الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: عبد القادر المغربي
مناظرة عالمين في مجلس المأمون [*]
إذا أردنا من القرآن كلام الله: كان قديمًا، لأنه يكون إذ ذاك عبارة عن صفة
من صفاته تعالى، وهي قديمة، وإن أريد بالقرآن ماعدا الصفة القديمة من صوت
مسموع أو مصحف مصنوع: كان حادثًا.
هذه المسألة على بساطتها ووضوحها كان لها في تاريخ الإسلام الديني أسوأ
الأثر، وآل الأمر فيها إلى أن يسجن مثل الإمام أحمد بن حنبل، ويقيد ويعذب،
وكان سواد الأمة ومعظم علمائها من الفريق القائل بأن القرآن قديم.
أما الفريق القائل بالحدوث، ويسمّى (المعتزلة) فاتفق له من بعض خلفاء
بني العباس من يأخذ بقوله، ويحمل الناس عليه، ومن ثَمَّة كانت صولته أشد،
وعامل جبروته أنفذ، وكان من هؤلاء الخلفاء الذين أيدوا القول بالحدوث المأمون
بن الرشيد، فكان هذا الخليفة على ما فيه من علم صحيح وعقل رجيح، يشدد على
الناس وينكل بهم إنْ قالوا بما يخالف رأيه، فكان الناس لعهده يستترون في بيوتهم،
وينقطعون عن شهود الجمعة والجماعة، ويتسللون من بلد إلى بلاد خشية الفتنة
والإرهاق، وقد مُنِعَ الفقهاء والمحدثون من القعود للناس في المسجد الجامع الواقع
في الجانب الشرقي من الرصافة، وفي غيره من المواضع، إلا بِشْرًا المِرِّيسِيّ
ومحمد بن الجهم ومن رأى رأيهما من علماء المعتزلة القائلين بحدوث القرآن، وكل
من أظهر مخالفتهم قيد إليهم، وعرض قوله عليهم، فإن أصر قتل سرًّا أو جهرًا ،
أو نفي من الأرض، وكان كثيرون من العلماء يوافقونهم في الظاهر خوفًا على
أنفسهم، وفي الباطن يَبرَأون إلى الله مما أعلنوه.
شاع أمر هذه المحنة في بغداد، وجعل أهل الأمصار الإسلامية يتداولون
خبرها ويتعوذون بالله من شرها: قال عبد العزيز بن يحيى الكناني - الذي نلخص
هذه المقالة من رسالة له ألفها فيما حدث له -: اتصل بي وأنا بمكة ما ابتلي به الناس
في بغداد، وكيف استطال عليهم بِشْر المِرِّيسِيّ ولَبَّسَ على أمير المؤمنين وعامة
أوليائه، فأطال همي هذا الخبر، وأطار نومي، فخرجت من بلدي متوجهًا إلى ربي
وأسأله سلامتي حتى قدمت بغداد، فشاهدت من غلظ الأمر وامتداده أضعاف ما كان
يصل إِلَيَّ.
ثم إن عبد العزيز جعل بعد وصوله إلى بغداد يبتهل إلى الله أن يسدده، ويثبت
عزيمته، ويرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى قهر تلك الفئة الجائرة، وكف عاديتها،
فبدا له أن يخفي أمره عن الناس جميعًا خشيةَ أن يقتل قبل أن يسمع كلامه، ثم
ارْتَأَى أخيرًا أن يقف بعد صلاة الجمعة في جامع الرصافة ويرفع صوته بمخالفة
أهل البدعة وتسفيه آرائهم وطلب محاجّتهم، فإن إشهاره نفسه على هذه الصورة
يحول دون اغتياله قبل مناظرته، واستماع قوله، ولم يكد ينتهي الإمام من صلاة
الجمعة في ذلك الجامع حتى سمع الناس من الصف الأول حيال القِبْلَة والمنبر،
صوت رجل مكّيّ الزّيّ واقف على قدميه ينادي بأعلى صوته ابنه الصغير الذي
أقامه قبالته عند الأسطوانة الأخرى:
الأب: ما تقول في القرآن يا بني؟
الابن: كلام الله منزل غير مخلوق يا أبتي.
فارتاع الناس لهذه المحاورة وهربوا على وجوههم خارجين من المسجد،
وأسرعت الشرطة فاحتملوا عبد العزيز وابنه إلى رئيسهم (رئيس البوليس إذ ذاك
عمرو بن مسعدة) وكان جاء لِيُصَلِّيَ الجمعة في جامع الرصافة.
الرئيس: أمجنون أنت؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس: موسوس؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس: معتوه؟
عبد العزيز: لا ، والحمد لله، وإني لَصحيحُ العقلِ ، جيّدُ الفهْمِ ، ثابتُ المعرفةِ.
الرئيس: فمظلوم أنت؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس لأصحابه: مروا بهما سحبًا إلى منزلي.
فاحتملهما الشرطة، وجعلوا يعدون بهما سحبًا شديدًا، وأيديهما في أيديهم يمنة
ويسرة، حتى صاروا بهما إلى منزل الرئيس على هذه الحالة الغليظة، فأُدْخِلا عليه
وهو جالس في صحن داره على كرسي من حديد وشواره عليه [1] .
الرئيس: مِن أين أنت؟
عبد العزيز: من أهل مكة.
الرئيس: ما حملك على ما صنعت بنفسك؟
عبد العزيز: طلبت القربة إلى الله ورجاء الزلفى لديه.
الرئيس: هلاّ فعلْتَ ذلك سِرًّا مِن غير نداءٍ ولا إظهارِ المخالفة لأمير
المؤمنين! ! ولكن أردت الشهرة والرياء والسؤدد لتأخذ أموال الناس.
عبد العزيز: ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين، والمناظرة بين يديه لا
غير ذلك.
الرئيس: أوَتفعلُ ذلك؟
عبد العزيز: نعم، ولذلك قصدت، وبلغت بنفسي ما ترى، وتغريري بنفسي
وسلوكي البراري أنا وولدي رجاءَ تأدية حقِّ الله فيما استودعني من العلم والفهم في
كتابه، وما أخذه عليّ وعلى العلماء من البيان [2] .
الرئيس: إن كنت إنما جعلت هذا سببًا لغيره من المطالب إذا وصلت إلى أمير
المؤمنين فقد حل دمك.
