الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
إنجيل برنابا.. مقدمتنا له
قد تمّ طبع إنجيل برنابا كما قلنا في الجزء الثاني عشَر من السنة الماضية ،
وقد كتب له مترجمه الدكتور خليل سعادة مقدمة، ذكر فيها ملخص ما قاله علماء
الإفرنج فيه ورأيه في ذلك فنشرناها وقفينا عليها بمقدمة منا، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى عيسى المؤيد بروح
الله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد ، فإننا نرى مؤرخي النصرانية قد أجمعوا على أنه كان في القرون
الأولى للمسيح عليه السلام أناجيلُ كثيرة ، وأن رجال الكنيسة قد اختاروا منها أربعة
أناجيل، ورفضوا الباقي. فالمقلدون لهم من أهل مِلّتهم قبلوا اختيارهم بغير بحث ،
وسيكون ذلك شأن أمثالهم إلى ما شاء الله.
وأما من يحب العلم، ويجتنب التقليد من كل أمة فهو يود إذا أراد الوقوف على
أصل هذا الدين وتاريخه لو يطلع على جميع تلك الأناجيل المرفوضة ، ويقف على كل
ما يمكن الوقوف عليه من أمرها ، ويبني ترجيح بعضها على بعض بعد المقابلة
والتنظير على الدلائل المرجحة التي تظهر له هو وإنْ لم تظهر لرجال الكنيسة.
لو بقيت تلك الأناجيل كلها لكانت أغزر ينابيع التاريخ في بابها ما قبل منها
أصلاً للدين وما لم يقبل ، ولرأيت لعلماء هذا العصر من الحكم عليها والاستنباط
منها بطرق العلم الحديثة المصونة بسياج الحرية والاستقلال في الرأي والإرادة ما لا يأتي مثله من رجال الكنيسة الذين اختاروا تلك الأربعة، ورفضوا ما سواها.
إنجيل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام واحد هو عبارة عن هَدْيهِ وبشارته
بمن يجيء بعده لِيُتمّ دين الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من قبله ،
فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم ، وإنما كثرت الأناجيل؛ لأن
كل من كتب سيرته عليه السلام سماها إنجيلاً لاشتمالها على ما بشر وهدى به الناس.
من تلك الأناجيل (إنجيل برنابا) وبرنابا حواري من أنصار المسيح الذين
يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل. صحبه بولص زمنًا ، بل كان (هو الذي عرف
التلاميذ ببولص بعدما اهتدى (بولص) ورجع إلى أورشليم) [1] ، فلعل تلاميذ
المسيح ما كانوا ليثقوا بإيمان بولص بعدما كان من شدة عداوته لدينهم لولا برنابا
الذي عرفه أولاً ، وعرفهم به بعد أن وثق به.
ومقدمة هذا الإنجيل الذي نقدم ترجمته لقُرّاء العربية اليوم ناطقة بأن بولص
انفرد بتعليم جديد مخالف لِمَا تلقاه الحواريون عن المسيح. ولكن تعاليمه هي التي
غلبت ، وانتشرت ، واشتهرت ، وصارت عماد النصرانية. ويذهب بعض علماء
الإفرنج إلى أن إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا من وضعه كما في دائرة المعارف
الفرنسية. فلا غرو إذا عدت الكنيسة إنجيل برنابا إنجيلاً غير قانوني أو غير
صحيح.
لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي
أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها ، فقد جاء في
ضمنها إنجيل برنابا. وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد ،
أي: قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم
في ذلك المنشور كما ذكر الدكتور سعادة في مقدمته ، والمثبت مقدّم على النافي.
مرت القرون وتعاقبت الأجيال ولم يسمع أحد ذكرًا لهذا الإنجيل حتى عثروا
في أوربا على نسخة منه منذ مائتي سنة ، فعدوها كنزًا ثمينًا ، ولو وجدها أحد في
القرون الوسطى - قرون ظلمات التعصب والجهل - لَمَا ظهرت ، وأنى يظهر
الشيء في الظلمة ، والنور شرط الظهور؟
ظهرت هذه النسخة في نور الحرية المتألق في تلك البلاد ، وكانت موضع
اهتمام العلماء وعنايتهم ، وموضوع بحثهم واجتهادهم ، وانبرى بعض فضلاء
الإنكليز في العام الماضي لترجمتها بالإنكليزية ، وتعمم نشرها وقد أهديت إلينا نسخة
منها عند نشرها ، فرأينا أنه يجب أن لا يكون حظ قراء العربية منها أقل من حظ
قراء الإنكليزية ، فكاشفنا بذلك صديقنا الدكتور خليل سعادة ، فوافقت رغبته رغبتنا ،
وترجم النسخة بالعربية ترجمةً حرفيةً ، وباشرنا طبعها بعد معارضتها معه على
الأصل؛ لأجل الدقة في تصحيحها.
بحث علماء أوربا في هذه النسخة ، وكتبوا في شأنها فصولاً طويلةً لخصها
الدكتور سعادة في مقدمته ، فمن مباحثهم ما هو علمي دقيق ككلامهم في نوع ورقها
وتجليدها ولغتها ، ومنها ما هو من قبيل الخَرص والتخمين ، كأقوالهم في الكاتب
الأول لها ، والزمن الذي كتبت فيه ، وتبعهم في مثل هذا البحث أصحاب مجلتي
المقتطف والهلال.
ويجب أن ننبه في هذا المقام على قاعدة من قواعد البحث الفلسفية، وأصل
من أصوله العقلية، وهي قاعدة إطلاق البحث أو بنائه على رأسه ولو مفروضًا.
فإن كثيرًا من الباحثين يبنون أبحاثهم على فرضٍ يتخذونه قاعدةً مسلمةً ، وربما كان
فاسدًا فيجيء كل ما بني عليه مثله؛ لأن ما بُنِيَ على الفاسد فاسد حتمًا.
مثال هذا ما امتحن به بعض الفلاسفة تلاميذه ، وهو أنه عمد إلى جرة كانت في
الشمس ، فقلبها من غير أن يروه ، ودعاهم، فقال: إني أرى وجه هذه الجرة المقابل
للشمس باردًا. ثم قلبها ولمس الجانب الآخر معهم ، فإذا هو سخن؛ فطالبهم بعلة
ذلك ، فطفقوا ينتحلون العلل وهو يردها ، ولما سألوه عن رأيه في ذلك قال: إنه يجب
أن يتثبت من صحة الشيء أولاً ، ثم يبحث عن علته. وكون الجانب المقابل
للشمس من هذه الجرة باردًا ، والجانب المقابل للأرض سخنًا غير صحيح ، بل قلبتها
أنا لأختبر فطنتكم.
وكذلك فعل بعض الباحثين في إنجيل برنابا ، فرضوا أنه من وضع
بعض المسلمين ، ثم حاروا في حزر تعيين واضعه ، هل هو غربي أم شرقي ،
عربي أم عجمي ، قديم أم حادث. وما قال أحد فيه قولاً إلا وجد من الباحثين من
يفنده حتى رأى الدكتور سعادة بعد الاطلاع على تلك الأقوال أن الأقرب إلى التصور
أن يكون كاتبه يهوديًّا أندلسيًّا من أهل القرون الوسطى تنصر ، ثم دخل الإسلام ،
وأتقن اللغة العربية ، وعرف القرآن والسنة حق المعرفة بعد الإحاطة بكتب العهد
العتيق والجديد، واستدل على هذا الفرض بعلمه الواسع بأسفار العهد القديم ،
وموافقة التلمود ، وإحاطته بالعهد الجديد ، وغفل عن عزوه إلى كتب العهدين
ما لا يوجد في نسخها التي عرفت في القرون الوسطى ، وهي التي بين أيدينا
الآن؛ كعزو قصة هوشع وحجي إلى كتاب دانيال، وعن مخالفته لها أحيانًا في
مسائل أخرى ، ولو كان من أهل القرون الوسطى وما بعدها لَمَا وقع في هذا الغلط
الظاهر مع علمه الواسع.
