المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ١١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (11)

- ‌المحرم - 1326ه

- ‌فاتحة السنة الحادية عشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌شرط الاشتراك

- ‌ما هي اللغة

- ‌الدين الإسلامي والمدنية

- ‌كلمات عن العراق وأهله

- ‌أسئلة من الحجاز

- ‌إلى الأحرار في روسيا وفي البلاد العثمانيةوفي سائر البلاد [*]

- ‌فقيد الصحافة والوطنيةمصطفى باشا كامل

- ‌تاريخ العرب والإسلامفي سلك القصص والروايات

- ‌29 صفر - 1326ه

- ‌احتفال السوريين بحافظ أفندي

- ‌إنجيل برنابا.. مقدمتنا له

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌تنبيه للمستفتين

- ‌خديجة أم المؤمنين(1)

- ‌ربيع الأول - 1326ه

- ‌صِلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام

- ‌اليمنسبب فتنتها وإمام الزيدية فيها

- ‌المؤتمر الإسلامي

- ‌الرد على اللورد كرومر

- ‌القرآن والعلم(1)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌الجامعة المصرية

- ‌مصاب مصر بقاسم بك أمين

- ‌مصافحة السوريين للمصريين

- ‌تصحيح غلط

- ‌خديجة أم المؤمنين(2)

- ‌ربيع الآخر - 1326ه

- ‌ترجمة القرآن

- ‌سد يأجوج ومأجوج

- ‌حكم صور اليد والصور الشمسية

- ‌الوقف على المساجد والمدارس

- ‌السياسة الإنكليزية الجديدة في مصر

- ‌القرآن والعلم(2)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌خديجة أم المؤمنين(3)

- ‌جمادى الأولى - 1326ه

- ‌المسلمون والقبط

- ‌النقوط

- ‌حديث من زار قبر والديه يوم الجمعة

- ‌زيارة الحرم النبويواستئذان ملك الموت على النبي

- ‌الرد على كتاب لورد كرومر

- ‌القرآن والعلم(3)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌شكر المنار على تأبين ذكاء الملك

- ‌البرهان الصريحفي بشائر النبي والمسيح

- ‌نادي دار العلوم

- ‌القبور المشرفة والتماثيل للموتى

- ‌خديجة أم المؤمنين(4)

- ‌جمادى الآخر - 1326ه

- ‌عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية

- ‌القانون الأساسي والخط السلطاني به

- ‌مقدمتنا لكتاب التربية الاستقلالية

- ‌القرآن والعلم(4)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌ الأخبار والآراء

- ‌خديجة أم المؤمنين(5)

- ‌رجب - 1326ه

- ‌الرابطة عند النقشبندية وطاعة المريد لشيخه

- ‌وجه المرأة الحرة

- ‌احترام المسلم لشعائر غَيْرِه الوطنية والدينية

- ‌حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأمة العثمانية والدستور

- ‌المجلس النيابي لمصر

- ‌كيف نستعمل الحرية [*]

- ‌خديجة أم المؤمنين(6)

- ‌شعبان - 1326ه

- ‌أسئلة من روسيا

- ‌التعبير عن الملائكة والجن بالقوىومعرفة حقيقتهم

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌أبو حامد الغزالي [*](5)

- ‌رسالة التوحيد

- ‌كتاب أبي معشر

- ‌سَفر صاحب المجلة

- ‌مكاشفة في أول ولاية السلطان عبد الحميد ومدتها

- ‌الاحتفالات بالدستور العثماني

- ‌احتفال الأرمن بذكرى شهداء الحرية العثمانيين

- ‌الصحف في البلاد العثمانية

- ‌البرنامج السياسي لجمعية الاتحاد والترقي

- ‌رمضان - 1326ه

- ‌من خطبنا الإسلامية في الديار السورية

- ‌الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*](1)

- ‌العمل [

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌مناظرة عالمين في مجلس المأمون [*]

- ‌تسامح الدين الإسلامي

- ‌جريدة النظام

- ‌تصحيح وبيان

- ‌شوال - 1326ه

- ‌ترجمة الخنساء [*]

- ‌إعجاز القرآن

- ‌من خطبنا الإسلامية في الديار السورية

- ‌الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*](2)

- ‌البلاد العربية والسكة الحجازية [*]

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌حادثة صاحب المجلة بطرابلس الشام

- ‌الدولة العلية وبلغاريا والنمسا

- ‌ذو القعدة - 1326ه

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة.. هل يتفقان

- ‌الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*](3)

- ‌افتتاح مجلس المبعوثان

- ‌إصلاح التعليم الديني في الآستانة

- ‌رحلة صاحب المنار في سوريا(2)

- ‌خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان

- ‌ذو الحجة - 1326ه

- ‌خطب ودروس صاحب المنار في هذه الديار [*]

- ‌من بحث الكرامات

- ‌صدى حادثة الشام

- ‌الانقلاب العثماني

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌جواب مجلس المبعوثانعن خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان [*]

- ‌رحلة صاحب المنار في سوريا(3)

- ‌تصحيحوقعت أغلاط في الجزأين 11 و12 وهذا بيانهافتصحح بالقلم

- ‌خاتمة السنة الحادية عشرة

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العمل [

1]

لئن كان للطبيعة حق الأولوية في إحداث الثروة، سواء في أرضها الخصبة،

أو في أحراشها الكثيفة، أو في مناجمها الكثيرة المعادن، أو في مراعيها الغزيرة

الكلأ، أو في أنهارها المتدفقة بالخيرات، فإن المدار في استثمار كل ذلك على

العمل ولو قليلاً، فلا بُدَّ من فلح الأرض وبذر الحبوب قبل أن تجود الطبيعة بنعمائها،

وتبذل الأرض غلتها، ولا بُدَّ من احتفار المناجم قبل استخراج كنوزها، ولا بُدَّ

من جني الثمار قبل التمتع بلذيذ طعمها. فالعمل ضروري للعمران، ولازم لكل

موجود، وهو للموارد الطبيعية التي هي ينابيع الثروة بمثابة الدلو من البئر، إذ

لولاه ما قدر أحد على الاغتراف منها.

