الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الحادية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام
على نبي الرحمة، الذي بعث في الأميين ليعلمهم الكتاب والحكمة، محمد النبي،
العربي الحجازي، وعلى آله وأصحابه خير الآل والأصحاب، ومن تبعهم واهتدى
بهديهم إلى يوم المآب {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ
مَئَابٍ} (الرعد: 29) .
أما بعد فإن المنار بحمد الله وعنايته، وتوفيقه وهدايته قد أتم عشر سنين
كاملة، وتجاوز الأعداد المفردة إلى الأعداد المركبة، وهو في نمو طبيعي، وارتقاء
تدريجي، لم تطفر به مساعدة الكبراء، كما طفرت بكثير من العاملين، ولم تظفر
به مكايدة الرؤساء، كما ظفرت ببعض المصلحين، بل سار لطيته على استقلاله
في جميع أعوامه وأحواله، سلاحه تحرِّي الحق، وعدَّته التزام الصدق، وجُنته
الإخلاص لله، وحصنه تقوى الله باتباع سنن الله {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ
مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} (ص: 49-50) .
جاهد في سبيل الإصلاح بقدر الإمكان، وما تقتضيه حال الزمان والمكان،
فهاجمته السياسة بدسائسها، فنالت من قريبه وصديقه، ولكنها لم تزحزحه عن
طريقه، وواثبته الخرافات بوساوسها، فحالت دون سرعة انتشاره، ولكنها لم تقو
على صد تياره، وصادمته التقاليد بهواجسها، فصدت الكثيرين من متقلديها عنه،
ولكنها لم تنل منه، بل عزَّ هؤلاء وأولئك في الخطاب {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ
الأَحْزَابِ} (ص: 11) .
نعم، قد انهزم من أمامه الدجالون فلا يجدون قوة ولا حولاً، وانهزم كذلك
المقلدون فلا يرجعون إليه قولاً، وأنى للمتوكئ على عكاز القال والقيل أن ينافح
منتضي سيف الدليل تحت لواء السنة والتنزيل؟ ألا إنهم لا يصدونه بل يصدون
عنه، ولا يقولون له ولكن يقولون فيه، وكذلك كان يقول المقلدون إذ دعوا إلى
غير ما كانوا يعتقدون {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5){أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8) .
الحق أبلج، لا يخيل سبيله، ولا تخفى على الناظر البصير غرته وحجوله،
فلا يضره ضعف الداعي وغربته إذا قويت عارضته وعرفت حقيقته، والباطل
لجلج، وإن كثر قبيله، ودعمت فروعه وأصوله، فلا تنفعه قوة الداعي وعصبته
إذا ضعفت مريرتة ودحضت حجته، وإنما يثبت المقلدون حيث لا يوجد المستدلون،
ويسود المتواكلون ما سكت عن معارضتهم المستقلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
لا خوف على الحق إلا من الاستبداد بمنع حرية العلم والإرشاد، فالحق لا
يوجد إلا حيث توجد الحرية والاستقلال، وتظهر آثار مواهب الناس في الأقوال
والأعمال؛ لهذا لا نخاف على دعوة الإصلاح في هذه البلاد، أو تعود إليها سلطة
الاستبداد، نعم إن سيره قد يسرع وقد يبطئ، وإن الداعي إليه يصيب في رميه
ويخطئ، ولكنه يستفيد من الخطأ كما يستفيد من الإصابة، وقد يزداد مضاء في
الرفض والإجابة، حتى يعمل الاستعداد لإصلاح عمله، ويبلغ الكتاب أجله {لِكُلِّ
أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)، {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) ، {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40) .
إن للإسلام ثلاث مظاهر أو مراتب: التقليد وعليه أكثر المسلمين المعتقدين،
والبصيرة وعليها نفر من العلماء المحققين، والجنسية وهي تشمل حتى المارقين
من المتفرنجين، وقد هوجم أولاً في تقاليده لتحويل العامة عنه، وهوجم في كتابه
وسنته لزلزال الخاصة فيه، وهوجم في جنسيته لحل رابطة المعتصمين به، على
أنه لا يخشى عليه من مهاجمة الأجانب عنه، وإنما يخشى عليه من مهاجمة الذين
يعدون منه، فالمتفرنجون منهم يفتنون العامة عن تقاليدهم باسم المدنية، وشُبَه العلوم
والفنون العصرية، ويحلون جنسيتهم الإسلامية بدعوتهم إلى الجنسية الوطنية،
وهم لا يتهمون في ذلك بالإيقاع بالدين؛ لأنهم يأتون العامة عن اليمين، ويدعون
إلى ما يدعون معتقدين أنهم مصلحون، فتعيَّن على أهل البصيرة والعرفان أن
يناقحوا عن هذا الدين بالبرهان واقفين عند حدود السنة والقرآن، فإن كلا من
مسلمي التقليد والجنسية يعترفون بأن مرتبة البصيرة هي المرتبة العلية {أَفَمَن
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الرعد: 19) .
ألا وإن من المحال حفظ تقاليد المقلدين من غارة إخوانهم المتفرنجين، فإنها
من قبيل العادات التي يعروها (كما نشاهد) المحو والإثبات، ألا وإن مصارعة
الجنسية الوطنية للجنسية الإسلامية، مجهولة العواقب، إلا حيث يساعدها الحكام
مع الأجانب، فهنالك يرجح أن تكون آية الوطنية هي المرفوعة، والراية الإسلامية
هي الموضوعة، ويتبع ذلك سرعة تسلل العوام من هذه التقاليد المعزوة إلى
الإسلام في مثل هذه البلاد غريبًا كما بدأ؛ لأن أهل البصيرة هم الأقلون عددًا،
والأضعفون ساعدًا وعضدًا، إذا غَلبوا بالبرهان يُغلبون بالسلطان، فهم إما
مضطهدون جهرًا، وإما مهددون سرًّا على أنهم لا يقنطون من رحمة الله، ولا
ييأسون من روح الله {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)
ها أنا ذا أقول على رءوس الأشهاد: إن طالب الإصلاح الديني مهدد حتى في
هذه البلاد، ورب مقاومة خفية شر من صدمة علنية، ورب اصطدام أحدث ظهورًا
خير من إهمال أوجب فتورًا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن
تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة: 216) فما ظهر حق إلا بعد اضطهاد، ولا
خذل باطل إلا بعد عناد، فلا يغررك تقلب الظالمين في البلاد، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (الزمر:21) .
فيا أيها الكائدون الظالمون، إنما كيدكم على ملتكم إن كنتم تعقلون، ويا أيها
المقلدون الجامدون، إن تقاليدكم تتحول عنكم تحول الظل وأنتم لا تشعرون،
ويا أيها العابثون بالجنسية إنكم لبنائكم تهدمون، وتبنون لغيركم من حيث لا تعلمون،
ويا أيها المصلحون المستبصرون اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون،
102) ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم
مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران:
103-
104) لا تفرقنكم عوامل المدنية فإن دينكم عون لكم عليها إن كنتم تفقهون،
ولا يفتننكم سلطة الأمم الأوربية فتقلدوها فيما لا تعلمون، فإن روح المدنية والسلطة
هو الدين والآداب، وقد أنعم الله عليكم من ذلك بأكمل مما أنعم به على أهل الكتاب
{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة:
200) ، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ} (البقرة: 201){أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 202) .
إن الفساد قد طرأ على جسم هذه الأمة من زمن بعيد، فهو يحتاج إلى تكوين
جديد، ومن المبشرات أن نرى المسلمين قد تنبهوا إلى الحاجة إلى هذا التكوين،
ولكن اختلفت فيه الآراء، وعبثت به الأهواء، ولا زعيم يرجع إليه، ولا إمام
يقتدى به، وما على طلاب الإصلاح الآن إلا إقامة الحجة والبرهان، وتربية
استعداد الأمة إلى أن ينهض زعيم من الأئمة، ولا بد من مسالمة الفرق والأحزاب،
وإحاطة استقلال الرأي بسياج الآداب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-
18) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا الحسيني
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
إننا نكرر الدعوة إلى انتقاد المنار في كل عام ونعد بنشر ما ينتقد به على ما
ننشر من المسائل الدينية والعلمية لعدة أمور:
(1)
أننا نتحرى في كل ما نكتب الحق والإرشاد إلى الخير، ونعتقد أننا
عرضة للخطأ مهما بذلنا من الجهد في تحري الإصابة، فغرضنا الأول من دعوة
العلماء إلى انتقاد ما نكتبه هو تكميل نفسنا ومساعدتنا على ما نتوخاه من
الإرشاد.
(2)
حرصنا على تكميل غيرنا من قراء المنار بما نحب أن نكمل به نفسنا
من معرفة الحق والخير والمصلحة، وكراهة أن يعلق ما عسى أن نقع فيه من الخطأ
بنفس بعض القراء فلا يجدوا عنه مصرفًا.
(3)
إقامة فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كثيرًا من أهل
العلم يعتذرون عن تركهم لذلك بأن الناس لا يقبلون أمرًا ولا نهيًا، بل يعادون من
ينصح لهم ويرشدهم إلى الحق وربما آذوه بالقول أو الفعل فها نحن أولاء نؤمّنهم من
العداء والإيذاء، ونعدهم بقبول النصح والإرشاد.
(4)
فتح باب المناظرة التي تعلم كل واحد من المتناظرين ما لم يكن يعلم
وتدفعه إلى بذل الجهد والعناية في استكناه الحقائق، والإحاطة بأطراف المسائل،
وترك الحكم للقراء.
(5)
قطع ألسنة أهل الدعوى، والمتبعين للهوى، الذين يقولون: هذا حق
وهذا باطل، وهذا حلال وهذا حرام، وفلان مخطئ أو ضال، أو نافع أو ضار،
وهم على غير بينة فيما يقولون، أو على غير إخلاص فيما به يحكمون، فالمنار
يقول لمن يخوض فيه منهم: إن كنتم تقولون الحق فأبرزوه للقارئين، وهاتوا برهانكم
إن كنتم صادقين، وإلا فأنتم بأكل لحم أخيكم بالغيبة، وبحسدكم الذي زين لكم هذه
الوقعة تقولون ما لا تعملون، أو تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم
تعلمون.
هذا، وإننا نشترط على المنتقد الذي نعد بنشر انتقاده أن يوجه انتقاده إلى
ما كتبنا من المسائل العلمية دينية أو غير دينية مبينًا موضع المسألة من المنار بأن
يقول: ذكرتم في صفحة كذا من مجلد كذا ما هو كيت وكيت وهو خطأ، ويبين ذلك
بالدليل.
ولا نعد بنشر الانتقاد المبهم (نحو: أنتم تقولون كذا) مما لعلنا لم نقله ولم
يخطر ببالنا، وإنما جاءه من وقيعة بعض الكاذبين أو من سوء الفهم - ولا الانتقاد
الغفل من الدليل - ولا ما كان موجهًا إلى الأعمال الإدارية أو الشخصية أو اختيار
المباحث والمسائل أو أسلوب الكتابة، فكل هذا مما نترك لنفسنا الخيار فيه، مع
الشكر عليه؛ لأن فائدته في الغالب خاصة بنا وعدم العلم بها لا يضر القراء شيئًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شرط الاشتراك
(1)
كل من قبل الجزء الأول من مشتركي المنار السابقين يعد مشتركًا إلى
آخر السنة ، ويجب عليه دفع ستين قرشًا إن كان من مصر أو السودان ، وثمانية عشر
فرنكًا إن كان من سائر الأقطار، وإن ردّ المجلة في أثناء السنة لأن ضياع بعض
أجزاء السنة علينا كضياع جميعها.
(2)
يجب على من يطلب الاشتراك أن يرسل القيمة سلفًا ، وأن يكون
اشتراكه من أول السنة (المحرم) أو منتصفها (رجب) .
(3)
إذا لم يصل إلى المشترك أحد الأجزاء فإن الإدارة ترسله إليه بغير ثمن
إذا هو طلبه في مدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا من موعد وصوله إليه في بلده، وإذا طلبه
بعد ذلك كان عليه أن يرسل ثمنه كمن فقد الجزء وطلب بدله ، وثمن الجزء الواحد
ستة قروش مصرية.
تنبيه
لم ننشر في هذا الجزء شيئًا من التفسير لسبب عارض.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القرآن ونجاح دعوة النبي عليه الصلاة والسلام
آراء علماء أوربا في ذلك
ألّف القسيسون وأعوانهم من المتعصبين للنصرانية كتبًا في القرون المتوسطة
يمثلون بها الإسلام في أقبح صورة ينتزعها خيال الكاتب منهم على حسب تمكنه في
الكذب والبهتان، ولما ارتقت العلوم والفنون في أوربا وضعف التعصب الأعمى على
المخالف بقدر ذلك كثر الباحثون من علماء الإفرنج في شئون الشرق بالإنصاف ،
فتغير لذلك اعتقادهم في الإسلام والمسلمين، وألفوا في بيان مزايا هذا الدين التي كانت
مجهولة ، وفضائل أهله التي كانت مهضومة كتبًا كثيرة. ومن هؤلاء المؤلفين:
البرنس كايتاني الإيطالي فإنه ألف كتابًا في تاريخ الإسلام يقال إنه كتبه بحرية
وإنصاف بحسب ما وصل إليه علمه.
وقد زار مصر في هذا الشتاء فاحتفى به نادي المدارس العليا ، وأكرم مثواه ،
وأثنت عليه جرائد المسلمين ثناءً حسنًا. وقد ترجم المؤيد في أوائل هذا الشهر تقريظ
جريدة التيمس لتاريخ البرنس كايتاني ومنه هذه العبارة:
(ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن ، وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أي حمية دينية) اهـ نص ترجمة المؤيد لعبارة التيمس.
وهذا الذي قاله هو اعتقاد الإفرنج العارفين بنشأة الإسلام، وسيرة النبي عليه
الصلاة والسلام؛ أي إنهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بما قام به
بحنكته وسياسته، لا بتأييد الله تعالى له بوحيه وعنايته، ولولا هذا لما كان لهم
مندوحة عن الدخول في الإسلام، ومثل الإفرنج في هذا الرأي كل من لا يدين
بالإسلام من علماء المشرق. فدعوى أن نجاح النبي صلى الله عليه وسلم كان
بسياسته وحنكته - أي تجاربه - هي أكبر شبههم على الإسلام.
ومن الشواهد على ذلك من كلام علماء بلادنا غير المسلمين الأسطر والأبيات
الآتية التي كتبها إليّ الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور بعدم التدين. حمله
عليها قراءة المنار ، وهي:
إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار:
أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيمًا ، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله
أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض ،
فالجامع بيننا: العقل الواسع ، والإخلاص في القول ، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.
…
...
…
...
…
...
…
من صديقك الدكتور شميل
الحق أولى أن يقال
دع من محمد في سدى قرآنه
…
ما قد نحاه للحمة الغايات [1]
إني وإن أك قد كفرت بدينه
…
هل أكفرنَّ بمحكم الآيات
أو ما حوت في ناصع الألفاظ من
…
حكم روادع للهوى وعظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها
…
ما قيدوا العمران بالعادات
نعم المدبر والحكيم وإنه
…
رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة والدَّها
…
بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خلب النهى
…
وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى
…
من سابق أو لاحق أو آت
(المنار)
كتب الدكتور إليَّ بهذا لا لينشر بل ليقرأ على أنه خواطر جاشت في صدره، ثم
بعد أن نشر المؤيد ما نشره عن التيمس ، ورددت عليه في الجريدة استأذنت الدكتور
بنشر ما كتبه فأذن ، وهو كما يرى القارئ أكثر من البرنس كايتاني تعظيمًا للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وكذا للقرآن الحكيم الذي لم يدرك البرنس كايتاني تأثيره؛ لأنه
لا يفهمه كالدكتور شميل.
ونحن-على كوننا نشكر لشميل ما اعترف به من مزايا نبينا وكتابنا، ونسأل الله
أن يهديه للباقي منها وهو المهم الأعظم - لا نقول: إنه اعترف بنبوته ولا بحقية
كون كتابه إلهيًّا. وننكر عليه أشد الإنكار قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم من
حيث كونه رجلاً أعظم منه من حيث كونه نبيًّا على أنهم لا يعنون بمثل هذا التعبير
الذي قاله شميل وكايتاني أنه نبي وسياسي وأن نبوته أقوى من سياسته. بل يعنون أنه
نجح بسياسته لا بنبوته التي ادعاها ، ولكن المؤيد غفل عن هذا وادعى أن ما قاله
كايتاني حق، ولو كان حقًّا لكان هو وجميع علماء أوروبا وعلماء أهل الكتاب
والوثنيين العارفين بتاريخ الإسلام كلهم على الحق ، واستلزم ذلك كون المسلمين
على غير الحق فيما يتعلق بأصل دينهم؛ لأنهم يقولون بخلاف هذا القول! !
نبهت (الجريدة) المؤيد إلى هذه الهفوة ، وقالت: إن ما ترجمه عن التيمس
من قول كايتاني كفر ما كان لصاحب جريدة تفتخر بأنها إسلامية أن ينقله ويقره.
فرد عليها صاحب المؤيد بقوله الآتي نقلاً عن عدده الذي صدر في 3 المحرم ،
والعنوان منا فقط:
رأي المؤيد في القرآن
أمّا نحن ، فنقول للجريدة: إننا نقلنا عبارة البرنس كايتاني عن التيمس ،
ونحن نعتقد أنها ليست كفرًا فلا نلام إذا لم نرد عليها ، وأمّا الجريدة فقد نقلتها وهي
تعتقدها كفرًا ، ولم ترد عليها فهي المقصرة والملومة.
إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر ، وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له.
والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ،
فلم يُرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا
للقرآن الكريم ، وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق
العالية التي اشتهرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن نفسه يقول: {وَلَوْ
كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) فجعل مناط قوة
ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة
أخلاقه من العيوب المنفرة.
فلو كان فظًّا غليظ القلب ما نفعه قرآن ، ولا حمية دينية. وهذا كلام يقوله كل
مسلم يعقل، ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني.
(وليس المقام مقام مقارنة بين القرآن والنبي صلى الله عليه ، وأيهما أفضل؛
لأن هذا لا يؤخذ من عبارة البرنس كايتاني ولا هو غرض مؤرخ كبير كهذا ، بل
هذه المباحث العقيمة الآن تليق بجريدة مثل (الجريدة) لا يذوق محررها طعمًا لكلام
مؤلف ، ولا يعرف وزنًا لقيمة رأي مؤرخ) .
أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام الحقيقية كانت في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها
الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهل أخلاقه الفائقة إلا موهوبة من عند
الله ، وهي معجزة من معجزاته؟ فهل يكون كافرًا بالله من قال: إن قوة هذه
المعجزة بخصوصها كان لها دخل في فتوحات الإسلام على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم أكثر من كل معجزة دينية أخرى.
إن للقرآن الكريم وظيفة أخرى لا يشاركه فيها مشارك وهي كونه شريعة
إلهية ، جمعت بين مصالح الدين والدنيا ، ففاق بهذه المزية كل الكتب الإلهية
الأخرى كما فاقها في الأسلوب والبيان ، فهل ينقص من فضل القرآن ومزيته أن
يقال: إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت فوقًا تأثيرًا في فتوحاته وبسطة
سلطانه.
هذا ما أردنا بيانه ، ونترك للجريدة المشاغَبة واللغط والوثوب من خطأ إلى
غلط) . اهـ كلام المؤيد.
(المنار)
إن المؤيد جرى في الرد على الجريدة في هذه المسألة على طريقة المراء
المعتاد في المناقشات السياسية ، فحرف كلام كايتاني عن موضعه ، وجعله من باب
الإعجاب بالأخلاق التي أكرم الله بها نبيه وتفضيل تأثيرها على القرآن ، وإنما كلام
كايتاني في غير ذلك إذ زعم أن جُلَّ نجاح النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ كله بسياسته
وحنكته - أي تجاربه - لا أخلاقه الموهوبة من الله، كما قال فيه الدكتور شميل:
إِنه رب السياسة والدهاء.
وكان للمؤيد مندوحة عن تأييد شبهة كايتاني وتقويتها، بأن يقول للجريدة: إنه
سكت عليها؛ لأنه لا يطالب غير المسلم بأن يقول في الإسلام أكثر من ذلك ، مع العلم
بأن المسلمين لا يأخذون عقيدتهم عن مؤرخ نصراني. ولكنه لم يوفق لذلك؛
فاضطررنا إلى كشف الشبهة بالمقالة الآتية في الجريدة:
رد شبهة المؤيد على القرآن [2]
يقول المنكرون لنبوة نبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - سواء كانوا
من الأوربيين أو غيرهم: إن ما تم على يديه من جمع كلمة العرب وكذا وكذا مما
ثابت في التاريخ إنما كان بالدهاء والسياسة وسمو الأفكار وعلو الأخلاق الذي يكون
عادة لكثير من الرجال كالبرنس بسمارك ونابليون الأول. وإن ما ادعاه من النبوة ،
وما جاء به من القرآن لا تأثير لهما في نفسهما ، وإنما التأثير له هو بنفسه وبهما؛
لأنه استخدمها في تنفيذ سياسته {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} (الكهف: 5) .
ويعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر لا يمتاز
على غيره إلا بالنبوة وما تستلزمه كما هو نص قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) الآية. وقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم} (يوسف: 109) .
ويعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سن الشباب وبلغ الأربعين ولم
يعمل عملاً اجتماعيًّا ولا سياسيًّا ، وأن ما تم على يديه بعد ذلك إنما كان بالنبوة التي
اختصه الله بها وبالقرآن الذي أوحاه إليه ، فكان روحًا أحياه به حياة جديدة، وأحيا به
من اتبعه فكان اهتداء الجميع بالقرآن لا بتأثير صفات النبي الشخصية كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن
جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) ، فالله تعالى هو الذي
هدى المؤمنين بكتابه ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي هداهم بصفاته
البشرية وكفاءته الشخصية؛ ولذلك أنزل الله عليه قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56)، وقوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: 63) .
بل يعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتقي في أفكاره
وأخلاقه بالقرآن نفسه فكلما أنزل الله عليه شيئًا منه ازداد كمالاً به؛ ولذلك قالت
عائشة رضي الله عنها لِمَنْ سألها عن أخلاقه: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه
وسلم القرآن) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما.
ومما هَدَاه الله تعالى إليه بكتابه مشاورة أصحابه في الأمر ، فكان يستشيرهم ،
ويعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد ، وكانوا يسألونه إذا
أشار بأمر: هل هو وحي فيُطاع بلا بحث ولا تردد أم هو الرأي؛ ليذكروا ما
عندهم ، فإذا قال: هو الرأي. ذكروا ما عندهم كما كان يوم بدر. وقد ترك صلى
الله عليه وسلم رأيه إلى رأيهم.
فمن هذه العجالة يعلم أن القرآن هو الأصل في هداية الرسول صلى الله عليه
وسلم وهداية أصحابه عليهم الرضوان إلى ما تم على يديه وأيديهم معه وبعده مما
أدهش التاريخ إذ لم يجد له نظيرًا، ولو شئنا لأتينا بأكثر مما أتينا به من الشواهد
على ذلك من الآيات والأحاديث، ووقائع السيرة النبوية، وتاريخ الراشدين ، ولكن ما
جئنا به كافٍ في التذكير بما يؤمن به كل مسلم.
هذا هو اعتقادنا نحن السلمين ، وذلك الذي ذكرنا في أول المقال هو اعتقاد من
ينكر صحة ديننا ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ويزعمون أن الإسلام وما فيه من
المزايا، وما تم له من النجاح كان منشؤه سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وحنكته
كما يعهد من الرجال العظام عادة.
وقد نقل المؤيد في يوم الأحد الماضي عن جريدة التيمس عبارة للبرنس
كايتاني الإيطالي مؤلف تاريخ الإسلام في ذلك الاعتقاد الذي يراد به هدم الإسلام ،
وهي: (ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر
من إفادة القرآن وأي حمية دينية) .
نقل المؤيد هذه العبارة وأقرها فأنكرت عليه الجريدة أن ينقل الكفر ويقره على
فخره بكون جريدته إسلامية وكونه من أبناء الأزهر. فبماذا أجاب المؤيد على هذا
الإنكار؟
أجاب بأنه يعتقد أن تلك العبارة (التي تنيط نجاح عمل النبي صلى الله عليه
وسلم بالحنكة والسياسة لا بالنبوة) ليست كفرًا وبين ذلك بما هو العجب العجاب. قال
في العدد الذي صدر أمس (يوم الأربعاء ثالث المحرم) ما نصه:
(إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر ، وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له والله تعالى يقول
في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) فلم يرد البرنس
كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم، وماذا
يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل القرآن نفسه يقول: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، فجعل مناط قوة ارتباط
المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه
من العيوب المنفرة ، فلو كان فظًا غليظ القلب ما نفعه قرآن ولا حمية دينية ، وهذا
كلام يقوله كل مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني) .
ونحن نقول له: إنه لا يوجد مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام يقول ما يزعم
صاحب المؤيد أن كل مسلم يقوله. وإنما يقول كل مسلم: إن روح الإسلام هو
القرآن الذي به بلغت أخلاق من أنزل عليه تلك الدرجة العالية - كما قالت عائشة -
وهذه هي العقيدة التي صرح بها القرآن في الآية التي أوردناها آنفًا وهي: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52) ، ولولا القرآن لَمَا اجتمع حوله
صلى الله عليه وسلم أحد ، وَلَمَا فعل شيئًا ، ولَمَا فداه المؤمنون بالنفس والمال ، فقد
صرح الله تعالى بأن كل عمل له كان بالقرآن ، فهل نتبعه أم نتبع كايتاني وأضرابه
الذين يقولون: إن كل ذلك كان بمزاياه الشخصية البشرية؟
كاد يقع بين الأوس والخزرج العدوان وتصلى نار الحرب لِمناظرة وقعت؛
فنزل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:
103) الآيات ، فرجعوا وتابوا وأنابوا، وحبل الله هو القرآن ، ولم يقل: إن
سياسة النبي وحنكته وأخلاقه هي التي ألفت بين قلوبهم. على أن أخلاقه هي القرآن
فهو أصل كل شيء.
قال صاحب المؤيد بعد ذلك في الاستدلال على عدم كون القرآن هو منبع قوة
المسلمين: (أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام كانت في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله
عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم؟) .
ونقول في دفع هذه الشبهة: إن المسلمين كانوا في قوة وعزة ما كانوا
عاملين بالقرآن ، ففي عهده صلى الله عليه وسلم كانوا أشد استمساكًا بحبله المتين
وعُرْوَته الوُثْقَى لا لصفات النبي الشخصية البشرية، بل لنبوته وما لها من المزايا ،
وللقدوة به قي تَمَسُّكهِ بالقرآن التي عاتبه الله تعالى على مبالغته فيها بمثل قوله:
{طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى} (طه: 1-2) ، ثم كانوا في زمن أبي بكر
وعمر مقربة من ذلك ، ثم صاروا يتدلون بترك القرآن. ويعتقد كل مسلم عاقل
عارف بحقيقة الإسلام أنهم إذا عادوا إلى الاعتصام به تعود إليهم قوتهم وعزتهم
فهم ليسوا حجة على الإسلام (يا صاحب السعادة) بل القرآن حجة عليك وعليهم.
فأدعوك إلى التوبة والرجوع عمّا كتبت في تأييد أقوى الشبهات على الإسلام
والقرآن والنبوة ، وأن تعلن توبتك في جريدتك ، وتصرح بأنك تؤمن بأن القرآن هو
روح الإسلام وبوحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم واهتدائه به عمل بعناية الله ما
عمل، وبرد قول كايتاني إن حنكته وسياسته أكثر فائدة من القرآن ومن كل حمية
دينية. حباه الله هو ومن اتبعه إياها فإن ذلك كفر وهدم للإسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... صاحب المنار
وقد أجاب المؤيد عن هذه المقال بما يأتي بنصه نقلاً عن عدد المؤيد الذي
صدر في سادس المحرم وهو:
ماعدا مما بدا
قال اللورد كرومر أمس: (إن الجامعة الإسلامية تستلزم السعي في القرن
العشرين في إعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة
والسذاجة ، وهذه المبادئ منها ما يجيز الرق ، ومنها ما يتضمن سُنَنًا وشرائِعَ عن
علاقات الرجال والنساء مناقضة لآداب أهل هذا العصر ، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم
من ذلك كله وهو إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل
تغييرًا ولا تحويرًا وهذا ما وَقَّفَ تَقَدُّمَ البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام) .
وقال البرنس كايتاني اليوم: (إن مزية النبي هي في كفاءته العجيبة كسياسي
محنك أكثر منه كنبي موحى إليه! إن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أية حمية دينية) .
فلماذا اتسع صدرنا لعبارة اللورد ، ورأينا من اللياقة وحسن الأدب تأويلها -
مع أنها كادت تكون صريحة في أن الدين الإسلامي دين وضعي - ولم يتسع صدرنا
لما قاله البرنس، مع أن عبارته تُشْعِر بأنه معترِف للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه
نبي موحى إليه وأن قرآنه مفيد؟
إذا كان هناك بواعثُ حملت الشيخ رشيد على التفرقة بين الاثنين ، وتشنيع
إحدى العبارتين ، فإن الحق الذي لا تتلاعب به البواعث يشهد بأن عبارة البرنس لا
توجب اللوم ولا التعيير بله التضليل والتكفير! !
بل الإنصاف يتقاضانا الثناء على جناب البرنس والإعجاب بحرية ضميره؛
لاعترافه بصدق النبوة كما أشرنا إليه آنفًا.
أمَّا كون البرنس جعل التأثير في تأييد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم للمزايا
التي انطوت عليها نفسه الشريفة أولاً، ثم القرآن ثانيًا كما هو نص عبارته ، فهذا لا
يقدح في قوله ولا يجعله من باب الكفر. نعم إذا كان للبرنس رأي خاص في النبي
صلى الله عليه وسلم كآراء بعض رجال أوربا فيه على ما أشار إليه الشيخ رشيد
في مقدمة كلامه فهذا لا يلزمنا مناقشته فيه ما دام أنه مستور في نفسه ، بل نراه قد
صرح بِضِدِّهِ في عبارته حيث قال: إنه (نبي موحى إليه) فهل لا تكون تلك
العبارة قرينة على أن البرنس ليس على رأي أولئك المُنْكِرينَ لنبوته صلى الله عليه
وسلم؟ .
وإذا راجعنا ما قاله المفسرون في تفسير آية {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ
لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) رأيناهم يفسرونها بكلام يأتلف مع ما
قاله البرنس كايتاني. فلم تكن عبارة البرنس إذًا كُفْرًا بل هي الحقيقة الدينية التي
علم بها القرآن الكريم.
(قال الطبري في تفسير هذه الآية: احتملت يا محمد أذى من نالَكَ منهم أذاه ،
وعفوت عن ذي الجُرْم منهم جرمه ، وأغضيتَ عن كثير ممن لو جفوته وأغلظت
عليه لتركك فيفارقك ولم يتبعك. ولا (أي ولم يتبع) ما بعثت به من الرحمة)
فقوله الأخير نص في أن مزايا النبي الذاتية كانت السبب في أن يتبعه العرب
ويصدقوا بالقرآن الذي أتى به. وقال الألوسي: (لانفضوا مِن حولك) أي:
لتفرقوا عنك ، ونفروا منك ، ولم يسكنوا إليك ، وتردوا في مهاوي الرَّدَى ، ولم
ينتظم أمر ما بعث به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط) فعدم فظاظته وغلظته
اللتين لو كانتا فيه لَذَهَبَتَا بكفاءته وحنكته وسياسته هو السبب الأول في انتظام أمر
بعثته.
وقال بعض المفسرين ما هو أصرح من كل ذلك كله قال: (وكل واحد من
الأمرين (أي: الفظاظة والغلظة) لا يليق بمنصب النبوة؛ لأن المقصود من البعثة
أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه ، وسكون
نفوسهم لديه ، وهذا لا يتم إلا إذا كان رحيمًا بهم كريمًا يتجاوز عن ذنوبهم ويعاملهم
بالبر والشفقة) ، فلولا كفاءته الذاتية التي هي عبارة عن مجموع مواهبه ومزاياه
وَخِصاله الكريمة لَمَا تَمَّ أمْر البعثة ، فلم يلتفوا حَوَالَيْهِ صلى الله عليه وسلم ، ولم
يَعُوا القرآن الكريم الذي أنزل عليه؛ فالكفاءة إذن هي العامل الأول في تأييده أو
تأييد سلطته الذي أراده البرنس.
فهل تكون بعد هذا كله عبارة البرنس كفرًا وطعنًا في الدين إلى حد لا تَسعه
صدورنا كما وسعت كلام اللورد ، ويكون المصريون مخطئين في إقامة الاحتفال له
وإعلان الثناء عليه ، أم لا يكون شيء من ذلك وإنما للشيخ رشيد حكمة من وراء
صنيعه هذا يعلمها هو والواقفون على أطواره وخفي أسراره. اهـ كلام المؤيد.
وقد رددنا هذا التمويه والمغالطة بمقالة أخرى نشرناها في عدد الجريدة الذي
صدر في اليوم السابع من المحرم وهي:
جواب المؤيد عن شبهته
(على القرآن)
لا يترك المؤيد شنشنته في الجدال ، فهو يشاغب ويكابر في أصول الدين
وعقائده كما يفعل في المناقشات السياسية والشخصية ، فقد أنكرنا عليه ما كتبه في
قيام الإسلام وثبات سلطته، وعزوه إياه إلى المسلمين ، وقوله: إنه اعتقادهم. وهو
أن السبب الأول والعُمْدة فيه هو - كما يقول البرنس كايتاني - سياسة النبي صلى الله
عليه وسلم وحنكته، أي ما أفادته إياه التجارب. أنكرنا عليه هذه الدعوى ، وَبَيَّنَا له
بالآيات البَيِّنات أن ذلك كان بما آتاه الله من النبوة ، وأنزل عليه من القرآن.
فرد علينا أمس بأننا أَوَّلْنَا طعْن لورد كرومر في الإسلام ، فلماذا ننكر على
البرنس كايتاني ، ونشنع عليه ونُخَطِّئ المصريين الذين قاموا له بالاحتفال ، فحاصل
جواب الشيخ علي يوسف عما أنكرناه عليه هو أننا فعلنا فيما مضى فعلاً كان يجب
علينا أن نعيده الآن ، وأننا شنعنا على البرنس كايتاني وذلك يتضمن تخطئة
المصريين الذين احتفلوا به.
ولقد رأى القراء أنه ليس في عبارتنا تشنيع على كايتاني ، وأكثر ما يفهم من
ردنا على صاحب المؤيد أن ما قرره عن البرنس كايتاني مخالف لعقيدة المسلمين في
القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام ، وليس هذا بتشنيع عليه؛ لأنه ليس بمسلم ،
فيطالب بأن يكون كلامه مُطابقًا لعقيدة المسلمين.
وأمَّا احتفال المصريين به فلم يَأْتِ له ذكر في كلامنا لا تصريحًا ولا تلويحًا ،
وهم لم يحتفلوا به لأنه مسلم؛ بل لأنه كتب تاريخًا صرح فيه باعتقاده من غير
تحامل ولا تعصب. وقد صرح لورد كرومر بانتقاده ، فرأيت كما رأى المؤيد أن
كلامه كاد يكون طعنًا في أصل الإسلام فكتبت إليه كتابة كان أثرها أنه كتب يبرئ
القرآن والسنة من الطعن. وقد صرح صاحب المؤيد يومئذ بأن ما كتبه لي اللورد هو
رجوع عما كتب في تقريره. فأنا الآن أطلب من صاحب المؤيد كما طلبت من
اللورد تبرِئة القرآنَ مما كتبه؛ فعسى أن لا يكون لورد كرومر خيرًا منه في الرجوع
إلى الحق بعدما تبين له.
وغرض صاحب المؤيد مما كتبه ظاهر وسببه بين وهو أنه عجز عن رد
الحجج التي دمغنا به دعواه في القرآن وصعب عليه الاعتراف بالحق الذي طالبناه
به ، فانتقم منا بتحريض من احتفلوا بالبرنس علينا ، وهم أعلى فَهْمًا وآدابًا من أن
ينخدعوا بمثل ما كتب. ولم يذكر إنكارنا عليه حتى لا يدري به من يقرأ المؤيد ولم
يكن اطلع على الجريدة يوم الخميس الماضي.
تلك شنشنته ، وذلك مبلغه من العلم ولولا أنه عاد إلى تأييد قوله الأول بأن
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فوق كل قوة دينيه كانت له؛ أي: فوق اصطفاء الله
له بالنبوة وتأييده بالقرآن ، وأن العُمْدة في نفوذه هي السياسة والحنكة، واحتج بقوله
تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)
لَمَا كتبنا اليوم شيئًا في إعادة دعوته إلى التوبة مما كتب والرجوع عنه كتابة في
المؤيد.
أقمنا الدليل في المقالة الأولى على ما قلنا: إنه اعتقاد المسلمين. وأيدناه
بالآيات والأحاديث ، ومنه أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم العليا وسياسته
المثلى مستمدة من القرآن ، فصرف الشيخ علي نظره عن ذلك، وعاد ينقل لنا ما قاله
بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، ولم يذكر الآية بتمامها؛ لأنها حجة عليه فكان مَثَلُهُ كَمَثَلِ
مَنِ استدل على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ} (النساء: 43) وسكت عن قوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء:
43) إلخ. هذا نص الآية: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) ، فهل تدل هذه
الآية على أن تلك الأخلاق العالية والمعاملة الحسنة كانت بتأييد الله إياه وتأديبه له
بالقرآن كما نعتقد نحن المسلمين أم كانت بسياسته وحنكته؛ أي: تجاربه صلى الله
عليه وسلم كما يقول الشيخ علي يوسف تأييدًا لكلام البرنس كايتاني؟ .
ألم يصرح جهابذة المفسرين بأن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} (آل عمران:
159) يفيد أن هذا كان برحمة الله وتوفيقه إياه ، وأن تأكيد السببية هنا بلفظ (ما)
يدل على الحصر كما في الكشاف ، ومعنى هذا أنه لم يكن ذلك بكسبه واجتهاده ولا
سياسته وتجاربه وإنما هو بتأييد الله وتوفيقه. وذلك من آثار النبوة التي هي غير
مكتسبة بالتجارب والسياسة؟ ويؤيد ذلك بقية الآية وبامتثالها بمعونة تلك الرحمة كان
رءوفًا رحيمًا لا فظًّا ولا غليظًا. ويدعم ذلك قوله في آخرها: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159) ولم يقل: توكل على سياستك وتجاربك.
ومن أمثلة هذا في القرآن قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1-2) الآيات وسببها معروف ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يدعو عظماء قريش إلى الإسلام في أول الإسلام فجاءه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى
- وهو من السابقين الأولين - يسأله أن يعلمه، فعبس صلى الله عليه وسلم،
وأعرض عنه؛ لئلا ينفر من إقباله عليه أولئك الكبراء ، وكان من اجتهاده صلى الله
عليه وسلم يومئذ أن الكبراء إذ دخلوا في الإسلام أولاً لا يلبث أن يتبعهم الناس ، فعاتبه
الله على ذلك عتابًا شديدًا ، ونهاه عن مثل ما فعل فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ
الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَاّ} (عبس: 1-11) فعمل صلى الله عليه وسلم بهذا التأديب
والتعليم الإلهي من أول الإسلام ، فكان ذلك عونًا على استمرار دعوته التي كان
روحها والمؤثر الأكبر فيها هو القرآن لا السياسة والحنكة كما يَدِّعِي الشيخ علي
يوسف.
أما الدلائل النقلية على تأثير القرآن في جذب العرب إلى الإسلام فهي كثيرة ،
وأذكر لسعادة صاحب المؤيد منها إسلام عمر رضي الله عنه ، وهو الذي أعز الله به
الإسلام كما ورد. كان عمر في الجاهلية فظًّا غليظًا ، ولمَّا سمع بإسلام أخته وختنه
(زوجها) عظم عليه الأمر ، فجاءها وضربها حتى أَدْمَاهَا ، وكانت تقرأ هي
وزوجها صُحفًا من القرآن الكريم ، فأخفتها عنه فما زال حتى أخذها وقرأها فجذبته
إلى الإسلام جذبًا ، وكان بعد ذلك من رحمته أنْ كان يطوف بالليل يتفقد المحتاجين؛
وقصته في حمل الدقيق ليلاً إلى موضع تلك المرأة البائسة وطبخه مشهورة.
وحَسْبُك من تأثير القرآن أن كان الغالون في العناد والجحود من كفار قريش
يهربون من سماعه لئلا يجذبهم إلى الإسلام بقوة تأثيره {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .
فأدعو سعادة الشيخ علي يوسف بعد هذا البيان إلى الرجوع عما كتبه مِن قَبْلُ
والتصريح بأن قوة النبي الدينية كانت فوق كل قوة له بشرية، وكل سياسة
وحنكة عادية، وأن القرآن الحكيم هو منشأ آدابه وأخلاقه وسياسته عليه الصلاة
والسلام ، وأن سيادته ونجاحه كانا بذلك قبل كل شيء وفوق كل شيء والسلام على
من اتبع الهدى.
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار
وبعد أن نشرنا في الجريدة ما تقدم رأينا كثيرًا من أهل العلم والغيرة مرتاحين
مسرورين مما كتبناه ، وقالوا: إن هذا الرد من فروض الكفاية قمت به فسقط الحرج
عن كل عالم قادر عليه. وكتب إلينا عبد الله أفندي الأنصاري مدرس العلوم العربية
في المدرسة التوفيقية ما يأتي:
حضرة العلامة المفضال صديقنا الصادق في الله تعالى السيد محمد رشيد
رضا:
السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد ، فلقد اطلعت في صحيفة المؤيد على ما
نشرته من رأي البرنس كايتاني في محمد صلى الله عليه وسلم ، ومجادلتها عنه ،
وعلى ما جاء في الجريدة عن ذلك ، وردكم هو الحق الصراح، والنور الوضاح،
والبيان الفضاح لدسائس الملحدين لنور رب العالمين، فجزاكم الله خيرًا عن الإسلام
وأهليه، والشرع وحامليه، ولما رأيت مجادلة صاحب المؤيد عن ذلك الرأي،
وإصراره على عدم رَتْقِ هذا الفَتْقِ، والانصياع إلى سلطان الحق محاباة في الرد،
ومداراة للقصد اختلست ساعة من أوقاتي المملوءة بالأشغال المدرسية - كما لا
يخفى - لتحرير هذه المقالة تأييدًا لِرأيكم الأصيل، وتسديدًا لقولكم النبيل، فأرجو
نشرها إن استحسنتم في مناركم الرفيع ، والسلام عليكم أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.
من أخيكم عبد الله الأنصاري.
وهذه هي مقالة الأنصاري المفيدة بنصها:
لا هَوَادَةَ في الدِّين
لقد جاء انتقاد الجريدة وردودها على ما نشرته صحيفة المؤيد من رأي البرنس
كايتاني في مبلغ الرسالة الإسلامية ، وإعجابها به مطفئًا لِمَا اتَّقَدَ في صدور ذوي
الغيرة على الدين بنفثات الذين يريدون المحاباة في الإسلام، والتساهل الذي قد اتخذه
كثير من دعاة المدنية العصرية من المسلمين وسيلة إلى إحداث شأن جديد في الدين
عِندَ مَنْ أكبرتهم نفوسهم ممن لا تروج لديهم بضائع أهل الملل والأديان، ولا يروق
في نظرهم أن ينسبوا ما جاء في الشرائع الإلهية، وعلم من آداب الأديان السماوية،
إلا إلى مجرد فطنة ودهاء ، واضعها بصفة كونهم ساسة عقلاء لا رُسلاً وأنبياء.
ذلك ما يقرع الأسماع كثيرًا من بعض المخالفين في كنه العقيدة الإسلامية ، وما
القصد من ذلك إلا أن يغيض اعتقاد المسلمين في قرآنهم القائم بين أيديهم إلى الآن ،
وتنفصم عراه من قلوبهم فلا يتمسكون به حتى يضعوا أيديهم في يد أهل المدنية
الغربية، ولو آلَ الأمْرُ إلى المجازاة في مثل ذلك الرأي ونبذ عقيدة أن الدين وضع
إلهي وأن الكتاب وحي سماوي لم يكن للرسل فيه ولا للالتفاف الناس حولهم إلا
التبليغ والتبيين {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) هوَّن ذلك التساهل على سعادة صاحب المؤيد أن
ينشر على ملأ المسلمين ذلك الرأي بصورة رائقة ويجادل عنه وكله كما لا يخفى
على بصير مغامز مخالفة لصريح القرآن، هادمة لمبنى الإيمان، إذ يجعل نجاح
الدعوة المحمدية بما كان له صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق البشرية
والحنكة - التي ربما يقولون بَعْدُ: (إنها كما تكون له تكون لغيره من البشر قبله
وبعده من العقلاء المجربين، والساسة المحنكين) أكثر من كونه نبيًّا مرسلاً،
وصاحب كتاب منزل.
هكذا قال أُبَاةُ الحق من العرب ومكابروهم فيه ، وقد خصهم الله وألزمهم
الحجة ، وانتهى الأمر باعتراف المؤمن وغير المؤمن بسمو مكانة القرآن الكريم عند
من يدرك معناه ويتصور مبناه من حين نزوله إلى اليوم. أمّا الآن وقد مضى على
التنزيل أكثر من ثلاثة عشر قرنا فقد أصبحنا نُرَوِّج هذه الدعوى ونرضاها على
لسان المسيو كايتاني؛ لِيُقالَ إنَّا متساهلون متسامحون، أو متنورون متمدنون.
لست أقصد رمي سعادة صاحب المؤيد بما رمته به الجريدة من المروق لنشر
هذا المعتقد وترويجه بين المسلمين ، وإنما أقول أولاً: لا نصدق أن سعادته لا يصل
ذهنه إلى أعماق هذا الرأي وما وراءه، ولا نُسِيءُ الظن فيه بكونه يرضاه عقيدةً له؛
فلم يكن هناك إلا ذلك التساهل الذي ما ساق كثيرًا من الناس إليه الآن إلا إعظام كل
ما جاء على ألسنة متنقصينا من موافق ومخالف، والزهد فيما لدينا من تالد وطارف،
وإلا فليس ما رضيه الشيخ اليوم عن كايتاني بأهون مسًّا ولا أخف وخزًا في
أحشاء الإسلام من ذلك الرأي الغابر الذي أرهف له قلمه وجرده يقطر غيرة وحمية،
أم هي الأهواء تقبح وتحسن ما تشاء.
ما أخسرنا وأضيعنا في كل حال لو بذلنا في أغراضنا ومقاصدنا الدنيوية
إسلامنا وطوحنا بقرآننا في مهاوي التساهل الماحي ، والتسامح الماحق لدرك كلمة
تقال فينا ، أو جذب عاطفة تشهد لنا بأننا ترقينا وأدركنا من شأو المتقدمين ما تشرئب
إليه الأعناق ، وما نحن ببالغي ذلك منهم ولو صرنا لعبادتهم خاضعين.
نشأ محمد صلى الله عليه وسلم أُميًّا بين أميين ليسوا أهل ملك وسياسة حتى
بلغ الأربعين ولم يكن له من شئون دنياه في أكثر حالاته إلا الاشتغال بعبادة ربه،
والانقطاع عما فيه الناس حينئذ ، فهو إلى ذلك الحين أبعد عن مجاري السياسة،
وموالج حيل الرئاسة حتى صدع بالدعوة بلا هوادة فيها ، وسار بها من أول أمرها
وفي جميع أطوارها برعاية ربه وعناية مُرْسِلِهِ سيرًا حثيثًا كان له فيه الغلب من
أوله إلى آخره بين جدال وجلاد، وبلاء واجتهاد، والقرآن لا غير مصدره ومورده،
ومرشده ومعتمده في كل شيء.
ولقد كان يُرْجِئ الأمر حتى يتلقى فيه قرآنًا ونحن نخاطب بذلك من يتصورون
أطوار الرسالة المحمدية ، ويتخيلون حالة الأمة العربية حينئذ ، ويمضون في فهم
كتاب الله ويقدرونه قدره ، وما كان عليه العرب من النزول على حكم البيان الذي
بلغ في القرآن مبلغ الإعجاز ، فكان عليه وحده في الهداية ونجاح الدعوة المعول أكثر
من كونه صلى الله عليه وسلم على خُلُق عظيم أو ذا سياسة وحنكة.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ
وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 52-53) .
لم يَذُقْ أحد من نبغاء المسلمين اليوم ولا قبل اليوم بقرون - فضلاً عن المسيو
كايتاني حتى سعادة الشيخ علي يوسف - ما ذاق أصحاب النبي في عهده من القرآن.
وهم في حجور الوثنية، وأحضان الهمجية، فانتشلهم، وطَهَّرَهم، فكان موقع القرآن
منهم موقع الزُّلال من ذِي الغُلَّةِ، والدواء من ذي العِلَّةِ، وإلا فما كان يفعل محمد
صلى الله عليه وسلم بدون تأييد الوحي المنزل الذي هو حجته الكبرى ، وآيته
العظمى القائمة عند مَنْ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فلا يقال حينئذ: وإلا
فالقرآن بين أيدينا ولم يعمل عمله فينا {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) .
لم يرتض أصحاب رسول الله ما قاله أبو سفيان ، وقد أقبلت جموع الفتح قبيلةً
قبيلةً وهو قائم بين جمع من الصحابة وفيهم العباس أحد أعمام النبي صلى الله عليه
وسلم حتى أقبل مع أبي بكر وعمر في كتيبته الخصراء يقولون: الحمد لله وحده
صدق وعده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فقال أبو سفيان لعثمان: صار
لابن أخيك مُلْكٌ عظيم. فقال: مَهْ يا أبا سفيان ، إنما ذلك الوحي والرسالة. فكيف
نرضى أو نقبل أن يكون ما وصل إليه نبينا مِنَ الظَّفَرِ والغَلَبِ في أمْر دعوته إلى
الله بسياسته وحنكته أكثر من نبوته ورسالته؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا براءة
الحق من الباطل. فليصن سعادة صاحب المؤيد غيرته على الإسلام من أن يغمض
طَرْفه على أَذًى فيه فَرُبَّ تلميح أنكأ من تصريح، ومدح آلم من تجريح، وليحفظ
مكانته في قلوب أهل مِلَّته مِن أنْ يُحَابِيَ في دينهم على مرأى ومسمع منهم، فإنه
لا هوادة في الدين.
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الله الأنصاري
(المنار)
هذا وإن الموضوع يتسع لإطالة القول وإيراد الشواهد الكثيرة من الآيات
الكريمة والسيرة النبوية، وإنما اكتفينا بما كتبناه على عَجَلٍ في إدارة الجريدة؛ لأننا
نقصد به تذكير المسلمين، لا إقامة الحجة على المخالفين، وقد سَكَتَ صاحب المؤيد
بعد نشرنا المقالة الثانية ، ويغلب على ظننا أنه ندم على ما فرط منه ، ولكن كان
يجب عليه أن ينشر حقيقة العقيدة الإسلامية في ذلك بالمؤيد لِيَطَّلِعَ عليها من قرءوا
كتابته الأولى إِذْمَا كُلُّ مَن يقرأ المؤيد يقرأ الجريدة (وبالعكس) ولو فعل لَمَا
نشرنا شيئًا من هذا البحث في المنار.
_________
(1)
يريد بالغايات معناها اللغوي ، وهي المقاصد ، يَعْنِي الدينية ، ويعني بالأمر بتركها تركه البحث فيها؛ أي: إنه يبحث في القرآن من حيث هو كتاب اجتماعي لا من حيث هو كتاب ديني كما قال لنا مشافهة.
(2)
كتبنا هذه المقالة في إدارة الجريدة على عَجَلٍ ، ولم يكن في يدنا مصحف نراجع فيه عدد السور والآيات للشواهد التي أوردناها فيها فوضعنا الأعداد الآن ، ولم نَزِدْ في المقالة شيئًا سِوَاهَا، بل نقلت عن الجريدة بحروفها.
الكاتب: أحمد فتحي باشا زغلول
ما هي اللغة
خطبة أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية في نادي دار العلوم.
الفكر: حركة نفسية يحتاج في ظهوره إلى معونة الجهاز المخصوص الذي
يكون به الكلام. وعليه، فالكلام هو حركة ذلك الجهاز المنبعثة عن مجرد الطبع، أو
المدفوعة بالإرادة للتعبير عن حركة من حركات النفس.
ينتج من هذا أن الكلام يتنوع باختلاف الشارات التي تدل على الأفكار ، وأن
تلك الشارات تنقسم إلى قسمين: طبيعية ، وصناعية.
فالأولى هي التي تصدر عن الذات من حيث هي؛ أي: بمقتضى وجودها
المادي، وكل شارات هذا القسم عَرَضِيَّة ، مثل شارات اليد ، والرأس ، والعين ،
وبقية الأعضاء ، ومثل الأصوات التي ليست ألفاظًا ، والكلام؛ أي: النطق.
والثانية خارجة عن الذات ، وهي تحدث من تأثير الإنسان في المباديات
الخارجة عنه ، وكل شارات هذا القسم جوهرية ، بمعنى أن لها دوامًا طويلاً كان أو
قصيرًا ، كالأعلام والنقش ، أو الرسم والحفر والكتابة.
ومما تقدّم يتبين أن الكلام الطبيعي عامٌّ لِكونه مفهومًا بذاته مع جميع الناس
ومن الحيوان أحيانًا ، كما هو الحال بالنظر لشارات الأعضاء وأصوات الغضب ،
أو الاستحسان من غير أن يكون هناك اتفاق سابق على مفهوم تلك الشارات.
وعلى خلاف ذلك الكلام الصناعي أو الاتفاقي؛ لأنه عبارة عن مجموع الألفاظ
المخصوصة الموضوعة للمعاني المخصوصة ، وعن التراكيب أو الصيغ الناتجة من
تأليف هذه الألفاظ لتوصل إلى الذهن بواسطة الأذن أو العين معاني مخصوصة متفق
عليها.
وقد يتأتى أن يكون الكلام الصناعي عامًّا؛ أي: إن كل الناس يدركون المراد
منه كالرسم مثلاً ، وعلى هذا يتضح خطأ تعريفهم اللغة بأنها أصوات يُعَبِّر بها كل
قوم عن أغراضهم.
والصحيح أن اللغة: هي مجموعة من العادات المخصوصة التي تجري عليها
كل أمة في التعبير عن أغراضها بواسطة الكلام أو الكتابة ، وتقدم بيان معنى الكلام.
ولا يصح إطلاق اسم اللغة على ذلك المجموع إلا إذا كانت النسبة تامة بين
اللفظ ومدلوله؛ لأن قوة اللغة متوقفة على شِدة المطابقة بحيث إن الأذن أو العين
ترسم في ذهن السامع أو القارئ صورة المدلول كما هي، ولا يتم ذلك إلا باجتماع
شروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون لكل مدلول علامة خاصة به تدل عليه دائمًا ، ولا
تدل على غيره أبدًا.
الشرط الثاني: أن تكون هذه العلامة قابلة للتعبير بتغير المدلول وتبعًا له.
الشرط الثالث: أن تكون قابلة للاشتقاق لمدلولها ، فإذا اشتق منه مدلول اشتق
منها علامة دالة عليه بالشروط عينها.
وبناءً على ما تقدم تكون شروط اللغة الحقيقية بهذا الاسم ثلاثة أيضًا:
الأول: أن يكون تعبيرها محكمًا ، وذلك عبارة عن تمام المطابقة بين الدال
والمدلول ، ولا سبيل إلى هذا إلا إذا سهل استعمال اللفظ قَدْر المعنى، ولم يزد المعنى
عن اللفظ المستعمل لأجله ، وهذا الشرط صعب التوفر؛ فما وُفِّقت لغة حتى الآن
لِنَيْل هذه المزية ، اللهم إلا لغة علماء الرياضة ، بل إن اللغات الأخرى لن تنالها أبدًا.
الثاني: الملابسة ، وهي الخاصة الموجودة في الألفاظ والتراكيب، أي
الصيغ، تلك الخاصة التي يدرك بها الفاهم نظائر المدلول ونقائضه ، والملابسة
تقتضي تحليل الفكر الإنساني، وذلك غير ميسور عادة في اللغات الأصلية إلا
نادرًا.
الثالث: الوضوح التام ، وهو يرجع للشرطين السابقين ، ولصناعة ترتيب
الألفاظ ، وتركيب الجمل ترتيبًا وتركيبًا ينتفي معها الإبهام، ويرتفع الشك والالتباس،
ومن اللغات ما تميل بأهلها إلى الإغراب في التعبير ، وهذا هو السبب في ظلمتها
وتعسر فهمها وكلما كان القول طبيعيًّا؛ أي: بسيطًا ازداد وضوحًا ، فالبساطة هي
أمثل طرق الكلام على أنها طريقة العلم والواقع وهي التي يسهل بها التعبير عن
الأفكار وحركات النفس كما ينبغي.
وكأني بحضراتكم وقد استنتجتم مما ذكرته إلى الآن خطر مذهب التجوز أو
الاشتراك في اللغة وذكرتم أنه يذهب بجمالها، ويخفي من وضوح دلالتها ويجعلها
ثقيلة على أهلها بعيدة المنال على طُلاّبها من الأمم الأخرى.
سمعت في الاجتماعين الماضيين كلامًا كثيرًا في اللغات الأجنبية ، وأن لها
أصلاً أو أصولاً ترجع إليها، وتستمد روح التجدد منها ، فأهلها في حِلّ مما يفعلون ،
وأما نحن فلا أَصْلَ للغتنا، ويبنون على هذه المقدمة نتيجة هي أنه يجب علينا أن
نعرف كلمة أعجمية لنضيفها إلى لغتنا العربية.
الحق أني ما فهمت النسبة بين تلك المقدمة وهذه النتيجة؛ فإني أنظر إلى تلك
اللغة اللاتينية التي هي أصل لغات أمم أوروبا المعروفة بهذا الاسم من فرنساوية
وتليانية وأندلسية وغيرها ، فأجدها لغات ممتازة تمامًا عن ذلك الأصل، بل أجد
الفرنساوي من حيث هو لا يعرف كلمة واحدة من أصل لغته ، وكذلك بقية من ذكرنا
وأرى أن كل لغة حية هي لغة مستقلة قائمة بنفسها لها قواعد خاصة بها ، وتراكيب
وصيغ تميزها عن أصلها تمامًا ، فإذا استعاروا لِمُحْدَثٍ جديد اسمًا من ذلك الأصل
فإنما هم يستعيرونه من لغة أعجمية بالنظر إلى لغتهم.
ألا ترون أنهم لا يقصرون الاستعارة على اللغة اللاتينية، ويتعدونها إلى
اليونانية القديمة ، وأحيانًا يستعيرون كلمتين، من كل لغة كلمة، وينحتونها ويدمجون
هذا المزيج في لغتهم فيصير جزءًا منها ، ويفسحون له في كتب اللغة محلاًّ بين
كلمتين أصليتين بحسب ترتيب حروفه الأبجدية.
إنهم يعملون أكثر من هذا: إن لكل بلد عادات في أكلها وسكناها ولباسها
وأطوارها ، ويتبع ذلك وجود أسماء عند قوم لمسميات لا يعرفها قوم آخرون إلا أن
التجارة وطرق المواصلات تنقل هذه المسميات، أو تجعلها تشاهد في أماكنها من
النازحين إليها؛ فيرى أهل البلد ما يروق لهم من بعض تلك الخصوصيات لأهل
البلد الآخر ، ولا يجدون من لغتهم نصيرًا على التعبير عنه تمامًا ، لكنهم لا يختارون
ولا يقصدون الاجتماع تلو الاجتماع، ولا يفترقون شيعًا وأحزابًا ، بل يقدمون على
تناول المسمى واسمه ويدرجون عليه من ساعتهم فيمتزج بلغتهم، ويعرفه الكل،
ويتحرون في حديثهم أن يلفظوه كأنهم في نطقهم به من أهله، والأمثلة على ذلك لا
تُحْصَى يعرفها كل من تعلم لغة واحدة أجنبية.
هم يعملون ذلك حتى في العلوم فترى الحكيم الفرنساوي وهو يقرر مذهبه عندما يأتي على ما يخالفه من مذاهب الألمان إذا وصل إلى معنى خاص بأحدهم لم يفكر أن يعبر عنه بغير لفظه الألماني وهكذا ، ثم يذكر بهامش كتابه معناه.
ما كان هذا لِيُفْسِدَ لغة من تلك اللغات ، ولا يثير عاطفة الحنان والإشفاق عليها ،
بل ما ازدادت لغاتهم بهذا إلا طلاوة ويُسرًا ، بل تكاد هذه الطريقة تجري عند الأمم
الغربية عامَّة لتكون الألفاظ الغريبة عن لغتهم برهانًا عن سَعَة مداركهم ، ورحب
صدورهم لكل نافع وكل مفيد ، ولتكون دليلاً على مصدر المسمى ومذكرة بجزء من
ترجمته.
قالوا: إن ذلك جائز عندهم لتماثل أحرف هجائهم واتحاد صدورها وأشكالها ،
وأما نحن فلا قبل لنا على عمل ما يعملون لاختلاف أحرف هجائنا، وصورها
وأشكالها، ولست أرى في هذا الاعتراض إلا أنه دليل أحد أمرين ، فإما شعور
يعجزنا عن المجاراة لفتور في همتنا أو قصور في معارفنا ، وإما أن أحرف هجائنا
وأشكالها وصورها محتاجة هي أيضًا إلى الإصلاح؛ لنتمكن من تناول
كلمات الغير بأشكال وصور تجعلنا ننطق كلماتهم كما ينطقون، وننقل عنهم كما هم
عن بعضهم ينقلون.
نحن إما عرب أو مستعربون ، وإما أجانب عن لغة العرب أو مولدون ، فإن
كنا الأولين فلنا حقنا في التصرف بلغتنا كما تقتضيه مصلحتنا ، وإن كنا مستعربين
فبحكم قيامنا مقام أصحاب هذه اللغة وبكوننا ورثناها عنهم بعد أن بادوا ليس لأحد أن
ينازعنا في استعمال ما كان مباحًا لآبائنا من قبلنا ، وإن كنا أجانب أو مولدين فمن له
يسيطر علينا، ويحرمنا ثمرة الكدّ في حفظ هذه اللغة وتفضيلها على غيرها من سائر
اللغات ، فيلزمنا بالبقاء على القديم ويحكم علينا بالجمود واعتقال اللسان.
أَخَذَ العرب العلوم عن أهلها ، ونقلوها إلى لغتهم ، فلما وجدوا منها استعصاء
في بعض المواضع ذللوها وأخضعوا الغريب عنها لأحكامها فأيسرت ودرجت بعد
الجمود ، فكانت لهم نعم النصير على إدراك ما طلبوا من نور وعرفان.
نسينا نحن أن زماننا غير زمانهم فكانوا أصحاب حَوْل وطَوْل ، وذوي مجد
وسلطان ، ونحن على ما نعلم من الضعف والانزواء على أنهم في عِزِّهِم وبعد
فِخَارِهِم وتمكنهم من أنفسهم لم يعتزوا بلغتهم فينفروا من العُجْمَةِ؛ لأنها عُجْمَة بل
استخدموها حيث وجب الأخذ بها تمكينًا للغتهم وحذرًا من أن يصيبها الوَهْن إذا قعدوا
بها عن مجاراة تيار التقدم، وهم أَُولُو الرأي فيه ، وخوفًا من أن يعيقهم الجمود فيها
عن حفظ مركزهم العظيم بين الأمم التي كانت تعاصرهم.
أيجوز لنا أن نتخلف عن السير في طريقهم، والاسترشاد بهديهم، والعمل
بطريقتهم بحجة أنهم انقرضوا وبادوا ، فلا حق لنا في متابعة الرقي ، ولا يجوز أن
نخطوا بعدهم خطوة إلى الأمام؟ لكن من الذي استأجرنا حراسًا من الخرس على هذه
الوديعة؟ وبأي قوة أخضعنا على الوقوف هذا الموقف؟ موقف الاستكانة، وقطع
الرجاء، وفقدان الهمة، وانحلال العزائم؟ أنقص في الأفهام، أم قصر في الأجسام،
أم جهل بأنا من البشر لنا كل حقوق الإنسان؟
ليس لنا أن نتمسك بالقديم لقدمه وإن أصبح عديم الجدوى، وإلا فأولى بنا أن
نكف عن الدرس والمطالعة ، وأن نكتفي من كل شيء بما ورثنا عن الآباء لنعيش كما
عاش الأوَّلُون.
غير أني أرجوكم أن تتعلموا الصبر فلا تجزعوا إذا أصابتكم مصائب التقدم
فتركتم آخر القوم، ولا تحزنوا إذا هَصَرَتْكُمْ عوامل الرُّقِيّ ، فَمُنِيتُمْ بِمَن يقف
متفرجًا عليكم وأنتم كالصور المتحركة الناطقة ، لكنها تتحرك بحركة هي عبارة عن
اهتزاز الشيء مكانه ، وتنطق بلغة دائرة قد خَلَتْ من العلم الذي أصبح دارجًا على
ألسنة المتفرجين.
جزع خصوم مذهبنا على اللغة العربية، وحسبوها طعامًا سهل التناول والهضم
في مَعِدِ اللغات الأعجمية ، فاستجاروا من التعريب ، وصاحوا: إننا لا نطيق اسمًا
عجميًّا يدخل عليها.
أليست هي تلك اللغة الحافلة بالألفاظ والتراكيب العالية والقول الفصيح ،
المصونة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي لن تتأثر ببعض
كلمات تدخل عليها في كل عام ، بل إن هذا العمل مما يؤيدها ، ويشد أزرها، ويرفع
مقامها بين اللغات فلا يطمع الأعاجم في اعتبارها من اللغات الميتة.