واستدل أيضًا بموافقة بعض مباحثه للقرآن والأحاديث ، وما كل ما وافق شيئًا
في بعض مباحثه يكون مأخوذًا منه وإلا لزم أن تكون التوراة مأخوذة من شريعة
حمورابي لا وحيًا من الله لموسى عليه السلام.
على أن معظم مباحث هذا الإنجيل لم تكن معروفة عند أحد من المسلمين ،
وأسلوبه في التعبير بعيد جدًّا من أساليب المسلمين عامَّةً والعرب منهم خاصَّةً ، كما
بين بعض القسيسين في مجلة دينية ، وأي مسلم يذكر الله ولا يثني عليه ، والأنبياء
ولا يصلي عليهم ، ويسمي الملائكة بغير الأسماء الواردة في الكتاب والسنة.
وقد كانت مسألة اليوبيل أقوى الشبهات عندي على كون كاتبه من أهل القرون
المتوسطة ، لا من قرن المسيح حتى بين الدكتور سعادة ضعفها بدقة نظره ، فلم يبق
للباحثين دليل يعوَّل عليه في هذا المقام ، فإن موافقة بعض ما فيه لبعض ما ورد في
شعر دانتي يمكن أن يعلل بأن دانتي اطلع عليه وأخذ منه إن لم يكن ذلك من قبيل
توارد الخواطر.
أما الهوامش العربية التي وجدت على النسخة ، فيحتمل أن تكون للراهب
فرمرينو الذي اكتشف هذا الإنجيل في مكتبة البابا بأن يكون دخوله في الإسلام
حمله على تعلم العربية ، حتى كان مبلغ علمه فيها أن يترجم بعض الجمل بعبارة
سقيمة تغلب عليها العجمة ، وما فيه من العبارات الصحيحة على قلتها لا ينافي ذلك ،
فإن كل من يتعلم لغة أجنبية في سِنّ الكبر تكون كتابته فيها لأول العهد من هذا
القبيل: صواب قليل، وخطأ كثير على أن أكثر العبارات الصحيحة في هذه
الهوامش منقول من القرآن أو بعض الكتب العربية التي يمكن أن يكون قد اطلع
عليها الكاتب.
ويحتمل أن يكون بعض القسوس أو من هم على شاكلتهم قد تعلم العربية؛ ليتبين
هل فيها مصادر لهذا الإنجيل يمكن إرجاعه إليها. ويرجح هذا الاحتمال تسميته
الفصول سورًا تشبيهًا له بالقرآن ، أمّا عزو هذه الهوامش إلى مسلم عريق في الإسلام
فخطأ لا يحتمل الصواب؛ إذ لا يوجد مسلم عربي ولا عجمي يطلق لفظ
السور على غير القرآن ، أو يقول:(الله سبحان) ، كما جاء في مواضع منها هامش
ص 141 و 16؛ لأن كلمة (سبحان الله) مما يحفظه كل مسلم من أذكار دينه، أو
يقول: ميخائيل بدل ميكائيل ، ويجهل اسم إسرافيل فيسميه أوريل أو أورفائيل ، أو
يقول: إن السموات أكثر من سبع ، وإن العدد لا مفهومَ له. كما قال علماء الأصول.
ولذلك أمثلة أخرى أضف إليها عدم اطلاع علماء المسلمين في الأندلس وغيرها على
هذا الإنجيل ، كما حققه الدكتور مرجليوث مؤيدًا تحقيقه بخلو كتب المسلمين الذين
ردوا على النصارى من ذكره، وناهيك بابن حزم الأندلسي وابن تيمية المشرقي ، فقد
كانا أوسع علماء المسلمين في الغرب والشرق اطلاعًا كما يعلم من كتبهما ، ولم
يذكرا في ردهما على النصارى هذا الإنجيل.
بقى أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثًا علميًّا لا دينيًّا أشد الاستنكار
وهو تصريحه باسم (النبي محمد) عليه الصلاة والسلام قائلين: لا يعقل أن
يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام؛ إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات
والإشارات ، والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكرًا في خبر الوحي. وقد
نقل الشيخ محمد بيرم عن رحّالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في
الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيَرِيّ قبل بعثة النبي صلى الله عليه
وسلم ، وفيها يقول المسيح:(ومُبَشِّرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) ، وذلك
موافق لنص القرآن بالحرف ، ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئًا من
هذه الأناجيل التي فيها البشارات الصريحة ، فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا
تلك الأناجيل ، والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزال كل
شبهة عن إنجيل برنابا وغيره.
على أنه لا يبعد أن يكون مترجم برنابا باللغة الإيطالية قد ذكر اسم (محمد)
ترجمة ، وأنه في الأصل الذي ترجم هو عنه قد ذكر بلفظ يفيد معناه كلفظ البارقليط
ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة ، كما بيّنه الشيخ (رحمة الله)
للشواهد الكثيرة من كتبهم في الأمر السابع من المسلك السادس من الباب السادس
من كتابه (إظهار الحق) وزاده بعد ذلك بيانًا في البشارة الثامنة عشر.
ولا يحسبن القارئ المسلم أن علماء أوربا وبعض علماء بلادنا كالدكتور
سعادة ، وأصحاب المقتطف والهلال يظهرون الريب في هذا الإنجيل الموافق في
أصول تعاليمه للإسلام تعصّبًا للنصرانية؛ فإن الزمن الذي كان التعصب فيه يحمل
العلماء على طمس الحقائق التاريخية وغيرها قد مضى.
وقد بحث علماء أوربا مثل هذه المباحث في الأناجيل الأربعة ، فبينوا أنه لا
يُعْرَف مَتَى كُتِبَتْ ، ولا بأيّ لغة أُلّفت ، وقال بعضهم: إن مؤلفيهاغير معروفين ،
واتهم بعضُهم بولصَ بوَضْع أكثرها ، كما ترى في دائرة المعارف الفرنسية وغيرها ،
بل منهم من جعل أصول تعاليمها مأخوذ من الأديان الوثنية.
أكثر العلماء في هذا العصر أحرار مستقلون في مباحثهم إلا من غلب عليه
التقليد الديني أو مصانعة المتدينين؛ ألا ترى أن الدكتور مرجليوث الإنكليزي هو
الذي دحض شبهة من قال: إن لهذا الإنجيل أصلاً عربيًّا ، وإنه من وضْع المسلمين،
وإن الدكتور سعادة هو الذي فنّد رأي المستدل على كونه من وضع القرون الوسطى
بما فيه من ذكر كون اليوبيل كل مائة سنة، وإن أصحاب المقتطف يجوزون أن
يكون له أصل ترجمت عنه النسخة الإيطالية ، ويحثون على البحث عنها، فأمثال
أولئك العلماء يجب احترام رأيهم ، وإن لم يكن دليله واضحًا وتعليله ظاهرًا.
ومن لاحظ أن بعض القسيسين يجعلون العمدة في إثبات الأناجيل الأربعة ما
فيها من التعاليم الأدبية العالية ، ثم قرأ تعاليم إنجيل برنابا يظهر له مكانه العالي في
تعاليمه الإلهية والأدبية. فإذا صرفنا النظر عن فائدته التاريخية ، وعن حكمه لنا في
المسائل الثلاث الخلافية: التوحيد ، وعدم صلب المسيح ، ونبوة محمد صلى الله
عليه وسلم - فحَسْبنا باعثًا على طبعه وراء قيمته التاريخية ما فيه من المواعظ
والحكم والآداب وأحاسن التعاليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
…
...
…
...