وقد وفى الدين العمل قسطه من المدح، حيث حثّ على التمسك به، فقال عز

وجل في سورة مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي

وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم: 25-26) وهو أمر به؛ لأنه إذا كان جلّ شأْنُه

يأمر السيدة مريم، وهي في وقت المخاض، بهزّ جذع النخلة قبل أن يتساقط عليها

التمر، مع أنه قادر على أن يكفيها مئونة ذلك التعب، فمن البديهي أنه يأمر كل فرد

من أفراد الهيئة الاجتماعية بالسعي في تحصيل رزقه، ولا سِيَّمَا إذا كان صحيح

الجسم. وقال تعالى في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ: 10-11) أي وقتًا يلزم فيه السعي لتحصيل العيش وترقب الرزق بالعمل،

وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) وهو أمر بوجوب جوب البلاد، والضرب في طولها وعرضها

رغبةً في العمل والانتفاع بما خلق جلت عظمته من الخيرات، وقال: {فَابْتَغُوا

عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} (العنكبوت: 17) أي: اعملوا حتى تحصلوا على ما يقوم

بضروراتكم، وقال:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:

15) وقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وكان النبي

صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شابّ ذي جلد وقوة،

وقد بكر يسعى، فقالوا: وَيْحَ هذا! لو كان شبابه وجلده في سبيل الله، فقال النبي:

(لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان يسعى على نفسه لِيكفيَها المسألة ويغنيها عن الناس،

فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم

ويكفيهم، فهو في سبيل الله) وقال:(احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا) وقال:

(لأَنْ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله

فيسأله أعطاه أو منعه) وقال: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل

يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري، وهكذا فضل النبي

العمل في أية حرفة على الاستنامة إلى الكسل، وإراقة ماء الوجه في الطلب. وجاء

في الإنجيل ما معناه: (تأكل خبزك بعرق جبينك) ، وهو حث على العمل طلبًا

للارتزاق. وروي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً فقال ما تصنع؟

قال: أتعبّد، قال ومن يعولك؟ قال أخي، قال: أخوك أعبد منك. وقال عمر بن

الخطاب: (ما مِن موطن يأتيني الموتُ فيه أحب إليّ مِن موطن أتسوق فيه لأهلي

أبيع وأشتري) ، وقال: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ، ويقول: اللهم ارزقني،

فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة) ، وقيل للإمام أحمد: ما تقول فيمن

جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد:

(هذا رجل جهل العلم، أما سمِع قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل

رزقي تحت ظل رمحي) . وقوله عليه السلام حين ذكر الطير فقال: (تغدو

خماصًا وتروح بطانًا) ، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق.

هكذا يحث الدين على العمل ويرغب فيه مراعاة لتقدم العمران، ومحافظة

على النوع الإنساني من الفَنَاء، ومن ذلك تظهر حطة أولئك الذين يرون التوسل

وسيلة للارتزاق، والتسول حرفةً للعيش، أولئك الذين لم يعرفوا مَزِيّة العمل

وعلاقته بالسعادة، ففضلوا مدّ أيديهم للسؤال على مدها للعمل، واستسهلوا أن يكونوا

كالكلاب تأكل كل ما يلقى إليها، أولئك هم الذين يحل الشقاء بالبلد الذي يحلون فيه،

فهم يستنفدون ثروته، ويستنزفون خيراته، بدون أن يسعوا في إحداثها.

العمل هو أساس الثروة، فكيف ينتظر النجاح بدونه، وهو دعامة كل ما نراه

في العالم مِن التقدم في المدنية. ما رأينا بلدًا تمسك أهله بأهداب العمل إلا وتحولت

فيه الصحاري القفراء إلى حدائقَ غَنّاء، وجادت الأرض بكنوزها، وانْسَابَ الذهب

إلى جيوب أهلها. لولاه لم يَصِرِ الترابُ تِبْرًا، وتتبدل المفاوز بمعاهد للعلوم،

ومعابد للنسك، ومعامل للصناعة. لولاه ما ضحكت الأرض من بكاء السماء، ولا

ابتسمت الأزهار في الأكمام، ولا حملت الأشجار لذيذ الثمار من كل زوجين اثنين؛

إذ إنه لا بُدَّ من غرسها قبل أن تصير دانية ظلالها، مذللة قطوفها، ولا غنى عن

تعهدها قبل أن تترعرع أغصانها، وتصير دوحة تناطح السحاب. لولاه ما استنبط

الإنسان الوسائل التي يسخر بها القوى الطبيعية، ويتغلب على الصعاب، ويقرب

المسافات بالبخار والكهرباء، ويجعل كليهما رهين إشارته. لولاه ما أخذت الأرض

زخرفها، وبلغت من المدنية غايتها، وبدت آثار العمران في أنحائها، وصارت

معمورة، يتزايد سكانها في كل عام، وتتضاعف ثروتها آنًا فآنًا.