قالوا: ذلك يفسد علينا لغة القرآن ، وما أشد ما أجاب به عن هذا الاعتراض
حضرة الفاضل السيد رشيد أفندي فلا خوف على القرآن ما دام في الوجود مسلم.
ألا ترون أن القرآن محفوظ مصون عند من لم يعرف العربية من المسلمين، إليكم
الترك والهند والصين والقوقاز والروسيا تلك أُمَم تعد خلقًا كثيرًا من المسلمين ،
لا يعرف الواحد منهم غير لغة أمته وهو مع ذلك يحرص على القرآن أشد من
حرص الجبان على دمه.
أيعجزكم أن تحافظوا على القرآن بيمينكم ، وتفسحوا المجال في لغتكم للتقدم
باليسار؛ لتنالوا السعادتين ، وتكونوا من الناجحين في الدارين؟
قالوا: العلم النافع. قالوا: كثير منه مخالف للدين. قالوا: الحضارة تهددنا
فلنتقها بها. قالوا: هي تخالف الدين. قالوا: حدثت مستحدثات ، فسموها. قالوا:
حرام عليكم إن كنتم فاعلين. من جَرَّاء هذا قال الفرنج عنا أنا قوم جامدون ، وما
جمودنا إلا من الدين ، فصِحنا مع هذا ، وقلنا لهم: بل أنتم قوم ظالمون.
ما لنا وللدين نَجُرُّهُ في كل أمر ونقيمهُ حاجزًا في وجه كل باحث حتى في
الأمور التي يأمر هو بتناولها. يأمرنا الدين بتعلم ما خلق الله ، وأن نسير على سنة
التقدم التي سَنَّها للبشر ونحن كل يوم في إحجام بدعوى يعلم الله مقدار بُعْدِهَا عن
الحق والصواب.
عليكم بالتقدم فادخلوا أبوابه المفتحة أمامكم ، ولا تتأخروا؛ فلستم وحدكم في
الوجود ، ولا نقدم لكم إلا بلغتكم، فاعتنوا بها، وأصلحوها، وَهَيِّئُوها؛ لتكون آلة
صالحة فيما تبتغون ، لكن لا تكثروا من الاشتقاق الخارج عن حد القياس المعقول ،
ولا تشوهوا صورتها الجميلة بتعدد الاشتراك أو التجوز ، ثم لا تقفوا بها موقف الجمود
والعُجْمَة تهددها على ألسنة العامَّة، وهي لا تلبث أن تدخل على لغة الخاصَّة.
أقيموا في وجه هذا السيل الجارف سدًّا من الاشتقاق المعقول والترجمة الصحيحة
والتعريب عند الضرورة لتكونوا من الناجحين. اهـ
(المنار)
ألقى أحمد فتحي باشا هذه الخطبة في الاجتماع الثالث لنادي دار العلوم ، وزاد
عليها ما جادت به البديهة ارتجالاً من الفوائد والنصائح. وخطب بعده حفني بك ناصف رئيس النادي خطبة مطولة في اللغة وفنونها. واتفق الجمهور بعد ذلك على
وجوب التماس الألفاظ العربية للمستحدثات بالترجمة والتَّجَوُّز والاشتقاق، ثم يلجأ
إلى التعريب إن لم يتيسر ذلك وقد كتب إلينا النادي صورة هذا الاتفاق بالعبارة الآتية ،
وأرسلها إلى جميع الصحف المشهورة:
قرار نادي دار العلوم
في الترجمة والتعريب
هذه صورة القرار الذي صدر بنادي دار العلوم في الساعة العاشرة من مساء يوم
الخميس 20 فبراير 1908 بعد سماع ما قاله جميع الخطباء في موضوع تسمية
المسميات الحديثة ، فقرر أن يكون العمل على النحو الآتي:
يُبْحَثُ في اللغة العربية عن أسماء للمسميات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة ، فإذا لم يتيسر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية ، ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلف لهذا الغرض.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
رئيس النادي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حفني ناصف
(المنار)
قد تحامى رئيس النادي في عبارته اللفظ الذي اتفق عليه جمهور من حضروا
الاجتماع الأخير من أعضاء النادي وغيرهم وهو لفظ (التعريب) فقال (يُستعار
اللفظ الأعجمي) وهو يرمي بذلك إلى عدم تسمية ما يؤخذ من الكَلِمِ الأعجمي
مُعَرَّبًا محافظةً على اصطلاح المتقدمين. ولكنه عَبَّر بلفظ اصطلاحي آخر من
الاستعارة ، وهو لا يقصد به معنى الاستعارة في فن البيان ، وإنما يقصد معناه
اللغوي المرافق للاصطلاح الشرعي ، والمتبادر أنه يرمي بذلك إلى أن هذا الأخذ
يجب أن يكون من قبيل العارية التي تستعمل زمنًا، ثم تُرَدُّ ، ولكن هذا خلاف ما
وافق عليه الجمهور كما تقدم ، ولعله قرار خاص لمجلس إدارة النادي. وعلى هذا
يكون الخلاف في المسألة على حاله.
_________
الكاتب: علي سيد يوسف
الدين الإسلامي والمدنية
رسالة لصاحب التوقيع اقتبس بها بعض شهادات علماء الإفرنج للإسلام
والعرب. نشرناها ترغيبًا لمثله في هذا الموضوع وإن سبق لنا نشر هذه الأفكار في
المنار.
(فهرس)
حالة العالم قبل وجود الديانة الإسلامية - حقيقة الديانة الإسلامية - أخلاق
محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته - الدين الإسلامي دين الفطرة - الدين
الإسلامي دين المدنية والترقي - سديو ودروي - إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم
- قول العمرانيين فيه - حكم المؤرخين عليه - الإسلام ليس بدين جديد - الدين
الإسلامي ليس بالدين الضيق - كل رقي في العلوم الطبيعية يدعو إلى التقرب من
الديانة الإسلامية - الدين الإسلامي هو أنشودة الفلاسفة في المستقبل.
إني أكتب ما أكتب عالمًا عِلْمَ اليقين أن الديانة الإسلامية ليست بالشيء
العويص الذي لا يمكن للإنسان استكناه مجاهيله، أو استشفاف مساتيره، بل هي مما
يمكن تحققها بالاختبار والتجربة إذا صعد الإنسان بِمنْطَاد بحثه إلى سماء الحقيقة
غير متعصب لفريق دون آخر؛ فبهذا يطل الإنسان على كبد حقيقتها ، ويعرف
كُنْهَهَا من سموّ ترتيبها ومتانة قواعدها وإحكام نظامها ، فيحكم بأنها ليست بالديانة
التي أوجدتها قريحة آدمي مهما حاز الصفات والكمالات ولكنها هي هداية إلهية،
يخالف جوهرها جوهر الأفكار البشرية.
ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب وقد كان قومه في هُوَّةِ
الانحطاط بَعيدين عن التمدن والرقي الفكري ، يدلُّك على ذلك وَأْدُهُمْ لِبَنَاتِهِمْ وهُنّ
على قيد الحياة ، وعبادة الأوثان ، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي تقضي
بمتبعها إلى الخسران والهلاك المبين ، وليست بلاد العرب فقط هي التي كانت في
تلك الحالة بل ما جاورها أيضًا من بلاد الرومان في الغرب، وبلاد العجم في الشرق ،
فإن هاتين الدولتين كانتا يتنازعان الحياة ، وناهيك بما حصل في شأن ذلك من الفتن
والقلاقل التي لم تدع قلبًا سليمًا في البشرية يتمتع بالراحة إلا وَأَسْقَتْهُ مما هو أمرّ من
الصابِ والعَلْقَم - كل هذه القلاقل المزعجة والكوارث المُدْلَهِمَّة جاء الإسلام ليمحوها
من على ظهر الوجود، وليؤيد السلام العام، والوئام التام، وليكون واسطة بين
التمدن الحديث وبين التمدن القديم ، فلم يمض غير قليل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
إلا ورأينا بلاد العرب في وقت واحد ترسل جيشين ، أحدهما: لمحاربة
القياصرة ، والثاني: لمحاربة الأكاسرة ، ففتحوهما وانهالت عليهم خيراتهما وظلوا
ناهجين في التقدم إلى أن بلغوا في ظرف ثمانين سنة ما لم يبلغه الرومان في ظرف
ثمانية قرون ، واستخرجوا كنوز اليونان والأعاجم والهنود في العلوم والمعارف ،
وبلغوا الطبقة الثالثة من الرقي في العلوم الطبيعية، وهي طبقة الامتحان والتجربة ،
وإليك شهادة عالم من كبار علماء الطبيعة.
قال: (يجب علينا مَعَاشِرَ الباحثين أن نهتم بالكنوز التي تركها العرب؛ فإن
فيها حقائق وأفكارًا سامية تدعو إلى الاكتشاف والاختراع؛ لأن العرب تقدموا في
العلوم الطبيعية تقدمًا مدهشًا للغاية حتى بلغوا الطبقة الثالثة من الرقي فيها ألا وهي
طبقة الامتحان والتجربة ، وناهيك أن نظرية الانحراف في الضوء لم يكن ترقيها إلا
بواسطة ما عثرنا عليه في مؤلفات الخازن) .
وقال العلاّمة سديو في البحث السادس عشر من تاريخه في اشتغال العرب
بالعلوم الرياضية: (لما اشتغل العرب بالفلك التفتوا إلى العلوم الرياضية، فأتوا
بالعجب العجاب في الهندسة والحساب والجبر وعلم الضوء والميكانيكا، وترجموا
من ابتداء خلافة المأمون هندسة أقليدس وتيودوس وأبولونيوس وو
…
وشرحوا مؤلفات أرشميدس في الكرة والأُسْطُوَانَة وغيرها ، واشتغلوا قرونًا بدقائق
الهندسة ، وظهرت حميتهم في المناظرات العلمية خصوصًا في المراسلات
الرياضية، وطبقوا الجبر على الهندسة، وترجموا كتب هيرون الصغير في الآلات
الحربية وقطيزيبوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه ،
وألف حسن بن هيثم في استقامة النظر وانعكاسه في المرايا التي تحدث النار ، وألف
الخازن في علم الضوء والنظر كتابًا في انكسار الضوء ، وفي المحل الظاهر
للصورة من المرايا المنحنية ، ومقدار الأشياء الظاهرة وكبر صورتي الشمس والقمر
إذ رُئِيَا على الأفق عند الشروق أو الغروب) .
وقال أيضًا دروي في تاريخه: بينما أهل أوربا تائهون في دُجَى الجهالة لا
يرون الضوء إلا من سَمِّ الخِيَاط إذ سطع نور قوي من جانب المِلَّة الإسلامية من
علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك حيث كانت بغداد والبصرة
وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة
المعارف ، ومنها انتشرت في الأمم ، واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة
مكتشفات وصناعات وفنونًا عظيمة.
وهذه هي أقوال الفلاسفة وكبار المؤرخين في الديانة الإسلامية شهادة علنية
على أن الدين الإسلامي دين الترقي والمدنية. هذه هي آثار الدين وآثار أهله الذين
تمسكوا به ، وأما حقيقة الدين فهي كما قال مسيو مسمير رئيس الإرسالية المصرية
ردًّا على الفيلسوف أرنست رينان في خطبة له في جمعية العلماء: (نحن مَعَاشِرَ
المحققين من الفلاسفة نقول: إن من تأمل كلام القرآن رأى أن محور الإسلام
الوحدانية وقطبيه المؤاخاة وتحسين شئون العالم بالتدريج بواسطة العِلْم وهذه هي
حقيقة أسباب نصرة الإسلام) .
وقال كاتب آخر من مشاهير كتاب الغرب في مجلة (الكوارترلي رفيو) في
مقالة عنوانها: (الأسباب الحقيقية في ارتفاع وانحطاط الأمم الإسلامية) : لما كان
الدين الإسلامي جامعًا بين الدين والدنيا كان ذلك من أهم أسباب كثرة الواردين إليه ،
فإن الرجل عندما يسلم يصبح أخًا لثلاث مائة مليون من النفوس ، له ما لهم وعليه ما
عليهم ، وَلَعَمْرِي إن ذلك مما يزيد علائق المَحَبَّة ويربط الهيئة الاجتماعية ، ثم
استدل على ذلك بكلام كتبه بوسويرث سميث في كتابه المسمى (محمد والديانة
المحمدية) لا حاجة لنا بسرده في هذا المقام.
يرى القارئ الكريم من خلال هذه السطور التي كتبناها عن الديانة الإسلامية -
مستندين على أقوال الفلاسفة والحكماء وكبار المؤرخين والكتاب - أن الديانة
الإسلامية تزداد كل يوم في الحجج ، ويشهد العلماء المحققون بروحانيتها حتى إن
المسيو أرنست رينان - الذي حمل حملته على الديانة الإسلامية والعلوم العربية -
كتب بعد أن زَمْجَرَ وأوعد، وأبرق وأرعد: (إن في دين الإسلام أحكامًا رفيعة
المقام ، وما دخلت جامعًا إلا وحصل لي انجذاب لدين الإسلام ، وتأسفت على عدم
كوني مسلمًا لولا أن هذا الدين أَخَّرَ العقل البشري، وحجبه عن التأمل في حقائق
الأشياء) ولكن عبارة مسيو رنان الأخيرة ليس لها أدنى نصيب من الصحة ، وقد
علم من كلامنا الذي أسلفناه الجواب الشافي من علة المسيو رنان.
وإلى هنا نمسك عِنَان اليَرَاع عن الخوض في هذا الموضوع؛ فإن في ذلك القدر الكفاية لأرباب العقول والهداية.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
علي سيد يوسف
(المنار)
إن حَكِيمَي الإسلام السيد جمال الدين والأستاذ الإمام قد رَدّا في أوربا على
رينان، وقطعا ما جاء به من الزور والبهتان بسيف الحجة والبرهان حتى اضطر
إلى الإذعان، فرحمهما الله وحباهما الروح والريحان.
_________
الكاتب: عالم غيور
كلمات عن العراق وأهله
لعالم غَيُور على الدولة ومذهب أهل السنة
العراق ولا أَزِيدك به عِلْمًا من أفضل الأقطار تربةً ، وطيب هواء ، وعذوبة
ماء ، وبه أنهار عظيمة كدجلة والفرات ورياله وقارون ، تنساب فيه انسياب
الأُفْعُوَان، وتخترق منه كل مكان، غير أن أكثره خراب، ينعق فيه البوم والغراب؛
لعسر المواصلات ، وفقد الأمن ، وحرمانه من نور المعارف والمدنية. والحكومة
فيه كما هي في غيره: عبارة عن شركة سلب ونهب وفساد تعمل في خراب البلاد
وهلاك العباد، وهم في غمرتهم ساهون، وعن الدسائس الأجنبية عَمُون، حتى
أصبح بر العراق كله متسلحًا بالسلاح المارتين مما ترسل به إنكلترا كل حين
بوسائل متوفرة لديها، ووسائط سهلة عليها.
ومن البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق كله حتى أصبح ثلاثة
أرباع أهله شيعيين وذلك بفضل جدّ مجتهدي الشيعة وطلبة العلوم منهم، ومؤازرة
الحكومة لهم، بأخذها على يد أهل السنة عن مقاومة سعيهم، وخفض كلمتهم، وفي
النَّجَف مجتمع مجتهدي الشيعة وفيه من طلبة العلوم ستة عشَر ألفًا. ودأبهم أنهم
ينتشرون في البلاد ويجِدُّون في إضلال العباد، ولذلك يحسب عقلاء العراق أن
القطر قد انسلخ من الدولة ، ولم يبق لها فيه من الرسم إلا الاسم.
ولقد استحكمت النفرة منها في قلوب الجميع فلا يذكرونها بلسانهم، وقلما
يراجعونها في شئونهم، ولقد استطلعت وأنا أتقلب في البلاد طوايا النفوس من أمير
ومأمور، وعالم وجاهل، فوجدت الكل في ضجر وسخط، وملل وهم من صلاحها
يائسون، وبسوء إدارتها ساخرون، وذوو العقول والفضل منهم في كَمَد، قد أرهق
منهم الجسد، وهم شاعرون بضرورة الإصلاح، وأن لا حياة للإسلام
بدونه ولا نجاح، وقد أعدتهم الحوادث والعِبَر لتحسس هذه الروح ، وتلمس المخرج
مما هم فيه، وتراهم مع غلبة اليأس منه لا تزال تتناجى به نفوسهم، وتحنّ إليه
أرواحهم، وتلهج به ألسنتهم، ولكنهم في محيط مظلم وضغط مؤلم، لا يهتدون
الطريق، ولا يجدون الرفيق، ولا يصل إليهم من آثار دعاة الإصلاح إلا النَّزْر
القليل؛ لشدة المراقبة على هذا الأمر الجليل، ولقد تطلبت المنار، فلم أجد له أثرًا في
تلك الديار.
ولقد اجتمعت بكثير من علماء بغداد وعقلائها وأشرافها ، ولم أر فيهم أجمع
لفنون الفضل، وصفات الكمال كشكري أفندي الآلوسي وابن عمه الحاج علي أفندي ،
فلقد رأيت من سَعَة اطلاعهما ، وقوة دينهما ، وسلامة عقيدتهما السلفية ، واستنارة
عقولهما ، ووقوفهما على حكمة الدين وأسراره، واطلاعهما على أمراض الإسلام
والتهابهما غيرة وحمية على الدين ، ومجاهدتهما في سبيله فريقًا من الجامدين من
المقلدة وعباد القبور - ما بهرني وعشقني فيهما.
ولقد أوذوا في هذا السبيل ، وامتحنوا فما ضعفوا وما استكانوا ولا يزالان
يصدعان بالحق ، ويهتفان بضرورة الإصلاح مع منازعة اليأس لهما. وأعداؤهما
من عبدة القبور والأوهام وأنصار التقليد والخرافات ينبذونهم باسم الوهابية؛
لينفروا منهم، ويحرضوا الحكومة على اضطهادهم غير أن حزبهم من ذوي
العقول النيرة وطلاب الإصلاح أخذ ينمو عدده، ويكثر عضده، وكلهم أَوْجُلُّهم من
الأعيان، وذوي المكانة ورفعة الشأن، ولم أر أحدًا يقدر مؤلفات ابن تيمية وابن
القيم قدرها مثلهما ولهما تعشق غريب فيها، وقد سعيا في طبع الكثير منها، وهمتهما
مصروفة وراء تتبعها والسعي في طبعها لا طمع لهما في ذلك سوى خدمة العلم
والدين ، فَلِلَّهِ دَرُّهُمَا وعلى الله أجرهما
…
ولشكري أفندي قوة على التأليف عجيبة وقد ألّف في رمضان ردًّا على الشيخ
يوسف النبهاني في سبعين كراسًا بياضًا من دون تسويد ، وقد تكفل بطبعه أحد تجار
جده فأرسله إليه ، وهو كتاب نفيس يقضي على النبهاني قضاءً لا يسمع له
صوت من بعده؛ والسبب في ذلك أنه ألَّف رسالة في تضليل ابن تيمية وابن القيم ،
وانتقصهما ما شاء ، ثم عدّ من مصائب الدين انتداب بعض الزائغين في زعمه لنشر
مؤلفاتهما وتمثيلها للطبع ، وندد بالشيخ نعمان أفندي الآلوسي رحمه الله لتأليفه كتاب
(جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) وذمه وذم عائلته ، وذكر أنهم أصيبوا بالمحن ،
فلم يعتبروا ، ولا اتعظوا ، ويزعم أنه من مجددي الدين في هذا العصر. وهكذا
بلغ به الغرور إلى هذا المبلغ والجنون فنون. اهـ ما أردنا نشره من هذه الرسالة ،
ويليه كلام حسن في الأستاذ الإمام والمنار وصاحبه يتعلق بالإصلاح أضربنا عن
ذكره مع حمد كاتبه وشكره.
ونقول: قد ذكرتنا هذه الرسالة بما كنا كتبناه في المجلد الثاني من المنار (في
رمضان سنة 1317) من نشر مذهب الشيعة في العراق وهذا نصه:
قرأنا في بعض الجرائد أن الدولة العلية قد عزمت على إرسال بعض العلماء
إلى سَنَاجِق البصرة والمنتفك وكَرْبَلَا لإرشاد القبائل الرحالة هناك ، وقرأنا في بعضها
أنه قد صدرت الإرادة السنية بذلك فعلاً ، ونحمَد الله تعالى أن الدولة العلية قد تنبهت
لهذا الأمر قبل أن يخرج من يدها بالمرة ، فقد سبقها الشيعة ، وبثوا الوعاظ
والمرشدين في هذه القبائل وغيرها من العُرْبَان الضاربين على ضفاف الدجلة
والفرات فأدخلوا معظمهم في مذهب الشيعة.
يذهب المُلا الشيعي إلى القبيلة ، فيمتزج بشيخها امتزاج الماء بالراح بما
يسهل عليه من أمر التكاليف الشرعية ويحمله على هواه فيها كإباحة التمتع بالعدد
الكثير من النساء الذي له الشأن الأكبر عند أولئك الشيوخ ، وغير ذلك؛ حتى يكون
وليجته وعيبة سره ومستشاره في أمره ، فيتمكن المُلَاّ بذلك من بث مذهبه في القبيلة
بأقرب وقت ، ويكتفي من السياسة غالبًا بإفهام القوم أن رئيس طائفة الشيعة
المحقة شاه العجم ورئيس الطائفة الأخرى المسماة بالسنية السلطان عبد الحميد ،
ولا شك أن هؤلاء يكونون عونًا لرئيس مذهبهم إذا وقع نزاع (لا قدر الله) بينه
وبين رئيس المذهب الآخر وإن كانوا في بلاد الآخر ، ويمكن للدولة العلية أن تتدارك
الأمر بعض التدارك إذا كان الذين تختارهم للإرشاد والتعليم أهل حكمة
وغيرة حقيقية يهمهم الإصلاح والإرشاد ، بحيث يقدمونه على منافعهم الشخصية على
أن الذي يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة لا يحرم من أجر الدنيا ، بل ربما كان
نجاحه أتم ، وقد استغنى جميع دعاة الشيعة في تلك القبائل مع حصولهم على غرضهم
في نشر المذهب. وليبدأ دعاة الدولة العلية بمن على الفرات ، فإن فيهم عددًا
كبيرًا لم يزل على مذهب أهل السنة، والله الموفق. اهـ (من ص687م2) .
هذا ما كتبناه من نحو تسع سنين. ونقول الآن: إن أكثر من أجابوا دعوة
علماء الشيعة هناك لم يكونوا على شيء من مذهب أهل السنة ، فإذا كان أولئك
الدعاة يبثون فيهم الوعاظ يعلمونهم الفرائض وأحكام الحلال والحرام ، فإن ذلك يكون
خيرًا لهم في دينهم من الحالة التي كانوا عليها، فنحن لا نعد الأمر من الجهة الدينية
بلاءً نازلاً كما عدَّه الأستاذ كاتب الرسالة ، ولكن الأمر مهم من الجهة السياسية؛ فإن
السياسة هي التي كانت ولا تزال مَثَار الخلاف بين أهل السنة والشيعة ، ولولاها لَمَا
كان خلاف وما أضاع الدين والدنيا علينا إلا الخلاف.
وقد كان طلاب الإصلاح بالوحدة الإسلامية مغتبطين بما حصل هذه في السنين
الأخيرة من التآلف والتعارف بين الفريقين ، حتى وقع أخيرًا ما وقع من التعدي على
الحدود ، فباتوا يخشون أن تهدم السياسة السوءى في سنة واحدة ما بناه دعاة الإصلاح في عشرات من السنين. فنسأل الله أن يقي الإسلام شرها ويكفي المسلمين فتنتها
وضرها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من الحجاز
القُطْب والأبدال والأنجاب والخَضِر وسند أهل الطريق
(س 1 - 7)
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
حضرة الأستاذ الحكيم والمصلح العظيم علامة الزمان سيدي العزيز السيد
محمد رشيد رضا منشئ المنار حفظه الرب المنان.
أحييكم تحية تليق بمقامكم الكريم، وأسأل الله تعالى أن يحفظكم بحفظه
السَّرْمَدِيّ ، وأن يهدي الله بكم الضالين. وها أنا ذا مقدم لمقامكم الكريم أسئلة ذات
بال نرجوكم الجواب عنها على صفحات مناركم المنير:
ذكر الشيخ يوسف النبهاني في كتابه شواهد الحق (ص101) أحاديث استدل
بها على وجود الأقطاب والأبدال والأنجاب والأوتاد والنقباء ، ووجود الخضر عليه
السلام ، وهذا لفظها:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن
لله تعالى في الأرض ثلاثمائة قلبهم على قلب آدم ، وله أربعين قلوبهم على قلب
موسى ، وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم ، وله خمسة قلوبهم على قلب جِبْرَائِيلَ ،
وله ثلاثة قلوبهم على قلب مِيكائيل ، وله واحد قلبه على قلب إسرافيل ، فإذا مات
الواحد أبدل الله سبحانه وتعالى مكانه من الثلاثة. إلخ.
عن علي رضي الله عنه أنه قال: البدلاء بالشام ، والنجباء بمصر ،
والعصائب بالعراق ، والنقباء بخُرَاسان ، والأوتاد بسائر الأرض ، والخضر عليه
السلام سيد القوم. إلخ
ولم يذكر النبهاني سندًا ، ولا من أي كتاب من كُتُب الحديث أخرجها ،
فأرجوكم أن تفيدوني: هل تصح هذه الأحاديث؟ وهل الخضر عليه السلام حي إلى
هذا الزمان؟ وما قولكم فيمن يُكذِّب بوجود الخضر وغيره من الأقطاب؟ نرجوكم
الجواب الكافي الشافي.
وفي كتاب النبهاني شواهد الحق ص132 يقول: إن الشيخ الأمير أجازه
بثبته ، وما اشتمل عليه من علوم الشريعة والطريقة ، ومن معقول ومنقول وذكر سنده
من الأمير إلى الحسن البصري عن سيدنا علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
عن جبريل ، عن ميكائيل ، عن إسرافيل ، عن عزرائيل ، عن اللوح ، عن القلم ،
عن الرب الجليل جل جلاله ، وتقدست صفاته وأسماؤه.
أرجوكم أن تفيدوني عن هذه الإجازة بهذه الصيغة المذكورة ، هل هي معتبرة
عند المحدثين ويعمل بها ، أم هي ضرب من الخرافات؟ وما على من أنكرها؟
وهل يصح اجتماع الحسن البصري بسيدنا علي أم لا؟ ؛ أفيدوني ، ولكم الأجر
سيدي.
في كتاب النبهاني صحيفة 130 قال: ومن كتب الإمام ابن تيمية كتاب العرش ،
قال في كشف الظنون: ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلس على العرش ، وقد
أخلى مكانًا يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر ذلك أبو حيان في
النهر في قوله سبحانه وتعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (البقرة:
255) وقال، يعني أبو حيان: قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية ما صورته
بخطه. انتهت عبارة كشف الظنون ، ثم نقلها من طريق آخر عن السبكي
وحط على الشيخ ابن تيمية ، ونسبه إلى القول بالتجسيم وهو بَرَاء من ذلك.
فلما رأيت هذه العبارة بحثت عن كتاب العرش ، ووجدته عند بعض
الأصدقاء ، فقرأته مِرَارًا ، ونسخته بيدي من النسخة ، وما وجدت لهذه العبارة رائحة ،
والنسخة التي قرأتها ونسختها هي بخط يماني بدون نقط الظاهر أنها من عهد قديم ،
وكادت أن تمزق من قِدَمِها ولحقتها الأَرَضَة. فما قولكم في هذه العبارة؟ أيجوز نسبتها
إلى هذا الإمام بعد أن بحثنا عنها ، فما وجدناها في كتابه؟ أفيدوني ولكم الأجر
سيدي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محبكم بالحجاز
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... م ح ن
(أجوبة المنار)
نقول قبل كل شيء: إن الشيخ يوسف النبهاني لا يوثق بعلمه ولا بنقله، ولا
ينبغي أن تحفلوا بكتبه، وقد سُئِلْنا غير مرة عن بعض الخرافات التي يبثها في كتبه
الملفقة ، فلم نجب السائلين بشيء؛ إذ كان يتوقف ذلك على مراجعة الكتب التي يسألون عما ورد فيها ، وأي عاقل يسمح بإضاعة وقته في مراجعة تلك الكتب. أما
وقد ذكرتم في هذا الرقيم ما سألتم عنه؛ فإليكم الجواب ، والله الهادي إلى الصواب.
أما الجواب عن السؤال الأول ، فاعلم أنه قد ورد في الأبدال عدة روايات لا
يصح منها شيء ، وإن أشار في كنز العمال إلى تصحيح حديث علي عند أحمد
(الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً ، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً
يسقي بهم الغيث ، وينتصر بهم على الأعداء ، ويصرف عن أهل الشام بهم
العذاب) وفي رواية عنه إنهم ستون. وفي رواية عن عُبَادة عند أحمد ، وأخرى
عن أبي هريرة أنهم ثلاثون أخرجها عنه ابن حبّان في تاريخه.
ولم أرَ أحدًا من المحدثين الحفاظ خرج ما ذكره النبهاني عن علي ، ولكن ذكره
ابن حجر الهَيْتَمِيّ في الفتاوى الحديثية على أنه من كلام علي كرّم الله وجهه ، لا من
روايته المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك حديث ابن مسعود لم أر
من أخرجه عنه باللفظ الذي ذكره. ولكن ابن حجر أورده في فتاواه بعد أثر علي
عازيًا إياه إلى اليافعي (وذكر في نسخة الفتاوى المطبوعة بمصر الرافعي وهو غلط
مطبعي) ، ولم يقل عن ابن مسعود ، ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
وكان ابن حجر نقل عن اليافعي أن الأبدال سبعة على الأصح؛ ولذلك قال
بعد أن أورد حديثه: (والحديث الذي ذكره - إن صح - فيه فوائد خفية ، منها
أنه مخالف للعدد السابق قبله ، ومنها أنه يقضي أن الملائكة أفضل من الأنبياء، يَعْني
خلافًا لجمهور أهل السنة) . إلى آخر ما قاله على تقدير صحة الحديث ، وما
هوبصحيح ، فلا حاجة إلى التعب في استنباط الفوائد والمباحث فيه. ثم قال ابن حجر
بعد بحثه فيه: واعلم أن هذا الحديث لم أر من خرجه من حفاظ المحدثين الذين
يُعتمد عليهم ، ولكن وردت أحاديث تؤيد كثيرًا مما ورد فيه.
وذكر ما ورد وحاول تقويته بالحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من
طرق كثيرة ، وهو: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق ، لا يضرهم من
خذلهم ، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ، وهم ظاهرون على الناس) ثم نقل
عن الإمام أحمد أن الأبدال هم أهل الحديث ، وعبارته: (إن لم يكونوا أهل الحديث ،
فمن هم؟) واعتمد ابن حجر أن الخلاف في العدد من قبيل الاصطلاح.
ثم ذكر واقعة له مع مشايخه في ذلك، نذكرها هنا لِما فيها من الدلالة على
أنهم كانوا يقلدون المتصوفة في هذه المسائل من غير أن يقوم عليها دليل من النقل.
قال:
(ولقد وقع لي في هذا المبحث غريبة مع بعض مشايخي هي أني إنما رُبِّيت
في حجور بعض أهل هذه الطائفة - أعني القوم السالمين من المحذور واللوم - فوقر
عندي كلامهم؛ لأنه صادف قلبًا خاليًا فتمكن. فلما قرأت في العلوم الظاهرة وسني
نحو أربعة عشر سنة (كذا) فقرأت مختصر أبي شجاع على شيخنا أبي عبد الله الإمام
المجمع على بركته وتنسكه وعلمه الشيخ محمد الجويني بالجامع الأزهر بمصر
المحروسة ، فلازمته مدة ، وكان عنده حدة ، فَانْجَرَّ الكلام في مجلسه يومًا إلى ذكر
القطب والنجباء والنقباء والأبدال ، وغيرهم ممن مر ، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك
بغلظة ، وقال: (هذا كله لا حقيقة له ، وليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه
وسلم) فقلت له - وكنت أصغر الحاضرين معاذ الله بل هذا صدق وحق لا مرية
فيه؛ لأن أولياء الله أخبروا به ، وحاشاهم من الكذب. وممن نقل ذلك الإمام اليافعي ،
وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة.
فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه علَيّ ، فلم يَسَعني إلا السكوت فسكتُّ وأضمرت أنه
لا ينصرني عليه إلا شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين وإمام الفقهاء والعارفين أبويحيى
زكريا الأنصاري ، وكان من عادتي أني أقود الشيخ محمد الجويني لأنه
كان ضريرًا ، وأذهب أنا وهو إلى شيخنا المذكور - أعني شيخ الإسلام زكريا -
يسلم عليه. فذهبت أنا والشيخ محمد الجويني إلى شيخ الإسلام ، فلما قربنا من
محله قلت للشيخ الجويني: لا بأس أن أذكر لشيخ الإسلام مسألة القطب ومن دونه
وننظر ما عنده فيها. فلما وصلنا إليه أقبل على الشيخ الجويني ، وبالغ في إكرامه ،
وسؤال الدعاء منه ، ثم دعا لي بدعوات منها:(اللهم فقهه في الدين) وكان كثيرًا ما
يدعو لي بذلك، فلما تم كلام الشيخ ، وأراد الجويني الانصراف قلت لشيخ الإسلام:
يا سيدي القطب والأوتاد والنجباء والأبدال وغيرهم مِمن يذكره الصوفية هل هم
موجودون حقيقةً؟ فقال: نعم ، والله يا ولدي، فقلت له: يا سيدي إن الشيخ -
وأشرت إلى الشيخ الجويني - ينكر ذلك ويبالغ في الرد على من ذكره. فقال شيخ
الإسلام: هكذا تفعل يا شيخ محمد؟ وكرر ذلك عليه حتى قال له الشيخ محمد: يا
مولانا شيخ الإسلام آمنت بذلك وصدَّقت به وقد تُبْت. فقال: هذا هوالظن بك يا
شيخ محمد. ثم قمنا ، ولم يعاتبني الشيخ الجويني على ما صدر مني. اهـ
فيؤخذ من هذه الواقعة أمور (منها) : أن ابن حجر الهيتمي تربى في حِجر
بعض أهل الطريق ، وصار تقليدهم وجدانًا له لا يقبل فيه قول مشايخه ، وإن كانوا
عنده من أئمة العلم والعمل والتنسك كالشيخ الجويني ، وهذا هوالسبب في إنكاره
الشديد على شيخ الإسلام ابن تيمية ، الذي كان لا يقبل في الدين شيئا إلا إذا ثبت في
الكتاب أوالسنة نصًّا أودلالة. ومن اتبع وجدانه وشعوره النفسي في الأمر لا يقبل
فيه دليلاً وقد قال الأستاذ الإمام: (إن غاية التصوف جعل الدين وجدانًا للإنسان
الذي يتربى عليه ، لا يقبل فيه مناقشة ولا جدالاً) وهذا حسن إذا لم يدسّ في
الدين ما ليس منه.
(ومنها) بيان أنه كان يوجد في علماء الأزهر الأعلام الصالحين إلى ذلك
العصر من ينكر جَهْرًا على من يقول بوجود القطب والأبدال وأضرابهم.
(ومنها) أن سؤال شيخ الإسلام زكريا عن المسألة كان مبنيًّا على أن ما
يقوله الصوفية في القطب والأبدال صحيح أم لا لا على أن ذلك هل صحّ في
الأحاديث أم لا. وكذلك كان جواب ابن حجر لشيخه الجويني ، فقد قال له: إن
الأولياء أخبروا بذلك وحاشاهم من الكذب. ولم يقل: إن ذلك قد صح في الحديث.
وهذا يوافق قوله الذي أشرنا إليه آنفًا في الاختلاف في عدد الأبدال أنه من
الاصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح.
(ومنها) أن شيخ الإسلام لم يحتج على الشيخ الجويني بحديث في ذلك.
ونحن نقول أيضًا: إن الصوفية اصطلحوا على وضع هذه الأسماء لمسميات ،
اعتبروا فيها صفات خاصة ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، كما قال ابن حجر.
وجملة القول أن حديث ابن مسعود الذي أورده النبهاني لم يروه الحُفّاظ عنه ،
فهو مُخْتَلق عليه ، وإن حديث علي لم يَرِد أيضًا باللفظ الذي أورده النبهاني ، بل
ورد بألفاظ أخرى أقواها ما أخرجه الإمام أحمد ، وقد تقدم. ومن هنا تعلم أن
النبهاني لا علم له بالحديث ، وإنما هو حاطب ليلٍ لا يوثق بنقله ، كما لا يُوثق برأيه ،
ولا يُعتد باختياره؛ فإنه مقلد للمقلدين الذين يروجون الخرافات وكل ما يحظى
صاحبه عند العامة. فهذا هوالجواب عن السؤال الأول.
وأما الجواب عن الثاني ، وهو: هل الخضر في الأحياء إلى اليوم؟
فاعلم أن العلماء قد اختلفوا فيه ، فنفاه بعضهم ، وأثبته آخرون ، ولكن لم يقل
أحد: إنه يجب على الناس الإيمان به. والنفي هوالأصل ، وليس عند المثبتين دليل
من كتاب الله ، ولا من الأحاديث التي يُحتج بها ، ولا من الإجماع الأصولي (كيف
والمسألة خلافية) والقياس لا مدخل له في المسألة ، فدعوى وجود الخضر في
الأحياء لا تقوم لها حُجة شرعية ، وإنما تبع القائلون بها الصوفية؛ لِثقتهم بهم في
كل شيء ، حتى إنهم لا ينكرون عليهم ما يخالف الشرع مخالفة صريحة ، بل
يؤولونه إن لم يؤولوا النص الشرعي.
على أن بعض الصوفية يقولون: إن الخضرية مقام أومرتبة لبعض الصالحين يطلق لفظ (الخضر) على كل من يصل إليها. فما ذكر من اجتماع بعض الصوفية
بالخضر يفسر بذلك. ومنهم الشيخ الأكبر صاحب الفتوحات المكية؛ فإنه
يذكر أنه اجتمع بالخضر كثيرًا ، ويذهب بعضهم إلى أنَّ مراده بذلك الاجتماع
الروحاني ، كما يقول: إنه اجتمع بفلان ، وفلان من الأنبياء. وغيرهم ممن علم
موتهم باليقين كالسبتي ابن هارون الرشيد ، فإنني قرأت له في الفتوحات أنه رأى
إنسانًا يطوف بالبيت مع الطائفين ، فينفذ من بين الرجلين المتلاصقين من غير أن
يفصل بينهما أو يشعرا به فعلم أنه روحاني ، فتبعه حتى كلمه وعلم أنه السبتي ابن
هارون الرشيد.
وقد أطال السيد الآلوسي الكلام في المسألة في تفسيره روح المعاني ، فكتب فيها
عدة أوراق لعله أودعها كل ما قيل فيها ، وخرج منها على أنه لا دليل على وجود
الخضر حيًّا لا من الشرع ولا من العقل.
وأما الجواب عن الثالث ، وهو ما حكم من يكذب بوجود الخضر وغيره من
الأقطاب؟ فقد علم مما مر أنه لا يطالب مسلم بأن يؤمن بذلك ، ولم يقل أحد من أئمة
الأصول والكلام: إن ذلك من عقائد المسلمين. فلا شيء على من كذب ذلك، وقد
رأيت أن الشيخ الجويني كان ينكر ذلك وهو معدود من أئمة العلماء الصالحين
بالأزهر ، ولولا واقعة ابن حجر معه التي استتبعت معاتبة شيخ الأزهر أو شيخ
الإسلام زكريا لبقي على إنكاره ككثير من العلماء.
وأما الجواب عن الرابع ، وهو: هل إجازة أهل الطريق التي ذكرها النبهاني
معتبرةً عند المحدثين؟ وعن الخامس وهو هل أخذ الحسن البصري عن علي كرم
الله وجهه؟ فجوابهما: (لا لا) . قال الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة
المتعارفة عند الصوفية باطل لا أصل له. قال ابن حجر: (لم يرد في خبر صحيح
ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة
المتعارفة بين الصوفية أحدًا من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعل ذلك.
وكل ما يُروى في ذلك صريحًا فهو باطل) ، وقال: (من المفترى أن عليًّا ألبس
الخرقة الحسن البصري. فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا ، فضلاً عن أن يلبسه الخرقة) ، وقد صرح بمثل ما ذكره ابن حجر جماعة من الحفاظ
كالدمياطي ، والذهبي ، وابن حبان ، والعلائي ، والعراقي ، وابن ناصر. اهـ
وأما الجواب عن السادس - وهو (ما على من أنكرها) أي إجازة الصوفية
بخرقتهم عن الحسن عن علي - فقد علم جوابه مما قبله ، وهو أنه ليس على المنكر
لذلك إلا ما على كل من ينكر الأحاديث الموضوعة المعزوة إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم - كذبًا وافتراءً عليه ، وهل عليهم إلا الثناء الحسن؟
وأما الجواب عن السابع ، وهو: أيجوز نسبة تلك العبارة في التجسيم إلى شيخ
الإسلام ابن تيمية بعدما وجد كتاب العرش التي قيل إنها فيه ، فتبين أنها ليست فيه؟
فجوابه أن ذلك لا يجوز ، بل كان من الأدب مع هذا الإمام الجليل أن يبرأ من مثل
هذه العبارة وإن وجدت في كتاب معزو إليه، ويحكم بأنها مدسوسة في ذلك الكتاب
عليه، فقد عهد من المضلين أن يدسوا في كتب المشهورين، كما وقع للشعراني في
حياته وأثبت هو وغيره وقوع ذلك لغيره.
كيف لا ، وإن بين أيدينا كُتبًا كثيرة في التوحيد من مصنفات ابن تيمية ، وكلها
مؤيدة لمذهب أهل السنة الصحيح وسلف الأمة الصالحين لا تعدوه قط.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إلى الأحرار في روسيا وفي البلاد العثمانية
وفي سائر البلاد [*]
أيها الإخوان ، نخبركم بمزيد الأسف أن الدستور الإيراني الجديد صار على
شفا السقوط بسعي الحكومة المستبدة. نعم إن حكومتنا الإيرانية المستبدة لضعيفة
أمام حزب المجاهدين الإيرانيين. ولكن ما الحيلة والحكومات المستبدة تتعاون وتتحد
على اضطهاد الفقراء، واستئصال المطالبين بالحرية والعدل.
كانت الحكومات المستبدة المجاورة لفرنسا تساعد إمبراطور فرنسا على محاربة
طلاب الحرية ، كذلك تساعد الحكومة الروسية والحكومة العثمانية حكومة إيران
المستبدة على إسقاط الدستور الإيراني ، وتبديد شمل أحزاب الاشتراكيين
الديموقراطيين في إيران.
أيها الإخوان ، إذا كانت الحكومة المستبدة تتعاون على محافظة استبدادها
ومصالحها ، فماذا يكون إذا نحن معاشر الأحرار اتحدنا على محاربة الاستبداد
والمستبدين ، فنحن معاشرَ حزب الاشتراكيين الديموقراطيين الإيرانيين نرجو من
إخواننا الأحرار في روسيا والبلاد العثمانية ، وغيرها من البلاد باسم الإنسانية
والحرية ، والنصيحة للنوع البشري أن يساعدونا في هذا السبيل ، ويظهروا امتعاضهم
واستياءهم من الحكومتين الروسية والعثمانية اللتين لا تألوان جهدًا في السعي لإسقاط
الدستور الإيراني بالتداخل في أمور إيران الداخلية ، نحن معاشر المجاهدين نرفع
أصواتنا على عتبة مجلس الشورى الإيراني قائلين:
ليحيا جميع الأحرار والناصحين لوجه الإنسانية على وجه البسيطة ، لتحيا
الجمهورية الديموقراطية ، ولتسقط الحكومة المقلقة ، وليسقط الأغبياء الظالمون
حزب الديموقراطيين الاشتراكيين الإيراني 28 ذي الحجة سنة 1325.
_________
(*) جاءتنا هذه الرسالة باللغة التترية ، فترجمناها ونشرناها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فقيد الصحافة والوطنية
مصطفى باشا كامل
ما لنا لا ننتهي من نعيٍّ إلا إلى نعيٍّ، ولا نفرغ من ترجمة مبكيٍّ إلا ونفجأ
بتأبين مبكيٍّ، وما بال (أم لهيم) تلتهم من المسلمين أشهر الكتاب والسياسيين، فها
هي ذي قد اغتضرت اليوم أندى الصحافيين المصريين صوتًا ، وأبعدهم في عالم
السياسة صِيتًا، وأشدهم في دهماء بلده تأثيرًا، وأكثرهم وليًّا ونصيرًا، مصطفى
باشا كامل صاحب جريدة اللواء العربية ومدير جريدتي اللواء الفرنسية والإنكليزية، ورئيس الحزب الوطني الذي تأسس في مرض مماته واختاره رئيسًا له مدة حياته.
قضى رحمه الله تعالى عن أربع وثلاثين ربيعًا قضى نصفها في السياسة،
ونصف هذا النصف في الصحافة باذلاً فيما أخذ فيه جميع أوقاته مفرغًا فيه
منتهى وجدانه وشعوره، وما زال الشعور والوجدان أقوى المؤثرات في الإنسان،
وقد أعجب بخطته في اللواء جمهور القارئين، ثم تحزبت له نابتة كبيرة من
المتعلمين، بل عشقه بعض طلاب الحقوق عشقًا، وملك قلوبهم ملكًا، فظهر أثر
تحزبها في تشييع جنازته بمظهر غريب، ما رؤي مثله من نسيب ولا قريب، حتى
أثرت حالهم في جميع المشيعين، وجذبت قلوب الناظرين، بل استعبرت المقل
الجامدة، وسعرت الأفئدة الخامدة، بل كان لهم بعد ذلك سلطان على أكثر الجرائد
المصرية، حتى المخالفة للفقيد في آرائه السياسية، ومن كان بينه وبين أصحابها
مناصبة شخصية، بل صار لهم ظهور سياسي يرجو الجذع نائله، ويخشى القارح
عقابله، ومشى في جنازته خلق كثير في مشهد لم يعهد له نظير، حمل فيه تلاميذ
المدارس رايات للحداد يعلوها السواد، وقدر عدد من شهد الجنازة بخمسة عشر
ألفًا، ورأى بعضهم أنهم يناهزون ثلاثين ألفًا.
كان رحمه الله تعالى مصداقًا بينًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما
خلق له) . فقد كان في سن الدراسة يحدث نفسه بالسياسة، ويمنيها بالرياسة،
فيحدو به ذلك إلى مثافنة الكبراء، ويزجيه إلى مناقشة الرؤساء والوزراء حتى
فتحت له السياسة وهو في مدرسة الحقوق أبوابها، وزينت له بأن يكون طَلابها،
فآثر لحبها التناوة على المذاكرة بجد وعناية، حتى ظهر أثر ذلك في الامتحان،
على ما كان من اللوذعة وجرأة الجنان على أنه نال بعد ذلك شهادة الحقوق في
مدرسة طولوز الفرنسية.
وكان كبير النفس، طموحًا إلى المعالي، جريء الجنان، طلق اللسان، قوي
الشعور والوجدان، متلافًا للمال إذا اقتضت الحال، فهذه هي الصفات الفطرية
التي أهلته لتلك الغاية الكسبية بافتراص الحوادث، ومواتاة الوقائع، ومساعدة
الزمان، واستعداد البيئة والمكان.
أما استعداد البيئة ، فمنشؤه أنه كان قد سبق لهذا الشعب حركة حيوية،
ونهضة اجتماعية أدبية تلتها يقظة وطنية أنتجت ثورة شعبية عسكرية، وعقب
ذلك احتلال الإنكليز للبلاد؛ وإيقاف حركة ذلك الاستعداد، فسكتت الألسنة وسكنت
الأقلام، وغلت الأيدي، وقيدت الأقدام، ولكن هذا الوقوف كان في الظاهر، دون ما
تنطوي عليه السرائر من ضغائن مضطربة، وحفائظ مضطرمة، وأوهام مفزغة،
وأحلام مزعجة، مع مجاراة الأمير توفيق للاحتلال، ومواتاته له في كل حال.
فبعد أن قضى الأمير توفيق وولي الأمير عباس دخلت البلاد في عهد جديد
من الحركة الوطنية تجلت فيه كتجليات الحقيقة الكلية، فكان تجليها الأول هو
التجلي العام الذي ظهر في الخواص والعوام، وكان لسانه الناطق جريدتا المؤيد
والأهرام، ثم فتر التجلي في جميع الطبقات، ثم ظهر في طبقة الضباط وقتًا من
الأوقات، ثم فتر طائفة من الزمان، ثم ظهر في مظهره الذي هو عليه الآن بأن
نفخت روحه في الناشئين، ففعلت فعلها في غير أصحاب العمائم من المتعلمين،
لأن هؤلاء لا يعرفون لهم جنسية إلا في الدين، وقد كان مصطفى كامل رحمه الله
هو المجلي، في ميدان هذا الطور من أطوار التجلي، ثم صار داعية النابتة إلى هذه
الوطنية وهاديها، أو سائقها وحاديها، وهي هي فوق المدعو والهادي، وأمام
المسوق والحادي.
وقد كنت أُعجبت بما رأيت من تجلي الوطنية أول مقدمي لهذه البلاد ، فكتبت
فيها مقالة في المؤيد عنوانها (الحياة الوطنية) أُعجب بها كثيرون حتى استظهرها
بعض أساتذة المدارس الأميرية، ثم رأيت الدعوة موجهة إلى جعل الوطنية جنسية
للمسلمين، فأنكرتها في المنار بالبرهان المبين، وأكثرت من الكتابة فيها حتى في
تفسير القرآن، ولا ينبغي لي الخوض في ذلك الآن.
عرفت مصطفى كامل في السنة الأولى من هجرتي لهذه البلاد ، وكنت أَراه
كثيرًا في إدارة المؤيد إذ كنت أطبع المنار في مطبعة الآداب وكان معجبًا بالمنار حتى
كان يهنئني أحيانًا ببعض المقالات ، ويقول لي: إنك قادر على خدمة الإسلام أنفع
خدمة وأجلها ، ولكن الكتابة لا تكفي وحدها ، فاطلب من الشيخ محمد عبده أن
يجعلك خطيبًا في أحد المساجد الكبيرة؛ فإن له نفوذًا يمكنه من ذلك ، وهو صاحبك
فيما أرى ، ولو كان لي به صحبة لطلبت لك منه ذلك، ومن هذه العبارة يعلم رأيه في
تأثير الخطابة.
ثم أصدر جريدة اللواء - والمنار يومئذ في أصيل سنته الثانية - فنصحت له
في تقريظها بأن يتتبع ما يكتب في الجرائد الأوربية عن الإسلام ، ويترجمه
لجريدته ليكون لها امتياز عن غيرها من الجرائد الإسلامية ، وأن يترك ما اشترطه
من عدم إرسالها إلا لمن يدفع الاشتراك سلفًا ، فساءه ذلك ، ولكنه علم بعد التجربة
أنه لباب النصيحة.
وانتقدت عليه الإرجاف بمسألة الخلافة العربية؛ إذ كان كتب أن في مصر من
يسعى لها سعيها ، وبينت له وجه الضرر في ذلك الإرجاف، فكبر عليه ذلك ، وقطع
المبادلة الصحافية بيننا وبينه ، وأنحى علينا بعد ذلك كثيرًا؛ لما كان عليه - عفا
الله عنه - من الشدة على من خالفه ، ولو مهضومًا، ونصر من وافقه ظالمًا كان أو
مظلومًا، وكان الأول من أسباب بُطْء انتشار اللواء، على ما كان فيه من مواضع
إعجاب الدهماء، كالمبالغة في ذم المحتلين، وانتقاد الحكومة، ومدح الأمة،
وتحامي الانتقاد عليها، والتنويه بالاستقلال، والتعجيل بطلب محو الاحتلال، ولكن
اللواء صار في هذه المدة الأخيرة من أهم الجرائد المصرية وأكثرها انتشارًا.
فرحم الله مؤسسه ، وعفا عنه! ولعلنا نوفق بعدُ إلى كتابة شيء عن العبرة بسيرته في
حياته وموته.
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
تاريخ العرب والإسلام
في سلك القصص والروايات
لأسلوب القصص المعروفة بالروايات تشويق للمطالعة لا ينال منه الملل،
وجذب إلى القراءة لا يخشى معه السأم، فإذا هي أودعت من الفوائد النافعة في
التاريخ والآداب والأخلاق والسياسة وشئون الاجتماع ما يتفق مع اللذة كانت من
أقوى ذرائع تهذيب الجمهور ، ورفع طبقات العامة إلى مستوى يتصلون به مع
طبقات الخاصة حتى تكون الأمة كسلسلة ، إذا تحرك أحد طرفيها انتقلت الحركة
إلى الطرف الآخر.
وإنه ليحزننا أن نرى أكثر القصص أو الروايات كما يقال خالية من هذه الفوائد
مشتملة على كثير من المفاسد، تغري الفتيان والفتيات بالغرام، وتجرئ الحيي على
ارتكاب الحرام، وتعلم الأغرار حيل الشطار.
هذا ، وإننا نحن المسلمين قد أصبحنا وأمسينا أجهل الأمم بتاريخنا، وكيفية
تلك النشأة الصالحة لملتنا، وينابيع تلك الآداب التي أخضعت أمم المدنية لشراذم
من الأعراب؛ ذلك بأن تاريخ تلك النشأة لم ينظم في السلك العلمي الحديث، وإنما
بقي روايات متفرقة كروايات الحديث، لم يرزق مِن فلاسفة التاريخ مَن يستنبط
حكمه، كما رزق الحديث مِن الفقهاء مَن استنبط أحكامه.
فنحن الآن في حاجة إلى وضع تاريخ الإسلام في أسلوب علمي؛ لأجل
الخواصّ، وإلى إيداعه في أسلوب قصصي يسهل تناوله حتى على العوامّ، وقد كان
الوضع الأول آخر عمل توجهت إليه همة الأستاذ الإمام، وفي عزمنا أن نخلفه فيه
إن شاء الله وأمهلتنا الأيام، وأما الثاني فقد شرع فيه صديقنا السيد عبد الحميد
الزهراوي العالم الإسلامي والكاتب الاجتماعي، وقد سمى الرواية الأولى (خديجة
أم المؤمنين) وسننشرها في المنار بالتدريج، وهاك مقدمتها في هذا الجزء:
خديجة أم المؤمنين
(1)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل ثلاثة عشر قرنًا على الحساب القمري حدث في الكون حادث عظيم جدًّا
لم يحدث بعده مثله إلى الآن، وقد كان له دويّ قويّ وأثر كبير في آسيا وأوربا
وأفريقيا، وخلفه انقلاب عظيم في ممالك الأرض، وتغير جسيم في أحوال الأمم
والشعوب. ذلك الحادث هو قيام العرب بعقيدة جديدة وانضمامهم جميعًا إلى كلمة
النبي الذي قام فيهم منهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام ، وشروعهم جميعًا بالهجوم
على الممالك، وفوزهم بهذا الهجوم، وانتصارهم وغلبتهم على الأمم ، وانضمام أمم
كثيرة إلى عقيدتهم وتكوّن ملكهم العظيم من حدود الهند إلى البحر الأطلانتيكي شرقًا
وغربًا ، ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل بحر قزوين شمالاً وجنوبًا في أسرع
ما عرف في التاريخ كله من الفتوحات الكبيرة السريعة.
هذا الحادث العظيم يتلقاه بعض الناس بغير تفكر ، كأنه معتاد الحدوث كثيرًا
فلا يبحث هؤلاء عن سر حدوثه ، ولا يريدون أن يستفيدوا من التدبر والتفكر بسر
ذلك النجاح العظيم الذي أوتيه أولئك القوم بسرعة جديرة أن نشبهها بلمح البصر.
وبعضهم يتلقاه كما هو ، أي: يفهم أنه حادث من أكبر الأحداث التي حدثت في الدنيا ،
ويراه جديرًا بالبحث والتأمل وإمعان النظر ، ولدى التأمل نجد هناك جزئين تمَّ
بهما هذا الحادث العظيم؛ الأول: النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، والثاني:
الذين آمنوا به ونصروه من العرب، وبديهي أن أول مؤمن به هو صاحب الفضل
الأول بعد النبي في إقامة هذا الصرح العظيم.
ومن الأمور التي يحق أن يفخر بها جنس النساء أن هذا الفضل الأول - أي:
السبق بالإيمان به والموافقة له - كان نصيب سيدة من أشراف قومه هي زوجته السيدة
خديجة بنت خويلد من قريش، ولما كانت سيرة هذه السيدة الشريفة المساعدة في وضع
الأحجار الأولى من هذا الحادث العظيم لا تخلو بالبداهة من فوائد جسيمة أزمعت أن
أقدم في هذه الأوراق لمحبي الفوائد الأدبية والاجتماعية والسياسية والتاريخية أعظم
هدية مقتطفًا هذه الثمرات من دوحة حياة هذه السيدة الجليلة ، ولكن رأيت من اللازم
جدًّا قبل دخولي بالقارئ على سيرتها أن أمر به مرة على قومها العرب عامة، ثم
قريش خاصة؛ فإن تعرفه بهم يساعده على معرفة هذه السيدة الجليلة.
* * *
العرب
العرب كسائر الأمم: أوائلهم مجهولة، وأحوالهم منذ عرفوا معروفة. نقف
الآن عند هاتين الكلمتين ونلتفت قليلاً إلى مبحث لطيف نختصر فيه الكلام ، ثم
نعود إلى سياق حديثنا.
يزعم كثير من الأقوام أنهم يعرفون أصول أمتهم إلى أبي البشر الأول ، ومن
الأقوام من يزعمون أنهم يعرفون سلاسل أصول الأمم كلها حتى يصلوا بها إلى
ذلك الأصل الأول.
ومن التزم التحقيق لا يستطيع أن يجزم بشيء مما يذكر عن تلك الأصول
والأوائل، ومن تسامح بتصديق ما يُرْوَى يتشابه عليه الأمْر ، فَيَحَارُ في تصديق
المتناقضات، والترجيح بين المختلفات، ومهما جنح الحريص على المعرفة إلى
الاستئناس بما يمكن قَبوله من الحكايات في هذا الباب لا يستغني عن طرح كثير
منها مما تقوم الأدلة على بطلانه.
لماذا حرص كل الشعوب على معرفة أسلافهم إلى أول أصل؟ لا ندري ،
ولكن يلوح لنا أنه لذَّت للأكثرين دعوى هذه المعرفة؛ فابتدع كل قوم أسطورة في
بيان أصلهم ، ينقلها الآباء للأبناء ، ويسطرونها في كتبهم تسطيرًا.
أما الباحثون عن أنساب الشعوب فلما يئسوا من هذه المعرفة قنعوا بأن
تكون لهم معرفة ما بأصول الشعوب التي وجدوها متقاربة في اللغات وغيرها من
المميزات ، وقد آنسوا من كثرة البحث والاستئناس بالمنقول أن البشر المعروفين
اليوم هم من ثلاث سلالات:
(1)
السامية و (2) الإريانية و (3) التورانية.
وظاهر من هذا أنهم لما أرادوا وضع أسماء للأصول القليلة التي تفرعت منها
هذه الشعوب المعروفة تساهلوا بقبول بعض ما لفق في حكاية البشر مما قبل التاريخ ،
ولكن هذا لا يروي في الحقيقة غليل المحققين ، ولا غليل الخياليين؛ فسيظل
المحققون صابرين على جهل مثل هذا، ويبقى الخياليون مستمسكين بما قد حُكي لهم
من قبلُ ، وربما تسلى محب الحقيقة عن احتجابها برؤية تماثيلها ، وما تماثيلها إلا
أساطير الأولين.
أما نحن ، فنرى أنه لا حاجة للتسلي بتلك الأساطير؛ لأننا إذا اشتهينا المعرفة
فأمامنا - مما قد نستطيع معرفته - ما ننفذ مراحل أعمارنا من غير أن نقطع في
ميدانه شوطًا بعيدًا، وما الوصول إلى غاية في هذا الميدان مما يجوز أن نطمع
فيه.
فإذا أردنا الآن أن نعرف العرب فعلينا قبل كل شيء أن نريح أنفسنا من الطمع
بمعرفة سلسلتهم الآدمية إلى آدم ، أو إلى نوح بالتفصيل ، كما قطعنا طمعها من
معرفة ذلك في سائر الأمم؛ فلهذا لا حاجة إلى ما يذكره علماء الأنساب من كون هذا
الجيل من الأجيال السامية إذ يقال: أَنَّى لهم العلم بسام أبي الشعوب السامية؟ وكيف
يبني أهل الفن مبادئ على شيء غير معروف بالطرق التي تفيد العلم اليقيني؟ وما
أغنى من يريد أن يعرف جيلاً كالعرب عن الاستعانة بأساطير الأولين.
يقول المؤرخون: إن العرب ثلاثة أقسام: (1) بائدة ، و (2) عاربة ،
و (3) مستعربة. أما البائدة: فهم العرب الأُول الذين ذهبت عنا تفاصيل
أخبارهم؛ لتقادم عهدهم وهم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وجرهم الأولى، وأما العرب العاربة فهم عرب اليمن من ولد قحطان، والعرب المستعربة هم ولد إسماعيل بن إبراهيم.
هذا قولهم ، وهو لا يعجبني؛ لأن البائدة ليست موجودة حتى تعدّ ، وإن كانوا
يعدونها؛ لأن منها اشتق غيرها فهذه شهادة بأنها لم تَبِدْ. وقد ذكروا في هذا التقسيم
عرب اليمن من ولد قحطان قسمًا مستقلاًّ ، ولم يذكروا لنا من هو قحطان هذا.
وذكروا أولاد إسماعيل بن إبراهيم قسمًا مستقلاًّ ، ولم يأتوا بدليل قويم على أنه
تفرع من إسماعيل ذرية مستقلة هم العرب المستعربة. وَجُلّ ما ذكروه أن إسماعيل
الذي كان غريبًا في جوار مكة المكرمة تزوج بامرأة عربية من تلك القبائل التي كانت
حولها. فهل انقطع نسل تلك القبائل حتى أصبح لا يذكر إذا ذكر العرب ، ثم تبارك
نسل إسماعيل الغريب وحده حتى صار قسمًا مستقلاًّ هو ثالث ثلاثة أو ثاني اثنين إذا
ذكر العرب؟ لسنا ندري ولكننا نعرف أن هذا من جملة الأقوال التي تكتسب بكثرة
الموافقة في مرور القرون صبغة لا تزول ، فتغر الأكثرين وهي في الحقيقة لا تصبر
على النقد والحك ، فليت أولي الألباب يكثرون من حك هذه المشهورات.
وإنما يعجبني جدًّا في هذا الباب ما روي من أن النبي العربي عليه السلام
كان إذا انتسب يقف عند عدنان ولا يتجاوزه؛ ويقول: (كذب النسابون)[1] ،
ويعني بذلك الذين يزعمون معرفة الأنساب إلى آدم أو إلى نوح.
أما الذي لا يغير النقد من سطوع جوهره شيئًا ، فهو أن العرب يوم ظهر فيهم
النبي الذي أعلى شأنهم كانوا متفرقين في أقطار جزيرة العرب ومنقسمين قبائل
كل قبيلة تذكر لنفسها نسبًا فيه عند رجل معروف لديها، وتمسك عما وراءه.
والمشهور أنَّ لقبائل الحجاز أصلاً، ولقبائل اليمن أصلاً آخر، وللقبائل بعد ذلك
أصول متفرعة من أحد الأصلين. وعرب العراق والشام ترجع إلى أحد هذين
الأصلين أيضًا، فعدنان هو أبو عرب الحجاز غالبًا، وقحطان هو أبو عرب اليمن
والعراق والشام غالبًا.
وإن قال قائل: كيف عرف هذا عن العرب وهم أهل بادية متشتتون متفرقون،
متقاتلون متذابحون، لا ملك لهم جامع، ولا شرع فيهم وازع، ولا يد لهم في
الأعمال الاجتماعية، ولا نصيب لهم في الشئون السياسية، وليس لهم قبل الإسلام
كتاب معروف تدون فيه أخبارهم، وتذكر فيه مآثرهم وآثارهم، فمن أجل ذلك لا
يجوز الثقة بما ينقل ويحكى عنهم ولسنا نعرفهم إلا بالإسلام، فالإسلام قد جمع
الأوزاع من أهل هذه اللغة الواحدة على كلمة الغزو، وهذا لا يثبت أن العرب كانوا
يعرفون لقبائلهم أصولاً ، وأنهم كانوا يتعارفون بأنسابهم؟ ؟
نقول لصاحب هذا القول: إن العرب لم يكونوا مجهولين ولا مجهولة أخبارهم.
فإذا قلنا: إنهم لم يكونوا أهل كتابة وتاريخ ، فأشعارهم المحفوظة المنقولة هي
ديوان سيرهم، وإذا لم نثق بنقل أشعارهم استطعنا أن نعرف العرب من تاريخ الأمم
المجاورة لهم. فالفرس قد سبروهم؛ لأن من العرب ملوكًا كانوا لهم خاضعين،
وقوادًا كانوا بأمرهم عاملين. والروم قد خبروهم؛ لأن مملكتهم ملوكًا وقوادًا وولاة
من العرب، والديانة المجوسية تعرفهم؛ لأن منهم من كان على دين ملوك فارس،
والكنائس تعرفت بهم؛ لأن منهم نصارى بل قسيسين ورهبانًا، وبيع اليهود ما
جهلتهم، والفلسفة ما أنكرتهم، والحضارة قد ألمت بمساكنهم (في اليمن والعراق
والشام) ومخالطة الأمم أخذوا بقسط منها وأخذت بقسط منهم، فكيف يكون هذا
الجيل مجهولاً بعد كل هذا؟
إن العرب كانوا معروفين. ومما عرفوا واشتهروا به الحرص على وحدتهم
القومية ، فكانوا أمام الغريب أمة واحدة لها وحدة باللغة والنسب واتصال الديار
والعصبية عند التناصر ، فإذا رجعوا إلى ما بينهم كانوا قبائل شتى تنتمي كل قبيلة
إلى أب لها ، ثم يجمع قبائل كثيرة منهم أب واحد وهكذا.