…
...
…
القاهرة في21صفر سنة1326
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني
…
...
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار
_________
(1)
1ع 9: 27 كما في ص223 من الجزء الأول من قاموس الكتاب المقدس.
الكاتب: حفني ناصف
خطبة حفني بك ناصف
رئيس نادي دار العلوم
في مسألة التعريب
أكثر القائلون بتطبيق (سياسة الباب المفتوح) على اللغة العربية من ذكر
جمود أمتنا واشتغالها عن الجواهر بالأعراض ، ووقوفها موقف المستضعفين أمام
الأمم الغربية ، ونعوا علينا تحرجنا قبول الدخيل في لغتنا، ورمونا (بالرجوع إلى
الوراء ، والنفور من كل جديد ، والوقوف عند حدّ ما أماته الزمان، ومخالفة سنة
اللغات الحية صاحبة الحركة الدائمة التي قدر أهلها أن ينتفعوا بكل ما خلقه الله) إلى
آخر ما أتوا به من القضايا الخطابية؛ بقصد التأثير في أفكار السامعين حتى تخيلوا
أن الكَلِمَ الأعجمية واجبة الاستعمال في اللغة العربية حرصًا على الزمن أن يضيع
في انتقاء ألفاظ عربية تسد مسدها ، وأن قواعد الاقتصاد السياسي تقضي بصرفه في
اختراع آله حربية أو معمل صناعي أو مصرف مالي ، ولقد كدت من شدة التأثير
أمسك عن الكلام خِيفَة أن أضيع عليكم ساعة يمكنكم فيها اختراع بندقية جديدة ، أو
آلة للطيران ، أو علاج للسرطان.
مسكينة الأمة المستضعفة ، لا تدري من أين تُؤْتَى ، ولا تعرف لِتأخّرها عِلّة ،
فتذهب مع كل ذاهب ، وتمشي وراء كل حاطب.
ظننا النيل سبب رخاوتها فعدلنا عنه إلى الآبار فما نشطنا، وخِلْنا الأزياء
الواسعة مانعتنا عن الحركة فاستبدلنا بها أزياءً ضيّقة فما عدونا. وحسبنا اقتعاد
السيارات والدراجات يوصلنا إلى المدنِيَّة فاقتعدنا وما استفدنا، وزعمنا ملاهي
التمثيل أقرب سبيل فأبعدتنا، وعددنا النفازج (الباللو) معارج فما عرجنا، وغيرنا
العمائم بالقلانس ، والدور بالقصور ، وظهور الصافنات ببطون العربات فما أخرجنا
كل ذلك عما نحن فيه من الاستضعاف ولا سَمَا بِنَا إلى راقي الألمان والإنكليز
واليابان.
إن لارتفاع الأمم وانحطاطها أسبابًا خاضَ فيها الحكماء ، وأفاض في بيانها
العلماء وليس المقام الآن مقام ذكرها ، وإن المسألة التي نحن بصددها مسألة نقلية
يُرجع فيها إلى كتب اللغة والأدب ، وليس لأحدٍ أن يأخذ فيها بالهوى ، أو يسترسل
مع الوجدان ، أو يقتصر فيها على مجرد الاستقباح والاستحسان ، فكما لا يجوز في
التاريخ أن تنكروا غلبة اليابان للروس محتجين بأن الصغير لا يغلب الكبير ، لا
يجوز في العربية أن تنصبوا الفاعل ، وتقدموا خبر إنّ على اسمها احتجاجًا بأن
المعنى لا يتغير ، ولا أن تقولوا: ما الفرق بيننا وبين العرب الأولى حتى جاز لهم
وضع ألفاظ مقتضبة ، وتعريب كلمات أعجمية ، والشذوذ عن القياس وامتنع علينا ،
أليسوا رجالاً ونحن رجال؟
ليس لأحد أن يقول ذلك إلا خرج من الرِّبْقة ، وخلع العذار ، ورضي بأن
يكون طليقًا لا يتقيد بشيء. المسألة منصوصة في الأسفار ، فمن شاء أن يخرق
الإجماع ، ولا يقصر شيئًا على السماع ، ويستريح من عناء الدروس فَلْيصنعْ ما شاء
فليس عندنا ما يرغمه على اتباع الجماعة ، ولا فائدة في الجدال معه ، وإذا شاء أن
يتبع المنصوص فها هو بيانه.
اتفق العلماء على أن اللغة العربية كانت لسان عاد ، وثمود ، وأميم ، وعبيل ،
وطسم ، وجديس ، وعمليق، وجُرْهم ، ووَبار من أولاد إرم بن سام.
وأول تنقيح دخلها بعمل يعرب بن قحطان رأس العرب العاربة ، وجرى أولاده
على لغته في أنحاء اليمن كلها ، ثم تفرق جماعة منهم في نجد والحجاز وتِهَامة
والشام والحِيَرة.
ولما أصهر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام إلى قبيلة جُرْهم أدخل تنقيحًا
ثانيًا في اللغة ، وجرى على أثْرِه القبائل من أولاده كربيعة ومُضَر وكنانة ونزار
وخزاعة وقيس وضبة.
والتنقيح الثالث أدخلته قريش بالتدريج انتخابًا من لغات قبائل العرب التي
كانت تفد عليهم في كل عام ، وتمكث بين ظهرانيهم نحو خمسين يومًا ، منها ثلاثة
أيام بسوق ذي المجاز ، وسبعة بسوق مجنة ، وثلاثون بسوق عكاظ، وعشرة في
مناسك الحج.
والتنقيح الرابع هو اختيار علماء المَصْرَيْن البصرة والكوفة (نقلة اللغة في
عصر الأمويين والعباسيين) ، فقد قصروا اختيارهم على ست قبائل من صميم
العرب لم تختلط بغيرها ، وهم: قيس عيلان ، وأسد ، وهذيل وبعض تميم ،
وبعض كنانة وبعض طَيِّ ، ولم يأخذوا عن لخم ، وجذام لمخالطتهم القبط أهل مصر،
ولا عن قضاعة وغسان وإياد لمخالطتهم أهل الشام والروم ، وأكثرهم نصارى
يقرءون بالعَبْرانية، ولا عن تغلب؛ لأنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ،
ولا عن بكر؛ لمجاورتهم النَّبَط والفرس ، ولا عن عبد القيس وأَزْد عمان؛ لأنهم
كانوا بالبحرين مخالطين الهنديين والفرس، ولا عن أهل اليمن: (حِمْيَر ، وهمدان ،
وخولان والأزد) ؛ لمخالطتهم الحبشة والزنج والهنديين ، ولا عن بني حنيفة وسكان
اليمامة وثقيف والطائف؛ لمخالطتهم تُجّار اليمن عندهم ، ولا عن حاضرة الحجاز
وقت نقل اللغة لفساد لغتها بالاختلاط.