عبد العزيز: إن تكلمت في شيء غير هذا، وجعلت هذا ذريعة إليه، فدمي
حلال.
فوثب الرئيس ، وقال لأعوانه أخرجوه بين يدي، فأخرجوني أنا وابني بين
يديه، وهو راكب على فرسه، وجعلوا يعدون بنا على وجوهنا، وأيدينا في أيديهم،
حتى وصلنا إلى دار الخلافة الشرقي من بغداد. فدخل الرئيس على المأمون،
وبقيت أنا وابني في الدهليز واقفين على أرجلنا، فأطال ثم خرج إلى حجرة له وأمر
بي:
الرئيس: أخبرت أمير المؤمنين بخبرك، وما فعلت، وما سألته من الجمع
بينك وبين مخالفيك للمناظرة بين يديه، وقد أمر أطال الله بقاءه وأعلى أمره بإجابتك
إلى ما سألت، وأمر بجمع المناظرين على هذه المقالة إلى مجلسه - أعلاه الله - في
يوم الإثنين الأدنى، ويحضر هو بنفسه معهم ليناظروا بين يديه، ويكون هو الحكم
بينكم.
عبد العزيز: أطال الله بقاء مولانا أمير المؤمنين، وأيد دولته.
الرئيس: أعطنا كفيلاً بنفسك حتى تحضر معهم يوم الإثنين، وليس بنا حاجة
إلى حبسك.
عبد العزيز - أدام الله عزك، أنا رجل غريب، ولست أعرف في هذا البلد
أحدًا، ولا يعرفني من أهلها أحد، فمن أين لي من يكفل بي، خاصّة مع إظهاري
مقالتي، لو كان الخلق يعرفونني حق معرفتي، لتبرأوا مني وهربوا من قربي
وأنكروني.
الرئيس: نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم، وتنصرف
فتصلح من شأنك، وتتفكر في أمرك، فلعلك ترجع عن غَيّك، وتتوب من فعلك،
فيصفح أمير المؤمنين عنك.
عبد العزيز: ذلك إليك أعزك الله، فافعل ما رأيت. ولما جاءت غداة يوم
الإثنين، حمل عبد العزيز مكرمًا إلى دار الخلافة، وأدخل إلى حجرة رئيس
الشرطة، فسأله هذا عما إذا كان لم يزل مقيمًا على رأيه، ثم نصحه وحذره وخامة
عاقبة مخالفة أمير المؤمنين فيما إذا ظهر عليه مناظروه، وإنه ليس حينئذ إلا السيف،
وإنه إنْ ندم ورجع عن مقالته سأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وضمن له جائزة
وقضاء ما له من حاجة، فأجابه عبد العزيز بأنه ما خرج من بلده إلا رجاء إقامة
الحق.
الرئيس وقد وقف على رجليه: قد حرصت على خلاصك جهدي، وأنت
حريص على سفك دمك جهدك.
عبد العزيز: معونة الله أعظم وألطف من أن ينساني، وعدل أمير المؤمنين
أوسع من أن يضيق عليّ.
وكان قد صدر الأمر إلى بني هاشم أن يركبوا، وإلى القضاة والفقهاء
الموافقين لهم على مذهبهم وسائر المتكلمين والمناظرين أن يحضروا، والقواد
والأولياء [3] ، فركب القوم بالسلاح لإحداث الهيبة في نفس عبد العزيز وسائر الناس
الذين يوشك أن يفسدهم، قال عبد العزيز ثم أذن لي، فلم أزل أنقل من دهليز إلى
دهليز حتى صرت إلى الحاجب صاحب الستر الذي على باب الصحن [4] .
الحاجب: إن كنت تحتاج إلى تجديد الوضوء؟
عبد العزيز: ما لي إلى ذلك حاجة.
الحاجب: اركع ركعتين.
(عبد العزيز ركع أربع ركعات ودعا الله) .
الحاجب: استَخِر الله وقم فادخل.
فأزاح الستر وأخذ الرجال (التشريفاتية) بيدي وعضدي وجعل أقوام أيديهم
في ظهري وعلى رقبتي وطفقوا يعدون بي. ونظرني المأمون وأنا أسمع صوتًا:
(خلوا عنه) ، وكثر الضجيج من الحجاب والقواد بمثل ذلك، فخلوا عني، وقد كاد
يتغير عقلي من شدة الجزع، وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح، وهو
ملء الصحن، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا
دخلتها.
قال عبد العزيز: فلما أوصلني الحُجّاب إلى باب الديوان، وقفت فسمعت
المأمون يقول: أدخلوه قرّبوه، فلما دخلت من باب الديوان، وقعت عيني عليه،
وقبل ذلك لم أنتبه إليه لما كان على باب الديوان من الحجاب والقواد، فقلت: السلام
عليك ، يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته، ثم قال: ادْنُ مِنّي، فدنوت منه، ثم جعل يقول: ادن مني، فدنوت منه،
ثم جعل يقول: ادنُ وأدنو، ويكرر ذلك وأنا أدنو خطوةً خطوةً، حتى صرت إلى
الموضع الذي يجلس فيه المتناظرون ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني، فلما
انتهيت إلى الموضع قال لي المأمون: اجلس ، فجلست.
وسمعت رجلاً من جلسائه يقول - وقد دخلت الديوان -: يا أمير المؤمنين ،
يكفيك من كلام هذا قُبْح وجهه، فوالله ما رأيت خلقًا لله أقبح وجهًا منه، فسمعت
قوله هذا وفهمته، وما رأيت شخصه، على ما كنت فيه من الجزع والرعدة.
قال عبد العزيز: وتبين لأمير المؤمنين ما أنا فيه من الجزع، وما قد نزل بي
مِن الخوف، فجعل ينظرني وأنا أرتعد خوفًا وأنتفض، وأحَبّ أن يؤنسني، ويسكن
روعتي، فطفق يكثر كلام جلسائه، ويكلم عمرو بن مسعدة (رئيس الشرطة) ،
ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج إليها، يريد بذلك كله إيناسي، وجعل يطيل النظر
إلى الإيوان ويدير نظره فيه، فوقعت عيناه على موضع من نقش الجص قد انتفخ.
فقال: يا عمرو ، ما ترى هذا النقش في الجص قد انتفخ وسيقع، فبادر في قلعه
وعمله. فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
ثم أقبل المأمون على عبد العزيز يسائله:
المأمون: ما الاسم؟
عبد العزيز: عبد العزيز.