ولا يستبعد من أمة محتاجة إلى التناصر وليس لها كسائر الأمم كتاب يجمع
أخبارهم وسير أبطالها أن يُعْنَى كثير من أفرادها بحفظ ذلك في أذهانهم ، وأية أمة ممن
نرى يتناسى أفرادها سيرة أبطالهم.
وقد كان الرجل من العرب إذا عظم أمره أو كثر ماله انفرد بأهله ، وانتمت
إليه الذرية ، ووضعوا لأنفسهم نسبة جديدة من غير أن يضيعوا حظهم من
الارتباط بالنسبة الأولى؛ لأن لهم عند التناصر حظًّا منها عظيمًا.
يذكر أحد علماء هذا الشأن أن العرب كانت قبائلهم أرحاء وجماجم ،
فالأرحاء هي القبائل التي أحرزت دورًا ومياهًا لم يكن للعرب مثلها ، ولم تبرح من
وطانها ، ودارت في دورها كالأرحاء على أقطابها إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء
وعام الجدب. والجماجم هي القبائل التي يتفرع من كل واحدة منها قبائل اكتفت
بأسمائها ، دون الانتساب إليها ، فصارت كأنها جسد قائم ، وكل عضو منها مكتف
باسم معروف بموضعه.
وكان علم النسب من جملة علوم العرب قد أثره عنهم أهل الرواية أول كل
شيء. ونقلوا فيه حكايات كثيرة منها ما ذكروه عن يزيد بن شيبان بن علقمة بن
زرارة بن عدس وذلك أنه رأى في مِنى رجلاً على راحلة ، ومعه عشرة شباب ،
بأيديهم المحاجن ، ينحون الناس عنه ، ويوسعون له ، فدنا منه ، وقال له: ممن
الرجل؟ فقال: (إني رجل من مَهْرَة ممن يسكن الشجر) قال يزيد: فكرهته ،
ووليت عنه. فناداني من ورائي: ما لك؟ قلت: (لست من قومي ، ولست تعرفني
ولا أعرفك) . قال: (إن كنت من كرام العرب فسأعرفك) قال يزيد: فكررت
عليه راحلتي. وقلت: (إني من كرام العرب) . قال: (فممن أنت؟) قلت:
(مِن مُضَر) قال: (فمن الفرسان أنت ، أم من الأرحاء؟) ، فعلمت أنه أراد
بالفرسان قيسًا وبالأرحاء خندفًا. فقلت: (بل من الأرحاء) قال: (أنت امرؤ من
خندف؟) قلت: (نعم) . قال: (من الأرومة أنت ، أم من الجماجم؟) ، فعلمت
أنه أراد بالأرومة خزيمة وبالجماجم بني أدّ بن طابخة قلت: (بل من الجماجم) .
قال: (فأنت امرؤ من بني أدّ بن طابخة) قلت: (أجل) قال: (فمن الدواني أنت ،
أم من الصميم؟) فعلمت أنه أراد بالدواني الرباب ومُزَيْنة وبالصميم بني تميم. قلت:
(من الصميم) . قال: (فأنت إذًا من بني تميم) . قلت: (أجل) . قال: (فمِن
الأكثرين ، أم من الأقلين ، أو من إخوانهم الآخرين؟) فعلمت أنه أراد بالأكثرين
ولد زيد ، وبالأقلين ولد الحارث ، وبإخوانهم الآخرين بني عمر وبني تميم. قلت:
(من الأكثرين) قال: (فأنت إذًا من ولد زيد) . قلت: (أجل) قال: (فمن
البحور أنت ، أم الذرا ، أم من الثماد؟) فعلمت أنه أراد بالبحور بني سعد ،
وبالذرا بني مالك بن حنظلة، وبالثماد امرأ القيس بن زيد. قلت:(بل من الذرا)
قال: (فأنت رجل من بني مالك بن حنظلة) قلت: (أجل) قال: (فمن السحاب
أنت ، أم من الشهاب ، أم من اللباب؟) فعلمت أنه أراد بالسحاب: طهية،
وبالشهاب: نهئلاً، وباللباب: بني عبد الله بن دارم. فقلت له: (من اللباب) قال:
(فأنت من بني عبد الله بن دارم) قلت: (أجل) قال: (فمن البيوت أنت ، أم من
الدوائر؟) فعلمت أنه أراد بالبيوت: ولد زرارة ، وبالدوائر: الأحلاف. قلت (من
البيوت) قال: (فأنت يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس ، وقد كان لأبيك
امرأتان فأيهما أمك؟) .
ولقد غلط من ظنوا أن العرب لم يكن لهم من حضارة ، ولم يكونوا على شيء
مما عليه الأمم من الروابط؛ كلاّ بل لهم حضارات وملوكهم التبابعة في اليمن معروف
أمرهم عند المشتغلين بالتاريخ. وملوك الحيرة (في العراق) مشهورون ، مَن
عرف تاريخ الفرس عرفهم وإن جهل تاريخ العرب أولهم مالك بن فهم بن غنم بن
دوس من سلالة الأزد من ولد كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان ، وكان
ملكه في أيام ملوك الطوائف الفارسيين ، وملك بعده أخوه عمرو بن فهم، ثم ملك بعد
عمرو ابن أخيه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، وجذيمة هذا هو صاحب الحديث
المشهور مع الزباء (زنوبيا) صاحبة تدمر ، وخلاصة الحديث فيما يروي مؤرخو
العرب أن جذبمة قتل أباها ، فاحتالت عليه الزباء ، وأطمعته في نفسها حتى اغتر
وقدم إليها ، فقتلته وأخذت بثأر أبيها. وبعد قتله انتقل الملك إلى يد ابن أخته عمرو
اللخمي جد الملوك المناذرة اللخميين.
والملوك الغسانيون في الشام مشهورون أيضًا ، لا يجهلهم من عرف تاريخ
الرومان إذا جهل تاريخ العرب. وأصل غسان من اليمن من بني الأزد ابن الغوث
تفرقوا من اليمن بسيل العَرِم، ونزلوا على ماء بالشام يقال له: غسان، فنسبوا إليه
وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهم الضجاعمة من سليح، فأخرجتهم غسان من ديارهم ،
وقتلوا ملوكهم وصاروا موضعهم.
وأول من ملك من غسان جفنة بن عمرو بن ثعلبة، وكان ابتداء ملكهم قبل
الإسلام بأربع مائة سنة ، وقيل أكثر من ذلك، ولما ملك جفنة وقتل ملوك سليح
دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم، وبنى بالشام عدة مصانع ، ولما مات ملك
بعده ابنه عمرو بن جفنة، وبنى بالشام عدة ديور منها دير حلي ودير أيوب ودير
هند، ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغرير في أطراف حوران مما
يلي البلقاء.
ثم ملك الحارث بن ثعلبة، ثم ملك بعده ابنه جبلة بن الحارث وبنى القناطر ،
وأدرح والقسطل، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة ، وكان مسكنه بالبلقاء ، فبنى بها
الحفير ومصنعه، ثم ملك بعده المنذر الأكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة
بن عمرو بن جفنة الأول، ثم ملك بعده أخوه النعمان بن الحارث وبنى دير ضخم
ودير النبوة، ثم ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث ،
ثم ملك بعدهم أخوهم الأيهم بن الحارث ، ثم ملك جفنة الأصغر بن المنذر الأكبر،
وهو الذي أحرق الحيرة، وبذلك سموا ولده آل محرق، ثم ملك بعده أخوه النعمان
الأصغر بن المنذر الأكبر، ثم ملك النعمان بن عمرو بن المنذر، وبنى قصر
السويدا ، ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكًا ، وفي عمرو المذكور يقول
النابغة الذبياني:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة
…
لوالده ليست بذات عقارب
ثم ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان، وهو الذي قابل المنذر
اللخمي بن ماء السماء، ثم ملك بعده النعمان بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة، ثم
ملك أخوه الحارث بن الأيهم، ثم ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث، وهو الذي
أصلح صهاريج الرصافة ، وكان قد خربها بعض ملوك الحيرة اللخميين، ثم ملك
بعده المنذر بن النعمان، ثم ملك بعده أخوه عمرو بن النعمان، ثم ملك أخوهما حجر
بن النعمان، ثم ملك ابنه الحارث بن حجر، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، ثم ملك
ابنه الحارث بن جبلة، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث، ثم ملك بعده الأيهم بن
جبلة بن الحارث وهو صاحب تدمر ، وكان عامله يقال له: القين بن خسر. وبنى له
قصرًا بالبرية عظيمًا ومصانع.
ثم ملك بعده أخوه المنذر بن جبلة ، ثم ملك بعده أخوهما شراحيل بن جبلة ، ثم
ملك أخوهم عمرو بن جبلة، ثم ملك بعده ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة ثم ملك
بعدهم جبلة بن الأيهم بن جبلة، وهو آخر ملوك بني غسان، وهو الذي أسلم في
خلافة عمر، ثم عاد إلى الروم.
ومن ملوك العرب ملوك كندة الذين من سلالتهم امرؤ القيس الشاعر المشهور
أولهم حُجْر آكل المرار بن عمرو، وخلف على الملك ابنه عمرو المقصور سُمي
بالمقصور؛ لأنه اقتصر على ملك أبيه ، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو ،
وقوي ملك الحارث المذكور؛ لأنه وافق كِسْرى قباذ بن فيروز على الزندقة والدخول
في مذهب مزدك ، فطرد قباذ المنذر بن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة ، وملّك
الحارث المذكور موضعه ، فعظم شأن الحارث المذكور ، فلما ملك أنوشَرْوان أعاد
المنذر وطرد الحارث المذكور ، فهرب وتبعته تغلب وعدة قبائل ، فظفروا بأمواله
وبأربعين نفسًا من ذوي قرباه ، فقتلهم المنذر في ديار بني مرين، وهرب الحارث إلى
ديار كلب، وبقي بها حتى مات. ومن أولاد الحارث هذا حجر أبو امرئ القيس
الشاعر ، وكان حجر قد ملكه أبوه على بني أسد بن خزيمة فبقي أمره متماسكًا
فيهم مدة بعد ذلك ، ثم تنكروا عليه ، فقاتلهم وقهرهم ، ودخلوا في طاعته ، ثم جموا
عليه بَغْتة ، وقتلوه غِيلة ، وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس أبياتًا منها:
بنو أسد قتلوا ربهم
…
ألا كل شيء سواه خلل
وطالب امرؤ القيس بهذا الملك بعد أبيه ، فاستنجد ببكر وتغلب على بني أسد ،
فأنجدوه ، وهربت منهم بنو أسد ، وتبعهم فلم يظفر بهم ، ثم تخاذلت عنه بكر وتغلب
وتطلبه المنذر بن السماء ، فتفرقت جموع امرئ القيس خوفًا من المنذر، وخاف
امرؤ القيس منه أيضًا ، فصار يدخل على قبائل العرب، وينتقل من أناس إلى أناس
حتى قصد السموأل بن عاديًا اليهودي ، فأكرمه، وأنزله ، وأقام عنده ، ثم سار إلى
ملك الروم مستنجدًا به ، وأودع أدراعه عند السموأل ، وكانت مائةً وفي مسيره إلى
ملك الروم قال قصيدةً تُشعر بلسان حاله ، ومنها قوله:
تقطع أسباب اللبابة والهوى
…
عشية جاوزنا حماة وشيزرا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
…
وأيقن أنا لاحِقَان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما
…
نحاول ملكًا أو نموت فتعذرا
وقد مات في هذا السفر بعد عودته من عند قيصر.
فبالله كيف تكون مجهولة الأمة التي فيها الملوك والأقيال، وقد وقفت أمام الأمم
والأجيال، سنين من الدهر، لا يعرف لها حصر. لعمرك إن القول بأن هؤلاء
القوم كانوا مجهولين ، وأنهم كانوا متشتتين من غير ملك جامع، ولا شرع وازع
هو قول يرسله صاحبه من غير أن يكلف نفسه بحثًا ، وهو لمّا يُحط بذلك خبرًا.
ومتى كان العرب معروفين عند غيرهم كما أوضحنا - ولدينا مزيد - كانوا هم
أحق بمعرفة أنفسهم، وحفظ مفاخرهم وعصبياتهم. وما نقل إلينا عنهم من ذلك ليس
منه شيء فوق العقل ، ولا وراء الحس؛ بل القرائن له شاهدة، وأمثاله أمام أعيننا
مشاهدة، وإذا لم تجز الثقة بما ينقل من هذه الأخبار لم يكن غيرها أحق بالثقة لعمر
الحق ، فإن تزوير الأساطير لا يستبعد وقوعه في كل أمة من الأمم ذوات الزبر
والأسفار ، وليست الكتب أحق بالصدق من القرائن الشاهدة والنظائر الناطقة.
فمن شاء أن لا يثق بمنقول ألبتة لا يضرني ولا يضر التاريخ والمنقول ، ولا
يضر العلماء الذين يحترمون التاريخ كثيرًا وإنما يضره وحده. يقلل استفادته من
المنقول، ويكثر وساوسه وغروره، ثم يصل إلى درجة لا يثق معها أحد بمعقوله.
ومن شاء أن يثق بالمنقول عن الأمم دون العرب لا أناقشه؛ لأنه شهد لي على
نفسه شهادة كافية.
ولا أزيده شيئًا على ما أوضحت به أن العرب تجوز الثقة ببعض ما ينقل عنهم ،
كما تجوز الثقة ببعض ما ينقل عن غيرهم.
* * *
من أجل هذا نؤمن بما نقل إلينا من نسب سيدتنا التي نروي هنا سيرتها ،
وهي خديجة القرشية فإن هذا النقل من النقول التي لا تجد النفس حاجة للتردد في
قبولها.
وقد قلنا آنفًا إنَّ لهؤلاء العرب المعروفين أصلين معروفين عندهم ، ومجهول ما
وراءهما ، وهما: عدنان وقحطان، فأما قحطان فقد أخذت ذُرِّيَّته بحظها من
الملك؛ لأن كل ملوك العرب المشهورين كانوا من ذريته ، وأما عدنان فإن حظ
ذريته تأخر قليلاً ، ولكنه كان لعظمه متجاوز النسبة؛ أي إنه لا نسبة بين حظ
القحطانيين الذين كان يقوم منهم ملوك، ثم ينطفئ مجدهم وحظ إخوانهم
العدنانيين الذين أشرق منهم نور مبين بهر العالمين أجمعين.
فلذلك نَلُمُّ هنا بذكر الذرية العدنانية دون الذرية القحطانية؛ لأننا نريد أن
يتعرف القارئ بقوم خديجة الخصوصيين. (فعدنان) ولد له (معد) ومعد ولد له
(نزار) وأولاد نزار أربعة: (مضر) وإياد وربيعة وأنمار ، وقد فارق إياد
الحجاز ، وسار بأهله إلى أطراف العراق.
ومن ذريته كعب بن مامة الإيادي المشهور بالجود ، وقُسّ بن ساعدة الأيادي
المشهور بالفصاحة. ومن ذرية ربيعة بن نزار قبائل: عنزة ، وبكر ، ووائل ،
وتغلب، ومن تغلب كليب ملك بني وائل الذي قتله جساس، فهاجت لقتله الحرب بين
بني وائل وبين بني بكر وبين بني تغلب. ومن بني بكر بن وائل بنو شيبان ومن
مشهوريهم مرة وابنه جساس قاتل كليب وطرفة بن العبد الشاعر ، ومن بني بكر
بنو حنيفة، ومن مشهوريهم مسيلمة الكذاب.
وولد لمضر بن نزار (إلياس) وقيس عيلان ، وكثرت ذرية قيس هذا ، فمن
ذريته قبائل هوازن ، ومن هوازن بنو سعد بن بكر الذين منهم مُرضعة النبي صلى الله
عليه وسلم ، ومن ذريته بنو كلاب وقبائل عقيل وبنو عامر ، وصعصعة ، وخفاجة ،
وبنو هلال ، وثقيف ، وبنو نمير، وباهلة ، ومازن ، وغطفان ، وبنو عبس الذين منهم عنترة المشهور ، وقبائل سليم، وبنو ذبيان ، وبنو فزارة ، وكان بين عبس
وبني ذبيان حرب داحس التي ظلت أربعين عامًا. ومن بني ذبيان النابغة الذبياني
الشاعر المشهور.
وولد لإلياس بن مضر (مدركة) وطابخة ، ومن ذرية طابخة بنو تميم
والرباب وبنو ضبة وبنو مزينة.
وولد لمدركة بن إلياس (خزيمة) ، وهذيل وإلى هذيل هذا تنتسب جميع قبائل الهذليين ، ومنهم: أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور.
وولد لخزيمة بن مدركة (كنانة) ، وأسد ، والهون ، وولد لكنانة بن خزيمة
(النضر) ، وملكان ، وعبد مناة ، وعمرو ، وعامر ، ومالك فمِن ملكان بنو
ملكان ، ومن بني عبد مناة بنو غِفار ، ومن مشهوريهم أبو ذر، وبنو بكر. ومن
بني بكر هؤلاء الدِّئَل. ومن مشهوريهم: أبو الأسود الدؤلي، وبنو ليث، وبنو مدلج،
وبنو ضمرة.
وولد للنضر بن كنانة (مالك) ، ولم يعرف له ولد سواه ، وولد لمالك هذا
(فهر) وفهر هذا الذي سمي قريشًا ، ولم يولد لمالك غير فهر ، وولد لفهر (غالب)
ومحارب ، والحارث ، فمن محارب بنو محارب ومن الحارث بنو الخلج ، ومن
مشهوريهم: أبو عبيدة بن الجراح ، وجميع ذراري فهر يقال لهم قرشيون.
وولد لغالب بن فهر (لؤي) ، وتيم الأدرم ، ومن تيم المذكور بنو الأدرم ،
ومعنى الأدرم: ناقص الذقن.
وولد للؤي بن غالب (كعب) وسعد وخزيمة والحارث وعامر وأسامة. ومن
ذرية عامر بن كعب عمرو بن ودّ فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب.
وولد لكعب بن لؤي (مُرّة) وهصيص ، وعديّ فمن هصيص بنو جُمَح
ومن مشهوريهم: أمية بن خلف ، وأخوه أُبَيّ بن خَلَف ، وكلاهما كانا عدوين
عظيمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن هصيص أيضًا بنو سهم ، ومن عدي
بنو عدي ، ومن مشهوريهم عمر بن الخطاب ، وسعيد بن زيد.
وولد لمرة بن كعب (كلاب) وتيم ويقظة ، فمن تيم ومن مشهوريهم أبو بكر
الصديق ، وطلحة، ومن يقظة بنو مخزوم ، ومن مشهوريهم خالد بن الوليد ،
وأبو جهل عمرو بن هشام.
وولد لكلاب بن مرة (قصي) ، وزهرة ، ومن ذرية زهرة سعد بن أبي
وقاص وآمنة أم النبي صلى الله علية وسلم ، وعبد الرحمن بن عوف ، وقد كان
قصي هذا عظيمًا في قريش ، وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من بني خزاعة، وهو
الذي أثل مجدهم.
وولد لقصي بن كلاب (عبد مناف) ، وعبد الدار ، وعبد العزى ، فمن بني
عبد الدار بنو شيبة حجاب الكعبة ، ومن مشهوريهم النضر بن الحارث كان من
أشداء أعداء النبي، ومن عبد العزى أيضًا سيدتنا خديجة بنت خويلد التي نروي
سيرتها.
وولد لعبد مناف بن قصي (هاشم) وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفل ، فمن
عبد شمس أمية ، ومنه بنو أمية ، ومنهم: عثمان بن عفان ، ومعاوية بن أبي سفيان
مؤسس الملك الأموي. ومن المطلب ابن عبد مناف المطلبيون ، ومن ذريتهم الإمام
الشافعي ، ومن نوفل النوفليون.
وولد لهاشم (عبد المطلب) ، ولم يعلم له ولد سواه. وولد لعبد المطلب (عبد
الله) ، وحمزة ، والعباس جد الملوك العباسيين.
وولد لعبد الله بن عبد المطلب (محمد) النبي عليه الصلاة والسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس وتتمته: قال الله تعالى (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب مصر الحديثة للّورد كرومر
(نظرة إجمالية في الكتاب)
أقام لورد كرومر في مصر نحو ربع قرن متصرفًا بنفوذ الحاكم المطلق ،
فعرف من أحوال حكومتها وسيرها الاجتماعي ما يعز على غيره من حكام البلاد أو
نزلائها من الأوربيين أن يعرفوه ، ثم أودع زبدة ما عرفه في كتاب يدخل في ثلاثة
مجلدات ، طُبع اثنان منها ، وأوصى هو بطبع الثالث عقب موته؛ لأنه خاص بحال
مصر في عهد الأمير الحالّ عباس باشا الثاني ، والظاهر أنه أشد الأجزاء وطأً
وأثقل قيلاً على مصر والمصريين على أن الجزء الثاني لا تستخف وطأته، بل لا
تطاق كلمته، فهو قد حكم لكل الشعوب التي تتبوأ أرض مصر وعليها ، ولكنه حكم
على المصريين لا لهم ، ولم يحكم عليهم بالمساواة بل فضل القبط على المسلمين
تفضيلاً من حيث دينهم وما فيه من المرونة التي تساعدهم على مجاراة المدنية ما لا
يساعد الإسلام أهله على زعمه.
ولم يكتف بالحكم في قضايا الشعوب من حيث هو حاكم سياسي اجتماعي ، بل
حكم أيضا في قضايا الرجال المشهورين الذين عرفهم من بعض الوجوه ، وكان
حكمه عليهم من غير الوجه الذي عرفهم به؛ إذ حكم على مطويات العقائد ،
ومكنونات الضمائر ، وخطرات القلوب.
ولم يرضه هذا حتى رفع نفسه إلى مستوى الحكم على الإسلام من حيث هو
دين ، ومن حيث هو شريعة ونظام اجتماعي ، فحكم من الحيثية الأولى له وعليه ،
ومن الحيثية الثانية عليه لا له ، وانتقل من الحكم عليه إلى الحكم على أهله عامة
حتى في مستقبل أمرهم ، فكان حكمه هذا صاخّة تصخّ المسامع ، وقارعة تصدع
القلوب ، بل هو عِبْرة للمعتبرين ، وموعظة للمصريين وسائر المسلمين.
رأيت حديث الناس في هذا الكتاب يدور على قطبين:
(أحدهما) : الحكم على شعور الكاتب حينما دوَّن حكمه على المصريين ،
وعلى الإسلام والمسلمين ، فما رأيت بينهم خلافًا في كونه كتب بمداد الحقد والحنق ،
وقلم الحفيظة والانتقام من المصريين بما فوقوا إليه من سهامهم، وصوبوا إليه من
أسنة أقلامهم في وقت مفارقته لديارهم، وهو وقت ضاق فيه ذاك الصدر الواسع عن
احتمال الانتقاد، بَلْهَ الشماتة والإزراء على أنه قد ظهر ضيق صدر اللورد قبل
ذلك في تقريره الأخير، ثم في خُطْبته التي خطبها قبيل الرحيل.
هذا ، وأما القطب الثاني لحديث الناس في الكتاب فهو غرضه منه ، وقد رأيت
أهل الفهم والذكاء يقولون من غير مواطأةٍ ولا تقليدٍ: إن غاية اللورد من هذا الكتاب
هي أن يستل من نفوس أحرار قومه فكرة توقيت الاحتلال، والخروج من مصر في
يوم من الأيام، ويقنعهم ويقنع أوربا معهم بأن لا ضمان لحفظ مصالح الأوربيين في
مصر ، بل ولا مصالح المصريين إلا بقاء الإنكليز في مصر؛ لأن المصري شديد
التمسك بدينه الذي لا يتفق مع المدنية فإن هو تركه واتبع هذه المدنية كما يحب
الأوربيون ويبغون كانت مدنيته تقليدية لا حقيقية ، وكان بذلك شرًّا من المسلم
المتدين وأشد عداوةً للأوربي وللمسيحي ، ولو غير أوربي.
ويرون أن تصريحه بعدم استحسان ضمّ مصر إلى أملاك إنكلترا ، وما أظهره
من الميل إلى إعدادهم للاستقلال هو من التمويه ، وذرّ الرماد في العيون ، وإلهاء
المصريين بالأماني والأحلام ، وأصحاب هذا القول غافلون عن طرق الاستعمار
الجديدة ، ومنها حكم البلاد باسم أهلها ، والرضى بالسلطة الفعلية بديلاً من السلطة
القولية ، وقد سبق لنا بيان لهذه الطرق في السَّنَة الأولى من المنار ، وفي غيرها
أيضًا.
هذه صفوة الآراء التي دارت بين الناس في شعور مؤلف كتاب مصر الحديثة ،
وفكره المستولي عليه عند الكتابة ، وفي غايته منه ، وذلك ضرب من ضروب
انتقاد المصنفات مطروق الأبواب معهود عند الكتاب.
ومما ينتقد على هذا الكتاب - وهو من أصول الانتقاد - استنباط القواعد الكلية
من شواذّ الحوادث الجزئية، ولم يسلم اللورد من ذلك ، فإنه في المقابلة بين عقل
الغربي والشرقي أورد الأمثلة لعقل الشرقي الضعيف التنظيم والإدراك (لاعتقاده
بالقضاء والقدر ، ورضوخه لكل سلطة تتولى أموره) فإنه بعد أن دعم الحكم على
عقل الشرقي بهاتين العِلّتين مثّل للحكم الكلي العامّ بما نصُّ ترجمته:
قال اللورد: (حدث أكثر من مرة أن (المفتحجي) في مصلحة الحديد المصرية
حوَّل الخط والقطار عليه، لم يمر إلا نصفه إلى الخط الآخر؛ فأدى ذلك إلى انقلاب
القطار ، وحدث أيضًا أن سائق قطار نَسِيَ أحيانًا أيّ مفتاح يجب أن يُحَرَّك لكي يوقف
القطار ، وحدث مرة أن عمال السكة الحديدية قُتِلوا لأنهم ناموا بعد أن وضعوا
رءوسهم على الخط الحديدي ، وإنما فعلوا ذلك ليثقوا بأنهم يستيقظون على أصوات
القطار الآتي) .
ونقول: إن أمثال هذه الجزئيات تقع في أوربا وفي جميع البلاد من جميع
الشعوب، وناهيك بالطبقة الدنيا من العمال ، فإن ذكي الفطرة عالي النفس لا
يرضى لنفسه بأن يكون من أحقر عمال سكة الحديد، وناهيك بالمبتدئين من أهل
هذه المهنة بها ، والغالب أن يكون أصحاب ذلك الشذوذ الذي ذكره منهم. فحال
أمثال هؤلاء لا يصح أن يكون مناط المقابلة بين الشعوب في ارتقاء العقل وملكة
النظام فيه. وإنما ينظر في حالهم من وجهة النشاط في العمل ، والصبر عليه ،
ولعله لو قابل بين فَعلة الأوربيين وفَعلة المصريين في هذه المزايا لَمَا قدر أن يبخس
المصريين حقهم، وإن ظن أن القضاء والقدر قد فتك باستعدادهم لكل عمل! !
ونسي أن أكثر المستخدمين في سكة الحديد من القبط الذين هم على شاكلته في عدم
الإيمان بالقضاء والقدر.
وإنني أذكر له شيئًا من بَلادة بعض الأوربيين وغفلتهم وهو أبعد عن العقل
والنظام مما صدر عن صغار فَعلة السكة الحديدية في مصر ، ناقلاً إياه عن كتاب
صفوة الاعتبار لصديقه الشيخ محمد بيرم الثقة العدل - رحمه الله تعالى - فإنه كتب
في الفصل الذي عقده لبيان عادات أهل فرنسا وصفاتهم ما نصه:
ومع ذلك - أي انتشار المعارف - فلا يزال في فرنسا خَلْق كثير على
السذاجة والجهل. ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها:
ففي سنة 1297 هـ 1880م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلاً جهة باريس
وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الابن من كسبه ما يشتري به حذاءً ، فأرسل
إلى أبيه يشتكي له القلّ ، ويطلب منه شراء حذاءٍ له ، فاشتراه له ، وحمله في الطريق
وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه ، فبينما هو ماشٍ إذ مرّ مُحاذيًا للسلك الكهربائي ،
فقال: هذا أيسر طريق! ! إني أحمله الحذاء وهو يوصله لابني. فجاء إلى عود
السلك وعلّق فيه الحذاء وأسرَّ إلى العود بقوله: (أوصِلْ هذا لابني فلان في المكان
الفلاني) وذهب مسرورًا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف. ثم مرّ من غدٍ
متفقدًا ما فعل السلك بالحذاء ، فوجد في ذلك المكان حذاءً عتيقًا أفناه اللُّبْس ، ففرح ،
وقال: (إن ابني لَعاقل حيث أرسل لي القديم لأستعين به على ثمن الجديد) فانظر
إلى البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيّين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد
عن المعارف وتهذيب الأخلاق.
وقد صدق ظنّه صديقه لورد كرومر ، فإنه شنع على الشرقيين كافّة بما وقع
من بعض فعلة سكة الحديد بمصر.
ثم قال بيرم: (واعلم أن مثل هذا الرجل كثير سِيَّمَا في القرى الصغيرة
والجبال، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة ، ويعتقد التأثير
لأشجار وجمادات، ويتشاءم بالأوقات، فقد رأيت في كثير من بلدانهم ، وبلدان
الطليان ، وكذا الإنكليز طاقات في حيطان ، فيها منارات توقد ليلاً بالزيت أو بالشمع
العسلي تقربًا إلى بعض أوليائهم أو الجن ، معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة،
ولا ينورونها بغير ما ذكر من الأنواع؛ لأن القسوس يقولون لهم: إن شمع الشحم
أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها.
وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول
أرواح فيها. وقد ذكر من هذا النوع في (كشف المخبا عن فنون أوربا) ما يتعجب
منه السامع مما ترى الأورباويين، ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبثه
على البلاد الإسلامية وحدها ، ويجعلونها سخرية ، وينزهون أوربا عن مثلها مع أنها
حاوية لشبهها ولأشد منها؛ بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة
- وحاشا لله - أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك ، بل إنها هي المهذبة ، والمنقذة من
غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر) . ا. هـ بحروفه.
هذا ما قاله عن أهل فرنسا ، وهم أسبق الأوربيين إلى العلم والمدنية ، وأذكاهم
أذهانًا على أنه قال: إن الإنكليز كذلك. بل قال في كلامه من عادات الإنكليز
وصفاتهم ما نصه:
(وأما أطوار الطبقة السفلى ، فهي أشنع مما مر ذكره في همج الفرانسيس
سواء كان من من جهة الاعتقاد أو من جهة السيرة والحركات فيتطيرون من أشياء
كادت أن لا تحصى ، وينقادون إلى السَّحَرة والدّجّالين بما يخرج عن حدّ المعقول
وكاد التعلم أن يكون عندهم مجهول الاسم فضلاً عن المسمى سوى ما يرطن لهم
القسيسون في الكنائس) إلخ.
أقول: أما خرافات القبور والأولياء التي قال: إنهم يعيبون الإسلام بمثلها ، وهو
منها بريء ، فقد أخذها المسلمون عنهم وهم أخذوها عن أجدادهم أو مجاوريهم من
الوثنيين ، فالإسلام والنصرانية الحقيقية بريئان منها؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع)، قالوا: يا رسول الله ، اليهود
والنصارى؟ قال: فمن؟ . رواه الشيخان وغيرهما.
وإن تعجب فعجب مقارنته في هذا المقام بين الأوربي مطلقًا والعامي المصري
في الحساب فقد قال بعد ما تقدم ما ترجمته كما في المؤيد:
(وقارن أيضًا بين تقدير الأوربي للحساب وبين المصري العامي الذي يشكل
عليه إشكالاً كاملاً كل أمر يتعلق بالأرقام أو الكمية ، فإن عددًا قليلاً من عامة
المصريين يعرفون عمرهم. فإذا سألت المصري عن عمر رجل متقدم في السن يكون
جوابه غالبًا: (إن عمر الرجل مائة سنة) ويقول في نفسه: ماذا يهم التدقيق في هذا
الأمر ، أو أي أمر آخر علمي) .
قلت: إن هذا من مواطن العجب؛ لأن المقارنة فيه بين الأوربي المتعلم
والمصري العامي ، ولماذا لم يقارن في الحساب والأرقام بين المتعلم من الفريقين؟
لعله لأنه يعلم أن المصريين من أقوى الشعوب استعدادًا للبراعة في الحساب وسائر
العلوم الرياضية ، وقد أراد الإنكليز منذ بضع سنين أن يجعلوا ترقية المهندسين منهم
على المهندسين من المصريين مبنيًّا على قاعدة عادلة؛ لظنهم أن الإنكليز أعلم
وأبرع ، فامتحنوا الفريقين ، فأسفر الامتحان عن فوز المصريين وتخلف الإنكليز
عنهم ، وسكت الفريقان على ذلك الامتحان ، فلم يُعلموا به الجرائد.
أما الإنكليز فلِمَا هو ظاهر ، وأما المصريون فلِخوفهم أن يحنق عليهم
رؤساؤهم ، وينتقموا منهم.
ومما تقدم في كتابه تقليده لغير واحد من كتاب الأوربيين في آرائهم في
الإسلام، وكان أجدر من كثير من أولئك الكاتبين بمعرفة حقيقة الإسلام لو أراد أن
يعرفه وينصفه فإنه عاش في مصر عمرًا طويلاً ، وعرف أشهر علمائها ن بل أشهر
علماء الإسلام المعروفين في العالم كله الآن ، وناهيك بالأستاذ الإمام وطول باعه في
علوم الدين ، ورسوخه في فهم القرآن ، وهو الذي لم يكن يحتاج في مخاطبته إياه
وفهمه عنه إلى ترجمان كما كان يحتاج في مخاطبة غيره من شيوخ الأزهر. ولكنه
لم يكن يسأله عن أصول الإسلام وحكمه وأحكامه، ولا الأستاذ الإمام كان يبتدئه بشيء
من ذلك ، وإنما كان يقصد إليه؛ لأجل الكلام في المسائل المصرية ، لا سِيَّمَا
المحاكم الشرعية.
ومما ذكر لي عنه أنه كان يذاكره مرة في إصلاح هذه المحاكم ، ومعارضة
قاضي مصر وبعض المشايخ ، ومقلديهم في ذلك كما حصل في مجلس شورى
القوانين ، وذكر اللورد كثرة شكوى الأهالي من الظلم وضياع الحقوق في هذه
المحاكم ، ولَمَّا بيَّنَ الأستاذ الإمام أنه ليس في أصل الشرع شيء ينافي الإصلاح
العدل ، قال له اللورد: هل تصدق يا أستاذ أنه يخطر في بالي أن شريعة قامت على
أساسها مدنية عظيمة تكون غير عادلة؟ كلا ، إنني أعلم أن كل هذه المفاسد مسائل
(إكليركية) أي: من تقاليد المشايخ التي تشبه تقاليد رجال (الإكليروس) عند
النصارى.
أنقل هذا بالمعنى كما أحفظه عن الأستاذ الإمام ، وأستطرد من ذلك إلى انتقاد
ما كتبه اللورد عنه ، ثم ألخص كلامه في الإسلام من حيث هو دين ، ومن حيث هو
شريعة، وأبين خطأه وخطله فيه ، وأنتقل مِنْ ثَمَّ إلى المقصد الأعظم وهو مستقبل
الإسلام والمسلمين ، ومراد اللورد وأمثاله من أساطين السياسة وأمانيهم في ذلك ،
وما يجب علينا من العِبرة والعمل في هذا المقام، مع تعدد السُّبُل واشتباه الأعلام.
* * *
قول اللورد في الشيخ محمد عبده
لم يسلك اللورد مسلك أصحاب التراجم من المؤرخين فيذكر ما للرجال الذين
ترجمهم من الصفات والمزايا ، وما عليهم من التقصير ، وإنما ألمَّ بذكر بعض كبار
الرجال المشهورين إلمامًا ، ولم ينظر إلى أحد من المسلمين بعين الرضا كما نظر
إلى الشيخ محمد بيرم التونسي على أنه مدحه بشيء يراه هو مدحًا ، ويراه جميع
المسلمين ذمًّا؛ إذ قال فيه: (علمه ذكاؤه الفطري ، إن النظامات التي تعلق بها
أسلافه (يعني: الشريعة التي جرى عليها المسلمون السابقون) لا بُدَّ أن تتلاشى إذا
قابلتها المبادئ السامية المرقومة على راية الإنكليزي! رأى كل هذه الأمور بعين
الناقد البصير) وقال بعد ذلك: إن مثله إذا ناقش المسيحي في الأمور العامة يكون
من النتيجة المحزنة أنه: (يكتفي بندب مصير ذلك الدين الذي يحبه ، وذلك النظام
المؤذي الذي أوجده دينه) ، ثم ذكر أنه لا يوجد عند أمثال بيرم من خيار المسلمين
طريةً قادرةً على إحياء الإسلام الذي هو حالة الموت السياسي والاجتماعي! ! ونحن
نعلم فيما رأينا من مؤلفات الشيخ محمد بيرم وما سمعنا عنه ممن لقيه أنه كان متمسكًا
بهذا الفقه ويراه أحسن نظام ، ويعتقد أنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم - فإذا كان مع ذلك يفضل عليه المبادئ والقوانين الإنكليزية ، أو يرى أنه
نظام مؤذٍ؛ فكيف يكون راسخًا ذلك الرسوخ في الإسلام؟ أرى أنه على إطرائه
لبيرم في الدين قد ذمه من حيث أراد مدحه ، ولم يعرف حقيقته الدينية كما هي ولا
يرضى مريدي الشيخ محمد عبده أن يكون مثله مرضيا للورد في ذلك ، وإن كانوا
يعلمون أنه لا يعد جميع هذا الفقه ، ولا أكثره من الدين. وإننا نذكر الآن رأي
اللورد في الأستاذ الإمام في تقريره لسنة 1905 ، ثم نشفعه برأيه في مصر الحديثة،
ونبين سبب الاختلاف بينهما.
* * *
(قوله فيه بتقريرسنة1905)
اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر ، أريد به الشيخ محمد عبده ، فأحببت أن أسطر هنا رأيي
الراسخ في ذهني ، وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة.
لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له
الخديوي السابق صفح عنه طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق ، فعين الشيخ
بعد ذلك قاضيًا في المحاكم الأهلية ، حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق
والاستقامة ، وفي سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن ، فأصبحت
مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة؛ لتضلعه من علوم
الشرع الإسلامي مع ما به من سَعَة العقل ، واستنارة الذهن ، وأذكر مثالاً على نفع
عمله الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق
التوفير ، فقد وجد لهم بابًا به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع
الإسلامي في شيء.
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر ، ومنها قام الشيخ الجليل السيد
أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عامًا. والغاية
العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير
أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي ، أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس
ديني. فعملهم شاقّ وقضاؤه عسير؛ لأنهم يستهدفون دائمًا لسهام نقد الناقدين ،
وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد ، ويقصد آخرون قضاء
أغراضهم ، وحكّ حزازات في صدورهم ، فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة
الدين.
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ،
ولكنهم قليلون ، وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية ، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم ، فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين
إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم.
والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم
بهُوَّة عظيمة. فهم وسَط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي
حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غيرَ أن معارضة المحافظين لهم
أشدّ ، وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين؛ إذ هؤلاء لا يكاد يُسمع لهم صوت.
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها
وكبيرها ، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا. وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه،
فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين. ولعلهم يجدون
بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف فيه المعارضة التي لقيتها
مدرسة عليكره المذكورة آنفًا ، والطريقة التي تغلبوا بها على تلك المعارضة ، وههنا
ذكر عبارة عن كاتب هندي اسمه السيد محمود تضاهي عبارته في المقدار.
ومما كتب في أواخر الفصل الذي يتكلم فيه عن المحاكم الشرعية ما ترجمته:
(هذا ، وإني أوافق السر ملكولم مكلريث على ما قال عن الضربة الثقيلة التي
أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده ، فقد أشرت إلى
خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير ، وأعود فأبسط الرجاء
أيضًا أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده ، بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته) .اهـ
أما ما قاله السر ملكوكم مكلريث ، وصرح به اللورد بموافقته عليه فهذا نص
ترجمته:
(قول المستشار القضائي في الشيخ محمد عبده)
ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير
أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليه الفائت ، وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده؛ فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية ،
وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه ، والاستعانة بمساعدته الثمينة ،
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها.
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم
ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية ، وغيرها من الإصلاحات
القضائية؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ، ويبحث عن
حلّ يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك.
وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرًا لسموّ مداركه وسَعَة اطلاعه ،
وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظيفه في
محكمة الاستئناف ، وسياحاته إلى مدن أوربا ، ومعاهد العلم. وكانت النظارة تريد
أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة
فعلية. أمّا الآن ، فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة للقيام بهذه
المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته ، فلكل هذه الأسباب أخشى أن نظارة الحقانية
ستظل زمنًا طويلاً تشعر بخسارتها بفقده. اهـ كلام المستشار.
* * *
(قول اللورد فيه بكتاب مصر الحديثة)
أما الشيخ محمد عبده ، فكان عالمًا من طراز يفضل كثيرًا طراز إخوانه الذين
أشرت إليهم (كالسادات والبكري) وكان أحد زعماء الفتنة العرابية ، فلما جئت مصر
سنة 1883 كان مغضوبًا عليه ، ولكن الخديوي توفيق عفا عنه بما فطر عليه من
مكارم الأخلاق ، وانقيادًا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك ، وعينه قاضيًا ، فأحسن العمل ،
وأدى الأمانة حقّها. وكان متوسعًا في آرائه ، وعلى علم ونباهة ، فلم ينكر المساوئ
الناشئة في الحكومات الشرقية ، وعرف أنه لا بد من الاستعانة بالأوربيين للإصلاح
إلا أنه لم يكن من عداد المصريين المتفرنجين ، وكان يقول: إنهم لم يحسنوا تقليد ما
حاولوا تقليده من الأخلاق الأوربية ، وكان عدوًا للخديويين والباشاوات؛ وأريد بذلك
أنه لو عثر على باشاوات صالحين لَمَا أعرض عنهم ولا عارضهم ، ولكنه لم يوفق إلا
إلى عدد قليل من خيارهم مع اختباره الطويل.
وحقيقة الأمر أن الرجل كان مفطورًا على الخيال ، ويرى آراء لا يمكن الجري عليها إلا أنه كان مع ذلك مصريَّا وطنيًّا حقيقيًّا ، ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكون أمثاله كثارًا ، ولكن إذا نظرنا إلى نسيج محمد عبده والذين يعلمون تعاليمه
من جهة إمكان اتخاذهم ساسة للمستقبل نجد أن هناك بعض أوجه الضعف ، وقد قال
المستر ستانلي لاين بول: إن المسلم من الطبقة العليا لا بد أن يكون أحد اثنين:
(إما متعصب أو ملحد في سره) فمثل هذه الحيرة على شكل مختلف قد أوجدت
عقبات في سبيل المسيحيين الذين يؤمنون بحرفية تعاليم المسيح دون معناها أنها عقبات أعظم للمسلم الأصيل الذي يبذل عناية كلية بحرفية تعليم دينه دون معناها ، وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره (لا أدريا) ولو أنه يستاء من هذه النسبة لو نسبت إليه.
وكان معاشروه ومخالطوه يسلمون بمقدرته ولكنهم كانوا يرمقونه شزرًا
ويقولون: إنه (فيلسوف) وكل من يدرس الفلسفة؛ أي: كل من يدرك
الفرق بين القرن السابع والقرن العشرين هو في أعين المتمسكين بالقديم سائر إلى
الهلاك لا محالة. هذا وإن أهمية محمد عبده السياسية هي في أنه أسس مدرسة
فكرية في مصر على مثال ما أسس في الهند سيد أحمد منشئ كلية عليكرة ، وغاية
الذين ينتمون إلى تلك المدرسة هي تزكية طرق الإسلام في عين الإنسان أو بالحري
في عين الرجل المسلم ، ولكن شدة اشتباه المسلم المحافظ فيهم ، واتهامه إياهم
بالمروق من الدين يمنعانه من المسير معهم طويلاً ، ونراهم من الجهة الأخرى
غالبًا غير متفرنجين إلى حد أن يجذبوا إليهم المصري المقلد للطرق الأوربية ، فهم
أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه؛
ولذلك ترى مهمتهم عسيرة جدًّا ، ولكنهم جديرون بكل تشجيع ومساعدة يمكن
إمدادهم بهما؛ لأنهم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون وسيري كل مصري محبّ
لوطنه أن في تقدم أتباع محمد عبده خير رجاء له في إنقاذ برجرامه ألا وهو
جعل مصر مستقلة استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا.
وقد علق اللورد في ذيل هذه الصحيفة قوله: إنني قدمت لمحمد عبده كل
تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة ، ولكنه عمل شاق ، ففضلاً عن العداء الشديد الذي
كان يلاقيه من المسلمين المحافظين كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو ،
ولو يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء له أن الإنكليز أيدوه بقوة.
وقد أثنيت عليه في تقاريري السنوية ثناءً عظيمًا ، وأنا أعظم الناس أسفًا حقيقيًّا
على وفاته على أنني في الوقت نفسه لا أرى بُدًّا من الاعتراف بما عراني من الدهشة
عندما طالعت بعض الأنباء الجديدة في كتاب المستر ولفرد بلنت فيظهر أن المستر
ولفرد بنى آراءه في المسائل المصرية على ما سمعه من محمد عبده؛ فقال عنه في
كتابه التاريخ السري: إنه فيلسوف كبير ، ووطني عظيم. وقد قرأت بدهشة وأسف
معًا ما يأتي بلسان محمد عبده:
(عرض علي الشيخ جمال الدين الفتك بإسماعيل يومًا عند مروره بعربته
يوميًّا على كوبري قصر النيل ، فاستحسنت رأيه ، ووافقته ولكن الأمر اقتصر على
الكلام بيننا ، ولم نوفق إلى شخص يتولى تنفيذ هذا العمل) ، فكفاني أن أقول بعد
هذا: (إن العالم المتمدن عمومًا ينظر شزرًا إلى الوطنيين ، ويحتقر بالأكثر أولئك
الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل) . اهـ
من ترجمة المؤيد.
* * *
المقابلة بين القولين
من قابل بين ما قاله اللورد في تقريره وما كتبه في كتابه (مصر الحديثة)
يرى فرقًا عظيمًا بين القولين ، فإن عبارة التقرير لا ذمَّ فيها، ولا تعريض وعبارة
التاريخ فيها ذم صريح، وتعريض ظاهر بل المدح الذي فيها بمعنى ما في التقرير
ضئيل مبهم يحتمل صرفه إلى الذم في بعض المواضع؛ فإنه لما وصفه بالعلم فضله
على السادات والبكري وهما ليسا من العلماء ، ولما ذكر أنه متهم بالفلسفة فسر ذلك
بالتفرقة بين القرن السابع والقرن العشرين. وقد قال المؤيد في هذا التفاوت ما يأتي:
قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة ، وهو صديق
مخلص للورد كرومر ، وقضى هذا اللورد زمنه الذي صادق فيه هذا الشيخ وهو
يساعده في الوظائف ويدافع عنه فيها. ويقول الآن بصريح العبارة: إنه لولاه ما
بقي في منصب الإفتاء طويلاً.
كان اللورد يطريه مدحًا في حياته كلما ذكر اسمه في مجلسه ، وكلما جاءت
مناسبة لذكره في تقاريره ، ويخيل لقارئ كتاب مصر الحديثة الآن أن اللورد يحاول أن
يطعن عليه أكثر من كل إنسان في مصر ، لولا ما سيق له من المدح فيه. فَلِمَ هذا؟.
* * *
(رأي المؤيد في صداقة اللورد للشيخ)
(إن جواب هذا السؤال موجود بين سطور اللورد كرومر فيما كتب عن هذا
الرجل في كتابه الأخير) .
ثم ذكر المؤيد في بيان ذلك أنه كان من زعماء الثورة العرابية ، وأوضح ذلك
وأكده وذكر قول اللورد أن الخديوي السابق عفا عنه بتشديد الإنكليز عليه في ذلك،
وأنه كان على خلاف كبير مع الخديوي ، ثم بين صاحب المؤيد رأيه ، وأضاف إليه
كلمة طالما حاكت في صدره ، ونوّه بها حتى لفظها اليوم ، فأراحنا، وأراح الناس؛
قال ما نصه:
من خلال هذا الكلام يظهر الجواب الحقيقي ، وهو أن اللورد كرومر لم يكن
صديقًا للمرحوم الشيخ محمد عبده كما كان هذا صديقًا مخلصًا له؛ ولكنه كان متمسكًا
بصداقته الظاهرية؛ لأنه كان يريد أن يضع في يده رجلاً قويّ العارضة ، لدود
الخصام ، عدوًّا لتوفيق باشا أولاً ، ولخلفه ثانيًا ، ولإسماعيل باشا قبل ذلك.
ولا مراء في أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان يكره طائفة الباشوات كما يقول
عنه اللورد من جهة ، وكان وطنيًّا صادقًا من جهة أخرى. فكان اللورد يحبه من الجهة
الأولى ، ولا يستطيع أن يخلص له الحبّ من الجهة الثانية؛ لذلك كان يطريه وهو
ينتفع بإطرائه. أمّا الآن وقد مات الشيخ محمد عبده ، وفارق اللورد كرومر مصر ،
فلم تكن ثَمَّتْ حاجة لأَنْ يداري اللورد فيه كل المداراة ، وإنما لاحظ أن يداري نفسه لما
كتب عنه أولاً فيما كتب عنه ثانيًا، فجاءت كتابته هكذا خليطًا من المدح والقدح ،
وثوب الرياء يشف عما تحته.
* * *
(قول المؤيد في الشيخ نفسه)
وعندنا أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان رجلاً عالمًا فاضلاً ذا خلال
محمودة كثيرة من صفات النجدة والوفاء والمروءة ، ولا نقول كما قال اللورد عنه:
إنه كان ملحدًا ، أو لا أدريا ، أو ضعيف الإيمان؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب
التي يستأثر الله بعلمها ، وأما ظواهره فكانت مجال مقال كثير لأصدقائه من جهة ،
ولأعدائه من جهة أخرى ، ولكنه كان على كل حال عالمًا مصلحًا يحاول ما استطاع
إصلاح الفاسد من الشئون التي طرأت على الدين ، ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ،
وفي آخر عهده من الدنيا كان يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح
من عند الله؛ فكان يجاهد في سبيل ذلك جهادًا حقيقيًّا ، وإنْ لم ينل حظّ الثقة العامّة
بذلك.
وأضعف الجوانب في أعمال وآراء الشيخ محمد عبده كان الجانب السياسي
منه ، فكان فكره السياسي خياليًّا غالبًا كما قال اللورد؛ لأنه كان في كثير من
الظروف يخيل له أن يقبض بكلتا يديه على اللورد كرومر من جهة ، وعلى الجناب
الخديوي من جهة ، فيفشل في الأمرين معًا حتى يقول الجناب الخديوي من جهته ما
يقول فيه، وحتى يضحك اللورد من هذا الضعف السياسي فيه.
هذه كلمتنا في المرحوم الشيخ محمد عبده ، قلناها بحرية تامة في هذه المناسبة؛
لنقول: إن كان اللورد أصاب في بعض ما قاله عن المرحوم الشيخ محمد عبده فقد
أخطأ في حقه مرتين الأولى في حياته؛ لأنه لم يكن يعضده ويساعده إلا لغرض
واحد ، وهو أن يكون عدوًّا حقيقيًّا دائمًا للخديو ، فكان يدفعه دائمًا إلى الأمام في ذلك،
والثاني أنه تعرض الآن للطعن على عقيدته ، والعقيدة مسكنها القلب خصوصًا وأن
الطاعن مسيحي على عالم مسلم فيما هو مسلم به.
(ولكن اللورد أراد من هذا الطعن شيئًا آخر وهو أن المسلم إن صار مصلحًا
يومًا ما لم يستطع أن يكون كذلك إلا وهو مارق من الدين. حتى إنه لما مدح الشيخ
بيرم ، وذكر من صفاته أنه كان يطبق أحكام الإسلام على المعلومات العصرية ، قال
عنه: إنه كان كمن يحاول أن يربع الدائرة) .
* * *
(قولنا فيما كتب المؤيد)
إذا تنازع الكاتب فكران أو شعوران عند الكتابة في موضوع هو أصل في
أحدهما والآخر فرع له؛ فيوشك أن يذهله الفرع عن أهم أركان الأصل كما وقع
للمؤيد ، فوجب أن نبين ما غلط به المؤيد هنا حتى خفي عليه به خطأ اللورد
الحقيقي لنفي الموضوع حقه؛ فنقول.
(1)
إن الأساس الذي بنى عليه المؤيد تفرقته بين كلامي اللورد في هذا
المقام غير صحيح ، وهو أن اللورد كان يطري الشيخ في حياته؛ إذ كان ينتفع
بإطرائه في دفعه لعداء الخديو، ثم ذمه بعد موته ، وخروجه هو من مصر لزوال
الحاجة. فإن هذا الثناء العظيم في تقريره الذي ليس عندنا مدح منه سواه قد كتبه
بعد موته ، وإذا كان عند صاحب المؤيد رواية لسانية عن اللورد فهي لا تقوم حُجة
عليه ، ولا يصح مقابلتها بما كتبه اليوم إلا أن يكون على سبيل التبع.
(2)
إن كون الأستاذ الإمام كان من زعماء الثورة العرابية لا يصلح سببًا ،
ولا جزء سبب لمساعدة اللورد إياه ، وإلا لساعد سائر زعمائها.
(3)
إن اللورد فسر بغض الشيخ محمد عبده للباشوات بأنه قلما وجد فيهم
صالحًا ، وأنه متى وجد الصالح لا يعرض عنه ، ولا يعارضه لصدق وطنيته ،
فوافقه صاحب المؤيد على كونه كان يكره الباشوات ، وعلى كونه كان صادق
الوطنية. ثم مثَّل بغضه للباشوات بعداوة الخديو الحالّ وأبيه وجدّه ، ونحن لا نوافقه
على هذا التمثيل الذي يوهم الحصر. أما كرهه لإسماعيل فهو معقول مهما كانت
سنه ، ومعارفه السياسية في ذلك العهد ، وسنبين ذلك.
وأما توفيق فقد كان هو وأستاذه جمال الدين من حزبه وشيعته على أبيه ، وقد
نقم منه إخراج أستاذه من البلاد ، ونفيه هو إلى بلده وكان راضيًا منه أتم الرضى
عندما ساعد الوزارة الرياضية على الإصلاح في البلاد. ولما حدثت مبادئ الثورة
العرابية كان الشيخ مقاومًا للعرابيين ، ولما استفحل الأمر كان مرشدًا معتدلاً بِحَسَب
علمه ، وقد ظهر له في أثناء ذلك استعانة توفيق باشا بالإنكليز على العرابيين ،
فكرهه في أثناء ذلك كراهة شديدة كما يعلم من مذكراته في شأن تلك الحوادث ،
ومنها أن مذبحة الإسكندرية كانت بإيعاز من الخديو؛ ليثبت لإنكلترا وسائر
الأوربيين عجز عرابي عن حمايتهم ، وقد كتب بردولي المحامي عن العرابيين شيئًا
من هذا في كتابه نقلاً عنه.
وأما العباس - أيده الله بتوفيقه وعنايته - فقد كان في أكثر مدة ولايته على مودة مع
المرحوم ، وهو الذي اقترح من نفسه جعله مستشارًا في الاستئناف ، وهو هو الذي
اختاره بنفسه مفتيًا للديار المصرية ، ولم يكن للورد دخل في ترقي الشيخ محمد
عبده في الوظائف إلا عدم المعارضة ، والفضل الإيجابي في ذلك للأمير وحده كما
كان يصرح به الشيخ مرارًا.
ولكن حدث في السنين الأخيرة بينهما شيء من سوء التفاهم بسعاية بعض
المفسدين الذين يعرفهم صاحب المؤيد أكثر من غيره إذ كان يقاوم سعايتهم ومفاسدهم
إلى غضب هو أيضًا، وزاد سوء التفاهم تلك المسألة التي أشار إليها المؤيد في ترجمة
حسن باشا عاصم ، فقال ما معناه: إنها مسألة كان يرى نفسه فيها قائمًا بواجب تفرضه
عليه الذمة ، وكان يراه مولاه فيها متعنتا. وله أن يقول مثل ذلك في صديقه وشريكه
فيها الشيخ محمد عبده.
فمن هذه الخلاصة الوجيزة يعلم أن إظهار اللورد الصداقة للشيخ بضع عشرة
سنه لا يتأتى أن يكون المراد به دفعه في عداوة الخديو كما قال المؤيد، على أنه كان
أثبت من أن يندفع بيد اللورد أو غيره ، فقد كان في الذروة العليا من الاستقلال
في فكره وإرادته ، وناهيك أيضًا بوطنيته وديانته.
حقًّا أقول: إنني كنت أراه حتي في المدة الأخيرة التي قوي فيها سوء التفاهم
بينه وبين الأمير يتمنى لو يكون الأمير موفقًا مؤيدًا في كل شيء يرفع شأن البلاد،
ويفيدها مصونًا من كل شيء ضار ، وإنني سمعته غير مرة يقول: إننا كلنا معلقون
برجليه فإذا أهبطه الإنكليز درجة هبطنا تحته لا معه، وإننا كنا مرة نتحدث في
استرضائه ، فأقسم بأنه لو أمره أن يخرج من البلد لامتثل. ولكنه كان ينكر على
المعية أمورًا كثيرة ، ويتمنى الوفاق الممكن الذي لا يصحبه ضرر من جهة أخرى
على أن المؤيد استنبط من عبارة اللورد أنه يحاول أن يطعن على الشيخ أكثر من كل
إنسان في مصر لولا ما سبق من المدح فيه ، فهل يكفي أن يكون سبب هذا هو
الاستغناء عنه بموته ، وخروجه هو من مصر؟ .
(4)
توجيه المؤيد قول اللورد في الأستاذ الإمام إنه كان خياليًّا غير وجيه؛
فإنه جعل تأويل ذلك بعد التسليم به أن الأستاذ كان يخيل له أن يقبض بكلتا يديه
على اللورد من جهة وعلى الخديو من جهة ، فيفشل في الأمرين. وهذا الاستنباط
من خيال المؤيد ما أظن أنه طاف بخيال اللورد ، إذا البعد بين الخيالين شاسع جدًّا.
ولخيال المؤيد وجه ودليل من الخارج ، فإن الشيخ رحمه الله كان يتقرب من الأمير
للاستعانة به قبل كل شيء على خدمة دينه في نحو إصلاح الأزهر، ثم إبداء
النصيحة الواجبة إذا عرض موجبها ، وكثيرًا ما كان يعرض ذلك؛ وقد سمعت من
فم الأمير في قصره بالقبة أنه يستشير الشيخ ، ويعجبه رأيه ، ويثق به. وكان
أيضًا يختلف إلى اللورد للاستعانة به على خدمة وطنه ، وما كان يطلب منهما شيئًا
لنفسه. ومن مصلحة البلاد أن يكون فيها رجال يثق أمير البلاد وعميد الاحتلال معا
بكفاءتهم وصدقهم ، وذلك من الحقيقة لا من الخيال.
(5)
ذكر المؤيد في موضع أن اللورد طعن في دين الشيخ محمد عبده ،
وجعله لا أدريا أو ملحدًا حتى إن من قرأ عباراته ، ولم يكن عارفًا بكلمة اللورد يظن
أنه جزم بهذا الطعن واللورد لم يجزم بذلك ، وإنما قال:(أخشى) كما في ترجمة
المؤيد نفسه، أو (أظن) كما في ترجمة بعض الجرائد ، فوجب علينا أن نبين
ذلك.
(6)
قال المؤيد: إنه لا يطعن في إيمان الشيخ؛ لأن الإيمان محله القلب ،
وإن ظواهره كانت مجال مقال كثير لأصدقائه ولأعدائه! ! فنقول: إننا نحن نوافق
المؤيد على قوله: إن الإيمان من أعمال القلوب التي يستأثر الله بعلمها ، ويؤيد هذا
القول الحديث الصحيح (هل شققت عن قلبه) لمن قال: يا رسول الله ، أعط فلانًا؛
فإنه مؤمن. ولكن المؤيد وقع في الحكم على القلب الذي أنكر على اللورد؛ إذ قال:
(قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة ، وهو صديق
مخلص للورد كرومر) ؛ فالإخلاص كالإيمان محله القلب ، ولا يمكن أن يطلع عليه
إلا الله تعالى ، فكيف أجاز المؤيد الحكم على القلب مرة ومنعه أخرى؟
أما الظواهر التي تدل على قوة إيمانه فهي أقوى من الظواهر التي تدل على
إخلاصه في صداقة اللورد مع العلم بأنه كان أبعد الناس عن النفاق والرياء ، فإنه
لم يعمل للورد عملاً خاصًّا به أو بدولته ، ولكنه وقف حياته على خدمة مصر
والإسلام ابتغاء مرضاة الله. والمؤيد - وإن كان قد أدخل في مسألة الظواهر كلمة
محتملة ككلمة أبي سفيان لهِرَقْل ، فقال: إنها كانت مجال مقال كثير - قد قال من
نفسه مقالاً جازمًا هذا نصه:
(ولكنه كان على كل حال عالمًا يحاول ما استطاع إصلاح الفاسد من الشئون
التي طرأت على الدين ، ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر، وفي آخر عهده من الدنيا كان
يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح من عند الله ، فكان يجاهد في
سبيل الله جهادًا حقيقيًّا ، وإن لم ينل حظ الثقة العامة بذلك) فالذي يعتقد هذا
الاعتقاد لا يمكن أن يكون مُلحدًا أو لا أدريًا؛ أي: شاكًّا في وجود الله يقول: لا أدري
أهو موجود أم لا؟
صدق المؤيد وإنْ كان في تعبيره بلفظ (رسول إصلاح) غرابة لما لها من
المعنى الشرعي الذي ليس بمراد هنا. فإن الأستاذ الإمام كان يعتقد أن دين الإسلام
لا بد أن يعود إليه مجده ونوره الذي حال دونه ظلام البِدَع والخرافات والتقاليد
والعادات ، وأنه هو عالم بحقيقته وبكيفية تسرب البدع إليه، وقادر على بيان ذلك
وإزالته بالحُجة ، وأن هذا العمل فرض محتّم عليه.
وقد غمر هذا الاعتقاد عقله وقلبه ، وملك جنانه ووجدانه ، فبذلك كان يرى أنه
كان ملهم ومسخر من الله تعالى لهذا العمل ليس في استطاعته أن يتوانى فيه. وقد
ذكر قاسم بك أمين في تأبينه أن بعض أصدقائه كانوا يلومونه على تفريطه في صحته
وتعبه في بعض الأعمال التي قَلَّما تأتي بما يتوخاه من الفائدة فيها ، فيعدهم
بالتخفيف ، ولكنه يصبح في الغد أشد اهتمامًا وعنايةً مما كان عليه بالأمس. وصدق
المؤيد في قوله: إنه لم ينل حظ الثقة العامة بإصلاحه ، إذ لو نال هذا الحظ لَمَا قال
لورد كرومر في الإسلام ما قاله اليوم؛ لأن الإصلاح العملي كان يمنعه من ذلك.
* * *
رأينا في سبب اختلاف قولي اللورد
قال المؤيد: إن الجواب عن التفاوت بين كلامَيِ اللورد مذكور في كتابه ، وقد
صدق في هذه ، ولكن أخطأ اجتهاده فيما بينه به؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص. أما
هذا النص فهو في موضعين ، ذكر أحدهما المؤيد فيما ترجمه من كلام اللورد في
الشيخ وأهله في الرد ، وأغفل أحدهما في الموضعين. أما الذي ذكره وأهمله فهو
هامش اللورد [1] الذي يذكر فيه دهشته من استمداد مستر بلنت أخبار تاريخه السّرّي
للاحتلال من محمد عبده ، وفي هذا الكتاب من التشنيع على اللورد وسياسته ما فيه.
وأما الذي أغفله المؤيد فدونك ترجمته نقلاً عن حاشية ص 524 من المجلد الثاني
في سياق الكلام عن المعارف: لقد دهشت بل اعترتني خيبة أمل عندما قرأت في
كتاب ألفه مسيو جورفيل رسالة للشيخ محمد عبده أعطى فيها ذلك الرجل الشهير
رجاحة اسمه (أو قوة اسمه) لِتُهَمٍ أو تعريضات من هذا النوع ، ولا بد أنه كان على
يقين من أنها لا أساس لها. وكنت أرجو منه أفضل من هذا. اهـ علق هذا على
هامش معناه: هل نظر الإنكليز إلى انحطاط المصريين السياسي أو الاجتماعي
نظر المغتبط ، فلم يحاولوا ترقيتهم كما يزعم بعض سفلة الناقدين؟
ونحن نقول: إن الرجل لم يعط اسمه لترويج التهم أو التعريضات كما ظن
اللورد ، وإنما أراد الموعظة والتنبيه إلى الصواب الذي يعتقده ، ولكن صاحب
الكتاب استخدم اسمه لترويج كتابه ، وهو ما كان يقول إلا ما يعلم تمام العلم أنه
صحيح كل الصحة. وإذا كان اللورد يرجو منه يوم كتب تلك الرسالة إلى جورفيل
أمرًا أفضل من هذا فهو أيضًا ربما كان يرجو من اللورد قبيل ذلك أمرًا أفضل مما
رأى منه عند الحاجة إلى مساعدته في أهم وأفضل غرض له من حياته. وإننا نورد
الآن ما جاء في رسالة الأستاذ الإمام عن المعارف وهو:
ما كتبه الأستاذ الإمام
لجرفيل عن المعارف
(التعليم العام) لا تنفق الحكومة المصرية على التعليم العام إلا مبلغ مائتي
ألف جنيه مع أن في وسعها إنفاق أكثر منه؛ لأن دخلها قد بلغ في الميزانية اثني
عشر مليونًا من الجنيهات ، وهي لا تنفك عن زيادة أجور التعليم التي
تتقاضاها من الناس على تعليم أولادهم من حين إلى حين ، وقد بلغت من ذلك إلى
حد أن صارت تربية الأولاد عبأً ثقيلاً حتى على أوساط الناس ، وإذا استمر هذا
التزايد أمسى التعليم زخرفًا لا يتسنى التحلي به إلا في بيوت الأغنياء فقط.