من ينكر فضل العمل في إحداث الثروة، فليرجع ببصره الكَرّة إلى (أستراليا)

في الماضي يجدها في آخر درجة من الانحطاط، لخمول سكانها الأصليين،

وكثرة اتِّكَالهم على الموارد الطبيعية، ويشاهدها الآن، وقد نالت من العمران حظًّا

وافرًا، وجرت في المدنية شوطًا بعيدًا. ذلك لأن قومًا عرفوا مَزِيّة العمران

استوطنوها، فنهلوا من تلك الموارد، وعملوا في بَرّها وبَحْرها، واحتفروا المناجم

واستخرجوا كنوزًا دفنتها الأرض في بطنها أجيالاً، وحافظت عليها لمن يُقِّدُر العمل

حقَّ قدره. فطبيعة تلك البلاد لم تتغير، وإنما تغير سكانها. بل ما لنا وللتمثيل

بأستراليا، وأمامنا شبه جزيرة العرب التي كانت محطّ رحال المدنية، ومهبط العلوم

والعرفان، ومصدر العمران، ما لها قد عفت آثار مدنيتها، ودالت دولة ملوكها،

واندرست معالم علومها، واندثرت معارفها، وصار ذلك المجد القديم، والسؤدد

الماضي، أشبه بحلم حالم! ! ؟ أليس السبب هو أن ذلك السلف الصالح خلف مِن

بعدهم خلفٌ أضاعوا الجد الموروث، وأهملوا العمل، وتمسكوا بأذيال الكسل، حتى

صاروا قديمًا في عالم جديد {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} (الكهف: 18) .

كان (كسناي) وأضرابه يعتبرون الأرض الوسيلة الوحيدة لإحداث الثروة،

ويبخسون العمل حقه في الإحداث، وذلك زعم صحيح من جهة أن الأرض ينبوع

المواد التي تقوم بها الصناعة، فلا يقدر الصانع على نسج ثوب بدون قطن،

ويستحيل عليه صناعة آلة حديدية بدون حديد، ولكن (كسناي) بخس العامل حقه،

وأنكر عليه تحويله الحديد من شكله الطبيعي، حيث لا ينتفع به، إلى شكل يصير

بواسطته آلة بخارية يتهافت الناس على ابتياعها. أنكر على العالم الكيماوي تركيبه

لدواء فيه شفاء للناس من مواد طبيعية لا تفيد كثيرًا، وهذا ما لا ترضاه العدالة،

على أنه بعد (كسناي) كما قدمنا أتيح للعمل أن يأخذ (آدم سميث) بناصره،

ويظهر فضله، ويطنب في مدحه، ومن ثم أخذ مقامه في الصعود، ونجمه في

السعود، حتى لقد قال فيه العلامة (جيد) : إنه هو الجدير دون غيره أن يكون

الوسيلة في إحداث الثروة حقيقة؛ إذ الإنسان هو المنتج الحقيقي لها، وما الطبيعة

إلا طوع إرادته، يحركها كيف شاءت تلك الإرادة.

* * *

أ- أدوار العمل

(عصر الصيد)

في ذلك العصر كان الإنسان قليل العمل، كثير الاعتماد على الطبيعة، يعيش

من صيد البر أو البحر، وكان رحالاً كالأنعام السائمة، يسكن البقاع الكثيرة القنص،

كما تأوي هذه إلى المروج الغزيرة الكلأ، ويلقي عصا الترحال إذا قل الصيد، كما

تفعل هي إذا غيض الماء أو جفت المراعي. وقد كان في ذلك الدور مهددًا بخطرين:

الوحوش الكاسرة، والمجاعات المهلكة، لقلة ادخاره، لما يقتات به في إعساره،

فالويل له إذا أصابه مرض أقعده عن الصيد، أو انتابه حر أو برد منعه عن مطاردة

فريسته، والويل له إذا كان ضعيف النكاية أعداءه (كذا في الأصل) الذين يداهمونه

لسلب ما اقتنصه. وكان عدم ادخاره راجعًا إلى أسباب كثيرة، منها عدم احترام

الحقوق، فكان حقه مزعزعًا لا يقدر هو على حمايته، وليس هناك حكومة تدافع

عنه، ومنها عدم وجود مسكن له أو ذرية في أغلب الأحيان، ولذا لم يوجد عنده ما

يدعوه إلى الاحتفاظ بالقوت تحرزًا للمستقبل.

* * *

(عصر الرعاية)

ولما رأى نفسه معرضًا للمجاعات القتالة التي كانت تجتاحه من وقت إلى آخر،

ورأى أنه ملزم بالنفقة على زوجته وأولاده، توجهت همته إلى تدجين الحيوانات

النافرة كالإبل والخيل والغنم وغيرها، مما كان لا ينتفع به كثيرًا. ووجد من أهله

وذويه من يساعده على رعي تلك الإبل والغنم في الوديان والمروج الفسيحة التي

تحيط به، والانتقال بها من مكان إلى آخر. وفي ذلك العصر ازداد عدد الناس عما

كانوا عليه، وتألفت منهم قبائل كثيرة كانت ثروة كل واحدة منهن تقدر بعدد رءوس

الإبل أو الغنم التي تملكها، كما كانت الحال عند العرب والتركمان، وكما هي الآن

عند العرب الرحالة والزط. ويمكننا أن نعزو كثرة عدد الناس إلى سببين:

(الأول) كثرة نتاج الحيوانات التي كانوا يربونها حتى صاروا في سَعَة من

العيش، فكانوا ينتفعون بألبانها وأوبارها ولحومها وجلودها، حتى قلت المجاعات

بينهم.

(الثاني) ازدياد العصبية في كل واحدة من تلك القبائل، مما جعل حق

الملكية مضمونًا نوع ضمان، وحبب إلى كل فرد اقتناء الحيوانات فزادت الثروة

وزاد العدد.

