلوا ملوكهم وصاروا موضعهم.
وأول من ملك من غسان جفنة بن عمرو بن ثعلبة، وكان ابتداء ملكهم قبل
الإسلام بأربع مائة سنة ، وقيل أكثر من ذلك، ولما ملك جفنة وقتل ملوك سليح
دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم، وبنى بالشام عدة مصانع ، ولما مات ملك
بعده ابنه عمرو بن جفنة، وبنى بالشام عدة ديور منها دير حلي ودير أيوب ودير
هند، ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغرير في أطراف حوران مما
يلي البلقاء.
ثم ملك الحارث بن ثعلبة، ثم ملك بعده ابنه جبلة بن الحارث وبنى القناطر ،
وأدرح والقسطل، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة ، وكان مسكنه بالبلقاء ، فبنى بها
الحفير ومصنعه، ثم ملك بعده المنذر الأكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة
بن عمرو بن جفنة الأول، ثم ملك بعده أخوه النعمان بن الحارث وبنى دير ضخم
ودير النبوة، ثم ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث ،
ثم ملك بعدهم أخوهم الأيهم بن الحارث ، ثم ملك جفنة الأصغر بن المنذر الأكبر،
وهو الذي أحرق الحيرة، وبذلك سموا ولده آل محرق، ثم ملك بعده أخوه النعمان
الأصغر بن المنذر الأكبر، ثم ملك النعمان بن عمرو بن المنذر، وبنى قصر
السويدا ، ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكًا ، وفي عمرو المذكور يقول
النابغة الذبياني:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة
…
لوالده ليست بذات عقارب
ثم ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان، وهو الذي قابل المنذر
اللخمي بن ماء السماء، ثم ملك بعده النعمان بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة، ثم
ملك أخوه الحارث بن الأيهم، ثم ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث، وهو الذي
أصلح صهاريج الرصافة ، وكان قد خربها بعض ملوك الحيرة اللخميين، ثم ملك
بعده المنذر بن النعمان، ثم ملك بعده أخوه عمرو بن النعمان، ثم ملك أخوهما حجر
بن النعمان، ثم ملك ابنه الحارث بن حجر، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، ثم ملك
ابنه الحارث بن جبلة، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث، ثم ملك بعده الأيهم بن
جبلة بن الحارث وهو صاحب تدمر ، وكان عامله يقال له: القين بن خسر. وبنى له
قصرًا بالبرية عظيمًا ومصانع.
ثم ملك بعده أخوه المنذر بن جبلة ، ثم ملك بعده أخوهما شراحيل بن جبلة ، ثم
ملك أخوهم عمرو بن جبلة، ثم ملك بعده ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة ثم ملك
بعدهم جبلة بن الأيهم بن جبلة، وهو آخر ملوك بني غسان، وهو الذي أسلم في
خلافة عمر، ثم عاد إلى الروم.
ومن ملوك العرب ملوك كندة الذين من سلالتهم امرؤ القيس الشاعر المشهور
أولهم حُجْر آكل المرار بن عمرو، وخلف على الملك ابنه عمرو المقصور سُمي
بالمقصور؛ لأنه اقتصر على ملك أبيه ، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو ،
وقوي ملك الحارث المذكور؛ لأنه وافق كِسْرى قباذ بن فيروز على الزندقة والدخول
في مذهب مزدك ، فطرد قباذ المنذر بن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة ، وملّك
الحارث المذكور موضعه ، فعظم شأن الحارث المذكور ، فلما ملك أنوشَرْوان أعاد
المنذر وطرد الحارث المذكور ، فهرب وتبعته تغلب وعدة قبائل ، فظفروا بأمواله
وبأربعين نفسًا من ذوي قرباه ، فقتلهم المنذر في ديار بني مرين، وهرب الحارث إلى
ديار كلب، وبقي بها حتى مات. ومن أولاد الحارث هذا حجر أبو امرئ القيس
الشاعر ، وكان حجر قد ملكه أبوه على بني أسد بن خزيمة فبقي أمره متماسكًا
فيهم مدة بعد ذلك ، ثم تنكروا عليه ، فقاتلهم وقهرهم ، ودخلوا في طاعته ، ثم جموا
عليه بَغْتة ، وقتلوه غِيلة ، وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس أبياتًا منها:
بنو أسد قتلوا ربهم
…
ألا كل شيء سواه خلل
وطالب امرؤ القيس بهذا الملك بعد أبيه ، فاستنجد ببكر وتغلب على بني أسد ،
فأنجدوه ، وهربت منهم بنو أسد ، وتبعهم فلم يظفر بهم ، ثم تخاذلت عنه بكر وتغلب
وتطلبه المنذر بن السماء ، فتفرقت جموع امرئ القيس خوفًا من المنذر، وخاف
امرؤ القيس منه أيضًا ، فصار يدخل على قبائل العرب، وينتقل من أناس إلى أناس
حتى قصد السموأل بن عاديًا اليهودي ، فأكرمه، وأنزله ، وأقام عنده ، ثم سار إلى
ملك الروم مستنجدًا به ، وأودع أدراعه عند السموأل ، وكانت مائةً وفي مسيره إلى
ملك الروم قال قصيدةً تُشعر بلسان حاله ، ومنها قوله:
تقطع أسباب اللبابة والهوى
…
عشية جاوزنا حماة وشيزرا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
…
وأيقن أنا لاحِقَان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما
…
نحاول ملكًا أو نموت فتعذرا
وقد مات في هذا السفر بعد عودته من عند قيصر.
فبالله كيف تكون مجهولة الأمة التي فيها الملوك والأقيال، وقد وقفت أمام الأمم
والأجيال، سنين من الدهر، لا يعرف لها حصر. لعمرك إن القول بأن هؤلاء
القوم كانوا مجهولين ، وأنهم كانوا متشتتين من غير ملك جامع، ولا شرع وازع
هو قول يرسله صاحبه من غير أن يكلف نفسه بحثًا ، وهو لمّا يُحط بذلك خبرًا.
ومتى كان العرب معروفين عند غيرهم كما أوضحنا - ولدينا مزيد - كانوا هم
أحق بمعرفة أنفسهم، وحفظ مفاخرهم وعصبياتهم. وما نقل إلينا عنهم من ذلك ليس
منه شيء فوق العقل ، ولا وراء الحس؛ بل القرائن له شاهدة، وأمثاله أمام أعيننا
مشاهدة، وإذا لم تجز الثقة بما ينقل من هذه الأخبار لم يكن غيرها أحق بالثقة لعمر
الحق ، فإن تزوير الأساطير لا يستبعد وقوعه في كل أمة من الأمم ذوات الزبر
والأسفار ، وليست الكتب أحق بالصدق من القرائن الشاهدة والنظائر الناطقة.
فمن شاء أن لا يثق بمنقول ألبتة لا يضرني ولا يضر التاريخ والمنقول ، ولا
يضر العلماء الذين يحترمون التاريخ كثيرًا وإنما يضره وحده. يقلل استفادته من
المنقول، ويكثر وساوسه وغروره، ثم يصل إلى درجة لا يثق معها أحد بمعقوله.
ومن شاء أن يثق بالمنقول عن الأمم دون العرب لا أناقشه؛ لأنه شهد لي على
نفسه شهادة كافية.
ولا أزيده شيئًا على ما أوضحت به أن العرب تجوز الثقة ببعض ما ينقل عنهم ،
كما تجوز الثقة ببعض ما ينقل عن غيرهم.
* * *
من أجل هذا نؤمن بما نقل إلينا من نسب سيدتنا التي نروي هنا سيرتها ،
وهي خديجة القرشية فإن هذا النقل من النقول التي لا تجد النفس حاجة للتردد في
قبولها.
وقد قلنا آنفًا إنَّ لهؤلاء العرب المعروفين أصلين معروفين عندهم ، ومجهول ما
وراءهما ، وهما: عدنان وقحطان، فأما قحطان فقد أخذت ذُرِّيَّته بحظها من
الملك؛ لأن كل ملوك العرب المشهورين كانوا من ذريته ، وأما عدنان فإن حظ
ذريته تأخر قليلاً ، ولكنه كان لعظمه متجاوز النسبة؛ أي إنه لا نسبة بين حظ
القحطانيين الذين كان يقوم منهم ملوك، ثم ينطفئ مجدهم وحظ إخوانهم
العدنانيين الذين أشرق منهم نور مبين بهر العالمين أجمعين.
فلذلك نَلُمُّ هنا بذكر الذرية العدنانية دون الذرية القحطانية؛ لأننا نريد أن
يتعرف القارئ بقوم خديجة الخصوصيين. (فعدنان) ولد له (معد) ومعد ولد له
(نزار) وأولاد نزار أربعة: (مضر) وإياد وربيعة وأنمار ، وقد فارق إياد
الحجاز ، وسار بأهله إلى أطراف العراق.
ومن ذريته كعب بن مامة الإيادي المشهور بالجود ، وقُسّ بن ساعدة الأيادي
المشهور بالفصاحة. ومن ذرية ربيعة بن نزار قبائل: عنزة ، وبكر ، ووائل ،
وتغلب، ومن تغلب كليب ملك بني وائل الذي قتله جساس، فهاجت لقتله الحرب بين
بني وائل وبين بني بكر وبين بني تغلب. ومن بني بكر بن وائل بنو شيبان ومن
مشهوريهم مرة وابنه جساس قاتل كليب وطرفة بن العبد الشاعر ، ومن بني بكر
بنو حنيفة، ومن مشهوريهم مسيلمة الكذاب.