ومن المبادئ التي يجري عليها القابضون على أزمة أمورنا أنْ لا حق لأولاد
الفقراء في نوع ما من التعليم ، فهم يجاهرون به كل المجاهرة ، ويبدو منهم على
الدوام في حديثهم وتقاريرهم وكتبهم.
نعم ، إنه من المسلم إلى حد محدود أن الوالد الذي يخصص جزءًا من دخله
لتربية أولاده يهمه أن يحصل من التربية على مقابل هذا الجزء ، وأنه يراقب ولده
في التعلم مراقبةً فعليةً ليحمله على الاستفادة من تعليم يكلفه كثيرًا من النفقات ، ولكن
الذي لا يسلم به أحد ولا دليل عليه من التجربة هو أن يستنتج من هذا أن كل تعليم
مجاني يكون عقيمًا ، فإنه مما تنبغي ملاحظته أن التعليم في المدارس المصرية من
عهد محمد علي باشا إلى سنة 1882 كان مجانيًّا في كل هذه المدة ، ولم يمنع هذا أن
تنتج تلك المدارس عددًا من الرجال المتعلمين تعلمًا حقيقيًّا ، ومعظمهم من الفقراء،
ولم يضر أوربا أن التعليم مجاني في كثير من البلدان ، ولكن أي فائدة لنا من
الاستشهاد بما غبر من الاختبار في مصر ، وما حضر من الاعتبار بأوربا ما دام
الذين بيدهم مقاليد حكومتنا مصممين على أن لا يقبلوا إلا ما يهديهم إليه فكرهم.
يشق على الإنسان أن يرى كل سنة مشهد توارد الآباء والأمهات على نظارة
المعارف يقودون صغارهم إليها ، سائلين التصدق عليهم بقبولهم مجانًا في مدارسها
معتذرين بفقرهم، ومدلين بما يكون بعض أفراد أهلهم قد أدوه إلى الحكومة من الخدم ،
مؤملين على الدوام أن العناية الإلهية والمرحمة القلبية تلين صلابة ذلك المبدأ ولو
مرة واحدة ، ولكنهم يضطرون في آخر الأمر إلى الرجوع إلى بيوتهم أو إلى قراهم
خائبين خائري العزائم غير راضين لا يدرون ماذا يفعلون بهؤلاء الأبناء الأعزاء
الذين تمنوا لهم أماني كثيرة ما حيلتنا؟ يقولون لنا: (إن بين ظهرانيكم من أبناء
وطنكم أغنياء في وسعهم إنشاء مدارس مجانية للفقراء) .
آهٍ واأسفاه! نعم إن أبناء وطننا في وسعهم القيام بهذا العمل وبأحسن منه ،
ولكن مصر لما يوجد فيها محبون للإنسانية ، وأخص من بينهم مُحبّي الإنسانية
المستنيرين، قد يوجد أحيانًا بعض منهم يشيدون مساجد لا حاجة إليها لكثرتها عندنا ،
وبعض آخر يقف جزءًا من عقاره على وليّ ، ولكن همة الناس وانبعاثها إلى
العمل لم توجه نحو التعليم فأمتنا أقامت زمنًا طويلاً تعتمد على الجماعة في كل شيء،
ومن أجل كل شيء.
أما إذا نحن نظرنا إلى هذا التعليم الذي تقوم به الحكومة المصرية من جهة
قيمته ، فإننا نضطر إلى القول بأنه قَلَّما يُكَوّن رجلاً في قدرته أن يمارس حرفة تقوم
بمعيشته ، ويستحيل أن ينشئ عالمًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا ، فكيف بالنوابغ في شيء
من هذا.
وليس للتعليم العالي بمصر سوى مدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة
المهندسخانة. أما جميع العلوم الأخرى التي تتألف منها معارف الإنسان فالمصري
قد يأخذ منها بعض معلومات سطحية في المدارس التجهيزية ، ولكن يكاد يكون من
المتعذر عليه أن يدرسها دراسة وافية ، بل يقضى عليه غالبًا أن يجهلها - فعلم
الاجتماع بفروعه التاريخية والأخلاقية والاقتصادية ، وعلم الفلسفة القديمة والحديثة ،
وعلم آداب اللغة العربية واللغات الأوربية ، وكذلك الفنون الجميلة لا تعلم بالكلية في
مدرسة ما من المدارس المصرية.
فكان فينا القضاة والمحامون، والأطباء والمهندسون، ممن تختلف درجاتهم
في العلم ، ولكننا لا نجد في طبقة منهم ذلك الباحث ، ولا ذلك المفكر ، ولا ذلك
الفيلسوف ، ولا ذلك العالِم ، ولا ذلك الإنسان الذي يمتاز ببُعد الفكر والنظر ،
وبشهامة الفؤاد ، وكرم السجايا الذي أوقف حياته كلها على السعي وراء مطلب من
مطالب الكمال.
وصفوة القول أن خطّة الحكومة التي رسمَتْها لنفسها ، ويظهر أنها مصممة
على أن لا تحيد عنها تتلخص في أمور ثلاثة:
(أولها) : مساعدة التعليم الابتدائي في المدارس الصغيرة المُسمّاة بالكتاتيب ،
حيث تعلمُ الكتابة والقراءة وقواعد الحساب الأربع.
(ثانيها) : التقليل من نشر التعليم في الأمة ما أمكن.
(ثالثها) : حصر التعليم الثانوي والتعليم العالي في أضيق الدوائر.
المصريون موقنون بأنّ مَنْ بِيَدِهِم مقاليد أمورهم العمومية لا يعملون كل ما في
وسعهم لترقية الناشئين أخلاقًا وعقولاً ، وهذا الرأي مما يدعو إلى الأسف والأسى
من جميع الوجوه ، فإنه سيحدث في الرأي العامّ تيارًا من الاستياء إن لم يكن عاجلاً
فآجلاً ، وليت شعري ماذا يربح الإنكليز من التمادي في ترك هذا الاعتقاد راسخًا في
النفوس؟ وإذا كان ثَمَّة أمْر يصحّ أن يتلاقى فيه الطرفان ، ويكون قاعدة للاتحاد ،
فإنما هو التعليم العام إذ لا يمكن أن يوجد تناقض بين مصلحة الإنكليز ومصلحة
المصريين في هذا المقصد.
فمن أراد استدرار ما في مصر من المنافع والخيرات فسبيله في ذلك أن يُعْنَى
بتعهد كل ما فيها من موارد الثروة ، وأن يبدأ بالإنسان بكل ما فيه من معاني الإنسان ،
فلا بد من امتزاج العنصرين الأوروبي والوطني ، وأخذهما على التكاتف في
السير نحو هذه الغاية يدًا بيد.
وَلَعَمْرِي إن الإنكليز لَيسيئون إلى أنفسهم إذا أوهنوا الأهلين ، وأرخصوا من
قيمتهم ، وصغروا من شأنهم فإنما مصلحتهم في أن يكون أبناء هذا الوطن أعزاء
أغنياء أحرارًا ، فإن موارد الثروة والخير للإنكليز منوطة بما يصيبنا من ثراء
ورخاء.
هذا ما جاء في رسالة الشيخ محمد عبده لجورفيل عن المعارف ، ويليه كلام
عن الحقانية ومعاملة الإنكليز للموظفين المصريين ملخصه أنهم يلتمسون ضعيف
الإرادة الذي يخضع لهم في كل شيء ، ولا يناقشهم في عمل ما ، ويقصون
المستقلين في الفكر والإرادة، وأن كل رئيس منهم يعد نفسه مشرعا ، فكلما خطر له
استبدال قانون بقانون وضع قانونًا جديدًا وأنفذه؛ لأن مجلس النظار لا استقلال له
فيناقش أو يعارض، ومجلس شورى القوانين ليس له إلا حق بيان الرأي، والحكومة
غير مكلفة الأخذ بقوله ، على أنّ فيه من الضعف ما فيه؛ لأن الأفراد الذين يصلحون
فيه للبحث قليلون.
فأيّ شيء من هذه الرسالة ينكر اللورد لنثبته له؟ أما إنه لا ينكر منها شيئًا ،
ولكنه عز عليه أن يرى في كتاب أوربي كلامًا في عيوب إدارة مصر لرجل
معروف بالصدق ، وعلوّ المكانة عند الأوربيين؛ ولذلك قال: إنه أعطى رجاحة
اسمه لجورفيل ، إلخ.
إن اللورد نفسه قد اعترف في كتابة بأن المعتدلين الذين سمّاهم حزب أو أتباع
محمد عبده لم يشجعوا كما ينبغي ، وقال في تقرير سنة 1905: إن تعيين سعد باشا
زغلول في الوزارة - وهو أشهرهم - إنما هو تجربة. فهل له أن يقول مع ذلك:
إن ما كتبه الشيخ لموسيو جورفيل: لا أساسَ له في اعتقاده؟
لقد كان هو وجميع أهل الرأي في مصر يعتقدون حقية ما كتبه ، وهذا
الاعتقاد لا يزول إلا بعمل ينقضه ، فإذا كانت الحكومة الاحتلالية مخلصة فيما فعلت
وتفعل لمصر ، وكان ما ذكره الشيخ من عيوب إدارتها غير متعمد منها فلتتداركه
بمساعدة المستقلين من المصريين ، ولا يعسر عليها الاهتداء إليهم.
أما ما قاله الشيخ في رسالة عن المعارف ، فمنه ما هو حكاية عن اعتقاد
المصريين واستيائهم ، وهو مؤيد بما تذكره جميع الجرائد آنًا بعد آنٍ ، وبما ظهر في
مجلس الشورى والجمعية العمومية ، فكيف يقول اللورد: إنه لا أساس له؟ ألم ينبأ
بما جرى في هذا العام - حتى بعد أن قام ناظر المعارف بهذه النهضة الجديدة في
ترقية التعليم من جهات متعددة - من قيام قيامة التلاميذ والجرائد والناس على مستر
دنلوب بما كان قد ازدحم في مراكز الفكر والشعور من سوء حال الماضي. إن لم
يكن قد ظهر به مصداق قول الشيخ: إنه سيحدث في الرأي العام تيار استياء عامّ
من حال التعليم عاجلاً أو آجلاً فإن ما ظهر قريب منه ، ولولا هذا الإصلاح الجديد
لظهر أتمّ الظهور.
أما باقي كلام الشيخ فهو حكاية عن سياسة المحتلين في التعليم ، وهو مؤيد بما
كتبه اللورد في تقرير تلك السنة؛ فإنه قال (كما في ص 133 وما بعدها من
النسخة العربية لتقريره عن سنة 1905) :
(يراد بهذه السياسة إبطال التعليم المجاني تدريجًا من المدارس الأميرية التي
هي فوق الكتاتيب ، وزيادة الأجور فيها) ثم احتجّ على ذلك بكون الغرض منها
تعليم التلاميذ تعليمًا أوربيًّا؛ لكي تعد جمهورًا من الشبّان المصريين لخدمة الحكومة
ولتعاطي بعض الفنون ، ثم ذكر أن محمد علي أنشأ هذه المدارس لِفرنجة البلاد ،
وأن عباسًا الأول ألغاها بعد أن خرج منها ما يزيد على الوظائف ، وأعادها إسماعيل
لفرنجة البلاد كما كانت ، وأنها كانت مجانًا بل كان التلاميذ فيها يأكلون ويأخذون
مرتبات ، وأظهر استحسان ذلك من قبلُ ، والاستغناء عنه الآن ، ثم قال: (ويجب
على الحكومة أن تتوخى جعل أجرة التعليم في كل مدارسها المتفرنجة مقاربة للنفقات
التي تنفقها عليه. والأموال التي تنفقها على هذه المدارس تصير تنفقها على التعليم
الأهلي الألزم لحاجة الأمة) ، ويعني بالألزم لحاجات الأمة تعليم الكتاتيب والصنائع
فقط ، وهذا ما لا يسلم به مصري قط.
ثم ذكر أن الإنكليز لما احتلوا البلاد وجدوا أن كل ما تنفقه المعارف العمومية
(إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة ، أكثرها من أغنى أغنياء السكان ، ولا تعلمهم
إلا تعليمًا أوربيًّا فأخذوا في تغيير تلك الحال ، وبذلت الهمة منذ سنة 1884 لأخذ
الأجور من التلامذة ، ولإبطال التعليم المجاني تدريجيًّا؛ ولكن بقى النجاح في هذا
السبيل بطيئًا جدًّا إلى عهد قريب) ، ثم استدل بذلك على (أن إبطال التعليم المجاني ،
وازدياد أجرة التعليم لَيْسَا من دلائل التأخر ، ولا هما مضرّان بمصلحة البلاد
الحقيقية ، بل هما بمثابة إبطال امتياز) إلخ.
فكيف يقول اللورد مع هذا: إن الشيخ كتب ما يعلم أنه لا أساس له؟
سبحان الله! كأن الشيخ كان يكتب سنة 1905 لجورفيل في الوقت الذي كان
اللورد يكتب فيه لناظر خارجيتهم ما يؤيد قوله! ألم تر أن الشيخ قد كتب أنهم - يعني
وُلاة الأمور - يقولون لنا: إن فيكم أغنياء يجب أن ينشئوا المدارس المجانية للفقراء.
وأن اللورد كتب في تقريره (ص135 و 136) : (وإذا أريد تمهيد السبل للتلامذة
الذين تبدو عليهم مخايل النجابة الفائقة لكي يدخلوا المدارس العليا ووسائطهم المالية
لا تكفي لذلك وجب أن يقف المحسنون أموالاً لتلك المدارس التي يعلَّم بها من كان
مثل أولئك التلامذة ، ووقف هذه الأموال لتعليم التلامذة الفقراء الذين يستحقون
أن يساعدوا أنفع جدًّا من تكثير المدارس الابتدائية المتفرنجة) .
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
راجع الأسطر الأخيرة من ص 95 من المنار.
الكاتب: محمد رشيد رضا
احتفال السوريين بحافظ أفندي
إبراهيم
دعا سليم أفندي سركيس السوريين بمصر وغيرها إلى الاكتتاب للاحتفال
بحافظ أفندي إبراهيم الذي ينوه بفضلهم؛ ليكون هذا الاحتفال توددًا من شعب إلى
شعب هما بمنزلة الشقيقين ، فلبى الدعوة كثيرون ، وبعد انتهاء مدة الاكتتاب أُقِيمت
الحفلة بفندق شبرد ، وحضرها مع جمهور المكتتبين كثيرون من وجهاء وأدباء
المصريين ، وأصحاب الجرائد وكان ترتيبها هكذا:
افتتح الاحتفال سليم أفندي سركيس ببيان الغرض منه، خطب سليمان أفندي
البستاني في الشعر والشعراء، أنشد نقولا أفندي رزق الله قصيدة (مصر وسوريا)
خطب سليم بك باخوس في إكرام الرجال للرجال، تليت قصيدة للأمير شكيب
أرسلان، خطب إسماعيل بك عاصم، أنشد أمين أفندي البستاني قصيدة له، خطب
رفيق بك العظم ، تليت قصيدة لأسعد أفندي رستم، قُرئ كتاب في تحية الصحافة
للشعراء المرسل من إدارة جريدة (مرآة الغرب) بنيويورك ، أنشد الدكتور إبراهيم
أفندي شدودي قصيدة له ، وقدم سليم أفندي سركيس لحافظ أفندي هدية رواق المعري
في البرازيل وهي قلم من الذهب بشكل الريشة ، ثم الهدية الإكرامية من مجموع
السوريين وهي دواة ومقلمة من الفضة، وختمت الحفلة بقصيدة الشكر من حافظ
وهي:
لمصر أم لربوع الشام تنتسبُ
…
هنا العلى وهناك المجد والحسبُ
ركنان للشرق لا زالت ربوعهما
…
قلبُ الهلال عليها خافقٌ يجبُ
خدران (للضاد) لم تهتك ستورهما
…
ولا تحوَّل عن مغناهما الأدب
أُمُّ اللغات غداة الفخر أمهما
…
وإن سألت عن الآباء فالعرب
أيرغبان عن الحسنى وبينهما
…
في رائعات المعالي ذلك النسب
ولا يمتَّان بالقربى وبينهما
…
تلك القرابة لم يقطع لها سبب
إذا ألمت بوادي النيل نازلةٌ
…
باتت له راسيات الشام تضطرب
وإن دعا في ثرى الأهرام ذو ألم
…
أجابه في ذرى لبنان منتحب
لو أخلص النيلُ والأردنُّ ودّهما
…
تصافحت منهما الأمواه والعُشب
بالواديين تمشى الفخر مشيته
…
يحفُّ ناحيتيه الجود والدأب
فسال هذا سخاء دونه ديمٌ
…
وسال ذاك مضاءً دونه القضب
نسيمَ لبنان كم جادتك عاطرةٌ
…
من الرياض وكم حياكَ منسكب
في الشرق والغرب أنفاس مسعَّرةٌ
…
تهفو إليك وأكبادٌ بها لهب
لولا طلاب العلا لم يبتغوا بدلاً
…
من طيب رياك لكنَّ العلا تعب
كم غادةٍ بربوع الشام باكيةٍ
…
على أليفٍ لها يرمي به الطلب
يمضي ولا حلية إلا عزيمته
…
وينثني وحلاه المجد والذهب
يكرُّ صرف الليالي عنه منقلبًا
…
وعزمه ليس يدري كيف ينقلب
بأرض (كولمبَ) أبطالٌ غطارفة
…
أسدٌ جياعٌ إذا ما ووثبوا وثبوا
لم يحمهم علمٌ فيها ولا عددٌ
…
سوى مضاءٍ تحامى ورده النوب
أسطولهم أملٌ في البحر مرتحلٌ
…
وجيشهم عملٌ في البرّ مغترب
لهم بكلّ خضم مسربٌ نهجٌ
…
وفي ذرى كل طودٍ مسلك عجب
لم تبدُ بارقةٌ في أفق منتجعٍ
…
إلا وكان لها بالشام مرتقب
ما عيبهم أنهم في الأرض قد نُثروا
…
فالشهب منثورة مذ كانت الشهب
ولم يَضِرْهم سراءٌ في مناكبها
…
فكل حيّ له في الكون مضطرب
رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا
…
إلى المجرَّة رَكبًا صاعدًا ركبوا
أو قيل في الشمس للراجين منتجع
…
مدُّوا لها سببًا في الجوّ وانتدبوا
سعوا إلى الكسب محمودًا وما فتئت
…
أم اللغات بذاك السّعي تكتسبُ
فأين كان الشآميُّون كان لها
…
عيشٌ جديد وفضل ليس يحتجب
هَذِي يدي عن بني مصر تصافحكم
…
فصافحوا تصافح نفسها العربُ
فما الكنانهُ إلا الشام عاج على
…
ربوعها من بنيها سادةٌ حسب
لولا رجال تغالوا في سياستهم
…
منا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا
أن يكتبوا لي ذنبًا في مودّتهم
…
فإنما الفخر في الذنب الذي كتبوا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إنجيل برنابا.. مقدمتنا له
قد تمّ طبع إنجيل برنابا كما قلنا في الجزء الثاني عشَر من السنة الماضية ،
وقد كتب له مترجمه الدكتور خليل سعادة مقدمة، ذكر فيها ملخص ما قاله علماء
الإفرنج فيه ورأيه في ذلك فنشرناها وقفينا عليها بمقدمة منا، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى عيسى المؤيد بروح
الله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد ، فإننا نرى مؤرخي النصرانية قد أجمعوا على أنه كان في القرون
الأولى للمسيح عليه السلام أناجيلُ كثيرة ، وأن رجال الكنيسة قد اختاروا منها أربعة
أناجيل، ورفضوا الباقي. فالمقلدون لهم من أهل مِلّتهم قبلوا اختيارهم بغير بحث ،
وسيكون ذلك شأن أمثالهم إلى ما شاء الله.
وأما من يحب العلم، ويجتنب التقليد من كل أمة فهو يود إذا أراد الوقوف على
أصل هذا الدين وتاريخه لو يطلع على جميع تلك الأناجيل المرفوضة ، ويقف على كل
ما يمكن الوقوف عليه من أمرها ، ويبني ترجيح بعضها على بعض بعد المقابلة
والتنظير على الدلائل المرجحة التي تظهر له هو وإنْ لم تظهر لرجال الكنيسة.
لو بقيت تلك الأناجيل كلها لكانت أغزر ينابيع التاريخ في بابها ما قبل منها
أصلاً للدين وما لم يقبل ، ولرأيت لعلماء هذا العصر من الحكم عليها والاستنباط
منها بطرق العلم الحديثة المصونة بسياج الحرية والاستقلال في الرأي والإرادة ما لا يأتي مثله من رجال الكنيسة الذين اختاروا تلك الأربعة، ورفضوا ما سواها.
إنجيل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام واحد هو عبارة عن هَدْيهِ وبشارته
بمن يجيء بعده لِيُتمّ دين الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من قبله ،
فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم ، وإنما كثرت الأناجيل؛ لأن
كل من كتب سيرته عليه السلام سماها إنجيلاً لاشتمالها على ما بشر وهدى به الناس.
من تلك الأناجيل (إنجيل برنابا) وبرنابا حواري من أنصار المسيح الذين
يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل. صحبه بولص زمنًا ، بل كان (هو الذي عرف
التلاميذ ببولص بعدما اهتدى (بولص) ورجع إلى أورشليم) [1] ، فلعل تلاميذ
المسيح ما كانوا ليثقوا بإيمان بولص بعدما كان من شدة عداوته لدينهم لولا برنابا
الذي عرفه أولاً ، وعرفهم به بعد أن وثق به.
ومقدمة هذا الإنجيل الذي نقدم ترجمته لقُرّاء العربية اليوم ناطقة بأن بولص
انفرد بتعليم جديد مخالف لِمَا تلقاه الحواريون عن المسيح. ولكن تعاليمه هي التي
غلبت ، وانتشرت ، واشتهرت ، وصارت عماد النصرانية. ويذهب بعض علماء
الإفرنج إلى أن إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا من وضعه كما في دائرة المعارف
الفرنسية. فلا غرو إذا عدت الكنيسة إنجيل برنابا إنجيلاً غير قانوني أو غير
صحيح.
لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي
أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها ، فقد جاء في
ضمنها إنجيل برنابا. وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد ،
أي: قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم
في ذلك المنشور كما ذكر الدكتور سعادة في مقدمته ، والمثبت مقدّم على النافي.
مرت القرون وتعاقبت الأجيال ولم يسمع أحد ذكرًا لهذا الإنجيل حتى عثروا
في أوربا على نسخة منه منذ مائتي سنة ، فعدوها كنزًا ثمينًا ، ولو وجدها أحد في
القرون الوسطى - قرون ظلمات التعصب والجهل - لَمَا ظهرت ، وأنى يظهر
الشيء في الظلمة ، والنور شرط الظهور؟
ظهرت هذه النسخة في نور الحرية المتألق في تلك البلاد ، وكانت موضع
اهتمام العلماء وعنايتهم ، وموضوع بحثهم واجتهادهم ، وانبرى بعض فضلاء
الإنكليز في العام الماضي لترجمتها بالإنكليزية ، وتعمم نشرها وقد أهديت إلينا نسخة
منها عند نشرها ، فرأينا أنه يجب أن لا يكون حظ قراء العربية منها أقل من حظ
قراء الإنكليزية ، فكاشفنا بذلك صديقنا الدكتور خليل سعادة ، فوافقت رغبته رغبتنا ،
وترجم النسخة بالعربية ترجمةً حرفيةً ، وباشرنا طبعها بعد معارضتها معه على
الأصل؛ لأجل الدقة في تصحيحها.
بحث علماء أوربا في هذه النسخة ، وكتبوا في شأنها فصولاً طويلةً لخصها
الدكتور سعادة في مقدمته ، فمن مباحثهم ما هو علمي دقيق ككلامهم في نوع ورقها
وتجليدها ولغتها ، ومنها ما هو من قبيل الخَرص والتخمين ، كأقوالهم في الكاتب
الأول لها ، والزمن الذي كتبت فيه ، وتبعهم في مثل هذا البحث أصحاب مجلتي
المقتطف والهلال.
ويجب أن ننبه في هذا المقام على قاعدة من قواعد البحث الفلسفية، وأصل
من أصوله العقلية، وهي قاعدة إطلاق البحث أو بنائه على رأسه ولو مفروضًا.
فإن كثيرًا من الباحثين يبنون أبحاثهم على فرضٍ يتخذونه قاعدةً مسلمةً ، وربما كان
فاسدًا فيجيء كل ما بني عليه مثله؛ لأن ما بُنِيَ على الفاسد فاسد حتمًا.
مثال هذا ما امتحن به بعض الفلاسفة تلاميذه ، وهو أنه عمد إلى جرة كانت في
الشمس ، فقلبها من غير أن يروه ، ودعاهم، فقال: إني أرى وجه هذه الجرة المقابل
للشمس باردًا. ثم قلبها ولمس الجانب الآخر معهم ، فإذا هو سخن؛ فطالبهم بعلة
ذلك ، فطفقوا ينتحلون العلل وهو يردها ، ولما سألوه عن رأيه في ذلك قال: إنه يجب
أن يتثبت من صحة الشيء أولاً ، ثم يبحث عن علته. وكون الجانب المقابل
للشمس من هذه الجرة باردًا ، والجانب المقابل للأرض سخنًا غير صحيح ، بل قلبتها
أنا لأختبر فطنتكم.
وكذلك فعل بعض الباحثين في إنجيل برنابا ، فرضوا أنه من وضع
بعض المسلمين ، ثم حاروا في حزر تعيين واضعه ، هل هو غربي أم شرقي ،
عربي أم عجمي ، قديم أم حادث. وما قال أحد فيه قولاً إلا وجد من الباحثين من
يفنده حتى رأى الدكتور سعادة بعد الاطلاع على تلك الأقوال أن الأقرب إلى التصور
أن يكون كاتبه يهوديًّا أندلسيًّا من أهل القرون الوسطى تنصر ، ثم دخل الإسلام ،
وأتقن اللغة العربية ، وعرف القرآن والسنة حق المعرفة بعد الإحاطة بكتب العهد
العتيق والجديد، واستدل على هذا الفرض بعلمه الواسع بأسفار العهد القديم ،
وموافقة التلمود ، وإحاطته بالعهد الجديد ، وغفل عن عزوه إلى كتب العهدين
ما لا يوجد في نسخها التي عرفت في القرون الوسطى ، وهي التي بين أيدينا
الآن؛ كعزو قصة هوشع وحجي إلى كتاب دانيال، وعن مخالفته لها أحيانًا في
مسائل أخرى ، ولو كان من أهل القرون الوسطى وما بعدها لَمَا وقع في هذا الغلط
الظاهر مع علمه الواسع.
واستدل أيضًا بموافقة بعض مباحثه للقرآن والأحاديث ، وما كل ما وافق شيئًا
في بعض مباحثه يكون مأخوذًا منه وإلا لزم أن تكون التوراة مأخوذة من شريعة
حمورابي لا وحيًا من الله لموسى عليه السلام.
على أن معظم مباحث هذا الإنجيل لم تكن معروفة عند أحد من المسلمين ،
وأسلوبه في التعبير بعيد جدًّا من أساليب المسلمين عامَّةً والعرب منهم خاصَّةً ، كما
بين بعض القسيسين في مجلة دينية ، وأي مسلم يذكر الله ولا يثني عليه ، والأنبياء
ولا يصلي عليهم ، ويسمي الملائكة بغير الأسماء الواردة في الكتاب والسنة.
وقد كانت مسألة اليوبيل أقوى الشبهات عندي على كون كاتبه من أهل القرون
المتوسطة ، لا من قرن المسيح حتى بين الدكتور سعادة ضعفها بدقة نظره ، فلم يبق
للباحثين دليل يعوَّل عليه في هذا المقام ، فإن موافقة بعض ما فيه لبعض ما ورد في
شعر دانتي يمكن أن يعلل بأن دانتي اطلع عليه وأخذ منه إن لم يكن ذلك من قبيل
توارد الخواطر.
أما الهوامش العربية التي وجدت على النسخة ، فيحتمل أن تكون للراهب
فرمرينو الذي اكتشف هذا الإنجيل في مكتبة البابا بأن يكون دخوله في الإسلام
حمله على تعلم العربية ، حتى كان مبلغ علمه فيها أن يترجم بعض الجمل بعبارة
سقيمة تغلب عليها العجمة ، وما فيه من العبارات الصحيحة على قلتها لا ينافي ذلك ،
فإن كل من يتعلم لغة أجنبية في سِنّ الكبر تكون كتابته فيها لأول العهد من هذا
القبيل: صواب قليل، وخطأ كثير على أن أكثر العبارات الصحيحة في هذه
الهوامش منقول من القرآن أو بعض الكتب العربية التي يمكن أن يكون قد اطلع
عليها الكاتب.
ويحتمل أن يكون بعض القسوس أو من هم على شاكلتهم قد تعلم العربية؛ ليتبين
هل فيها مصادر لهذا الإنجيل يمكن إرجاعه إليها. ويرجح هذا الاحتمال تسميته
الفصول سورًا تشبيهًا له بالقرآن ، أمّا عزو هذه الهوامش إلى مسلم عريق في الإسلام
فخطأ لا يحتمل الصواب؛ إذ لا يوجد مسلم عربي ولا عجمي يطلق لفظ
السور على غير القرآن ، أو يقول:(الله سبحان) ، كما جاء في مواضع منها هامش
ص 141 و 16؛ لأن كلمة (سبحان الله) مما يحفظه كل مسلم من أذكار دينه، أو
يقول: ميخائيل بدل ميكائيل ، ويجهل اسم إسرافيل فيسميه أوريل أو أورفائيل ، أو
يقول: إن السموات أكثر من سبع ، وإن العدد لا مفهومَ له. كما قال علماء الأصول.
ولذلك أمثلة أخرى أضف إليها عدم اطلاع علماء المسلمين في الأندلس وغيرها على
هذا الإنجيل ، كما حققه الدكتور مرجليوث مؤيدًا تحقيقه بخلو كتب المسلمين الذين
ردوا على النصارى من ذكره، وناهيك بابن حزم الأندلسي وابن تيمية المشرقي ، فقد
كانا أوسع علماء المسلمين في الغرب والشرق اطلاعًا كما يعلم من كتبهما ، ولم
يذكرا في ردهما على النصارى هذا الإنجيل.
بقى أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثًا علميًّا لا دينيًّا أشد الاستنكار
وهو تصريحه باسم (النبي محمد) عليه الصلاة والسلام قائلين: لا يعقل أن
يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام؛ إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات
والإشارات ، والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكرًا في خبر الوحي. وقد
نقل الشيخ محمد بيرم عن رحّالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في
الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيَرِيّ قبل بعثة النبي صلى الله عليه
وسلم ، وفيها يقول المسيح:(ومُبَشِّرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) ، وذلك
موافق لنص القرآن بالحرف ، ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئًا من
هذه الأناجيل التي فيها البشارات الصريحة ، فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا
تلك الأناجيل ، والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزال كل
شبهة عن إنجيل برنابا وغيره.
على أنه لا يبعد أن يكون مترجم برنابا باللغة الإيطالية قد ذكر اسم (محمد)
ترجمة ، وأنه في الأصل الذي ترجم هو عنه قد ذكر بلفظ يفيد معناه كلفظ البارقليط
ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة ، كما بيّنه الشيخ (رحمة الله)
للشواهد الكثيرة من كتبهم في الأمر السابع من المسلك السادس من الباب السادس
من كتابه (إظهار الحق) وزاده بعد ذلك بيانًا في البشارة الثامنة عشر.
ولا يحسبن القارئ المسلم أن علماء أوربا وبعض علماء بلادنا كالدكتور
سعادة ، وأصحاب المقتطف والهلال يظهرون الريب في هذا الإنجيل الموافق في
أصول تعاليمه للإسلام تعصّبًا للنصرانية؛ فإن الزمن الذي كان التعصب فيه يحمل
العلماء على طمس الحقائق التاريخية وغيرها قد مضى.
وقد بحث علماء أوربا مثل هذه المباحث في الأناجيل الأربعة ، فبينوا أنه لا
يُعْرَف مَتَى كُتِبَتْ ، ولا بأيّ لغة أُلّفت ، وقال بعضهم: إن مؤلفيهاغير معروفين ،
واتهم بعضُهم بولصَ بوَضْع أكثرها ، كما ترى في دائرة المعارف الفرنسية وغيرها ،
بل منهم من جعل أصول تعاليمها مأخوذ من الأديان الوثنية.
أكثر العلماء في هذا العصر أحرار مستقلون في مباحثهم إلا من غلب عليه
التقليد الديني أو مصانعة المتدينين؛ ألا ترى أن الدكتور مرجليوث الإنكليزي هو
الذي دحض شبهة من قال: إن لهذا الإنجيل أصلاً عربيًّا ، وإنه من وضْع المسلمين،
وإن الدكتور سعادة هو الذي فنّد رأي المستدل على كونه من وضع القرون الوسطى
بما فيه من ذكر كون اليوبيل كل مائة سنة، وإن أصحاب المقتطف يجوزون أن
يكون له أصل ترجمت عنه النسخة الإيطالية ، ويحثون على البحث عنها، فأمثال
أولئك العلماء يجب احترام رأيهم ، وإن لم يكن دليله واضحًا وتعليله ظاهرًا.
ومن لاحظ أن بعض القسيسين يجعلون العمدة في إثبات الأناجيل الأربعة ما
فيها من التعاليم الأدبية العالية ، ثم قرأ تعاليم إنجيل برنابا يظهر له مكانه العالي في
تعاليمه الإلهية والأدبية. فإذا صرفنا النظر عن فائدته التاريخية ، وعن حكمه لنا في
المسائل الثلاث الخلافية: التوحيد ، وعدم صلب المسيح ، ونبوة محمد صلى الله
عليه وسلم - فحَسْبنا باعثًا على طبعه وراء قيمته التاريخية ما فيه من المواعظ
والحكم والآداب وأحاسن التعاليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
…
...
…
...
…
...
…
القاهرة في21صفر سنة1326
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني
…
...
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار
_________
(1)
1ع 9: 27 كما في ص223 من الجزء الأول من قاموس الكتاب المقدس.
الكاتب: حفني ناصف
خطبة حفني بك ناصف
رئيس نادي دار العلوم
في مسألة التعريب
أكثر القائلون بتطبيق (سياسة الباب المفتوح) على اللغة العربية من ذكر
جمود أمتنا واشتغالها عن الجواهر بالأعراض ، ووقوفها موقف المستضعفين أمام
الأمم الغربية ، ونعوا علينا تحرجنا قبول الدخيل في لغتنا، ورمونا (بالرجوع إلى
الوراء ، والنفور من كل جديد ، والوقوف عند حدّ ما أماته الزمان، ومخالفة سنة
اللغات الحية صاحبة الحركة الدائمة التي قدر أهلها أن ينتفعوا بكل ما خلقه الله) إلى
آخر ما أتوا به من القضايا الخطابية؛ بقصد التأثير في أفكار السامعين حتى تخيلوا
أن الكَلِمَ الأعجمية واجبة الاستعمال في اللغة العربية حرصًا على الزمن أن يضيع
في انتقاء ألفاظ عربية تسد مسدها ، وأن قواعد الاقتصاد السياسي تقضي بصرفه في
اختراع آله حربية أو معمل صناعي أو مصرف مالي ، ولقد كدت من شدة التأثير
أمسك عن الكلام خِيفَة أن أضيع عليكم ساعة يمكنكم فيها اختراع بندقية جديدة ، أو
آلة للطيران ، أو علاج للسرطان.
مسكينة الأمة المستضعفة ، لا تدري من أين تُؤْتَى ، ولا تعرف لِتأخّرها عِلّة ،
فتذهب مع كل ذاهب ، وتمشي وراء كل حاطب.
ظننا النيل سبب رخاوتها فعدلنا عنه إلى الآبار فما نشطنا، وخِلْنا الأزياء
الواسعة مانعتنا عن الحركة فاستبدلنا بها أزياءً ضيّقة فما عدونا. وحسبنا اقتعاد
السيارات والدراجات يوصلنا إلى المدنِيَّة فاقتعدنا وما استفدنا، وزعمنا ملاهي
التمثيل أقرب سبيل فأبعدتنا، وعددنا النفازج (الباللو) معارج فما عرجنا، وغيرنا
العمائم بالقلانس ، والدور بالقصور ، وظهور الصافنات ببطون العربات فما أخرجنا
كل ذلك عما نحن فيه من الاستضعاف ولا سَمَا بِنَا إلى راقي الألمان والإنكليز
واليابان.
إن لارتفاع الأمم وانحطاطها أسبابًا خاضَ فيها الحكماء ، وأفاض في بيانها
العلماء وليس المقام الآن مقام ذكرها ، وإن المسألة التي نحن بصددها مسألة نقلية
يُرجع فيها إلى كتب اللغة والأدب ، وليس لأحدٍ أن يأخذ فيها بالهوى ، أو يسترسل
مع الوجدان ، أو يقتصر فيها على مجرد الاستقباح والاستحسان ، فكما لا يجوز في
التاريخ أن تنكروا غلبة اليابان للروس محتجين بأن الصغير لا يغلب الكبير ، لا
يجوز في العربية أن تنصبوا الفاعل ، وتقدموا خبر إنّ على اسمها احتجاجًا بأن
المعنى لا يتغير ، ولا أن تقولوا: ما الفرق بيننا وبين العرب الأولى حتى جاز لهم
وضع ألفاظ مقتضبة ، وتعريب كلمات أعجمية ، والشذوذ عن القياس وامتنع علينا ،
أليسوا رجالاً ونحن رجال؟
ليس لأحد أن يقول ذلك إلا خرج من الرِّبْقة ، وخلع العذار ، ورضي بأن
يكون طليقًا لا يتقيد بشيء. المسألة منصوصة في الأسفار ، فمن شاء أن يخرق
الإجماع ، ولا يقصر شيئًا على السماع ، ويستريح من عناء الدروس فَلْيصنعْ ما شاء
فليس عندنا ما يرغمه على اتباع الجماعة ، ولا فائدة في الجدال معه ، وإذا شاء أن
يتبع المنصوص فها هو بيانه.
اتفق العلماء على أن اللغة العربية كانت لسان عاد ، وثمود ، وأميم ، وعبيل ،
وطسم ، وجديس ، وعمليق، وجُرْهم ، ووَبار من أولاد إرم بن سام.
وأول تنقيح دخلها بعمل يعرب بن قحطان رأس العرب العاربة ، وجرى أولاده
على لغته في أنحاء اليمن كلها ، ثم تفرق جماعة منهم في نجد والحجاز وتِهَامة
والشام والحِيَرة.
ولما أصهر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام إلى قبيلة جُرْهم أدخل تنقيحًا
ثانيًا في اللغة ، وجرى على أثْرِه القبائل من أولاده كربيعة ومُضَر وكنانة ونزار
وخزاعة وقيس وضبة.
والتنقيح الثالث أدخلته قريش بالتدريج انتخابًا من لغات قبائل العرب التي
كانت تفد عليهم في كل عام ، وتمكث بين ظهرانيهم نحو خمسين يومًا ، منها ثلاثة
أيام بسوق ذي المجاز ، وسبعة بسوق مجنة ، وثلاثون بسوق عكاظ، وعشرة في
مناسك الحج.
والتنقيح الرابع هو اختيار علماء المَصْرَيْن البصرة والكوفة (نقلة اللغة في
عصر الأمويين والعباسيين) ، فقد قصروا اختيارهم على ست قبائل من صميم
العرب لم تختلط بغيرها ، وهم: قيس عيلان ، وأسد ، وهذيل وبعض تميم ،
وبعض كنانة وبعض طَيِّ ، ولم يأخذوا عن لخم ، وجذام لمخالطتهم القبط أهل مصر،
ولا عن قضاعة وغسان وإياد لمخالطتهم أهل الشام والروم ، وأكثرهم نصارى
يقرءون بالعَبْرانية، ولا عن تغلب؛ لأنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ،
ولا عن بكر؛ لمجاورتهم النَّبَط والفرس ، ولا عن عبد القيس وأَزْد عمان؛ لأنهم
كانوا بالبحرين مخالطين الهنديين والفرس، ولا عن أهل اليمن: (حِمْيَر ، وهمدان ،
وخولان والأزد) ؛ لمخالطتهم الحبشة والزنج والهنديين ، ولا عن بني حنيفة وسكان
اليمامة وثقيف والطائف؛ لمخالطتهم تُجّار اليمن عندهم ، ولا عن حاضرة الحجاز
وقت نقل اللغة لفساد لغتها بالاختلاط.
وعدّوا لغة قريش أفصح اللغات العربية؛ لأنها خالية عن عنعنة تميم ، وهي
إبدال الهمزة عَيْنًا نحو: عَنْتَ وعِنّكَ ، أي: أنت وإنك، وعن تَلْتَةِ بَهْرَاءَ ، وهي
كسر أول المضارع ، نحو: تِلْعَب وتِلْهو، وعن كَسْكَسَةِ ربيعة ومضر ، وهي:
إلحاق سِين بعد كاف المخاطب: رأيتكَسْ، وعن كَشْكَشَة هوازن ، وهي إلحاق شِين
بعد كاف المخاطبة: نحو رأيتكَشْ ، وعن فَحْفَحَة هذيل ، وهي: قلب الحاء عينًا؛
نحو: عَتَّى ، أي: حَتَّى، وعن وكم ربيعة ، وهي كسر كاف الخطاب بعد الياء
الساكنة ، أو الكسرة ، نحو: عَلَيْكِمْ وَبِكِمْ، وعن وهم بني كلب ، وهي كسر هاء
الغيبة إذا لم يكن قبلها ياء ساكنة ولا كسرة ، نحو: عَنْهِمْ ، وبَيْنَهِمْ ، وعن جَعْجَعَة
قُضَاعَة ، وهي قَلْب الياء الأخيرة جِيمًا؛ نحو: الساعج يدعج ، أي: الساعي يدعي ،
وعن وَتْم أهل اليمن ، وهو قَلْب السين المتطرفة تاءً؛ نحو: النَّات أي: الناس،
وعن الاستنطاء في لغة سعد والأزد وقيس ، وهو قلب العين الساكنة نُونًا قبل الطاء ،
نحو: أَنْطِي أي أعْطِي، وعن شَنْشَنَة اليمن ، وهي قلب الكاف شِينًا ، نحو:
لَبَّيْشَ اللهم لَبَّيْشَ، وعن لَخْلَخَانِيّة الشَّحْر وعمان وهي حذف الألف في نحو: مَشَاءَ
اللهُ أي ما شاء، وعن طُمْطُمَانِيّة حِمْيَر ، وهي جَعْل أل (أم) نحو: طاب
امْهَوا؛ أي: الهواء ، وعن غَمْغَمَة قُضَاعة ، وهي إخفاء الحروف عند الكلام ، فلا
تكاد تظهر.
ولم ينظر نقلة اللغة إلى لغة كل قبيلة على حدتها ، بل جمعوا الألفاظ التي
يتكلم بها كل القبائل التي عولوا على الأخذ عنها ، وجعلوها لغةً واحدةً مقابل اللغة
الأعجمية ، لا يخطئ المتكلم إلا إذا خرج عنها كلها ، فلفظ المُدْيَة لغة دَوْس (بطن
من الأزد) ، ولفظ السكين لغة قريش ، فنقل الأئمة اللفظين ، وأباحوا لكل إنسان أن
يتكلم بأيهما شاء ، ولو لم يوجد في العرب من تكَلّم بهما معًا ، ومن هنا جاء الترادف
في اللغة والاشتراك اللفظي ، ولو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لَتكرر
العمل وطال الزمن.
ثم نظروا بعد ذلك إلى المفردات ، فما كان منها كثير الدوران على ألسنة
العرب عدوه فصيحًا، وما كان قليل الدوران على ألسنتهم عدوه غريبًا ووحشيًّا يعدّ
استعماله مُخِلاًّ بالفصاحة ، ولو كان معروفًا عند المخاطبين.
واستخرجوا من استعمالات العرب قواعد تتعلق بأحوال أواخر الكلم وقواعد
تتعلق بباقي أحوالها وسموها علم النحو والصرف ، وجعلوا لبعض تلك القواعد قيودًا
واستثناآت حتى يكون الاستعمال الكثير مضبوطًا بقوانين تُحْتَذَى عند القياس ،
وما شذّ عن ذلك عن ذلك جعلوه سماعيًّا يقبل من العربي ولا يقبل من المولد.
وكانوا شديدي الحرص على بيان السماعي والقياسي ، فإذا لم يكن اللفظ (مادة
أو هيئة) قد سمع من العرب منعوه بتاتًا ، وشنعوا على مستعمله.
ولأجل أن يعرف السامع مقدارَ عنايتهم بالمسموع من العرب ، ومقدار الانحطاط
الذي كان يلحق بمن يخطئ منهم أروي لك قصة وفود سيبويه على يحيى بن خالد
البرمكي ببغداد ، فقد عقد يحيى مجلسًا جمع فيه بين سيبويه رئيس نحاة
البصرة وبين الكسائي رئيس الكوفة ، فقال له الكسائي: تسألني أو أسألك؟ فقال
سيبويه: سَلْ أنتَ. فسأله الكسائي عن قول العرب: (قد كنتُ أظنُّ أن العقربَ أشد
لسعةً من الزُّنْبُور ، فإذا هو هي) أيجوز (فإذا هو إياها) ؟ فقال سيبويه: لا
يجوز النصب. فقال الكسائي: العرب ترفع ذلك وتنصبه. فقال يحيى: لقد اختلفتما ، وأنتما رئيسا بلديكما ، فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد
سمع منهم أهل البلدين ، فيحضرون ويُسألُون. فقال يحيى وجعفر أنصفت. وأمرا
بإحضار أعرابي من أهل البادية وسألوه ، فقال:(القول قول الكسائي) فقال
سيبويه ليحيى: (مُرْه أن ينطق بذلك ، فإن لسانه لا يطاوعه) فاكتفى المجلس بحكم
الأعرابي ، وخجل سيبويه ، وسافر بعد ذلك إلى فارس ، فأقام بها حتى مات وكانت
هذه المسألة سبب علته ، وكانت وفاته في سنة 180 وعمره 32 ، وهكذا كانت
عادة علماء البلدين متى اختلفوا في أمر تلمَّسوه عند البدو وتسمَّعوه منهم.
وعرفوا المعرَّب بأنه الاسم الأعجمي الذي فاهت به العرب الموثوق بعربيتهم
فإذا فَاهَ به غير العربي سمي مولدًا ، وقد تبعهم في ذلك كل من كتب في اللغة
كأصحاب الصحاح والقاموس والمحكم والعباب ، وأجمع العلماء على أن لا يُسْتَشْهَد
في اللغة والصرف والنحو إلا بكلام العرب ، ولا يجوز الاستشهاد بكلام المولدين
إلا في علوم البلاغة.
وأجازوا استعمال الكَلِم في غير ما وضعت له متى وُجِدَت مناسبة بين المعنى
الأصلي والمعنى المراد ، وقامت قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي ، وحصروا تلك
المناسبات بالاستقراء ، وسموها علاقات ، وهي:
المشابهة - نحو: فاهَ الخطيب بالدرر؛ أي: الكلمات الحِسان.
والسببية - نحو: رعينا الغيث؛ أي: الكلاء.
والمسببية - نحو: أمطرت السماء نباتًا؛ أي: ماء.
والكلية - نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} (البقرة: 19) .
والجزئية - نحو: بث الأمير العيون؛ أي: الجواسيس.
والحالية - نحو: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 107)
أي: الجنة.
والمحلية - نحو: سال الوادي ، وجرى الميزاب؛ أي: ماؤه.
واللازمية - كإطلاق الحرارة على النار.
والملزومية - نحو: دخلت الشمس من الكوَّة؛ أي: ضوءها.
والإطلاق - نحو: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) أي: لا صلاة
كاملة.
والتقييد كإطلاق المِشْفَر على شفة الإنسان ، والمشفر للبعير ، كالشفة للإنسان.
والعموم - كإطلاق الأبيض والأسمر على السيف والرمح ، والدَّابَّة على ذات
الأربع.
والخصوص - كإطلاق اسم الشخص على القبيلة؛ نحو: تميم ، وقريش ،
وربيعة.
والبدلية - نحو: (في ملك فلان ألف دينار) أي: متاع يساوي ألفًا.
والمبدلية - نحو (أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة) أي: أكلت دية.
واعتبار ما كان - نحو: {وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2) أي:
الذين كانوا يتامى.
واعتبار ما يكون - نحو: {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (يوسف: 36) أي:
عنبًا.
الدالية - نحو: فهمت الكتاب؛ أي: معناه.
والمدلولية - نحو: (قرأت معناه مشفوعًا بتقبيل) أي: قرأت لفظه.
والمجاورة - نحو: شربت من الراوية ، أي المَزَادَة المجاورة للجمل ، وقد
تكون المجاورة في الذكر فقط ، كما في المشاكلة نحو: اطبخوا لي جبة وقميصًا.
والآلية - نحو: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} (الشعراء: 84)، أي: ذِكْرًا
حسنًا صادقًا.
والتعلق - كإطلاق لفظ المصدر على الفاعل أو المفعول ، كشاهد عدل {هَذَا
خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) .
والشرطية - نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143)، أي:
صلاتكم.
والمصدرية - نحو: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} (الأنبياء: 64)، أي:
آرائهم.
والمظهرية - نحو: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10)، أي: قدرته.
والتضاد - كإطلاق البصير على الأعمى.
ومتى اشْتُهِر اللفظُ في معناه المجازي صار حقيقةً عُرْفِيّةً له حُكْمُ الحقيقة
الوضعية.
وقد صارت اللغة بهذا التنقيح الأخير لغة العرب عامَّةً لا لغة قبيلة بعينها ،
فأي لفظ نطقتَ به فأنتَ مُصِيب ، وأيّ استعمال جربت عليه فَلَسْتَ بمخطئ
ما دُمْتَ لم تخرج عن المنقول ، وأية علاقة صادفتك من العلاقات السالفة الذِّكْر
تُوصِلك إلى تسمية ما لم تُسَمِّهِ العربُ فلستَ مُقَيَّدًا بلفظ أعجمي ، ولا بلهجة حي
معين ، وصِرْتَ بذلك بَعِيدًا عن الخطأ ، واسع المجال في النثر والنظم والتقلب في
الأساليب الإنشائية ، تصول وتجول ، وتتهم وتنجد حسبما يسمو إليه استعدادك ،
وتصل إليه درجتك من الاطلاع وتمكنك منه بضاعتك ، فلك أن تقول المُدْيَة كما
تقول دَوْس ، وأن تقول السكين كما تقول قريش ، وأن تنطق كلمة (حيث) بتسع
لغات ، ولفظ (يا ربي) بست لغات ، وتركيب (بادئ بدء) بثمانيةَ عَشَرَ وجهًا ،
وأن ترفع الخبر وتنصبه في نحو {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) ، وأن
تطلق الأسد على السبع والشجاع ، والعَيْنَ على الباصرة والذهب والجاسوسِ ،
وتُصَرِّح وتُعَمِّي حيث تحتاج لذلك ، وتنقل إلى العربية كل ما فهمته من اللغات
الأخرى.
وقد وقع جاسوس عربي في يد العدوّ ، فحبسوه وألزموه أن يكتب كتابًا إلى
ملكه يحمله فيه على مداهمتهم ، ويوهمه بقلة عددهم وعُددهم غشًّا وتغريرًا ، فكتب
إلى الملك كتابًا قال فيه:
(أمّا بَعْدُ ، فقد أحطت علمًا بالقوم، وأصبحت مستريحًا من السعي في تعرف
أحوالهم، وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم ، وقد كنت أعهد في أخلاق المَلِك المهلة
بالأمور والنظر في العاقبة ، فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله، ولقد رأيت من
أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك ، نصحتُ فدع ريبك ، ودع مهلك ، والسلامُ) .
وَسُلِّمَ الكتابُ إلى العدو ، فأرسلوه إلى الملك بعدما اطلعوا عليه ، فتفطن الملك
لِمَا أراد الكاتب ، وقال لحاشيته: إن الجاسوس وقع في الأسر ، فأصبح مستريحًا
من السعي ، وإنه رآهم أضعافًا ، وإننا قليل بالنسبه لهم؛ إذ لمح بآية: {كَم مِّن فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ} (البقرة: 249) ، ولفتني إلى الأناة إذ جعلها عادة لي ، وأراد قَلْبَ حروف
الجملة الأخيرة ، فتكون:(كلهم عدوُّ كبير عدٍّ فتحصن) .
على هذا استقرت اللغة العربية ، وتَمّ إحكامها ، وحُصِرَتْ مُفْرَدَاتُها الأصلية
وقوانينها ، وأُبِيحَ استعمال مفرداتها في غير ما وُضِعَتْ له عند الاحتياج بشرط
العلاقة والقرينة ، وانتهت أدوار التنقيح فيها ، فلم يَبْقَ إلا استظهارها ، والعمل بها.
وقد اغتبطت الأمة العربية بذلك وعكفت على العمل بها قرونًا ، قضت فيها لُبَانة
للعلم والسياسة ، وتفرغت للفتوح والاستعمار ، وملأت طِبَاقَ الأرض بالتصانيف في
الشرائع والحكمة ، وكل ما كان على وجه الأرض من العلوم ، فأنارت الخافقين
ونشرت المدنية في الدنيا. وَلَمّا ضعف أمْرُهم ورثهم الغربيون في حكمتهم ، وأخذوا
عنهم ، وأضافوا إليها ما تجدد من الصناعات والفنون ، ولا يزال الإفرنج يدأبون في
اقتناء الكتب العربية ، ويستخرجون منها من الفوائد ما لم يكن في حسباننا ، ولكل
مجتهد نصيب.
هذا ما حضرني من النصوص المحتوية عليها كتب العرب المتضافر عليها
من أئمة الأدب، فمن شاء فليؤمن بها ومن شاء فليكفر بها؛ فقد تبين الرُّشْد من
الغَيّ.
ولما قعدت هِمَم الخالفين وانتشر فساد اللغة مادَّةً وقوانينَ رأى فريق من الناس
أن يكفونا مؤنة التحصيل؛ فهبوا إلى فتح ثغور اللغة العربية للدخيل من الألفاظ ،
وطفقوا يحسنون صنيعهم بأقيسة خطابية وجدلية لا تغني من الحق شيئًا.
فقالوا أولاً: إن العرب أخذوا ألفاظًا من الأعاجم في أطوار تنقيح العربية
واستعملها الفصحاء ، وورد منها كثير في القرآن والأحاديث فما لنا لا ننشئ مذهبًا
خامسًا في التنقيح ، وفاتهم أن ما أخذه العرب قليل جدًّا بالنسبة إلى ما نبذوه ونادر
بالإضافة إلى مادة لغتهم الأصلية؛ والقليل النادر لا يُقَاسُ عليه ، فإذا فتحنا اليوم
باب القياس في مادة اللغة نفتحه غدًا بالأولى في هيئتها؛ أي: في الصرف والنحو ،
فنقيس على ما ورد شذوذًا عن العرب؛ إذ ليست المادة بأقل خطورة من الهيئة ، ولا
الجوهر بأدنى احترامًا من العَرَض فننصب خبر المبتدأ وخبر إن، ونشتق من
الجوامد كلها، ونميل الألف حيثما وجدت ، ونستخرج من كل فعل ثلاثي
مزيدات ، ونستعمل الزيادة لكل المعاني ، وبالجملة نجعل عالي اللغة العربية سافلها ،
ونحدث فيها الأحداث الهائلة ، فَتَتَبَلْبَلُ فيها الألسنة ، وتُفْقَد بعد قليل من الزمن مع
أنَّ (أصحاب اللغات الحية) الذين يريدون أن يتشبهوا بهم لم يَرْضَوْا أنْ يتركوا
عاداتهم من الكلام والكتابة ، ولو كانت خطأً ، فلا يزالون يقولون في75 ستون
وخمسةَ عَشَرَ ، وفي98 أربع عشرينات وثمانيةَ عَشَرَ ، ولا يزالون يكتبون جملة
حروف في الكلمة لا ينطق بشيء منها ، ويفوهون بحروف لا يكتب منها شيء.
وقالوا ثانيًا: إنه يجب أن يكون لكل مدلول دالّ خاصّ به لا يدُلّ على غيره
أبدًا ، وتكونَ دلالته بنفسه لا بعلاقة أخرى ، وإن تسمية المحدثات بلفظ عربي مهما
كانت علاقته يوقع في الاشتراك ويَزِيدنا آلامًا إلى آلامنا ، وغرضهم بذلك منع
الاشتراك اللفظي بالمَرَّة ، أو عدم زيادته؛ وفاتهم أن الاشتراك اللفظي واقعٌ لا محالَةَ
في جميع اللغات؛ لأن ألفاظ كل لغة محصورة ، والمعاني غير محصورة ، فلو
وُزِّعَت الألفاظ على المعاني وجب المصير إلى الاشتراك حَتْمًا ، وإنه لا ضَرَرَ من
استِعماله مع القرينة، ففي الهندسة مثلاً تُسْتَعْمَل الزاويةُُ والعمود والسطح والهرم
والكرة والضلع ، ولا يخطر في البال شيء من معانيها القديمة، وفي الطبيعة
والكيمياء تُسْتَعْمَل العدسةُ والمِلْح والبلورات ، ولا تحسّ بأصل معناها، وفي
القوانين تستعمل وضْع اليد وسَحْب الورقة وحبس العين والقذف والضبط والربط ،
ولا يجيء في الخاطر معناه الأصلي ، والذي يسمع جملة: (سيارة الأمير سبقت
القطار) لا يتوهم القافلةَ ولا الجمالَ؛ فأين هي الآلام التي تخشون من زيادتها؟
ومَنْ مِنْكم يمكنه أن يتكلم كلامًا خاليًا من المشترك والمجاز؟ أنا أراهنكم على كتابة
عَشَرَة أسْطُر بأي لغة شئتم في وصف حادثة من الحوادث ذات البال ، فمن قدر على
إخلائها من المجاز والمشترك فله مني عَشَرَةُ دنانيرَ وأَمْهَلْتُكُم شهرًا. والحقيقة أن
هذه الآلام آلام وهمية توجد عندما يريد أن يتألم منها.
وقالوا ثالثًا: إن دلالة الكَلِم الأعجمية أصرح؛ لأنها تدل على صِنْف
مخصوص ، بخلاف الكلم العربية؛ فإنها في الغالب تكون عامةً ، وفاتهم أن
الاصطلاح يجعل العام خاصًّا ، والمطلق مقيدًا ، فالنسافة والبارجة والدارعة
والمُنْطاد لا عموم فيها بعد الاصطلاح عليها وغلبة الاسمية على الوصفية معروفة
في اللغات قديمًا وحديثًا ، فيقولون في السيف: أبيض ومرهف وهندي ويماني ، وفي
الرمح: أسمر ولَدْن وسَمْهَرِي ورُدَيْنِي ، وكلها أوصاف غلبت عليها الاسمية.
وقالوا رابعًا: إن التعريب أسهل من انتقاء اللفظ العربي ، واستعمال الأعجمي
أخف على السمع ، فإذا قلت للبدال:(أعطني قدحًا من الجِعَة) اشمأز منك ،
وسخر السامعون بخلاف (البيرا) ، وفاتهم أن هذه الصعوبة تزول بعد الاهتداء إلى
الكلمة العربية والاصطلاح عليها ، والإلحاح في استعمالها لفظًا وكِتَابَةً، على أن هذه
الصعوبة إنما تكون على الأشخاص المكلفين باستخراج الكلم ، بخلاف الذين
يتعلمونها جديدًا ، فإنهم يجدونها بدون عناء ، كالذي يَلْبَسُ الثوب لا يحس بعناء
حائكه وخائطه ، وقارئ الصحيفة لا يحس بعناء مُحررها وجامع حروفها وطابعها.
ولا بد من قوم يعانون الأعمال ، وآخرون ينتفعون بها ونحن لا نكلف أفراد الأمة
بالاشتغال معنا في انتقاء الألفاظ ، بل يكفي أن يتعب منا فريق في هذا الأمر مقابل
تعب الآخرين في أعمال أخرى على قاعدة التبادل المدني ، أمّا استهزاء العامّة فلا
يعوقنا عن العمل؛ لأنا لا نعمل لهم بل للخاصة والنشء الجديد الذين يتعلمون في
المدارس، وخالي الذهن يحفظ ما يلقى إليه سواء اللفظ الذي يحفظه عربيًّا أو
أعجميًّا، وإني أذكركم أننا كنا نستعمل كلمة قومسيون وقوميتيه وجرنال وغازيته
وأفوكاتو وكوليرا ووابور وقنصل وجنرال ، ولما ابتدأ الصحافيون يغيرونها بلجنة
وصحيفة ومحامٍ ووباء وقطار ومعتمد كنا نتقززها ، فلما ألحوا في استعمالها زال
التقزز شيئًا فشيئًا ، حتى عفنا الكلمات الأولى فجازاهم الله عن العرب خيرًا.
فلِمَ لا يعمل المحدثون من الصحافيين مثل ما عمل الأقدمون؟ ولماذا لا
يحذو مترجمو اليوم حذو مترجمي أمس؟ ولِمَ لا نساعد هؤلاء وهؤلاء على أداء
ذلك الواجب؟
وقالوا خامسًا: ليس لنا أن نتمسك بالقديم لمجرد قِدَمِهِ. فنقول لهم: وليس لنا
أن ننبذ القديم لمجرد قدمه؛ فما كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ ، والواجب على مَن
رأى المصلحة في القديم أن لا يتركَه ما لم تقُم الأدلة على أصلحية الجديد ، وقد
جربنا القديم مئات من السنين فقام بالكفاية ، ولم نَرَ للآن منفعةً في الألفاظ الجديدة بل
الضرر محقق؛ لأنا لو فتحنا الباب لدخول الجديد لاستعجم على الخالفين فيهم كل
المؤلفات منذ ألف سنة إلى الآن ، وانقطع الاتصال بين السابق واللاحق ، وضاع
على المتأخرين تراث أسلافهم المتقدمين.
وبعدُ ، فإني لم أفهم للآن وجهًا للتشبث بحب الأعجمي ، فإما أن نكون مصابين
بمرض الشعوبية ، وهو تفضيل العجم على العرب ، وإما أن نكون لاستضعافنا
مُقلدين كما قال ابن خلدون، وإما أن يكون في طباعنا إخلاد إلى الراحة والسكون؛
فلا نريد أن نعاني أعمالاً جديدة لم نتعودها فتخدعنا هذه الطباع إلى تحسين ما نحن
عليه ، ونقول بالتعريب؛ لأننا يمكننا أن نُعَرِّبَ كل يوم ألف كلمة ، ولا نجد في
الشهر عشرين كلمة عربية ، فيقرر كل منا أن ما وصل إليه هو منتهى الكمال ، وأن
ما يَزِيد عن ذلك يحسب من التقعر والتفيهق ، ولا يريد أن يعترف بكمال بعد الحد
الذي وقف عنده ، فيسجل على نفسه النقص، إن لم يكن هذا ولا ذاك فما سبب هذا
التشبث يا تُرَى؟
لقد وعيت كل ما سبق من الأدلة فلم أجد فيها برهانًا ، فلعل جمود قريحتي
ضرب بيني وبين الحقيقة حجابًا مستورًا.
وقد نشأ من التساهل في حياطة اللسان العربي أن تطرق الفساد إلى مادته
وهيئته ، وتولد عنه لسان آخر لا هو بالعربي ولا هو بالأعجمي ، وسَمّاه الناس
باللغة العامية أو الدارجة ، وهو المُسْتَعمَل لهذا العهد في مصر والشام والعراق
وجزيرة العرب والمغرب والسودان لا يتكلمون بغيره ، وإن كانوا لا يزالون يكتبون
بالعربية الفصحى أو ما يقرب منها.
وترى الطفل يتعلم العامية في أقلّ من خمس سنين ، ولا يتعلم الفصحى في
أقل من عَشْرٍ ، والسبب في ذلك ظاهر وهو أنه في أول أمْرِهِ لا يسمع غير العامية
ولا يتكلم بغيرها ، فهو أينما سار وحيثما ذهب مُشْتَغِل بها فترسخ في ذهنه رسوخ
الفرنسية في أذهان أطفال الفرنسيس، والإنكليزية في أذهان أطفال الإنكليز ، وليس
الحال كذلك في إبّان تعلّمه لغة الكتابة ، ولو فرضنا صبيًّا نشأ في بلد يتكلم أهله
بالعربية الفصحى بالسليقة وبعد سِنّ مخصوص يتعلمون العامية ، ويستعملونها في
الكتابة فقط لانعكس معه الحال ، وتعلم العامية في أقل من عَشْرٍ، فليس من طبيعة
اللسان العربي الصحيح شيء من الصعوبة وإنما هي طريقة التلقين وبيئة التعليم.
