الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعبير عن الملائكة والجن بالقوى
ومعرفة حقيقتهم
(س 17) ورد هذا السؤال على الأستاذ الإمام من صاحب الإمضاء في 6
يونيه سنة 1905 ، فبعث به الأستاذ إلى صاحب هذه المجلة ليجيب عنه في المنار
كما كان يفعل أحيانًا في أمثال هذه المسائل، وقد كان ضاع بين الأوراق ، ثم عثرت
عليه في هذه الأيام وهذا نصه:
فضيلتلو سيدي الأستاذ الحكيم:
بكل أدب واحترام لَائِقَيْنِ لهذا المقام أتقدّم لأبلغكم أوفر التحيّات وأزكى
السلامات والشكر على خِدْمَاتِكم الدينيّة، وقيامكم بتأدية الحقوق العلمية وتقوية
السلطة الدينية الإسلامية ، أدامكم الله ركنًا منيعًا للوراثة المحمدية. وبعدُ؛
فيا حضرةَ الأستاذ ، لما بيني وبينكم من المودة الإيمانية أحب مطالعة أقوالكم
لأستعين بها على نزع ما اعتراني من البدع والخرافات الباطلة، ولله الحمد، فقد
رأيت الفائدة فلله الشكر ولكم، والله أسأل أن يطيل حياتكم ويكثر من أمثالكم.
أستاذي بينما كنت أنظر في نفيس تفسيركم لسورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1) إذ وجدت ما يأتي.
حضرتكم قلتم: قد وصف الله الوسواس الخناس بقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي
صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 5-6)، وقلتم: {مِنَ الجِنَّةِ
وَالنَّاسِ} (الناس: 6) بيان للذي يوسوس أو بيان للوسواس الخناس،
فالمُوَسْوِسُون قسمان:
قسم الجِنّة: وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم ، ولكن نجد في أنفسنا أثرًا
ينسب إليهم ، ولكل واحد من الناس شيطان ، وهي قوة نازعة إلى الشر ، إلخ.
فبينتم حضرتكم بأن الجن خلق مستترون لا نعرفهم ، فهل المراد لا نعرف
كيف أحوالهم من ابتداء نشأتهم ، مع كون القرآن مصرحًا بأنهم خلقوا من مارج من
نار في آيات كثيرة ، والحديث مصرحًا بأن الشيطان يسري في جسم الإنسان مسرى
الدم كما كان يسري في الآلهة لمعبوديهم ، ونعرف أيضًا أن النبي بعث لهم وكلفهم
بالرسالة ، فمنهم مَن آمنَ ومنهم من كفر، فهذا كله يثبت لنا أن الجن موجودون
بحقائق غير حقائقنا ، وأنهم يقدرون على التشكل بشكل ما. ثم حضرتكم قلتم:
(وإنما نجد في أنفسنا أثرًا ينسب إليهم) ، فهل ينسب إليهم حقيقةً أو مجازًا مع كونكم
جعلتم هذا الأثر للشيطان الذي قلتم عنه بأنه (قوة من جملة القوى الإنسانية) ،
فكأنه لا شيطانَ ولا إبليسَ ، وكأن هذه القوة هي التي أمرها الله بالسجود فتكبرت
فلعنها الله ، وقالت:{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (ص: 79)
{لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 82) وكأنها هي التي قال لها الله: {وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ
غُرُوراً} (الإسراء: 64) وكأنها هي التي بعث لها المصطفى يبلغها الرسالة،
وكأنها هي المذكورة في قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ} (الأحقاف: 29) إلخ، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1)
أي القوى، وكأنها كانت تتلقى السمع لتبلغه لرئيسها، فلما بعث النبي أرادت أن
تتلقى السمع، فأصيبت بشهاب قبس. وبكل احترام لمقامكم وعدم الاعتراض
لأقوالكم أطلب الإيضاح عن ذلك؛ لأن فكرتي متشتتة الآن مع بيان كيف حقيقة
الجانّ، وكيف كان خطاب المصطفى لهم لتأدية الرسالة ، وبيان ما ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم من أنه أشفى المصروع ، وأخرج من جسده الجانّ مع أن الحكماء تنكر ذلك، والظاهر للعقل، هذا مع بيان التوسّل بالنبي والصالحين في الدعاء، ولكم الشكر.