وولد لمضر بن نزار (إلياس) وقيس عيلان ، وكثرت ذرية قيس هذا ، فمن
ذريته قبائل هوازن ، ومن هوازن بنو سعد بن بكر الذين منهم مُرضعة النبي صلى الله
عليه وسلم ، ومن ذريته بنو كلاب وقبائل عقيل وبنو عامر ، وصعصعة ، وخفاجة ،
وبنو هلال ، وثقيف ، وبنو نمير، وباهلة ، ومازن ، وغطفان ، وبنو عبس الذين منهم عنترة المشهور ، وقبائل سليم، وبنو ذبيان ، وبنو فزارة ، وكان بين عبس
وبني ذبيان حرب داحس التي ظلت أربعين عامًا. ومن بني ذبيان النابغة الذبياني
الشاعر المشهور.
وولد لإلياس بن مضر (مدركة) وطابخة ، ومن ذرية طابخة بنو تميم
والرباب وبنو ضبة وبنو مزينة.
وولد لمدركة بن إلياس (خزيمة) ، وهذيل وإلى هذيل هذا تنتسب جميع قبائل الهذليين ، ومنهم: أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور.
وولد لخزيمة بن مدركة (كنانة) ، وأسد ، والهون ، وولد لكنانة بن خزيمة
(النضر) ، وملكان ، وعبد مناة ، وعمرو ، وعامر ، ومالك فمِن ملكان بنو
ملكان ، ومن بني عبد مناة بنو غِفار ، ومن مشهوريهم أبو ذر، وبنو بكر. ومن
بني بكر هؤلاء الدِّئَل. ومن مشهوريهم: أبو الأسود الدؤلي، وبنو ليث، وبنو مدلج،
وبنو ضمرة.
وولد للنضر بن كنانة (مالك) ، ولم يعرف له ولد سواه ، وولد لمالك هذا
(فهر) وفهر هذا الذي سمي قريشًا ، ولم يولد لمالك غير فهر ، وولد لفهر (غالب)
ومحارب ، والحارث ، فمن محارب بنو محارب ومن الحارث بنو الخلج ، ومن
مشهوريهم: أبو عبيدة بن الجراح ، وجميع ذراري فهر يقال لهم قرشيون.
وولد لغالب بن فهر (لؤي) ، وتيم الأدرم ، ومن تيم المذكور بنو الأدرم ،
ومعنى الأدرم: ناقص الذقن.
وولد للؤي بن غالب (كعب) وسعد وخزيمة والحارث وعامر وأسامة. ومن
ذرية عامر بن كعب عمرو بن ودّ فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب.
وولد لكعب بن لؤي (مُرّة) وهصيص ، وعديّ فمن هصيص بنو جُمَح
ومن مشهوريهم: أمية بن خلف ، وأخوه أُبَيّ بن خَلَف ، وكلاهما كانا عدوين
عظيمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن هصيص أيضًا بنو سهم ، ومن عدي
بنو عدي ، ومن مشهوريهم عمر بن الخطاب ، وسعيد بن زيد.
وولد لمرة بن كعب (كلاب) وتيم ويقظة ، فمن تيم ومن مشهوريهم أبو بكر
الصديق ، وطلحة، ومن يقظة بنو مخزوم ، ومن مشهوريهم خالد بن الوليد ،
وأبو جهل عمرو بن هشام.
وولد لكلاب بن مرة (قصي) ، وزهرة ، ومن ذرية زهرة سعد بن أبي
وقاص وآمنة أم النبي صلى الله علية وسلم ، وعبد الرحمن بن عوف ، وقد كان
قصي هذا عظيمًا في قريش ، وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من بني خزاعة، وهو
الذي أثل مجدهم.
وولد لقصي بن كلاب (عبد مناف) ، وعبد الدار ، وعبد العزى ، فمن بني
عبد الدار بنو شيبة حجاب الكعبة ، ومن مشهوريهم النضر بن الحارث كان من
أشداء أعداء النبي، ومن عبد العزى أيضًا سيدتنا خديجة بنت خويلد التي نروي
سيرتها.
وولد لعبد مناف بن قصي (هاشم) وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفل ، فمن
عبد شمس أمية ، ومنه بنو أمية ، ومنهم: عثمان بن عفان ، ومعاوية بن أبي سفيان
مؤسس الملك الأموي. ومن المطلب ابن عبد مناف المطلبيون ، ومن ذريتهم الإمام
الشافعي ، ومن نوفل النوفليون.
وولد لهاشم (عبد المطلب) ، ولم يعلم له ولد سواه. وولد لعبد المطلب (عبد
الله) ، وحمزة ، والعباس جد الملوك العباسيين.
وولد لعبد الله بن عبد المطلب (محمد) النبي عليه الصلاة والسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس وتتمته: قال الله تعالى (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب مصر الحديثة للّورد كرومر
(نظرة إجمالية في الكتاب)
أقام لورد كرومر في مصر نحو ربع قرن متصرفًا بنفوذ الحاكم المطلق ،
فعرف من أحوال حكومتها وسيرها الاجتماعي ما يعز على غيره من حكام البلاد أو
نزلائها من الأوربيين أن يعرفوه ، ثم أودع زبدة ما عرفه في كتاب يدخل في ثلاثة
مجلدات ، طُبع اثنان منها ، وأوصى هو بطبع الثالث عقب موته؛ لأنه خاص بحال
مصر في عهد الأمير الحالّ عباس باشا الثاني ، والظاهر أنه أشد الأجزاء وطأً
وأثقل قيلاً على مصر والمصريين على أن الجزء الثاني لا تستخف وطأته، بل لا
تطاق كلمته، فهو قد حكم لكل الشعوب التي تتبوأ أرض مصر وعليها ، ولكنه حكم
على المصريين لا لهم ، ولم يحكم عليهم بالمساواة بل فضل القبط على المسلمين
تفضيلاً من حيث دينهم وما فيه من المرونة التي تساعدهم على مجاراة المدنية ما لا
يساعد الإسلام أهله على زعمه.
ولم يكتف بالحكم في قضايا الشعوب من حيث هو حاكم سياسي اجتماعي ، بل
حكم أيضا في قضايا الرجال المشهورين الذين عرفهم من بعض الوجوه ، وكان
حكمه عليهم من غير الوجه الذي عرفهم به؛ إذ حكم على مطويات العقائد ،
ومكنونات الضمائر ، وخطرات القلوب.
ولم يرضه هذا حتى رفع نفسه إلى مستوى الحكم على الإسلام من حيث هو
دين ، ومن حيث هو شريعة ونظام اجتماعي ، فحكم من الحيثية الأولى له وعليه ،
ومن الحيثية الثانية عليه لا له ، وانتقل من الحكم عليه إلى الحكم على أهله عامة
حتى في مستقبل أمرهم ، فكان حكمه هذا صاخّة تصخّ المسامع ، وقارعة تصدع
القلوب ، بل هو عِبْرة للمعتبرين ، وموعظة للمصريين وسائر المسلمين.
رأيت حديث الناس في هذا الكتاب يدور على قطبين:
(أحدهما) : الحكم على شعور الكاتب حينما دوَّن حكمه على المصريين ،
وعلى الإسلام والمسلمين ، فما رأيت بينهم خلافًا في كونه كتب بمداد الحقد والحنق ،
وقلم الحفيظة والانتقام من المصريين بما فوقوا إليه من سهامهم، وصوبوا إليه من
أسنة أقلامهم في وقت مفارقته لديارهم، وهو وقت ضاق فيه ذاك الصدر الواسع عن
احتمال الانتقاد، بَلْهَ الشماتة والإزراء على أنه قد ظهر ضيق صدر اللورد قبل
ذلك في تقريره الأخير، ثم في خُطْبته التي خطبها قبيل الرحيل.
هذا ، وأما القطب الثاني لحديث الناس في الكتاب فهو غرضه منه ، وقد رأيت
أهل الفهم والذكاء يقولون من غير مواطأةٍ ولا تقليدٍ: إن غاية اللورد من هذا الكتاب
هي أن يستل من نفوس أحرار قومه فكرة توقيت الاحتلال، والخروج من مصر في
يوم من الأيام، ويقنعهم ويقنع أوربا معهم بأن لا ضمان لحفظ مصالح الأوربيين في
مصر ، بل ولا مصالح المصريين إلا بقاء الإنكليز في مصر؛ لأن المصري شديد
التمسك بدينه الذي لا يتفق مع المدنية فإن هو تركه واتبع هذه المدنية كما يحب
الأوربيون ويبغون كانت مدنيته تقليدية لا حقيقية ، وكان بذلك شرًّا من المسلم
المتدين وأشد عداوةً للأوربي وللمسيحي ، ولو غير أوربي.
ويرون أن تصريحه بعدم استحسان ضمّ مصر إلى أملاك إنكلترا ، وما أظهره
من الميل إلى إعدادهم للاستقلال هو من التمويه ، وذرّ الرماد في العيون ، وإلهاء
المصريين بالأماني والأحلام ، وأصحاب هذا القول غافلون عن طرق الاستعمار
الجديدة ، ومنها حكم البلاد باسم أهلها ، والرضى بالسلطة الفعلية بديلاً من السلطة
القولية ، وقد سبق لنا بيان لهذه الطرق في السَّنَة الأولى من المنار ، وفي غيرها
أيضًا.