* * *

(عصر الزراعة)

وكانت النتيجة الطبيعية لزيادة عدد السكان هي الازدحام على المراعي

بالحيوانات، مما جعل حشائشها التي غرستها يد الطبيعة غير كافية لسد الحاجة،

فعمد الناس إلى معالجة الزراعة من إثارة الأرض، وبذر الحبوب فيها وتعهدها

بالسقي، حتى نبت ما يكفي لمئونتهم ولأنعامهم. واستخدموا في الزراعة كثيرًا من

تلك الحيوانات، ومن ذلك العصر ظهر العمل بمظهر أجلى، إذ لم يعد الإنسان

مُفوِّضًا كلَّ أموره للطبيعة، يأوي حيث نبتت حشائشها، ويرحل إذا جفت خيراتها،

بل أخذ يُعوِّل على مِعْوَله، فيحول به الأرض المجدبة إلى مزارع كثيرة الخيرات،

وانبنى على رغد عيشه تقدم عظيم في أحواله الأدبية، فنظم معيشته وظهرت

الحكومات لأول مرة بالمعنى الذي نراها به الآن، ولا حاجة بنا إلى القول: إن

معظم الأمم المتمدينة في الزمن الماضي كانت تعالج الزراعة في أول أمرها قبل أن

ترسخ قدمها في المدنية. والسبب في ذلك بساطة الزراعة، وعدم احتياجها إلى كثير

تفكير أو كبير عناء، على أن تلك الأمم نفسها وَجَّهَتْ همتها بعد أن تم لها

الأمر إلى استجادة الصنائع على اختلاف أنواعها.

* * *

(عصر الصناعة)

الصناعة أثر من آثار المدنية، تتوجه الهمم إليها عند بزوغ شمسها، وتستجاد

إذا زخر بحر العمران، والسبب في ذلك راجع إلى أمرين:

(الأول) أن الإنسان لا تتوق نفسه إلى الكماليات، كالصناعات المختلفة،

إلا بعد تحصيل الضروري من مأكل وملبس.

(الثاني) هو أن معظم الصناعات المختلفة تحتاج إلى الممارسة والتعليم،

وهما لا يوجدان في وسط الأمم المتوحشة، ومن الصنائع ما هو مقدم، كصناعة

النجارة والحدادة والبناء والخياطة؛ لأن منفعتها ظاهرة لبناء المسكن وعمل الملبس،

ولذا توجد أحيانًا بحالة ساذجة، ومنها ما لا يوجد في الأمة إلا إذا تفننت وتنوعت

أساليب مدنيتها، كصناعة الرسم وصناعة الطباعة وتجليد الكتب [2] ، وكلما علا

كعب الأمة في العمران ابتدعت الصنائع المختلفة، واستنبطت الاختراعات المفيدة،

وارتقت فيها الأعمال العقلية الضرورية للصنائع، كالتعليم والتأليف.

* * *

(عصر استخدام البخار)

على أنه مهما يكن من تقدم الصناعة عند بعض الأمم في الأحقاب الغابرة،

فإن اختراع البخار في القرن الماضي، جعل صناعة الزمن الحاضر متقنة، وصار

العامل بدل أن يستغرق وقتًا طويلاً في الصناعة، يدير الآلة البخارية فتكفيه مئونة

التعب.

* * *

ب- الأعمال العقلية

ولا مشاحَّة في أن عمل الإنسان في الأدوار التي تقدمت لم يكن يدويًّا محضًا،

بل لا بُدَّ له من أعمال عقلية ولو قليلة، لأنه لا ينتظر أن يصنع الإنسان عدة للصيد

أو آلة لفلح الأرض أو يبذر الحبوب، إلا بعد التفكير الذي هو المميز للإنسان من

الحيوان، ولا يتصور أن يستوعب الصنائع إلا بعد أن يعرف دقائقها من المعلم،

ويتعلم العلوم المرتبطة بها، ثم هو لا يقدر على تعهد الأرض ما لم يوجد هناك حاكم

يمنع عنه تعدي الغير، ومهندس يسهل له الري، ولم ينتفع بالآلات البخارية في

الزراعة والصناعة إلا بعد أن أجهد المخترعون (كجيمس وات) وغيره قرائحهم

حتى وصلوا إلى استخدام البخار، فالأعمال العقلية ضرورية للأعمال اليدوية،

كالزراعة والصناعة، وهي مقدمة عليها حتى في أحقر الصنائع.

* * *

ج- الأعمال المنتجة للثروة

اختلفت الآراء من عصر إلى آخر في تحديد الأعمال البشرية التي تكون

نتيجتها زيادة ثروة الأمم، أما العرب فكانوا يرون - كما يؤخذ من كلام الحريري

وغيره من الحكماء - أن المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة، وقد قال الخليفة

المأمون: (الناس أربعة: ذو سيادة أو صناعة، أو تجارة أو زراعة، فمن لم يكن

منهم كان عيالاً عليهم) ، ويفهم من ذلك أن تلك الأعمال الأربعة هي التي كانت

معتبرة مُحْدِثَة للثروة، بمعنى أن عمل الحاكم الذي يقي البلاد شر العدو، ويرد

المظالم، وينظم الري، هو عمل يزيد في الثروة، وكذلك عمل الصانع الذي يوجد

منافع للمواد الأولية، والتاجر الذي يتوسط في جلب تلك المصنوعات وتسليمها

لطالبيها، والزارع الذي يقوم بإثارة الأرض وبذر الحب فيها حتى تنبت ما يسد

الحاجة، وأما أعمال غيرهم فلم تكن محدثة للثروة، وأما الطبيعيون، وهم (كسناي)

ومن كان على مذهبه، فقد تقدم أنهم كانوا يعتبرون أن المحدث للثروة من الأعمال

ما كانت متعلقة بالأرض من إثارتها وحرثها وبذر الحبوب فيها، وبناء على ذلك

قسموا الناس إلى ثلاث طبقات: طبقة ملاك الأراضي، وهم المحدثون للثروة حقيقة؛

وطبقة الفلاحين، وهم الذين يساعدون على هذا الإحداث، وغيرهم من السكان،

كذوي الإمارة وذوي التجارة وذوي الصناعة، وكانوا يرون هؤلاء عيالاً على

الطبقتين الأُولَيَيْنِ. ولكن (آدم سميث) لم يَنْحْ نَحْوَ أولئك الاقتصاديين، فقد اعتبر

الصناعة والتجارة والإمارة من الأعمال المنتجة للثروة، وتبعه من أتى بعده من

الاقتصاديين.