…
...
…
...
…
... كاتبه ولدكم
…
...
…
...
…
...
…
محمود فهمي
…
...
…
...
…
...
…
باشمهندس ري مديرية الدقهلية
(ج) قول الأستاذ الإمام رحمه الله في الجنّ: (هم الخلق المستترون الذين
لا نعرفهم) هو الأصل عند المسلمين ، وكذا أهل الكتاب في هذا الباب. والمراد لا
نعرف حقيقتهم؛ لأنهم من الخلق المغيَّب عنا. وما جاء في القرآن مِن خبر خلقهم،
وغير ذلك لا ينافي كوننا لا نعرف حقيقتهم ، وكذلك إخباره عن جميع عالم الغيب لا
يقتضي أننا نعرِف حقيقة ذلك العالم. والعلم بأن الجانّ خلق من مارج لا يفيدنا
معرفة حقيقته ، بل ولا ظواهر صفاته ومميزاته كما أن خلق الإنسان من طين لا
يبين حقيقته ولا مميزاته. ومثل ذلك يقال في تكليفهم. وظاهر قوله تعالى في سورة
الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) إلخ، أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يَرَهُمْ حين سمعوا منه القرآن ، فآمن بعضهم وكفر بعض،
وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس التصريح بذلك؛ قال في تفسير الآية:
(ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم) إلخ، ولكن رُوِيَ
عن ابن مسعود أنه رآهم وقرأ عليهم ، وقال ابن تيمية: إن ابن عباس علم ما دلّ
عليه القرآن ، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجِنّ له إلخ،
فَحَسْبُكَ مِن أمْرِ تكليفهم أن حبر الأمة ابن عباس كان يعتقد بِحَسَبِ فهمه للقرآن أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ الجِنّ إنما أوحى الله إليه أنهم سمعوا منه القرآن ،
ونزل عليه فيهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ} (الأحقاف:
29) وإذا صحّ حديث ابن مسعود وأبي هريرة في رؤيته إيّاهم ومكالمتهم ، فذلك
لا يدُلُّ على أنهم صاروا مِن عَالَمِ الشهادة ، وأننا صِرْنَا نَعْرِف حقيقتهم، فإن الله قد
يطلع رسله على بعض غيبه، وذلك خصوصيّة لهم كما قال في سورة الجِنّ:
{عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن:
26-
27) إلخ.
وكذلك حديث صفية عند الشيخين وغيرهما: (إن الشيطان يجري من ابن آدم
مجرى الدم) لا يدلّ على حقيقة الشيطان ولا يجعلها معروفة لنا ، والحديث تمثيل لا
حقيقة كقول الشاعر:
* جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي *
وليس فيه (كما كان يسري في أعضاء الآلهة) كما قال السائل. وقد قال تعالى في
الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) . وقوله:
إنه صح أن النبي شفى المصروع ، وأخرج من جسده الجانّ لا أدري من أين
جاء به السائل على أنه لا يدُلّ على أنّنا نعرف حقيقة الجانّ.
وأما تعبيره عنهم بالقوى فقد كنا نقلناه عن الأستاذ الإمام في تفسير سورة البقرة ،
فأنكره بعض الناس وإن وَرَدَ موردَ التأويل لمُحاجَّة المنكرين لعالم الغيب ، فطلبنا
منه أن يوضحه فأوضحه بكتابة بليغة زادها على تفسير آيات خلق آدم الذي نشرناه
في المنار ، وإننا نورد هنا ما كنا كتبناه هناك ، وما زاده عليه رحمه الله وأحسن
مثواه، ونميز ما كتبه بوضعه بين أقواس هكذا [] وهاك ما هنالك.