هذه صفوة الآراء التي دارت بين الناس في شعور مؤلف كتاب مصر الحديثة ،
وفكره المستولي عليه عند الكتابة ، وفي غايته منه ، وذلك ضرب من ضروب
انتقاد المصنفات مطروق الأبواب معهود عند الكتاب.
ومما ينتقد على هذا الكتاب - وهو من أصول الانتقاد - استنباط القواعد الكلية
من شواذّ الحوادث الجزئية، ولم يسلم اللورد من ذلك ، فإنه في المقابلة بين عقل
الغربي والشرقي أورد الأمثلة لعقل الشرقي الضعيف التنظيم والإدراك (لاعتقاده
بالقضاء والقدر ، ورضوخه لكل سلطة تتولى أموره) فإنه بعد أن دعم الحكم على
عقل الشرقي بهاتين العِلّتين مثّل للحكم الكلي العامّ بما نصُّ ترجمته:
قال اللورد: (حدث أكثر من مرة أن (المفتحجي) في مصلحة الحديد المصرية
حوَّل الخط والقطار عليه، لم يمر إلا نصفه إلى الخط الآخر؛ فأدى ذلك إلى انقلاب
القطار ، وحدث أيضًا أن سائق قطار نَسِيَ أحيانًا أيّ مفتاح يجب أن يُحَرَّك لكي يوقف
القطار ، وحدث مرة أن عمال السكة الحديدية قُتِلوا لأنهم ناموا بعد أن وضعوا
رءوسهم على الخط الحديدي ، وإنما فعلوا ذلك ليثقوا بأنهم يستيقظون على أصوات
القطار الآتي) .
ونقول: إن أمثال هذه الجزئيات تقع في أوربا وفي جميع البلاد من جميع
الشعوب، وناهيك بالطبقة الدنيا من العمال ، فإن ذكي الفطرة عالي النفس لا
يرضى لنفسه بأن يكون من أحقر عمال سكة الحديد، وناهيك بالمبتدئين من أهل
هذه المهنة بها ، والغالب أن يكون أصحاب ذلك الشذوذ الذي ذكره منهم. فحال
أمثال هؤلاء لا يصح أن يكون مناط المقابلة بين الشعوب في ارتقاء العقل وملكة
النظام فيه. وإنما ينظر في حالهم من وجهة النشاط في العمل ، والصبر عليه ،
ولعله لو قابل بين فَعلة الأوربيين وفَعلة المصريين في هذه المزايا لَمَا قدر أن يبخس
المصريين حقهم، وإن ظن أن القضاء والقدر قد فتك باستعدادهم لكل عمل! !
ونسي أن أكثر المستخدمين في سكة الحديد من القبط الذين هم على شاكلته في عدم
الإيمان بالقضاء والقدر.
وإنني أذكر له شيئًا من بَلادة بعض الأوربيين وغفلتهم وهو أبعد عن العقل
والنظام مما صدر عن صغار فَعلة السكة الحديدية في مصر ، ناقلاً إياه عن كتاب
صفوة الاعتبار لصديقه الشيخ محمد بيرم الثقة العدل - رحمه الله تعالى - فإنه كتب
في الفصل الذي عقده لبيان عادات أهل فرنسا وصفاتهم ما نصه:
ومع ذلك - أي انتشار المعارف - فلا يزال في فرنسا خَلْق كثير على
السذاجة والجهل. ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها:
ففي سنة 1297 هـ 1880م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلاً جهة باريس
وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الابن من كسبه ما يشتري به حذاءً ، فأرسل
إلى أبيه يشتكي له القلّ ، ويطلب منه شراء حذاءٍ له ، فاشتراه له ، وحمله في الطريق
وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه ، فبينما هو ماشٍ إذ مرّ مُحاذيًا للسلك الكهربائي ،
فقال: هذا أيسر طريق! ! إني أحمله الحذاء وهو يوصله لابني. فجاء إلى عود
السلك وعلّق فيه الحذاء وأسرَّ إلى العود بقوله: (أوصِلْ هذا لابني فلان في المكان
الفلاني) وذهب مسرورًا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف. ثم مرّ من غدٍ
متفقدًا ما فعل السلك بالحذاء ، فوجد في ذلك المكان حذاءً عتيقًا أفناه اللُّبْس ، ففرح ،
وقال: (إن ابني لَعاقل حيث أرسل لي القديم لأستعين به على ثمن الجديد) فانظر
إلى البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيّين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد
عن المعارف وتهذيب الأخلاق.
وقد صدق ظنّه صديقه لورد كرومر ، فإنه شنع على الشرقيين كافّة بما وقع
من بعض فعلة سكة الحديد بمصر.
ثم قال بيرم: (واعلم أن مثل هذا الرجل كثير سِيَّمَا في القرى الصغيرة
والجبال، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة ، ويعتقد التأثير
لأشجار وجمادات، ويتشاءم بالأوقات، فقد رأيت في كثير من بلدانهم ، وبلدان
الطليان ، وكذا الإنكليز طاقات في حيطان ، فيها منارات توقد ليلاً بالزيت أو بالشمع
العسلي تقربًا إلى بعض أوليائهم أو الجن ، معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة،
ولا ينورونها بغير ما ذكر من الأنواع؛ لأن القسوس يقولون لهم: إن شمع الشحم
أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها.
وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول
أرواح فيها. وقد ذكر من هذا النوع في (كشف المخبا عن فنون أوربا) ما يتعجب
منه السامع مما ترى الأورباويين، ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبثه
على البلاد الإسلامية وحدها ، ويجعلونها سخرية ، وينزهون أوربا عن مثلها مع أنها
حاوية لشبهها ولأشد منها؛ بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة
- وحاشا لله - أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك ، بل إنها هي المهذبة ، والمنقذة من
غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر) . ا. هـ بحروفه.
هذا ما قاله عن أهل فرنسا ، وهم أسبق الأوربيين إلى العلم والمدنية ، وأذكاهم
أذهانًا على أنه قال: إن الإنكليز كذلك. بل قال في كلامه من عادات الإنكليز
وصفاتهم ما نصه:
(وأما أطوار الطبقة السفلى ، فهي أشنع مما مر ذكره في همج الفرانسيس
سواء كان من من جهة الاعتقاد أو من جهة السيرة والحركات فيتطيرون من أشياء
كادت أن لا تحصى ، وينقادون إلى السَّحَرة والدّجّالين بما يخرج عن حدّ المعقول
وكاد التعلم أن يكون عندهم مجهول الاسم فضلاً عن المسمى سوى ما يرطن لهم
القسيسون في الكنائس) إلخ.
أقول: أما خرافات القبور والأولياء التي قال: إنهم يعيبون الإسلام بمثلها ، وهو
منها بريء ، فقد أخذها المسلمون عنهم وهم أخذوها عن أجدادهم أو مجاوريهم من
الوثنيين ، فالإسلام والنصرانية الحقيقية بريئان منها؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع)، قالوا: يا رسول الله ، اليهود
والنصارى؟ قال: فمن؟ . رواه الشيخان وغيرهما.
وإن تعجب فعجب مقارنته في هذا المقام بين الأوربي مطلقًا والعامي المصري
في الحساب فقد قال بعد ما تقدم ما ترجمته كما في المؤيد:
(وقارن أيضًا بين تقدير الأوربي للحساب وبين المصري العامي الذي يشكل
عليه إشكالاً كاملاً كل أمر يتعلق بالأرقام أو الكمية ، فإن عددًا قليلاً من عامة
المصريين يعرفون عمرهم. فإذا سألت المصري عن عمر رجل متقدم في السن يكون
جوابه غالبًا: (إن عمر الرجل مائة سنة) ويقول في نفسه: ماذا يهم التدقيق في هذا
الأمر ، أو أي أمر آخر علمي) .
قلت: إن هذا من مواطن العجب؛ لأن المقارنة فيه بين الأوربي المتعلم
والمصري العامي ، ولماذا لم يقارن في الحساب والأرقام بين المتعلم من الفريقين؟
لعله لأنه يعلم أن المصريين من أقوى الشعوب استعدادًا للبراعة في الحساب وسائر
العلوم الرياضية ، وقد أراد الإنكليز منذ بضع سنين أن يجعلوا ترقية المهندسين منهم
على المهندسين من المصريين مبنيًّا على قاعدة عادلة؛ لظنهم أن الإنكليز أعلم
وأبرع ، فامتحنوا الفريقين ، فأسفر الامتحان عن فوز المصريين وتخلف الإنكليز
عنهم ، وسكت الفريقان على ذلك الامتحان ، فلم يُعلموا به الجرائد.
أما الإنكليز فلِمَا هو ظاهر ، وأما المصريون فلِخوفهم أن يحنق عليهم
رؤساؤهم ، وينتقموا منهم.
ومما تقدم في كتابه تقليده لغير واحد من كتاب الأوربيين في آرائهم في
الإسلام، وكان أجدر من كثير من أولئك الكاتبين بمعرفة حقيقة الإسلام لو أراد أن
يعرفه وينصفه فإنه عاش في مصر عمرًا طويلاً ، وعرف أشهر علمائها ن بل أشهر
علماء الإسلام المعروفين في العالم كله الآن ، وناهيك بالأستاذ الإمام وطول باعه في
علوم الدين ، ورسوخه في فهم القرآن ، وهو الذي لم يكن يحتاج في مخاطبته إياه
وفهمه عنه إلى ترجمان كما كان يحتاج في مخاطبة غيره من شيوخ الأزهر. ولكنه
لم يكن يسأله عن أصول الإسلام وحكمه وأحكامه، ولا الأستاذ الإمام كان يبتدئه بشيء
من ذلك ، وإنما كان يقصد إليه؛ لأجل الكلام في المسائل المصرية ، لا سِيَّمَا
المحاكم الشرعية.