المأمون: ابن مَن؟
عبد العزيز: ابن يحيى بن مسلم.
المأمون: ابْنُ مَن؟ (يسأله عن جَدِّه)
عبد العزيز: ابن ميمون الكنانيّ.
المأمون: أوَأنت من كنانة؟
عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين.
ثم سكت المأمون هنيهة لا يتكلم.
المأمون: مِن أين الرجل؟
عبد العزيز: مِن الحجاز.
المأمون: ومِن أيّ الحجاز؟
عبد العزيز: مِن مكة.
المأمون: ومَن تعرف مِن أهل مكة؟
عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، قلَّ من بها من أهلها إلا وأنا أعرفه. إلا
رجلاً ضوى (لجأ) إليها أو من جاور بها، فإني لا أعرفه.
المأمون: أتعرف فلانًا وفلانًا (وجعل يعدد جماعة من بني هاشم) .
عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين أعرفهم.
المأمون: وأولادهم وأنسابهم (وذكر شيئًا من ذلك) .
عبد العزيز: نعم (وأجابه عما سأل) .
قال عبد العزيز: وإنما يريد أمير المؤمنين إيناسي، وبسطي للكلام، وتسكين
روعتي وجزعي، فذهب عني ما كنت فيه، وما لحقني من الجزع، وجاءت المعونة
من الله عز وجل، فقوي بها ظهري واشتدّ قلبي، واجتمع فهمي، ثم أقبل المأمون
عليّ ، وقال: يا عبد العزيز ، إنه قد اتصل بي ما كان منك، وقيامك في المسجد
الجامع، وقولك: إن القرآن كلام الله إلخ ، بحضرة الخلق وعلى رءوس الخلائق،
وما كان من مسألتك بذلك من الجمع بينك وبين مخالفيك على القول لتناظرهم في
مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعت المخالفين لك لتناظرهم بين يدي،
وأكون أنا الحاكم بينكم، فإن تتبين الحجة لك عليهم والحق معك اتبعناك، وإن تكن
الحجة لهم عليك والحق معهم عاقبناك، وإن استقلت أقلناك.
ثم أقبل على بشر المِرِّيسِيّ ، وقال: يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره
وأنصفه، فوثب بشر من موضعه كالأسد يثب إلى الفريسة فرحًا، فانحط علَيّ
فوضع ركبتيه وفخذه الأيسر على فخذي الأيمن فكاد أن يحطمه، وغمز علَيّ بقوته
كلها، فقلت: مهلاً، فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي، وإنما أمرك
بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون ، وقال: تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى
باعده مني.
ثم أقبل علي المأمون وقال: يا عبد العزيز ، ناظره على ما تريد، واحتج
عليه، ويحتج عليك، وتسأله ويسألك، وتناصفا في كلامكما، وتحفَّظا ألفاظكما،
فإني مستمع عليكما، فنحفظ ألفاظكما. فقلت: السمع والطاعة لأمير المؤمنين،
ولكن عبد العزيز لم يرد أن يشرع في مناظرة خصمه ما لم ينتقم من ذلك البغيض
الذي عابه لأمير المؤمنين بقبح وجهه، وتشويه خلقه، وملخص ما قال في هذا
الصدد: إن يوسف صلوات الله عليه الذي هو أحسن البشر وجهًا، كان حسنه وبالاً
عليه فظُلِم وسُجِن رجاء تغير حلية وجهه وأن يذهب السجن بحُسْنه ولما وقف الملك
على سَعَة علمه، وحسن عبارته في تعبير الرؤيا، صيره على خزائن الأرض،
واعتزل الأمور وصار كأنه مِن تحتِ يدِه، وليست هذه المنزلة إلا بعلمه وكلامه، لا
بجماله وحسن وجهه، وقال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ولم
يقل: إني حسن جميل، فوالله ما أبالي يا أمير المؤمنين لو كان وجهي أقبح مما هو
معي، فقد أعطاني الله، وله الحمد، مِن فهم كتابه، والعلم بتنزيله. فقال المأمون:
وأي شيء أردت بهذا القول؟ وما الذي دعاك إليه؟ فقلت: إني سمعت بعض من
هنا يقول يا أمير المؤمنين: (يكفيك من كلام هذا قبح وجهه) فأي عيب يلحقني
في صنعة ربي عز وجل؟ فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، فقلت: يا أمير
المؤمنين: قد رأيتك تنظر هذا النقش في الحائط، وتنكر انتفاخ الجص، وسمعت
عمرًا (رئيس الشرطة) يعيب الصانع، ولا يعيب الجص، فقال المأمون: العيب
لا على الشيء المصنوع، إنما العيب على صانعه. فقلت: صدقت يا أمير
المؤمنين ، وقلت الحق. فهذا (يعني جليس السوء) يعيب ربي لم خلقني قبيحًا.
فازداد المأمون تبسمًا حتى ظهر ذلك عليه، ثم قال: يا عبد العزيز، ناظر صاحبك
فقد طال المجلس بغير مناظرة. ثم أخذا في المناظرة. ولا يمكن أن نتقصى مسائل
المناظرة أو نلخصها لما أن المقام لا يحتمل ذلك، وإنما نشير إلى بعض ما كان
يجري بين المتناظرين مما فيه دلالة على أخلاق العلماء إذ ذاك، وعلى كرم أخلاق
المأمون. من ذلك أن بشرًا سأل عبد العزيز سؤالاً، وكلفه جوابه، ووافقه المأمون
قائلاً: هذا يلزمك يا عبد العزيز. فعند ذلك جعل ابن الجهم وغيره من شيعة بشر
يضجون ويقولون: ظهر أمر الله وهم كارهون، جاء الحق وزهق الباطل، إن
الباطل كان زهوقًا، وطمعوا في قتل عبد العزيز، وجثا بِشْر على ركبتيه، وجعل
يقول: أقر والله يا أمير المؤمنين بخلق القرآن ، وأمسك عبد العزيز فلم يتكلم،
فقال له المأمون: ما لك لا تتكلم يا عبد العزيز؟ فقال: سألني بشر وهو المناظر
لي، فضجيج هؤلاء إيش هو؟ وأنا لم أنقطع، ولم أعجز عن الجواب، ولست أتكلم
ما لم يسكتوا. فصاح المأمون لمحمد بن الجهم وغيره: أمسكوا، فأمسكوا، وأقبل
علي ، وقال: تكلّمْ يا عبد العزيز واحتجَّ لنفسك. فتكلم وأخذا في المناظرة.