تقدم أن الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته ، وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى
الذي نقف عنده ، ولا نَزِيد عليه وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل
صِنْف وظيفة وعمل ، ونقول الآن: إن إلهام الخبر والوسوسة بالبشر مما جاء في
لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم وقد أسندا إلي هذه العوالم الغيبية
وخواطر الخير التي تُسَمّى إلهامًا، وخواطر الشّرّ التي تسمى وسوسة كل منهما
محله الرُّوح، فالملائكة والشياطِينُ إذن أرواح تتصل بأرواح الناس، فلا يصحّ أن
نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا [لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا فإنما
تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ،
ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان
قطعًا] والواجب على المسلم في مثل الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض ، أو
الحمل على أنها حكاية تمثيل ، ثم الاعتبار بها بالنظر في الحكم التي سيقت لها
القصة.
وأقول: إسناد الوسوسة إلى الشياطينِ معروف في الكتاب والسنة، وأما إسناد
إلهام الحق والخير إلى الملائكة ، فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام ،
ومن حديث الشيخين في المحدثين وكون عمر منهم. والمحدثون الملهمون وحديث
الترمذي والنسائي وابن حبان وهو: (للشيطان لَمّة بابن آدم وللمَلَك لمة، فأما لمّة
الشياطين فإيعاذ بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمّة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق،
فمَن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ
بالله من الشيطان ، ثم قرأ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة:
268) قال الترمذي: حسن غريب ، لا نعلمه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص،
والرواية إيعاد في الموضعين كما أن الآية من الثلاثي في الموضعين، فما قالوه
في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا فهو غير صحيح، واللمة بالفتح
الإلمام والإصابة.
(قال الأستاذ) : وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة،
وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات ،
وخلقة حيوان ، وحفظ إنسان ، وغير ذلك فيه إيماء إلى الخاصّة بما هو أدقّ مِن
ظاهر العبارة ، وهو أن هذا النموّ في النبات لم يكن إلا بِرُوح خاصّ نفحه الله في
البذرة ، فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان
والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده،
فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكًا، ومن لم يبال في التسمية
بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية (إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا
ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة) والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو
أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها ، وبه قوامها ونظامها ، لا يمكن لعاقل أن ينكره،
وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكًا ، وزعم أنه لا دليلَ على وجود
الملائكة ، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا،
لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء
عن المسميات (وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودًا لا يدرك
كُنْهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح ، ولكن أعرف قوة لا أفهم
حقيقتها، ولا يعلم إلا الله عَلامَا يختلف الناس، وكل يقر بوجود شيء غير ما يرى
ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حقَّ الفهم ، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه ، وماذا على
هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب عنه لو قال أصدق بغيب
أعرف أثره، وإن كنت لا أقدره قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب ويفهم بذلك ما
يرد على لسان صاحب الوحي ويحظى بما يحظى به المؤمنون) .
يشعر كل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه
للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعًا، كأن الأمر قد
عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، وواحد يقول: افعل ،
وآخر يقول: لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا
الشيء الذي أودع في أنفسنا ، ونسميه قوة وفكرًا وهو في الحقيقة معنى لا يدرك
كنهه ، وروح لا تكتنه حقيقتها - لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكًا ، ويسمي أسبابه
ملائكة أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حَجْرَ فيها على الناس ، فكيف يحجر
فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع؟ .
وأقول: إن الإمام الغزالي سبق إلى بيان هذا المعنى وعبر عنه بالسبب ،
وقال: إنه سمي ملكًا، فإنه بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم قال: (ثم إنك
تعلم أن هذه الخواطر حادثة ، ثم إن كل حادث فلا بُدَّ له من محدث ، ومهما اختلفت
الحوادث دلّ ذلك على اختلاف الأسباب. هذا ما عرف من سنة الله تعالى في
ترتيب المسببات على الأسباب، فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار ، وأظلم
سقفه بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة. وكذلك لأنوار القلب
وظلمته سببان مختلفان، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكًا، وسبب
الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقَبُول إلهام
الخير يسمى توفيقًا، والذي يتهيأ به لقبول الشر يسمى إغواء وخذلانًا، فإن المعاني
المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة) . اهـ المراد منه فليراجع في كتاب شرح
عجائب القلب من الإحياء.