ومما ذكر لي عنه أنه كان يذاكره مرة في إصلاح هذه المحاكم ، ومعارضة
قاضي مصر وبعض المشايخ ، ومقلديهم في ذلك كما حصل في مجلس شورى
القوانين ، وذكر اللورد كثرة شكوى الأهالي من الظلم وضياع الحقوق في هذه
المحاكم ، ولَمَّا بيَّنَ الأستاذ الإمام أنه ليس في أصل الشرع شيء ينافي الإصلاح
العدل ، قال له اللورد: هل تصدق يا أستاذ أنه يخطر في بالي أن شريعة قامت على
أساسها مدنية عظيمة تكون غير عادلة؟ كلا ، إنني أعلم أن كل هذه المفاسد مسائل
(إكليركية) أي: من تقاليد المشايخ التي تشبه تقاليد رجال (الإكليروس) عند
النصارى.
أنقل هذا بالمعنى كما أحفظه عن الأستاذ الإمام ، وأستطرد من ذلك إلى انتقاد
ما كتبه اللورد عنه ، ثم ألخص كلامه في الإسلام من حيث هو دين ، ومن حيث هو
شريعة، وأبين خطأه وخطله فيه ، وأنتقل مِنْ ثَمَّ إلى المقصد الأعظم وهو مستقبل
الإسلام والمسلمين ، ومراد اللورد وأمثاله من أساطين السياسة وأمانيهم في ذلك ،
وما يجب علينا من العِبرة والعمل في هذا المقام، مع تعدد السُّبُل واشتباه الأعلام.
* * *
قول اللورد في الشيخ محمد عبده
لم يسلك اللورد مسلك أصحاب التراجم من المؤرخين فيذكر ما للرجال الذين
ترجمهم من الصفات والمزايا ، وما عليهم من التقصير ، وإنما ألمَّ بذكر بعض كبار
الرجال المشهورين إلمامًا ، ولم ينظر إلى أحد من المسلمين بعين الرضا كما نظر
إلى الشيخ محمد بيرم التونسي على أنه مدحه بشيء يراه هو مدحًا ، ويراه جميع
المسلمين ذمًّا؛ إذ قال فيه: (علمه ذكاؤه الفطري ، إن النظامات التي تعلق بها
أسلافه (يعني: الشريعة التي جرى عليها المسلمون السابقون) لا بُدَّ أن تتلاشى إذا
قابلتها المبادئ السامية المرقومة على راية الإنكليزي! رأى كل هذه الأمور بعين
الناقد البصير) وقال بعد ذلك: إن مثله إذا ناقش المسيحي في الأمور العامة يكون
من النتيجة المحزنة أنه: (يكتفي بندب مصير ذلك الدين الذي يحبه ، وذلك النظام
المؤذي الذي أوجده دينه) ، ثم ذكر أنه لا يوجد عند أمثال بيرم من خيار المسلمين
طريةً قادرةً على إحياء الإسلام الذي هو حالة الموت السياسي والاجتماعي! ! ونحن
نعلم فيما رأينا من مؤلفات الشيخ محمد بيرم وما سمعنا عنه ممن لقيه أنه كان متمسكًا
بهذا الفقه ويراه أحسن نظام ، ويعتقد أنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم - فإذا كان مع ذلك يفضل عليه المبادئ والقوانين الإنكليزية ، أو يرى أنه
نظام مؤذٍ؛ فكيف يكون راسخًا ذلك الرسوخ في الإسلام؟ أرى أنه على إطرائه
لبيرم في الدين قد ذمه من حيث أراد مدحه ، ولم يعرف حقيقته الدينية كما هي ولا
يرضى مريدي الشيخ محمد عبده أن يكون مثله مرضيا للورد في ذلك ، وإن كانوا
يعلمون أنه لا يعد جميع هذا الفقه ، ولا أكثره من الدين. وإننا نذكر الآن رأي
اللورد في الأستاذ الإمام في تقريره لسنة 1905 ، ثم نشفعه برأيه في مصر الحديثة،
ونبين سبب الاختلاف بينهما.
* * *
(قوله فيه بتقريرسنة1905)
اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر ، أريد به الشيخ محمد عبده ، فأحببت أن أسطر هنا رأيي
الراسخ في ذهني ، وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة.
لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له
الخديوي السابق صفح عنه طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق ، فعين الشيخ
بعد ذلك قاضيًا في المحاكم الأهلية ، حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق
والاستقامة ، وفي سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن ، فأصبحت
مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة؛ لتضلعه من علوم
الشرع الإسلامي مع ما به من سَعَة العقل ، واستنارة الذهن ، وأذكر مثالاً على نفع
عمله الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق
التوفير ، فقد وجد لهم بابًا به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع
الإسلامي في شيء.
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر ، ومنها قام الشيخ الجليل السيد
أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عامًا. والغاية
العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير
أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي ، أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس
ديني. فعملهم شاقّ وقضاؤه عسير؛ لأنهم يستهدفون دائمًا لسهام نقد الناقدين ،
وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد ، ويقصد آخرون قضاء
أغراضهم ، وحكّ حزازات في صدورهم ، فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة
الدين.
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ،
ولكنهم قليلون ، وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية ، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم ، فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين
إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم.
والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم
بهُوَّة عظيمة. فهم وسَط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي
حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غيرَ أن معارضة المحافظين لهم
أشدّ ، وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين؛ إذ هؤلاء لا يكاد يُسمع لهم صوت.
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها
وكبيرها ، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا. وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه،
فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين. ولعلهم يجدون
بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف فيه المعارضة التي لقيتها
مدرسة عليكره المذكورة آنفًا ، والطريقة التي تغلبوا بها على تلك المعارضة ، وههنا
ذكر عبارة عن كاتب هندي اسمه السيد محمود تضاهي عبارته في المقدار.
ومما كتب في أواخر الفصل الذي يتكلم فيه عن المحاكم الشرعية ما ترجمته:
(هذا ، وإني أوافق السر ملكولم مكلريث على ما قال عن الضربة الثقيلة التي
أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده ، فقد أشرت إلى
خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير ، وأعود فأبسط الرجاء
أيضًا أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده ، بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته) .اهـ
أما ما قاله السر ملكوكم مكلريث ، وصرح به اللورد بموافقته عليه فهذا نص
ترجمته:
(قول المستشار القضائي في الشيخ محمد عبده)
ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير
أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليه الفائت ، وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده؛ فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية ،
وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه ، والاستعانة بمساعدته الثمينة ،
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها.
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم
ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية ، وغيرها من الإصلاحات
القضائية؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ، ويبحث عن
حلّ يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك.
وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرًا لسموّ مداركه وسَعَة اطلاعه ،
وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظيفه في
محكمة الاستئناف ، وسياحاته إلى مدن أوربا ، ومعاهد العلم. وكانت النظارة تريد
أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة
فعلية. أمّا الآن ، فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة للقيام بهذه
المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته ، فلكل هذه الأسباب أخشى أن نظارة الحقانية
ستظل زمنًا طويلاً تشعر بخسارتها بفقده. اهـ كلام المستشار.
* * *
(قول اللورد فيه بكتاب مصر الحديثة)
أما الشيخ محمد عبده ، فكان عالمًا من طراز يفضل كثيرًا طراز إخوانه الذين
أشرت إليهم (كالسادات والبكري) وكان أحد زعماء الفتنة العرابية ، فلما جئت مصر
سنة 1883 كان مغضوبًا عليه ، ولكن الخديوي توفيق عفا عنه بما فطر عليه من
مكارم الأخلاق ، وانقيادًا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك ، وعينه قاضيًا ، فأحسن العمل ،
وأدى الأمانة حقّها. وكان متوسعًا في آرائه ، وعلى علم ونباهة ، فلم ينكر المساوئ
الناشئة في الحكومات الشرقية ، وعرف أنه لا بد من الاستعانة بالأوربيين للإصلاح
إلا أنه لم يكن من عداد المصريين المتفرنجين ، وكان يقول: إنهم لم يحسنوا تقليد ما
حاولوا تقليده من الأخلاق الأوربية ، وكان عدوًا للخديويين والباشاوات؛ وأريد بذلك
أنه لو عثر على باشاوات صالحين لَمَا أعرض عنهم ولا عارضهم ، ولكنه لم يوفق إلا
إلى عدد قليل من خيارهم مع اختباره الطويل.
وحقيقة الأمر أن الرجل كان مفطورًا على الخيال ، ويرى آراء لا يمكن الجري عليها إلا أنه كان مع ذلك مصريَّا وطنيًّا حقيقيًّا ، ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكون أمثاله كثارًا ، ولكن إذا نظرنا إلى نسيج محمد عبده والذين يعلمون تعاليمه
من جهة إمكان اتخاذهم ساسة للمستقبل نجد أن هناك بعض أوجه الضعف ، وقد قال
المستر ستانلي لاين بول: إن المسلم من الطبقة العليا لا بد أن يكون أحد اثنين:
(إما متعصب أو ملحد في سره) فمثل هذه الحيرة على شكل مختلف قد أوجدت
عقبات في سبيل المسيحيين الذين يؤمنون بحرفية تعاليم المسيح دون معناها أنها عقبات أعظم للمسلم الأصيل الذي يبذل عناية كلية بحرفية تعليم دينه دون معناها ، وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره (لا أدريا) ولو أنه يستاء من هذه النسبة لو نسبت إليه.