قال عبد العزيز: وجعل بشر يصيح ويقول: لو تركته يا أمير المؤمنين يتكلم
لجاء بألف شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين قد ذهبتَ بالحجج ، ورضي بشر
وأصحابه بالضجيج والترويج بالباطل، وقطع المجلس، وطلب الخلاص، ولا
خلاص من الله حتى يظهر دينه ويقع الباطل بالحق فيزهقه، فصاح المأمون ببشر:
أقبل على صاحبك ودع هذا الضجيج، وكان المأمون قد قعد منا مقعد الحاكم من
الخصوم.
قال عبد العزيز: وكثر تبسم المأمون من قولي، حتى غطى بيده على فيه،
وأطرق يكتب في الأرض بيده على السرير.
ومما استدل به بشر على مذهبه قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام:
102) ، والقرآن شيء من تلك الأشياء المخلوقة.
فأجاب عبد العزيز بما خلاصته: قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل
عمران: 28) ، فلله نفس، وقال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} (آل عمران:
185) ، فنقول: يا بشر إن نفس الله داخلة في هذه النفوس؟ فصاح المأمون
بأعلى صوته، وكان جهوري الصوت، معاذ الله معاذ الله.
هذا مثال مما كان يجري بين المتناظرين في حضرة المأمون، ولم يزل عبد
العزيز يدحض حجج خَصْمه ويكسر أقواله بالكتاب والسنة والقياس حتى قال المأمون
له: أحسنت يا عبد العزيز ، ثم أمر بعشرة آلاف درهم ، فحملت بين يديه وانصرف
من مجلسه على أحسن حال وأجملها.
قال عبد العزيز: فسُرّ المسلمون جميعًا بما وهبه الله لهم من إظهار الحق وقمع
الباطل ، وانكشف عن قلوبهم ما كان اكتنفها من الغم والحزن ، وجعل الناس يجيئون
إليّ أفواجًا، حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفًا على نفسي وعليهم من مكروه
يلحقنا، فقالوا: لا بُدَّ أنْ تملي علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه، فهبت ذلك وتخوفت
سوء عاقبته، فلما ألحّوا علَيّ، قلت: أنا أذكر لكم بعض ما جرى مما لا يجوز علَيّ
فيه شيء ولا حجر في ذكره، فرضوا، فأمليت عليهم أوراقًا مختصرة لأقطعهم بها
عن نفسي، وعن ملازمة بابي.
_________
(*) لصديقنا عبد القادر أفندي المغربي الطرابلسي نزيل مصر.
(1)
الشوار: اللباس والزينة، وكأنه يريد به هنا الملابس ذات الطراز الخاصة برؤساء الشرطة والجند في ذلك العصر.
(2)
فليعتبر علماء هذا الزمان.
(3)
يريد بهم الموالين للخلافة، لا أهل الباطن، كما هو اصطلاح أهل العصور المتأخرة.
(4)
أي صحن دار الخلافة، وهذا الحاجب بمثابة سر تشريفاتي اليوم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
سياحة صاحب المجلة
(في سوريا)
(1)
(بيروت)
وافيت بيروت في السادس والعشرين من شهر شعبان، وقد صحا الجمهور من
نشوة الفرح بالدستور، وثابوا إلى التفكر والتأمل بعد تلك الرياضة في روض
الوجدان والشعور، وكان مما يحمد عليه أهل بيروت ويذكرون به أنهم قد انتقلوا من
خمول الاستبداد إلى نشوة السرور بالحرية، ومن هذه النشوة إلى السكون والروية،
ولم يكن منهم غلو مذموم، كما يحصل عادة في مثل هذا الانتقال بمقتضى قاعدة
(رد الفعل) ، وقد اشتهر ما كان من تحول الضغائن والأحقاد بين المسلمين
والنصارى منهم إلى المسالمة والوداد، وكان المسلمون هم البادئين بهذا الخير، كما
كانوا في الغالب يبدءون، وكما يقال بالشر.
وقد رأيت فضلاء المسلمين في هذه الأيام مهتمين بأمرين عظيمين، أحدهما
مشترك بين جميع العثمانيين، وهو ما تفكر فيه جمعية (الجامعة العثمانية) من
إنشاء مدارس لتعليم جميع الطوائف وتربيتهم على الوحدة الوطنية أو نحو ذلك من
الأعمال. ولا بُدَّ أن يكون فضلاء النصارى متفقين معهم على ذلك، وإنما أسندت
الاهتمام به إلى المسلمين عن علم، وجعلت مشاركة النصارى لهم من قبيل
الاستنباط العقلي لأنني لم أجتمع بأحد من علماء هؤلاء وفضلائهم، فأعرف
بالاختبار ما يهتمون به من الأعمال في عصر الدستور، إذ كان أهل العلم والفضل
من المسلمين هم الذين استقبلوني في البحر وأكرموا مثواي في البر. وما كانت
إقامتي بينهم إلا ثلاثة أيام ضاقت عن رد الزيارة لجميع الزائرين منهم، ولو طالت
لتصديت للقاء أهل الرأي من غيرهم.
والأمر الثاني مما يهتم به المسلمون خاص بهم، وهو ما توجهت إليه همة
(الجمعية العلمية) من إحياء المدارس التي أسستها من قبل جمعية المقاصد الخيرية،
وكانت تدير نظامها شعبة المعارف التي قضى عليها الاستبداد، فجعل هذه المدارس
أثرًا بعد عين، ولا أذكر ما سمعته من الآراء في إيجاد المال لهذه المدارس واختيار
كتب التعليم لها بعد النظر فيما بين الأيدي منها، وجَلْب مثله من مصر، وإنما أرجو
أن أكتب بعد قليل من الزمن من أخبار أعمال هذه الجمعية ما يحقق أفضل الآراء
وأنفعها.