ثم قال الأستاذ الإمام ما معناه: فإذا صحّ الجري على هذا التفسير فلا يستبعد
أن تكون الإشارة في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض دبرها بما شاء من
القوى الرُّوحَانية التي بها قوامها ونظامها ، وجعل كل صِنْف من القوى مخصوصًا
بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه (ولا يتعدّى ما حُدِّد له من الأثر الذي خص به)
خلق بعد ذلك الإنسان ، وأعطاه قوة يكون بها مستعدًّا للتصرف بجميع هذه القوى ،
وتسخيرها في عمارة الأرض ، وعبر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد
معنى الخضوع والتسخير ، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حدَّ له والتصرف الذي لم
يعط لغيره خليفة الله في أرضه؛ لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض ، واستثنى
من هذه القوى قوةً واحدةً عبّرَ عنها بإبليس وهي القوة التي [لزَّها الله بهذا العالم لزًّا،
وهي التي تميل بالمستعد للكمال أو الكامل إلى النقص وتعارض مدّ الوجود لتردّه
إلى العدم أو تقطع سبيل البقاء، وتعود بالموجود إلى الفناء، أو التي] تعارض في
اتباع الحق ، وتصدّ عن عمل الخير ، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع
والمصالح التي تتمّ بها خلافته ، فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خلق
مستعدًّا للوصول إليها (تلك القوة التي ضللت آثارها قومًا ، فزعموا أن في العالم
إلهًا يُسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ ، وما هي بإله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو) .
(قال الأستاذ الإمام) : ولو أن نفسًا مالت إلى قَبُول هذا التأويل لم تجد في
الدين ما يمنعها من ذلك ، والعُمْدَة على اطمئنان القلب ، وركون النفس إلى ما
أبصرت من الحق (ولست أحيط علمًا بما فعلت العادة والتقاليد في أنفس بعض من
يظنون أنهم من المتشدّدين في الدين ، إذ ينفرون من هذه المعاني كما ينفر المرضى
أو المخدجون من جيد الأطعمة التي لا تضرهم، وقد يتوقف عليها قوام بنيتهم
ويتشبثون بأوهام مألوفة لهم تشبث أولئك المرضى أو المخدجون بأضر طعام يفسد
الأجسام ويَزِيد السقام، لا أعْرِف ما الذي فهموه من لفظ رُوح أو مَلَك ، وما الذي
يتخيلونه من مفهوم لفظ قوة! أليس الروح في الآدمي مثلاً هو الذي تظهر آثاره في
أفراد هذا النوع بالعقل والحس والوجدان والإرادة والعمل ، وإذا سلبوه سلبوا ما
يسمى بالحياة؟ أو ليست القوة هي ما تصدر عنه الآثار فيمن وهبت لهم فإذا سمي
الروح لظهور أثره قوة أو سميت القوة لخفاء حقيقتها روحًا فهل يضرّ ذلك الدين، أو
ينقص معتقده شيئًا من اليقين؟) .