وكان معاشروه ومخالطوه يسلمون بمقدرته ولكنهم كانوا يرمقونه شزرًا
ويقولون: إنه (فيلسوف) وكل من يدرس الفلسفة؛ أي: كل من يدرك
الفرق بين القرن السابع والقرن العشرين هو في أعين المتمسكين بالقديم سائر إلى
الهلاك لا محالة. هذا وإن أهمية محمد عبده السياسية هي في أنه أسس مدرسة
فكرية في مصر على مثال ما أسس في الهند سيد أحمد منشئ كلية عليكرة ، وغاية
الذين ينتمون إلى تلك المدرسة هي تزكية طرق الإسلام في عين الإنسان أو بالحري
في عين الرجل المسلم ، ولكن شدة اشتباه المسلم المحافظ فيهم ، واتهامه إياهم
بالمروق من الدين يمنعانه من المسير معهم طويلاً ، ونراهم من الجهة الأخرى
غالبًا غير متفرنجين إلى حد أن يجذبوا إليهم المصري المقلد للطرق الأوربية ، فهم
أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه؛
ولذلك ترى مهمتهم عسيرة جدًّا ، ولكنهم جديرون بكل تشجيع ومساعدة يمكن
إمدادهم بهما؛ لأنهم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون وسيري كل مصري محبّ
لوطنه أن في تقدم أتباع محمد عبده خير رجاء له في إنقاذ برجرامه ألا وهو
جعل مصر مستقلة استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا.
وقد علق اللورد في ذيل هذه الصحيفة قوله: إنني قدمت لمحمد عبده كل
تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة ، ولكنه عمل شاق ، ففضلاً عن العداء الشديد الذي
كان يلاقيه من المسلمين المحافظين كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو ،
ولو يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء له أن الإنكليز أيدوه بقوة.
وقد أثنيت عليه في تقاريري السنوية ثناءً عظيمًا ، وأنا أعظم الناس أسفًا حقيقيًّا
على وفاته على أنني في الوقت نفسه لا أرى بُدًّا من الاعتراف بما عراني من الدهشة
عندما طالعت بعض الأنباء الجديدة في كتاب المستر ولفرد بلنت فيظهر أن المستر
ولفرد بنى آراءه في المسائل المصرية على ما سمعه من محمد عبده؛ فقال عنه في
كتابه التاريخ السري: إنه فيلسوف كبير ، ووطني عظيم. وقد قرأت بدهشة وأسف
معًا ما يأتي بلسان محمد عبده:
(عرض علي الشيخ جمال الدين الفتك بإسماعيل يومًا عند مروره بعربته
يوميًّا على كوبري قصر النيل ، فاستحسنت رأيه ، ووافقته ولكن الأمر اقتصر على
الكلام بيننا ، ولم نوفق إلى شخص يتولى تنفيذ هذا العمل) ، فكفاني أن أقول بعد
هذا: (إن العالم المتمدن عمومًا ينظر شزرًا إلى الوطنيين ، ويحتقر بالأكثر أولئك
الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل) . اهـ
من ترجمة المؤيد.
* * *
المقابلة بين القولين
من قابل بين ما قاله اللورد في تقريره وما كتبه في كتابه (مصر الحديثة)
يرى فرقًا عظيمًا بين القولين ، فإن عبارة التقرير لا ذمَّ فيها، ولا تعريض وعبارة
التاريخ فيها ذم صريح، وتعريض ظاهر بل المدح الذي فيها بمعنى ما في التقرير
ضئيل مبهم يحتمل صرفه إلى الذم في بعض المواضع؛ فإنه لما وصفه بالعلم فضله
على السادات والبكري وهما ليسا من العلماء ، ولما ذكر أنه متهم بالفلسفة فسر ذلك
بالتفرقة بين القرن السابع والقرن العشرين. وقد قال المؤيد في هذا التفاوت ما يأتي:
قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة ، وهو صديق
مخلص للورد كرومر ، وقضى هذا اللورد زمنه الذي صادق فيه هذا الشيخ وهو
يساعده في الوظائف ويدافع عنه فيها. ويقول الآن بصريح العبارة: إنه لولاه ما
بقي في منصب الإفتاء طويلاً.
كان اللورد يطريه مدحًا في حياته كلما ذكر اسمه في مجلسه ، وكلما جاءت
مناسبة لذكره في تقاريره ، ويخيل لقارئ كتاب مصر الحديثة الآن أن اللورد يحاول أن
يطعن عليه أكثر من كل إنسان في مصر ، لولا ما سيق له من المدح فيه. فَلِمَ هذا؟.
* * *
(رأي المؤيد في صداقة اللورد للشيخ)
(إن جواب هذا السؤال موجود بين سطور اللورد كرومر فيما كتب عن هذا
الرجل في كتابه الأخير) .
ثم ذكر المؤيد في بيان ذلك أنه كان من زعماء الثورة العرابية ، وأوضح ذلك
وأكده وذكر قول اللورد أن الخديوي السابق عفا عنه بتشديد الإنكليز عليه في ذلك،
وأنه كان على خلاف كبير مع الخديوي ، ثم بين صاحب المؤيد رأيه ، وأضاف إليه
كلمة طالما حاكت في صدره ، ونوّه بها حتى لفظها اليوم ، فأراحنا، وأراح الناس؛
قال ما نصه:
من خلال هذا الكلام يظهر الجواب الحقيقي ، وهو أن اللورد كرومر لم يكن
صديقًا للمرحوم الشيخ محمد عبده كما كان هذا صديقًا مخلصًا له؛ ولكنه كان متمسكًا
بصداقته الظاهرية؛ لأنه كان يريد أن يضع في يده رجلاً قويّ العارضة ، لدود
الخصام ، عدوًّا لتوفيق باشا أولاً ، ولخلفه ثانيًا ، ولإسماعيل باشا قبل ذلك.
ولا مراء في أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان يكره طائفة الباشوات كما يقول
عنه اللورد من جهة ، وكان وطنيًّا صادقًا من جهة أخرى. فكان اللورد يحبه من الجهة
الأولى ، ولا يستطيع أن يخلص له الحبّ من الجهة الثانية؛ لذلك كان يطريه وهو
ينتفع بإطرائه. أمّا الآن وقد مات الشيخ محمد عبده ، وفارق اللورد كرومر مصر ،
فلم تكن ثَمَّتْ حاجة لأَنْ يداري اللورد فيه كل المداراة ، وإنما لاحظ أن يداري نفسه لما
كتب عنه أولاً فيما كتب عنه ثانيًا، فجاءت كتابته هكذا خليطًا من المدح والقدح ،
وثوب الرياء يشف عما تحته.
* * *
(قول المؤيد في الشيخ نفسه)
وعندنا أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان رجلاً عالمًا فاضلاً ذا خلال
محمودة كثيرة من صفات النجدة والوفاء والمروءة ، ولا نقول كما قال اللورد عنه:
إنه كان ملحدًا ، أو لا أدريا ، أو ضعيف الإيمان؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب
التي يستأثر الله بعلمها ، وأما ظواهره فكانت مجال مقال كثير لأصدقائه من جهة ،
ولأعدائه من جهة أخرى ، ولكنه كان على كل حال عالمًا مصلحًا يحاول ما استطاع
إصلاح الفاسد من الشئون التي طرأت على الدين ، ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ،
وفي آخر عهده من الدنيا كان يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح
من عند الله؛ فكان يجاهد في سبيل ذلك جهادًا حقيقيًّا ، وإنْ لم ينل حظّ الثقة العامّة
بذلك.
وأضعف الجوانب في أعمال وآراء الشيخ محمد عبده كان الجانب السياسي
منه ، فكان فكره السياسي خياليًّا غالبًا كما قال اللورد؛ لأنه كان في كثير من
الظروف يخيل له أن يقبض بكلتا يديه على اللورد كرومر من جهة ، وعلى الجناب
الخديوي من جهة ، فيفشل في الأمرين معًا حتى يقول الجناب الخديوي من جهته ما
يقول فيه، وحتى يضحك اللورد من هذا الضعف السياسي فيه.
هذه كلمتنا في المرحوم الشيخ محمد عبده ، قلناها بحرية تامة في هذه المناسبة؛
لنقول: إن كان اللورد أصاب في بعض ما قاله عن المرحوم الشيخ محمد عبده فقد
أخطأ في حقه مرتين الأولى في حياته؛ لأنه لم يكن يعضده ويساعده إلا لغرض
واحد ، وهو أن يكون عدوًّا حقيقيًّا دائمًا للخديو ، فكان يدفعه دائمًا إلى الأمام في ذلك،
والثاني أنه تعرض الآن للطعن على عقيدته ، والعقيدة مسكنها القلب خصوصًا وأن
الطاعن مسيحي على عالم مسلم فيما هو مسلم به.
(ولكن اللورد أراد من هذا الطعن شيئًا آخر وهو أن المسلم إن صار مصلحًا
يومًا ما لم يستطع أن يكون كذلك إلا وهو مارق من الدين. حتى إنه لما مدح الشيخ
بيرم ، وذكر من صفاته أنه كان يطبق أحكام الإسلام على المعلومات العصرية ، قال
عنه: إنه كان كمن يحاول أن يربع الدائرة) .