وعلى كل حالٍ فالجمع بين العامية والفصحى يستنفد خمسَ عَشْرَةَ سنةً كان يغني
عنها خمس لو اقتصر المعلم على إحداهما ، ويضيع على كل متعلم عشْر سنين من
عمره ، فإذا تحققت الآمال ، وصار التعليم إجباريًّا؛ فكم تخسر الأمة كل سنة من
أعمار أفرادها؟
فإذا أخذنا المعدل السنوي للمواليد وهو 470000 وطرحنا منه معدل وَفَيَات
الأطفال إلى سِنّ العشرة (ونفرض أنه النصف)235.000 يكون الباقين
235000 نضربه في عَشَرة أعوام ، وهي مقدار ما يخسره كل واحد، فتكون النتيجة
أن الأمة تخسر في كل عام عمل شخص واحد في 2.350.000 سنة ، وبعبارة أخرى
يفوتها ربح زراعة 1.275.000 فدان ، على فرض أن الفدان يزرعه اثنان ، وهي
خسارة لا يحسن السكوت عليها (فيا ضيعة الأعمار تمشي سَبَهْلَلاً) .
وقد استنكر الصبر على هذه الخسارة جماعة من الاقتصاديين؛ فاتفقوا على
وُجوب الاقتصار على تعلم إحدى اللغتين ، واختلفوا في تعيينها ، فقال فريق منهم:
يقتصر على العامية ، ومنهم المهندس الشهير ويلككس، والقاضي الكبير ويلمور.
وقال الفريق الآخر ومنهم العالم الشهير والمُرَبّي الكبير يعقوب أرتين باشا
بالاقتصار على الفصحى.
وأورد على الأول:
(1)
أن لكل قطر عامية مخصوصة ، بل لكل مديرية لهجة معينة ، فإذا
رجحنا لغة أقليم تحكمًا منا نكون قد ألزمنا سكان الأقاليم الأخرى بتعليم لغة ذلك
الإقليم؛ وعناؤهم في ذلك لا ينقص عن عناء تعلم العربية الفصحى ، بل الفصحى
أسهل؛ لأن كل شيء فيها قد ضبط ونقح ، ووضعت له كتب متعددة.
(2)
وأن العامية في البلد الواحد تتبدل بتبدل العصور ، فلكل زمان ألفاظ
تدخل مع أصحاب القوة؛ ولذلك نرى في لغة مصر مفردات من الرومية ، والكردية
والتركية والشركسية والفرنسية والإنكليزية.
(3)
وأن التزام العامية يحدث حجابًا كثيفًا دون الاستنباط من القرآن
والحديث والمأثور من كلام السلف ، فتذهب أعمال الأولين هباءً ، وتقع الخسارة
على المسلمين وغيرهم ممن يستخرجون كنوز العلوم من بطون الكتب العربية
القديمة ، ولولا كتبُ العرب ما أشرق على أوربا ذلك النور الساطع ، وبالجملة
تنقطع الصلة بين الأزمنة والأمكنة العربية ، ويُحْرَمُ ابْنُ هذا الزمان من ثمار أفكار
السابقين ، وقاطنُ هذا المكان من تبادل آراء المعاصرين من أبناء اللغة الواحدة؛ فلا
جرمَ كان من المتعين نبذ الرأي الويلككسي والأخذ بالمذهب الأرتيني.
وخلاصة هذا المذهب أن تترك العامة يتكلمون بما يريدون ، وتدرب التلاميذ
في المدارس على التكلم بالفصحى ، ويحبب إليهم التحاور بها كلما اجتمع لَفِيفٌ
منهم حتى ترسخ فيهم ملكتها وتملك ألسنتهم دُرْبَتها ، ويكون أخذهم بالتمرين تدريجيًّا
يطبقونه على ما عرفوه ، ويكملون محاورتهم بالعامية فيما لم يعرفوه ، وكلما زادت
درجتهم في التعليم زادت قوتهم في التطبيق إلى أن تهجر العامية، وتحل الفصحى
محلها.
فإذا ضُمّ إلى ذلك مطالعة الصحف والمجلات العربية ، وسماع الخطب العلمية
في النوادي العربية ، والتردد على معاهد العظات ، ومشاهد التمثيلات ، ومواقف
المرافعات ، وتعليم الفتيات ، واحتذاء أساليب المُنْشِئين ، وطبع كتب المبرزين فإن
اللغة العامية تنقرض في أقل من عشرين عامًا ، وتخلفها اللغة الصحيحة ، ويرجع
اللسان العربي إلى عصر مجده وأيام سعده.
ولقد هَمّ ذلك المُرَبّي الكبير منذ عشرين سنة بإلزام تلاميذ المدارس بالتكلم
بالعربية الفصحى ما داموا تحت نظر معلميهم وأخذ يُعد لهذا الأمر عُدَّته وعتاده ،
وسألني رأيي في ذلك وكنت معلمًا في مدرسة الحقوق ، فقلت له: إن الأمر ميسور ،
والخطب سهل ، فطلب إلىَّ تجربة ذلك قبل أن يصدر الأوامر ، فقلت: نعم وكرامة ،
ولم يَمْضِ شهر حتى دعوته لشهود التجربة مع من شاء من المفتشين ، فأَسْفرَتِ
التجربة عن نجاح باهر وارتقاء ظاهر ، فصمم على إمضاء عزيمته لولا احتجاج
فريق من المعلمين، بل نفر من العاجزين بأن التطبيق متعذر قبل حفظ اللغة
وإتمام القواعد ، ولولا التوكّؤُ على هذه المغالطة لَكانت العامية الآن في خبر كَادَ
إن تكن في خبر كَانَ.
والذي يسمع كلام الباحثين الأصليين والمنتصرين لهما يخال أن بين الفريقين
حربًا عوانًا وخلافًا ما بعده اتفاق. ومنشأ هذا الافتراق الذي حمي وَطِيسه، واحتدم
أوراه أن أدلة الفريق الأول تنتج أكثر من المدعى ويجر التسليم بها إلى إذهاب اللغة
العربية ، والإتيان بخلق جديد ولولا ذلك لَكان الخلاف نظريًّا لا يترتب عليه أثر ،
ويتضح ذلك إذا حددنا موضعَ النزاع ، وحصرناه في الدائرة التي يجب حصره فيها،
وأحسن طريق للتحديد سرْد مواطن الوفاق حتى نتحاماها إذا التقى الجمعان؛
وإليكم البيان:
(1)
نقسم أولاً اللغة العربية إلى لغتين: لغة عامية ، ولغة فصحى ،
فالعامية لا يمكن أن تكون مَحلّ نزاع؛ لأن الباحثَ الأول يقول بصقل اللفظ
الأعجمي ، ووضعه في القوالب العربية ، والثاني يقول بعدم الخروج عَمَّا ورد ،
فمحل النزاع إذًا اللغة الفصحى.
(2)
ثم نقسم اللغة الفصحى إلى أجزائها: حرف ، وفِعْل ، واسم؛ فالحرف:
لا يمكن أن يكون محل النزاع؛ لأن ما وجد منه كافٍ وافٍ بحاجة اللغة ، فلا
ضرورة لزيادة نحو: (ييس) و (نو) و (آند) لوجود نَعَم ولا ، وحرف
العطف ، والفعل كذلك غير محتاج للمزيد ، فلا باعث لزيادة نحو:(جون)
و (كم) لوجود ما يماثلها في العربية ، وقد وقع في كلام الباحث الأول [1] ما يُفهم منه
رغبته في زيادة أفعال تشتق من الأسماء الأعجمية؛ كأترم وتمبل وأمبس ، ولعلّ ذلك
فرط منه أثناء احتدام الجدال ، وإلا فما وجه تفضيل الأعجمي على العربي؟
ولم يقل أحد بجواز أبغل وأحمر وأفرس؛ والبغل والحمار والفرس أعرق في العربية
من الترام؛ اللهم إلا أن يكون وجه التفضيل شدة السرعة ، وعندنا قاعدة مذهبة نبني
عليها ، وهي أنه لا يُصَار إلى التعريب إلا إذا ألجأت الحاجة إليه ، ولا حاجة
إلى أترم كما لا حاجة إلى أبغل ، لإمكان التعبير بركب الترام لو سلمنا بقبول كلمة
ترام فمحل النزاع إذًا الاسم.
(3)
ثم نُقسّم الاسم إلى ما ينوب عن الفعل: كَشَتَّانَ ووي وصه ، وإلى ما لا
ينوب عن الفعل ، والأول كالفعل لا حاجة إلى الزيادة فيه ، فمحل النزاع إذًا الثاني.
(4)
ثم نُقسّم ما لا ينوب عن الفعل إلى: مشتق وجامد ، فالمشتقات في
العربية كافية ، وهي أصرح من نظائرها في اللغات الأخرى ، فالنزاع في الجامد.
(5)
ثم نقسم الجامد إلى اسم معنى ، واسم ذات؛ فأسماء المعاني كثيرة جدًّا
في العربية حتى عدها الباحث الأول ثروة واسعة ، فالنزاع في اسم الذات.
(6)
ثم نقسم اسم الذات إلى: ما وُضِع لمعين بلا واسطة وهو العَلَم ، وإلى
ما وضع لمعين بواسطة ملازمة ، وهو: الضمير، واسم الإشارة ، والاسم
الموصول ، وإلى ما وُضِعَ لغير معين ، وهو اسم الجنس.
فالعلم يشتمل أسامي الأناسي ، والبلاد ، والجبال ، والأنهار ، والبحار ، والأمم ،
والأقاليم ، وما له شأن خاص من غيرها، والاتفاق على أنها لا تخص لغة معينة إلا
باعتبار معناها الأصلي قبل العلمية ، وإنها تبقى على ما وضعه لها واضعها إلا
لضرورة ، والضرورة إما أن تكون بوجود حروف أعجمية لا نظيرَ لها في العربية ،
كالحرف الذي بين الباء والفاء، والحرف الذي بين الفاء والواو، والحرف الذي بين
الجيم والقاف ، والكاف والغين ، وبعبارة أخرى كجيم القاهرة ، أو قاف الصعيد
وهي قاف تميم ، والحرف الذي بين الجيم العربية والياء، وبعبارة أخرى كجيم
المغاربة ، والحرف الألماني الذي بين الخاء والشين فيبدل الحرف الأعجمي
بحرف يقاربه.
وإما أن تكون بوجود حركات أعجمية لا نظير لها في العربية ، كالحركة التي
بين الفتحة والضمة كما تقول أهل القاهرة خوخ ، والحركة التي بين الضمة والكسرة
عند الفرنسيس ، فتبدل بحركة عربية تقاربها ، أما الحركة التي بين الفتحة والكسرة
فلها نظير في العربية في لغة نجد وقيس وأسد ، كما تسمع من القراء ، فتبقى كما
هي أو تبدل بفتحة خالصة ، والمَدّ بعدها بألف خالصة.
وإما باشتمال العلم على ما لا تجيزه أصول العربية كالابتداء بساكن ،
وكالانتهاء بواو ساكنة قبلها ضمة ، وكالانتهاء بواو أو ياء بعد حرف مدّ فيحرك
الساكن أو يُتَوَصّل إليه بهمزة وصل ، ويحرك أحد الساكنين وتقلب الواو الساكنة ياء
والضمة كسرة ، أو تحذف وتقلب الواو أو الياء المتطرفة بعد مدة همزة ، وهذا
التغيير هو الذي يسمى صقلاً أو وضعًا في القوالب العربية ، فالعلم موضع اتفاق بين
الباحثين أيضًا.
والضمائر وأسماء الإشارات والأسماء الموصولة كافية ، بل فيها زيادة عن
نظائرها في اللغات الأخرى ، فلا حاجة للزيادة فيها ، وإنما النزاع في اسم الجنس
كما صرّحَ الباحث الأول مرارًا.
(7)
ثم نقسم اسم الجنس إلى: ما استعملت له العرب لفظًا سواء وضعته له
من عندنا أو عربته من لغة غيرها ، وإلى ما لم تستعمل له لفظًا. والأول يقبل ولا
ينظر إلى أصل اللفظ قبل التعريب؛ لأن التعريب جعله في حُكْم العربي ، فليس
موضع نزاع ، والنزاع فيما لم تستعمل له العرب لفظًا.
(8)
ثم نقسم ما لم تستعمل له العرب لفظًا إلى ما اصطلح المولدون على
إطلاق لفظ عربي عليه بأي مناسبة كانت كنسافة وغواصة ودارعة وقطار ، ولا
خلافَ بين الباحثين في قَبُوله، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه للآن ،
ولا خلاف بين الباحثين في قبوله، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه
للآن، ولا خلاف بين الباحثين في أنه يجب البحث والتنقيب في كتب اللغة عن لفظ عربي يمكن إطلاقه عليه بأي مناسبة من المناسبات الجائزة في اللغة العربية ،
ويصطلح على دلالته عليه كما اصطلح من قبلنا على لفظ نسافة وغواصة.
ولم يقل أحد منهما بتعطيل حركات الخطابة والكتابة ، ودواوين الإنشاء ،
وصحف الأخبار في مدة البحث والتنقيب ، بل لا بُدَّ من ملء الفراغ بلفظ أعجمي
واستعماله مُوَقَّتًا للضرورة كما يفعل الطالب الذي ينتقل بالتعليم تدريجًا من لغة العامة
إلى اللغة الفصحى.
فإذا انقضى دور البحث ولم يعثر على كلمة عربية يمكن الاصطلاح عليها وهو ما لا يكون إلا نادرًا تصقل الكلمة وتستعمل ، وحينئذ يراها الباحث الأول بالمنظار الذي
يرى به المعربات التي صقلتها العرب ، ويقول: قد احتطت وما فرطت؛ فمرحبًا
بالدخيل العتيد، وبُعْدًا للأصيل الشريد، وما لي أشغل آمالي بنشد ضالة إن جاءت
فلا كرامة، وإن ذهبت فلا شيعتها غمامة، ويراها الباحث الثاني بمنظار آخر غير
ما يرى به المعربات فيحسبها كالرقعة في الثوب والحصاة بين الدُّرِّ ، ويقول
للضرورة أحكام، وحَبَّذَا لو صحت الأحلام، ووجدت طلبتي في يوم من الأيام.
هذا هو الخلاف الطويل العريض ضيق البحث حلقاته رويدًا حتى تضاءل ،
وانتهى إلى تقدير النظر إلى الكلمة المُجْتَلَبَة واستقبالها إمَّا بالترحيب، وإما بالتقطيب،
وهو خلاف غريب.
…
...
…
...
…
...
…
... حفني ناصف
_________
(1)
هو الشيخ محمد الخضري.
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
السنن والأحاديث النبوية
جاءتنا هذه الرسالة من الشيخ صالح بن علي اليافعي أحد العلماء الغَيُورين في حيدر آباد الدكن يرد فيها على الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي فيما كتبه في النسخ ، وكون الأحاديث ليست من أصول الدِّينِ ، ولطولها ننشرها بالتدريج مبتدئين بمقدمتها التمهيدية ، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل محمدًا بالهُدَى ودِين الحق، وجعل له لسان الصدق صلى
الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومتبعيه وأنصاره وأحزابه.
أمَّا بَعْدُ ، فإني قد وقفت على رسائل لحضرة العالم الباحث الدكتور محمد
توفيق أفندي صدقي ، كان يرمي فيها أولاً إلى أن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم هو القرآن مجردًا عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه
غير معتبر لِمَا زاده الله على ما في القرآن من أحكامه ، ولازم قوله بل صراحته دالة
على محو صورة الإسلام الموجود ، وجواز تشكيله له شاء بأي صورة شاء وكأنه
استشعر شناعة ذلك ، فأعلن رجوعه عن إطلاق القول في ردّ جميع السنن ، وخص
منها قبول السنن الفعلية التي نقلتها الأمة بالإجماع أو بالتواتر. وردَّ جميع السنة
القولية زاعمًا أنها آحاد ، وما تواتر منها ليس فيه شيء من الأحكام.
وقوله هذا - وإن كان أهونَ من قوله السابق ظاهرًا - مآله وحقيقته بعد
التزامه ، ثم تطبيقه على ما في نَفْس الأمر الواقع هو حقيقة قوله الأول مِن رَدِّ أكثر
السنن الفعلية ، بل لا يبعد إذا قلنا كلها؛ لأنه ما مِن فِعْل نقل إلينا من تلك إلا وقد
اختلف في هيآته وأحكامه المقومة لحقيقته.
والمسلمون الناقلون لِتِلْكَ الأعمال إنما كان مستند اختلافهم في ذلك ، إما السنن
القولية وإما اجتهاد من يتأتى له الاجتهاد منهم ، فإذا لم يجب أن تكون سنن الرسول
صلى الله عليه وسلم القولية من الدين فلأن لا تكون مجهودات غيره من الدين أولى
وأحرى.
وإذا كان كل فعل من السنن الفعلية قد اختلفت في صفاته وهيئاته الطوائف
والمذاهب بحيث يكون حقيقة هذا الفِعْل عند هؤلاء غير حقيقته عند أولئك. وإذا كان
المستند السنن القولية أو الاجتهاد وسلمنا أن كلاًّ منهما ليس من الدين - لزم أن لا
يعلم المتعين أخذه وأن لا يجب عمل مخصوص للزوم انتفاء المدلول بانتفاء دليله ،
والمسبب بانتفاء سببه؛ إذ لا دليلَ ولا سبب لوجوب أو حرمة أو نَدْب أو كراهة إلا
السنن القولية المفسرة للقرآن والناصّة على أحكام الأعمال ، فإذا انتفت انتفى كل
ذلك ، وجاز لِمَن شاء أن يقول: إن الواجب من الأعمال كذا وكذا ، وإن معنى
القرآن ومراده ذا أو ذا ، كيف شاء فعاد الأمر في جميع أمور الدين إلى الإجمال
والإبهام ، ولزم الانسلاخ عن دين الإسلام ، وهذا هو ما يتحاشى عنه كل من يؤمن
بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والحقير قد نبه حضرة الدكتور في رسالة أرسلتها إلى حضرة سيدنا منشئ
المنار الأغر ، ولكنه أرسل إليَّ مكتوبًا يذكر فيه أن بعض تلك الرسالة ضاع عنه ،
ويطلب إرسال ذلك إليه ليطبعَ الرسالة ، ولكني اعتذرت حيثُ لمْ يبقَ لدي منها شيء؛
لأني أرسلت إلى حضرته المسودة.
ولما كتب حضرة الدكتور رسالته الأخرى التي طبعت في المنار (الجزء
التاسع من المجلد العاشر) بِعُنوان (النسخ في الشرائع الإلهية) رأيته صدر رسالته
بالكلام على حقيقة النسخ ، واختار القول بجوازه عقلاً وشرعًا ، ووقوعه في الشرائع
الإلهية والقوانين الوضعية البشرية ، وهذا شيء لا ننازعه فيه؛ لكنه أنكر
وقوعه في القرآن فعلاً ، وخص ذلك بالسنة النبوية ، ثم تدرج من مسألة النسخ إلى
تقسيم السنة إلى قسميها: فعلية وقولية ، وكل منهما إلى متواتر وآحاد تمهيدًا لِمَا
خلاصته أن القولية لا سِيَّمَا الآحاد منها لا يجب العمل به بعد زمن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وزعم أن السنن القولية مطلقًا إنما هي شريعة وَقْتِيَّة تمهيدية لشريعة
القرآن الثابتة الباقية ، وعلل ذلك بالنهي عن كتابتها ، وزعم أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه لم يعاملوها بالعناية التي عُومِلَ بها القرآن قصدًا منهم؛ لأن
تندثر وتزول من بين المسلمين فلا يعملون بها.
هذه خلاصة قوله لكنه يظهر من تناقض كلامه وجوب العمل ، وقَبول ما كان
متواترًا من ذلك لا ما نقل آحادًا سواء كان حسنًا أو صحيحًا أو مشهورًا أو مستفيضًا.
وحيث كان ذلك مخالفًا لدين الإسلام فيما أعتقد ، بل الآحاد الصحيح بجميع
أقسامه مستلزم للطعن في القرآن وتكذيبه ، ومخالف لجماهير المسلمين ، بل
لجميعهم ، بل لجميع الأديان والملل وسائر متبعيها ، بل مخالف لِمَا عليه مدار
الاجتماع البشري؛ كل ذلك على ما أعتقد ولا أَحْسَبُ أنّ أحدًا ممن عُرِفَ بالعلم
والعقل كحضرة الدكتور يخالفني وينازعني في ذلك بعد التفكر وبشرط
الإنصاف - حيث كان الأمر كذلك فيما أعتقد بعثني حب إظهار الحق والتعاون
على البِرّ والنصيحة إلى مناقشة حضرة الأخ الدكتور فيما كتبه في رسالته ، مما رأيته
خلافَ الصواب ، لما عرفت من حسن نيته ورجوعه إلى الحق كما هي عادته.
وألتمس من مولانا المرشد وسيدنا العلامة القدوة داعي الأنام لاتباع حقيقة
الإسلام، منشئ المنار مولانا حضرة السيد محمد رشيد رضا وأرجوه أن يدرج هذه
البضاعة المزجاة في مناره، وأن يسقط ما فيها من الغلط بصائب أفكاره، وأن
يشركنا في صالح دعواته، ولنعد لما كنا بصدده من الشروع في المقصود فنقول:
(سيأتي المقصد) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنبيه للمستفتين
إذا أراد المستفتي أن لا يتأخر نشْر سؤاله والإجابة عنه ، فَلْيَكْتُبْهُ على
ورقة مستقلة ، ولا يجعله في غمرة كتاب آخر ، فيكلفنا استخراجه منه؛ إذ ربما تمرّ
الشهور ولا نجد وقتًا لنسخه. ومن سأل في ورقة واحدة عِدَّة أسئلة فَلْيَفْصِلْ بينها
في الكتابة؛ فيبتدئ كل سؤال بسطر جديد، وَلْيَكُنِ الخط واضحًا، ومن علم أن
في عبارته غلطًا فليأذن لنا بتصحيحها إنْ شاء وإلا نشرناها على علاتها
أو أهملناها.
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(1)
الفصل الأول [*]
(مكة وحالة قريش الاجتماعية عند البعثة)
نشأت خديجة في بلد شأنه عجيب: قَصِيّ عن العمران، في وادٍ غير ذي
زَرْع، لا تنساب فيه الأمواه، ولا تكتنفه الحدائق، ولا تقوم للصناعات فيه دولة،
ولا يجد مبتغي الزخارف لديه مجالاً، ولكن أبدله الله جمالاً معنويًّا وكساه جلالاً
روحانيًّا، فالأفئدة تهوي إليه، والمطايا تزجى له من كل فجٍّ عميق.
هذه البلدة المقصودة هي (مكة) المكرمة الشهيرة التي لا يجهل اسمها
وشهرتها أحد، هي أم البلاد العربية ، واقعة في القطعة المسماة الحجاز من شبه
جزيرة العرب، قائمة بيوتها في سفوح جبال محيطة بها.
لم نقف على مقدار عدد نفوسها في تلك الأيام التي نشأت فيها خديجة ، ولكن
عدد مقاتلتها لم يكن يتجاوز الألفين في الغالب فيمكننا أن نحرز أهلها إذ ذاك بنحو
خمسةَ عَشَرَ ألفًا كلهم أولاد أب واحد ، قد ورثوا باستعدادهم لا بِنَسَبِهِمْ هذا المقام
الكريم والبلد الشريف ممن كان قبلهم من القبائل. وذلك أن قُصَيّ بن كلاب استطاع
أن يجمع جميع ذراري فهر بن مالك إلى مكة ، ويزاحم بهم من كان فيها من القبائل
فلم تلبث أن صارت لهم خاصة.
وفي مكة هذه بيتٌ مُقَدَّس قديم العهد يكاد يكون أول أمره مجهولاً عند
المشتغلين بالتاريخ اسمه بيت الله أو الكعبة. وكان جميع عرب الحجاز يعظمون هذا
البيت أكثر من كل البيوت التي شرّفوها، ويحجون إليه، ويتعارفون ويتعاطفون
لديه.
كانت هذه البلدة المشرفة تضم بين تلك الجبال المهيبة أُمَّة صالحة الاستعداد
للرقي مَتَى أريت طريقه ، كما تضم الصدفة جوهرة لا يظهر بهاؤها وَرُوَاؤُهَا حتى
تعالج بعض المعالجة ، وتزال عنها تلك القشور ، أمَّا من حيثُ الحضارة فلم تكن
كما ينتظر ابن حضارة هذا العصر من البلدان وإنما هي بيوت ساذجة مبنية بالحجارة
واللَّبِن ، ومسقوفة بجذوع النخل خالية من الزخرف.
وهذا البلد الأمين باقٍ إلى يومِنا هذا لم يزدد على طول القرون إلا تشريفًا
وتكريمًا ، ولم يتغير فيه إلا أشكال الأبنية ، وازدياد التجارة ، والبيت المشرف لم
يتغير وضعه ، ولا وضع الشعائر التي حوله؛ وإنما بُنِيَ هناك زيادات وتحسينات
اقتضتها الدواعي.
ومكة معدودة اليوم من جملة بلاد الدولة العلية العثمانية بيد أنها لم تحرم حتى
الآن من أمير عربي يتصل نسبه بسيدتنا خديجة هذه، ونفوذه فيها وفيما حولها نفوذ
تام يستمده من السلطان العثماني، ومن احترام العرب لهذه السلالة.
ومن الآثار المشهورة الباقية في مكة بئر زمزم ، ويقولون: إن قبيلة جُرْهُم
كانت دفنتها، ثم احتفرها عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان
ذلك من مفاخر عبد المطلب؛ لأنه لم يكن بمكة من ماء إلا في آبار بعيدة عن البيت
المشرف ، فلما أخرج عبد المطلب زمزم في جوار البيت انصرف الحاجّ إليها.
وَلِحَفْرِ زمزم حديثٌ طويل؛ خلاصته تدل على شغف عبد المطلب بتسهيل
الماء على الحجاج ، فإذا تأملنا في حرص القوم على مِثْل هذه العناية بالغرباء
وأبناء السبيل نعلم شيئًا من روح تربية الهمم ، وترقية العواطف في ذلك المجتمع
الذي نشأت فيه (خديجة) .
وكان من جيِّد أمْر أهلها في مجتمعهم ذلك أنهم اقتسموا النظر في الأمور
العمومية فيما بينهم؛ فكأنهم كوَّنوا حكومة جمهورية من غير رئيس عام ، وكان أمْرُ
هذه الجمهورية الغريبة الوضع سائرًا على منتهى النظام ، ولكن لم يكن هذا النظام
لسرّ في ترتيب هذه الجمهورية؛ فإنها لا يؤمل منها في حَدِّ ذاتها أن تثمر نظامًا بالغًا
منتهى الجودة والقوة ، وإنما ذلك أثر من آثار تربيتهم العمومية ، فالأخبار كلها دالّة
على أن القوم بالجملة كانوا كأنهم مفطورون على التضامن التّامّ؛ فلذلك كان مِن
مزايا ذلك الاجتماع الذي لا نعهد له نظيرًا أن كلَّ فرد من أفراده تام الحرية لا يشعر
بقهر حاكم ، ولا يخشى سطوة جبار ، وكل منهم في أمن من فوات الحقوق واعتداء
الحدود؛ الجنايات قليلة، وكرامة الناس محفوظة، والآداب سليمة، والحدود غير
متجاوزة، والحقوق مصونة، وذرائع الفساد مسدودة، وسلامة الفطر غالبة،
والمزايا التي بها كمال الإنسانية راجحة.
فإذا أضفنا إلى كل ذلك احترام الغريب وتوقيره إيّاهم وتوقيه أذاهم ، نجد أن
ذلك المجتمع لا يَكادُ يوجد نظيره ، ولكن مع كل هذا الجمال والحُسْن والصلاح في
هذا المجتمع كان فيه عيوب ، فإذا أُزِيلَت يُصبح أولَ مجتمع راقٍ في الدنيا ، وخليقًا
أن يفيض على جيرانه من بركات العقول التي أشربت بديع جماله، واشرأبت إلى
عظيم كماله، ثم تاقت إلى تعريف العالم بما أكنت تلك البقعة التي لم تكن شيئًا
مذكورًا من العقول المنيرة والأرواح العالية.
وقد وقع ذلك فإن الذي منه تنشأ الأسباب ، وإليه ترجع الأمور قد أتاح لهذا
البلد الجمهوري من ينظفه من تلك العيوب التي أشرنا إليها ، فكان بعد ذلك كما هو
المنتظر منه؛ أي: تم ظهوره ، فصار مشرقًا لنور عظيم بلغ مشارق الأرض
ومغاربها ، فأخذ كل قوم منه بقدر استعدادهم.
أمّا الجمهورية التي أشرنا إلى أنها كانت في هذا البلد فقد أقاموها على أساس
يأمنون معه من الزلزال؛ وذلك أنهم رَأَوُا الشرف انتهى إلى عَشَرَة رهط من عشَرة
بطون لاشتهارهم بأعمال مجيدة، ثم أجمعوا أمْرَهم على أن يكون النظر في الأمور
العمومية من خصائص هذه البيوت العشرة ، وَتَرَاضَوْا على أن يكون لِكُلّ بيت من
هذه العشرة وظيفة يختص بها ، تُعَدّ من مفاخره؛ فهم بهذا الصنيع قد أخذوا بشيء
من أصول حكم الأشراف ، وبذلك أَعْطَوُا الأعمال التي يمجد بها الفرد أو الأسرة
حقها من التكريم والتشريف ليزداد نشاط أربابها ، وحرص غيرهم على التشبه بهم ،
وأخذوا أيضًا بشيء من أصول الحكم النيابي ، وهو أعظم الآيات على وجود
التضامن الذي هو أحد الأركان التي تحتفظ بها سعادة الأمم.
أمّا الشورى ، فقد وفروا منهم حظها، وعظموا في أنفسهم حقها ، وبها كانوا
يشرعون ما يشرعون من الأحكام والحدود، ويفصلون ما يفصلون في بعض القضايا
والحقوق.
وقد أَلْغَوُا الرئاسة العامّة مِن بينهم كأنهم عدُّوها لَغْوًا ، إذا صدقوا في تضامنهم
وصلحوا في تشاورهم وإرادتهم الحق وقليلة الجدوى ، إذا مرض تضامنهم ووهي
نظامهم. أو أنهم خشوا أن يكون حب الرئاسة إذا وجدت مدعاة لكثرة تنازعهم
وتنافسهم؛ فلا يأمنون بعد ذلك كثرة الفشل ، والشقاق ، وسقوط الهيبة من نفوس
الغرباء ، ووقوع الفتور في نفوس الأقربين. أو أنهم أنفوا أن يُمَلِّكُوا عليهم أحدًا؛
لأنهم كلهم يحملون بين أضالعهم نفوس الملوك ، وجمهوريتهم هذه لم يكن لها رئيس
عام ، ولكن كانوا يقيمون واحدًا في وظيفة رئيس عام مُوَقَّتًا.
أهل هذا المجتمع اللطيف لم يكونوا أولي شغف بالمحاربات ، فعلاقاتهم
الخارجية مع جيرانهم من القبائل وأهل القرى والبلاد كانت حَسَنَةً ، ولكن هذا لم
يقعدهم عن أن يكون استعدادهم تامًّا لِمَا ينزل بهِم ، فإن نزل بهم ما يطيقونه كشفوا
اللثم عن قوتهم ، وَبَرَزُوا من غير تريث ، وإن نزل بهم ما لا قِبَلَ لهم به تَرَيَّثُوا
وعمدوا إلى الأَنَاةِ ، وَفَتَقُوا من الحيلة أبوابًا يخرجون منها إلى السَّعَة مِن الضيق ،
ومِن فَلّ الجيوش بالحُسام إلى فلِّها بالبيان ، وقد أعطوا من هذا حظًّا عظيمًا.
ومِن أشهر حوادثهم الخارجية التي ضاقوا بها زرعًا هجوم القائد الحبشي أبرهة
الذي كان غلب على بعض بلاد اليمن ، فقد دهمهم بجيش عظيم لم يروا لأنفسهم طاقة
به ، فقابله عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يومئذ رئيس قريش ،
فأحسن مقابلته ولطف بعض الشيء من حدته التي كان بها مسوقًا لهدم (بيت الله) على زعمه لأسباب فصلها رواة الأخبار ، ثم أصابته داهية سماوية فَقَفَلَ بجيشه ثانيًا عزمه؛ لأنه رأى في أهل هذا البلد ما لم يكن يَخْطُر له في بالٍ.
نعم رأى في مقدمه هذا على هؤلاء القوم عجبًا من الأمر ، وذلك أنه لَمّا أتاهم
أرسل إليهم رجلاً حميريًّا كان معه اسمه حناطة ، وأوصاه أن يسأل عن سيد أهل
هذا البيت وشريفها ، فيبلغه أن الملك لا يريد الحرب وإنما جاء لهدم هذا البيت ،
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها ، فدلوه على عبد المطلب بن
هاشم، فجاءه ، وبلَّغَه ما أمره به أبرهة ، فكان جواب عبد المطلب: إننا لا نريد
حربه. قال حناطة: إنه أوصاني أن يريد مواجهتك إن لم تريدوا الحرب ، فانطلق
عبد المطلب مع حناطة إليه ، فلما رآه أبرهة رأى الوسامة والجلال ، فأعظمه
وأكرمه ، وأخذه إلى جانبه ، وقال للتُّرْجمان: سَلْهُ أن يقول ما يبدو له ، فلم يكن
من عبد المطلب إلا أنه صرف لسانه عن الخوض في عزم القائد على هدم البيت
وجداله فيه ، بل أظهرَ الاقتناع بضرورة المسالمة ، وعدم معارضة القائد في أمر
هذا المعبد ، وقال له: إذا لم يكن لك غير هذا الأرْبِ فَرُدَّ علينا إبلَنَا. قال أبرهة
للترجمان: قُل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني؛
أتكلمني في الأموال وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك! فأجابه عبد المطلب: إننا
نحن أرباب المال ، وأما البيت فله رب هو سيمنعه. فقال له: إنه ما كان ليمتنعَ
مِنِّي. فأجابه: أنت وذاك. وَرَدَّ أبرهة الإبلَ على عبد المطلب ، وبقي مُصِرًّا على
عَزْمِه ، ورجع عبد المطلب على قريش ، فأمرهم أن يعتصموا بالجبال، ولا يأتوا
أمرًا حتى يروا ماذا يكون ، وقد أتى من لدن العناية الغيبية ما لم يكن في
الحساب ، فإن أبرهة لما أصبح وتهيَّأَ لدخول مكة برك الفيل الذي كان يركبه
وحرن ، وأتوا كل باب من أبواب الحيل ليقوم ويمشي تلقاء مكة ، فلم يَقُمْ ، ثم
رَأَوْا حِجارة تسقط عليهم من أرجل صِنْف من الطير ، فتشاءَمَ أبرهة ، وتذكر ما
أنذره به ذلك الرجل الجليل السني الطلعة عبد المطلب من حماية هذا البيت بطريقة
لا يبلغها عقله ، فخمدت في صدره جذْوَة الحدّة والتهور ، وخذل أمام هؤلاء القوم
الذين حاربوه بالسلم ، ورموا عقله بسهم نافذ من بيان عبد المطلب مع رمي الطير
جيشه بحجارة من سجيل.
وهذه أكبر حوادثهم الخارجية وأشهرها. وفي عام هذه الحادثة وُلِدَ النبيُّ صلى
الله عليه وسلم ، وقد سَمَّوْهُ عامَ الفيل لِمَا ذكرنا من قصته ، ورجال هذه الحملة قد
عُرِفُوا بعدها باسم أصحاب الفيل ، وقد أُشِيرَ إلى مُجمل هذه الحادثة في القرآن
المجيد.
***
الفصل الثاني
(بيوتات قريش وخصائصها)
أمَّا بيوت شرفهم العشرة فهي:
هاشم، وأمية، ونَوْفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي،
وجُمَح، وسهم.
وأما الأمور التي كان توليها من خصائص هؤلاء فهي: السِّقَاية، والعِمَارة،
والعِقَاب، والرِّفَادَة، والحِجَابَة، والسِّدَانَة، والنَّدْوَة، والمشورة، والأَشْنَاق، والقبة،
والأَعِنَّة، والسِّفَارَة، والأَيْسَار، والأموال المحجرة.
هذه الأسماء أكثرها اصطلاحي يحتاج إلى تفسير يوافق العصر الذي نحن فيه
حتى نفهم شكل ذلك المجتمع الذي سميناه جمهوريًّا على حَسَبِ اصطلاح عصرنا.
فأمَّا السِّقَاية ، فقد نفهم من اللفظ نفسه؛ أي: سِقَاية الحُجَّاج الذين كانوا يأتون
(بيت الله) من كل جانب ، ولا يخفى على أحد أن العناية بهؤلاء الغرباء ، وتوزيع
المياه عليهم من أهم الأمور العمومية في ذلك الظرف ، وكان بنو هاشم هم أهل هذه
الوظيفة.
وأمّا العِمَارة ، فهي منع من يتكلم في (بيت الله) بكلام سفيه قبيح ، أو يرفع
فيه صوته ، وكانت هذه الوظيفة أيضًا في بني هاشم الذين منهم العباس صاحبها.
وأما العِقَاب ، فهي راية قريش ، كان من شأنهم فيها أنهم يحفظونها في بيت
من البيوت العشرة ، فإذا وقعت حرب أخرجوها ، فإن اتفقوا على أحد منهم أعطوه
راية العقاب ، وإن لم يجتمعوا على أحد رأسوا صاحبها فقدموه ، وقد كانت
هذه الوظيفة؛ أي: حفظ هذه الراية، من خصائص بني أمية الذين منهم أبو سفيان
صاحبها.
وأما الرِّفَادة ، فمعناها: الإسعاف ، وكانوا يجمعون من أنفسهم أموالاً لرفد
المنقطعين من الحجاج ، وكانت الرفادة في بني نوفل الذين منهم الحارث بن عامر
صاحبها.
وأما السِّدَانة والحِجَابة ، فمعناهما: خِدْمَة (بيت الله) وحفظ مفتاحه ، والظاهر
من هذه الوظيفة أنها دينية ، ولكن متولي هذه الوظيفة الدينية مشترك مع عشيرته
بتدبير الشئون الاجتماعية ، وهذا العمل الديني نفسه قد كان عند القوم من أهم
الأمور العمومية في مدنيتهم وجمهوريتهم.
وقد نستطيع أن نشبهها من بعض الوجوه بوظائف كبار رؤساء الدين في الأمم
المتمدنة اليوم؛ ولا يخفى أن وظائفهم من متممات مدنيتهم، ولمن يتولونها شأن
يذكر عندهم. وقد كانت الحِجابة والسِّدَانة في بني عبد الدار الذين منهم عثمان بن
طلحة صاحبها.
وأما النَّدْوة ، فمعناها ظاهر من اللفظ نفسه ، وكانت دار الندوة في بني عبد
الدار أيضًا.
وأما المشورة ، فيريدون بها رئاسة الشورى ، وليس ببعيد عن الصواب إذا
شبهناها من بعض الوجوه برئاسة الوزراء أو رئاسة مجلس الأعيان ، وكانت هذه
الوظيفة من خصائص بني أسد ، وكان يتولاها منهم يزيد بن زمعة بن الأسود ،
وكان من شأنهم في هذه الوظيفة أن رؤساء قريش كانوا لا يجتمعون على أمْر حتى
يعرضوه على صاحب هذه الوظيفة ، فإن أعجبه وافقهم عليه ، وإلا تخيَّر وكانوا له
أعوانًا.
وأما الأَشْنَاق ، فهي الديات والمغارم؛ فقد كانوا يساعدون من يستحق المساعدة
ممن حمل مغرمًا أو دية ، وكان النهوض مع صاحب المغرم لجمع المطلوب من
خصائص بني تيم الذين منهم أبو بكر الصديق ، فكان أبو بكر إذا نهض مع أحد
صدقه قريش ، وأعانوا من نهض معه ، وإن نهض غيره خذلوه.
وأما القُبّة فأشبه شيء بنظارة الحربية ، ولكن كانوا يعمدون إليها وقت
الحرب فقط ، ولعلّ ذلك لِسذاجة الحرب إذ ذاك ، أو لاستعدادهم لها كل وقت إذا
تأججت نيرانها ، وقد كانوا يضربون قُبَّةً ، فيجمعون إليها ما يجهزون به الجيش ،
وكان من خصائص بني مخزوم الذين منهم خالد بن الوليد صاحبها.
وأما الأَعِنَّةُ ، فمعناها رِئَاسة الخيالة ، وكانت هذه الوظيفة للمخزومي أيضًا
وخالد صاحب هذه الوظيفة هو ذلك الفاتح العظيم القائد العام في الإسلام لجيوش أبي
بكر خليفة النبي عليه الصلاة والسلام ، وما أظن تاريخ فن التعبئة اليوم يخلو من
الاستئناس بذكر تلك التدابير المخزومية ، التي كان لها شأن عظيم في الإسلام كما
هو شأنها في الجاهلية (أو الجمهورية) .
وأما السِّفَارة ، فالمراد بها ظاهر ، وقد كانوا يحتاجون إلى السّفارة في
الحروب؛ أي: في أوائلها ، أو بعد شبوب نارها وتعاظم أوزارها ، ويحتاجون إليها
إذا نافرهم حيّ للمفاخرة. وقد كانت هذه الوظيفة من خصائص بني عدي الذين
منهم عمر بن الخطاب صاحبها ، وناهيك بذلك الخليفة الثاني الشهير بكل مَنْقَبَة
صالحة إذا كان سَفِيرَ قوم.
وأما الأَيْسَار فهي الأزلام والقِدَاح ، كانوا يضربون بها إذا أرادوا أمْرًا ، وكان
هذا من خرافاتهم وعيوبهم ، ويحق لنا أن نبالغ في استهجان هذه الخرافة التي كانوا
عليها إلا أن يكون لهم شيء من النظر من وراء الخرافة ، كما هو الحال في كثير
من الأمور الباطلة التي تروج في الأمم بسماح من العقلاء ، أو بترويج منهم لها ،
وقد كانت هذه الوظيفة لبني جُمَح الذين منهم صفوان بن أمية صاحبها.
وأما الأموال المحجرة ، فهي الأموال التي سموها لآلهتهم ، ويصح أن تسمى
هذه الأموال أم الأوقاف الخيرية؛ أي: إن بينهما تشابهًا. وقد كانت هذه الوظيفة؛
أي: تولي النظر في الأموال المحجرة من خصائص بني سهم الذين منهم الحارث
ابن قيس صاحبها.
هذا ما كان من حيث ترتيب التضامن واقتسام الأعمال المهمة. وأما الأمور
الجزئية التي كان الأفراد يختلفون فيها فتفصل فيها كبار أسرهم وعشائرهم في
الغالب على طريقة التحكيم ، ولم يكن للقوم من شريعة مكتوبة ، وإنما كانوا يقضون
في الأمر كما يبدو لهم الصواب فيه ، ويقيسون الأمور بأشباهها.
وهنا يخطر في بال القارئ أن يسأل عن الضعيف الذي لا يأوي إلى ركن
شديد من رهطه ، كيف كان حاله إذا أهين أو ظلم في ذلك المجتمع الذي لا شريعة
فيه مكتوبة ، ولا قوة عمومية من شأنها وخصائصها دفع القوي عن الضعيف. وقد
بحثنا في هذه المسألة المهمة ، فوجدنا القوم لم ينسوها ولم يهملوا شأنها؛ وذلك أنهم
قرروا في مؤتمر لهم حماية الضعيف ، والذود عنه ، وكأن من حديث ذلك المؤتمر
أن قبائلَ من قريش اجتمعت في دار عبد الله بن جدعان الشهير، وتعاهدوا وتعاقدوا
على أن لا يجدوا في مكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا
قاموا معه ، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ، فسمت قريش ذلك حلف الفضول ، وكانت الأرهاط المتعاقدة بني هاشم وبني المطلب وبني أسد
ابن عبد العزى وبني زهرة بن كلاب وبني تيم بن مرة.
نعم ، كان من النقص في نظامهم أن لا تكون حماية الضعيف من خصائص
الجمهور ، ولكن يظهر أنهم كانوا يكتفون في الضعيف بأن يجيره واحد من بيوت
العزة والقوة ، فإنه يصير مثل مجيره في نظر الجمهور فلا يجسر أحد أن يبغي عليه.
ويمكننا أن نستخلص من كل ما تقدم أن القوم كان لهم شبه قانون أساسي ، إلا
أنه غير مكتوب ، ولم يكن لهم قوانين مدنية أو جنائية قط. والأمر في الأمور
المدنية سهل في المجتمعات البسيطة الصغيرة ، فكل إنسان يستطيع فيها أن يحتفظ
بحقوقه ، أو أن يستعين عليها بالتحكيم وما أشبهه.
وأما الحوادث الجنائية فلا يجوز إهمالها وتركها من غير أن يتولى الفصل فيها
أناس مقيدون بقوة تنفيذية مخافة أن تكثر الجنايات؛ ولكن تكافؤ القوى في العشائر
والبطون المتساكنين في بلد واحد قد يكون مانعًا من كثرة الجنايات ، وإذا أضيف إلى
ذلك صلاح الأخلاق والتربية العمومية كان هذا نِعْم الظهير على تقليل العدوان ،
وقد كان القوم يتواصون باجتناب الظلم ، ولا سِيَّمَا في البلد الأمين ، ومن وصاياهم في
ذلك قول إحدى نسائهم توصي ابنًا لها:
أبنيّ لا تظلم بمكـ
…
ـة لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بنيَّ
…
ولا يغرنك الغرور
أبنيّ من يظلم بمكـ
…
ـة يلق أطراف الشرور
أبنيّ يضرب وجهه
…
ويلح بخديه السعير
أبنيّ قد جربتها
…
فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما
…
بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها
…
والعصم تأمن في ثبير
وتواصيهم بالنهي عن الظلم يغرينا بتعرف فلسفة القوم التي كانت تحثهم على
مثل هذا.
***
الفصل الثالث
(ديانة أهل مكة عند البعثة)
ويظهر لنا أنهم طرقوا كسائر الأمم باب الضَّالَّة المنشودة ، وهي معرفة ما هي
نفوسنا ومن أين مبدأها ، وإلى أين منتهاها ، وماذا يزكيها ، وماذا يدسِّيها.
نعم طرقوا هذا الباب ، ولكن يفتح لهم عن الطريق الموصل إلى هذه الحقائق
المكنونة ، بل كان نصيبهم كنصيب الأكثرين ظنونًا ورَجْمًا بالغيب.
أدرك القوم أن للعالم خالقًا ومدبّرًا، هو الذي خلق السموات والأرض وما
فيهن، وهو الذي خلق السمع والأبصار والأفئدة، وقالوا كما يقول سواهم: إنه
تستحب الرغبة إليه ، والرهبة منه ، ولكن في هذا السبيل تاهوا ، فتركوا ههنا
العقل والتفكر ، وقلدوا الأمم ، واتخذوا من الحجارة أوثانًا ، وقالوا: إن تعظيم هذه
الأوثان يقرب إلى الله؛ لأن هذه الأوثان تماثيل ، أو كتماثيل لأناس صالحين محبوبين
عند الله ، فتعظيمهم لي درجة العبادة يقرب إلى الله.
لقد غلطوا في ظنهم أن الله يحب هذه الحجارة. وأخطئوا بزعمهم أن تنزيل
العقول إلى تعظيم هذا الجماد (بهذه الصورة) تعظيمًا قلبيًّا يرضي الله تعالى.
وحادوا عن الحق بتخيلهم أن هؤلاء يشفعون لهم عند الله تعالى.
وقد كان الواجب أن لا يكون في قلوبهم حب وعبودة إلا للحي القيوم ، ولم
يكن جائزًا أن يشركوا به الجمادَ.
وكان لهم أغلاط أخرى كثيرة في ذات الله سبحانه وصفاته وأفعاله ، فقد زعم
بعضهم أن الملائكة بناته، وزعم بعضهم أن الجن شركاؤه في الملك ، وظنوا
جميعهم أن لن يبعث الله بشرًا ليعلمهم ويزكيهم.
غلطوا في كل هذا ، وتسفلت فيه عقولهم ، ولكن اعتقادهم بأن للعالم صانعًا
مدبرًا عظيمًا هو رب الكل ، وأنه يجب أن يتقرب إليه العبيد قد رقق - على ما
فيه من النقص ، والبعد عن الطريق القويم - قلوب كثير منهم ، وكأنه أعدها لقبول
حق سيظهر نوره فيمحق خطيئاتهم الاعتقادية.
والمشهور أن القوم لم يكونوا يقولون بالمعاد والجزاء الأخروي ، ولكن الحقيقة
أنهم كانوا في ريب وشك؛ أي: لم يكونوا جازمين بشيء في هذا الباب ، وكان أناس
منهم تذهب بهم عقولهم إلى وجوب المعاد والجزاء الأخروي ، ولكن عدم اعتقادهم
بالجزاء الأخروي لم يكن مانعًا من أن تكون قلوبهم منجذبة إلى الأخلاق ، والأعمال
الطيبة التي تحثّ على مثلها الديانات من البر ، والإحسان ، والعدل ، والصدق ،
والكرم ، وحماية الضعيف ، وترك العدوان ، والابتعاد عن الخيانة ، والبغي ، وما
أشبه هذه المناقب، وعقولهم إنما طرأ عليها التسفل إلى تعظيم الجماد؛ لأن الوثنية
هي الغالبة في عصرهم ، ولا يبعد عن الصواب من يقول: إن الوثنية هي الغالبة
على طباع البشر كلهم إلا قليلاً.
فإذا صرفنا نظرًا عن تلوث عقولهم بنزغات الوثنية لا نجد من بعدها هذه
العقول مظلمةً ، وهي التي أضاءت لهم ، فعَرَفوا بها الأخلاقَ الصالحة والفاسدة ،
ولم يكن يعوزهم إلا أن يقوم فيهم مرشد يهديهم لِلَّتِي هي أقوم من طرائق الاعتقاد
بالله ، وصفاته ، والتقريب إليه بتوجيه الوجه ، وإسلام القلب ، ولولا أن للقوم
عقولاً صافية لَمَا رجي لمجيء المرشد من فائدة؛ لأنه لا يظهر نور الإرشاد إلا في
اللوح النقي ، ولكن الرجاء بالقوم في محله ، فإنه لما جاء المرشد لقي أراضي في
منتهى الاستعداد لما أراد أن يلقي البذار ، وإلى جانبها أراض أخرى فيها من
أعشاب التمسك بالقديم ما يحتاج إلى زمن في معالجة إزالته ، وقليل من الأراضي
كانت سَبْخَة ليس في الإمكان أن ينتج فيها البذار.
لا يهولنك من القوم سُقْم عقولهم فيما كانوا يعتقدون ، فإن البشر كلهم - إلا قليلاً
- كانوا - ولا يزالون - يعتقدون أمثال معتقدات القوم؛ فواأسفاه! إن هذا العيب عام
وراسخ في البشر ، ومن أصعب الأشياء استئصال جذوره ، ولا ندري السر في هذا،
ولكن انظر إلى هذه الجماعة القليلة كيف أقامت لها شأنًا رفيعًا في العرب كلهم؛ إذ
غلبتهم على التوطن في جوار البيت المشرّف ، وأحسنت المقام في هذا الجوار
الشريف؛ فقامت بحقوق حجاجه من سِقَايتهم ورِفَادتهم، وقامت بحقوق المستضعفين
فيه من حمايتهم وتأمينهم، وقامت بسنن التضامن والتعاون والتواصي بالعدل
والإحسان حتى رضي العرب بتقديمهم عليهم إذا تقدموا وإياهم لأمر عظيم وشرف
جسيم ، على أنهم ليسوا في العرب أكثر عددًا، ولا أقوى ناصرًا.
لا جَرَمَ قد خصهم الله بأفراد كانوا في نقاء القلوب آيةً، وبلغوا في صفاء العقول الغايةَ، والأمم والشعوب تحيى بأفراد وتموت بأفراد.
وإذا سخر الإله سعيدًا
…
لأناس فإنهم سعداء
ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد حُرّيّتهم التي كانوا عليها؛ فإنهم لما
خلصوا من تمليك أحد عليهم خلصوا من شرور كثيرة تتبع التمليك ، فكانت
معاشراتهم ساذجةً خاليةً من عِبارات المَلَق والخُنُوع ، وكانت مكاسبهم لأنفسهم لا
يشاركهم فيها مشارك ، ولا يعرفون المغارم المرتبة، والإتَاوات المضروبة.
وهم في أمْن مِن حَيْفِ القُضَاةِ؛ لأنهم يتحاكمون يوم يشاءون إلى مَن يرضونه
من كبرائهم ، ولا قانون لهم في المسائل الجزئية ترتعد من أحكامه فرائضهم ، وإنما
يخشون بأس بعضهم؛ فيرتدعون عن الشر الذي يثأر له العموم أو يثأر له من
أصابهم خاصة.
وكان جائزًا لأحدهم أن يتدين كما يريد بشرط أن لا يعيب دينهم الذي كانوا
عليه ، ولا يدعو إلى إبطاله ، وقد كان لبعضهم فلسفة في النشور والجزاء الأخروي
ولبعضهم انصراف عن عبادة الأوثان ، ولبعضهم مَيْل إلى تقليد أهل الكتاب ، فلم
يكونوا يحاسبون أحدًا على مِثْل هذا.
ولم يكن لديهم نوع من المبايعات حرامًا ، بل يبيعون ويشترون كما يشاءون ،
وكلٌّ منهم عارف بمصلحته ، ولهم همة في التجارة والرحلة فيها إلى الشام وغيرها
في الصيف والشتاء.
أما أهل الصنعة فيهم ، فلم يكن لهم من قيمة ، والغالب أن يكون الصناع
غرباء.
ولهم إزاء حسنة الحرية سيئة كبيرة ، وهي امتهان الرقيق واحتقاره وتكليفه
الشاق من الأمور ، ولم يكن بعضهم يأنف من إكراه إمائه على البِغَاء؛ ليأخذَ ما
يُعْطَيْن في سبيله.
أمّا نساؤهم الحرائر ، فلم يكن جائزًا لهن الزِّنا ، ولا سِيَّمَا إذا كان لهن بُعُولة ،
بَيْد أنه لم ينقل لنا أنهم رتبوا على الزواني عقابًا ، بل كان عقابهن إلى رأي أهليهن
إذا شاءوا.
وكان لنسائهم كثير من الحقوق ، ولهن أن يواجهن الرجال ويبرزن أمامهم
حاسرات ، ويمكن أن يُقال بالإجمال: إن حرية الرجال والنساء كانت تامة؛ ولذلك
نعجب من قوم هذا شأنهم إذا رأيناهم لم يرثوا لحال الرقيق ، ولم يذكروا أنه يستحق
الرحمة؛ لأنه مسلوب أفضل كساء كساهموه ربهم الأعلى الذي خلق فسوَّى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) من رواية خديجة أم المؤمنين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
صِلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام
مقتبس من الدروس التي كان يلقيها في الأزهر الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده رضي الله عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ
قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ
تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 119) {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120) .
قال الأستاذ الإمام: إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع
أهل الكتاب ، وكذا مع المشركين بالتبع والمناسبة ، وإن هذه الآيات وما بعدها إلى
آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين ، ومعاملة بعضهم لبعض ، وإرشادهم في
أمرهم؛ يعني أن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك.
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآيات بما قبلها ثلاث مقدمات:
(1)
أنه كان بين المؤمنين وغيرهم صِلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم ،
والإفضاء لهم بالسر ، وإطلاعهم على كل أمر ، منها المحالفة والعهد ، ومنها النسب
والمصاهرة ، ومنها الرضاعة.
(2)
أن العزة من طباع المؤمن ، فإنه يبني أمره على اليُسْر والأمانة
والصدق، ولا يبحث عن العيوب؛ ولذلك يظهر لغيره من العيوب ، وإن كان بليدًا ما
لا يظهر له هو وإن كان ذكيًّا.
(3)
أن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة، وإبطال ما جاء به الإسلام، وكان هم المؤمنين الأكبر نَشْرَ
الدعوة، وتأييد الحق. فكان الهَمّان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال: فإذا
كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شَكَّ مقتضية لأنْ يفضي النسيب من
المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين ، وكذا المحالف منهم لمحالفه من
غيرهم بشيء مما في نفسه ، وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين
والخلاف بينهم ، وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال؛ لذلك جعل الله تعالى
للصِّلاتِ بين المؤمنين وغيرهم حَدًّا لا يتعدونه؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 118) إلى آخر الآيات.
(بطانة) الرجل: وليجته وخاصته الذين يستنبطون أمْره ، ويتولون سِره.
مأخوذ من بطانة الثوب ، وهو الوجه الباطن منه كما يسمى الوجه الظاهر ظهارة.
و (من دونكم) معناه: من غيركم. و (يألونكم) من الإِلْو ، وهو: التقصير
والضعف. و (الخبال) في الأصل: الفساد الذي يلحق الحيوان ، فيُورِثه
اضطرابًا؛ كالأمراض التي تؤثر في المخ ، فيختل إدراك المصاب بها؛ أي: لا
يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم. والأصل في استعمال فعل (لا) أن يقال فيه
نحو: (لا آلو في نصحك)، وسمع مثل (لا آلوك نصحًا) على معنى: لا أمنعك
نصحًا وهو ما يسمونه: التضمين. و (عنتم) من العنت ، وهو: المشقة الشديدة ،
و (البغضاء) شدة البُغض.
أما سبب النزول؛ فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: (كان
رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهودَ ، لما كان بينهم من الجوار والحلف في
الجاهلية؛ فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم هذه الآيةَ)
وأخرج عَبْد بن حُمَيْد أنها نزلت في المنافقين.
وروى ابن جرير القولين عن ابن عباس. وذكر الرازي وجهًا ثالثًا أنها في
الكافرين والمنافقين عامَّةً؛ قال: (وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص
بالمنافقين ، فهذا لا يمنع عموم أول الآية ، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا
كان عامًّا وآخرها إذا كان خاصًّا لم يكن خصوص آخر الآية مانعًا من عموم أولها)
وسيأتي عن ابن جرير ترجيح الأول.
وأما المعنى فهو: نَهْي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين
الموصوفين بتلك الأوصاف ، على القول بأن قوله:(لا يَأْلُونَكُمْ) (آل عمران:
118) إلخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي كذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق
للتعليل فالمراد واحد وهو أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر ،
وهو أنهم لا يألون خبالاً وإفسادًا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، فهذا هو القَيْد
الأول.
والثاني قوله عز وجل:] وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [أي: تمنواعنتكم ، أي: وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة.
والثالث والرابع قوله:] قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ [أي: قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها ، ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدورهم منها أكبر مما يفيض على
ألسنتهم من الدلائل عليها.
وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في
الإصلاح ممن يدعونهم إليه ، وما كان المسلمون الأولون يعرفون سُنّة البشر في
ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل ، وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى
أَعْلَمَهُم الله بذلك؛ ولذلك قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل
عمران: 118) يعني بالآيات هنا: العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ،
ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته؛ أي: إن كنتم تدركون حقائق
هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها، ولا تتخذوا أولئك
بطانة.
وأنت تَرَى أنَّ هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة لو
فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب لما جاز لك أن
تتخذه بطانةً لك إن كنت تعقل؛ فما أعدلَ هذا القرآنَ الحكيمَ! وما أعلى هديَهُ!
وأسمى إرشادَهُ!
لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود ، فظنوا أن النهي عن
المخالف في الدين مطلقًا ، ولو جاء هذا النهي مطلقًا لَمَا كان أمْرًا غريبًا ، ونحن
نعلم أن الكافرين كانوا إلبًا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام؛ إذ نزلت هذه الآيات
لا سِيَّمَا اليهود الذين نزلتْ فيهم على رأي المحققين.
ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود؛ لأن الله تعالى - وهو منزلها - يعلم ما
يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة ، كما وقع من هؤلاء اليهود ،
فإنهم بعد أن كانوا أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا
فصاروا عونًا للمسلمين في بعض فتوحاتهم (كفتح الأندلس) وكذلك كان القبط
عونًا للمسلمين على الروم في مصر، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على
هؤلاء واحدًا في كل زمان ومكان أبد الأبيد؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية، ولا تروي
غلته الرواية، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلنا.
قال ابن جرير يردّ على قتادة القائل بأن الآية في المنافقين ، ويؤيد رأيه
الموافق لِمَا اخترناه ما نصه: (إن الله - تعالى ذِكْرُهُ - إنما نهى المؤمنين أن
يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء ، إما بأدلة ظاهرة دالة
على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة
لهم ، فأما من لم يتأسوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته
فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم ، إما بأعيانهم
وأسمائهم ، وإما بصفات قد عرفوهم بها) .
وإذا كان ذلك كذلك ، وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء
المؤمنين إلى إخوانهم الكفار (أي: كما قال قتادة) غير مدرك به المؤمنون معرفة ما
هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم ، كان بينا أن الذين نهى
الله عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم
على ما وصفهم الله عز وجل به ، فعَرَفَهم المؤمنون بالصِّفة التي نعتهم الله بها ،
وأنهم هم الذين وصفهم الله - تعالى ذكره - بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون
ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب؛
لأنهم لو كانوا المنافقين لَكَان الأمْر منهم على ما بيَّنا ، ولو كانوا الكفار ممن
ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانةً من دون المؤمنين
مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من
أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل. اهـ
فهذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه كبني النضير الذين
حاولوا قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة ،
ويمنع أن يكون مرادًا به جميع الكافرين أو المنافقين.
فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربًا للمسلمين ،
فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها يعد منتهى
التساهل والتسامح مع المخالفين؟ إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم
وبغضاؤهم للمسلمين، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق
ذلك.
لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء ، ومشاركتهم في
كل عمل لكان وجه العدل فيها أزهر، وطريق العذر فيها أظهر؛ فكيف وهي
قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شئون الدفاع
عن الملة ، وصون حقوقها ، ومقاومة أعدائها؟
ما أَشْبَهَ هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارًا وأولياءً؛ إذ قيد
بقوله عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ،
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 9) ، وقد
شرحنا هذا البحث في تفسير قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن
دُونِ المُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 28)[1] .
هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد عمر بن الخطاب إلى جعل
رجال دواوينه من الروم ، وجرى الخليفتان الآخران ، وملوك بني أمية مِن بعدِهِ
على ذلك إلى أن نقل الدواوين عبد الملك بن مروان من الرومية إلى العربية. وبهذه
السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في إناطة أعمال
الدولة باليهود والنصارى والصابئين ، ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها
ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى. ومع هذا كله يقول متعصبو أروبا: إن
الإسلام لا تساهل فيه! ! (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ) ألا إن التساهل قد خرج عند
المسلمين عن حده حتى كتب الأستاذ الإمام في ذلك مقالةً في العروة الوثقى صَدَّرَهَا
بالآية التي نفسرها نوردها هنا برمتها؛ لأنها تدخل في باب تفسير الآية والاعتبار
بها على أكمل وجه، وهذا نصها (نقلاً من الجزء الثاني من تاريخه) :
قالوا: تصان البلاد ، ويحرس الملك بالبروج المشيدة ، والقلاع المَنِيعة ،
والجيوش العاملة ، والأهُب الوافرة ، والأسلحة الجيدة. قلنا: نعم ، هي أحراز
وآلات لا بُدَّ منها؛ للعمل فيما يقي البلاد ، ولكنها لا تعمل بنفسها ، ولا تحرس
بذاتها فلا صيانةَ بها، ولا حراسةَ إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة وأولو رأي
وحكمة يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم ، ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب ،
وليس بِكَافٍ حتى يكونَ رجال من ذوي التدبير والحزم ، وأصحاب الحذق والدراية
يقومون على سائر شئون المملكة ، يوطئون طرق الأمن ، ويبسطون بساط الراحة ،
ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل ، ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة ، ثم
يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية؛ ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها
بينها بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تمكن لها. ولن
يكونوا أهلاً للقيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد ،
طافحة بالمرحمة والشفقة على سُكّانها ، وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم ،
آخذة بطباعهم ، يجدون في أنفسهم مُنَبِّهًا على ما يجب عليهم ، وزاجرًا عما لا يليق
بهم ، وغضاضة وأَلَمًا مُوجِعًا عندما يمس مصلحة المملكة ضرر ، ويوجس عليها
من خطر؛ لِيتيسر لهم بهذا الإحساس ، وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم كما
ينبغي ، ويصونوها من الخلل الذي ربما يفضي قليلُهُ إلى فساد كبير في الملك،
فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية ، والقوة الغالبة.
يسهل على أي حاكم في أي قبيل أن يكتب الكتائب ، ويجمع الجنود ، ويوفر
العدد من كل نوع بنقد النقود ، وبذل النفقات ، ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك
الذين أشرنا إليهم: عقلاء ، رحماء ، أباة ، أصفياء تهمهم حاجات الملك كما تهمهم
ضرورات حياتهم.
لا بُدَّ أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة ، ويراعى ناموس الطبيعة؛
فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ ، وتكشف له خفيات الدقائق ، ، وَقَلَّمَا
يخطئ في رأية أو يتأوَّد في عمله مَنْ أَخَذَ به دليلاً ، وجعلَ له من هديه مرشدًا ، وإذا
نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية ، وطلب
أسبابها لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة والانحراف عن سنة الله في
خلقه.
من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنُّعرَة على
الملك والرعية ، إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها.
هذه فطرة فطر اللهُ الناسَ عليها.
إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس والمشرب يراعي نسبته إليها ، ونسبتها
إليه ، ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به ، فيدافع الضيم عن الداخلين معه
في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه (راجع رأيك فيما تشهده كثيرًا حتى بين
العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر ، أو دينه بسوء على وجه عام؛ كسوري
ينتقد المصريين ، أو مصري ينتقد السوريين) هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن
ما تناله أمة من الفوائد يلحقه حظّ منها ، وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه
خصوصًا إن كان بيده هامات أمورها ، وفي قبضته زمام التصرف فيها فإن حظه
(حينئذ) من المنفعة أوفر ، ومصيبته بالمضرة أعظم ، وسهمه من العار الذي يلحق
الأمة أكبر؛ فيكون اهتمامه بشئون الأمة التي هو منها ، وحرصه على سلامتها
بمقدار ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة.
فعلى ولي الأمر في مملكة أن لا يَكِلَ شَيْئًا مِن عملِهِ إلا إلى أحد رجلين إما
رجل يتصل به في جنسية سالمة من الضعف والتمزيق ، موقرة في نفوس
المنتظمين فيها ، محترمة في قلوبهم ، يحملهم توقيرها واحترامها على التغالي في
وقايتها من كل شَيْن يدنو منها ، ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان.
وإما رجل يجتمع معه في دِين قامت جامعته مقام الجنسية ، بل فاقت منزلته من
القلوب منزلتها ، كالدين الإسلامي الذي حل عند المسلمين وإن اختلفت شعوبهم مَحَلّ
كل رابطة نسبية ، فإن كلاً من الجامعتين (الجنسية على النحو السابق ، والدينية)
مبدآن للحمية على الملك ، ومنشآن للغيرة عليه.
أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنس ، ولا في دين تقوم
رابطته مقام الجنس ، فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت لا يهمه إلا استيفاء
أجرته ، ثم لا يبالي أَسَلِمَ البيت، أو جرَفَه السيل، أو دكَّته الزلازل. هذا إذا صدقوا
في أعمالهم يؤدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر واقفين فيها عند الرسم الظاهر ،
فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذي هو خادم فيها ، ولا يمسه شيء مما يمسها
من الضّعَة؛ لأنه منفصل عنها إذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منبته الذي ينتسب
إليه ، بل هو في حال عمله وخدمته لغير جنسه ، لاصق بمنبته في جميع شئونه ما
عدا الأجر الذي يأخذه ، وهذا معلوم ببداهة العقل ، فلا يجد في طبيعته ، ولا في
خواطر قلبه ما يبعثه على الحذر الشديد مما يفسد الملك ، أو الحرص الزائد على ما
يعلي شأنه ، بل لا يجد باعثًا على الفكر فيما يقوم مصلحته من أي وجه.
هذه حالهم هي لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبراءتهم من أغراض
أُخَرَ ، فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارًا من الفقر والفاقة ،
وضربوا في أرض غيرهم طلبًا للعيش من أي طريق ، وسواء عليهم في تحصيله
صدقوا أو كذبوا ، وسواء وفوا أو قصروا ، وسواء راعوا الذمة أو خانوا أو لو كانوا
مع هذا كله يخدمون مقاصد لأممهم يمهدون لها طرق الولاية والسيادة على
الأقطار التي يتولون الوظائف فيها (كما هو حال الأجانب في الممالك الإسلامية؛ لا
يجدون في أنفسهم حاملاً على الصدق والأمانة ، ولكن يجدون منها الباعث على
الغش والخيانة) ومن تتبع التواريخ التي تمثل لنا أحوال الأمم الماضية ، وتحكي لنا
عن سُنَّة الله في خليقته ، وتصريفه لشئون عباده رأى أن الدول في نموها وبسطتها ما
كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها ، كما تعرف لهم حقهم، وما كان شيء
من أعمالها بيد أجنبي عنها ، وإن تلك الدول ما انخفض مكانها ، ولا سقطت في هُوَّة
الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف
السامية في أعمالها، فإن ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار خصوصًا إذا
كان بين الغرباء وبين الدولة التي يتناولون أعمالها منافسات وأحقاد مزجت بها
دماؤهم ، وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة.
نَعَم ، كما يحصل الفساد في بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية بسبب العوارض
الخارجية ، كذلك يحصل الضعف والفتور في حمية أبناء الدين أو الأمة ، ويطرأ
النقص على شفقتهم ومرحمتهم؛ فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا
كان ولي الأمر لا يقدر أعمالهم حقَّ قدرها ، وفي هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة
على فرائضهم العامة ، فيقع الخلل في نظام الأمة ، ويضرب فيها الفساد ، ولكن ما
يكون من ضره أخف وأقرب إلى التلافي من الضرر الذي يكون سببه استلام
الأجانب لهامات الأمور في البلاد؛ لأن صاحب اللُّحْمَة في الأُمّة وإن مرضت
أخلاقُه ، واعتلت صفاتُه إلا أن ما أودعته الفطرة وثبت في الجُِبْلَة لا يمكن محوه
بالكلية ، فإذا أساء في عمله مَرَّةً أزعجه من نفسه صائح الوشيجة الدينية أو الجنسية ،
فيرجع إلى الإحسان مَرَّةً أخرى ، وإن ما شد بالقلب من علائق الدين أو الجنس لا
يزال يجذبه آونةً بعد آونةٍ؛ لمراعاتها والالتفات إليها ، ويميله إلى المتصلين معه
بتلك العلائق وإن بعدوا.
لهذا؛ يحق لنا أن نأسف غايةَ الأسف على أُمَراء الشرق ، وأخص مِن بينهم
أمْر المسلمين حيث سلموا أمورهم ، ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية
للأجانب عنهم ، بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولّوهم خدمتهم الخاصة
بهم في بطون بيوتهم ، بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكتهم في ممالكهم بعدما رَأَوْا
كثرة المطامع فيها لهذا الزمان ، وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال
بعيدة بعدما علمتهم التجارب أنهم إذا ائتمنوا خانوا، وإذا عززوا أهانوا يقابلون
الإحسان بالإساءة، والتوقير بالتحقير، والنعمة بالغفران، ويجازون على اللقمة
باللطمة، والركون إليهم بالجفوة، والصلة بالقطيعة، والثقة فيهم بالخدعة.
(أَمَا آنَ لأمراء الشرق أن يدينوا لأحكام الله التي لا تنقض؟ ألم يأن لهم أن
يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم؟ ألم يأْتِ وقْتٌ يعملون فيه بما أرشدتهم الحوادث ،
ودلتهم عليه الرزايا والمصائب؟ ألم يحن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم
وأيدي أعدائهم، ألا أيها الأُمَرَاءُ العظامُ ، ما لكم وللأجانب عنكم؟ {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) قد علمتم شأنهم، ولم تَبْقَ رِيبَة في
أمْرهم، {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (آل عمران:
120) سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم ، وأقبلوا عليهم ببعض ما
تقبلون على غيرهم تجدوا فيهم خيرَ عون وأفضلَ نَصِير، اتبعوا سُنَّة الله فيما
ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين، وراعوا حكمته البالغة فيما أَمَرَكم ،
وما نهاكم كَيْلَا تضلوا ويهوي بكم الخَطَل إلى أسفل سافلين. ألم تروا ، ألم تعلموا ، ألم
تحسبوا ، ألم تجربوا؟ ؟ إلى متى إلى متى ، إنا لله وإنا إليه راجعون) . اهـ
هذا بيان يريك بالحجج الاجتماعية الناهضة أن الغريب عن المِلّة لا يُتخذ
بطانة للقائمين بأمْر الملة، والغريب عن الدولة لا يتخذ بطانة لرجال الدولة، وإن لم
يكن هؤلاء الغرباء مُتَّصِفِينَ بما ذكر في الآية من العدوان والبغضاء؛ فكيف إذا
كانوا كذلك.
بَيَّنَتْ لنا الآيةُ التي فَسَّرْناها بعض حال أولئك الذين نُهِيَ المؤمنون عن اتخاذ
البطانة منهم مع المؤمنين ، فدونك هذه الآية التي تبين حال المؤمنين معهم: {هَا
أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) فالقرآن ينطق بأفصح
عبارة وأصرحها ، واصفًا المسلمين بهذا الوصف الذي هو من أثر الإسلام ، وهو
أنهم يحبون أشد الناس عداوةً لهم ، الذين لا يقصرون في إفساد أمْرهم ، وتمني
عنتهم على أن بغضاءهم لهم ظاهرة ، وما خفي منها أكبر مما ظهر.
أولئك المبغضون هم الذين قال الله فيهم أو في طائفة منهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ} (المائدة: 82) إلخ ، يعني: أولئك اليهود
المجاورين لهم في الحجاز. أليس حب المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين ،
وإقرار القرآن إياهم على ذلك - لأنه من آثار الإسلام في نفوسهم - هو أقوى
الْبَرَاهِينِ على أن هذا الدِّين دين حب ورحمة وتساهل وتسامح ، لا يمكن أن يصوب
العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك؟ بلى ، ولكن وجد في الناس من ينكر عليه
ذلك ، ويصفه بضده زورًا وبهتانًا، بل تعصّبًا خرّوا عليه صمًّا وعميانًا.
من هم الذين يرمون الإسلام بأنه دين بغض وعدوان؟ لا أقول إنهم النصارى
الذين كانوا أجدرَ بحبنا وودنا من اليهود لقوله تعالى في تتمة الآية التي استشهدنا بها
آنفًا: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: 82)
بل هم قُسوس أوروبا المتعصبون على الإسلام مِن حيث هو دِين، وساستها
المتعصبون على الإسلام من حيث هو شرع ونظام قامت به دول وممالك.
فأوربا التي تتهم الإسلام - والشرق الأدنى كله لأجل الإسلام - بالتعصب
والبغضاء للمخالف هي التي أبادت من بلادها كل مخالف لدينها إلا الترك ، فإنها لم
تقو على إبادتهم حتى الآن ، ولولا ما بين دولها من التنازع السياسي لقضت عليهم.
فنصارى الشرق ومسلموه وكذا وثنيوه إنما اغترفوا غرفة من بحر تعصب أوروبا ،
ولكنهم لا قوةَ لهم على الدفاع عن أنفسهم أمامَ أولئك المعتدين.
أما قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119) ، فمعناه
أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من كتاب سواء منه ما أنزل عليكم ، وما نزل عليهم ،
فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الإلهية ، أو النبيين الذين جاءوا بها ما
يحملكم على بُغض أهل الكتاب ، فأنتم تحبونهم بمقتضى إيمانكم هذا. وذكر بعضهم
أن جملة {وَتُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 119) حالية من قوله: {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) والمعنى أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم ،
فكيف لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحق ببغضهم ،
أي: ومع ذلك تحبونهم ولا يحبونكم.
قال ابن جرير: في هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين أعني
المؤمنين والكافرين ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب
أولئك، وغلطتهم على أهل الإيمان، كما حدثنا بِشْر قال: حدثنا يزيد قال:
حدثنا سعيد. عن قتادة: قوله: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119) ، فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه
ويرحمه ، ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المنافق منه لأباد خضراءه.
(حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج. عن ابن جرير قال:
(المؤمن خير للمنافق من المنافق؛ يرحمه ، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مِثْلِ ما
يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه) . ا. هـ
فهؤلاء أئمة التفسير من سلف الأمة يقولون: إن المسلم خير للكافر وللمنافق
منهما له حُبًّا ورحمةً ومعاملةً. وكذلك قالوا في السني مع المبتدع ، كما بين ذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية؛ قالوا: إن من علامة أهل السنة أن يرحموا المخالف لهم
ولا يقطعوا أُخُوَّتَهُ في الدِّين؛ ولذلك يذكرون في كتب العقائد: (لا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِن
أهل القِبْلَة) بل كان رُوَاة الحديث مِن أئمة أهل السنة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم
وأصحاب السنن يروون عن الشيعة والمعتزلة ، لا يلتفتون إلى مذهب الراوي ،
بل إلى عدالته في نفسه.
ونتيجة هذا كله أن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البَشَر
على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح ، وقربه من الحق والصواب فيه. وكيف لا
يكون كذلك والله يقول لخيار المؤمنين: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) ؛ فبهذا نحتجُّ على من يزعم أن ديننا يغرينا ببعض المخالف
لنا ، كما نحتج على بعض الجاهلين منا بدينهم الذين يطعنون ببعض علمائهم
وفضلائهم، لمخالفتهم إياهم في مذاهبهم وآرائهم، أو في ظنونهم وأهوائهم،
والذين سرت إليهم عدوى المتعصبين، فاستحلوا هَضْمَ حقوق المخالفين لهم في
الدِّين.
ثم قال تعالى شَأْنُهُ مُبَيِّنًا لشأن طائفةٍ منهم ، أسندها إليهم في الجملة على قاعدة
تكافل الأمة ، وكونها كشخص واحد {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} (آل عمران: 119) كان بعض اليهود يظهرون الإيمان للنبي
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نفاقًا وخداعًا ، ومنهم من كان يظهره، ثم يرجع عنه
ليشكك المسلمين كما تقدم في آية (72) من هذه السورة [2] وإذا خلا بعضهم إلى
بعض أظهروا ما في نفوسهم من الغيظ والحقد الذي لا يستطيعون معه إلى التشفي
سبيلاً. وعَضّ الأنامل كِنايَة عن شدة الغيظ ، ويكنى به أيضًا عن الندم {قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ} (آل عمران: 119) فإن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد
باعتصام أهله به إلا عزةً وقوةً وانتشارًا ، وقال ابن جرير: (موتوا بغيظكم الذي
على المؤمنين؛ لاجتماع كلمتهم ، وائتلاف جماعتهم) ، فَلْيَعْتَبِرِ المسلمون اليومَ بهذا
لَعَلَّهم يتذكرون أنه ما حَلَّ بهم ما حَلّ من الأرزاء إلا بزوال هذا الاجتماع
والائتلاف ، وبالتفرق بعد الاعتصام {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران:
119) ، فهو يعلم ما تضم صدوركم من شعور الغيظ والبغضاء ، وموجدة الحقد
والحسد، فكيف يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم وما يبديه بعضكم لبعض من ذلك،
ويعلم كذلك ما تنطوي عليه صدورنا معشرَ المؤمنين من حب الخير والنصح لكم.
ثم قال مُبَيِّنًا حسدهم وسوء طويتهم {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (آل عمران: 120) ، المس في الأصل كاللمس ، والمراد
بتمسسكم هنا: تصبكم ، ولعل اختيار لفظ لمس في جانب الحسنة والإصابة في جانب
السيئة للإشعار بأن أولئك الكافرين يسؤوهم ما يصيب المسلمين من خير ، وإن قَلّ
بأن كان لا يزيد على ما يمس باليد ، وإنما يفرحون بالسيئة إذا أصابت المسلمين
إصابةً يشق احتمالها.
هذا ما كان يتبادر إلى فهمي ، ولكن رأيت صاحب الكشاف يجعلهما هنا بمعنى
واحد ، ويستدل باستعمال القرآن لكل منها في موضع الآخر ، ويقول: إن المس
مستعار للإصابة. ثم خطر لي أن أراجع تفسير أبي السعود ، فإذا هو يقول: (وذكر
المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة
الحسنة ، ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة. وإما لأن اليأس مستعار لمعنى الإصابة)
والأول هو الأوجه ، وهو من دقائق البلاغة العليا.
والحسنة المنفعة، سواء كانت حسيةً أو معنويةً ، وأعظمها انتشار الإسلام ،
ودخول الناس فيه ، وانتصار المسلمين على المعتدين عليهم المقاومين لدعوتهم. قال
قتادة في بيان ذلك - كما رواه عنه ابن جرير -: (فإذا رأوا من أهل الإسلام أُلْفَةً
وحمايةً وظهورًا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل إسلام فُرْقَةً
واختلافًا، وأصيب طرف من أطراف المسلمين سَرَّهم ذلك، وأعجبوا به، وابتهجوا
به؛ فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته، وأبطل حجته
وأظهر عورته، فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم ، وفيمن بقى إلى يوم القيامة) .
ثم أرشد الله المسلمين إلى ما إِنْ تَمَسَّكُوا به سَلِمُوا من كَيْدِهِم الذي يدفعهم إليه
الحسد والبغضاء؛ فقال: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} (آل
عمران: 120) ذهب بعضهم إلى أن المراد: وإنْ تصبروا على عدوانهم وتتقوا
اتخاذهم بطانة، وموالاتهم من دون المؤمنين لا يضركم كَيْدُهُمْ لكم وهم بمعزل عنكم.
وذهب آخرون إلى أنّ المراد: وإنْ تصبروا على مشاق التكاليف ، وامتثال الأوامر
عامَّة ، وتتقوا ما نُهِيتُم عنه وحظر عليكم - ومنه اتخاذ البطانة منهم - لا يضركم
كيدُهم.
و {يَضُرُّكُمْ} (آل عمران: 120) بتشديد الراء من الضَّرَرِ ، وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب] يَضِرْكُمْ [بكسر الضاد وسكون الراء المخففة ، مِن ضَارَه يَضِيرُهُ ، والضَّيْرُ بمعنى المَضَرَّة.
وقال الأستاذ الإمام: إن الصبر يذكر في القرآن في مقام ما يشق على النفس،
وحبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ومعامله وقريبه مما يشق عليه؛ فإن من لذات
النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تَسْكُن إليه ، وتأنس به ، فلما نُهُوا عن اتخاذ
بطانة ممن دونهم من خلطائهم وعشائرهم وحلفائهم، وعلل بما علل به من بيان
بغضائهم وكيدهم حسن أن يذكروا بالصبر على التكليف الشاقّ عليهم ، وباتقاء ما
يجب اتقاؤه لأجل السلامة من عاقبة كيدهم. ويصح أن يُراد بالتقوى الأخذ
بوصاياه وامتثال أمْره تعالى في البطانة وغيرها.
أقول: ومن الاعتبار في الآية أنه تعالى أَمَرَ المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك
المبغضين الكائدين ، وباتقاء شرهم ، ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله ،
وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة بالحسنة إنْ
أَمْكَنَ كما قال: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) ، فإن لم يكن تحويل العدو إلى
محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها ، فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا
اعتداء ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة بني النضير الذين نزلت
الآية فيهم أوّلاً بالذات ، فإنه حالفهم ووادهم ، فنكثوا وخانوا غير مَرَّة؛ أعانوا قريشًا
يومَ بدر ، وادعوا أنهم نسوا العهد ، ثم أعانوا الأحزاب الذين تحزّبوا لإبادة
المسلمين ، ثم حاولوا قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فتعذرت موادتهم واستمالتهم
بالمحبة وحسن المعاملة ، فكان اللجأ إلى قتالهم وإجلائهم ضَرْبةَ لَازِبٍ.
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120) قال الأستاذ
الإمام ما مثاله: المحيط بالعمل هو الواقف على دقائقه ، فهو إذا دلّ على طريق
النجاة لعامل من كيد الكائدين والوسيلة للخلاص من ضررهم قائمًا يدل على الطريق
الموصل للنجاة حتمًا، والوسيلة المؤدية إلى النجاح قطعًا، فالكلام كالتعليل لكون
الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
وهناك وجه آخرُ وهو أن الخطاب بـ (تعلمون) عام للمؤمنين والكافرين
جميعاً - يعني على قراءة الحسن وأبي حاتم (تعملون) بالمثناة الفوقية أو على
الالتفات - ومن كان عالمًا بعمل فريقين متحادين ، محيطًا بأسباب ما يصدر عن كل
منهما ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما
للآخر ، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه في حاضرها وآتيها ما يعرفه ذلك
المحيط بعمله وعمل من يناهضه ويناصبه ، فهداية الله تعالى للمؤمنين خير ما
يبلغون به المآرب، وينتهون به إلى أحسن العواقب.
وأقول: إن الإحاطة إحاطتان إحاطة علم ، وإحاطة قدرة ومنع. وهذا التفسير
مبني على أن الإحاطة هنا إحاطة علم؛ لتعلقها بالعمل ، وذلك من المجاز الذي
ورد في التنزيل كقوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق: 12)، وقوله:
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} (يونس: 39) ، وأما الإحاطةُ بالشخص أو
بالشيء قدرة ، فهي تأتي بمعنى منعه مما يُرَادُ به ، وهذا ليس بمراد هنا ، وبمعنى
منعه مما يريده ، وبمعنى التمكن منه ، ومنه الإحاطة بالعدو؛ أي: أخذه من جميع
جوانبه بالفعل ، أو التمكن من ذلك؛ ومنه قوله تعالى:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (البقرة: 81) وقوله: {إنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (هود: 92) وقوله:
{وَظَنُّوُا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (يونس: 22) كل هذا من بابٍ واحدٍ وإنْ فسر كل قول
بما يليق به. فيصح أن يكون منه ما نحن فيه، والمعنى حينئذ أن الله قد دلكم يا معشرَ
المؤمنين على ما ينجيكم من كيد عدوكم؛ فعليكم بعد الامتثال أن تعلموا أنه
محيط بأعمالهم إحاطةَ قدرة تمنعهم مما يريدون منكم معونة منه لكم كقوله:
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} (الفتح: 21) فعليكم بعد القيام بما
يجب عليكم أن تثقوا به ، وتتوكلوا عليه.
ومن مباحث اللفظ في الآيات قولُهُ: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ} (آل عمران: 119)
أصله: أنتم هؤلاء؛ فَقُدِّمَتْ أداةُ التنبيهِ التي تَلْحَق اسم الإشارة (أولاء) على
الضمير. ويُقال في المفرد (ها أنا ذَا) وعلى ذلك فَقِسْ. وإعرابه: ها: للتنبيه ،
وأنتم: مبتدأ ، وأولاء: خبره ، وتحبونهم: في موضع النصب على الحال ، أو
خبر بعد خبر. وَجَوَّزَ بَعْضُهم أن تكون أولاء اسمَ موصول ، وتحبونهم: صِلَتَهُ.
_________
(1)
راجع ص276 وما بعدها من الجزء الثالث من التفسير.
(2)
راجع ص333 من الجزء الثالث من التفسير.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اليمن
سبب فتنتها وإمام الزيدية فيها
إن العرب في اليمن وحضرموت ونَجْد وسائر جزيرة العرب يحبون الدولة
العثمانية محبةً صادقةً وزادهم حبًّا فيها ، وحرصًا على بقائها في هذا الزمن
اعتقادهم أن دول أوربا تتربص بها الدوائر، وتحاول إزالة سلطتها لإزالة سلطة
الإسلام من الوجود وهم على بقاء مميزاتهم الجنسية والوطنية على نحو ما كانوا في
القرون الماضية والأجيال الغابرة - لم يطرأ عليهم من التغير ما طرأ على أهل
الآستانة ومصر والشام والأناطول ، وغيرها من الأقطار الإسلامية: لا تزال
الرابطة الدينية عندهم فوقَ رابطة الجنس واللغة والوطن ، لم تعلمهم المدنية
الأوربية التعصب للجنس كما علمت الأتراك ولا للبقعة كما علمت المصريين ، فهم
يتمنون لو يجدون من الترك حكامًا يقيمون العدل ، ويحكمون بالشرع، لا يجدون في
صدورهم حرجًا من ذلك.
ولكن الذي لا يطيقون احتماله ولا يصبرون عليه هو الظلم والجور والخيانة
والغدر؛ لأنهم ورثوا الاستقلال الشخصي والقومي وعزة النفس ، وإباء الضيم منذ
آلاف من السنين.
وقد بينت في المنار من قبلُ أنَّ فئةً قليلةً من العمال (الحكام) المسلمين
العدول العارفين بالشرع المهتدين به يكفون الدولة في اليمن أمْر هذه الحروب التي
طالت عليها السنون ، فخربت البلاد ، وأضاعت على الدولة من الأموال والرجال ما
هي في أشد الحاجة إليه لصيانة استقلالها من عبث أوربا التي تواثبها المرّة بعد
المرّة، وأضرت بها أنواعًا أخرى من المضرات لا حاجة إلى شرحها الآن.
الزيدية: طائفة من عرب اليمن ، تدين بوجوب إقامة إمام لها من العترة
النبوية، فهم بذلك أجدر العرب بعدم الخضوع للدولة العثمانية ، ولكنهم مع ذلك يتمنون
لو تقيم الدولة في بلادهم العدل ، وتحكم بالشرع ويكون لها منهم ما يريدون فما
بالك بغيرهم؟
حاولت الدولة غير مرّة أن تقيم الحُجة الشرعية على هؤلاء بوجوب طاعة
السلطان، وتحريم الخروج والعصيان، فأرسلت من خاطب إمامهم بذلك غير مرة
فكانت حجة الإمام أنهض، وحجة السلطان أدحض؛ لأن الظلم والبغي بغير الحق
حجج عملية، لا تبطلها الحجج القولية، ولا تفيد معها شيئًا.
وقد عثرنا في هذه الأيام على نَصّ ما أجاب به إمام الزيدية عما وجهه إليه
الشيخ محمد الحريري مفتي حَمَاه المندوب الذي أرسله إليه السلطان منذ سنين ومنه
يعلم صحة رأينا في هؤلاء القوم وهذا نصه:
المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين
عصمتي بالله وما توفيقي إلا بالله
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم أَيِّدْ دِينك القويم بالعلماء العاملين، واكشف ببركتهم جهل الجاهلين،
وارفع بحميد سعيهم غفلة الغافلين، فهم بحور العلم الزاخرة، ونجوم الهدى الزاهرة،
وزينة الدنيا والدين والآخرة وأهل الفضائل المتكاثرة، منهم ذو المجد الشامخ
المنيف، والحسب الباذخ الشربف، والأدب المثمر روضه الوريف، السيد محمد
الحريري الرفاعي الحسني الحموي، ألبسه الله جلباب التقوى، وقاده إلى التمسك
بالحبل الأقوى، وأعاد على محياه السلام الأسنى، والإكرام الأهنى، وصلى الله على
محمد خاتم أنبياه، وعلى آله سفينة النجاة، وتراجمة الكتاب وقرناه، وعلى
صحابته الذين اتبعوه بعد مماته وفي محياه.
أمّا بعدُ؛ فإنا نَحْمَدُ الله الذي لا يرجى ويخشى سواه، ولا نعبد إلا إياه. وإنه
وافانا منك أيها السيد كتاب كريم، ومسطور رائق فخيم، أفاد معرفة بحقوق العترة
النبوية، والسلالة العلوية، بما ورد فيهم من الآيات القرأنية، والأحاديث الصحيحة
المروية ، (وإن دواعي المحبة اقتضت المراسلة، وبواعث المودة جذبت إلى
المكاتبة والمواصلة) ، وإن من لوازم المحبة والإيمان بذل النصيحة للإخوان،
لا سِيَّمَا ولاة الأمور، الذين ناط الله بهم صلاح الجمهور، وأفاد - أسعده الله - أنه
مستنكر لِمَا جرى بيننا وبين الولاة المرسلين من حضرة الدولة العثمانية، والسدة
الخاقانية من الحرب والاختلاف، وعدم التوافق والائتلاف، وأنه يرى الخير في
إصلاح ذات البين، ورفع الفتنة التي تؤدي إلى التهلكة والحين، وأنه ورد الحثّ عليه
في السنة والكتاب، وأنه مناط الرضا لرب الأرباب، وأن السلطان الأعظم
ممن أقام الله به الدين، وانتظمت به أحوال المسلمين، وتشرف بخدمة الحرمين
الشريفين، وأقام بجهاد الكفار، ومنابذة الأشرار، وأن رغبته في صلاح الدنيا
والدين، وقمع الفجار المعتدين، وأن القطر اليماني المحروس بالله محلّ الإيمان، كما
ورد عن سيِّد ولد عدنان، وأن سعيه في ذلك نصيحة دينية، ومحبة إيمانية.
فنقول: نَعَم الأمر كما ذكرتم ، مما وقع بيننا وبين من تعلق بالسلطة القاهرة
أعز الله بها الإسلام، وقمع بها ذوي الإلحاد الطَّغَام، ولم يكن لنا من الرياسة
الدنيوية طلب، ولا في الراحة البدنية إِرْب، ولا نعول على جمع المال ووفرة
المكسب، ولا مزيد على ما نحن فيه من الحَسَب والنَّسَب، لكنا رأينا المأمورين لم
يؤدوا حقوق الله، ولا رعوا حرمة ما حرمه الله، ولا غضبوا يومًا على معاصي الله،
ولم يعملوا بشيء من كتاب الله ولا سنة رسول الله، ولا شرعوا لهم من الدين
ما لم يأذن به الله، وارتكبوا المعاصي، ورموا إليها الناس بأطراف النواصي،
وجاهروا الله بشرب الخمور، وارتكاب الفجور، وظلموا كل ضعيف، وأهانوا كل
شريف، حتى فسدت الذرية، وارتفعت كلمة اليهودية والنصرانية، وصارت
الأكراد والمجوس تحكم البرية. {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} (التوبة:
10) . ولا تأخذهم في المسلمين رأفةٌ ولا رحمةٌ، وَلَمَّا لم نجد عن أمر الله بُدًّا،
استعنا وتوكلنا عليه ، وبذلنا في الجهاد جهدًا، امتثالًا لقول الله عز وجل:
{وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) ، وقوله عز
وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) ،
وخوفًا مما خوَّفنا الله به من نحو قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ
عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) ، ونحو قوله صلى
الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم
شراركم ، فيدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم) حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان هو الله
المنتصر لنفسه.
ولم نزل نتوخى أن السلطة القاهرة - أعز الله بها الإسلام - إذا رُفِعَتْ إليها تلك
القبائح التي لا يختلف في وقوعها اثنان، أن تأخذها حمية الدين والإيمان، على
تلافي ما فرط من الإضاعة، وتستدرك ما فات من حق عترة رسول الله الذين لا
تستحق بدون اتباعهم الشفاعة، فلم يزدادوا مع طول المدة إلا انسلاخًا من الدين،
وتوسعًا من تأمر الفجرة المعتدين.
فإن قلتَ أيها السيد: إن تلك القبائح مباحة في الإسلام، وإن فعلها مستحل من
أتباع شريعة سيد الأنام. فهات الدليل، ولا يقول بذلك إلا ضليل، وإن أنكرت أيها
السيد أن ذرية الرسول، هم الحجة في الفروع والأصول. صاح بك قوله تعالى:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32)، وقوله تعالى:
{قُلْ لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) ، ونحو قوله
صلى الله عليه وسلم: (إني تارِكٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا:
كتاب الله وعترتي أهل بيتي؛ إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا
عَلَيّ الحوض) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن عند كل بدعة تكون من بعدي
وليًّا من ذريتي) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أهل بيتي كسفينة نوح) وغير ذلك مما لا يتحمله
المقام ، فالظهور أبين للحجة، وأوضح للمحجة، لا ما خوفتنا به من القتل والنَّكال،
فإنّا أهل بيت لا تزعزعنا كواذب الآمال، ولا نعُد بذل نفوسنا في سبيل الله إلا من
أشرف الخصال، ولا نفزع إلى غير ذي الجلال، ولا ندعو سواه في البكور
والآصال.
على أن قومي تحسب الموت مغنمًا
…
وإن فرار الزحف عار ومغرم
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلَاّ فِي
غُرُورٍ} (الملك: 20) ، {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا
الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} (آل عمران: 160) ، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) ، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) ، فنحن من وعد ربنا على يقين، {وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) ، وإنك لا تجد في خطتنا المنصورة إلا قائمًا لعبادة
ربه إذا أسدل الليل جناحه، أو تاليًا كتاب الله وذاكرًا إذا أطلع الفجر صباحه،
ومساجدنا معمورة بالعلم والعمل، وقلوبنا ضالّة عن الجبن والفشل، ولا نفتخر
كغيرنا بآلات الحرب الفاخرة، ولا بالسيوف المتكاثرة، التي تحت أمْرِنا عائرة، بل
نتبرأ من الحول والقوة، ونتمسك بأذيال سيرة الإمامة والنبوة:
مغارس طابت في ربا الفضل فالتقت
…
على أنبياء الله والخلفاءِ
إذا حمل الناس اللواء علامة
…
كفاهم مثار النقع كل لواءِ
فقد أوضحنا لك أيها السيد طريقتنا، وأبلغنا إليك أفعال أعادينا {فَأَيُّ
الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ
لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 81-82) ولو يعلم السلطان الأعظم حقيقة
الحال، لَسَارع إلى إعانتنا في الحال والمآل، ورفع جميع المأمورين من الخطة
اليمانية، وأمرهم بحرب الفرقة الكفرية، ولمنعهم عن محاربة العترة النبوية، التي
هي بضعة من الذات الشريفة المحمدية، ولأوفى جدنا الأعظم أجر تبليغ الأنباء
المشار إليه بـ {قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} (الشورى: 23) الآية، ولتباعد عن
مشابهة من قال فيهم خاتم النبيين: (من قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال) ،
وعن الدعوة النبوية في قوله لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربتم ، سلم لمن سالمتم) ،
وقد أمر الله تعالى بالكون مع الصادقين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119)، وثبتهم بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) . {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) . {يَا
قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف: 31) . {وَمَن لَاّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} (الأحقاف: 32) . {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي
إِلَى النَّارِ} (غافر: 41) ، فإذا وجدت أيها السيدُ خلاصًا من أوامر الله أَفِدْنا من
كتاب الله ومن سنة رسول الله ، وَدَعْ عنك التخويف بالمخلوقين كما قد قيل:
جاء شقيق عارضًا رمحه
…
إن بني عمك فيهم رماح
وأما اجتماع الكلمة على الحق فمن أين لنا ذلك، وإلا فهو عندنا من أعظم
المسالك، حَقْنًا للدماء، ورفعًا للدهماء، ونسأل الله أن يرفع عن الأمة المحمدية
السوء والمحن، ويجعلها على اتباع الكتاب وقرنائه أهل بيت النبي المؤتمن، وأن
يعيذنا من نزغات الشيطان الرجيم، ومضلات الفتن ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان اللائق بحال أركان السلطان الأعظم أن يجعل القطعة اليمانية من جملة
الممالك التي بأيدي الكفار ، وقد أضربوا عنها صفحًا، وطَوَوْا عنها كشحًا، وما
سارعوا لغير مملكة اليمن التي بأيدي أولاد رسول الله يحكمون فيها بما أنزل الله،
ويمنعون محارم الله، فهلا جعلوا آل الرسول كالكفار الذين تركوا لهم ممالكهم؟
اللهم اشهد وكفى بك شهيدا. اهـ
(المنار)
تسمع الدولة هذه الأخبار ، وتقرأ مثل هذا الجواب ، ثم هي توالي إرسال
الجيوش إلى اليمن ، فإذا توالى انكسارهم أرسلت من الرسل السلميين من يقيم الحجة
على إمام الزيدية! ! لم تعتبر بإخفاق محمد الحريري وحسن خالد الصيادي ،
فأرسلت في العام الماضي وفدًا من علماء مكة ، فكانت حجتهم كحجة من سبقهم،
ولو سمعت كلامنا نحن الناصحين المخلصين لأرسلت واليًا عادلاً حكيمًا وعمالاً من
أهل الدين والاستقامة ، فبذلك لا بسواه تنطفئ نار الفتنة، وتخضع اليمن للدولة،
فإذا أعوز الدولة هذا العلاج، فلتعلم أن جميع بلاد العرب ستتبع اليمن في الخروج
عليها، أو الخروج من سلطتها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المؤتمر الإسلامي
سبق لنا قول في المؤتمر الإسلامي الذي اقترحه إسماعيل بك غصبرنسكي
القريمي ، ونقول الآن: إن اللجنة التي تألفت للبحث في ذلك، وسمت نفسها اللجنة
التأسيسية قد وضعت لهذا المؤتمر قانونًا طبعته وأرسلته مع دعوة عَامَّة مطبوعة
بالعربية والتركية والفارسية إلى الجرائد الإسلامية في القطر المصري وغيره من
الأقطار الإسلامية ، وإلى من عرفت من أهل الفضل والرأي من المسلمين. وقد
جعلت الباب الثاني من القانون خاصًّا ببيان موضوع المؤتمر، وفيه ثلاث (مواد)
نذكرها بنصها وهي:
(المادةُ الرابعةَ عَشْرَةَ) وظيفة المؤتمر هي البحث في الأسباب التي أوجبت
تأخّر المسلمين من الوجهة الاجتماعية ، ومما داخل الدين من البدع والنظر في إزالة
تلك الأسباب ، وفيما يؤدي إلى رقيهم.
(المادة الخامسةَ عَشَرَ) لا تُقْبَل الآراء التي تُعْرَض من الوجهة الدينية إلا إذا
كان لها سندٌ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.
(المادة السادسةَ عشْرةَ) لا يجوز التعرض في مناقشات المؤتمر وأبحاثه
للمسائل السياسية أيًّا كان نوعها. اهـ
وقد سرنا موافقة الشيخ سليم البشري رئيس اللجنة على المادة الخامسة عشرة
سرورًا عظيمًا ، وعددناها من بشائر الإصلاح، وأمارات النجاح، ذلك بأن
الإصلاح الإسلامي مع التزام المذاهب المعروفة والجمود على كتب متبعيها محال ،
ولذلك جرينا في المنار على اتباع الدليل في المسائل الدينية ، وترك التقليد ، وإقامة
الحجج على المقلدين؛ لأن المنار كالمؤتمر عامّ لجميع المسلمين.
وقد قلنا في مقالة طويلة عنوانها (بحث في المؤتمر الإسلامي) نشرناها في
الجزء التاسع من السنة الماضية ما نصه (ص680م10) :
ثم إنه ينبغي أن تكون القاعدة الأساسية الأولى للإصلاح الديني في المؤتمر
هي المحافظة على المُجْمَع عليه عند المسلمين ، لا سِيَّمَا ما كان منه معلومًا من الدين
بالضرورة ، وذلك هو القرآن المجيد ، وما استفيد منه بالنص القطعي وبعض السنن
المتبعة - ونَعْنِي بالسُّنَّة معناها اللغوي الذي كان يفهمه الصحابة ، ومنه ما هو فرض
أو واجب ككون الصلوات المفروضة خمسًا، رَكَعَات كل صلاة منها كذا يقرأ فيها
كذا ، ويركع في كل ركعة مرة ، ويسجد مرتينِ ، ومنها ما هو مندوب في اصطلاح
الفقهاء كما هو معروف.
ذلك أن المؤتمر الإسلامي عامّ لجميع المسلمين ، وفيهم السُّنِّيّ السلفي وغير
السلفي ، والشيعي ، والإباضي. ومِن السُّنِّيَّة الحَنَفِي والمالكي
…
إلخ ، ومن الشيعة
الجعفري والزيدي، فالذي يجمع بين هؤلاء ويوحد كلمتهم هو كتاب الله والسنن
العملية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي عن آله وأصحابه رضي
الله عنهم.
وبذلك يكون المؤتمر غير مقيد بالتقاليد الاجتهادية التي تثير النزاع وتفرق
الكلمة فلا يمنع أعضاءه مانع من الاعتصام بحبل الله ، ودعوة سائر المسلمين
إلى الاعتصام به.
كتبنا هذا لِتنبيهِ لجنة المؤتمر قبل الابتداء بعملها إلى الأساس الذي لا يفيد
المؤتمر بدونه شيئًا ، وكنا نخاف أن يحاول من دخل في اللجنة من علماء الأزهر
تقييد المباحث الدينية في المؤتمر بنصوص كتب المذاهب ، وكان أخوف من نخاف
في ذلك رئيس اللجنة الشيخ سليم البشري؛ لأنه كان يبلغنا عنه أنه ممن ينكرون
على المنار الإنحاء على التقليد والاعتماد في مباحثه على الأدلة الشرعية ، فلما
رأيناه الآن، وافق على قانون الذي جعل أساس مباحثه الدينية الاجتهاد دون التقليد
حلّ الرجاء محل الخوف ، ووجب علينا أن نثني على الأستاذ الكبير الشيخ سليم
البشري أجمل الثناء ، فحياه الله تحيةً مباركةً طيبةً.
إنما قصرنا الثناء على الشيخ سليم من دون سائر أعضاء اللجنة الواضعة
لهذا القانون؛ لأن معارضة مثل الشيخ سليم من كبار العلماء أصحاب الشهرة
والصفة الرسمية في مسألة إجازة الاجتهاد ومنع التقليد تعدّ عقبة في سبيل الإصلاح ،
وموافقته عليها تعد تمهيدًا عظيمًا لهذه السبيل التي هي سبيل الله ، وعونًا كبيرًا
للسالكين فيها، ولا نبخس أحدًا من أعضاء اللجنة حَقَّهُ، ولا نظلمه شيئًا من فضله،
بل نرجو أن يكثر فينا من أمثالهم الجاهرون بهذه الدعوة ، كما كثر المعتقدون لها
وإن لم يصرحوا بها.
إن في علماء الأزهر كثيرين يعتقدون بطلان التقليد ، ووجوب اتباع الدليل ،
ولكن يقل فيهم من يجهر بذلك قولاً ، ويندر من يتجرأ منهم على كتابة ذلك في
الصحف المنشرة ، والدعوة إليه على رءوس الأشهاد؛ ذلك بأن كبراء الشيوخ ذوي
المكانة عند الأمراء والشهرة عند العامة ينكرون ذلك على قائله ، ويضطهدونه إن
استطاعوا ، ويبالغون في ذلك مبالغةً هي عندي من مثارات العجب. أفلا يحق لنا
إذًا أن نكبر إجازة الشيخ سليم البشري جعل قبول ما يقدم للمؤتمر من الآراء
والمباحث الدينية مشروطا بأن تكون مُؤَيَّدَةً بدليلٍ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو
القياس ، ونحن نعلم أنه من أولئك الشيوخ الكبراء ، بل هو في ناصيتهم وذروتهم إذ
هو شيخ المالكية وكبيرهم الآن ، وكان بالأمس شيخ الأزهر؟ وقد اشتهر بأنه أعلم
أهل الأزهر الآن بالحديث ، ولعلّ الخير جاء من هذه الناحية فأهل الحديث ما زالوا
أبعدَ الناس عن التقليد.
ونعود إلى مباحث المؤتمر ، فنقول: إن المباحث الدينية قد اشتُرِط فيها هذا
الشرط الذي سررنا به على إجماله ، وأما المباحث الاجتماعية فلم يشترط فيها شيء ،
وإذا يسر الله واجتمع المؤتمر فإننا سنحتاج إلى تحديد ما هو اجتماعي غير ديني؛
وفي ذلك من العُسْر ما فيه لا سِيَّمَا في المسائل العائلية والمالية ، بل أقول: إن المسألة
الجنسية لها علاقة عند المسلمين بالدين ، وقد كان السيد جمال والشيخ محمد عبده
يقولان: إن المسلمين لا جنسيةَ لهم في غير دينهم ، ولكن كثيرًا من الأتراك
والمصريين يقولون اليوم بجنسية النسب ، وجنسية الوطن ، ولا يعدون هذا مما
يتعلق بالدين ، وهذه المسألة من أكبر المسائل التي ننتظر من المؤتمر - إنِ اجْتَمَعَ -
حَلّ عقدتها.
ذكر إسماعيل بك غصبرنسكي في أحد أعداد جريدته (ترجمان أحوال زمان)
أن أحد أذكياء الترك يريد أن يلقي في المؤتمر خطابًا يبيّن فيه أن ارتقاء أمة الترك
يتوقف على انفصالها من العربية لغةً ودينًا وسياسةً! ! ! وربما يسمع المصري
وغير المصري ممن لا يعرفون الغايةَ التي وصلت إليها نابتة الترك من التفرنج هذا
القول ، فيرونه عجيبًا غريبًا ، ولكن لا يعجب منه مَن يعلم أن كبار الترك قد دارَتْ
بينهم مناقشاتٌ طويلة في هذه المباحث استمرت عِدَّة سنين ، وكان فيهم من كتب مثل
هذا الرأي حتى غلا بعضهم ، فقال: إنه يجب تطهير التركية مما فيها من مفردات
اللغة العربية.
نحن نَعُدُّ هذا شذوذًا وغلوًّا، ويوافقنا على رأيِنا كثير من فضلاء الترك لا
سِيَّمَا المتدينين منهم. وإذا انعقد المؤتمر فإن جمهور المسلمين من جميع الشعوب
سيسمعون من أخبار أمراض المسلمين الاجتماعية والدينية ما لا يخطر لهم الآن في
بال، ونسأل الله أن يحسن العاقبة والمآل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرد على اللورد كرومر
(2)
تتمة الكلام في مسألة المعارف
إن اللورد يعلم أنه استعمل المغالطة في هذا الفصل، فعمل محمد علي وعباس
وإسماعيل ليس حجة على ما يجب اتباعه الآن من حَصْر تعليم الحكومة في
فرنجة عدد معين للوظائف. والإنفاق في وقت كانت الحكومة فيه على شفا الإفلاس
لا يجعل مقياسًا لوقت يزيد فيه دخلها على خرجها زيادةً عظيمةً. ولو كان عمل
محمد علي وعباس وإسماعيل مما يصح أن يتبع في هذا العصر لَكَان الواجب على
الناس أن يرجعوا القَهْقَرَى دائمًا ، ولما ساغ لإنكلترا أن تدعي أن هذه البلاد محتاجة
إليها في تقدمها وارتقائها ، فإنها تقدر بنفسها أن تكون على أحسن من زمن إسماعيل ،
فما بال اللورد يمثل ظلمات الماضي الحالكة شَرَّ تمثيل ، ثم هو يجعلها أساسًا يبني
عليه سياسته في التعليم؟ !
اللورد قد ذم المتفرنجين في كتابه ذمًّا بليغًا ، وبين أنهم لا قيمةَ لهم في نظر
الشيخ محمد عبده ، فكيف لا يعذره إذا طلب لبلاده تعليمًا أنفع من هذا التعليم الذي لا
يقصد منه إلَاّ تكوين المتفرنجين؟ !
ومن المغالطة في تقرير اللورد قولُهُ: إن إبطال التعليم المجَّاني كان إلغاءً
لامتياز جائر؛ لأن الذين كانوا يعلَّمون مجانًا هم في الغالب أولاد الأغنياء، فإن
العدل في إزالة هذا الامتياز بما يوافق المصلحة إنما يكون بتحويل الامتياز عن
الأغنياء وتخصيصه بالفقراء ، وما أسهل ذلك على الحكومة لو أراده القابضون على
أزمتها.
لو كانت الطريقة التي أزيل بها امتياز أولاد الأغنياء على أولاد الفقراء في
التعليم المجاني عادلة ، لكان من العدل أن يمنع الماء عن الأراضي التي كان
الأغنياء يميزون فيها على الفقراء في الرّيّ حتى لا تزرعَ منها أرض فقير ولا غني ،
فإن العلم حياة النفوس كما أن الماء حياة الأرض.
لم يكن الشيخ محمد عبده راضيًا عن سياسة التعليم بمصر في وقت من
الأوقات. ففي زمن توفيق باشا حمل على نظارة المعارف حملةً قَلَمِيّةً منكرةً في
جريدة الحكومة الرسمية، ومقالاته في ذلك مثبتة في الجزء الثاني من التاريخ الذي
وضعناه له. وقد حمل ذلك الحكومة على الشروع في إصلاح التعليم والتربية ،
ولكن جاءت من الثورة العرابية، فأوقفت كل عمل ، وتلاها الاحتلال ونفى الشيخ من
البلاد. وبعد عودته رأى سياسة التعليم غير سديدة؛ فقدم لعميد الدولة المحتلة -
وإياك أعني أيها اللورد - لائحة [1] فيما يجب اتباعه في التربية والتعليم ، فوضعت
في زوايا الإهمال.
لعل اللورد لم يَنْسَ أن الشيخ كتب في هذه اللائحة ما نصُّهُ:
(المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة)[2]
…
...
…
ثم ذكر غرض محمد علي باشا من إنشائه لها ، وما كان حظها من خلفه إلى عهد إسماعيل باشا ، ولكن الشيخ ذكر ذلك حُجة على فَقْدِ التربية والمعارف الحقيقية منها ، فجاء اللورد يذكره مِن بعدِهِ في تقرير 1905 ، ويجعله حُجة على بقاء ما كان على ما كان إلَاّ المجانية ، فإنه يرى إبطالها بعد انتظام مالية الحكومة وامتلاء خزائنها! .
مَرَّتِ الأيام على موت هذه اللائحة والشيخ محمد عبده قاضٍ في المحاكم ليس له
طريق رسمي إلى دعوة الحكومة إلى إصلاح التربية والتعليم ، وقد جرب طريق
النصيحة ، فلم يجده موصلاً إلى المطلوب ، فلما صار مُفْتيًا وعضوًا في مجلس
الشورى حاول أن يجعل مجلس الشورى وسيلةً إلى غرضِهِ ، وبرأيه طلب بعض
أعضاء الجمعية العمومية سنةَ 1902 أن تعرض قوانين ولوائح التعليم في نظارة
المعارف (بروجراماتها ومنشوراتها) على المجلس ، ولم ينس اللورد تلك المناقشة
التي دارت في ذلك بين الشيخ محمد عبده وفخري باشا ناظر المعارف في الجمعية
العمومية (وقد بيَّنَّا ضعفَ أقوال الناظر يومئذٍ في المنار ص110و149م5) .
ثم إن الشيخ محمد عبده اقترح باسم المجلس في سنة 1904 أن يعلم تاريخ
الإسلام باللغة العربية في المدارس التجهيزية. وقد ذكر في آخر تقرير له بشأن
امتحان مدرسة دار المعلمين الناصرية (دار العلوم) ضعف تعليم التوحيد والتفسير
والحديث فيها ، فإذا كان تعلم المعلمين للدين ضعيفًا ، فكيف يكون تعليم هؤلاء
المعلمين له؟ .
نكتفي بهذه المذكرات في بيان غَلَطِ اللورد في قوله: إن ما كتبه الشيخ محمد
عبده لمسيو جرفيل كان يعلم أنه لا أصلَ له فهي تذكره - إن كان ناسيا - أن لها أصلاً
أصيلاً مؤيدًا بالبرهان والدليل، ومن العجائب أن يكابر اللورد في هذا مع ما يعلمه من
مؤيداته الرسمية وغير الرسمية. فمن ذا كتب ما يعلم لأنه لا أصل له؟
الشيخ أم اللورد؟ اللورد يعرف ذلك إذا لم يكن السَّخَط قد أنساه تلك اللائحة التي قدمت
إليه ، وتلك الحجج المدونة في المحاضر والدواوين الرسمية ، وكلها ناطقة بأن الشيخ
محمد عبده لم يكن راضيًا من التعليم والتربية في مدارس الحكومة. فهذا
ما نقول في السبب الأول لسخط اللورد على الأستاذ الإمام وتغيير كلامه فيه.
* * *
(إفضاء الأستاذ الإمام لمستر بلنت بعيوب الاحتلال)
أما السبب الثاني لسخط اللورد على الشيخ ، وهو ما ظهر له من أنه هو الذي
لقن مستر بلنت جُلَّ ما في كتابه (التاريخ السري للاحتلال) من عيوب إدارة
المحتلين بمصر [3] ، فهو مما يعذر فيه فإن هذا مما يغيظ السياسي والحاكم المطلق
حقيقة. وأي شيء يؤلم الإنسان أكثر من بيان عيوبه وإظهار سيئاته؟ ولكن يجب
على المؤرخ أن يعذر حافظي الوقائع التاريخية ورواتها ومدونيها. واللورد في
كتابه (مصر الحديثة) مؤرخ لا حاكم ، فكان يجب أن يتذكر ذلك. ثم إذا كان هو في
تدوينه لتاريخ مصر لم يتحام القدح في أمرائها وعلمائها وجميع أهلها بِنَاءً على
أنه مؤرخ يجب عليه إظهار الحقائق - إذا فرضنا أن كل ما كتبه حقائق - فكيف
يسخط على من سلك طريقته، ومن أعانه على ذلك؟ أليس من العدل العام أن يدين
المرء كما يُدان؟
هذا ما يُقال من الجهة العامة. ويقال من الجهة الخاصة: إن مستر بلنت كان
صديقًا للشيخ محمد عبده ، وكان كل منهما يثق بأمانة الآخر وإخلاصه؛ فبأي حقٍّ
يحجر اللورد على صديقين متجاورين أن يفضي كل منهما إلى الآخر بما في نفسه من
المسائل العامة أو الخاصة ، ويكاشفه بشعوره لا سِيَّمَا إذا كان مؤلمًا له ، والشاعر
الحكيم يقول:
ولا بُدَّ من شكوى إلى ذي مروءة
…
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ألا إن منتهى الاستبداد، واحتقار حرية الأفراد أن يؤاخذ الناس بما يتناجون
به في زوايا بيوتهم، وما يسرونه لأصدقائهم ومحبيهم.
ثم إن اللورد يعلم - كما يعلم كل عاقل - أنه لا يخطر في بال الإنسان عندما
يحدث صديقة أن كل ما يقوله سيحفظ ويدَّون وينشر بين الناس؛ ولذلك ينتقد بعض
أهل الرأي على مستر بلنت ذكر مسائل وخواطر حدثه بها الشيخ محمد عبده ،
فنشرها وهي مما لا ينبغي نشره كتمني جمال الدين لو يقتل إسماعيل باشا ، واستحسان
محمد عبده لرأيه، على أن هذه المسألة أصغر من القالب الذي وضعها لورد كرومر
فيه كما سَنُبَيِّنُهُ.
بقي علينا ، وقد بَيَّنَا اختلاف قولي اللورد في الأستاذ الإمام ، وسبب هذا
الاختلاف أن نبين الحق فيما لَمَزَهُ به ، فنقول: إنه ينحصر بِحَسَب ما اطلعنا عليه من ترجمة الجرائد في ثلاث مسائلَ:
(الأولى وصفه بأنه خيالي)
قول اللورد في الشيخ: إنه كان مفطورًا على الخيال [4] . لا يتفق مع قوله فيه
من الجهة العملية في الحكومة وغيرها أنه كان مصلحًا - ومن الجهة
السياسية والاجتماعية أنه أنشأ في مصر مدرسةً فكريةً ، وأن أتباعه إذا نجحوا
وسوعدوا على ما اختطه لهم من المبادئ المعتدلة فيهم تصل البلاد إلى الاستقلال ،
وأنهم كالجيرونديين في أحزاب الثورة الفرنسية؛ أي: في الاعتدال والعقل ، كما
لا يتفق مع قول المستشار القضائي الذي وافقه هو عليه - ومن الجهة العلمية
والشرعية أنه كان متضلعًا من علوم الشرع ، مع ما به مِنْ سَعَةِ العقل واستنارة
الذهن.
ما هي الآراء الخيالية التي كان يبديها اللورد ، فيتعذر عليها تنفيذها له؛ لأنها
خيالية لا عملية؟ لعله يَعْنِي بها تلك اللائحة [5] التي اقترح بها عليه جعل التربية
الدينية أساس التعليم في المدارس والكتاتيب ، وبيَّنَ له فيها أنه لا يصلح حال البلاد
المصرية وتكون بمأمن حتى من التعصب وفتنه إلَاّ بالتربية الدينية الصحيحة؛ لأن
الدين الإسلامي رائد الألفة ورسول المحبة.
إن كان يعني اللورد باتباع الأستاذ الإمام للخيال هذا الرأي الذي أوضحه أتم
الإيضاح في تلك اللائحة ، وكان يظهر على لسانه شيء منه في كل فرصة
(كاقتراحه في مجلس شورى القوانين تعليم تاريخ الإسلام في المدارس التجهيزية)
فلماذا يسيء الظن بدينه ، وهل تكون هذه الغيرة على الدين لضعاف الإيمان أو
للاأدريين؟
للورد أن يعد طلب التربية الدينية والتعليم الإسلامي أمرًا خياليًّا؛ لأن سياسته
في ذلك مناقضة لاعتقاد الأستاذ الإمام ، فإن أحدهما يرى أن الإسلام الحقيقيَّ هو
منتهى الكمال البشري كما عرف ذلك عنه القريب والبعيد ، وصرحت به المجلة
الفرنسية [6] ، والآخر يمثل الإسلام بأنه آفة المدنية ، ومقيد البشر بالقيود التي لا
يرتقون ما لم يتركوها ويتركوه معها. ويمكن أن يقال: إن تقديمه تلك اللائحة لعميد
إنكلترا وأمله بأن يقنعه بما فيها هو الأمر الخيالي ، فإنه قد بالغ في تحسين الظَّنّ
بهذا العميد وبدولته حتى أراد أن يستعين بهم على إصلاح شأن الإسلام، وتخيل أنه
رُبَّما يصل إلى ذلك بالبرهان، على أننا نحن نعرف السبب في محاولته ذلك ، وهو
أنه لَمَّا كان منتهى غرضه من حياته الإصلاح الديني بالتربية والتعليم ، كان يتوسل
إلى ذلك بكل ما يخطر في البال أنه ممكن قائلاً: (إذا لم ينفع لا يَضُرّ) .
إذا كانت تلك اللائحة هي دليل اللورد على أن الرجل كان خياليًّا ، فلا يبعد أن
يكون تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية خياليًّا أيضًا في نظر اللورد؛ فإنْ لم يكن
التقرير نفسه خياليًّا فإلحاح كاتبه على اللورد بالسماح بالمال من خزينة الحكومة
لتنفيذه هو الخيالي ، فإنه إنما سكت عن هذه المطالبة حين قال له اللورد: (إنني لا
أعطي قرشًا واحدًا للمحاكم الآن) ، كما أخبرني بذلك الأستاذ الإمام في وقته ، وقال:
إنه هكذا قال: لا أُعْطي ، بضمير المتكلم ، وهكذا يقول: فليقل لنا اللورد أي شيء
في ذلك التقرير يُعَدُّ من الخياليات ، أو من الأماني والأحلام التي هي غير ممكنة في
ذاتها؟ ولكن يمكن لمن أساء الظن باللورد وحكومته أنْ يقول: إنهم لا ينفذون
تقريرًا فيه إصلاحٌ لِمحاكمَ شرعيةٍ وراء إصلاحها إصلاح كبير للبيوت الإسلامية؛
لأن من سياسة إنكلترا موتَ الشرع في مصر وإبطالَ ثقة المسلمين به ، حتى إن لورد
كرومر الذي يُعَدّ من خيارهم يرى مطالبته بإصلاح المحاكم الشرعية من الخيالات
والأوهام، أو من الأماني والأحلام، إذا قال من يسيئون الظن باللورد وحكومته مثل
هذا القول؛ أفلا يكون رمي الشيخ محمد عبده بأنه خيالي رميًا للورد وحكومته بما
هو شر من ذلك؟
نَعَمْ ، إنه كان للأستاذ الإمام آمال في حسن مستقبل الإسلام قد يعدها حتى
بعض المسلمين من الأماني والأحلام، فإن منها أنه سينتشر في أوربا نفسها في يوم
من الأيام، ولكن هذه الآمال مما لا أظن أن لورد كرومر قد علم بها؛ إذ لو علم بها
ظن أو خشي أن يكون الشيخ (لا أدريًّا) ، فإنها آمال مبنية على الإيمان بصدق
وُعُود القرآن أولاً، وعلى فلسفة دقيقة في طبيعة الأديان وطبائع البشر ثانيًا، فهو قد
كان يقول على رءوس الأشهاد في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور: 55) الآية.
إن هذه الآية لم يأت تأويلها بعد، ولا بُدَّ أن يأتيَ ولو بعد حين ، وإن كان بعيدًا
فهل تكون هذه الثقة بوعد في القرآن كهذا (قيل: إنه قد حصل) من رجل (لا
أدريّ) ؟
نحن أعرف بالأستاذ الإمام من لورد كرومر فإننا نعرف عنه كل شيء واللورد
لا يعرف عنه إلا أشياء محدودة منها بعض الآراء في مصلحة مصر ، وكان صاحب
هذه المجلة من بطانته ومواضع سره ، ولا أعرف عنه شيئًا يمكن اللورد أن يستدل
به على كونه كان مفطورًا على الخيال غير ما ذكرت من مطالبة اللورد بالمساعدة
على التربية الإسلامية وإصلاح المحاكم الشرعية إلَاّ أن يكون ذلك توجه همته إلى
إصلاح الأزهر ، ولكن كل ما تشبث به من الإصلاح كان عمليًّا وقد نفذ شيء كثير
منه كما هو مدون بالتفصيل في كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر في عَشْرِ سنين) ،
وما لم يتم منه لم يكن المانع من تمامه كونه خياليًا ، وإنما كان له مانع آخر يعرفه
اللورد ، وكثير من الناس وليس هذا المقام بمحل لذكره.
نعم ، إنه كان للأستاذ الإمام آمال في الأزهر هي أعلى وأسمى مما تشبث به
من مبادئ الإصلاح التدريجيه - آمال لها ارتباط قوي بآماله في الإسلام ، وهي
تربية رجال يعرفون حقيقةَ الإسلام ويقدرون على بيانها والدفاع عنها بالكتابة
والخطابة ليكون منهم دعاة يدعون جميع الأمم إليه، وهداة يهدون جميع
طبقات أهله إلى ما جهلوا منه، ولكن العوائق التي اعترضته في طريق الإصلاح
حالت دون الدعوة إلى هذا المقصد أو إلى مقدماته الأولية، وما أظن أن اللورد كان
مطلعًا على هذا وإلا لَمَا خطر في باله أن يكون الرجل (لا أدريًّا) .
أما المسائل المتعلقة بالقضاء أو الإدارة فعهدي أن آراء الأستاذ الإمام فيها
كانت تعجب اللورد سواءٌ عمل بها كعدوله عن إلغاء النيابة العمومية عَمَلاً برأيه ، أو
لم يعمل بها كمشروع الجنايات الأخير الذي طالت فيه المناقشة بينهما ، ولكن بعد أن
كان اللورد قد أشرب المشروع في قلبه ، وإن أكثر النابغين من رجال القضاء كانوا
على رأي الأستاذ الإمام في معارضة المشروع.
وما ذهب إليه المؤيد في تأويل كلمة اللورد من أن الشيخ كان يحاول القبض
على السُّلْطَتَيْنِ ، فيجعل الأمير وعميد الاحتلال معًا في يديه ، فهذا من آراء صاحب
المؤيد التي لم تخطر للورد على بالٍ فيما يغلب على ظني.
(الثانية ظن اللورد أنه لا أدريٌّ)
نبز اللورد الأستاذ الإمام بلقب (اللاأدري)[7] وهو قد أخذه من ستانلي على
أنه لم يجزم به ، فقد ترجم المؤيد عبارته فيه بكلمة (وأخشى) أن يكون كذا ،
وترجمها بعض الجرائد (وأظن) أن يكون كذا. وهذا من الظن الذي قال الله فيه
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ، وقد قال بعض العلماء النابغين من
مريدي الأستاذ الإمام: إن اللورد قال هذه الكلمة لينفرنا من طريقة المرحوم الدينية ،
ولكننا لا نترك ما عندنا من اليقين فيه لأجل ظن لورد كرومر.
أما أنا فأقول: إن قاعدة ستانلي التي استنبط منها اللورد كلمتَه هي من
المسلمات عندهم فينا ، وهي: (إن المسلم من الطبقة العليا لا بُدَّ أن يكون أحد اثنين:
متعصبًا أو ملحدًا في سِرِّهِ) وعندنا قاعدةٌ مثلها كنتُ أسمعها وأنا تلميذ مبتدئ ،
وهي: (إن النصراني المتعلم ملحد لا دينَ له ، فإنْ تعصَّبَ لقومه وأهل دينه فإنما
يتعصب لهم تعصبًا جنسيًّا) ومما كنا نسمعه من آبائنا وبعض مشايخنا: (أن مما
يمتاز به الإسلام على النصرانية المعروفة أن المسلم يزداد قوةً في الإسلام كُلَّمَا ازداد
سَعَةً في العِلْم ، وأن النصراني إذا تعلم العلوم مَرَقَ مِن الدِّين؛ ولذلك كانت مدنية
المسلمين وعلومهم في حياةٍ ونموٍّ أيامَ كان الإسلام حَيًّا في نفوسهم في أول نشأتهم ،
ولم يصر للنصارى عِلْم ولا مدنية إلَاّ بعد ضعف الدين وزعزعته عندهم) فالأمم
والمِلَل تتشابه في حُكْم بعضها على بعض.
قد ذكرنا دليل المسلمين على قاعدتهم من الجهة النظرية ، ويؤيدونه من الجهة
الحِسّيّة بحال من يعرفون من النصارى المجاهرين بالإلحاد ، وكثير ما هم. ولما
كان النصراني يعتقد بطلان الإسلام اعتقادًا تقليديًّا إن كان متدينًا واعتقادًا نظريًّا إنْ
كان مُلْحِدًا - كان للملحد منهم أن يظن بهذا الدليل النظري أن المسلم العاقل المطلع
على العلوم والفلسفة لا بُدَّ أن يكون ملحدًا ، ولا يعدمون من المسلمين المتفرنجين من
يجاهرون أمامهم بالكفر ، ويسكرون معهم في نهار رمضانَ ، فيؤيدون دليلهم بالحس
ولا يعلمون أن هؤلاء الذين يظنون أنهم قد ألحدوا بعد إسلام لم يعرفوا يومًا ما من
الإسلام شيئًا.
قد عرفت رجلاً من فضلاء الإنكليز ، ذوي التربية العالية فيهم ، وجرى بيني
وبينه مناظرات كثيرة في المسائل الدينية ، فكان كلما سمع مني جوابًا عن شبهةٍ مِنَ
الشبه التي يوردها على الدين مطلقًا ، أو على الإسلام خاصّة يقول: إن ما تقوله
معقول ، ولكنه فلسفة لا دين ، وما أظن أن علماء الأزهر يقولون به لو سئلوا هذا
السؤال. وقال لي مَرَّةً: (إنْ كان الإسلام ما تقرره فأنا مسلم) . وقال لي مَرَّةً بعد
كلام قُلْته في الإسلام: (إنني أنا أعتقد هذا ، فإما أن أكون مسلمًا ، وإما أن تكون
كافرًا) وقال لي مرة: (ما أظن أحدًا يوافقك على هذا الاعتقاد في الدين إلَاّ الشيخ
محمد عبده) ولا يبعد أن يكون ظنه فينا كظن اللورد في الأستاذ الإمام. وقد
ذكرت في المنار سؤاله إيَّايَ في رمضان: هل تصوم؟ وعن جوابي له ، وما
ذكرته له من حكمة الصيام وإعجابه به.