ألا لا يسمى الإيمان إيمانًا، حتى يكون إذعانًا، ولا يكون كذلك حتى يستسلم
الوجدان، وتخشع الأركان، لذلك السلطان الذي تعلق به الإيمان، ولا يكون كذلك
حتى يلقي الوهم سلاحه، ويبلغ العقل فلاحه، وهل يستكمل ذلك لمن لا يفهم ما يمكن
فهمه، ولا يعلم ما تيسر علمه؟ كلا ، إنما يعرف الحق أهله، ولا يضل سبله، ولا
يعرف أهل الغفلة. لو أن مسكينًا من عبدة الألفاظ من أشدهم ذكاءً وأذربهم لسانًا
أخذ بما قِيلَ له: إن الملائكة أجسام نورانيّة قابلة للتشكل. ثم تطلع عقله إلى أن يفهم
معنى نورانية الأجسام ، وهل النور وَحْدَهُ له قوام يكون به شخصًا ممتازًا بدون
أن يقوم بجرم آخر كثيف ، ثم ينعكس عنه كذبالة المصباح ، أو سلك كهرباء ،
ومعنى قابلية التشكل ، وهل يمكن للشيء الواحد أن يتقلب في أشكال وصور مختلفة
حسبما يريد ، وكيف يكون ذلك ألا يقع في حيرة؟ ولو سئل عما يعتقده من ذلك ألا
يحدث في لسانه من العقد ما لا يستطيع حلّه؟ أليس مثل هذه الحيرة يعد شكًّا؟ نعم ،
ليست هذه الحيرة حيرة مَن وقف دون أبواب الغيب يطرف لما يستطيع النظر إليه ،
لكنها حيرة مَن أخذ بقول لا يفهمه، ولو كلف نفسه علم ما لا يعلمه، فلا يعد مثله مما
آمن بالملائكة إيمانًا صحيحًا ، واطمأنت بإيمانه نفسه، وأذعن له قلبه، ولم يبقَ
لوهمه سلاح ينازع به عقله كما هو شأن صاحب الإيمان الصحيح. فليرجع هؤلاء
إلى أنفسهم ليعلموا أن الذي وقر فيها تقاليد حفت بالمخاوف، لا علوم حفت بالسكينة
والطمأنينة. هؤلاء لم يشرق في نفوسهم ذلك السرّ الذي يعبر عنه بالنور
الإلهي ، والضياء الملكوتي ، واللألاء القدسي ، أو ما يماثل ذلك من العبارات. لم
يسبق لنفوسهم عهد لملاحظة جانب الحق، ولم تكتحل أعين بصائرهم بنظرة إلى
مطلع الوجود على الخلق، ولو علموا أن العالم بأسره فَانٍ في نفسه، وأن ليس
في الكون باق كان أو يكون إلا وجهه الكريم، وإن ما كثف من الكون وما لطف، وما
ظهر منه وما بطن، إنما هو فيض من وجوده، ونسبة إلى وجوده، وليس الشريف
منه إلا ما أعلى بذكره منزلته، ولا الخسيس إلا ما بين لنا بالنظر إلى الأول
نسبته، فإن كل مظهر من مظاهر الوجود في نفسه واقع موقعه، ليس شيء أعلى ولا
أحق منه، فإن كان كذلك ولا بُدَّ أن يكون كما قدره، ولو عرفوا ذلك كله لأطلقوا
لأنفسهم أن تجول في تلك الشئون حتى تصل إلى مستقرّ الطمأنينة حيث لا ينازع
العقل شيء من وساوس الوهم، ولا تجد طائفًا من الخوف، ثم لا يتحرجون من
إطلاق لفظ مكان لفظ.
هذه القوى التي نرى آثارها في كل شيء يقع تحت حواسنا، وقد خفيت
حقائقها عنا، ولم يصل أدق الباحثين في بحثه عنها إلا إلى آثار تجل إذا كشفت،
وتقل بل تضمحلّ إذا حجبت، وهي التي يدور عليها كمال الوجود، بها ينشأ
الناشئ، وبها ينتهي إلى غايته الكامل، كما لا يخفى على نبيه ولا خامل، أليست
أشعة من ضياء الحق؟ أليست أجل مظهر من مظاهر سلطانه؟ ألا تعد بنفسها من
عالم الغيب، وإن كانت آثارها من عالم الشهادة؟ ألا يجوز أن يشعر الشاعر منها
بضرب من الحياة والاختيار خاصّ بها، لا يدرك كُنْهه لاحتجابه بما نتصوره
من حياتنا واختيارنا! ألا ترى ما توافي بأسرارها، من ينظر في آثارها، ويوافيها
حق النظر في نظامها، ليستكثر من الخير بما يقف عليه من شئونها، ومعرفة
الطريق إلى استدرار منافعها، أليس الوجود الإلهي الأعلى من عالم الغيب وآثاره
في خلقه من عالم الشهادة؟ أليس هو الذي وهب تلك القوى خواصها، وقدر لها
آثارها؟ لِمَ لا تقول أيها الغافلُ: إنه بذلك وهبها حياتها الخاصّة بها؟ ولم قصرت
معنى الحياة على ما تراه فيك وفي حيوان مثلك؟ مع أنك لو سئلت عن هذا الذي
تزعم أنك فهمته وسَمَّيته حياة لم تستطع له تعريفًا، ولا لفعله تصريفًا؟ ألا تقول كما
قال الله وبه نقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) .