وعدّوا لغة قريش أفصح اللغات العربية؛ لأنها خالية عن عنعنة تميم ، وهي
إبدال الهمزة عَيْنًا نحو: عَنْتَ وعِنّكَ ، أي: أنت وإنك، وعن تَلْتَةِ بَهْرَاءَ ، وهي
كسر أول المضارع ، نحو: تِلْعَب وتِلْهو، وعن كَسْكَسَةِ ربيعة ومضر ، وهي:
إلحاق سِين بعد كاف المخاطب: رأيتكَسْ، وعن كَشْكَشَة هوازن ، وهي إلحاق شِين
بعد كاف المخاطبة: نحو رأيتكَشْ ، وعن فَحْفَحَة هذيل ، وهي: قلب الحاء عينًا؛
نحو: عَتَّى ، أي: حَتَّى، وعن وكم ربيعة ، وهي كسر كاف الخطاب بعد الياء
الساكنة ، أو الكسرة ، نحو: عَلَيْكِمْ وَبِكِمْ، وعن وهم بني كلب ، وهي كسر هاء
الغيبة إذا لم يكن قبلها ياء ساكنة ولا كسرة ، نحو: عَنْهِمْ ، وبَيْنَهِمْ ، وعن جَعْجَعَة
قُضَاعَة ، وهي قَلْب الياء الأخيرة جِيمًا؛ نحو: الساعج يدعج ، أي: الساعي يدعي ،
وعن وَتْم أهل اليمن ، وهو قَلْب السين المتطرفة تاءً؛ نحو: النَّات أي: الناس،
وعن الاستنطاء في لغة سعد والأزد وقيس ، وهو قلب العين الساكنة نُونًا قبل الطاء ،
نحو: أَنْطِي أي أعْطِي، وعن شَنْشَنَة اليمن ، وهي قلب الكاف شِينًا ، نحو:
لَبَّيْشَ اللهم لَبَّيْشَ، وعن لَخْلَخَانِيّة الشَّحْر وعمان وهي حذف الألف في نحو: مَشَاءَ
اللهُ أي ما شاء، وعن طُمْطُمَانِيّة حِمْيَر ، وهي جَعْل أل (أم) نحو: طاب
امْهَوا؛ أي: الهواء ، وعن غَمْغَمَة قُضَاعة ، وهي إخفاء الحروف عند الكلام ، فلا
تكاد تظهر.
ولم ينظر نقلة اللغة إلى لغة كل قبيلة على حدتها ، بل جمعوا الألفاظ التي
يتكلم بها كل القبائل التي عولوا على الأخذ عنها ، وجعلوها لغةً واحدةً مقابل اللغة
الأعجمية ، لا يخطئ المتكلم إلا إذا خرج عنها كلها ، فلفظ المُدْيَة لغة دَوْس (بطن
من الأزد) ، ولفظ السكين لغة قريش ، فنقل الأئمة اللفظين ، وأباحوا لكل إنسان أن
يتكلم بأيهما شاء ، ولو لم يوجد في العرب من تكَلّم بهما معًا ، ومن هنا جاء الترادف
في اللغة والاشتراك اللفظي ، ولو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لَتكرر
العمل وطال الزمن.
ثم نظروا بعد ذلك إلى المفردات ، فما كان منها كثير الدوران على ألسنة
العرب عدوه فصيحًا، وما كان قليل الدوران على ألسنتهم عدوه غريبًا ووحشيًّا يعدّ
استعماله مُخِلاًّ بالفصاحة ، ولو كان معروفًا عند المخاطبين.
واستخرجوا من استعمالات العرب قواعد تتعلق بأحوال أواخر الكلم وقواعد
تتعلق بباقي أحوالها وسموها علم النحو والصرف ، وجعلوا لبعض تلك القواعد قيودًا
واستثناآت حتى يكون الاستعمال الكثير مضبوطًا بقوانين تُحْتَذَى عند القياس ،
وما شذّ عن ذلك عن ذلك جعلوه سماعيًّا يقبل من العربي ولا يقبل من المولد.
وكانوا شديدي الحرص على بيان السماعي والقياسي ، فإذا لم يكن اللفظ (مادة
أو هيئة) قد سمع من العرب منعوه بتاتًا ، وشنعوا على مستعمله.
ولأجل أن يعرف السامع مقدارَ عنايتهم بالمسموع من العرب ، ومقدار الانحطاط
الذي كان يلحق بمن يخطئ منهم أروي لك قصة وفود سيبويه على يحيى بن خالد
البرمكي ببغداد ، فقد عقد يحيى مجلسًا جمع فيه بين سيبويه رئيس نحاة
البصرة وبين الكسائي رئيس الكوفة ، فقال له الكسائي: تسألني أو أسألك؟ فقال
سيبويه: سَلْ أنتَ. فسأله الكسائي عن قول العرب: (قد كنتُ أظنُّ أن العقربَ أشد
لسعةً من الزُّنْبُور ، فإذا هو هي) أيجوز (فإذا هو إياها) ؟ فقال سيبويه: لا
يجوز النصب. فقال الكسائي: العرب ترفع ذلك وتنصبه. فقال يحيى: لقد اختلفتما ، وأنتما رئيسا بلديكما ، فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد
سمع منهم أهل البلدين ، فيحضرون ويُسألُون. فقال يحيى وجعفر أنصفت. وأمرا
بإحضار أعرابي من أهل البادية وسألوه ، فقال:(القول قول الكسائي) فقال
سيبويه ليحيى: (مُرْه أن ينطق بذلك ، فإن لسانه لا يطاوعه) فاكتفى المجلس بحكم
الأعرابي ، وخجل سيبويه ، وسافر بعد ذلك إلى فارس ، فأقام بها حتى مات وكانت
هذه المسألة سبب علته ، وكانت وفاته في سنة 180 وعمره 32 ، وهكذا كانت
عادة علماء البلدين متى اختلفوا في أمر تلمَّسوه عند البدو وتسمَّعوه منهم.
وعرفوا المعرَّب بأنه الاسم الأعجمي الذي فاهت به العرب الموثوق بعربيتهم
فإذا فَاهَ به غير العربي سمي مولدًا ، وقد تبعهم في ذلك كل من كتب في اللغة
كأصحاب الصحاح والقاموس والمحكم والعباب ، وأجمع العلماء على أن لا يُسْتَشْهَد
في اللغة والصرف والنحو إلا بكلام العرب ، ولا يجوز الاستشهاد بكلام المولدين
إلا في علوم البلاغة.
وأجازوا استعمال الكَلِم في غير ما وضعت له متى وُجِدَت مناسبة بين المعنى
الأصلي والمعنى المراد ، وقامت قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي ، وحصروا تلك
المناسبات بالاستقراء ، وسموها علاقات ، وهي:
المشابهة - نحو: فاهَ الخطيب بالدرر؛ أي: الكلمات الحِسان.
والسببية - نحو: رعينا الغيث؛ أي: الكلاء.
والمسببية - نحو: أمطرت السماء نباتًا؛ أي: ماء.
والكلية - نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} (البقرة: 19) .
والجزئية - نحو: بث الأمير العيون؛ أي: الجواسيس.
والحالية - نحو: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 107)
أي: الجنة.
والمحلية - نحو: سال الوادي ، وجرى الميزاب؛ أي: ماؤه.
واللازمية - كإطلاق الحرارة على النار.
والملزومية - نحو: دخلت الشمس من الكوَّة؛ أي: ضوءها.
والإطلاق - نحو: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) أي: لا صلاة
كاملة.
والتقييد كإطلاق المِشْفَر على شفة الإنسان ، والمشفر للبعير ، كالشفة للإنسان.
والعموم - كإطلاق الأبيض والأسمر على السيف والرمح ، والدَّابَّة على ذات
الأربع.
والخصوص - كإطلاق اسم الشخص على القبيلة؛ نحو: تميم ، وقريش ،
وربيعة.
والبدلية - نحو: (في ملك فلان ألف دينار) أي: متاع يساوي ألفًا.
والمبدلية - نحو (أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة) أي: أكلت دية.
واعتبار ما كان - نحو: {وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2) أي:
الذين كانوا يتامى.
واعتبار ما يكون - نحو: {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (يوسف: 36) أي:
عنبًا.
الدالية - نحو: فهمت الكتاب؛ أي: معناه.
والمدلولية - نحو: (قرأت معناه مشفوعًا بتقبيل) أي: قرأت لفظه.
والمجاورة - نحو: شربت من الراوية ، أي المَزَادَة المجاورة للجمل ، وقد
تكون المجاورة في الذكر فقط ، كما في المشاكلة نحو: اطبخوا لي جبة وقميصًا.
والآلية - نحو: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} (الشعراء: 84)، أي: ذِكْرًا
حسنًا صادقًا.