* * *
(قولنا فيما كتب المؤيد)
إذا تنازع الكاتب فكران أو شعوران عند الكتابة في موضوع هو أصل في
أحدهما والآخر فرع له؛ فيوشك أن يذهله الفرع عن أهم أركان الأصل كما وقع
للمؤيد ، فوجب أن نبين ما غلط به المؤيد هنا حتى خفي عليه به خطأ اللورد
الحقيقي لنفي الموضوع حقه؛ فنقول.
(1)
إن الأساس الذي بنى عليه المؤيد تفرقته بين كلامي اللورد في هذا
المقام غير صحيح ، وهو أن اللورد كان يطري الشيخ في حياته؛ إذ كان ينتفع
بإطرائه في دفعه لعداء الخديو، ثم ذمه بعد موته ، وخروجه هو من مصر لزوال
الحاجة. فإن هذا الثناء العظيم في تقريره الذي ليس عندنا مدح منه سواه قد كتبه
بعد موته ، وإذا كان عند صاحب المؤيد رواية لسانية عن اللورد فهي لا تقوم حُجة
عليه ، ولا يصح مقابلتها بما كتبه اليوم إلا أن يكون على سبيل التبع.
(2)
إن كون الأستاذ الإمام كان من زعماء الثورة العرابية لا يصلح سببًا ،
ولا جزء سبب لمساعدة اللورد إياه ، وإلا لساعد سائر زعمائها.
(3)
إن اللورد فسر بغض الشيخ محمد عبده للباشوات بأنه قلما وجد فيهم
صالحًا ، وأنه متى وجد الصالح لا يعرض عنه ، ولا يعارضه لصدق وطنيته ،
فوافقه صاحب المؤيد على كونه كان يكره الباشوات ، وعلى كونه كان صادق
الوطنية. ثم مثَّل بغضه للباشوات بعداوة الخديو الحالّ وأبيه وجدّه ، ونحن لا نوافقه
على هذا التمثيل الذي يوهم الحصر. أما كرهه لإسماعيل فهو معقول مهما كانت
سنه ، ومعارفه السياسية في ذلك العهد ، وسنبين ذلك.
وأما توفيق فقد كان هو وأستاذه جمال الدين من حزبه وشيعته على أبيه ، وقد
نقم منه إخراج أستاذه من البلاد ، ونفيه هو إلى بلده وكان راضيًا منه أتم الرضى
عندما ساعد الوزارة الرياضية على الإصلاح في البلاد. ولما حدثت مبادئ الثورة
العرابية كان الشيخ مقاومًا للعرابيين ، ولما استفحل الأمر كان مرشدًا معتدلاً بِحَسَب
علمه ، وقد ظهر له في أثناء ذلك استعانة توفيق باشا بالإنكليز على العرابيين ،
فكرهه في أثناء ذلك كراهة شديدة كما يعلم من مذكراته في شأن تلك الحوادث ،
ومنها أن مذبحة الإسكندرية كانت بإيعاز من الخديو؛ ليثبت لإنكلترا وسائر
الأوربيين عجز عرابي عن حمايتهم ، وقد كتب بردولي المحامي عن العرابيين شيئًا
من هذا في كتابه نقلاً عنه.
وأما العباس - أيده الله بتوفيقه وعنايته - فقد كان في أكثر مدة ولايته على مودة مع
المرحوم ، وهو الذي اقترح من نفسه جعله مستشارًا في الاستئناف ، وهو هو الذي
اختاره بنفسه مفتيًا للديار المصرية ، ولم يكن للورد دخل في ترقي الشيخ محمد
عبده في الوظائف إلا عدم المعارضة ، والفضل الإيجابي في ذلك للأمير وحده كما
كان يصرح به الشيخ مرارًا.
ولكن حدث في السنين الأخيرة بينهما شيء من سوء التفاهم بسعاية بعض
المفسدين الذين يعرفهم صاحب المؤيد أكثر من غيره إذ كان يقاوم سعايتهم ومفاسدهم
إلى غضب هو أيضًا، وزاد سوء التفاهم تلك المسألة التي أشار إليها المؤيد في ترجمة
حسن باشا عاصم ، فقال ما معناه: إنها مسألة كان يرى نفسه فيها قائمًا بواجب تفرضه
عليه الذمة ، وكان يراه مولاه فيها متعنتا. وله أن يقول مثل ذلك في صديقه وشريكه
فيها الشيخ محمد عبده.
فمن هذه الخلاصة الوجيزة يعلم أن إظهار اللورد الصداقة للشيخ بضع عشرة
سنه لا يتأتى أن يكون المراد به دفعه في عداوة الخديو كما قال المؤيد، على أنه كان
أثبت من أن يندفع بيد اللورد أو غيره ، فقد كان في الذروة العليا من الاستقلال
في فكره وإرادته ، وناهيك أيضًا بوطنيته وديانته.
حقًّا أقول: إنني كنت أراه حتي في المدة الأخيرة التي قوي فيها سوء التفاهم
بينه وبين الأمير يتمنى لو يكون الأمير موفقًا مؤيدًا في كل شيء يرفع شأن البلاد،
ويفيدها مصونًا من كل شيء ضار ، وإنني سمعته غير مرة يقول: إننا كلنا معلقون
برجليه فإذا أهبطه الإنكليز درجة هبطنا تحته لا معه، وإننا كنا مرة نتحدث في
استرضائه ، فأقسم بأنه لو أمره أن يخرج من البلد لامتثل. ولكنه كان ينكر على
المعية أمورًا كثيرة ، ويتمنى الوفاق الممكن الذي لا يصحبه ضرر من جهة أخرى
على أن المؤيد استنبط من عبارة اللورد أنه يحاول أن يطعن على الشيخ أكثر من كل
إنسان في مصر لولا ما سبق من المدح فيه ، فهل يكفي أن يكون سبب هذا هو
الاستغناء عنه بموته ، وخروجه هو من مصر؟ .
(4)
توجيه المؤيد قول اللورد في الأستاذ الإمام إنه كان خياليًّا غير وجيه؛
فإنه جعل تأويل ذلك بعد التسليم به أن الأستاذ كان يخيل له أن يقبض بكلتا يديه
على اللورد من جهة وعلى الخديو من جهة ، فيفشل في الأمرين. وهذا الاستنباط
من خيال المؤيد ما أظن أنه طاف بخيال اللورد ، إذا البعد بين الخيالين شاسع جدًّا.
ولخيال المؤيد وجه ودليل من الخارج ، فإن الشيخ رحمه الله كان يتقرب من الأمير
للاستعانة به قبل كل شيء على خدمة دينه في نحو إصلاح الأزهر، ثم إبداء
النصيحة الواجبة إذا عرض موجبها ، وكثيرًا ما كان يعرض ذلك؛ وقد سمعت من
فم الأمير في قصره بالقبة أنه يستشير الشيخ ، ويعجبه رأيه ، ويثق به. وكان
أيضًا يختلف إلى اللورد للاستعانة به على خدمة وطنه ، وما كان يطلب منهما شيئًا
لنفسه. ومن مصلحة البلاد أن يكون فيها رجال يثق أمير البلاد وعميد الاحتلال معا
بكفاءتهم وصدقهم ، وذلك من الحقيقة لا من الخيال.
(5)
ذكر المؤيد في موضع أن اللورد طعن في دين الشيخ محمد عبده ،
وجعله لا أدريا أو ملحدًا حتى إن من قرأ عباراته ، ولم يكن عارفًا بكلمة اللورد يظن
أنه جزم بهذا الطعن واللورد لم يجزم بذلك ، وإنما قال:(أخشى) كما في ترجمة
المؤيد نفسه، أو (أظن) كما في ترجمة بعض الجرائد ، فوجب علينا أن نبين
ذلك.
(6)
قال المؤيد: إنه لا يطعن في إيمان الشيخ؛ لأن الإيمان محله القلب ،
وإن ظواهره كانت مجال مقال كثير لأصدقائه ولأعدائه! ! فنقول: إننا نحن نوافق
المؤيد على قوله: إن الإيمان من أعمال القلوب التي يستأثر الله بعلمها ، ويؤيد هذا
القول الحديث الصحيح (هل شققت عن قلبه) لمن قال: يا رسول الله ، أعط فلانًا؛
فإنه مؤمن. ولكن المؤيد وقع في الحكم على القلب الذي أنكر على اللورد؛ إذ قال:
(قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة ، وهو صديق
مخلص للورد كرومر) ؛ فالإخلاص كالإيمان محله القلب ، ولا يمكن أن يطلع عليه
إلا الله تعالى ، فكيف أجاز المؤيد الحكم على القلب مرة ومنعه أخرى؟
أما الظواهر التي تدل على قوة إيمانه فهي أقوى من الظواهر التي تدل على
إخلاصه في صداقة اللورد مع العلم بأنه كان أبعد الناس عن النفاق والرياء ، فإنه
لم يعمل للورد عملاً خاصًّا به أو بدولته ، ولكنه وقف حياته على خدمة مصر
والإسلام ابتغاء مرضاة الله. والمؤيد - وإن كان قد أدخل في مسألة الظواهر كلمة
محتملة ككلمة أبي سفيان لهِرَقْل ، فقال: إنها كانت مجال مقال كثير - قد قال من
نفسه مقالاً جازمًا هذا نصه:
(ولكنه كان على كل حال عالمًا يحاول ما استطاع إصلاح الفاسد من الشئون
التي طرأت على الدين ، ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر، وفي آخر عهده من الدنيا كان
يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح من عند الله ، فكان يجاهد في
سبيل الله جهادًا حقيقيًّا ، وإن لم ينل حظ الثقة العامة بذلك) فالذي يعتقد هذا
الاعتقاد لا يمكن أن يكون مُلحدًا أو لا أدريًا؛ أي: شاكًّا في وجود الله يقول: لا أدري
أهو موجود أم لا؟
صدق المؤيد وإنْ كان في تعبيره بلفظ (رسول إصلاح) غرابة لما لها من
المعنى الشرعي الذي ليس بمراد هنا. فإن الأستاذ الإمام كان يعتقد أن دين الإسلام
لا بد أن يعود إليه مجده ونوره الذي حال دونه ظلام البِدَع والخرافات والتقاليد
والعادات ، وأنه هو عالم بحقيقته وبكيفية تسرب البدع إليه، وقادر على بيان ذلك
وإزالته بالحُجة ، وأن هذا العمل فرض محتّم عليه.