أفلا تزعم أن لله ملائكةً في الأرض وملائكة في السماء! هل عرفت أين
تسكن ملائكة الأرض؟ وهل حددت أمكنتها ورسمت مساكنها؟ وهل عرفت أين
يجلس من يكون منهم عن يمينك ومن يكون عن يسارك؟ هل ترى أجسامهم
النورانية تضيء لك في الظلام؟ أو تؤنسك إذا هجمت عليك الأوهام؟ فلو ركنت
إلى أنها قوى أو أرواح منبثة فيما حولك وما بين يديك وما خلفك وأن الله ذكرها لك
بما كان يعرفها سلفك؟ وبالعبارة التي تلقفتها عنهم كَيْلَا يوحشك بما يدهشك، وترك
لك النظر فيما تطمئن إليه نفسك من وجوه تعرفها، أفلا يكون ذلك أروح لنفسك،
وأدعى إلى طمأنينة عقلك؟ أفلا تكون قد أبصرت شيئًا من وراء حجاب، ووقفت
على سرّ من أسرار الكتاب، فإن لم تجد في نفسك استعدادًا لقبول أشعة هذه الحقائق،
وكنت ممن يؤمن بالغيب ويفوض في إدراك الحقيقة ، ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) فلِمَ تَرْمِي طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون
بالكتاب الذي آمنت به، ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته، وهم في إيمانهم
أعلى منك كعبًا، وأرضى منك بربهم نفسًا!
ألا إن مؤمنًا لو مالت نفسه إلى فهم ما أنزل إليه من ربه على النحو الذي
يطمئن إليه قلبه كما قلنا كان من دينه في ثقة، ومن فضل ربه في سَعَةٍ.
ثم نقول في الآية: إن ترتيب النظم يلتئم مع هذا التأويل الذي أورده الأستاذ
الإمام ، فإن هذه المعاني التي وردت بصيغة الحكاية ، وبرزت في صورة التمثيل
جاءت عَقِيب قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة:
29) وبقي شيء واحد لم يصرح به فيما مضى ، ولكنه يفهم منه ، وهو أن كل قوة
مِن قوى هذه الأرض ، وكل ناموس من نواميس الطبيعة فيها خلق خاضعًا للإنسان ،
وخلق الإنسان مستعدًّا لتسخيره لمنفعته إلا قوّة الإغراء بالشّرّ ، وناموس الوسوسة
بالإغواء الذي يجذب الإنسان دائمًا إلى شر طباع الحيوان ، ويعوقه عن بلوغ كماله
الإنساني، فالظاهر من الآيات أن الإنسان لا يغلب هذه القوة ويخضعها مهما ارتقى
وكمل، وقصارى ما يصل إليه الكاملون هو الحذر من دسائس الوسوسة ، والسلامة
من سوء عاقبتها بأن لا يكون لها سلطان على نفس الكامل تجعله مسخّرًا لها
وتستعمله بالشرور كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر:
42) ، وقال عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا
هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) أما سلطان تلك القوة في الغناء ، وقطع
حركة الوجود إلى الصعود ، فلا يستطيع إخضاعه لقدرته من البشر كامل، ولا
يقاوم نفوذه عامل، وإنما ذلك لله وحده. وهذا حكمها في الكائنات، إلى أن تبدل
الأرض غير الأرض والسموات ، فنسأل الله أن يجعلنا من أهل التقوى والبصيرة ،
وأن يعيذنا من الشيطان الرجيم. اهـ ما كتبناه في تفسير سورة البقرة مع ما زاده عليه الأستاذ الإمام بعد ذلك.
_________