رأيت مسلمي بيروت مستعدين لقبول كل إصلاح ديني ومدني، ورأيت فيهم
نفرًا من أهل الغيرة الملية والميل للأعمال التي تنهض بالأمة وترقي شأن البلاد،
وقد أحببت أن يكون لي حظ من معرفتهم وسعي في جمع صفوة أهل الإخلاص منهم
ومكاشفتهم بما أراه من أصول الإصلاح، وقد سرني من حديث من اجتمعت به منهم،
أنني رأيت التفاوت بينهم غير بعيد، والخلاف بين طبقاتهم غير شديد، والتنافس
بين أهل الظهور لم يهبط إلى دركة الحسد، ومقاومة الجامدين للإصلاح لم ترتق
إلى درجة المقاومة.
والسبب في ذلك على ما ظهر لي، أن أذكياء النابتة الذين يحبون الإصلاح لم
يتربوا تربية أوربية تبعدهم من الدين وتشوه مدنية سلفهم في أعينهم، وتحبب إليهم
الانسلاخ من كل قديم، وتزين لهم الافتتان بكل جديد، كما فُتِنَ كثير من المتفرنجين
في الآستانة ومصر وتونس، ولم يتوسعوا في علم الكلام والفقه فيجعلوهما مع فنون
العربية كل المطلوب لارتقاء المسلمين، ولم يحرموا منهما حرمان من يعادي الشيء
لجهله به - وإن المشتغلين بالعلوم الدينية والفنون العربية لا يوجد كثير من المتقنين
لها والبارعين فيها الذين يخشى أن يكونوا زعماء قادرين على تأليف العصبيات
لمقاومة الإصلاح، كما هو شأن رجال الدين الجامدين في كثير من بلاد المسلمين.
ونتيجة هذا أن قلة اشتغال مسلمي بيروت بالكتب الإسلامية المتداولة وعدم
افتتانهم بالتفرنج قد جعل نفوسهم مستعدة للإصلاح الذي لا يرتقي المسلمون بدونه،
وهو الجمع بين هداية الكتاب والسنة وبين العلوم والمعارف العصرية بغير معارضة
قوية.
رأيت من النابتة العصرية من يقول: يجب علينا أن نعمل بمعزل عن الشيوخ
الجامدين، ولا نبالي بهم، رضوا أم سخطوا، ومن يقول: لا بُدَّ من مقاومتهم
والقضاء على نفوذهم، ومن يتوسط فيقول: بوجوب مسالمتهم ومداراتهم والاستعانة
بمن لان جانبه منهم، والمرجع عندي أن العاملين في بيروت لا يجدون مقاومة يعتد
بها، وأحوج ما يحتاجون إليه المال والزعيم الذي تجتمع عليه القلوب، ومتى وجد
أصحاب الهمم من الرجال، سهل عليهم إيجاد المال، والزعيم إنما يشترط لإتقان
العمل وكماله، فلا يتعذر على أهل الغيرة الابتداء بالعمل مع فقده. ومتى تكونت
الأعضاء تكونًا طبيعيًّا ثبت لها رأس طبيعي.
أما حكومة بيروت فهي سائرة في طريق النظام بهمة واليها ناظم باشا،
وحزمه ودرايته، ولكن هذا الوالي لم يأت بعمل ما في ملحقات الولاية، كما يعلم
من الكلام الآتي عن طرابلس، ولولا قرب عهده بالمجيء إلى الولاية، لقلنا: إن
حسن حال الأهالي هو الذي حسن حال الحكومة في مدينة بيروت، فهو لا يدل على
فضله ولا يقوي الرجاء في إصلاح حال الولاية بحسن إدارته، ولكنه لقرب عهده
لمَّا يتمكن من تنظيم إدارة داره فلا مجال للومه.
* * *
(طرابلس الشام)
وافيت هذه البلدة، وقد أهوت شمس يوم الجمعة (وهو التاسع والعشرون من
شعبان) إلى الغروب، والناس يرقبون غروبها ورؤية هلال رمضان بعده، أقبلوا
يستهلون، فبدا الهلال لعين واحد منهم، فحكم القاضي بشهادته، وأصبح الناس من
ليلتهم صائمين.
مكثت في دار صديقي الصديق الشيخ محمد كامل الرافعي أسبوعًا كاملاً أستقبل
وفود الزائرين المهنئين من العلماء وعمال الحكومة والوجهاء ورجال الجمعيات
الثلاث: جمعية الاتحاد والترقي، وجمعية الجامعة العثمانية، والجمعية العلمية.
وقد ظهر لي مما دار بيني وبين صفوة الناس من الطبقات العليا والوسطى، أن
استعداد مسلمي طرابلس للإصلاح الديني والمدني دون استعداد مسلمي بيروت.
ذلك بأن مسلمي طرابلس أكثر من أهل بيروت اشتغالاً بدرس كتب الفنون
العربية والعلوم الإسلامية التي وضعت منذ القرون الوسطى بعد انحطاط مدنية
المسلمين وضعفهم في العلوم، وهي مما يضعف الاستعداد؛ لأنه يشغل الفطرة ولا
يكملها، فيكون عائقًا لها عما سواه، كما أشرنا إليه في الكلام عن استعداد أهل
بيروت، وربما نوضحه في فرصة أخرى، على أن أهل طرابلس قد قل اشتغالهم
في السنين الأخيرة لحكم الاستبداد، التي اضطهِدَ بها العلم وكتبه أشد الاضطهاد.
هذا سبب معنوي من أسباب ضعف استعداد أهل طرابلس، وسيعده أكثرهم
غريبًا أو باطلاً بالبداهة محتجين بأن من كان أوسع علمًا في فن أو علم ما كان أقوى
استعدادًا لغيره، ولا محل هنا لدحض هذه الحجة أو إبطال هذه الشبهة. وثم سبب
آخر، وهو الفراغ والبطالة في طائفة كبيرة منهم وعدم المنافسة والارتقاء في العمل
عند أكثر العاملين.
ومن الأسباب في ذلك قلة احتكاك أهل طرابلس بمن هم أرقى منهم في العلوم
والأعمال من الأجانب والعثمانيين، فإن طرابلس أصبحت كأنها بمعزل عن العالم
المدني، لا يهاجر إليها المرتقون في العلوم، إذ لا مدارس ولا تعليم فيها ولا
المرتقون في الأعمال التجارية أو الصناعية أو الزراعية؛ إذ لا رجاء لأحد في
الكسب منها.
ومنها ما هو أثر طبيعي لما قبله من عدم وجود الجرائد اليومية إليها من
بيروت؛ لأنها غير متصلة بها بسكة حديدية، فالمقيم فيها لا يعرف شيئًا يعتد به من
أحوال العالم.