وقد غمر هذا الاعتقاد عقله وقلبه ، وملك جنانه ووجدانه ، فبذلك كان يرى أنه
كان ملهم ومسخر من الله تعالى لهذا العمل ليس في استطاعته أن يتوانى فيه. وقد
ذكر قاسم بك أمين في تأبينه أن بعض أصدقائه كانوا يلومونه على تفريطه في صحته
وتعبه في بعض الأعمال التي قَلَّما تأتي بما يتوخاه من الفائدة فيها ، فيعدهم
بالتخفيف ، ولكنه يصبح في الغد أشد اهتمامًا وعنايةً مما كان عليه بالأمس. وصدق
المؤيد في قوله: إنه لم ينل حظ الثقة العامة بإصلاحه ، إذ لو نال هذا الحظ لَمَا قال
لورد كرومر في الإسلام ما قاله اليوم؛ لأن الإصلاح العملي كان يمنعه من ذلك.
* * *
رأينا في سبب اختلاف قولي اللورد
قال المؤيد: إن الجواب عن التفاوت بين كلامَيِ اللورد مذكور في كتابه ، وقد
صدق في هذه ، ولكن أخطأ اجتهاده فيما بينه به؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص. أما
هذا النص فهو في موضعين ، ذكر أحدهما المؤيد فيما ترجمه من كلام اللورد في
الشيخ وأهله في الرد ، وأغفل أحدهما في الموضعين. أما الذي ذكره وأهمله فهو
هامش اللورد [1] الذي يذكر فيه دهشته من استمداد مستر بلنت أخبار تاريخه السّرّي
للاحتلال من محمد عبده ، وفي هذا الكتاب من التشنيع على اللورد وسياسته ما فيه.
وأما الذي أغفله المؤيد فدونك ترجمته نقلاً عن حاشية ص 524 من المجلد الثاني
في سياق الكلام عن المعارف: لقد دهشت بل اعترتني خيبة أمل عندما قرأت في
كتاب ألفه مسيو جورفيل رسالة للشيخ محمد عبده أعطى فيها ذلك الرجل الشهير
رجاحة اسمه (أو قوة اسمه) لِتُهَمٍ أو تعريضات من هذا النوع ، ولا بد أنه كان على
يقين من أنها لا أساس لها. وكنت أرجو منه أفضل من هذا. اهـ علق هذا على
هامش معناه: هل نظر الإنكليز إلى انحطاط المصريين السياسي أو الاجتماعي
نظر المغتبط ، فلم يحاولوا ترقيتهم كما يزعم بعض سفلة الناقدين؟
ونحن نقول: إن الرجل لم يعط اسمه لترويج التهم أو التعريضات كما ظن
اللورد ، وإنما أراد الموعظة والتنبيه إلى الصواب الذي يعتقده ، ولكن صاحب
الكتاب استخدم اسمه لترويج كتابه ، وهو ما كان يقول إلا ما يعلم تمام العلم أنه
صحيح كل الصحة. وإذا كان اللورد يرجو منه يوم كتب تلك الرسالة إلى جورفيل
أمرًا أفضل من هذا فهو أيضًا ربما كان يرجو من اللورد قبيل ذلك أمرًا أفضل مما
رأى منه عند الحاجة إلى مساعدته في أهم وأفضل غرض له من حياته. وإننا نورد
الآن ما جاء في رسالة الأستاذ الإمام عن المعارف وهو:
ما كتبه الأستاذ الإمام
لجرفيل عن المعارف
(التعليم العام) لا تنفق الحكومة المصرية على التعليم العام إلا مبلغ مائتي
ألف جنيه مع أن في وسعها إنفاق أكثر منه؛ لأن دخلها قد بلغ في الميزانية اثني
عشر مليونًا من الجنيهات ، وهي لا تنفك عن زيادة أجور التعليم التي
تتقاضاها من الناس على تعليم أولادهم من حين إلى حين ، وقد بلغت من ذلك إلى
حد أن صارت تربية الأولاد عبأً ثقيلاً حتى على أوساط الناس ، وإذا استمر هذا
التزايد أمسى التعليم زخرفًا لا يتسنى التحلي به إلا في بيوت الأغنياء فقط.
ومن المبادئ التي يجري عليها القابضون على أزمة أمورنا أنْ لا حق لأولاد
الفقراء في نوع ما من التعليم ، فهم يجاهرون به كل المجاهرة ، ويبدو منهم على
الدوام في حديثهم وتقاريرهم وكتبهم.
نعم ، إنه من المسلم إلى حد محدود أن الوالد الذي يخصص جزءًا من دخله
لتربية أولاده يهمه أن يحصل من التربية على مقابل هذا الجزء ، وأنه يراقب ولده
في التعلم مراقبةً فعليةً ليحمله على الاستفادة من تعليم يكلفه كثيرًا من النفقات ، ولكن
الذي لا يسلم به أحد ولا دليل عليه من التجربة هو أن يستنتج من هذا أن كل تعليم
مجاني يكون عقيمًا ، فإنه مما تنبغي ملاحظته أن التعليم في المدارس المصرية من
عهد محمد علي باشا إلى سنة 1882 كان مجانيًّا في كل هذه المدة ، ولم يمنع هذا أن
تنتج تلك المدارس عددًا من الرجال المتعلمين تعلمًا حقيقيًّا ، ومعظمهم من الفقراء،
ولم يضر أوربا أن التعليم مجاني في كثير من البلدان ، ولكن أي فائدة لنا من
الاستشهاد بما غبر من الاختبار في مصر ، وما حضر من الاعتبار بأوربا ما دام
الذين بيدهم مقاليد حكومتنا مصممين على أن لا يقبلوا إلا ما يهديهم إليه فكرهم.
يشق على الإنسان أن يرى كل سنة مشهد توارد الآباء والأمهات على نظارة
المعارف يقودون صغارهم إليها ، سائلين التصدق عليهم بقبولهم مجانًا في مدارسها
معتذرين بفقرهم، ومدلين بما يكون بعض أفراد أهلهم قد أدوه إلى الحكومة من الخدم ،
مؤملين على الدوام أن العناية الإلهية والمرحمة القلبية تلين صلابة ذلك المبدأ ولو
مرة واحدة ، ولكنهم يضطرون في آخر الأمر إلى الرجوع إلى بيوتهم أو إلى قراهم
خائبين خائري العزائم غير راضين لا يدرون ماذا يفعلون بهؤلاء الأبناء الأعزاء
الذين تمنوا لهم أماني كثيرة ما حيلتنا؟ يقولون لنا: (إن بين ظهرانيكم من أبناء
وطنكم أغنياء في وسعهم إنشاء مدارس مجانية للفقراء) .
آهٍ واأسفاه! نعم إن أبناء وطننا في وسعهم القيام بهذا العمل وبأحسن منه ،
ولكن مصر لما يوجد فيها محبون للإنسانية ، وأخص من بينهم مُحبّي الإنسانية
المستنيرين، قد يوجد أحيانًا بعض منهم يشيدون مساجد لا حاجة إليها لكثرتها عندنا ،
وبعض آخر يقف جزءًا من عقاره على وليّ ، ولكن همة الناس وانبعاثها إلى
العمل لم توجه نحو التعليم فأمتنا أقامت زمنًا طويلاً تعتمد على الجماعة في كل شيء،
ومن أجل كل شيء.
أما إذا نحن نظرنا إلى هذا التعليم الذي تقوم به الحكومة المصرية من جهة
قيمته ، فإننا نضطر إلى القول بأنه قَلَّما يُكَوّن رجلاً في قدرته أن يمارس حرفة تقوم
بمعيشته ، ويستحيل أن ينشئ عالمًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا ، فكيف بالنوابغ في شيء
من هذا.
وليس للتعليم العالي بمصر سوى مدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة
المهندسخانة. أما جميع العلوم الأخرى التي تتألف منها معارف الإنسان فالمصري
قد يأخذ منها بعض معلومات سطحية في المدارس التجهيزية ، ولكن يكاد يكون من
المتعذر عليه أن يدرسها دراسة وافية ، بل يقضى عليه غالبًا أن يجهلها - فعلم
الاجتماع بفروعه التاريخية والأخلاقية والاقتصادية ، وعلم الفلسفة القديمة والحديثة ،
وعلم آداب اللغة العربية واللغات الأوربية ، وكذلك الفنون الجميلة لا تعلم بالكلية في
مدرسة ما من المدارس المصرية.