والتعلق - كإطلاق لفظ المصدر على الفاعل أو المفعول ، كشاهد عدل {هَذَا
خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) .
والشرطية - نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143)، أي:
صلاتكم.
والمصدرية - نحو: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} (الأنبياء: 64)، أي:
آرائهم.
والمظهرية - نحو: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10)، أي: قدرته.
والتضاد - كإطلاق البصير على الأعمى.
ومتى اشْتُهِر اللفظُ في معناه المجازي صار حقيقةً عُرْفِيّةً له حُكْمُ الحقيقة
الوضعية.
وقد صارت اللغة بهذا التنقيح الأخير لغة العرب عامَّةً لا لغة قبيلة بعينها ،
فأي لفظ نطقتَ به فأنتَ مُصِيب ، وأيّ استعمال جربت عليه فَلَسْتَ بمخطئ
ما دُمْتَ لم تخرج عن المنقول ، وأية علاقة صادفتك من العلاقات السالفة الذِّكْر
تُوصِلك إلى تسمية ما لم تُسَمِّهِ العربُ فلستَ مُقَيَّدًا بلفظ أعجمي ، ولا بلهجة حي
معين ، وصِرْتَ بذلك بَعِيدًا عن الخطأ ، واسع المجال في النثر والنظم والتقلب في
الأساليب الإنشائية ، تصول وتجول ، وتتهم وتنجد حسبما يسمو إليه استعدادك ،
وتصل إليه درجتك من الاطلاع وتمكنك منه بضاعتك ، فلك أن تقول المُدْيَة كما
تقول دَوْس ، وأن تقول السكين كما تقول قريش ، وأن تنطق كلمة (حيث) بتسع
لغات ، ولفظ (يا ربي) بست لغات ، وتركيب (بادئ بدء) بثمانيةَ عَشَرَ وجهًا ،
وأن ترفع الخبر وتنصبه في نحو {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) ، وأن
تطلق الأسد على السبع والشجاع ، والعَيْنَ على الباصرة والذهب والجاسوسِ ،
وتُصَرِّح وتُعَمِّي حيث تحتاج لذلك ، وتنقل إلى العربية كل ما فهمته من اللغات
الأخرى.
وقد وقع جاسوس عربي في يد العدوّ ، فحبسوه وألزموه أن يكتب كتابًا إلى
ملكه يحمله فيه على مداهمتهم ، ويوهمه بقلة عددهم وعُددهم غشًّا وتغريرًا ، فكتب
إلى الملك كتابًا قال فيه:
(أمّا بَعْدُ ، فقد أحطت علمًا بالقوم، وأصبحت مستريحًا من السعي في تعرف
أحوالهم، وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم ، وقد كنت أعهد في أخلاق المَلِك المهلة
بالأمور والنظر في العاقبة ، فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله، ولقد رأيت من
أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك ، نصحتُ فدع ريبك ، ودع مهلك ، والسلامُ) .
وَسُلِّمَ الكتابُ إلى العدو ، فأرسلوه إلى الملك بعدما اطلعوا عليه ، فتفطن الملك
لِمَا أراد الكاتب ، وقال لحاشيته: إن الجاسوس وقع في الأسر ، فأصبح مستريحًا
من السعي ، وإنه رآهم أضعافًا ، وإننا قليل بالنسبه لهم؛ إذ لمح بآية: {كَم مِّن فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ} (البقرة: 249) ، ولفتني إلى الأناة إذ جعلها عادة لي ، وأراد قَلْبَ حروف
الجملة الأخيرة ، فتكون:(كلهم عدوُّ كبير عدٍّ فتحصن) .
على هذا استقرت اللغة العربية ، وتَمّ إحكامها ، وحُصِرَتْ مُفْرَدَاتُها الأصلية
وقوانينها ، وأُبِيحَ استعمال مفرداتها في غير ما وُضِعَتْ له عند الاحتياج بشرط
العلاقة والقرينة ، وانتهت أدوار التنقيح فيها ، فلم يَبْقَ إلا استظهارها ، والعمل بها.
وقد اغتبطت الأمة العربية بذلك وعكفت على العمل بها قرونًا ، قضت فيها لُبَانة
للعلم والسياسة ، وتفرغت للفتوح والاستعمار ، وملأت طِبَاقَ الأرض بالتصانيف في
الشرائع والحكمة ، وكل ما كان على وجه الأرض من العلوم ، فأنارت الخافقين
ونشرت المدنية في الدنيا. وَلَمّا ضعف أمْرُهم ورثهم الغربيون في حكمتهم ، وأخذوا
عنهم ، وأضافوا إليها ما تجدد من الصناعات والفنون ، ولا يزال الإفرنج يدأبون في
اقتناء الكتب العربية ، ويستخرجون منها من الفوائد ما لم يكن في حسباننا ، ولكل
مجتهد نصيب.
هذا ما حضرني من النصوص المحتوية عليها كتب العرب المتضافر عليها
من أئمة الأدب، فمن شاء فليؤمن بها ومن شاء فليكفر بها؛ فقد تبين الرُّشْد من
الغَيّ.
ولما قعدت هِمَم الخالفين وانتشر فساد اللغة مادَّةً وقوانينَ رأى فريق من الناس
أن يكفونا مؤنة التحصيل؛ فهبوا إلى فتح ثغور اللغة العربية للدخيل من الألفاظ ،
وطفقوا يحسنون صنيعهم بأقيسة خطابية وجدلية لا تغني من الحق شيئًا.
فقالوا أولاً: إن العرب أخذوا ألفاظًا من الأعاجم في أطوار تنقيح العربية
واستعملها الفصحاء ، وورد منها كثير في القرآن والأحاديث فما لنا لا ننشئ مذهبًا
خامسًا في التنقيح ، وفاتهم أن ما أخذه العرب قليل جدًّا بالنسبة إلى ما نبذوه ونادر
بالإضافة إلى مادة لغتهم الأصلية؛ والقليل النادر لا يُقَاسُ عليه ، فإذا فتحنا اليوم
باب القياس في مادة اللغة نفتحه غدًا بالأولى في هيئتها؛ أي: في الصرف والنحو ،
فنقيس على ما ورد شذوذًا عن العرب؛ إذ ليست المادة بأقل خطورة من الهيئة ، ولا
الجوهر بأدنى احترامًا من العَرَض فننصب خبر المبتدأ وخبر إن، ونشتق من
الجوامد كلها، ونميل الألف حيثما وجدت ، ونستخرج من كل فعل ثلاثي
مزيدات ، ونستعمل الزيادة لكل المعاني ، وبالجملة نجعل عالي اللغة العربية سافلها ،
ونحدث فيها الأحداث الهائلة ، فَتَتَبَلْبَلُ فيها الألسنة ، وتُفْقَد بعد قليل من الزمن مع
أنَّ (أصحاب اللغات الحية) الذين يريدون أن يتشبهوا بهم لم يَرْضَوْا أنْ يتركوا
عاداتهم من الكلام والكتابة ، ولو كانت خطأً ، فلا يزالون يقولون في75 ستون
وخمسةَ عَشَرَ ، وفي98 أربع عشرينات وثمانيةَ عَشَرَ ، ولا يزالون يكتبون جملة
حروف في الكلمة لا ينطق بشيء منها ، ويفوهون بحروف لا يكتب منها شيء.