ويمكننا أن نقسم الأعمال (أولاً) إلى ما هي مباشرة لإعداد سلعة من السلع

للقيام بسد حاجة من حاجات الإنسان، وهذه محدثة للثروة بلا خلاف، مثال ذلك

العمل الذي يتكبده كل من حارث الأرض وباذر القمح وحاصده ودارسه وطاحنه

وعاجنه وخابزه، لأن كلاًّ منها موجه إلى إعداد الخبز مباشرة، وإن تنوعت حالات

القمح المراد جعله خبزًا؛ (ثانيًا) إلى غير مباشرة لإعداد الصِّنْف، وهذه إمّا يدوية

أو عقلية، أما الأولى فلا يخلو حالها من أحد أمور خمسة:

(أ) الأعمال التي يتكبدها الناس في استخراج المواد الأولية اللازمة

للصناعة، كاحتفار المناجم وتشذيب الأشجار وغير ذلك، وهذه بالطبع منتجة

مادامت نتيجتها تستخدم في الصناعة.

(ب) الأعمال التي تصرف في إعداد الآلات اللازمة لصناعة الصنف،

مثال ذلك شغل الحداد في تجهيز المحراث أو آلة الغزل.

(ج) الأعمال التي يكون من شأنها بناء المحلات المعدة للصناعة كالمعامل

والأحواض، وهكذا لأنه لولا تلك المحال لما توفر إعداد البضائع القطنية مثلاً أو

المراكب.

(د) ما يوجه من الأعمال إلى الحصول على طعام وكساء ولوازم للصناع

مادامت تلك الحاجات غير خارجة عن حدّ الكفاية، أو للحصول على الفحم اللازم

لتسيير الآلات البخارية في حالة ما إذا كان الصانع لا يشتغل بيده.

(هـ) الأعمال التي بواسطتها يمكن نقل الصنف إلى حيث يطلبه الناس،

ويدخل فيها عمل الحمالين في البر وصناعة المراكب والآلات البخارية ، وبناء

الأحواض والأرصفة ، وأعمال أمناء النقل والمراكبية ، وجميع التجار والمتسببين

والسماسرة ، والأعمال التي تحسنت بواسطتها الطرقات وغير ذلك.

أما العقلية فمنها ما هو متعلق بالصناعة أو الزراعة أو التجارة؛ كالاختراع ،

والتأليف ، وتعليم الصناعات ، والتفنن في ابتداعها وترويجها، ولا شكَّ في أن هذه

منتجة، ولا فرْقَ بين أن تكون هذه موجهة إلى الزراعة أو الصناعة أو التجارة،

ويدخل تحت هذه أعمال الري على اختلاف أنواعها، وجميع ما تعمله الحكومة أو

الأهالي لترقية الصناعة أو التجارة أو الزراعة، ولا جُنَاحَ علينا إذا نحن عَدَدْنَا

ضمن تلك الأعمال، ما يبذله الفلاسفة والحكماء من الأفكار لتعضيد الحالة

الاقتصادية والاجتماعية، وما تبذله الحكومة مِن بثّ العدل في الربوع، والمحافظة

على الأمن، سواء بِسَنِّ القوانين أو الأعمال الحربية بَرِّيَّةً كانت أو بَحْرِيَّةً.

_________

(1)

وَعَدْنا قراء المنار في الجزء الماضي، بأن ننقل لهم طائفة من كتاب الاقتصاد السياسي المفيد، وهذا ما اخترنا نشره وفاءً بالوعد، وتحريًا للنفع.

(2)

انظر مقدمة ابن خلدون.

(المنار) : إن بعض ما أورده المؤلف من الأحاديث، لا صحة لأصله أو سنده، وإن كان صحيحًا في معناه ووضعه

ص: 673

الكاتب: أحمد الإسكندري

إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام

لحضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان [*]

عرف الناس في مصر من حضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان معلمًا فمترجمًا

فصحافيًّا ففيلسوفًا لغويًّا فنسابة فروائيًّا مبتدعًا فمتفرّسًا فمؤرخًا خياليًّا قصاصًا. ثم

هم يستقبلون منه الآن مؤرخًا إسلاميًّا محققًا، ولا ندري ما يعرف منه أهل سورية

قبل هجرته إلى مصر، كل هذه صفات فاضلة ومواهب جليلة قلما يخلص بعضها

لأفذاذ العلماء ونوابغ الرجال. وهي بخلوصها لحضرته أفادت من لا يُحصَى عددهم

من قراء العربية ولا سِيَّمَا المسيحيين منهم وعلماء الشرقيات من الأوربيين وغيرهم

ممن لا يحبون مطالعة الكتب العربية أو لا يستفيدون منها لو لم تشكل بالأشكال التي

رسمها جرجي أفندي زيدان لمؤلفاته العديدة.