وقد دعاني غير واحد من فضلاء النصارى للغداء في رمضان ، وعرضوا
عَلَيَّ القهوةَ مِرارًا كثيرة ، فكُنتُ أقولُ متعجبًا: أَوَنَسِيتُمْ أَنَّنَا في رمضانَ؟ فيقولون:
أَوَأَنْتَ تَصُومُ أيضًا؟ فأقول: أي شيء يبيح لي الفِطْرَ ولستُ مريضًا ، ولا على
سفَرٍ؟
ولكن إذا كان الملحدُ من النصارى هو الذي يظن أن المسلم العاقل لا بُدَّ أن
يكون إسلامُه ظاهريًّا وهو يسرّ الإلحاد في قلبه؛ فهل اللورد ملحد أم هو مقلد لستانلي
في قاعدته من غير دليل ولا فكر؟ وكيف يتفق هذا مع شهادته للشيخ محمد بيرم
بالإيمان والعقل جميعًا؟
قال اللوررد بعدما ذكر أنه يخشى أن يكون الشيخ محمد عبده لا أدريًّا (وإن
كان يستاء من هذه النسبة) فقوله هذا يشعر بأنه ذكر أمامه ما يدل على أنه يظن
فيه هذا الظن تصريحًا أو تلويحًا ، فاستاء وامتعض، وتبرأ من ذلك ، وأنكره؛ وكيف
لا ينكره على اللورد مستاءً ، وقد كان أعز شيء عليه وهو الذي جعله لا يخاف في
الحق لومةَ لائم ، وهو الذي جعل السياسة مأيوسًا منها عنده ، فكان جُلُّ قَصده من
معرفة رجالها ومداراتهم الاستعانة بهم على خدمة العلم والدِّين من جهة ، وخدمة
مصر من جهة أخرى ، فكان يتردد على الأمير ليستعين به على إصلاح الأزهر ،
ويختلف إلى اللورد ليستعين به على إصلاح المحاكم والمعارف وغير ذلك من
المصالح التي شهد له اللورد بالوطنية الصادقة لسعيه لديه فيها، كان يستجديها معًا
لمصر وللإسلام ، وقد أعطى كل منهما قليلاً وأكدى. فلا عجب إذا جاءت كلمة
اللورد في دين الأستاذ الإمام غَثَّةً باردةً ، تتضاءل في طِمْرِ بَالٍ ، فإنها عبارة عن
ظَنٍّ لم يستيقنه، في موضوع لم يعرفه.
(الثالثة استحسان قتل إسماعيل باشا)
نقل اللورد عن كتاب التاريخ السري للاحتلال أن السيد جمال الدين كاشف
الشيخ محمد عبده بفكرةٍ خطرت له وهي قتل إسماعيل باشا عند مرروه على
(الكبري) إذ كان يمر كلَّ يوم عليه ، وأن الشيخ محمدًا استحسن ذلك ، ولكن الأمر
لم يتجاوز الكلام بينهما [8] أي: لم يكاشفا به أحدًا لاعتقادهما أنهما لا يجدان من يتجرأ
على ذلك.
كبر اللورد هذه المسألة وعظمها ، ووجه قوة عقله المنطقي الأوربي الإنكليزي
للاستنتاج منها ، فكانت نتيجته (أن العالَم المتمدن كله ينظر بعد هذا إلى الوطنيين
شزرًا! ! ويحتقر بالأكثر أولئك الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل) .
ربما يسهل على أضعف الشرقيين الذين يقول اللورد عنهم: إن عقولهم غير
منطقية. فهي ضعيفة الاستنتاج والاستنباط ، بل على أضعف المصريين الذين يعدهم
من أضعف الشرقيين عقولاً واستنتاجًا أن يفنّدوا أمثال هذه النتائج التي استخرجها
ذلك العقل الغربي المنطقي الكبير. فلو سألنا أحد لابسي الجلابيب الزرقاء من
فلاحي مصر والفيلسوف سبنسر والفيلسوف أرسطو: هل تقولون: إن تفكر رجل
غريب كالسيد جمال الدين الأفغاني في قتل أمير ظالم كإسماعيل باشا ، واستحسان
تلميذ له كمحمد عبده المصري لفكرته وهو شابّ في سِن الطلب والتحصيل ينتج
وجوب احتقار العالم المتمدن لهما ، وللوطنيين المصريين دائمًا؛ لأن تلميذًا منهم
استحسن من زُهَاء ثلاثين سنة قتل أمير خرّب بلاده ومهد للأجانب احتلالها؟ ؟
لو سئل الثلاثة هذا السؤال لأجاب الفلاح المصري وأشهر الفلاسفة المتقدمين
وهو أرسطو مؤسس علم المنطق ، وأشهر الفلاسفة المتأخرين وهو سبنسر بجواب
واحد وهو أن الوطنيين لا يلحقها ذنب ولا لوم من تلك الفكرة إن فرضنا أنها فكرة
تنافي المدنية، وأن المنطق يتبرأ ممن يقول بمثل هذه النتيجة.
وفد السيد جمال الدين على مصر في سنة 1286 وكان الشيخ محمد عبده في
سن العشرين (لأنه ولد سنة1266) وكان همه من حياته إيجاد حكومة إسلامية
عزيزة قوية؛ فاستمال الناس إليه بالعلم والفلسفة حتى إذا ما اجتمعوا حوله بثّ فيهم
أفكاره السياسية بطريق تعليم الكتابة والخطابة حتى كون لنفسه حِزْبًا له ارتباط بولي
عهد الخديوية (توفيق باشا) وكان إسماعيل باشا هو العَقَبة الْكَئُود في طريق
الإصلاح المطلوب له ، فهل يعدّ من الغريب عند الأمم الممدنة أن يتمنى إزالتها أو
يفكر فيها ، فينظر العالم الممدن إلى جميع الوطنيين المصريين الآن النظر الشزر؛
لأن من علمهم السياسة وطلب الإصلاح فكر في ذلك منذ ثلاثين سنةً؟ .
يالله مَن هذا العالم المدني الذي لم يفكر في مثل هذا قط: ما هو وأين هو؟
أليس هو العالم الأوربي الذي قتل من الملوك والرؤساء في بلاده واحدًا وعشرين
ملكًا ورئيسًا في مدة لا تتجاوز قرنًا من الزمان [9] ، وَنَعْنِي بالرؤساء رؤساءَ
الجمهوريات الذين تبعتهم أقلّ من تبعة الملوك.
إن خطور الذنب بالبال ومكاشفة بعض البطانة به قد يكون تمنيًا لا يصل إلى
درجة العزم، وقد يعزم الإنسان على الشيء حتى إذا ما هَمَّ بمباشرته راجعَ نفسه
وثنى عزمه ، فرجع عنه نادمًا، فَلَيْتَ شِعْرِي ماذا كان يكون حكم لورد كرومر على
جمال الدين ومحمد عبده وجميع الوطنيين المصريين الذين يودون استقلال بلادهم
لو وفق السيد جمال الدين يومئذ إلى تنفيذ ذلك الخاطر؟ ؟
أما كون السيد جمال الدين كان يعمل في مصر عملاً سياسيًّا ، فهذا مما لا
يجهله لورد كرومر ، ولا أحد من سَاسَةِ إنكلترا وفرنسا الواقفين على أحوال مصر
الأخيرة، وهم يعلمون أنه إذا ترك السعي لقتل إسماعيل باشا فإنه قد سعى لعَزْلِهِ.
قال الأستاذ الإمام في كتاب تاريخ الثورة العرابية الذي عهد إليه بتأليفه الأمير
عباس حلمي الثاني في سياق الكلام على السعي في عزل إسماعيل باشا ، وذكر
إرسال فرنسا موسيو تريكو مأمورًا فوق العادة؛ ليتحد مع وكيل إنكلترا بمصر على
ذلك ما نصه:
ولكن كان الناس كافَّةً في شوق إلى رؤيته (أي: إسماعيل) بعيدًا عن كرسي
الخديوية، وطلاب الحرية من الأهالي كانوا يترددون على رئيس الوزارة
المصرية يظهرون له الميل إلى جَناب الخديو السابق توفيق باشا رحمه الله ،
وكانت بينه وبين السيد جمال الدين مكالمات ومخابرات في هذا الأمْر ، فسعى هو
والكثير من الأعيان عند شريف باشا حتى يقنع الخديو الأسبق بوجوب التنازل (عن
الخديوية) ، وقد فعل ، فأشار عليه بأن رفض الطلب لا يفيد ، وأن الدولتين لا بُدَّ
أن تنالَا ما تطلبان عاجلاً أو آجلاً ، والفكر في الحرب رأي طائش ، فإن الناس
عمومًا في انحراف عنه ، فإذا حصل حرب خذله الجيش في أول واقعة ، وكانت
عاقبة ذلك أشنعَ، وإن أمسَّ شيء بالصواب أن يحوَّل الأمر على السلطان.
ثم ذهب وفْد من المصريين ومعهم السيد جمال الدين إلى وكيل دولة فرنسا ،
وأبانوا له أن في مصر حزبًا وطنيًّا يطلب الإصلاح ، ويسعى إليه ، وأن الإصلاح
المطلوب لمصر لا يتمُّ إلَاّ على يد وليّ العهد توفيق باشا ، وانتشر ذلك في القاهرة
وغيرها، وتناقلته الجرائد وهي أول مرة عرف فيها اسم (الحزب الوطني الحر)
اهـ المراد منه.
إن لورد كرومر يعلم هذا ، ويعلم أن إسماعيل باشا لم يكن أمثلَ من أولئك
الملوك الذين قتلهم العالم المتمدن وآخرهم ملك البرتغال بل ولا من أولئك الذين
ثاروا عليهم وقتلوهم بمحاكمة ، أو بغير محاكمة ، ومنهم شارل الأول ملك الإنكليز ،
الذي قامت في وجهه الثورة الأهلية المشهورة وانتهت بقتْلِه. وإن اغتيال ملك أو أمير
مخرب للبلاد، ظالم للعباد، مضيع للملك، مهلك للحرث والنسْل أهون في نظر
الفيلسوف من القيام بثورة عليه تسفك فيها دماء الألوف الكثيرة من الشعب، ثم يقتل
الملك بعد ذلك بمحاكمة صورية أو حقيقية إن لم يقتل اغتيالاً.
إن ما شرحه لورد كرومر في تاريخ (مصر الحديثة) من فظائع إسماعيل
باشا كافٍ في بيان كونِهِ أسوأَ حالاً من الملوك الأوربيين الذين ثارت عليهم رعيتهم
بتدبير فلاسفتهم وعقلائهم؛ فأين من إسماعيل باشا لويس السادس عشر وشارل
الأول.
قد مثل الأستاذ الإمام في تاريخ الثورة العرابية حالة مصر التي تركها عليها
إسماعيل باشا تمثيلاً تلطف فيه واستعمل الرأفة التامة في الحكم؛ لأنه كتب ذلك
لحفيده الأمير الحالّ كتابة حاول فيها الإعلام مع توقي الإيلام ، فقال:
شئون البلاد المصرية في شهر رجب سنة 1296 هـ
تولى الجناب الخديو السابق توفيق باشا بعد أن تداخل دولتا فرنسا وإنكلترا في
شئون البلاد المالية ، وارتبطت الحكومة معها بعقود ووعود عدت قوانين وأصولاً
يجب احترامها.
- وبعد أن كان قد أفضى الأمر إلى تعيين وزيرين ، أحدهما إنكليزي للمالية ،
والآخر فرنساوي للأشغال العمومية في أواخر عهد إسماعيل باشا.
- وبعد أن كادت أحكام المحاكم المختلطة تئوي بتنفيذها إلى إشهار إفلاس
الحكومة، وأدت بالفعل إلى انتزاع أملاك كثير من ذوي الثروة من الأهلين.
- وبعد أن كان موظفو الحكومة من أية طبقة كانوا في اضطراب من حالتهم
المعاشية؛ لتعود الحكومة على تأخير دفع المرتبات لأربابها أشهرًا.
- وبعد أن صار رجال الحكومة في درجة من الغفلة عن مصالح البلاد إلى
حدِّ أنهم كانوا لا يفهمون للوظائف مَعْنًى إلَاّ أنها وسيلة لِتحصيل النقود من الأهالي
بأيَّة طريقة ، لِيُدَسّ منها شيء في جيوب المباشرين للتحصيل ، ويرسل الباقي إلى
خزائن الخديو أو إلى صناديق بعض المحتفين به، والمقربين إليه.
- وبعد أن صارت الجندية في البلاد صورةً لا يعقد بها دفاعٌ ولا حمايةٌ وإنما
يُراد بها الظهور بعظمة الملك ، فلم يكن فيها تربية عسكرية ولا تدريب حربي ،
وكثيرًا ما كانت في حفر التُّرَع ، وإقامة الجسور للمنافع العامة أو الخاصة ، وكان
المرجع في بعض الحروب إلى ضباط من الأجانب كانوا أركان حربها، وعليهم
المعوَّل في أغلب شئونها.
- وبعد أن فتح على الأهالي أنفسهم باب الإسراف والرَّفَهِ في المعيشة تقليدًا
للمقربين من مسند الخديوية ومن يليهم ، وذلك قبل أن يعرفوا لنفقاتهم ميزانًا صحيحًا
يعادلون به بين ما بأيديهم من الأموال وما ينفقون في اللذات.
- وبعد أن نشأ عن هذا وعن شَرَهِ الحُكَّامِ في التحصيل وعدم رعايتهم لِمَا عليه
الأهالي مِن غِنًى وفقر ، واستعمالهم أشد العقوبات في سلْب ما بأيديهم أن اضطر
الأهالي إلى التداين بالربا الفاحش ، حتى كان صاحب الأرض يأخذ مِن المرابي
المائة بمائة في ثلاث أشهر ، ولم يكن يرى في ذلك عيبًا ، ولا يخشى عاقبةً ، فإن
أمامه القدوة العظمى ، وهي الحكومة تستلف النقود بمبالغ من الفائدة لا يمكن لِعَقْل
عاقلٍ تصديقها لو نُسِبَت إلى حكومة ما لو لم يَرَهَا بِعَيْنِهِ.
- وبعد أن صار للربويين بذلك سُلْطَةً على الأهلين وطمع في أموالهم،
يفوقان سلطة الحكام وطمعهم.
- وبعد أن تعود كثير من الذين يسمونهم أكابر البلاد وأعيانها، أو ذوات
الحكومة وأمراءها، على أن ينالوا من الحكومة ما يشتهون في الوقت الذي يريدون
متى صادفوا مكانًا مِن رِضَى الخديو ، أو بعض المقربين إليه ، فكانوا يُسَخّرون
الأهالي في أعمالهم الخاصة ، ويتصرفون فيهم كما يتصرف الراعي في ماشيته
بدون أن يراعي أحد منهم في ذلك نظامًا ولا عدلاً ، ولا استبقاء منفعة من يوم إلى
آخر ، وتعود الأهالي على الشكوى إلى الله وَحْدَهُ مِن ضِيق الحال ، وخمود العزائم
وانطفاء مصابيح الرُّشْد في جميع الطبقات.
- وبعد أن صار كل واحد من الناس في خوف دائم ، واضطراب لا يهدأ على
نفسه وما بيده، إذا تكلم تَتَعْتَعَ في كلامِه، وإذا قصد أمْرًا خَطَا إليه على هدى
يتلفت وراءَه خوفَ مفاجأته بما يكره.
- وبعد أن كانت الفاقةُ قد شملت جميع الطبقات الدنيا والوُسطى حتى خِيفَ
القحط العامّ لو استمرت الحكومة على سيرها الماضي سنة أخرى من الزمان.
- وبعد أن صارتْ عيون الناس بأسرهم شاخصةً إلى ما عساه ينزل من
السماء لِيَمُدهم بالمعونة على الخروج مما هم فيه.
هذه كانت حالة البلاد عندما تولى المرحوم توفيق باشا مسند الخديوية فيها،
هذه كانت شدائد مهلكة، وظلمات حالكة، يضلّ فيها الرشيد، ويتعثر فيها العزم
الشديد. اهـ المراد مما كتبه هناك.
وقد استطرد منه إلى بيان اعتقاد أهل مصر في حكامهم إلى ذلك العهد ، ثم إلى
بيان ما أحدثه السيد جمال الدين من الانقلاب في الأفكار ، وقد سبقت الإشارة إليه،
وكان كل ذلك من مبادي الحوادث العرابية ومقدماتها، وإن شئت قلتَ من عللها
وأسبابها، فكل ما كتبه عن سوء حال البلاد في حكم إسماعيل لم يكتب على سبيل
القصد ، ولم يرد منه الاستقصاء في بيان الحال، فَضْلاً عن المبالغة في التقبيح
والتنفير، فهل يُلَامُ من له عقل يفكر، وقلب يشعر، إذا مقت ذلك الأمير، وتمنى
لو يغتاله أحد من أولئك المظلومين المقهورين ، أو استحسن تمني من تمنى ذلك؟
* * *
(الشيخ محمد عبده وموقف حزبه بمصر)
وهناك مسألة أخرى عدها بعض الناس قدحًا من اللورد في الشيخ محمد عبده
وحزبه ، وهي قوله فيهم: إنهم (أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم ، وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه)[10] . والحق أن هذه العبارة لا ينتقد منها لفظها ، فهي
مدح كتب في حال استياءٍ وامتعاضٍ ، فجاء شبيهًا بالذم؛ إذ توهم أنهم دون الفريقين
في علم أو فضل ، ومعناها الحقيقي أن هؤلاء القوم وَسَطٌ بين طرفين مذمومين؛
طَرَف المتشددين في المحافظة على الرسوم والتقاليد القديمة باسم الدين ، وطرف
المتغالين في تقليد الإفرنج الذين أضاعوا دينهم وثروتهم في ذلك ، وقد بالغ اللورد في
ذمهم. ولم يرد اللورد بهذه العبارة إلَاّ ما أوضحه في تقرير سنة 1905 من أن حزب
الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر ، الذي يناط بنجاحه استقلال
هذه البلاد الاستقلال الحقيقي ، فلا فَرْقَ بين عبارته في التقرير وعبارته في التاريخ
في بيان المراد إلَاّ أن إحداهما كتبت في حال رضى ، فمثلت المعنى مضيئًا واضحًا ،
والثانية كُتِبَتْ في حال السَّخَطِ ، فغشي المعنى غاشية من ظلمة الإيهام.
وقد زلَّ قَلَمُ اللورد بسوء تأثير وجدان السخط زلةً أشنعَ مِن هذه ، لعله إذا
ذكرها يعرق من الخجل ، وهي أنه ذكر في التقرير أن توفيق باشا صفح عن الشيخ
محمد عبده (طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق)[11] ، وقال في كتاب
مصر الحديثة: إنه عفا عنه (بما فطر من مكارم الأخلاق ، وانقيادًا لتشديد الإنكليز
عليه في ذلك) [12] ، فزيادة انقياده لتشديد الإنكليز نقضت ما قبلها الموافق لِمَا ذكر
في التقرير ، فإن العفو إذا كان عن انقياد لتشديد الإنكليز لا يكون عن حلم وكرم
خلق ، وإلا فلا أثرَ لتشديد الإنكليز بل لم يكن هناك حاجةٌ إليه.
فاللورد جدير بأن يخجل من هذه العبارة إذا قابلها بعبارة تقريره في المسألة؛
لأنها جعلت كلامه متناقضًا أو متعارضًا ، وأبانت أن يحابي في المدح عند الرضى ،
فإنه جعلَ عَفْوَ توفيق باشا عن الشيخ محمد عبده عند رضاه عنهما معًا كَرَمًا وحلمًا
وكرم خلق ، فلما سخط من الثاني جعل ذلك العفو ناشئًا عن تشديد من الإنكليز في
طلبه لا عن مجرد الطلب ، فيُقال: إنه طلبٌ وافقَ حلمَ توفيق وكرم خلقه ، وإنما
أراد اللورد بذلك أن يظهر فضله عليه؛ ليثبت أنه أساء إلى مَنْ أحسنَ إليه، بما
أظهر عن عيوب سياسة الاحتلال وإدارته لمستر بلنت. والمؤرخ المحابي متهم لا
يوثق بمدحه لمن يرضى عنه، ولا بذمه لمن يسخط عليه، على هذه القاعدة نقول:
إن ثناء اللورد على الشيخ محمد عبده في كتاب مصر الحديثة يعد بما فيه من الشوائب
منتهى الفضل ، وشهادة اللورد به شهادة جديرة بالاعتبار والإيثار ، وهو يلخص في
هذه الكلمات:
(1)
أنه أحسن العمل في القضاء ، وأدى الأمانة حقها.
(2)
كان واسعَ الرأي.
(3)
كان على علم ونباهة.
(4)
كان عدوًّا للخديويين والباشوات غير الصالحين.
(5)
كان وطنيًّا حقيقيًّا ، ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكثر أمثاله.
(6)
أنه أسس في مصر مدرسةً فكريةً.
(7)
أن له في مصر حزبًا معتدلاً يجمع بين أصول الإسلام والمدنية.
(8)
أن أتباعه هم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون الجديرون بمساعدته.
(9)
أن له برجرامًا لجَعْل مصر مستقلةً استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا.
(10)
أن تقدم أتباعه خير رجاء له في تنفيذ برجرامه هذا.
فَحَسْبُنَا من اللورد الشهادةُ بهذه العَشْرِ ، ولا يضرنا معها ظنه أنه كان لا أدريًّا،
ولا جزمه بأنه كان خياليًّا، ولا إيهام عبارته أن حزبه الوسط دون كل من الطرفين
الذي هو وسط بينهما.
نعم كان حزب الشيخ محمد عبده معه ، ولا يزال من بَعْدِه وسطًا بين
المحافظين الجامدين، والمتفرنجين المقلدين، ومنهم من هو أقرب إلى هؤلاء ومَن
هو أقرب إلى أولئك، أمّا الشيخ نفسه فقد كان من آياته أن أذكياء كل فريق من
المتفرنجين والجامدين يجلّونه مع احتقار كل منهما للآخر. وقد عرَفَ أصحاب
المقطم والمقتطف من كنه هذه المزية ما لم يعرفه اللورد ، أو صرحوا بما لم يصرح
هو به؛ إذ قالوا في تأبينه بالمقطم (ع4952) ما نصه [13] :
فأول مزية امتاز بها الفقيد أنه كان في مقدمة كل فريق من الفريقين اللذين
انقسم إليهما المصريون في هذا العصر؛ فقد كان علمًا يهتدي بنور علمه فريق
المحافظين ، الذين لا يروقهم غير ما جرى عليه المتقدمون كالعلماء والأئمة وطلبة
العلوم الدينية واللغوية ومن جرى مجراهم. وكان قائدًا للآراء ومدبّرًا للأفكار عند
الفريق الذي جعل شعاره التقدم والارتقاء من أبناء هذا العصر ، الذين يرون أن
القديم لا يغني عن الحديث ، وأن من لا يتقدم يتأخر ، والسكون المطلق محال.
ونقول - ولا نخشى في الحق لومةَ لائم -: إن الفقيد فاق الأقران كلهم في هذه
المزية حتى انفرد فيها أو كاد ، إلخ.
وكتبوا في الجزء الثامن من المجلد الثلاثين لمجلة المقتطف ما نصه [14] :
(وكان ذكي الفؤاد بالطبع ، قوي الحُجة ، حَسَنَ المحاضرة ، لا يخاف في
الحق لومةَ لائم ، ولا يتهيب الكبراء والعظماء لمجرد ما هم أو ما أدركوه من رفعة
المقام؛ فاستطاع أن يكون عَلَمًا يهتدي بنور علمه المحافظون الذين لا يروقهم إلَاّ ما
جرى عليه المتقدمون كأكثر العلماء وطلبة العلوم الدينية واللغوية ومن جرى
مجراهم؛ لأنه كان على ثقة فيهم - وعضدًا قويًّا لأبناء هذا العصر الذين استناروا
بالعلوم الحديثة والآراء الجديدة، ومرشدًا صادقًا للذين يطلبون الاستنارة بها
والسير في سبيلها) ، إلخ.
هذا رأي أصحاب المقطم والمقتطف سقناه إلى اللورد؛ لأن مثبتيه غير
متهمين عند اللورد بقلة المعرفة ، ولا بالتشيع للشيخ محمد عبده.
وإذا أراد اللورد أن يعرف مكان الأستاذ الإمام من نفوس أرقى الطائفتين
(المحافظين والمتفرنجين) فَلْيَقْرَأْ ما أَبَّنَهُ به الشيخ أحمد أبو خطوة أرقى الأزهريين
علمًا وفهمًا ، وقاسم بك أمين أرقى المتعلمين في أوربا ، واللورد يشهد بنبوغه وقد
أثنى عليه في خطبته التي ودّع بها مصر ذلك الوداع المشهور.
قال القاضي الشرعي الشيخ أبو خطوة في ابتداء كلامه: (اجتمعنا اليوم هنا
حوالي هذا القبر المجلل الموقر الذي انتهى إليه أمر الإمام الكبير الأستاذ الشيخ محمد
عبده) إلخ ، ثم فصل إصلاحه للأزهر وللمحاكم الشرعية تفصيلاً.
وقال القاضي الأهلي قاسم بك في ابتداء كلامه: (مهما قَلَّبْنَا النظرَ ، ودققنا
في البحث والتفتيش فلا نجد في أمتنا من يعوض علينا ما خسرناه بفقد أستاذنا الشيخ
محمد عبده) وقال: إنه (وصل إلى أسمى مقام يمكن أن يناله إنسان في هذه الحياة
...... مقام الإمامة بأوسع معناها تركه الشيخ محمد عبده ، ولا يوجد في مصر واحد
يجرأ على أن يدعي فيه استحقاقًا بعده) ثم قال:
(سادتي: إن كل نفس بشرية لها نصيب من الجمال والقبح، والجمال
المطلق لا يوجد في هذا العالَم ، ولكن بعض النفوس الممتازة تقرب من الكمال أكثر
من غيرها ، فتنمو زهرة الجمال فيها نموًّا عجيبًا ، وتتكاثر فروعها، وتمتدّ طولاً
وعرضًا ، ولا تترك محلاً لسواها فيضعف ويذبل كل نبات خبيث بجانبها. ومن هذا
القسم الممتاز كانت نفس إمامنا العزيز. نفس خلقت على أحسن شكل زينها
صاحبها بالفضائل حتى صارت مثالاً في الجمال ، يجب أن نضعه دائمًا أمامنا لِنعلمَ
منه) كذا وكذا ، وذكر بعض مزايا الإمام ، ثم قال:
(ونتعلم منها أيضًا مبلغَ ارتقاء الخلق في إنسان أجهد نفسَه ورباها حتى
أرسلها إلى أقصى ما تصل إليه نفس بشرية من الجمال والكمال) .
وبهذا نكتفي في هذه المسألة التي يعرف منها طريق اللورد في الكلام عن
رجالنا ، وننتقل منها إلى المقصد الأهم وهو كلامه في الإسلام والمسلمين ، فنقول.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
ص364 من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام.
(2)
ص329 منه.
(3)
راجع ص95 من الجزء الماضي.
(4)
راجع ص94 من الجزء الماضي.
(5)
تقدمت الإشارة إلى هذه اللائحة.
(6)
جاء ذلك في بعض أعداد سنة1905 منها - راجع ص228 من مجلد المنار العاشر.
(7)
راجع صفحة 94 من الجزء الماضي.
(8)
راجع ص96 من الجزء الماضي.
(9)
ذكر ذلك في ص355 من جزء المقتطف الرابع الصادر في إبريل الماضي.
(10)
راجع ص95 من الجزء الماضي.
(11)
راجع ص90 من الجزء الماضي.
(12)
ص95.
(13)
ص45 من الجزء الثالث من تاريخ الأستاذ الإمام.
(14)
ص103 من ج3 من التاريخ المذكور.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
القرآن والعلم
(1)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
اشتبه بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم الباحثين في الإسلام في
آيات كثيرة من القرآن الشريف لم يفهموا معناها الصحيح بسبب ما وجدوه في بعض
كتبنا من التفاسير السخيفة والآراء السقيمة. وقد اتبعهم في ذلك دعاة المسيحيين
متخذين بعضَ آراء هؤلاء المستشرقين ذريعةً للطعن في الكتاب العزيز ناسِبِينَ إليه
الجهلَ والخطأَ؛ لتشكيك عوامّ المسلمين في دينهم القويم.
وقد سبق لي أن تكلمت على كثير من هذه الشبهات في (مقالات الدين في نظر
العقل الصحيح) بما يشفي العِلّة، ويروي الغُلّة، ولكن فاتني أن أستقصيها
جميعًا إذ ذاك؛ فلذا رأيت الآن أن أستدرك ما فاتني خِدمةً للإسلام ، وتذكيرًا للعلماء
كي ينظروا في هذا الدين ، ويقدروه قدره. فإنه ما نظر فيه عالم محقق من أي وجهة
كانت إلَاّ وجد الحق والصواب عمادًا لجميع مبانيه، والعلم والعقل أساسًا
لكافة عقائده وأوامره ونواهيه، وقد رأيت أن أذكر الآية أولاً، ثم أعلق عليها بما يفتح
الله به عليَّ حتى يتضح الدليل، وتستبين السبيل، فأقول وبالله أستعين:
المسألة الأولى
(الحجر)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} (الحجر: 80-82) .
اعلم أنه يوجد بين العقبة والبحر الميت مدينة شهيرة عند السائحين تدعى
باللغة اليونانية (بترَا) أي: الصخرة ، وهي المسماة في العهد القديم بمدينة (سالع)
كما في سفر الملوك الثاني (14: 7) وفي كتاب أشعيا (16: 1) وَكِلَا
الاسْمَيْنِ: (بترا) و (سالع) بمعنى واحد ، لكنهما بلغتين مختلفتين.
يحيط بهذه المدينة جبال وعرة ، أعلاها جبل هور المذكور في سفر العدد (33: 38) ولذلك كان اليهود يسمون أهلها الأولين بالهوريين ، ومعناه: سكان
الكهوف؛ لأن بيوتهم منحوتة في الصخور ، ومنظر هذه المدينة من أعجب
المناظر.
فلما رأى بعض سياح الإفرنج هذه المدينة، وسمع ذكر (الحجر) في القرآن
الشريف ظن أن هذه الكلمة ترجمة لفظ (بترا) اليوناني لتوهمه أنها بفتح الحاء
والجيم (الحَجَر) وبنى على ذلك أن (الحجر) في القرآن هو (سالع) في العهد
القديم.
ولَمَّا كانت مدينة سالع هذه معروف عنها ما ينافي أن أهلها أهلكهم الله
بالصَّيْحَة ، وما يدل على أنها كانت عامرةً بالسكان إلى ما بعد الميلاد بقليل أخذوا
يطعنون على القرآن الشريف ، وينسبون إليه الخطأَ والجهلَ بالتاريخ ، والله يعلم
أنهم لَكَاذِبون؛ إذ لولا تسرعُ هؤلاء الحَمْقَى وجهلهم لعلموا أن الحِجْر بكسر الحاء
وسكون الجيم غير بترا أو سالع ، وأن إحداهما تبعد عن الأخرى بُعْدًا عظيمًا ، فإن
الحجر قرية صغيرة على خط سكة الحديد الحجازية الآن إلى جنوب دُومَة الجَنْدَل،
وتنزل بها حُجاج الشام، وتسمى بمدينة صالح وهو النبي الذي أرسله الله إلى أهلها
(ثمود)، ولا تزال إلى الآن آثار مساكنهم التي كانوا ينحتونها في جبالها المسماة:
(أثالب) كما قال في دائرة المعارف العربية ، ويمكن لكل أحد أن يذهب إليها وإلى
سالع لِيَرَى بِعَيْنَيْ رأسه أنهما مدينتان متباعدتان في موضعين مختلفين ، وأن المسافة
بينهما تقارب ما بين الإسكندرية والعقبة ، وأن الحِجْر في الجنوب الشرقي لسالع.
ومعنى الحِجْر: المكان الذي حوله حجارة ، وهو غير معنى (سالع) أي:
الصخرة. وما يزعمه بعضهم أن جميع ما نراه فيها من البيوت كانت قبورًا لا مساكنَ
لم يَقُمْ دليلٌ على صحته ، كذاك لا يبعد أن بعضها كان كذلك ، والقرآن لم
يقُلْ إن جميعها كانت مساكِنَ ، ولا أن جميع مساكنهم كانت منحوتةً في الجبال. بل
قال: إن بعض المساكن كانت تبنى على الأرض ، والبعض الآخر ينحت في الجبال
كما في سورة الأعراف: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ
الجِبَالَ بُيُوتاً} (الأعراف: 74) إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (الأعراف: 78) فكانت لهم قبورًا بعد إهلاكهم ، وإن لم
تكن جميعها كذلك في أول أمْرِهِم. ومن ذلك تعلم خطأَ ما قاله المستشرق الشهير
مرجليوث في كتابه المسمى (محمد) في هذه المسألة.
* * *
المسألة الثانية
(الإسراء وتاريخ بيت المقدس)
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى
المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) .
المسجد الحرام هو: الحَرَم المَكِّيُّ والمسجد الأقصى هو: بيت المقدس. وهذا
البيت كان خَرَّبَهُ تيطس الروماني سَنَةَ سبعينَ للميلاد ، وأحرقه بالنار ، فلم يكن له
وجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ آثارًا وأطلالاً؛ فكيف يقول القرآن
الشريف: إن النبي أسرى به إليه؟
الجواب [1] :
المسجد في اللغة: مكان السجود والعبادة ، ولا يُشترط فيه أن يكون محاطًا
بالبناء ، ولا أن تكون سُقفه مرفوعةً على أعمدة أو نحو ذلك مما اعتاده الناس الآن ،
وما كانت مساجد العرب في مبدأ الإسلام إلَاّ أمكنةً بسيطةً خاليةً من الأبنية الضخمةِ
والزخرف والزينة ، وكل مكان يعبدون الله فيه يسمونه مسجدًا لهم ، بل سَمَّى رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم جميعَ الأرض مسجدًا لِصِحَّةِ العبادة في أي جزء منها؛
فقال: (وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورَا) فلا يلزم من قول القرآن: إن النبي
أُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى. أنه كان إذ ذاك مبنيًّا مَشِيدًا ، كما كان قَبْلَ تخريب
الرومان له.
ولذلك كان العرب يذهبون إلى أورشليم وغيرها من بلاد الشام ، ويعرفون ما
كان عليه المسجد الأقصى من الخراب ، ومع ذلك لم يسمع من أحد منهم انتقاد على
عبارة القرآن الشريف هذه ، أو تردد في فهمها ، أو تكذيب للنبي صلى الله عليه
وسلم فيها؛ وغاية ما سُمِعَ منهم تكذيبه في ذهابه إلى هذا المسجد بهذه السرعة
العجيبة ، لا في وجود ما يسمى عندهم بالمسجد الأقصى ، وإنْ كان خربًا.
على أن الظاهر أن القرآن الشريف يريد بالمسجد الأقصى بلدَةَ: (أورشليم) ،
وبالمسجد الحرام: (مكة) أي: إنَّ النبي سار ليلاً من مكة إلى أورشليم؛ لأن
المسجد الحرام ما كان بيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم ينام فيه ، بل كان نائِمًا في
بيت أم هانئ أحد بيوت مكة ، كما جاء في الروايات الواردة في هذه المسألة.
فالقرآن أطلق هنا المسجد الحرام على مكة ، وأطلق المسجدَ الأقصى على
أورشليم من باب تسمية الكل بالجزء الذي هو أعظم وأشهر شيء فيه.
ومثل هذا الإطلاق شائع في العربية وغيرها ، وكثير في القرآن الشريف؛
ولذلك وردَ تسمية الحرم كله بالبيت العتيق كما في قوله تعالى في الذبائح: {لَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ} (الحج: 33) ، مع أن
الذبح لا يعمل في نفس البيت ، وإنما يعمل في (مِنى) بالقرب منه.
أمّا ما وردَ في بعض الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط زمام
البُراق في إحدى حلقات بيت المقدس ، فالأقرب عندي أن هذه الروايات وأمثالها هي
مما وضعه الواضعون بعد تعمير بلاد المسلمين لهذا البيت؛ أي: بعد فتح عمر لبلاد
الشام وإقامة مسجد مكان الهيكل (بيت المقدس) وقد غاب عن هؤلاء الواضعين
هذه الحقائق كما هو شأن الكذابين ، فلم يعرفوا أن ما يشاهدونه في زمنهم لم يكن في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم [2] .
واعلم أن القرآن الشريف قد ذكر تاريخ بيت المقدس ، وما لحقه من التخريب؛
فلا يُقال: إننا فيما قلنا ملفقون أو إننا لأجْل دِفاعِنا عن القرآن ننسب إليه ما لم
يعرفْه ، ولم يخطر على بال مؤلفه كما يقولون. بل ورد فيه في نفس هذه السورة
(الإسراء) بعد الآية السابقة قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ
لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ
عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 4-5) هم بُخْتَنَصَّرُ وقومه الكلدانيون ، {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: 5) اليهودية؛ أي: جالوا، وترددوا فيها للنهب
والقتل والسلب والسبي والتدمير ، {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} (الإسراء: 5) {ثُمَّ رَدَدْنَا
لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} (الإسراء: 6) بأن أرسلنا عليهم كورش ملك فارس ، فدَمَّر
مملكتهم ، وفتح بابل ، وأنقذ اليهود من أسرهم ، وأكرم مثواهم ، وأحسن إليهم ،
وردهم إلى بلادهم؛ فصاروا فيها أعزاء ، وسادوا على أعدائهم الذين تركهم
الكلدانيون فيها تحت رعايتهم ، فعاد إلى اليهود شيء كبير من مجدهم السابق ، ثم عَمَّروا بيت المقدس الذي كان خَرَّبَه بختنصر وأحرقه ، وصاروا يقيمون شعائر دينهم
فيه كما كانوا يفعلون من قبلُ {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} (الإسراء: 6) فرجعوا من الأسر بأشياء كثيرة من الذهب والفضة، وبأمتعة،
وبهائم، وتحف، وغيرها كما في سفر عزرا (1: 4 -11) {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ
لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} (الإسراء: 7) .
العقوبة الثانية {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 5) {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ
وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ} (الإسراء: 7) أي: بيت المقدس {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا
مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} (الإسراء: 7) فدخله تيطس الروماني بجيشه ، ونهبه وأحرقَ
الهيكل ودمَّرَه تدميرًا كما فعل الكلدانيون مِن قبلُ ، وتشتت اليهودُ بعد ذلك في العالم
ولم تعد إليهم الدولة إلى الآن.
وإنما قال القرآن: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الإسراء: 7) مع أن الداخلين
المدمرين للمسجد في المرة الثانية غيرُ الذين دمروه في المرة الأولى؛ لأن الجامع
بينهم شيء واحد ، وهو كونهم جميعًا عبادًا لله ، فإنه قال في أول القصة: {بَعَثْنَا
عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 5) بدون ذِكْر جنسهم.
وهذا على حد قولك: (دخل الأوربيون الجامع الأزهر مرة ثم دخلوه مرة
أخرى) مع أن الداخلين في المرة الثانية قد يكونون إنكليزًا وفي الأولى فرنساويين
ولاشتراكهم في الوصف (وهو كونهم أوربيين) كان هذا التعبير صحيحًا ، ومِثْل
ذلك قوله تعالى مخاطبًا ليهود العرب: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة: 55) مع أن ذلك لم
يحصل لهم ، وإنما حصل لبني إسرائيل في زمن موسى ولاشتراك يهود العرب معهم
في الدِّين جاز هذا التعبير ، وهو شائع في جميع اللغات.
فمما تقدم تعلم أن القرآن الشريف ذَكَرَ أن المسجد الأقصى خُرِّب مرتيْنِ ، وذكر
لليهود عقوبتين، الأولى: ما أوقعه الكلدانيون بهم ، والثانية: ما فعله الرومانيون.
أما الواقعة الأولى فقد تَمَّتْ في سنة 587 قبل الميلاد ، وبها زال استقلال
اليهود ، وصاروا خاضعين للكلدانين ، ثم الفرس، ثم اليونان ، ثم الرومان.
وأما الثانية؛ فقد تمت في سنة سبعين بعد الميلاد ، وبها تَشَتَّت اليهود في
أنحاء العالم ، وَقُضِيَ عليهم قضاءً أَبَدِيًّا.
ومِن ذلك تعلم أن هاتين الواقعتين يدور حولهما تاريخ الأمة اليهودية ، وعليهما
يُقام هيكله؛ فلولا وَحْي الله لَمَا أمكنَ لذلك العربي الأمّيّ العامّيّ الناشئ بين الوثنيين
أن يستخلصها من تاريخ الأمة اليهودية الطويل العريض ، وليس في بلاده كتب
يرجع إليها ، بل لا يتيسر له إذا أراد ولم يقم على تربيتة معلم ، وليس له مدارس؛
ومع ذلك قد لخص هذا التاريخ الكبير في كلمة صغيرة هي نهاية الإعجاز وعِبْرَة
العِبَر وحِكْمة الحِكَم مع ما فيها من الإشارات الدقيقة إلى الحقائق التاريخية التي
يفهمها الراسخون في العلم.
هذا وقد كان أسْر اليهود إلى بابل من أكبر ما حَلّ بهم من المصائب حتى كانوا
كلَّ يوم ينتظرون الفرج والخلوص العاجل ، وقد كان كورش ملك فارس المخلص
الأكبر لهم من ذلك ، وكانوا يسمونه مسيح الرب (أشعياء 45: 1) فلذا كثر
الثناء عليه في كتب العهد القديم لإنقاذه إياهم من المحن والبلايا والرزايا التي حَلّتْ
بهم في بابل ، التي أطنبت كتبهم في وصفها وتعديدها ، وأنذرهم الأنبياء بها قبل
وقوعها ، ثم صاروا يبشرونهم بالخلاص منها.
وهذا هو سبب ورود لفظ الخلاص ونحوه كثيرًا في كُتُب العهد القديم ككتاب أشعياء وغيره مما صار النصارى يزعمون أنه رموز إلى المسيح عيسى عليه السلام والحقيقة أنه لا علاقةَ لأكثره به ، ولكنهم ولعوا وولع مؤلفو العهد الجديد بذلك من قبل حتى إنهم كانوا ينسبون للمسيح عليه السلام من الحوادث ما ينسبون، ثم يستشهدون عليها بعبارات في العهد القديم كاستشهاد مَتَّى (2: 15) بكلام
هوشع عن خروج بني إسرائيل من مصر (إصحاح11: 1) وزعمه أن ذلك نبوة
عن المسيح عليه السلام وكاستشهاده في الإصحاح 27: 9 بكلام يزعم أن أرميا
النبي قاله مع أنه لا وُجودَ له في كتابه ، وإنما يوجد في كتاب زكريا بعض ألفاظ
تشبهه (إصحاح 11: 13) ولا مناسبةَ بينهما وبين ما يقوله مَتَّى في إنجيله؛
وإنما ذكرنا ذلك إبطالاً لِدعاويهم العريضة وردًّا لكيدهم وتحاملهم على القرآن
الشريف مع الجهل والتعصب كما بيناه ونبينه.
وَلَمَّا أُصِيبَ اليهود للمرة الثانية بِما أُصيبوا به من الرمانيين صاروا يترقبون
مجيء مخلِّص لهم ككورش ، وهم إلى الآن ينتظرون ذلك! .
هذا شيء من تاريخ اليهود ذكرناه هنا تفصيلاً لِتفسير ما جاء في أول سورة
الإسراء ، ومنه تعلم أن القرآن الشريف ذكر تخريب المسجد الأقصى في المرتين ،
فلا يُقال: إنه أخطأ وجهل التاريخ كما يدعي جهلة المسيحيين افتياتًا عليه ورغبة
منهم في تكذيب حادثة الإسراء وهي كما ترى ليس فيها شيء ينافي العلم، أو
يناقض حكم العقل الصحيح. وما نشاهده من حركات الأجرام الكونية ، وما اخترعه
البشر من آلات البخار والكهرباء يُقَرِّب إلى العقل تصور تلك الحركة
السريعة التي حصل بها الإسراء ، إن كان ذلك جسمانيًّا كما عليه جمهور المسلمين ،
وأما إن كان روحانيًّا أو رؤيا مَنَامِيَّة كما عليه بعضهم فلا شبهة عليه ، والله أعلم.
(لها بقية)
…
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: راجع ص 699 وما بعدها من المجلد السادس.
(2)
المنار: في ص701م6 توجيه لهذه المسألة مبني على صحة الحديث.
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
السنن والأحاديث النبوية
(بحث النسخ)
قال حضرة الدكتور: (النسخ هو إبطالُ حُكْمٍ لبدل أو لغير بدل) .
وأقول: ما ذكره من تعريف النسخ غير كافٍ ولا وافٍ؛ فإنه غير جامعٍ ،
ولا مانعٍ ، ولا نطيل بالمناقشة فيما يتعلق بالعبارة؛ إذ مراده بذلك الكلام على النسخ
المعروف عند المسلمين ، وهو صريح في اختياره النسخ بمعناه عند المتأخرين - أمّا
هو في عُرْف السَّلَف ، فهو زيادة على ما ذكره يعم رفع دِلالة العامّ ، والمطلق ،
والظاهر؛ إمّا بتخصيص أو تقييد أو حمل على مقيد وتفسيره وتبيينه.
قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: حتى إنهم ليسمون الاستثناء والشرط
والصفة نسخًا؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد؛ فالنسخ عندهم وفي
لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ ، بل بأمر خارج عنه ، وبذلك تزول إشكالات
أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر - انتهى ملخصًا -
وهل الإنساء والنسخ شيء واحد أم هما شيئان؟
ذهب بعض السلف إلى الأول ، والظاهر أنه أَعَمُّ من النسخ ، أمّا على قول مَن
قال: إن معناه التأخير والإرجاء. فهو قبل نزوله وأوان ظهوره للتكليف لا يوصف
بنسخ ولا عدمه.
واعلم أيها القارئ أنه يتفرع على النسخ بمعناه عند الخلف خلاف بينهم ، هل
يجوز نسخه بالآحاد الصحيحة ، أم ببعضها دون البعض؟ أما السلف: فلا نعلم
عنهم خلافًا في جوازه.
قال حضرة الدكتور: فالنسخ عندنا لا يقع إلا في الأحكام (الأوامر والنواهي)
ولا يقع في القصص أو القضايا العقلية؛ إذ لا معنى لوقوعه في ذلك.
وأقول: إذا سلمنا أن معنى النسخ هو ما ذكره المتأخرون حيثُ قالوا في
تعريفه: (هو أن يدل على خلاف حكم شرعي دليل شرعي متراخٍ) فلا شَكَّ أن
المنسوخ لا يجوز أن يكون من الإخبار عن الأمور الماضية أو الواقعة في الحال أو
الاستقبال؛ مما يؤدي نسخه إلى كذب أو جهل - بخلاف الإخبار عن حل الشيء أو
حرمته ونحوها؛ فإنه يجوز النسخ في هذا الأخير ، وكذلك القضايا العقلية لا يجوز
النسخ فيها لإفضاء ذلك إلى الجهل ، وكذلك إذا قَيَّدَ نصًا بتأييد أو توقيت فلا يجوز
نسخه لاستحالة العبث والجهالة.
أما إذا فسر النسخ بمعناه عند السلف فلا مانع من وقوعه في كل ما ذكرناه؛
لأنهم لم يشترطوا في الناسخ منافاة المنسوخ. ودونك ما ذكر الحافظ ابن كثير في
تفسيره عنهم بعد قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) قال ابن جريج ، عن مجاهد: ما نمحو من آية ، وقال
ابن أبي نجيح عن مجاهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) . قال: نثبت
خطها ونؤيد حكمها. حدَّث به عن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. وقال ابن
أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك ، وقال
الضحاك: ما ننسخ من آية ، ما ننسك. وقال عطاء: أما ما ننسخ ، فما نترك من
القرآن وقال ابن أبي حاتم: يعني ترك ، فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال السُّدِّيّ: ما ننسخ من آية نسخها: قبضها. قال ابن أبي حاتم: يَعْنِي قبضها
رفعها مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيَا فارجموهما ألبتة) وقوله: (لو كان
لابن آدم واديانِ من ذهب لَابْتَغَى لهما ثالثًا) وذكر عن ابن جرير ما مؤداه اختيار
مذهب المتأخرين في تفسير معنى النسخ ، وأنت ترى بُعْدًا بين ما فهموه وما فهمه
المتأخرون إلا ما نُقل عن أصحاب عبد الله بن مسعود، لكنه محمول على ما هو
معروف عن السلف من أنهم كثيرًا ما يفسرون الشيء ببعض معانيه نظرًا لِحال
السامع تارةً ، ولما يقتضيه المقام تارةً ، ولظهوره في باقي معانيه الأخرى ، ولم
يكونوا ليحدوا الأشياء بالحدود والتعاريف التي اصطلح عليها المتأخرون ، فإذا كان
النسخ عندهم مفسرًا بالرفع والقبض الذي هو أعمُّ عند المتأخرين فالله جَلَّ شَأْنُهُ ينزل
على رسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام في جميع أنواع الموضوعات والقصص
والأخبار للإذعان والاعتبار ، وردًّا على المعاندين الكفار ، فإذا قامت الحُجّة ،
وحصل لرسوله صلى الله علية وسلم الفَلْج وعليهم الغَلَبَة ، فالعقل لا يوجب إبقاء
الحُجة مسطورةً مكتوبةً ، كما أنه لا يجب ولا يلزم حبس وإبقاء الجيش العظيم على
البلد بعد فتحها ، وكما أن الأحكام تختلف باختلاف حال المكلفين، كذلك التعاليم
الأخلاقية ونحوها تختلف باختلاف أحوالهم أيضًا - فإذا أنزلَ الله على رسوله صلى
الله عليه وسلم ما شاء من أخبار أو غيرها لمقتض ولمصلحة ، ثم رفعها على ما لها
من الإجلال فائزة بالنصر ، وقهر الأعداء غير منقوضة بريب أو تكذيب لا سِيَّمَا
إذا أحل وأنزل بدلها ما هو أنسب وخير منها لنا ، فيا تُرَى أي جهل وعبث يلزم؟!
فسبحان ربك رب العزَّة عما يصفون.
ثم قال حضرة الدكتور: فلسنا ممن يسلم القول بنسخ لفظ بلفظ كما يتوهمون
أو بنسخ لفظ وإبقاء حكمه كما يزعمون. واستدل على ذلك باستلزامه الجهل أو
العبث.
وأقول: هذا الاستبعاد من حضرة الدكتور منشؤه عدم الإمعان في معاني
القرآن؛ لأن الله جَلَّ شَأْنُهُ وعظم سلطانه ذو الكمال وخالق الكمال النسبي ، وكلتا
يديه يمين فهو يعبر لرسوله صلى الله عليه وسلم عن شئونه بما شاء مما هو كافٍ
في إعجاز مخلوقه القاصر والمعاند الكافر ، ولا محذور في أن يرفع عبارة (قد
اعتبروا) بمدلولها ثم يكررها ثانيًا لمقتض في قالب عبارة وألفاظ أكمل من الأولى ،
أو أنسب بالحال منها فإنه ما من كمال نراه إلا وعند الله أكمل منه ، والكل بالنسبة
إلينا معجز وكمال كما قال تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} (البقرة: 106) .
ومما يوضح ذلك ويقربه ما هو في المُحْكَم بين دَفَّتَيِ المُصْحَفِ مِن ذِكْر القصة
الواحدة في مواضعَ متعددةٍ بألفاظٍ وعبارات متغايرة لفظًا متحدةً مَعْنًى ، وقد تراها
بزيادة ونفص ، وما ذلك إلا لاختلاف ما يقتضيه الحال لسوقها في الاستشهاد بها
ولاختلاف أحوال المتلقين عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن منهم من يميل إلى
التطويل وحفظه ، ومنهم من يميل إلى الاقتصار على الاختصار إما لعدم الفرص أو
غير ذلك - فإذا حسن ذكر القصة الواحدة بعبارات وألفاظ متغايرة لفظًا مع بقاء الكل
فجوازه كذلك بعد رفع الأول ونسخه أولى وأحرى ، وهذا ظاهر لا غُبَارَ عليه -
على أنه قد يُقَال: لم لا تسلم وتحمل ذلك على ما نزل قبل التحدي بالإعجاز؟
وإذا رفع بالنسخ أو الإنساء ما هو كذا فقد قدمنا الحكمة فيه وسببه ، وإذا بقي
محفوظًا لأفراد لا يصح أن يثبت بروايتهم آيات قرآنية ، فما ذلك إلا ليتحقق صدق
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) الآية ، وليعرف أن
البدل خير من المبدل فيشكروا الله على ما أعطاهم ، وانظروا إلى ما روي في
الصحيح: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثًا ، ولا يملأ جوف ابن
آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب) .
فإنه كان قرآنًا يُتْلى؛ أي: ثم رُفِعَ وأُنْسِيَ لفظه ، وإنما بقي محفوظًا لدى من لا
يثبت بروايته آيات قرآنية؛ والعلة التي أدركناها في ذلك ما ذكرناه ، فإذا تتبعنا
المصحف وجدنا ما هو أولى وأظهر مثل قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ} (الفجر: 20) الآية - أما ما يذكر في آية (الشيخ والشيخة) ، إلى آخِرِهِ كما في
الصحيح ، وأن ذلك كان قرآنًا يُتْلَى ، ثم نُسِخَ لفظه كذا قالوا فلا يبعد أن يُقالَ: إن
هذا مما نُسخ لفظُه وحكمه؛ لأن الرجمَ أولُ ما نزل في أول الإسلام ، ثم نسخ
بنزول حَدِّ الزاني ، وحينئذ قال صلى الله عليه وسلم في حديث عُبَادة رضي الله
عنه: (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم) منسوخ - ثم شرع الرجم مرةً أخرى؛ لأنه رجم ماعزًا والغامدية بعد أن قال ذلك. انظر
ذلك في زاد المعاد لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله.
ولنعد إلى ما كُنّا بصدده ، فنقول: إذا لم يشترط في النسخ المنافاة والمناقضة
بين الناسخ والمنسوخ ، وهو يدل عليه كلام عامة السلف ، وهو ظاهر القرآن حيث
جعل متعلق النسخ والإنساء - الآية - ولم يخص بذلك حكمها وإذا جاز الإنساء ،
فالنسخ كذلك قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6، 7)
فلا عيبَ ولا نَقْصَ في نسخ ما شاء ، وسواءٌ في ذلك رفع لفظ بلفظ ورفع لفظ
وإبقاء حكمه؛ لِمَا تقدم ولأنه إذا تفضل بالبدل فهو لا شك يبدله بما هو خير منه؛
لأنه إذا وعد بإعطاء أحد خيرين فكرمه وكرامته لرسوله صلى الله عليه وسلم
تقتضي أن يمتن عليه صلى الله عليه وسلم بأفضلها وأكملها؛ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5)، أو يُقالُ:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:
106) أي؛ المنسية ، والله أعلم بمراده.
فإن قيل: ما الحكمة في رفْع ألفاظ وإبدالها بألفاظ أو رفع لفظ بعد نزوله؟
قلتُ: قد بيّنا ذلك فيما تقدم ، ولكن نحن مهما جهدنا فلا نستطيع أن نعلل بأصح
وأحكم مما أجاب الله به منكري النسخ بقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) أيْ: لَمّا كان المنسوخ قبل نسخه مناسبًا للمصلحة ومطابقًا للحكمة ،
فإذا نسخناه لمقتض فإنما هو لنأتي بخير منه؛ أي: أكثر مناسبةً وأشد مطابقةً
للحكمة.
أما ما استدل به حضرة الدكتور، وعلّل به جواز وقوع النسخ حيث قال:
والسبب في وقوعه اختلاف حال المكلفين باختلاف الزمان والمكان ، فما يلائم البشر
في زمن طفوليتهم قد لا يلائمهم في زمن كهولتهم أو شيخوختهم ، ومَثّل لذلك
باختلاف حالة الإنسان بالصحة والمرض - فهذا التعليل للنسخ إنما أخذه حضرته
عن المتكلمين الذين ادَّعَوْا لأنفسهم الكمالَ فوقَ كلِّ أحدٍ حتى إنهم قد يدعون لأنفسهم
أنهم يعرفون من الدين ما لم يعرفه السلف ، وأنهم قد يصلحون منه ما يزعم بعضهم
أنه ناقصٌ منه ، وما درى المساكين أن النقص وصفهم اللازم الذاتي ، ولله دَرُّ
الشاعر:
وكم من عائب قولاً صحيحًا
…
وآفته من الفهم السقيم
ولو كان لا يكون النسخ في الشرائع إلا إذا صار المنسوخ بمنزلة ما لا يلائم
حالة البشر ، بحيث يكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يناسب حالة المريض لَكان ذلك
- أي النسخ - لا يكون إلا بعد إحراجهم غايةَ الإحراج ، بحيث يكونون قد عانوا ما
قرب أن يكون خرج عن حدّ استطاعتهم ، وهذا لا يجوز مِن واسع الرحمةِ ، فكيف
يستقيم قول حضرة الدكتور؟
قدمنا ذلك لِنعلمَ أن النسخ لِمقتض أو لحكمة لا عيبَ فيه عند العقل ، إلخ؛ لأنه
يفهم منه أن إبقاء التكليف وعدم النسخ والحالة هذه جائز عقلاً وشرعًا ، والذي يُقال:
إن تأخير النسخ إلى تلك الحالة ممتنع عقلاً وشرعًا؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) والنسخ شرعًا هو الذي دلّ القرآن دلالة
الكريم عليه ، وهو تبديل ذي الخير مما أوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما
هو أكثر خيرًا منه - وهو من باب التوسيع فيما كثرت فوائده ، وعمّت عوائده ،
وفيه تنبيه هذه الأمة لِفتح أبواب المعارف والرقي إلى مدارج الكمال والاستعداد لِكل
ما عسى أن ينجمَ من خير يقدم أو بلاء يهجم.
فما ذكره حضرة الدكتور من الحكمة في النسخ ليس هو حكمته؛ نعم هو يقرب
ويضارع مَا نَصَبَهُ الشارع مسوغًا للترخيص في المحكم؛ لأنه ألزمَ عِباده بامتثال ما
شرَعَه محكمًا بشروط وأسباب ما لم تعارض ذلك موانع ومرخصات ، فإذا عرض
مانع أو مرخص فقد رفع عن العِباد الإثم ، وجاز لهم فعل أو ترك ما اقتضاه الحال ،
وبذلك قد ينقلب الواجب محرمًا ، والمحرم واجبًا أو جائزًا في حقّ مَن قامَ بِه مانع ،
والحكم يختلف باختلاف المكلف ، وتارةً يعتبر مع ذلك المكان ، وتارةً الزمان ، وقد
يختلف الحكم بالنسبة إلى شخص أو أشخاص باختلاف حال ما احْتَفّ به من البشر،
وبحاله من صغر وكبر، وإقامة وسفر، وضعف وقوة، وأمن وخوف، وقد
يختلف بالمواسم تبعًا للضرورات، أو توقعها ولو ظنًّا في بعض الحالات،
وللضرورات أحكام تخصها؛ ولهذا صحّ المثل: (عند الضرورات تباح
المحظورات) قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:
173) ، وأَلْحِقْ بذلك ما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رُفِعَ عن أمتي
الخطأُ والنسيانُ ، وما استُكْرِهوا عليه) .
فاختلاف الحكم باختلاف حال المكلف أو المكلفين - بحيث لا يبقى ملائمًا
لطبائعهم بأن تكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يلائم حالة المريض - لا يصلح أن يكون
علة النسخ وحكمته كما عرفت بل باقٍ ومعتبر للترخيص في الشريعة المحكمة
الثابتة الباقية؛ فكيف يجعل مناطًا وسببًا للنسخ وقت التشريع لا سِيَّمَا ، وقد نص
الله في كتابه على سبب النسخِ كما قد قدمنا ذلك.
ومن تأمل وأمعن النظرَ فيما ذكرناه اتَّضَحَ له الحقُّ ، وَعرف مَنْشَأَ الغَلط الذي
ارتكبه كثيرٌ من جهابذة النقاد والنظار في استبعاد جواز النسخ والتردد فيه ، وعرف
أن منشأه ما أصلوه واصطلحوا عليه مما أوجب لهم الحيرة (وعلى نَفْسِها جَنَتْ
براقشُ) وما ضيقوه مما وسعه الله فعليهم (لا علينا) .
وبما ذكرناه من التيسير والتوسعة في هذا الدِّين تظهرُ بعض حكمة بقاءِ هذا
الدين إلى آخِرِ الأبد ، ولزوم أنه دين عامة البشر وأنه وحي يُوحَى، ولا يأتيه الباطلُ
من بين يديه ولا مِن خَلْفِه شرع على لسان من لا ينطق عن الهوى. اللهم أحينا عليه
وبه ، وأَمِتْنَا متمسكين به يا أرحمَ الراحمين.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجامعة المصرية
وهبة حسن بك زايد
نام مشروع هذه المدرسة زمنًا طويلاً ، وشغل الناس عنها ما أصيبت به البلاد
من العسرة المالية. ثم اختير للجنة التأسيس الأمير أحمد فؤاد باشا رئيسًا عاملاً فجد
واجتهد مع اللجنة، فهبّ المشروع من نومه حتى تقرر أن تفتح أبواب الجامعة في
أواخر هذا العام لتدريس آداب اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية ، وتاريخ مدنية
الإسلام.
وكان إحياء هذا العمل بأمرين لولاهما ما تيسر الشروع فيه:
(أحدهما) أمر الأمير بأن يخصص للجامعة خمسة آلاف جنيهٍ كلَّ سنةٍ مِن
الأوقاف الخيرية.
(ثانيهما) تبرع حسن بك زايد من أهل الثراء في مديرية المنوفية بوقف
خمسين فدانًا وكسور من أطيانه الجيدة على الجامعة.
وقد احتفل في السادس عَشَرَ من هذا الشهر بتلاوة الوقفية في داره ببلده ،
فأجاب الدعوة إلى هذا الاحتفال كثير من الوجهاء وأصحاب الصحف العربية
والإفرنجية ، يتقدمهم الأمير أحمد فؤاد وأعضاء لجنة الجامعة.
وبعد أن افتتحت الحفلة بتلاوة آيات من القرآن الكريم تلا حسين رشدي باشا
مدير الأوقاف خُطْبة للأمير فؤاد باشا رئيس لجنة الجامعة بالنيابة عنه ، وهي
تتضمن الثناء على حسن بك زايد ، وبيان أن الجامعة صارت قادرة بعد هبته هذه
على الظهور في عالم الوجود.
ثم تلا حفني بك ناصف ناموس لجنة الجامعة (سكرتيرها) الوقفية. وقام من
بعده الدكتور علوي باشا فألقى خطبة في تقدم الأمم بالعلم والحثّ على التبرع للجامعة.
ولا غَرْوَ؛ فقد كان الدكتور ممن اكتتب لها بألف جنيهٍ ، فهو ما قال إلا وقد فعل.
ثم قام من بعده قاسم بك أمين نائب رئيس اللجنة العامل ، وألقى خطبة نفيسة
أودعها من الفوائد الاجتماعية ما يقتضيه المقام، وما يناسب الحال العامة بمصر في
هذه الأيام، ولعلها آخِر ما دونه بقلمه من المنشآت الجميلة ، فقد وافته منيته بعدها
بأيام معدودات، وإننا ننشرها لِمَا فيها من الفائدة وهذا نصها:
أيها السادة ، في هذه الأيام [1] التي كثرت فيها الاكتتابات للجمعيات الخيرية
والمكاتب والمستشفيات وغير ذلك ، ولا يمد يديه لمساعدتها ، وتحمل جزء من
مغارمها إلا عدد قليل من سكان العاصمة ، أرى أن عمد البلاد ، وأعيان الأقاليم
هؤلاء الذين يصحّ أن أسميهم منكوبي المشروعات الخيرية هم أحسن أبناء وطننا،
ويستحقون ثناء الأُمّة وإعجابها.
وفي الحقيقة أن كل مشروع قام به الأفراد في بلادنا كان الفضل في نجاحه
راجعًا على الأكثر إلى سكان الأرياف؛ فإنهم وُهبوا من الحياء الطبيعي ما يجعلهم
يخجلون من رفض أي مساعدة تُطْلَب منهم ، وعندهم من كرم الأخلاق ما يدفعهم إلى
بذل المال حتى إذا لم يكن في حيازتهم لتعضيد الأعمال النافعة.
طبيعة شريفة، وكرم جميل، وسهولة أخلاق محبوبة ، ولكن أستسمحكم إذا
قلتُ: إن هذه الصفات كانت تفيد أكثر مما أفادت لو كانت الإدارة التي تديرها أكثر
اعتدالاً في حركتها ، وأكثر تمييزًا في تأدية وظيفتها ، وإذا أردت التوسع أقول:
إن أهل البِرّ في بلادنا على العموم لا يعرفون كيف يصرفون أموالهم.
أيها السادة. إن عمل الخير حسن على كل حال ، ولكن أحسن منه وَضْع
الخير في محله.
لو كان المحسنون يوجهون إرادتهم إلى إحياء أُمّتهم وتعظيم وطنهم أكثر من
اهتمامهم بشراء الزهور ، وتشييد القبور وإضاءة الأضرحة - لو كانوا يجودون
للأعمال بنسبة الخير المنتظر منها لكانت الجامعة المصرية اليوم كأمثالها في البلاد
الأخرى ، أغنى جمعية في هذا القطر. ولكنها أفقرها جميعًا.
من التبرعات الجسيمة التي تحصل سنويًّا في هذا القطر على شكل هِبَة أو
وَقْف من كل هذا المال الذي يصرف في وجوه قليلة النفع أو غير نافعة - كان
نصيب الجامعة شيئًا قليلاً لا يُذْكر.