فكان فينا القضاة والمحامون، والأطباء والمهندسون، ممن تختلف درجاتهم
في العلم ، ولكننا لا نجد في طبقة منهم ذلك الباحث ، ولا ذلك المفكر ، ولا ذلك
الفيلسوف ، ولا ذلك العالِم ، ولا ذلك الإنسان الذي يمتاز ببُعد الفكر والنظر ،
وبشهامة الفؤاد ، وكرم السجايا الذي أوقف حياته كلها على السعي وراء مطلب من
مطالب الكمال.
وصفوة القول أن خطّة الحكومة التي رسمَتْها لنفسها ، ويظهر أنها مصممة
على أن لا تحيد عنها تتلخص في أمور ثلاثة:
(أولها) : مساعدة التعليم الابتدائي في المدارس الصغيرة المُسمّاة بالكتاتيب ،
حيث تعلمُ الكتابة والقراءة وقواعد الحساب الأربع.
(ثانيها) : التقليل من نشر التعليم في الأمة ما أمكن.
(ثالثها) : حصر التعليم الثانوي والتعليم العالي في أضيق الدوائر.
المصريون موقنون بأنّ مَنْ بِيَدِهِم مقاليد أمورهم العمومية لا يعملون كل ما في
وسعهم لترقية الناشئين أخلاقًا وعقولاً ، وهذا الرأي مما يدعو إلى الأسف والأسى
من جميع الوجوه ، فإنه سيحدث في الرأي العامّ تيارًا من الاستياء إن لم يكن عاجلاً
فآجلاً ، وليت شعري ماذا يربح الإنكليز من التمادي في ترك هذا الاعتقاد راسخًا في
النفوس؟ وإذا كان ثَمَّة أمْر يصحّ أن يتلاقى فيه الطرفان ، ويكون قاعدة للاتحاد ،
فإنما هو التعليم العام إذ لا يمكن أن يوجد تناقض بين مصلحة الإنكليز ومصلحة
المصريين في هذا المقصد.
فمن أراد استدرار ما في مصر من المنافع والخيرات فسبيله في ذلك أن يُعْنَى
بتعهد كل ما فيها من موارد الثروة ، وأن يبدأ بالإنسان بكل ما فيه من معاني الإنسان ،
فلا بد من امتزاج العنصرين الأوروبي والوطني ، وأخذهما على التكاتف في
السير نحو هذه الغاية يدًا بيد.
وَلَعَمْرِي إن الإنكليز لَيسيئون إلى أنفسهم إذا أوهنوا الأهلين ، وأرخصوا من
قيمتهم ، وصغروا من شأنهم فإنما مصلحتهم في أن يكون أبناء هذا الوطن أعزاء
أغنياء أحرارًا ، فإن موارد الثروة والخير للإنكليز منوطة بما يصيبنا من ثراء
ورخاء.
هذا ما جاء في رسالة الشيخ محمد عبده لجورفيل عن المعارف ، ويليه كلام
عن الحقانية ومعاملة الإنكليز للموظفين المصريين ملخصه أنهم يلتمسون ضعيف
الإرادة الذي يخضع لهم في كل شيء ، ولا يناقشهم في عمل ما ، ويقصون
المستقلين في الفكر والإرادة، وأن كل رئيس منهم يعد نفسه مشرعا ، فكلما خطر له
استبدال قانون بقانون وضع قانونًا جديدًا وأنفذه؛ لأن مجلس النظار لا استقلال له
فيناقش أو يعارض، ومجلس شورى القوانين ليس له إلا حق بيان الرأي، والحكومة
غير مكلفة الأخذ بقوله ، على أنّ فيه من الضعف ما فيه؛ لأن الأفراد الذين يصلحون
فيه للبحث قليلون.
فأيّ شيء من هذه الرسالة ينكر اللورد لنثبته له؟ أما إنه لا ينكر منها شيئًا ،
ولكنه عز عليه أن يرى في كتاب أوربي كلامًا في عيوب إدارة مصر لرجل
معروف بالصدق ، وعلوّ المكانة عند الأوربيين؛ ولذلك قال: إنه أعطى رجاحة
اسمه لجورفيل ، إلخ.
إن اللورد نفسه قد اعترف في كتابة بأن المعتدلين الذين سمّاهم حزب أو أتباع
محمد عبده لم يشجعوا كما ينبغي ، وقال في تقرير سنة 1905: إن تعيين سعد باشا
زغلول في الوزارة - وهو أشهرهم - إنما هو تجربة. فهل له أن يقول مع ذلك:
إن ما كتبه الشيخ لموسيو جورفيل: لا أساسَ له في اعتقاده؟
لقد كان هو وجميع أهل الرأي في مصر يعتقدون حقية ما كتبه ، وهذا
الاعتقاد لا يزول إلا بعمل ينقضه ، فإذا كانت الحكومة الاحتلالية مخلصة فيما فعلت
وتفعل لمصر ، وكان ما ذكره الشيخ من عيوب إدارتها غير متعمد منها فلتتداركه
بمساعدة المستقلين من المصريين ، ولا يعسر عليها الاهتداء إليهم.
أما ما قاله الشيخ في رسالة عن المعارف ، فمنه ما هو حكاية عن اعتقاد
المصريين واستيائهم ، وهو مؤيد بما تذكره جميع الجرائد آنًا بعد آنٍ ، وبما ظهر في
مجلس الشورى والجمعية العمومية ، فكيف يقول اللورد: إنه لا أساس له؟ ألم ينبأ
بما جرى في هذا العام - حتى بعد أن قام ناظر المعارف بهذه النهضة الجديدة في
ترقية التعليم من جهات متعددة - من قيام قيامة التلاميذ والجرائد والناس على مستر
دنلوب بما كان قد ازدحم في مراكز الفكر والشعور من سوء حال الماضي. إن لم
يكن قد ظهر به مصداق قول الشيخ: إنه سيحدث في الرأي العام تيار استياء عامّ
من حال التعليم عاجلاً أو آجلاً فإن ما ظهر قريب منه ، ولولا هذا الإصلاح الجديد
لظهر أتمّ الظهور.
أما باقي كلام الشيخ فهو حكاية عن سياسة المحتلين في التعليم ، وهو مؤيد بما
كتبه اللورد في تقرير تلك السنة؛ فإنه قال (كما في ص 133 وما بعدها من
النسخة العربية لتقريره عن سنة 1905) :
(يراد بهذه السياسة إبطال التعليم المجاني تدريجًا من المدارس الأميرية التي
هي فوق الكتاتيب ، وزيادة الأجور فيها) ثم احتجّ على ذلك بكون الغرض منها
تعليم التلاميذ تعليمًا أوربيًّا؛ لكي تعد جمهورًا من الشبّان المصريين لخدمة الحكومة
ولتعاطي بعض الفنون ، ثم ذكر أن محمد علي أنشأ هذه المدارس لِفرنجة البلاد ،
وأن عباسًا الأول ألغاها بعد أن خرج منها ما يزيد على الوظائف ، وأعادها إسماعيل
لفرنجة البلاد كما كانت ، وأنها كانت مجانًا بل كان التلاميذ فيها يأكلون ويأخذون
مرتبات ، وأظهر استحسان ذلك من قبلُ ، والاستغناء عنه الآن ، ثم قال: (ويجب
على الحكومة أن تتوخى جعل أجرة التعليم في كل مدارسها المتفرنجة مقاربة للنفقات
التي تنفقها عليه. والأموال التي تنفقها على هذه المدارس تصير تنفقها على التعليم
الأهلي الألزم لحاجة الأمة) ، ويعني بالألزم لحاجات الأمة تعليم الكتاتيب والصنائع
فقط ، وهذا ما لا يسلم به مصري قط.
ثم ذكر أن الإنكليز لما احتلوا البلاد وجدوا أن كل ما تنفقه المعارف العمومية
(إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة ، أكثرها من أغنى أغنياء السكان ، ولا تعلمهم
إلا تعليمًا أوربيًّا فأخذوا في تغيير تلك الحال ، وبذلت الهمة منذ سنة 1884 لأخذ
الأجور من التلامذة ، ولإبطال التعليم المجاني تدريجيًّا؛ ولكن بقى النجاح في هذا
السبيل بطيئًا جدًّا إلى عهد قريب) ، ثم استدل بذلك على (أن إبطال التعليم المجاني ،
وازدياد أجرة التعليم لَيْسَا من دلائل التأخر ، ولا هما مضرّان بمصلحة البلاد
الحقيقية ، بل هما بمثابة إبطال امتياز) إلخ.
فكيف يقول اللورد مع هذا: إن الشيخ كتب ما يعلم أنه لا أساس له؟
سبحان الله! كأن الشيخ كان يكتب سنة 1905 لجورفيل في الوقت الذي كان
اللورد يكتب فيه لناظر خارجيتهم ما يؤيد قوله! ألم تر أن الشيخ قد كتب أنهم - يعني
وُلاة الأمور - يقولون لنا: إن فيكم أغنياء يجب أن ينشئوا المدارس المجانية للفقراء.
وأن اللورد كتب في تقريره (ص135 و 136) : (وإذا أريد تمهيد السبل للتلامذة
الذين تبدو عليهم مخايل النجابة الفائقة لكي يدخلوا المدارس العليا ووسائطهم المالية
لا تكفي لذلك وجب أن يقف المحسنون أموالاً لتلك المدارس التي يعلَّم بها من كان
مثل أولئك التلامذة ، ووقف هذه الأموال لتعليم التلامذة الفقراء الذين يستحقون
أن يساعدوا أنفع جدًّا من تكثير المدارس الابتدائية المتفرنجة) .
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
راجع الأسطر الأخيرة من ص 95 من المنار.