كان هذا الفاضل يؤلف الكتب الروائية، ويأتي فيها بالممكن والمستحيل

والمستملح والمستنكر، فكنا لا نتعرض لها بمسخ أو نسخ، لعِلْمِنا أن الذي قاده إلى

هذه المواقف هو استرسال الخيال، وهو قد يفضي بصاحبه في النثر إلى مثل ما

يفضي به في الشعر، فيكون أعذبه أكذبه، ولاعتقادنا أن نفعها أكبر من إثمها، وأن

الكتب العربية الصحيحة لا تزال بعد منتشرة في جميع أرجاء العالم، ناطقة ببيان

الغث من السمين، والصحيح من الباطل، على أنه ما من كتاب وضعه بشر إلا

وكان فيه لهوى النفس والسخائم الدينية والعصبية الجنسية بله الخطأ والغفلة أثر أي

أثر، إلا ما شذ وندر، فلما قرأت تقريظ حضرة الفاضل (المغربي) أحد محرري

المؤيد لكتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) ، وهو آخر ما أُخرج للناس بعدُ مِنْ كُتُب

مؤلفنا المذكور وجدته قد ملأ ما يقرب من صفحة من صفحات المؤيد بعبارات

الإطراء والتهويل والإعجاب والإغراب مما لو قبله القارئ لم يشك أن العرب خلقت

خلقًا جديدًا أو أن تاريخ جاهليتها الأولى المقبور في بطون القدم قد نبشه المؤلف من

ناوُوسه، فرابني قولُه - والمبالغة تريب - ولم أَرَ الأمر يخرج عن إحدى خصال

ثلاث، إما أن يكون قرظه ولم يقرأه كعادة أكثر محرري الصحف لضيق وقتهم؛

وإما أن يكون قرأه وصانع المؤلف لصداقة بينهما - وللصداقة حقوق - وإما أن يكون

المؤلف قد وفق حقيقة للعثور على الضالة المنشودة والحلقة المفقودة من تاريخ

جاهلية العرب، وما ذلك بعزيز على نشاط الرجل واجتهاده.

ولما كنت ممن عُنِيَ بهذا الموضوع عناية شديدة، قرأت الكتاب بإلهاف، أخذ

يتناقص بتناقص أوراق الكتاب، فإذا به - والحق أقول - خير مؤلفات الرجل، ولا

أنكر أنه أفادني بعض فوائد ثمينة، هاجت في نفسي ميلاً إلى نقده ولا يُنْقَد إلا كل

ذي قيمة.

يقع كتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) في 250 صفحة، كتب في 30

صفحةً منها مقدمة طويلة، ليست من موضوع الكتاب في شيء، وإنما ذكر فيها

كعادته في كتبه غموض تاريخ العرب وصعوبة التأليف فيه أو تعذره، إلا على

من كان من أهل الجسارة أو الاطلاع الواسع، والمعرفة بكثير من اللغات الحية

والميتة والبحث والتنقيب في آثار الأمم الخالية، ثم ذكر شبه فهرس مطول، ثم

تمهيدًا في مصادر تاريخ العرب، وهي الكتب العربية وغير العربية من اليونانية

والرومانية والنقوش الأثرية، وقد تحامل على العرب فيها ما شاء أن يتحامل، مما

يظن معه قارئه ابتداء أن أكثر مصادر الكتاب أثرية أو يونانية قديمة أو أوربية

حديثة، لكثرة أسماء الكتب والرحلات التي ذكرها، وهي نحو السبعين كتابًا، غير

الموسوعات والمعاجم الكبرى التاريخية والأثرية وغيرها (كما يقول) فإذا هو قرأ

الكتاب وجد أن نحو أربعة أخماسه عربي المصدر، وأن لا ذكر لهذه الكتب

والمعاجم إلا نزرًا يسيرًا في ذيل الكتاب، يعرف ذلك مَنِ اطّلع على الكتاب بإمعان،

ومن رأيي أن هذه المقدمة تجارية أكثر منها علمية.

* * *

فائدة المؤرخ من الكتاب

إن الذي لا يعرف اللغات الأوربية يستفيد من الكتاب:

أولاً: ما ترجمه المؤلف من آراء بعض قدماء اليونان في الجغرافية العربية

غثّة كانت أو سمينة.

ثانيًا: ما ترجمه من آراء بعض سياح الأوربيين قي شمال جزيرة العرب وجنوبها على قلة في ذلك.

ثالثًا: بعض الصور والرسوم والخطوط والنقود التي نقلها من رحلات هؤلاء

السياح، مثل رسم سد مأرب، وبعض قصور اليمن، وهيكل تدمر وبطرا.

رابعًا: معرفة كيف كان يختلف اللسان النبطي والتدمري عن العربي الفصيح،

وهي فوائد تشكر للمؤلف إذاعتها في كتاب مستقل.

* * *

الأمور التي تؤخذ على المؤلف

الأمر الأول: تردده أو إنكاره بعض الحقائق التاريخية البديهية في موضع،

وتشبثه بتحقيق بعض الظنون والتخرصات في موضع آخر، اعتمادًا على أوهام

وتخيلات قامت بذهنه فقط.

فمثال الأول: أنه عندما أراد التكلم على تقسيم عرب أواسط الجزيرة وشماليها

إلى قحطانيين (يمانيين) وعدنانيين، مال إلى إنكار هذا التقسيم، ورأى رأيًا

عجيبًا لا يخطر على بال مؤرخ ولا قارئ، وهو أن هؤلاء العرب كلهم عدنانيون،

فعنده أن مثل طَيِّئ وكندة ولخم وجذام ومذحج وهمدان ومازن والأوس

والخزرج عدنانيون. ونورد هنا ما قاله في ذلك (صفحة 182 و183) قال:

وكل هذه البطون أو القبائل قد رأيت أنها ترجع بأنسابها إلى كهلان بن سبأ،

أي أنهم قحطانية، ذلك ما أجمع عليه العرب، ولكن لنا رأيًا في هذا الإجماع، لا

يخلو ذكره من فائدة.