وقالوا ثانيًا: إنه يجب أن يكون لكل مدلول دالّ خاصّ به لا يدُلّ على غيره
أبدًا ، وتكونَ دلالته بنفسه لا بعلاقة أخرى ، وإن تسمية المحدثات بلفظ عربي مهما
كانت علاقته يوقع في الاشتراك ويَزِيدنا آلامًا إلى آلامنا ، وغرضهم بذلك منع
الاشتراك اللفظي بالمَرَّة ، أو عدم زيادته؛ وفاتهم أن الاشتراك اللفظي واقعٌ لا محالَةَ
في جميع اللغات؛ لأن ألفاظ كل لغة محصورة ، والمعاني غير محصورة ، فلو
وُزِّعَت الألفاظ على المعاني وجب المصير إلى الاشتراك حَتْمًا ، وإنه لا ضَرَرَ من
استِعماله مع القرينة، ففي الهندسة مثلاً تُسْتَعْمَل الزاويةُُ والعمود والسطح والهرم
والكرة والضلع ، ولا يخطر في البال شيء من معانيها القديمة، وفي الطبيعة
والكيمياء تُسْتَعْمَل العدسةُ والمِلْح والبلورات ، ولا تحسّ بأصل معناها، وفي
القوانين تستعمل وضْع اليد وسَحْب الورقة وحبس العين والقذف والضبط والربط ،
ولا يجيء في الخاطر معناه الأصلي ، والذي يسمع جملة: (سيارة الأمير سبقت
القطار) لا يتوهم القافلةَ ولا الجمالَ؛ فأين هي الآلام التي تخشون من زيادتها؟
ومَنْ مِنْكم يمكنه أن يتكلم كلامًا خاليًا من المشترك والمجاز؟ أنا أراهنكم على كتابة
عَشَرَة أسْطُر بأي لغة شئتم في وصف حادثة من الحوادث ذات البال ، فمن قدر على
إخلائها من المجاز والمشترك فله مني عَشَرَةُ دنانيرَ وأَمْهَلْتُكُم شهرًا. والحقيقة أن
هذه الآلام آلام وهمية توجد عندما يريد أن يتألم منها.
وقالوا ثالثًا: إن دلالة الكَلِم الأعجمية أصرح؛ لأنها تدل على صِنْف
مخصوص ، بخلاف الكلم العربية؛ فإنها في الغالب تكون عامةً ، وفاتهم أن
الاصطلاح يجعل العام خاصًّا ، والمطلق مقيدًا ، فالنسافة والبارجة والدارعة
والمُنْطاد لا عموم فيها بعد الاصطلاح عليها وغلبة الاسمية على الوصفية معروفة
في اللغات قديمًا وحديثًا ، فيقولون في السيف: أبيض ومرهف وهندي ويماني ، وفي
الرمح: أسمر ولَدْن وسَمْهَرِي ورُدَيْنِي ، وكلها أوصاف غلبت عليها الاسمية.
وقالوا رابعًا: إن التعريب أسهل من انتقاء اللفظ العربي ، واستعمال الأعجمي
أخف على السمع ، فإذا قلت للبدال:(أعطني قدحًا من الجِعَة) اشمأز منك ،
وسخر السامعون بخلاف (البيرا) ، وفاتهم أن هذه الصعوبة تزول بعد الاهتداء إلى
الكلمة العربية والاصطلاح عليها ، والإلحاح في استعمالها لفظًا وكِتَابَةً، على أن هذه
الصعوبة إنما تكون على الأشخاص المكلفين باستخراج الكلم ، بخلاف الذين
يتعلمونها جديدًا ، فإنهم يجدونها بدون عناء ، كالذي يَلْبَسُ الثوب لا يحس بعناء
حائكه وخائطه ، وقارئ الصحيفة لا يحس بعناء مُحررها وجامع حروفها وطابعها.
ولا بد من قوم يعانون الأعمال ، وآخرون ينتفعون بها ونحن لا نكلف أفراد الأمة
بالاشتغال معنا في انتقاء الألفاظ ، بل يكفي أن يتعب منا فريق في هذا الأمر مقابل
تعب الآخرين في أعمال أخرى على قاعدة التبادل المدني ، أمّا استهزاء العامّة فلا
يعوقنا عن العمل؛ لأنا لا نعمل لهم بل للخاصة والنشء الجديد الذين يتعلمون في
المدارس، وخالي الذهن يحفظ ما يلقى إليه سواء اللفظ الذي يحفظه عربيًّا أو
أعجميًّا، وإني أذكركم أننا كنا نستعمل كلمة قومسيون وقوميتيه وجرنال وغازيته
وأفوكاتو وكوليرا ووابور وقنصل وجنرال ، ولما ابتدأ الصحافيون يغيرونها بلجنة
وصحيفة ومحامٍ ووباء وقطار ومعتمد كنا نتقززها ، فلما ألحوا في استعمالها زال
التقزز شيئًا فشيئًا ، حتى عفنا الكلمات الأولى فجازاهم الله عن العرب خيرًا.
فلِمَ لا يعمل المحدثون من الصحافيين مثل ما عمل الأقدمون؟ ولماذا لا
يحذو مترجمو اليوم حذو مترجمي أمس؟ ولِمَ لا نساعد هؤلاء وهؤلاء على أداء
ذلك الواجب؟
وقالوا خامسًا: ليس لنا أن نتمسك بالقديم لمجرد قِدَمِهِ. فنقول لهم: وليس لنا
أن ننبذ القديم لمجرد قدمه؛ فما كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ ، والواجب على مَن
رأى المصلحة في القديم أن لا يتركَه ما لم تقُم الأدلة على أصلحية الجديد ، وقد
جربنا القديم مئات من السنين فقام بالكفاية ، ولم نَرَ للآن منفعةً في الألفاظ الجديدة بل
الضرر محقق؛ لأنا لو فتحنا الباب لدخول الجديد لاستعجم على الخالفين فيهم كل
المؤلفات منذ ألف سنة إلى الآن ، وانقطع الاتصال بين السابق واللاحق ، وضاع
على المتأخرين تراث أسلافهم المتقدمين.
وبعدُ ، فإني لم أفهم للآن وجهًا للتشبث بحب الأعجمي ، فإما أن نكون مصابين
بمرض الشعوبية ، وهو تفضيل العجم على العرب ، وإما أن نكون لاستضعافنا
مُقلدين كما قال ابن خلدون، وإما أن يكون في طباعنا إخلاد إلى الراحة والسكون؛
فلا نريد أن نعاني أعمالاً جديدة لم نتعودها فتخدعنا هذه الطباع إلى تحسين ما نحن
عليه ، ونقول بالتعريب؛ لأننا يمكننا أن نُعَرِّبَ كل يوم ألف كلمة ، ولا نجد في
الشهر عشرين كلمة عربية ، فيقرر كل منا أن ما وصل إليه هو منتهى الكمال ، وأن
ما يَزِيد عن ذلك يحسب من التقعر والتفيهق ، ولا يريد أن يعترف بكمال بعد الحد
الذي وقف عنده ، فيسجل على نفسه النقص، إن لم يكن هذا ولا ذاك فما سبب هذا
التشبث يا تُرَى؟
لقد وعيت كل ما سبق من الأدلة فلم أجد فيها برهانًا ، فلعل جمود قريحتي
ضرب بيني وبين الحقيقة حجابًا مستورًا.
وقد نشأ من التساهل في حياطة اللسان العربي أن تطرق الفساد إلى مادته
وهيئته ، وتولد عنه لسان آخر لا هو بالعربي ولا هو بالأعجمي ، وسَمّاه الناس
باللغة العامية أو الدارجة ، وهو المُسْتَعمَل لهذا العهد في مصر والشام والعراق
وجزيرة العرب والمغرب والسودان لا يتكلمون بغيره ، وإن كانوا لا يزالون يكتبون
بالعربية الفصحى أو ما يقرب منها.