من أجل هذا وذاك كانت حكومة طرابلس شرًّا من حكومة بيروت في وقت
الاستبداد، ولم تنل نصيبًا من الإصلاح في زمن الدستور، وقد كان فسادها الماضي
وضعفها الحاضر علة لكثرة الأشقياء فيها المستعينين بها على السلب والنهب والنيل
من أعراض الناس ودمائهم، فإن هؤلاء الأشقياء زعماء يشترون ذمة كبراء الحكام
ويشاركونهم بما يتمتعون به من أموال الناس وأعراضهم ويرضخون لأفراد الشرطة
والزبانية بدريهمات يستعبدونهم بها، فإذا رفعت على أحدهم قضية كفاه أمرها رجال
المحاكم، فإذا جاء البلد حاكم جديد، وحاول أن يقرر فيها الأمن ويقيم ميزان العدل
وأنفذ الشرطة إلى بعض هؤلاء الأشقياء المتهمين بالقتل والضرب أو السلب والنهب
عادت إليه الشرطة قائلة إنهم قد فروا هاربين، فلا يعلم مكانهم، وإنما يكونون هم
الذين لقنوها ما تقول.
* * *
(حادثة الاعتداء علي وسببها)
ما كنت لأذكر هذه الحادثة في المنار، لو لم تشتهر في الأقطار، ويظلم بها
أهل طرابلس على الإطلاق، حتى وجب علي أن أبرئ المظلومين، وأبين سبب
تقصير المقصرين.
حقيقة الحادثة أنني دخلت طرابلس باحتفال عظيم لم يسبق له نظير فيها، فقد
استقبلني عند الباخرة في البحر جمهور من أهل العلم والوجاهة، ووفود من
الجمعيات الثلاث: جمعية الاتحاد والترقي؛ والجمعية العلمية؛ وجمعية الجامعة
العثمانية، وكان في الانتظار على رصيف الجمرك في الميناء جماهير من جميع
الطبقات، وجوقة مويسيقية أرسلتها جمعية الاتحاد والترقي، فلما أقبل عليهم
الزورق الذي يحملنا مرفوعًا عليه العلم العثماني - أعزه الله تعالى - صدحت
المويسيقى، وبعد السلام على كثير من المستقبلين ذهبنا إلى موقف الترام الذي بين
الميناء والبلد، فإذا بمركبة كبيرة من مركبات الترام معدة لنا من قبل جمعية الاتحاد،
فتبوأناها مع خواص أعضاء الجمعيات وجوقة المويسيقى في مقدمتها والناس من
حولها يطلقون البارود. فوقفت في نافذة من نوافذ المركبة وشكرت للقوم أريحيتهم
وسارت المركبة حتى إذا ما بلغت الموقف من البلد، استقبلنا فيه جمهور آخر،
وسرنا حتى إذا كنا بالقرب من الدار التي نؤمها في أشهر شوارع البلد وأسواقها،
فاجأنا شقي من أولئك الأشقياء الذين أشرنا إليهم، اسمه كامل المقدم، فقال أين هذا
الذي تسلمون عليه؟ فعرفني بالقرينة، فضربني بعصا في يده، وقعت على جانب
رأسي، ثم رفعها ثانية، وأهوى بها فتلقاها الشيخ محمد كامل الرافعي، وكان عن
يساري في مقدمة الناس. فأخرج الشقي مسدسًا، وأطلق منه رصاصة واحدة،
اعْتَقَدْتُ أنه يريد بها قتلي، واعتقد الجمهور ذلك فيما يظهر، فإنهم أرجعوني
وأحدقوا بي، وأرادوا إدخالي لأحد البيوت المجاورة لذلك المكان. وتقدم إليه أكثر
من واحد منهم، فطردوه ثم استأنفنا السير إلى دار الرافعي، وكانت قريبة منا،
وهنالك أخبرني القوم بالمعتدي، وأنه ابن عبد الرحمن أفندي المقدم، الذي كان
يجلني وأنا طالب علم أشدّ الإجلال، على ما كان رحمه الله من كبرياء، حتى إنه
كان يستقبلني ويشيعني عند الباب.
ذلك أنه كان قد اعتدى على إخوتي من قبل بإيعاز عصبة من تلك العصب
التي أشرنا إليها (والشر داعية الشر) فالظاهر أن تلك العصبة ثقل عليها أن يَعتزَّ
مَن اعتدَتْ عليهم بأخ لهم، لأنها تحب أن يكون شرها دائمًا لا ينقطع. وقد رأيت
جميع الناس من جميع الطبقات يعتقدون ذلك، ولولا هذا الاعتقاد لأظهروا استياءهم،
ولقامت قيامتهم على هذا الشبح البالي من حكومتهم على عدم ثقتهم بها، بل
لاستنهضوا همة حكومة الولاية إلى معاقبة ذلك المعتدي، الذي عدوا جريمته إهانة
لهم كلهم، أي إهانة لأهل البلد، لأنه أساء إلى المئات من فضلائهم بالتعدي على
الضيف الذي يحدقون به تعظيمًا له وتكريمًا، وقد سمعت من الناس وعنهم ما
جزمت به وأيقنت بأن الاستياء العام كان شديدًا، وأن بعض أهل الجرأة جهروا
لزعماء عصبة ذلك الشقي وله بسوء هذا العمل، وبمقت الناس لهم لأجله، وحدثني
بعض الكبراء والمتوسطين أن أولئك الزعماء أقسموا جهد أيمانهم بأن هذا الأمر لم
يكن بإيعاز منهم، وأنهم وبخوا الشقي الفاعل، وكادوا يطلقون عليه الرصاص! !
ولكنهم مع هذا يهددون من دعتهم الحكومة للشهادة ليكتموها أو يحرفوها، ويخفون
الشقي عن عين الحكومة، ويطلبون المصالحة قبل القبض عليه! ! ! .
هذا هو السبب في سكوت جمهور أهل طرابلس وإغضائهم على القذى، ولو
وثقوا بحكومتهم وأمنوا بقوتها شر تلك العصبة، لأظهروا سخطهم لها وللناس قولاً
وكتابةً، فهم معذورون في سكوتهم. على أن فيهم من تحمس ليذهب بوفد إلى
الولاية ليخاطبوا الوالي في الأمر، فلم أرض بذلك، ومن شجعانهم من تمنى لو كان
حاضرًا لينتقم من المعتدي عند الاعتداء.