قد رأيت في ما ذكرناه عن الفروق بين القحطانية والعدنانية، أن لكل منهما

خصائص في اللغة والاجتماع والعادات والدين وأسماء الأعلام. وإذا تدبرت أحوال

هذه الدول من غسان ولخم وكندة رأيتها تنطبق على العدنانية أكثر مما (كذا) على

القحطانية، مِن حيثُ اللغةُ، فإننا لم نَرَ في كلامهم وأقوالهم ما يدل على أنهم كانوا

يتكلمون لغة حِمْيَر، بل لغة العدنانية أو عرب الشمال في الطور الثاني. وقد يقال:

إنهم اقتبسوا لغة الوسط الذي انتقلوا إليه، ولكنا نستبعد ذلك، لأن الغالب في اقتباس

لغة الآخرين أن يقع من الضعيف نحو القوي - فلو كان أولئك القوم قادمين من بلاد

اليمن لَحافظوا على لسانهم وسائر عاداتهم، لأنهم كانوا يومئذ أرفع منزلة من بدو

الشمال، وكان هؤلاء ينظرون إلى اليمنية نظرهم إلى أهل الدولة ويعدونهم الملوك،

كما ينظر البدوي الأمي إلى المتمدنين أصحاب الصولة والعلم. وزد على ذلك أن

اليمنية كانوا يكتبون بالحرف المسند ولا نرى لهذا الحرف ذكرًا في أخبارهم، ولا

أثرًا في أطلالهم.

وقد علمت أن الكهلانيين أهل حضارة كما رأيت في ما ذكرناه من حديث سيل

العرم، وكيف أن الكهلانيين كانوا أهل حدائق وقصور باعوها وانتقلوا. فلو صح

ذلك لاختاروا الإقامة في بلد آخر من اليمن غير مأرب وما جاورها؛ لأن السيل لم

يخرب إلا جزءًا صغيرًا من اليمن. فلم يكونوا يعدمون مكانًا يقيمون فيه، كما كان

يقيم سواهم من قبائل الحضر، وإخوانهم الحميريون مازالوا أهل دولة وعمران

وظلوا في رغد ورخاء وسَعَة من العيش إلى ظهور الإسلام.

فما كان أغنى الكهلانيين عن الرحلة إلى بادية الشام أو العراق والرجوع إلى

البداوة، وهي شاقة على من تعود الحضارة والرخاء.

واعتبر ذلك في معبوداتهم، فإنها من معبودات عرب الشمال أو العدنانية، ولم

نجد عندهم ما يميزهم عن هؤلاء من هذا القبيل. ولو كانوا من عرب اليمن،

لوجدنا بين معبوداتهم اسم عشتار أو إيل أو نحوها.

وهكذا يقال في أسمائهم وليس فيها رائحة الأعلام السَّبَئِيَّة أو المعينية، بل هي

مثل أسماء سائر عرب الشمال، ولا سِيَّمَا الذين سكنوا مشارف الشام قبلهم كالأنباط

ونحوهم، ومنها الحارث وثعلبة وجبلة والنعمان وغيرها. ولا يعترض بما ذكره

العرب بين أسماء ملوك حمير من أمثال هذه، فإن أكثرها مبدل بأسماء شمالية،

وإنما عمدتنا في ما ذكرناه على الأسماء التي وقفوا عليها في الآثار المنقوشة.

فلا دليل على قحطانية هذه الأمم إلا أقوال النسابين، وهي أضعف من أن

يعول عليها في هذا الشأن، لاحتمال أن تكون تلك الأمم قد انتحلت الانتساب إلى

عرب اليمن التماسًا للفخر بين قوم لا يعرفونهم، ولا سِيَّمَا بعد أن تقربوا من الروم

أو الفرس وصاروا من عمالهم اهـ.

* * *

ونقول في دحض هذه الأقوال:

(1)

أما عدم الاختلاف في اللغة، فإن الاختلاف فيها إما أن يكون في

الأصول، وإما في الفروع، أما الأصول فلم يكن بينها خلاف جوهري؛ لأن لغات

العرب كلها من أصل واحد، كما اعترفت به حضرته، وأما الفروع فلم ينكر أحد

سواه وقوع الاختلاف فيها حتى في لغات القبائل التي لم تخرج من اليمن،

فالاختلاف في الإعراب والتصريف والقلب والإعلال والإبدال مملوء به كتب النحو

والصرف والاختلافات في معاني الكلمات المفردة لم تهملها كتب اللغة والأدب،

ولذلك وقائعُ وحكايات جر الخطأ في التفاهم بسببها إلى إزهاق الأرواح، كما في

حكاية قتل مالك بن نويرة وقومه، وكلنا يعرف ما هي العجعجة والشنشنة

والاستنطاء في لغات اليمانية.