وترى الطفل يتعلم العامية في أقلّ من خمس سنين ، ولا يتعلم الفصحى في
أقل من عَشْرٍ ، والسبب في ذلك ظاهر وهو أنه في أول أمْرِهِ لا يسمع غير العامية
ولا يتكلم بغيرها ، فهو أينما سار وحيثما ذهب مُشْتَغِل بها فترسخ في ذهنه رسوخ
الفرنسية في أذهان أطفال الفرنسيس، والإنكليزية في أذهان أطفال الإنكليز ، وليس
الحال كذلك في إبّان تعلّمه لغة الكتابة ، ولو فرضنا صبيًّا نشأ في بلد يتكلم أهله
بالعربية الفصحى بالسليقة وبعد سِنّ مخصوص يتعلمون العامية ، ويستعملونها في
الكتابة فقط لانعكس معه الحال ، وتعلم العامية في أقل من عَشْرٍ، فليس من طبيعة
اللسان العربي الصحيح شيء من الصعوبة وإنما هي طريقة التلقين وبيئة التعليم.
وعلى كل حالٍ فالجمع بين العامية والفصحى يستنفد خمسَ عَشْرَةَ سنةً كان يغني
عنها خمس لو اقتصر المعلم على إحداهما ، ويضيع على كل متعلم عشْر سنين من
عمره ، فإذا تحققت الآمال ، وصار التعليم إجباريًّا؛ فكم تخسر الأمة كل سنة من
أعمار أفرادها؟
فإذا أخذنا المعدل السنوي للمواليد وهو 470000 وطرحنا منه معدل وَفَيَات
الأطفال إلى سِنّ العشرة (ونفرض أنه النصف)235.000 يكون الباقين
235000 نضربه في عَشَرة أعوام ، وهي مقدار ما يخسره كل واحد، فتكون النتيجة
أن الأمة تخسر في كل عام عمل شخص واحد في 2.350.000 سنة ، وبعبارة أخرى
يفوتها ربح زراعة 1.275.000 فدان ، على فرض أن الفدان يزرعه اثنان ، وهي
خسارة لا يحسن السكوت عليها (فيا ضيعة الأعمار تمشي سَبَهْلَلاً) .
وقد استنكر الصبر على هذه الخسارة جماعة من الاقتصاديين؛ فاتفقوا على
وُجوب الاقتصار على تعلم إحدى اللغتين ، واختلفوا في تعيينها ، فقال فريق منهم:
يقتصر على العامية ، ومنهم المهندس الشهير ويلككس، والقاضي الكبير ويلمور.
وقال الفريق الآخر ومنهم العالم الشهير والمُرَبّي الكبير يعقوب أرتين باشا
بالاقتصار على الفصحى.
وأورد على الأول:
(1)
أن لكل قطر عامية مخصوصة ، بل لكل مديرية لهجة معينة ، فإذا
رجحنا لغة أقليم تحكمًا منا نكون قد ألزمنا سكان الأقاليم الأخرى بتعليم لغة ذلك
الإقليم؛ وعناؤهم في ذلك لا ينقص عن عناء تعلم العربية الفصحى ، بل الفصحى
أسهل؛ لأن كل شيء فيها قد ضبط ونقح ، ووضعت له كتب متعددة.
(2)
وأن العامية في البلد الواحد تتبدل بتبدل العصور ، فلكل زمان ألفاظ
تدخل مع أصحاب القوة؛ ولذلك نرى في لغة مصر مفردات من الرومية ، والكردية
والتركية والشركسية والفرنسية والإنكليزية.
(3)
وأن التزام العامية يحدث حجابًا كثيفًا دون الاستنباط من القرآن
والحديث والمأثور من كلام السلف ، فتذهب أعمال الأولين هباءً ، وتقع الخسارة
على المسلمين وغيرهم ممن يستخرجون كنوز العلوم من بطون الكتب العربية
القديمة ، ولولا كتبُ العرب ما أشرق على أوربا ذلك النور الساطع ، وبالجملة
تنقطع الصلة بين الأزمنة والأمكنة العربية ، ويُحْرَمُ ابْنُ هذا الزمان من ثمار أفكار
السابقين ، وقاطنُ هذا المكان من تبادل آراء المعاصرين من أبناء اللغة الواحدة؛ فلا
جرمَ كان من المتعين نبذ الرأي الويلككسي والأخذ بالمذهب الأرتيني.
وخلاصة هذا المذهب أن تترك العامة يتكلمون بما يريدون ، وتدرب التلاميذ
في المدارس على التكلم بالفصحى ، ويحبب إليهم التحاور بها كلما اجتمع لَفِيفٌ
منهم حتى ترسخ فيهم ملكتها وتملك ألسنتهم دُرْبَتها ، ويكون أخذهم بالتمرين تدريجيًّا
يطبقونه على ما عرفوه ، ويكملون محاورتهم بالعامية فيما لم يعرفوه ، وكلما زادت
درجتهم في التعليم زادت قوتهم في التطبيق إلى أن تهجر العامية، وتحل الفصحى
محلها.
فإذا ضُمّ إلى ذلك مطالعة الصحف والمجلات العربية ، وسماع الخطب العلمية
في النوادي العربية ، والتردد على معاهد العظات ، ومشاهد التمثيلات ، ومواقف
المرافعات ، وتعليم الفتيات ، واحتذاء أساليب المُنْشِئين ، وطبع كتب المبرزين فإن
اللغة العامية تنقرض في أقل من عشرين عامًا ، وتخلفها اللغة الصحيحة ، ويرجع
اللسان العربي إلى عصر مجده وأيام سعده.
ولقد هَمّ ذلك المُرَبّي الكبير منذ عشرين سنة بإلزام تلاميذ المدارس بالتكلم
بالعربية الفصحى ما داموا تحت نظر معلميهم وأخذ يُعد لهذا الأمر عُدَّته وعتاده ،
وسألني رأيي في ذلك وكنت معلمًا في مدرسة الحقوق ، فقلت له: إن الأمر ميسور ،
والخطب سهل ، فطلب إلىَّ تجربة ذلك قبل أن يصدر الأوامر ، فقلت: نعم وكرامة ،
ولم يَمْضِ شهر حتى دعوته لشهود التجربة مع من شاء من المفتشين ، فأَسْفرَتِ
التجربة عن نجاح باهر وارتقاء ظاهر ، فصمم على إمضاء عزيمته لولا احتجاج
فريق من المعلمين، بل نفر من العاجزين بأن التطبيق متعذر قبل حفظ اللغة
وإتمام القواعد ، ولولا التوكّؤُ على هذه المغالطة لَكانت العامية الآن في خبر كَادَ
إن تكن في خبر كَانَ.
والذي يسمع كلام الباحثين الأصليين والمنتصرين لهما يخال أن بين الفريقين
حربًا عوانًا وخلافًا ما بعده اتفاق. ومنشأ هذا الافتراق الذي حمي وَطِيسه، واحتدم
أوراه أن أدلة الفريق الأول تنتج أكثر من المدعى ويجر التسليم بها إلى إذهاب اللغة
العربية ، والإتيان بخلق جديد ولولا ذلك لَكان الخلاف نظريًّا لا يترتب عليه أثر ،
ويتضح ذلك إذا حددنا موضعَ النزاع ، وحصرناه في الدائرة التي يجب حصره فيها،
وأحسن طريق للتحديد سرْد مواطن الوفاق حتى نتحاماها إذا التقى الجمعان؛
وإليكم البيان:
(1)
نقسم أولاً اللغة العربية إلى لغتين: لغة عامية ، ولغة فصحى ،
فالعامية لا يمكن أن تكون مَحلّ نزاع؛ لأن الباحثَ الأول يقول بصقل اللفظ
الأعجمي ، ووضعه في القوالب العربية ، والثاني يقول بعدم الخروج عَمَّا ورد ،
فمحل النزاع إذًا اللغة الفصحى.