أقول هذا جوابًا لأولئك الفضلاء: الأخيار الذين كتبوا إلينا من بيروت ولبنان
والشام ومصر يقولون: اترك (فيحاء الأشقياء) تنعي من بَنَى أول حجر فيها
وارحل إلينا، حيث تلقى من الكرامة كيت وكيت، ويقولون: لو كنا معك لعلمنا
أهل طرابلس، كيف يوجد من عارفي قدرك من يفديك بدمه.
وكتب إلي صديقي رفيق بك العظم، ينصح لي بأن أقضي بقية إجازتي في
بيروت ودمشق وحمص وحماة. وقد تحمس أهل النجدة من بيروت وائتمروا
بينهم ليرسلوا وفدًا منهم يحضرني من طرابلس، وعصبة من الشجعان، لينتقموا لي
من المعتدين بالقوة، إذا كانت الحكومة عاجزة عن ذلك، أو متهاونة فيه، وكتب
إلي أكثر من واحد يستشيرني أو يستأمرني بذلك، وقد تطوع نحو خمسين رجلاً من
فدائية بيروت (الأبضايات) بذلك، فكتبت إلى بعضهم، أنه لا حاجة إلى ذلك،
وأنني في طرابلس عزيز كريم.
أراد ذلك الشقي أن يحط من قدري غلوًّا في الانتقام من إخوتي، فكان عدوانه
مزيدًا في كرامتي، وإهانة له ولعصبة الأشرار، في القرى والأمصار والأقطار،
بل إهانة لأهل بلده الأخيار منهم والفجار، فقد طار البرق بالحادثة منذ تلك الليلة إلى
بيروت، ونشر الخبر في جرائدها، فعلم به الناس في سوريا ولبنان ومصر،
فطفقوا يذمون طرابلس وأهلها قولاً وكتابة، وقد نقل ذلك إليها كثير ممن كان من
أهلها في بيروت. وتلك سنة الله: رجل يهين أمة، ورجل يشرف أمة، كما
أطروني برسائل البرق والبريد، وتحدثوا بخدمتي الصغيرة للإسلام وللدولة والملة
فكبروها تكبيرًا، بمثل البرقية التي وردت إلي من شيخين من أشهر أهل العلم
والأدب في مصر، ونصها:(نهنئ العلم والدين بنجاة ركنهما الركين) ، ومثل
البرقية التي وردت من فاضلين من أشهر أهل بيروت علمًا وأدبًا، ونصها (الهناء
لكم ولنا وللمسلمين بسلامتكم التي تهمنا جميعًا) ، وهنالك برقيات كثيرة بهذا المعنى
من بلاد كثيرة، منها برقية بإمضاء بضعة عشر رجلاً، وهم خيرة أهل بيروت،
ولا تسل عن رسائل البريد، وما فيها من الإطراء والتنديد.
وليست الرسائل الواردة بما ذكر كلها من المسلمين، بل منها ما جاء من
فضلاء النصارى، فكانت الحماسة فيها أشد، ولسان الإطراء والقدح أحدّ، كرسالة
صديقنا نقولا أفندي شحاده، من زحله، التي يتمثل فيها بقول السيد المسيح عليه
السلام، الذي معناه أنه لا يهان نبي إلا في قومه وبلده، ورسالة صديقنا رئيف
أفندي شدودي، من جونيه، الذي تمنى فيها كما تمنى كثير من أهل بيروت لو
كان معي وقت الحادثة، فيري أهل طرابلس كيف يفديني بدمه حماه الله، فأشكر
لجميع أولئك المهنئين أريحيتهم وفضلهم، وأكرر لهم الاعتذار عن أهل طرابلس في
المنار، كما اعتذرت عنهم فيما كتبته إلى الكثير من المهنئين، وأصرح لهم بأنهم لم
يقصروا في الحفاوة بي، بل بالغوا وأغرقوا، حتى كنت أخجل مما أسمعه من
شيوخ العلم وكبار الوجهاء، من جمل الثناء والإطراء، مثل: بيضت وجوهنا،
بيض الله وجهك، شرفت بعملك سوريا والعرب، أحييت بخدمتك العلم والدين،
عملت للدولة كيت وكيت. حتى قال لي أحد العلماء: إن هذا المجد الذي نلته لم ينله
أحد من أهل طرابلس فيها. وقال لي أحد أدباء النصارى: إن الناس يستقبلونكم أيها
الأحرار كما يستقبلون الفاتحين، لا كما يستقبلون الأعزاء الغائبين. وإنني أشهد
قراء المنار على نفسي بأنني لا أستحق هذا الثناء والإطراء ولا بعضه، وإنني
ذكرت منه ما ذكرت وأنا في خجل شديد، ولولا قصد تبرئة أهل وطني الذي ربيت
فيه مما جناه عليهم ذلك الشقي المسكين، لما ذكرت ما ذكرت من الإشارة إليه،
وسأذكر في رسالة أخرى ما كان من اهتمام دولة الوالي بالحادثة، وما كان من أثر
ذلك.
ومن آيات رضا أهل طرابلس عن هذا العاجز، دعوة الكثيرين من أهل
الرأي والمكانة منهم إياه لترشيح نفسه لمجلس المبعوثين وتصريحهم في الملأ بأنه
أجدرهم بذلك. ولكنني لم أترك ما عندي من اليقين بعجزي لحسن ظنهم بي،
ولذلك كنت أعتذر لكل داع بما أرى أنه يقبله مني.
* * *
(طلاب العلم الاستقلالي بطرابلس)
وقد سرني في طرابلس سرورًا عظيمًا أن رأيت فيها فئة من طلاب العلوم
الدينية يرغبون عن التقليد ويذمونه، ويميلون إلى الاستقلال في العلم وينتحلونه،
ويعترفون بأن حياة الدين إنما تكون بالرجوع إلى الكتاب العزيز والسنة الصحيحة،
وترك ما عداهما من الآراء الكثيرة، رأيت هؤلاء وذاكَرْتُهُمْ بعد أن كتبت ما تقدم من
المقابلة بين أهل طرابلس وأهل بيروت، ولم أرَ مثلهم من الطلاب في بيروت،
ولكنني أظن أنه يوجد فيهم من هم على هذه الشاكلة، وربما كان عددهم أقل، لأن
الطلاب في طرابلس أكثر.