ولو كان بعض الاتفاق في اللغات بين القبائل المختلفة يجعلها من أصل واحد،

لقد كان المحتم على حضرة المؤرخ أن تقول: إن قبائل حمير التي لم تخرج من اليمن

عدنانية أيضًا، لاتحادها مع العدنانيين في الأصول واختلافها عنها في بعض الفروع

إبّانَ ظهور الإسلام، وقد حفظ لنا التاريخ الصحيح وكتب السنة الصحيحة كثيرًا من

مقالات وفود الحميريين على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لا تختلف عن

العدنانية إلا في معاني بعض المفردات. وإنما حدث هذا التقارب في اللهجة واللغة

لتقاربهم في البيئة (الوسط) وللمجامع والأسواق التي كانوا يقيمونها، وأما أن

الضعيف يقتبس لغة القوي، وزعمه أن اليمانيين كانوا هم الأقوياء الغالبين، فذلك

على فرض تسليمه، لا ينهض حجة على إثبات دعواه، لما كانت عليه العرب في

القرون القريبة من ظهور الإسلام من التقارب في جميع الأحوال، حتى قبائل حمير

نفسها بعد غلبة الحبشة والفرس عليها.

(2)

وأمّا إنه لم يوجد أثر للحرف المسند من جهات الشمال، فذلك قد كذبه

بنفسه في موضع آخر عند تكلمه على عرب الصفا، حيث أتى بهذا العنوان لأمم

سبئية في الشمال، وذكر تحت هذا العنوان كلامًا كثيرًا عن أن أمم حمير انتقلت

إلى الشمال ووجد لها أنواع من الخط المسند، كالقلم الصفوي والثمودي واللحياني،

وقال: إن الباحثين لا يزالون في أول البحث.

(3)

أمّا إنه لا حامل للقحطانيين على الهجرة من بلادهم وجناتهم وقصورهم

إلى الصحاري المجدبة بلا سبب عظيم، وأن سيل العرم لا يكفي لتفرقهم أيادي سبأ،

فإن الأسباب الحقيقية لهذه الهجرة لا تزال مجهولةً، كأسباب هجرة أكثر الأمم

القديمة، وإنما كان من أهمها حادثة سيل العَرِم، مضافة إلى منازعات وحروب

أهلية أو مجاعات أو أن الأرض قد ضاقت عليهم، فالتمسوا غيرها من بلاد الله،

ولم تكن وجهتهم في رحلتهم هذه القفار، بل كانت ريف العراق ومشارف الشام،

ولا تنكر حضرة المؤرخ عظم دولتهم في الحيرة والأنبار وفي سوريا وفلسطين،

فلقد احتلوا في الأولى جميع الأراضي التي بين دجلة والفرات، حتى سميت العراق

العربي، وفي الثانية أكثر بلاد فلسطين وسورية وحلب، ولا شَكّ أن هذه كانت

أخصب من بلادهم، وبقية اليمانيين الذين سكنوا البدو منهم، فإنما تراجعوا إليه بعد

منافسات مع بني عمهم في الشمال مع بُعْد عهدهم باليمن وخصبه، وأما اكتفاء

المؤرخين بذكر حادثة سيل العَرِم، فذلك وَهْم سرى إليهم من تعقيب ذكر قصة السيل

في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ

مُمَزَّقٍ} (سبأ: 19) ، فإن الظاهر من الآية أن التمزيق سببه ظلم أنفسهم،

والظلم يأتي بأسباب كثيرة اعتدائية، لا بسبب خارجي فجائي لا دخل لهم فيه، مثل

انفجار السد.

(4)

وأما دعوى اتحادهم في المعبودات، فلا نسلم أنها كلها كانت عدنانية،

بل كانت خليطًا من كل الأديان، فقد عبد كثير من العدنانيين الشمس والقمر

والكواكب، وهي من معبودات أهل الجنوب، كما تهود وتنصر أهل الجنوب،

واليهودية والنصرانية من أديان أهل الشمال.

(5)

وأما توافق أسمائهم، فذلك إرث من طبيعة الجوار والبيئة وتمازجهم

في كل شيء، كما يسمي الأقباط الآن أنفسهم بأسماء عربية وتركية بعدما زالت

سيطرة العرب والترك، وكما يسمي الترك أنفسهم بأسماء عربية مع أنهم هم

الغالبون للعرب، وكما يسمي السوريون أنفسهم بأسماء إنجليزية وفرنسية، على أن

هذا المؤرخ الذي أنكر في غير موضع من كتابه وجود أسماء عدنانية بين أسماء

الحميربين نقض كلامه في صفحة (159) حيث نقل عن غلازر الألماني، أحد

الأثرين اللذين وجدهما في أطلال السد، وهذا كتبه أبرهة قبيل ظهور الإسلام، وفيه

يذكر الأقيال الذين قهرهم أو ولاهم عنه، مثل يزيد بن كبش ومرة وثمامة وحنش

ومرثد، وكل هذه أسماء عدنانية، كما أن معد يكرب الزبيدي اسمه حميري،

وهو من القبائل التي ينكر المؤرخ حميريتها.

وأما الأدلة الوجودية على أن القبائل المذكورة قحطانية، فأكثر من أن نأتي بها

جميعها في هذه المقالة، وهي بالغة بصراحتها إلى أفق البديهيات.

فمنها اعتراف جميع هذه القبائل بأنها يمانية، حتى بعد أن ظهرت مضر

عليهم في وقائع عديدة، وبعد أن خضعوا للمضريين بعد الإسلام وتعصب المضرية

واليمانية في الفتن التي وقعت في الصدر الأول غصت به كتب التاريخ والأدب.

ومنها إجماع النسابين والمؤرخين باعتراف حضرته على أن القبائل المذكورة

قحطانية.

ومنها ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مما يشير إلى هذه التفرقة. ولو أردنا

ذكر الشواهد التاريخية من الوقائع والمفاخرات وقصائد الشعر من الحماسة والمدح

والهجاء وجميع الأحاديث النبوية لإثبات أن هذه القبائل قحطانية، لوضعنا في ذلك

كتابًا يزيد عن كتاب جرجي أفندي زيدان أضعافًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) بقلم الشيخ أحمد الإسكندري.

ص: 681