(2)
ثم نقسم اللغة الفصحى إلى أجزائها: حرف ، وفِعْل ، واسم؛ فالحرف:
لا يمكن أن يكون محل النزاع؛ لأن ما وجد منه كافٍ وافٍ بحاجة اللغة ، فلا
ضرورة لزيادة نحو: (ييس) و (نو) و (آند) لوجود نَعَم ولا ، وحرف
العطف ، والفعل كذلك غير محتاج للمزيد ، فلا باعث لزيادة نحو:(جون)
و (كم) لوجود ما يماثلها في العربية ، وقد وقع في كلام الباحث الأول [1] ما يُفهم منه
رغبته في زيادة أفعال تشتق من الأسماء الأعجمية؛ كأترم وتمبل وأمبس ، ولعلّ ذلك
فرط منه أثناء احتدام الجدال ، وإلا فما وجه تفضيل الأعجمي على العربي؟
ولم يقل أحد بجواز أبغل وأحمر وأفرس؛ والبغل والحمار والفرس أعرق في العربية
من الترام؛ اللهم إلا أن يكون وجه التفضيل شدة السرعة ، وعندنا قاعدة مذهبة نبني
عليها ، وهي أنه لا يُصَار إلى التعريب إلا إذا ألجأت الحاجة إليه ، ولا حاجة
إلى أترم كما لا حاجة إلى أبغل ، لإمكان التعبير بركب الترام لو سلمنا بقبول كلمة
ترام فمحل النزاع إذًا الاسم.
(3)
ثم نُقسّم الاسم إلى ما ينوب عن الفعل: كَشَتَّانَ ووي وصه ، وإلى ما لا
ينوب عن الفعل ، والأول كالفعل لا حاجة إلى الزيادة فيه ، فمحل النزاع إذًا الثاني.
(4)
ثم نُقسّم ما لا ينوب عن الفعل إلى: مشتق وجامد ، فالمشتقات في
العربية كافية ، وهي أصرح من نظائرها في اللغات الأخرى ، فالنزاع في الجامد.
(5)
ثم نقسم الجامد إلى اسم معنى ، واسم ذات؛ فأسماء المعاني كثيرة جدًّا
في العربية حتى عدها الباحث الأول ثروة واسعة ، فالنزاع في اسم الذات.
(6)
ثم نقسم اسم الذات إلى: ما وُضِع لمعين بلا واسطة وهو العَلَم ، وإلى
ما وضع لمعين بواسطة ملازمة ، وهو: الضمير، واسم الإشارة ، والاسم
الموصول ، وإلى ما وُضِعَ لغير معين ، وهو اسم الجنس.
فالعلم يشتمل أسامي الأناسي ، والبلاد ، والجبال ، والأنهار ، والبحار ، والأمم ،
والأقاليم ، وما له شأن خاص من غيرها، والاتفاق على أنها لا تخص لغة معينة إلا
باعتبار معناها الأصلي قبل العلمية ، وإنها تبقى على ما وضعه لها واضعها إلا
لضرورة ، والضرورة إما أن تكون بوجود حروف أعجمية لا نظيرَ لها في العربية ،
كالحرف الذي بين الباء والفاء، والحرف الذي بين الفاء والواو، والحرف الذي بين
الجيم والقاف ، والكاف والغين ، وبعبارة أخرى كجيم القاهرة ، أو قاف الصعيد
وهي قاف تميم ، والحرف الذي بين الجيم العربية والياء، وبعبارة أخرى كجيم
المغاربة ، والحرف الألماني الذي بين الخاء والشين فيبدل الحرف الأعجمي
بحرف يقاربه.
وإما أن تكون بوجود حركات أعجمية لا نظير لها في العربية ، كالحركة التي
بين الفتحة والضمة كما تقول أهل القاهرة خوخ ، والحركة التي بين الضمة والكسرة
عند الفرنسيس ، فتبدل بحركة عربية تقاربها ، أما الحركة التي بين الفتحة والكسرة
فلها نظير في العربية في لغة نجد وقيس وأسد ، كما تسمع من القراء ، فتبقى كما
هي أو تبدل بفتحة خالصة ، والمَدّ بعدها بألف خالصة.
وإما باشتمال العلم على ما لا تجيزه أصول العربية كالابتداء بساكن ،
وكالانتهاء بواو ساكنة قبلها ضمة ، وكالانتهاء بواو أو ياء بعد حرف مدّ فيحرك
الساكن أو يُتَوَصّل إليه بهمزة وصل ، ويحرك أحد الساكنين وتقلب الواو الساكنة ياء
والضمة كسرة ، أو تحذف وتقلب الواو أو الياء المتطرفة بعد مدة همزة ، وهذا
التغيير هو الذي يسمى صقلاً أو وضعًا في القوالب العربية ، فالعلم موضع اتفاق بين
الباحثين أيضًا.
والضمائر وأسماء الإشارات والأسماء الموصولة كافية ، بل فيها زيادة عن
نظائرها في اللغات الأخرى ، فلا حاجة للزيادة فيها ، وإنما النزاع في اسم الجنس
كما صرّحَ الباحث الأول مرارًا.
(7)
ثم نقسم اسم الجنس إلى: ما استعملت له العرب لفظًا سواء وضعته له
من عندنا أو عربته من لغة غيرها ، وإلى ما لم تستعمل له لفظًا. والأول يقبل ولا
ينظر إلى أصل اللفظ قبل التعريب؛ لأن التعريب جعله في حُكْم العربي ، فليس
موضع نزاع ، والنزاع فيما لم تستعمل له العرب لفظًا.
(8)
ثم نقسم ما لم تستعمل له العرب لفظًا إلى ما اصطلح المولدون على
إطلاق لفظ عربي عليه بأي مناسبة كانت كنسافة وغواصة ودارعة وقطار ، ولا
خلافَ بين الباحثين في قَبُوله، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه للآن ،
ولا خلاف بين الباحثين في قبوله، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه
للآن، ولا خلاف بين الباحثين في أنه يجب البحث والتنقيب في كتب اللغة عن لفظ عربي يمكن إطلاقه عليه بأي مناسبة من المناسبات الجائزة في اللغة العربية ،
ويصطلح على دلالته عليه كما اصطلح من قبلنا على لفظ نسافة وغواصة.
ولم يقل أحد منهما بتعطيل حركات الخطابة والكتابة ، ودواوين الإنشاء ،
وصحف الأخبار في مدة البحث والتنقيب ، بل لا بُدَّ من ملء الفراغ بلفظ أعجمي
واستعماله مُوَقَّتًا للضرورة كما يفعل الطالب الذي ينتقل بالتعليم تدريجًا من لغة العامة
إلى اللغة الفصحى.
فإذا انقضى دور البحث ولم يعثر على كلمة عربية يمكن الاصطلاح عليها وهو ما لا يكون إلا نادرًا تصقل الكلمة وتستعمل ، وحينئذ يراها الباحث الأول بالمنظار الذي
يرى به المعربات التي صقلتها العرب ، ويقول: قد احتطت وما فرطت؛ فمرحبًا
بالدخيل العتيد، وبُعْدًا للأصيل الشريد، وما لي أشغل آمالي بنشد ضالة إن جاءت
فلا كرامة، وإن ذهبت فلا شيعتها غمامة، ويراها الباحث الثاني بمنظار آخر غير
ما يرى به المعربات فيحسبها كالرقعة في الثوب والحصاة بين الدُّرِّ ، ويقول
للضرورة أحكام، وحَبَّذَا لو صحت الأحلام، ووجدت طلبتي في يوم من الأيام.
هذا هو الخلاف الطويل العريض ضيق البحث حلقاته رويدًا حتى تضاءل ،
وانتهى إلى تقدير النظر إلى الكلمة المُجْتَلَبَة واستقبالها إمَّا بالترحيب، وإما بالتقطيب،
وهو خلاف غريب.
…
...
…
...
…
...
…
... حفني ناصف
_________
(1)
هو الشيخ محمد الخضري.