وقد رغبت من لقيت من هؤلاء الطلاب في العلوم الرياضية والطبيعية
والفلسفة العصرية، فألفيت آذانًا واعية وقلوبًا وأذهانًا مستعدة، ولكن وسائل العلم
غير متيسرة لهم الآن، وربما لا يتيسر السعي لهم إلا بعد حين من الزمن. ولهذا لم
أرجع بعد لقي هؤلاء النجباء عن رأيي في ترجيح استعداد مسلمي بيروت للعمل
على استعداد مسلمي طرابلس، وإن كان في الكلام عن هؤلاء الطلاب نوع من
الاستدراك على ما تقدم.
* * *
(الجمعيات في طرابلس)
ألّف أهل طرابلس ثلاث جمعيات غير فرع جمعية الاتحاد والترقي، كما فعل
أهل بيروت، الأولى جمعية الجامعة العثمانية، ولها ناد يجتمع فيه أعضاؤها، وهم
الآن يفكرون في عمل مالي يكون لهم منه ريع يمكنهم من الخدمة النافعة للبلاد التي
توثق بها عرى الجامعة العثمانية، وما أظن أن ذلك ميسور الآن، ففائدتها محصورة
في اجتماع أعضائها في ناديها، فنقترح عليهم أن يطالعوا فيها الكتب النافعة التي
تغذي العقول وترقي الأفكار والآداب، ككتب التربية والأخلاق والمجلات العلمية،
وأن يتمرنوا فيه على الخطابة في السياسة والآداب وشئون الاجتماع والعمران، وأن
يكون لهم في كل شهر مناظرة في مسألة علمية أو سياسية أو اجتماعية، فبذلك تكون
جمعيتهم نافعة مذ اليوم، فإن تيسر لهم بعد ذلك جلب المال وإنفاقه على عمل من
الأعمال كانوا به أبصر، وعليه أقدر.
والثانية الجمعية العلمية، ورأيت بعض أعضائها يتحدثون بجعل تعليم الفنون
العربية والعلوم الشرعية بطريقة منتظمة في مدرسة كبيرة، يتخرج فيها المستعدون
للتدريس والقضاء الشرعي والمحاماة. ويقول آخرون منهم: إن إنشاء هذه المدرسة
لا يكون إلا بمال كثير، وهو عسير علينا غير يسير، على أنهم لو وجهوا همتهم
إلى جمع المال لتيسر لهم جمع مقدار يكفيهم لاستئجار دار يعلمون فيها، وأكثر
الشيوخ لا يسألون على التعليم أجرًا، والطلاب هم الذين يشترون الكتب لأنفسهم،
وليس من مقاصد الجمعية تعليم العلوم الطبيعية التي يتوقف تعليمها على الآلات
والمعلمين بالأجور، فتحتاج إلى المال الكثير، ولكن أعضاء الجمعية مختلفون في
الأمر، وهو غير عظيم، فبعضهم يشعر بهمة في نفسه تصغر له الكبير، فيرميه
الآخرون بالغرور والتغرير، ولعلهم يشرعون في التعليم بالطرق المستحدثة والكتب
المختارة، ولو في المساجد إلى أن يتيسر لهم ولغيرهم من المسلمين تحويل معظم
الأوقاف الخيرية للتربية والتعليم، وعسى أن لا يكون ذلك بعيدًا.
وأما الجمعية الثالثة، فقد أطلق عليها اسم الجمعية الخيرية، والذي يفهمه
القراء من هذا الاسم أنها جمعية تجمع الأموال لإعانة الفقراء والعجزة، ولكن الذي
وصل إلينا من خبرها أنها شركة مالية أسسها بعض الأغنياء لأجل استغلال أموالهم
بالأعمال الكبيرة التي يرجى ربحها، وسمعت كثيرين من أعضاء الجمعيات الأخرى
يطلقون على مؤسسي هذه الجمعية أو الشركة لفظ (حزب التقهقر) ويقولون: إن
أكثرهم من الذين عزلوا بعد إعلان الدستور لخيانتهم وفسادهم في الحكومة الماضية
أو استقالوا لعلمهم بأنهم لا بُدَّ أن يعزلوا إن لم يبادروا بالاستقالة، ويقولون: إنهم
أعداء الدستور، ويطعنون دائمًا بجمعية الاتحاد والترقي، ويكابرون أنفسهم فيدعون
أنها لم تعمل عملاً، وقد ذكر لي اسم ثلاثة منهم لم أسمع من أحد منهم شيئًا مما
يحكونه عنهم، ولكنني سمعت من شابين من أعضاء هذه الجمعية أو أنصارها،
وربما كانا لسان الجمعية الناطق وقلمها الكاتب.
وفي هذا المقام أشكو مما سمعت في طرابلس من طعن الناس بعضهم ببعض،
حتى في المحافل والأندية العامة، وأرجو أن يفتح الله لهم في أيام الدستور من
الأعمال، ما يشغلهم عما يضر ولا ينفع من الأقوال.
* * *
(العمران في طرابلس)
رأيت داخل طرابلس على ما تركتها عليه منذ إحدى عشرة سنة، كأنه لم
يتبدل ولم يتحول فيها شيء، حتى خيل لي أن ما رأيته في الدكاكين ومخازن التجار
هو الذي تركته فيها بعينه، وقلما رأيت أحدًا ممن أعرفهم انتقل من دكانه سواء كان
مالكًا أم مستأجرًا. وأما ضواحي البلد فقد تجدد فيها دور وقصور كثيرة على عدم
نمو الثروة الطبيعية. فالزراعة لا تزال على حالها وعليها مدار معيشة السواد
الأعظم. والصناعة كذلك على حالها وليس في طرابلس منها ما يعد مصدرًا لارتقاء
ثروتها ولم تتصل بها سكك حديدية ترتقي بها تجارتها، فأكثر الذين أَثْرَوْا فيها هم
من عمال الحكومة أكلة أموال الناس بالباطل.
* * *
(شعائر الدين)
لعل أهل طرابلس أشد أهل سوريا محافظةً على شعائر الدين، من صلاة
وصيام، وأبعدهم عن الجهر بالمعاصي، وحسبك من هذا أن صاحب قهوة أحضر
في هذه الأيام بعض النساء الراقصات ليروج بها قهوته، فقامت قيامة أهل العلم من
المسلمين عليه، وتعصب لهم الجمهور حتى ألزموا الحكومة بمنعه من ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________