ولولا أنَّ عناية الجناب الخديوي أدركتها ومنحتها مرتبًا سنويًّا قدره خمسة آلاف
جنيهٍ لَرَأَيْنَا في هذا العصر - الذي تعده الجرائد والخطباء والشعراء مبدأ النهضة
الوطنية، وتتغنى فيه بمدح الشعور الوطني على نغمة تطرب السامعين وتفتح قلوبهم
وجيوبهم أيضاً - في هذا العصر الذي نريد أن نجعله حدًّا فاصلاً بين ماضينا
ومستقبلنا ، ونطلب أن تتحقق فيه أمانينا العزيزة - في هذا العصر لولا أن أدركتها
هذه العناية العظيمة لرأينا شيئًا محزنًا مخجلاً ، وهو أن أنفع مشروع ظهر في مصر
وُلِدَ فيها مَيِّتًا.
ولكي يكون الاعتراف بالحق تامًّا لا أستطيع أن أمنع نفسي من التصريح
بشيء يجتهد دائمًا دولة الأمير الذي يرأس هذه الحفلة أن يخفيه لشدة تواضعه ، وهو
أنه من اليوم الذي قَبِلَ فيه أن يشرف لجنة إدارة الجامعة برئاسته لها ، وصار في
مقدمة العاملين فيها تحققنا أن النجاح صار مضمونًا.
أيها السادة ، إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرًا ، ولا تعلن عن نفسها.
عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقتهم ، وخدموا بلادهم وحاربوا الأمم ، وفتحوا
البلاد ، ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم فيحسن بنا أن نقتدي بهم ،
ونهجرَ القول ونعتمدَ على العمل.
إذا أردنا أن ننفع بلادنا ينبغي علينا قبل كل شيء أن ننظر إلى أنفسنا ،
ونعرف قيمتنا ، ونزن قوتنا ، وندرس أسباب تأخرنا ، ثم نسعى ونعمل لتحسين
حالنا.
يجب علينا أن نفهم أن مسألتنا الاجتماعية ليست شيئًا وُجِد بالصدفة أو يتغير
بمعجزة ، بل إنها كسائر القضايا العلمية مسألة تحليل وتركيب ، وإن لتكوين ونمو
الجمعيات الإنسانية أسبابًا عديدةً ترتبط بالدين والشرائع والأخلاق والإقليم والجنس
واللغة وطرق التربية؛ فتغيير الحال الاجتماعية إنما يكون بتغيير الأسباب التي
اشتركت في تكوينها.
فكل ما يكتب ويقال في هذا الموضوع هو خير مبارك منتج، وما عداه فهو تعب
ضائع.
أيها السادة: إن من أهم أسباب انحطاط الأمم وارتقائها طرق التعليم والتربية،
وإذا نظرنا إلى ما يجري عندنا وجدنا أن التعليم الموجود الآن لا يصلح إلا لإعداد
موظفين أو أصحاب فنّ ، يحترفون به للقيام بحاجات الحياة التي لا يستغنى عنها
كالطب والهندسة والمحاماة ، وهذا التعليم يوزع في مدارسنا على الطلبة بمقدار
معلوم ، لا يزيد عن الغاية التي وُضِع لأجلها.
تلك هي خطة الحكومة في التعليم وقد حذا حذوها أصحاب المدارس
الخصوصية ، والحكومة تعترف بأن هذا القدر من التعليم غيرُ كافٍ ، ولكنها
اضطرت إلى عدم التوسع فيه للأسباب التي شرحتها في تقاريرها العديدة ، وأهمها
كما تعلمون هي مسألة المال.
وفي الحقيقة ، أنه لا توجد حكومة في العالم تستطيع أن تتولى بنفسها أمر
التعليم العام بجميع فروعه ودرجاته ، وإذا نظرنا إلى ما يجري في البلاد المتمدنة
نجد أن القسم الأعظم من التعليم في يد جمعيات علمية هي المؤسسة والمديرة لنظامه ،
وأن عمل الحكومة فيها محصور في تعضيدها ومساعدتها على قدر الإمكان.
هذا هو الذي حمل الحكومة المصرية على استنهاض همة الأهالي لنشر التعليم
الابتدائي ، وهذا ما دعانا أيضًا إلى أن نطلب من أبناء وطننا أن يفكروا في نشر
التعليم العالي ، وأن يبذلوا ما في وسعهم في سبيله ليكمل نظام التعليم في بلادنا ،
ويصبح وافيًا بجميع حاجات الأمة.
أيها السادة ، نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر
وسيلة لمزاولة صناعة ، أو للالتحاق بوظيفة؛ بل نطمع أن نرى بين أبناء وطننا
طائفةً تطلب العلوم حُبًّا للحقيقة وشوقًا إلى اكتشاف المجهول. فئة يكون مبدؤها
التعلم للتعلم.
نوَدُّ أن نرى من أبناء مصر كما نرى في البلاد الأخرى عالمًا يحيط
بكل العلم الإنساني ، واختصاصيًّا أتقن فرعًا مخصوصًا من العلم ، ووقف نفسه
على الإلمام بجميع ما يتعلق به ، وفليسوفًا اكتسب شهرة عامة وكاتبا ذاع صيته
في العالم، وعالما يرجع إليه في حل المشكلات، ويحتج برأيه. أمثال هؤلاء هم قادة
الرأي العام عند الأمم الأخرى والمرشدون إلى طرق نجاحها والمديرون لِحركة
تقدمها ، فإذا عدمتهم أمة حلّ محلهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدّجّالون.
أيها السادة ، إذا نظرنا إلى طائفة المتعلمين في مصر ، وهم متخرجو المدارس
نجد أنهم يعملون على مبدأ (اكسب كثيرًا واتعب قليلاً) ولا نجد فيهم العالم المحب
لعلمه أو فنه ، والعاشق الذي تحتل شهوة العمل في قلبه ، وتتمدن فيه وتملؤه برمته ،
ولا تقبل منافسًا أو منازعًا أو شريكًا أو ضيفًا بجانبها. وإنما نجد أفرادًا قليلين جدًّا
يصرفون وقتًا قصيرًا من حين إلى حين لتكميل معارفهم ، ولكنهم مجردون عن تلك
الحمية تلك النار التي تشعل القلب والشعور ، والتي بدونها لا تبحث النفس عن
تجديد العمل ، ولا تطلب الارتقاء إلى المراتب السامية.
ألا يظهر لكم مثلي أن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لإحساسه ،
وأن أكثر الناس استعدادًا للكمال هم أصحاب الإحساس الذين تهتز أعصابهم المتوترة
بملامسة الحوادث ، وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغًا عظيمًا ، فيظهر أثرها فيهم
بكثرة وشدة.
أولئك هم السعداء الأشقياء الذين يتمتعون ويتألمون أولئك هم السابقون في
ميدان الحياة ، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون في مصادمة
كل صعوبة. من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها ، فيصير
شاعرًا بليغًا ، أو عالِمًا حكيمًا ، أو وليًّا طاهرًا ، أو نبيًا كريمًا.
أيها السادة ، إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم لذاته هو عيب عظيم فينا ،
يجب أن نفكر في إزالته ، وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن
تربية إحساسنا، وأهملت تربية قلوبنا وشعورنا؛ فأصبحنا مادّيين ، لا نهتم إلا بالنتائج
في جميع أمورنا حتى في الأشياء التي بطبيعتها يجب أن تكون بعيدة عن الفوائد
كعلاقات الأقارب والأصحاب. وليس من المنتظر أن تتغير أخلاقنا من هذه الجهة
تغييرًا محسوسًا إلا إذا تم إصلاح العائلة المصرية.
هل يجوز أن يؤخذ من اعترافنا هذا أننا نخشى أن الجامعة المصرية إذا فتحت
أبوابها لا تجد طلابًا للعلم؟ سمعت هذا الاعتراض ، واعتقادي التام أنه وَهْم باطلٌ.
نحن إذا كنا نأسف لِعدم بلوغ حب التعلم الدرجة التي نتمناها له ، فليس معنى ذلك
أنه مفقود في بلادنا.
حبُّ التعلم موجود، ووجد في بلادنا من قديم الزمان ، ولا يزول عن أرضنا أبدًا! وتاريخ مصر الحديث يثبت بأقوى البراهين أن حب التعليم كان ولا يزال ينمو في نفوس أُمَّتنا من عهد المرحوم محمد علي باشا إلى الآن.
ولي أمل عظيم أن إنشاء الجامعة المصرية يكون سببًا في ظهور شبيبة هذا
الجيل ، وما يليه على أحسن مثال. وما حالة القلق والاضطراب التي نلاحظها فيها
الآن إلا إنذار مطمن ، يدلنا على أنها مملوءة بقوة عظيمة تطلب ميدانًا تتصرف فيه ،
لتتمتع بالتوازن الملازم لصحتها.
هذا هو البناء الفخيم الذي نحب أن الأمة المصرية تشيده بيدها ليبقى أثرًا خالدًا
في هذا القطر، وشاهدًا على حسن استعدادها للنمو العقلي والرقي الأدبي ، فكل من
وضع حَجَرًا في هذا البناء يخدم أمته أجل خدمة. فشُكرًا للسابقين، وشُكرًا لِلَاّحقين
في هذا العمل الصالح.
وإني أرى في الصف الأول من صفوف المحسنين المتبصرين الذين يعرفون
كيف يصرفون أموالهم في سبيل الخير رجلين قاما بما يجب عليهما ، وهما حضرة
أحمد بك الشريف وصاحب هذه الدار الكريمة. اهـ
_________
(1)
الظرف متعلق بقوله: (أرى أن عمد البلاد) إلخ ، وقوله:(ولا يمد يديه) إلخ ، اعتراض ، ويوشك أن يكون في الكلام تحريف.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مصاب مصر بقاسم بك أمين
يموت كل يوم خلْق كثير ، فيخلفهم مثلهم ، فتمسي الأمة وتصبح وكأنها لم تفقد
أحدًا. ولكن في الناس أفرادًا امتازوا بالمزايا النادرة في قومهم ، فأولئك إذا مات
الواحد منهم يشعر أهل البصيرة من أُمّتهم بأنهم فقدوا من لا يقوم مقامه غيره ، ولا
يعمل عمله سواه. ومن هؤلاء الأفراد من فقدته مصر اليوم ألا وهو قاسم بك أمين
القاضي بمحكمة الاستئناف الأهلية ، ونائب رئيس إنشاء الجامعة المصرية ، ومؤلف
كتابي (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) اغتالته المنية فجأةً (في 21 من
هذا الشهر) فلم تنذره بمرض ولا سَقَم ، بل لم تنذر عقلاء البلاد ليعدوا لهذا
الخطب عُدَّته، ويأخذوا للمصاب أُهْبَته بتوطين النفس على الصبر، وتوجيه قواها
إلى الجَلَد والتجلد.
امتاز قاسم بك أمين بمعظم المزايا التي تعوز المصريين في سبيل الحياة
الاستقلالية التي ولوا وجوههم شطرها.
امتاز باستقلال الفكر ، وجودة الرأي ، وصفاء الذهن ، وَسَعَة الخيال ، وقوة
الإرادة ، والعدل في الحُكْم ، والوفاء في الصداقة ، والإخلاص للبلاد ، وكان مع هذا
من علماء الحقوق والأخلاق والاجتماع والفلسفة العقلية ، وقد وجَّه هِمّته في السنين
الأخيرة إلى فرع من فروع هذه العلوم وهو ترقية البيوت (العائلات) بتعليم النساء
وتهذيبهن ، فلم يكتفِ بكتابيه فيه ، بل جعله همه الأكبر إلى أن وافته منيته ولسانه
رطب بذكر تهذيب النساء وتمدينهن ، وتمني مشاركة الفتيات المصريات للفتيان في
محافل العلم والأدب. قال ذلك في خُطْبَة فرنسية أَلْقاها في نادي المدارس العليا قبل
وَفَاته بساعة أو ساعتين.
كان قاسم بك أمين يعد في استقلاله وفي الحرص على ترقية بلاده من طبقة
يُعَدّ رجالُها على الأنامل ، وهم أصدقاء بعضُهم لبعض، مات إمامهم وكبيرهم فَكَرَّ
أكثرهم على أثره. مات الأستاذ الإمام فتلاه صديقه علي بك فخري أحد أركان
النهضة الوطنية العاملين في ترقية القضاء والمحاكم الأهلية ، فحسن باشا عاصم
المصلح في القضاء وفي المعية وقطب إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية ، فحسن
باشا عبد الرازق الذي كان في مجلس الشورى هو الثنيان، بعد البدء الذي هو
الأستاذ الإمام، وهذا قاسم بك أمين خامسهم فلا غَرْوَ إذا تفاقم بالرزيئة به الخطب،
وعظم على البلاد الكرب، فإنه كاد يتحقق به قول الأستاذ الإمام: إن الأمة مصابة
بالعقم وقحط الرجال، فللأمة أن تتمثل اليوم بقول ابن النبيه:
والموت نقاد على كفه
…
جواهر يختار منها الجياد
فقد كنا نقول: إن هذا البيت من الشعريات، وصرنا نقول اليوم: إنه من
المشاهدات، ولا ننسى أن مصر فقدت أيضًا في هذه المُدّة القليلة الشيخ أحمد أبا
خطوة نابغة الأزهر، وإبراهيم بك اللقاني الذي كاد يكون في آخِرِ عُمُرِهِ منسيًّا
لحيلولة المرض بينه وبين العمل ، وهو في مقدمة كتاب مصر وخطبائها ومن أركان
النهضة الجمالية الأولى فيها ، وكان كلا الرجلين من أصدقاء الأستاذ الإمام أيضًا فيا
لَلَّهِ ما كان أشأم فقده على هذه البلاد ، فقد ذكرني بما تتابع بعده من خيار الرجال قتل
عمر بن الخطاب إذ فتح على المسلمين باب الفتنة في السلطة ، فقتل بعده عثمان
وعلي رضي الله عنهم أجمعين) .
كمل للأستاذ الإمام قوة الفكر والنظر، مع القدرة والمرانة على القول والعمل،
وكان حسن عاصم أقوى في العمل منه (أي: من نفسه) في القول والنظر، وأما
قاسم أمين فكان نظريًّا، أكثر مما كان عمليًّا، فكان يسبح في بَحْرٍ لُِجِّيٍّ من الفكر،
ويطير في جو واسع من الخيال، فيؤلف بين الحكم العقلية، وبين التخيلات
الشعرية، فلهذا كان لمكتوبة من التأثير وقوة الجاذبية، ما جعله في مقدمة كتاب
العربية، على قِلّة اشتغاله بفنونها، وتحصيله لها، وما ذاك إلا أن كلامه يشبهه في
كون روحه أكبر من جسمه، ومعناه يفيض الجمال على صورته، حتى كاد يكون
فكرًا مجردًا، أو خيالاً متوهمًا.
كان قاسم من الهائمين في رياض الجمال المعنوي ، فكان ذلك يرفعه أحيانًا عن
عالم المادّة وما فيه النَّصَب واللُّغُوب والمصائب في المال والوَلَد والصديق ، فيهون
عليه ما أصابه من ذلك ، ويفيض عليه الجَلَد والصبر، ويخيل لي أن لو طال عُمُرُهُ،
وقلّ عَمَلُه، واستراح بالُه، لانتهى أمْرُه بفلسفة عالية تظهر على لسانه، وتفيض
من قلمه، فتروي أرض مصر بالحكم الجليلة، في غلائل من الشعريات الجميلة،
وناهيك بما في اجتماع الحكمة والشعر، من تربية الشعور والفكر.
على أن ما في هذه الطريقة من الخطأ في الحكم قد يعسر انتزاعه ممن تمكن
فيه ، فإن الفكر يتحد فيه مع الوجدان، اتحادًا يقل أن يفيد معه البرهان، لذلك كان
لقاسم آراء في فلسفة الأديان، ومستقبل الإنسان، تعد عند المنطقي من الخيالات،
وهو يراها من الحدسيات أو الوجدانيات.
كان فقيد مصر اليوم من أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية الأولين ، ولكن
خدمته لها كانت بالرأي لا بالعمل، أما العمل الذي كان يتوق إليه، ويتمنى لو يتيسر
له، فهو أن يؤسس ولو بماله - إن وجد المال - مدرسة لتربية البنات المصريات
على ما يحب ويرى أنه يرقي هذه البلاد.
كان قاسم كَنْزًا مخفيًّا لا يعرفه إلا أصدقاؤه ، وكان أول شيء عُرِفَ به في
عالم الأدب ردُّه على الدُّوق دركور فيما كتبه مِن الانتقاد على البيوت بمصر لا سِيَّمَا
مسألة الحجاب وسوء حال النساء المسلمات. كتب الدُّوق في ذلك كتابًا باللغة
الفرنسية ، فردّ عليه قاسم باللغة الفرنسية ، وقد ذكر لنا غير واحد أن عبارته في
رده كانت كعبارة كُتّاب فرنسا البلغاء. وكان قلمه في ذلك الرد يتدفق غيرةً وحماسةً ،
وقد بين فيه ما للحجاب من الفائدة ، وشنع على ما في أوروبا من التبذل والتهتك
وتجارة الأعراض.
وأخبرني قاسم أنه كان يومَ اطلع على ما كتبه الدُّوق دركور غافلاً عن حال
النساء بمصر ، فآلمه ذلك النقد والتشنيع ، فاندفع إلى الرد بوجدان الغيرة وبعد أن
شفى غيظَه، وأرضى غيرتَه بذلك عاد إلى نفسه وفكّر في الأمر ، فرأى أن كثيرًا
من العيوب التي عاب الدُّوق بها البيوت المصرية صحيح في نفسه ، فبعثه ذلك
إلى درس هذه المسألة قائلا في نفسه: إنه لا ينفعنا إذا كان العيب فينا أن نرد على
مَن يعيبنا ونبحث عن عيوب قومه ، وإنما يجب علينا أن نبحث عن عيبنا ،
فنعرِفه ونسعى في إزالته.
وطَفِقَ يبحثُ ويسأل ويفكر في حال البيوت بمصر ، ويقرأ ما كتب الإفرنج
في شأن النساء ، وانتهى به البحث والتنقيب إلى تصنيف (كتاب تحرير المرأة)
الذي هَزّ مصر هزةً شديدةً ، وشغل جرائدها في تقريظه ونقده زمنًا طويلاً ، وبعث
همة غير واحد من حملة العمائم والطرابيش جميعًا إلى التصنيف في الردّ عليه ،
وبذلك طارَ صيت قاسم بك أمين في الآفاق وعُرِفَ اسمُه في الشرق والغرب ، وعُدَّ
من المصلحين الاجتماعيين.
ثم ألف كتابه (المرأة الجديدة) لتعزيز رأيه ، وتفنيد آراء خصومه ، فكان
دون كتاب تحرير المرأة مادةً وفائدةً وتحريرًا وتأثيرًا على أنه فوقه صراحةً في
المقصد وحريةً في القول المخالف لرأي الجمهور وميله.
وقد تولى في السنتين الأخيرتين من عُمُرِهِ الاشتغال بتأسيس (الجامعة
المصرية) فلم يدخر وسعًا، ولم يأْلُ جهدًا، وكان مَناطَ الأمل في إنجاح هذا
العمل، وأي مصاب ترزأ به البلاد أشد من فقد رجالها عندما يتم استعدادهم، ويكمل
رشادهم، وتعرف الناس قيمتهم، ويشرعون في الأعمال الكبيرة التي يرجى
نهوضهم بها، وينتظر نجاحهم فيها؟ فهذا ما ضاعف الحزن على فقيد مصر اليوم.
حزن العقلاء على قاسم لذاته ، وما تحلّتْ به ذاته من المزايا العالية،
وضاعف حزنهم عليه أن كان مصاب البلاد به قريب العهد بمصابها بأصدقائه من
رجال الاستقلال، وما يرقي الأمة من الأعمال، وضاعفه مرةً أخرى أن كان في
الوقت الذي بدأ فيه بعمل عظيم، وأنشأت النابتة تعرف من فضله ما يعرف الكهول
والشيوخ من أهل المعرفة والفضل.
يموت الرجل فيبكيه الأهل ويندبه النساء ، ولكن قاسمًا أبكى عظماء الرجال
وأقدرهم على التجلد والاحتمال، وندبه مثل سعد باشا زغلول وفتحي باشا زغلول ،
وإنما أرادا أن يؤبناه ، فكان تأبينهما ندبًا وتعدادًا، وبكاء ونشيجًا، أبكى معهما جميع
من بلغ القبر من المشيعين، وذلك ما لم يعهد لسواه من الميتين.
وجملة القول فيه أنه يصدق عليه ما قاله هو في تأبين الأستاذ الإمام من أنه لا
يوجد في الأمة من يملأ الفراغ الذي كان يشغله، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ،
وأحسن عزاء أهله وأصدقائه ووطنه فيه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مصافحة السوريين للمصريين
يوجد في مصر الأوربي من إنكليزي وفرنسي ، إلخ والأمريكي والهندي
والفارسي والأرمني ، والمغربي من تونسي ، وجزائري ، ومراكشي ، والعثماني
من تركي ، وكردي ، وعربي ، ومِن العرب: الحضرمي، واليمني ، والحجازي ،
والعراقي ، والسوري. ولم نَرَ صنفًا ممن ذكرنا وممن لم نذكر من الأصناف أقرب
إلى المصري من السوري ، فهو جار له في بلاده ، وموافق له في لغته وأكثر
عاداته مع كونه عثمانيًّا مثله ، ولكننا على هذا كله لم نَرَ المصري في مناظرة أو
منافسة مع صِنْف من أصناف البشر الذين تضمهم بلاد مصر إلا مع السوري فما هو
سبب ذلك؟
يرى من دقق النظر أن السبب في هذا هو ذلك القرب نفسه ، فإن السوري لما
كان صنوًا للمصري امتزج به امتزاج الماء بالراح ، وشاركه في عامة شئونه من
مأكله ومشربه ولهوه وجدِّهِ وهزْلِه ، فما من سوري في هذا القطر إلا وله من
الأصدقاء المصريين مثل ما له من السوريين، أو أكثر. ومن طبيعة المنافسة أن
تكون بين الخلطاء ما لا تكون بين البعداء، فالأفراد ينافسون إخوتهم وأقاربهم
وجيرانهم ، وأهل البلد ينافسون أقرب البلاد إليهم ، وكذلك أهل المديريات فأهل
الأقطار فأهل الممالك.
قد كانت المنافسة الأولى بين المصريين والسوريين في أعمال الحكومة ، ثم
ضعفت أو تلاشت ، وخلفتها المنافسة في الصحافة أو السياسة. كانت بين المقطم
والمؤيد ، ثم بين المقطم واللواء. وحقيقة هذه المنافسة أنها منافسة أفراد لا أصناف؛
إذ رأي المقطم في السياسة ليس هو رأي السوريين ، وإنما هو رأي أصحابه وأول
من قارعهم فيه صاحب جريدة الأهرام من السوريين.
ولكن اللواء كان يرد عليهم من حيث إنهم سوريون ودخلاء ، فكان ذلك من قبيل
تعليق الحكم بالمشتق وهو كما قال علماء الأصول يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق.
أعني أن رد اللواء على أصحاب المقطم من حيث هم منسوبون إلى سوريا ودخلاء
في مصر يفيد أن علة ما يرميهم به من خيانة مصر هو كونهم سوريين. فلو كان
الأمر كما يدعي - وهو ليس كذلك - لكان كل سوري خائنًا لمصر ، أو لَكَان
مجموع السوريين كذلك. وهذا باطل؛ لأنه مبني على أصل باطل ، ولكنه
سرى في أوهام كثير من الناس لا سِيَّمَا الأغرار.
وهذا ما عناه حافظ بقوله:
لولا أناس تغالوا في سياستهم
…
منا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا
ونحمَدُ الله أن كلاًّ من المقطم واللواء اللذين يعنيهما حافظ قد رجع - مع إصراره على أنه كان حسن النية - عن الخطة التي كانت تعد غُلوًّا ، وكادت تجعل المنافسة بين جريدتين سببًا للتعادي بين شعبين كل منهما صنو للآخر وشريك له في كل مقومات الحياة حتى أوشك أن يصدق في ذلك ما قيل من أن سوء التفاهم كثيرًا ما يكون أضر من سوء القصد.
لقد حسن في هذه الفرصة ما قام به سليم أفندي سركيس من تأليف جمعية من
خيار السوريين علمًا وأدبًا ، وجمع طائفة من النقود منهم ومن غيرهم من السوريين
بالاكتتاب؛ لأجل دعوة جماعة من خيار المصريين علمًا وأدبًا إلى الاحتفال باسم
السوريين لإكرام حافظ أفندي إبراهيم الشاعر المصري الشهير.
ولما كان الغرض من هذه الحفلة موادة السوريين للمصريين كانت الخُطَب
والقصائد التي أشرنا إليها في الجزء الماضي ممثلة لذلك أحسن تمثيل ، وقد وقع ذلك
موقعه الذي يستحقه؛ فأثنت الصحافة المصرية كلها كالصحف السورية على سليم
أفندي سركيس ، وأيدت الغرض من الاحتفال بالكَلِم الطيب في التأليف بين
العنصرين اللذين هما بمنزلة الأخوين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تصحيح غلط
في السطر 16 من ص 124 (وعن) محله قبل كلمة (غمغمة) بينها وبين
الواو ، فتصير (وعن غمغمة) قضاعة (إلخ ، وفي السطر الخامس من ص 125
من الجزء الماضي (عدوه غريبًا) ، وقد سقط من قبلها هذه الجملة (عدوه فصيحًا ،
وما كان قليل الدوران على ألسنتهم) . وفي هذا الجزء أغلاط مطبعية أخرى مدركة
ككلمة (محمده) في س17 ص93 وصوابه (محمد عبده) ، ومنها كلمة (إذا) في
س3 ص101 وصوابها (إذ) .
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(2)
الفصل الرابع
(مقام النساء في قوم خديجة)
تلك كانت أحوال قوم خديجة في نظام اجتماعهم ذلك ، ولم يكن مقام المرأة فيهم
مقامًا مهينًا، بل كان لها لديهم مقام كريم، وجلّ ما عرف عنهم من انحطاط مقام
المرأة أنهم كانوا يكرهون البنات ، وأنهم كانوا يَئِدونهن؛ أي: يدفنونهن في التراب
وهنّ على الحياة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ *
يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ
مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58-59) .
هذا ما عُرِفَ عنهم ومَن أخذ هذا الأمر على ظاهره وإطلاقه يستخف بهؤلاء
القوم؛ لأن انحطاط قيمة المرأة ومقامها عندهم دليلٌ على انحطاطهم ، ولكن أخذ
الأمر على ظاهره وإطلاقه ليس من شأن الذين يحبّون معرفة الحقائق.
إن كل بلد فيها الفقراء وذَوُو اليسار، وفيها الحمقى وأُولُو الألباب، وفيها القساة
وأهل المَرْحَمَة. فليس من العقل ولا العدل أن يجعل عمل بعض الحمقى أو القساة
أو الفقراء في بلد مثالاً ومرآةً لأعمال مجموع أهل البلد.
كان في مكة فقراءُ وحَمْقى وقساة كما هو الحال في سائر البلاد ، وكان أناس
قليلون من هذه الأصناف يأتون هذا العمل الفظيع؛ نَعْنِي الوأْدَ (دَفْنُ البنات في
الحياة في سِنّ الطفولة) فلا ينبغي أن يُقال بدون تقييد: إن القوم الذين نشأَتْ منهم
سيدتنا هذه كانوا يَئِدون البنات.
إن قومًا نبغَتْ فيهم مثل هذه السيدة لا يُعقل أن يكونوا قَتَلَةَ بناتٍ؛ كَلَاّ إنهم لم
يكونوا يقتلون الأجساد، ولم يكونوا يقتلون منهن العقول والإرادات، وأما الذي
نقل عنهم فهو عَمَل نَفَرٍ يكادون لا يُذكرون من فقرائهم أو حمقاهم أو قساتهم.
ولم يكن الذين يئدون بناتهم يأتون هذا العمل الفظيع تغيظًا من هذه النسمات
البريئة ، أو احتقارًا لجنس المرأة كما يلوح لأول وهْلَة ، بل كان يسوقهم إلى ذلك
فساد في الخيال وضعف عظيم في الطبيعة. وإن الخيال الفاسد ليزين المنكر حتى
يظنه صاحبه من المعروف؛ كما يشاهد كل واحد منا كثيرًا.
كان منهم فقراء يزين لهم خيالُهم الفاسد أن فتاتهم إذا ظلّتْ في ميدان الحياة
ربما نالها ضيْم من فقرهم ، وربما عجزوا عن أن يكرمنهن بنفقة تساويهن بأَتْرَابهن
من ذوي قرباهن أو جوارهن، فيرون مواراتهن في التراب خيرًا لهن من بقائهن
دون الأتراب.
لا نكرانَ للحق أن هذا لَخيالٌ باطل ، ولا سِيَّمَا عند المؤمنين ، ولكن هذا
الخيال الباطل لم يوحِ إلى صاحبه أن الفتاة شجرة خبيثة يجب اجتثاثها قبل النمو ،
ويستحسن حرمان الوجود من ثمراتها ، وإنما زيّن له سوء عمله هذا من طريق
أخرى هي كرامة فتاته.
يتخيل ذلك المسكين أن فتاته إن عاشت تعيش مثله في غصص تذيب الفؤاد ،
ولو قدَّ من الجلمود، وكرب تسود الوجوه البيض ، وتبيض الشعور السود، فيزين
له خيالُه أن يحمي كريمته فِلْذَةَ كَبِدِهِ مِن مثل هذه الحياة التي بلاها فقلاها ، وأن يتقي
بألم ساعة عند توديعها وتسليمها إلى الأبد آلام سنين يراها فيها كثيرة النصب قليلة
النصيب ، كما يتقي أحدهم بألم الكي آلام سقم مزمن.
وكان منهم حمقى توسوس لهم شياطينُ الخواطر بأن الفتاة ربما وقعتْ في يد
من لا يرعى له ولها حُرْمَة. ولو قضي على كل البشر بمثل هذه الوساوس لآذنت
الدنيا بالانقضاء ، ولكن الموجد لم يشأ إلا أن تكون الدنيا على هذا النمط من
الاستمرار ، فلذلك لم يوجد لهذه الوساوس سلطانًا على قلوب البشر إلا قليلاً ممن
بلغنا شيء عنهم من هذا القبيل.
ساء ما يزين لهؤلاء الفقراء والحمقى الذين كبر نصيبهم من القسوة مع نصيبهم
من الفقر والحمق ، فلو علم المعدم أن اليسار ليس محتكرًا في بيوت معينة وأشخاص
مختصة ، وإنما يتاح للعاملين المحسنين مع الظروف المناسبة، وأن قيمة كل امرئ
ما يحسنه، وأن ليس عليه إلا أن يعمل بالمعروف عند قومه، ويصبر قليلاً حتى يتاح
له ما يقوم به شأنه، لَمَا سهلَ عليه أن يقصف بيديه غصنًا منه أنبته الله ، ولا لذة
أكبر من تربيته وتنميته.
ولو علم الأحمق أن الفرار من توهم العدو نهاية الجبن وغاية الخذلان، ويثمر
أقصى درجات الخسران لَرَأَى أنه جدير بالبكاء على حظه من ضعف النفس.
وهيهاتَ أن يكون قوم (خديجة) على هذا النمط من ضعف النفوس ، وهم
المعروفون بالشجاعة والإقدام. وأَيُّ قوم تطيب لهم الحياة إذا كانوا لا يرون سلامة
حرمهم إلا بإفنائها؟ وأَنَّى يجد الشخص الطمأنينة إذا كان دأبه الهرب، من غير ما
طلب؟
أَمّا إنهم كانوا يكرهون البنات إذا بُشِّرَ أحدُهم بها فلا يستطيع أحدٌ إنكارَه؛ لأن
القرآن المجيد هو الذي سجّلَ هذه الحقيقة التاريخية ، وقد سرى هذا إلى نفوسهم من
شدة احتياجهم إلى البنين الذين سيكونون المدافعين في ذلك المجتمع القائم بنفسه قيامَ
المجتمعات الكبيرة.
وليس معناه أن البنت تظلّ طول دهرها مكروهةً ، أو أن النساء لا قيمةَ
لهن ولا قَدْرَ عند أولئك القوم. ما ذنْب القوم إذا كان نَفَر من فقرائهم وحمقاهم
قد ضعف نفوسهم ، فاستسلموا إلى الاستراحة مما يلذ للكرام التعب فيه؟ وما إجرامهم
إلى الإنسانية من بعْدِ أن يقوم أمجادُهم بافتداء كثير من الفتيات اللاتي تصدى
آباؤهن لِوَأْدِهِن من الفقر؟
إن العرب كافّةً وقريشًا خاصّةً كانوا يعزّون المرأة ولا يهينونها ، وقد أَعْطَوُا
النساءَ كلَّ ما لهن من الحقوق في نظر العدل ، ولم يَنْسَوْا أن المرأة كالرجل هي
إنسان يحمل دماغًا فيه إدراك ، وأن لهذا الإنسان المؤنث نفسًا كنفس ذلك الإنسان
المذكر تغضب وترضى وتنعم وتشقى ، فأعطَوْا دماغها ونفسها حقيْهِما.
وقد رَوَوْا لنا أن هندًا بنت عتبة وهي من قوم سيدتنا (خديجة) جاءها أبوها
يشاورها في رجلين من قومها رغبَا الزواجَ بِها ، فقالت: صِفْهُمَا لي ، فقال: (أما
أحدهما ففي ثروة وَسَعَة من العيش ، إنْ تابعتيه تابعكِ، وإن ملتِ عنه حطّ إليكِ،
تحكمين عليه في أهله وماله، وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه، في الحَسَب
الحسيب، والرأي الأريب، مدره أرومته، وعز عشيرته، شديد الغيرة، لا ينام
على ضَعَة، ولا يرفع عصاه عن أهله) [1] فقالت: يا أبتِ الأول سيِّد مضياع
للحرة ، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جَنَاحه إذا تابعها بعلها فأشِرَتْ،
وخافها أهلها فأمنت، فساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت
بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطوِ ذكر هذا عَنّي ولا تسمه عليّ
بعدُ.
وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة، الحرة العفيفة، وإني لأَخْلاقِ مثل هذا
لموافقة؛ فزوجنيه ، فزوجها الثاني ، وكان هو أبا سفيان بن حرب فولدت منه
معاوية مؤسس دولة بني أمية الشهيرة ، وأحد نجباء العرب ودواهيهم.
فهكذا كان مقام المرأة في قوم سيدتنا (خديجة) لا يفتات أهلها عليها في حقها ،
وهكذا كان رأي ذوات الحِجَى والزكانة منهنَّ.
ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة والأمور العمومية. وناهيك
أن الحرب التي ظلت مستعرة نحوًا من أربعين سنةً بين بني ذُِبيان وبني عبس لم
يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأةٌ ، ولم تتمكن من إطفائها إلا بِما لها من المكانة ،
وحسن الرأي ، وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما زوجها أبوها
من الحارث بن عوف المرِّيّ، وأراد أن يدخل عليها قالت: أتتفرغ للنساء والعربُ
يقتُل بعضُها بعضًا؟ تَعْنِي بني عبس وبني ذبيان. فقال لها: ماذا تقولين؟ قالت:
(اخرج إلى هؤلاء القوم فأَصْلِحْ بينهم ، ثم ارجعْ إليّ) فخرج وعرض الأمر
لخارجه بن سنان ، فاستحسنَ ذلك وقاما كلاهما بهذا الأمر ، فمشيا بالصلح ، ودفعا
الدِّيات من أموالهم ، وحَسْبك مَنِ اشتهرْن مِن العربيات في السياسة منهن اللَاّتِي كُن
من شيعة الإمام علي أيام مناصبة معاوية كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية،
وبكارة الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأم سنان بنت جشمة بن
خرشة المذحجية، وعكرمة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمية الحجونية، وأم الخير
بنت الحريش بنت سراقة البارقي. وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب
الهاشمية.
وفدتْ سودة على معاوية بعد موت علي ، فاستأذنتْ عليه ، فأذن لها فَلَمّا دخلت
عليه سلمت سودة ، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير
المؤمنين. قال لها: أنت القائلة لأخيك:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة
…
يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليًّا والحسين ورهطه
…
واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخا النبي محمد [2]
…
علم الهدى ومنارة الإيمان
فقُد الجيوش وسِر أمام لوائه
…
قدمًا بأبيض صارم وسنان
قالت: (يا أمير المؤمنين ، مات الرأس، وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد
نسي) فقال: (هيهات ، ليس مثل مقام أخيك ينسى) . قالت: صدقْتَ والله يا
أمير المؤمنين ، ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرًا لتأتمُّ الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: قد فعلت فقولي
حاجتك. فقالت: يا أمير المؤمنين (إنك للناس سيّد، ولأمورهم مقلد، والله
سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط
بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة،
ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا
الطاعةُ لَكَان فينا عز ومَنْعَة، فإمَّا عزلتَه فشكرناك، وإمّا لا فعرفناك) فقال
معاوية: (إيايَ تهددين بقومك ، والله لقد هممتُ أن أردَّكِ إليه على قِتْب أشرس ،
فينفذ حكمه فيك) فسكتَتْ ، ثم قالت:
صلى الإله على روح تضمنه
…
قبر فأصبح فيه العدل مدفونًا
قد حالف الحق لا يبغي به ثمنًا
…
فصار بالحق والإيمان مقرونًا
قال: ومَن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، قال: ما أرى
عليك منه أثرًا. قالت: بلى ، أتيته يومًا في رجل ولاّه صدقاتنا ، فكان بيننا وبينه
ما بين الغث والسمين ، فوجدته قائمًا ، فانفتل من الصلاة ، ثم قال برأفةٍ وتعطفٍ:
ألكِ حاجةٌ؟ فأخبرته خبر الرجل ، فبكى ، ثم رفع يديه إلى السماء ، فقال: (اللهم ،
إني لم آمُرْهم بِظُلْم خلقك، ولا ترْكِ حقِّك) ثم أخرج من جيبه قطعةً من جراب ،
فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
{قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} (يونس: 57) {فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85){وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة: 60){بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (هود:
86) إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي مَنْ يقبضه منك ، والسلامُ) .
قال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها. فقالت: (ألي خاصَّةً أم
لقومي عامّةً؟) فقال: (ما أنت وغيرك) . قالت: (هي والله الفحشاء واللؤم ، إن
كان عدلاً شاملاً ، وإلاّ يسعني ما يسع قومي) . قال:(اكتبوا لها بحاجتها) .
ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي ، فدخلت عليه ، وكان
بحضرته عمرو بن العاص ومروان وسعيد بن العاصي ، فجعلوا يذكرونه بأقوالها
التي قالتها في مشايعة علي ومعاداة معاوية ، فقالت: (أنا والله قائلة ما قالوا ، وما
خفي عنك مني أكثر) فضحك ، وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك.
وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس
الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها وعِدّة من فرسان قومها ، وأن يوسع لها في النفقة ،
فلما وفدت على معاوية قال: مرحبًا ، قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك؟
فقالت: بخير يا أمير المؤمنين. ثم قال لها: ألستِ الراكبة الجمل الأحمر ، والواقفة
بين الصفين تحضين على القتال ، وتوقدين الحرب ، فما حملكِ على ذلك؟ قالت:
يا أمير المؤمنين (مات الرأس وبتر الذَّنَب، ولا يعود ما ذهب، والدهر ذو غِيَر،
ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر) قال لها: أتحفظين كلامك يومئذ؟
قالت: (لا ، والله لا أحفظه) قال: لكني أحفظه؛ وَتَلَا عليها خُطْبة من خطبها
التي هي في منتهى البلاغة ، ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم
سفكه. قالت: (أحسن الله شارتك ، وأدام سلامتك، فمثلك يبشر بخير ، ويسر
جليسه) قال: (أوَيَسرك ذلك؟) قالت: (نعم ، والله) فقال: (والله ، لوفاؤكم له
بعد موته، أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك) فقالت: يا أمير
المؤمنين ، آليتُ على نفسي أن لا أسأل أميرًا أَعَنْتُ عليه أبدًا. ومثلك من
أعطى من غير مسألة وجاد عن غير طلبة. قال: صدقْتِ. وأمَرَ لها وللذين جاءوا
معها بجوائزَ.
ووفدت عليه أيضًا أم سنان بنت جشمة، وعكرشة بنت الأطرش، ولما حجّ
سأل عن دارمية الحجونية ، فجيء بها إليه ، فقال لها: (بعثتُ إليكِ لأسألك عَلَامَ
أحببتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ فاستعفته فلم يفعل. فقالت له أحببت
عليًّا على عدْلِه في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال مَن هو
أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بالحق، وواليت عليًّا على حبه المساكين،
وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك
بالهوى) ثم قال لها: يا هذه ، هل رأيت عليًّا؟ قالت (أي ، والله) قال: فكيف
رأيته؟ قالت: (رأيته والله لم يفتنه المُلك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي
شغلتك) قال: فهل سمعتِ كلامه؟ قالت: (نَعَم والله، فكان يجلو القلوب من
العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست) . قال: صدقْتِ ، فهل لك من حاجةٍ؟
(قالت:) نعم ، تعطيني مائة ناقة حمراء (قال: ماذا تصنعين بها؟) قالت:
(أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح
بها بين العشائر) قال: فإنْ أعطيتك ذلك ، فهل أحل عندك محل علي بن أبي
طالب؟ قالت (سبحانَ الله ، أوْ دونه) فقال: (أما والله ، لو كان عليٌّ حيًّا ما
أعطاك منها شيئًا) قالت: لا والله ولا وبرةً واحدةً من مال المسلمين.
وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة ، ووفدت عليه أروى
بنت الحارث ، وجرى لهما معه حديث من مثل ما تقدم.
فهكذا كان مقام المرأة العربية من أخوات سيدتنا القرشية. وهكذا كان حظهن
من الفصاحة والحصافة، ومبلغهن من المشاركة في الأمور العمومية ، والأخذ
بالأسباب، والمشايعة لبعض الأحزاب، وما أَتَيْنَا إلا باليسير توطِئَةً لمعرفة مقام
السيدة خديجة في قومها.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كناية عن اليقظة.
(2)
أخوة الدين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ترجمة القرآن
(س) من الشيخ حسن شاه أفندي أحمد (بروسيا) .
حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا.
نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المُهِمَّة:
ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه (بشائر
صدق نبوت) ما ترجمته:
إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين ، وجميع المباحثات التي دارت
بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة؛ وذلك لوجوهٍ:
(الأول) أنَّ ترجمته بالتمام غير ممكنة؛ لإعجازه من جهة البلاغة.
(والوجه الثاني) أن فيه كثيرًا من الكلمات لا يُوجد لها مقابلٌ في اللغة التي
يترجم إليها ، فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير ثم إذا
نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضًا ، وَهَلُمَّ جَرّا ،
فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره.
(الوجه الثالث) أن كلمات الكتب السماوية يُسْتخرج منها بعض إشارات
وأحكام بطريق الحساب ، فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق. مثال ذلك أن سعدي
جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت
الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن ، وسورة الناس التي
هي آخر سوره تكون الحروف الباقية ثلاثةً وعشرين.. قال - وفي ذلك إشارة إلى
مُدّة سني النبوة المحمدية -: (فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه
الفوائد التي هي من جملة معجزاته. انتهى) من بشائر صدق نبوت.
أمّا أدباؤنا معشر الترك الروسيين ، فإنهم مصرون على ترجمته ، ويقولون:
لا معنى للقول بأنه لا تجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم؛ فلذا يذهبون
إلى وجوب ترجمته ، وهو الآن يترجم في مدينة قزان ، وتطبع ترجمته تدريجًا ،
وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية
القفقاز فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حرره الإمام الحقير
…
...
…
...
…
...
…
... أحسن شاه أحمد
…
...
…
...
…
...
…
... الكاتب الديني السماوي
(ج) إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم أن لا يبينوا معاني القرآن لأهل
كل لغة بلغتهم ، ولو بترجمة بعضه لهم لأجل دعوة من ليس من أهله إليه ، وإرشاد
من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة. وإن من زلزال المسلمين في دينهم أن
يتفرقوا إلى أمم تكون رابطة كل أُمّة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية ،
ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله ، المعجز بأسلوبه وبلاغته
وهدايته ، المُتَعَبّد بتلاوته اكتفاءً بأفرادٍ مِن كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بِحَسَب ما
يفهم المترجم.
هذا الزلزال أَثَر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين. زيّن لنا أن
نتفرق وننقسم إلى أجناس ظانًّا كل جنس مِنا أنّ في ذلك حياته ، وما ذلك إلا موت
للجميع. ولا نطيل في هذه المسألة هنا ، ولكننا نذكر شيئًا مما يخطر في البال مفاسد
هجْر المسلمين للقرآن المنزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) استغناءً
عنه بترجمةٍ أعجميةٍ يغنيهم عنها تفسيرُه بلغتهم ، مع المحافظة على نصّه المتواتر
المحفوظ من التحريف والتبديل ، مع مراعاة الاختصار؛ فنقول:
(1)
إن ترجمة القرآن ترجمةً حرفيةً تطابق الأصل مُتعذّرةً ، كما يعلم من
المسائل الآتية ، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن ، أو فهم من عساه
يعتمد هو على فهمه من المفسرين ، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن وإنما
هي فهم رجل للقرآن، يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود
المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره.
(2)
إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي ، بل هو الدين كله؛ إذ السنةُ
ليست دينًا إلا من حيثُ إنها مبينة له. فالذين يأخذون بترجمتِه يكون دينهم ما فهمه
مترجم القرآن لهم ، لا نفس القرآن المُنزل من الله على رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم. والاجتهاد بالقياس إنما هو فرْعٌ عن النص ، والترجمةُ ليست نصًّا من
الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بُدَّ أن يكون له مستندٌ ، والترجمة ليست
مستندًا. فعلى هذا لا يسلم لِمَنْ يجعلون ترجمةَ القرآن قرآنًا شيء من أصول
الإسلام.
(3)
إن القرآن مَنَعَ التقليد في الدين ، وشنعَ على المقلدين؛ فأخذ الدِّين من
ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه؛ فهو إذًا خروجٌ عن هداية القرآن لا اتباع لها.
(4)
ويلزم من حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به
المؤمنين في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وأمثالها من الآيات التي تجعل من مزايا المسلم استعمالُ عقْلِه ،
وفَهْمِهِ فيما أنزلَ الله.
(5)
وكما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية ، يلزم منعُ الاجتهاد
والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم.
(6)
إن من يعرِف لغةَ القرآن ، وما يحتاج إليه في فهمه كالسُّنَّة النبوية ،
وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورًا بالعمل بما يفهمه من
القرآن ، وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له. كما
يعلم ذلك من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فيما فهموه من كيفية التيمم إذ
عذر المختلفين في فهمها والعمل بها ، ومثله معاملته لهم فيما فهموه من نهيه
عن صلاة العصر إلا في قريظة ولذلك شواهدُ أخرى. ولا إخالُ مسلمًا يجعل
لعبارة مترجم القرآن هذه المزية.
(7)
إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية لا تَخْلُقُ جِدَتُهُ، ولا تفتأ
تتجدد هدايتُه، وتفيض للقارئ على حَسَبِ استعداده حكمته، فربما ظهر للمتأخر من
حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله تصديقًا لعموم حديث (فرب مبلَّغ أوعى من
سامع) وترجمته تبطل هذه المَزِيّة؛ إذ تقيد القارئ بالمعنى الذي صوره المترجم
بحسب فهمه. مثال ذلك إن المترجم قد يجعل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) من المجاز بالاستعارة؛ أي: إن اتصال الريح بالسحاب ،
وحدوث المطر عَقِب ذلك يشبه تلقيحَ الذكرِ للأنثى وحدوث الولد بعد ذلك ، كما فهم
بعض المفسرين. فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة التي
يُتَرْجَمُ بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أُطْلِقَ فإنّ
القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة فيه وهو
كون الرياح لواقح بالفعل؛ إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى إناثه.
فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمةً حرفية ، فإن
هناك أمثلةً أخرى ، وحَسْبُنَا أن يكون هذا موضحًا. والترجمة تقف بنا عند حدٍّ من
الفهم يعوزنا معه الترقي المطلوب.
(8)
ذكر الغزالي في كتاب (إلْجَامُ العَوَامِّ عن عِلْمِ الكلام) أن ترجمة آيات
الصفات الإلهية غيرُ جائزةٍ ، واستدل على ذلك بما هو واضح جِدًّا، وقد ذكرنا
عبارته في تفسير {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) ، وبَيّنَ أنّ الخطأ في ذلك مدرجة للكفر [1] .
(9)
ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدمَ أن من الألفاظ العربية ما لا
يوجد لها فارسية تطابقها - أي: ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله
المترجم في مثل هذه الألفاظ؟ وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يُوقِع قارئ ترجمته
في اعتقاد ما لم يرده القرآن.
(10)
وذكر في ذلك أيضًا أن من الألفاظ العربية ما لها فارسية تطابقها
(لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب
باستعارتها منها) فإذا أَطْلَقَ المترجمُ اللفظَ الفارسي يكون هنا مؤدِّيًا المعنى الحقيقي
للفظ العربي ، وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من
الأعاجم. وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل
وصفاته وأفعاله.
(11)
وذكر أيضًا في هذا المقام أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركًا في
العربية ، ولا يكون في العجمية كذلك. فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنى
المشترك؛ ولا يخفى ما فيه، وقد مرَّ نظيره آنفًا.
(12)
مِن المُقَرَّرِ عند العلماء أنه إذا ظهَر دليلٌ قطعيٌّ على امتناع ظاهر
آية من آيات القرآن ، فإنه يجب تأويلها حتى تتفقَ مع ذلك الدليل. والفرْقُ بين
تأويل ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل لا سِيَّمَا في
الآيات المتشابهات والألفاظ المشتركة.
(13)
إن لِنَظْمِ القرآن وأسلوبه تأثيرًا خاصًّا في نفس السامع لا يمكن أن
ينقل بالترجمة ، وإذا فاتَ يفوتُ بِفَوْتِهِ خيرٌ كثيرٌ ، فيا طالما كان جاذبًا إلى الإسلام
حتى قال أحد فلاسفة أوربا (وهو فرنسي نسيت اسمه) : إن محمدًا كان يقرأ القرآن
بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به ، فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن
غيره من الأنبياء من المعجزات.
وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرةً الاحتفال السنوي لمدرسة الجمعية
الخيرية الإسلامية بالقاهرة ، فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة آياتٍ من القرآن ، فقال لي
الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في النفس ، ثم لَمّا كتبَ خبر
الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك. فإذا كان لتلاوة القرآن هذا التأثير حتى
في نفس غير المؤمن به ، فكيف نحرم منها المسلمين بترجمة القرآن لهم!
(14)
إذا ترجم القرآن التركي والفارسي والهندي والصيني إلخ ، فلا بُدَّ أن
يكونَ بيْنَ هذه التراجم مِن الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد
الجديد عند النصارى ، وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من الخلافات
التي كنا نقرأها، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها؛ فكيف نختارها بعد ذلك
لأنفسنا!
(15)
إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،
بل هو الآية الباقية من آيات النبيِّين ، وإنما يظهر كَوْنُهُ آيةً باقيةً محفوظةً من
التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف بالنص الذي نقلناه عمَّنْ جاء به من عِنْدِ الله
والترجمة ليست كذلك.
هذا ما تراءى لنا من الوُجُوه المانعة من ترجمته للمسلمين ، ليكون لهم قرآن
أعجمي بدل القرآن العربي ، وإذا كان بعض هذه الوُجُوه مما يمكن إدخاله في
البعض ، وإنما ذكر هكذا لزيادة الإيضاح ، فإن هناك وُجُوهًا أخرى يمكن استنباطها
لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن ، بل منها ما تركناه مع تذكره
كاستعمال المشترك في معنييه ، واللفظ في حقيقته ومجازه ، كما حققه بعض أهل
الأصول كالشافعية.
أما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أنَّ عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب بقائه
غير مفهوم فهي ممنوعة؛ فإننا نقول: إن فهمه سهل ، ولكن ليس لأحد أن يجعل
فهمه حُجَّةً على غيرِهِ ، فكيف يجعله دِينًا لشعب برمته! وإن لاهتداء المسلم
الأعجمي بالقرآن درجتين - درجة دنيا خاصة بالعَوَامِّ الذين لا يتيسر لهم طلب العلم؛
فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ لأجل قراءتها في الصلاة ، ويترجم لهم
تفسيرها، وتقرأ أمامهم في مجالس الوعظ بعض الآيات ، ويذكر لهم تفسيرها بلغتهم
كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين - ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم ،
وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته ، ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير
مقلدين لأحد منهم.
إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام على أيدي الصحابة الكرام قد فهموا أن
للإسلام لغةً خاصةً به لا بُدَّ أن تكون عامةً بين أهله؛ ليفهموا كتابه الذي يدينون به ،
ويهتدون بهديه ، ويعبدون الله بتلاوته ، ولتتحقق بينهم الوَحْدَة المشار إليها بقوله
فيه {ِإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) ويكونوا جديرين بأن يعتصموا به ،
وهو حبل الله فلا يتفرقوا ، ولتكمل فيهم أُخُوَّة الإسلام التي حَتَّمَهَا عليهم بقوله:
{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ولذلك انتشرت اللغة العربية في
البلاد التي فتحها الصحابة بسرعة غريبة ، مع عدم وجود مدارسَ ولا كتب ولا
أساتذة للتعليم ، واستمرت الحال على ذلك في زمن الأُمَوِيِّينَ في الشرق والغرب ،
وفي أول مدة العباسيين حتى صارت العربية لغةَ الملايين من الأوربيين
والبربر والقبط والروم والفرس ، وغيرهم في ممالكَ تمتدُّ من القاموس المحيط
الغربي (الأتلانتيك) إلى بلاد الهند ، فهل كان هذا إلا خيرًا عظيمًا تآخَتْ فيه
شعوبٌ كثيرةٌ ، وتعاونَتْ على مدنيةٍ كانت زينةً للأرض وضياءً ونورًا لأهلها؟
ثم هفا المأمون في الشرق هفوة سياسية حركت العصبية الجنسية في الفرس ،
فأنشئوا يتراجعون إلى لغتهم ويعودون إلى جنسيتهم، وجاء الأتراك ففعلوا بالعصبية
الجنسية ما فعلوا، فسقط مقام الخلافة ، وتمزق شمل الإسلام بقوة ملوك الطوائف.
ولكن لم تصل الفتنة بالناس إلى إيجاد قرآن أعجمي للأعاجم وإبقاء القرآن
العربي المنزل خاصًّا بالعرب ، بل بقى الدين والعِلْم عربيّين وراءَ إمَامِهِما الذي هو
القرآن.
فالواجب على دعاة الإصلاح في الإسلام الآن أن يجتهدوا في إعادة الوَحْدَة
الإسلامية إلى ما كانت عليه في الصدر الأول خير قرون الإسلام ، وأن يستعينوا
على ذلك بالطرق الصناعية في التعليم فيجعلوا تعلّم العربية إجباريًّا في جميع
مدارس المسلمين ، ويحيوا العلم بالإسلام بطريقة استقلالية ، لا يتقيدون فيها بآراء
المؤلفين في القرون الماضية المخالفة لطبيعة هذا العصر في أحوالها المدنية
والسياسية. ولكننا نرى بعض المفتونين منا بسياسة أوربا يعاونونها على تقطيع بقية
ما ترك الزمان من الروابط الإسلامية بتقوية العصبيات الجنسية ، حتى صار بعضهم
يحاول إغناء بعض شعوبهم عن القرآن المنزل!
ألا إنها فتنة في الأرض وفساد كبير؛ وقى الله المسلمين شره. فهذا ما أقوله
الآن في ترجمة القرآن للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إمامًا لهم ودون
ترجمته لدعوة غيرهم به إلى الإسلام مع بيان أن المترجم بين المعنى الذي
يفهمه هو.
_________
(1)
راجع ص728م9أو214من الجزء الثالث من التفسير.
الكاتب: محمد رشيد رضا
سد يأجوج ومأجوج
(س2) من أمين أفندي الشباسي بهندسة عتبره (السودان) .
فضيلة الأستاذ المرشد صاحب مجلة المنار الغراء:
كنا في منزل يُتلى فيه القرآن الكريم ، فلما جاء ذكر ذي القرنين ويأجوج
ومأجوج والسدّ قال أحد إخواني: إن هذه القصة لم يظهر لها أثر تاريخي للآن ، مع
أنه صار اكتشاف ما على الأرض من قبل ذلك العهد وبعده. قلتُ له: يا أخي ، لَعَلَّ
هذا الأثر التاريخي يظهر فيما بعدُ؛ ليكون معجزةً للقرآن على ممر الأيام ، كما
حصل في قصة فرعون؛ فإنه وعد بأن ينجيه ليكون لمن بعده آيةً ، وقد تحقق ذلك
في هذه الأيام. فقال: يا أخي ، إن كلامك هذا هو جواب عليك؛ إذ إن فرعون
وخلافه آثار صغيرة جدًّا مدفونةٌ تحت الأرض وظهرت، والسدُّ ليس كذلك ، وهذا
وجه استغرابي؛ لأن سياق الآية يدلنا على أنه بين جبلين كبيريْنِ ، ومن حديد
ونُحَاس ، ومن دونه أُمَّة كبيرة لو فُتِحَ لها ذلك السدُّ لدوخت العالم بأسره! فأين هي
تلك الأُمّة وذلك السد، ورسْمُ الكُرَة الأرضيّة أمامَ نظري أُقَلب فيه فلا أجد تلك الأمة
ولا ذلك السد.
قلتُ: يا أخي ، إني أظنُّ أن هذه الأمة هي أمة التتار ، والسد هو سدّ الصين
المشهور ، وقد خرجت واخترقت آسيا والهند ومصر وأوربا وأخذت المُلْك من
المسلمين ، وأتذكر أني رأيت حديثًا في بعض الكُتُب لا أعرِف صِحَّتَه جاء فيه ما معناه
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا مع أصحابه، ففزع ، فلما سألوه
عن السبب قال: وَيْلٌ لأُمَّتِي من السّيل المنهمل ، يشير إلى قرب خروج يأجوج
ومأجوج ، فلما خرجوا وأخذوا الملك من المسلمين في عهد ملك التتار فسر علماء
ذلك الوقت هذا الحديثَ بذلك. وبعد جدال كبير حصل بيننا وعدته بأن أفيده عن يد
فضيلتكم بالجواب القطعي؛ فرجائي أن تفيدوا الجواب على صفحات المنار الأَغَرّ
حتى يقتنعَ المشاغب ، كما هو المشهور من فضيلتكم من إيضاح الحقائق ،
ولفضيلتكم الشكرُ، أفندم.
(ج) سألنا هذا السؤال غيرُ واحد من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار؛
ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلةٌ؛ فإن بقعة كل
من القُطْبَيْنِ لا سِيَّمَا القطب الجنوبي لا تزال مجهولةً.
وقد استدل بعض العلماء على أن السدّ بني في جهة أحد القطبين بذكر بلوغ ذي
القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس مطلعها ، وليس ذلك إلا جهة الشمال ، أو
جهة الجنوب. ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد
القطبين؛ فإن حالة مدنِيّة ذلك العصر ، وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا
الآن ، فنبني عليها اعتراضًا كهذا؛ فما يدرينا أن الاستطراقَ إلى أحد القطبين أو
كليهما كان في زمن ذي القرنين سهلاً ، فكم من أرضٍ يابسةٍ فاضت عليها البحار
فغمرتها بطول الزمان ، وكم من أرض انحسر عنها الماء فصارت أرضًا عامرة
متصلةً بغيرها أو منفردةً (جزيرةً) وكم من مدينة طُمِسَتْ حتى لا يُعْلَمَ عنها شيءٌ ،
ومِن المعلوم الآن من شئون المدنيات القديمة بالمشاهدة أو الاستدلال ما يجهل بعض
أسبابه كالأنوار والنقوش والألوان وجر الأثقال عند المصريين القدماء ، فالقرآن
يقول في ذي القرنين: {فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ} (الكهف: 85-86) كذا
من مطلع الشمس ومغربها وبين السَّدَّيْنِ، فما هي تلك الأسباب؟ هل هي هوائية
أو كهربائية؟ اللهُ أعلمُ بذلك.
هذا ما يُقال بالإيجاز في رَدّ دعوى معرفة جميع أجزاء الأرض ، التي بُنِيَ
عليها الاعتراضُ. ثم إن ما بني على هذه الدعوى باطلٌ ، وإنْ فرضنا أنها هي
مسلَّمة ، وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السدَّ كان فيهما؛
أحدهما: الموضع الذي يُسمّى الآن (دربند) بروسيا ، ومعناه: السد ، وفيه موضع
يسمى (دمرقبو) أي: باب الحديد ، وهو أثر سد قديم بين جَبَلَيْنِ يُقال: إنه من
صنع بعض ملوك الفرس ، ويحتمل أن يكون موضع السد.
وقد ذكره ملطبرون في جغرافيته بما يدل على ذلك (راجع ص15و16ج
3) وأخبرني مختار باشا الغازي أنه رأى خريتةً جغرافيةً قديمةً لِتِلْكَ الجهات ،
وفيها رسْم ذلك المكان ، وبيان أن وراءه قبيلتين اسم إحداهما:(آقوق) واسم
الثانية: (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين بيأجوج ومأجوج ظاهِرٌ جَلِيٌّ.
وأمّا الموضع الثاني ، فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية
على غرابته وهو:
في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين
مرحلة (مائة وبضعة فراسخَ) مدينة قديمة تُسَمّى الطُّوَيْلة. وفي شرقي هذه المدينة
وادٍ عميق جدًّا ، يحيط به من ثلاث جهات جبال شامخة منتصبة ، ليس فيها مسالك
معبَّدة ، فالمتوقّل فيها على خطر السقوط والهويّ ، وفي الجهة الرابعة منه سهوب
فيحاء ، يستطرق منها إلى الوادي ومنه إليها ، وفجوة الوادي من هذه الجهة
تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي (الذراع الفارسي متر وأربعة سنتيمات) وفي هذه
الفجوة سدّ صناعي يمتد من أحد صدفي الجبلين إلى الآخر ، وهو من زُبر الحديد
المتساوية المقدار ، فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع ، فأما سمكه فخمسة عشَر شِبْرًا
وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه وارتفاعه؛ لأن أرضه غير
مستوية.
في القرن العاشر للهجرة لَمّا فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن وصل
إلى قلعة تسمى تسام ، واقعة بجوار هذا السدّ ، فأمر بعدَّ زبر الحديد المبني بها
السد ، فقصارى ما تيسر لهم عده منها تسعة آلاف. في طرفي هذا السد قلعتان
عظيمتان ، محكمتا البناء ، قديمتان، تسمى إحداهما قلعة العرصة والثانية قلعة
الباحثة.اهـ
فهذا الوصف ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد ، وبلاد اليمن هي
فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحِمْيَرِيّينَ في
حَضْرَمَوْتَ واليمن المعروفين بالأذواء (كذي يزن وذي الكلاع وذي نواس)
ولكن إن صح وجود السد ، فأين يأجوج ومأجوج منه ، وهم التتر كما ورد في تاريخ
السوريين قبل الإسلام أو السكيثيين الذين وصفهم حزقيال النبي بما ينطبق على
وصفهم في تواريخ اليونان. ويعدهم النصارى رمزًا لأعداء الكنيسة.
ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك ، ولم يكن فيما بقي مجهولاً
من الأرض؛ فَلِمَ لا يجوز أن يكون قد اندكّ ، وذهب أثره من الوجود؟ إن قيل يمنع
من ذلك أن اندكاكه ، وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة أجبنا بجوابين؛
(أحدهما) : أن قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين؛ بدليل أن نبينا نبي الساعة ،
وقرب الساعة نسبي؛ أي: ساعة هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض ،
وما يدرينا أنه ملايين من السنين. (وثانيهما) : أن هناك ساعة عامةً وساعة
خاصةً؛ أي: هلاك أمة معينة كما ورد في شرح بعض الأحاديث الواردة في
الساعة. وربما عدنا إلى التفصيل في هذه المسألة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حكم صور اليد والصور الشمسية
(س3) من الشيخ محمد بسيوني في (سنبس برنيو) .
حضرة علامة الزمان ، فريد العصر والأوان سيدي المرشد السيد محمد رشيد
رضا صاحب المنار الغراء ، نفعني الله بعلومه آمين.
وبعد تقديم واجبات التحيات والاحترام ، فالمرجو من تفضيلات سيدي الجواب عن السؤال الآتي صورته ، وهذا هو: ما قولكم - دامَ فضلُكم - في صورة مشتغلة باليد وصورة متخذة بالفوتغراف هل الفرق بينهما متحقق أم لا؟
وما تقولون فيمن قال: إن الصورة التي اتخذت بالفوتغراف ليس فيها فعل
صورة ، بل هي حبس صورة كحبس الصورة التي في المرآة؛ فلا يحرم
ولكن يحرم وضع هذه الصورة في البيت لمشابهتها الأصنام ، فهل هذا القول
صحيحٌ أم لا؛ أفيدوني سيدي ، ولكم من الله جزيل الأجر والثواب.
(ج) صانع الصُّوَر مصوّر ، سواءٌ صنعها بيده أو بالآلة الشمسية
(الفوتغرافية) . وصورة الشيء هي صورته سواءٌ صورت باليد أو بالآلة ، لا فَرْقَ
بينهما شرعًا ولا عُرْفًا. وأمّا قولُ مَن قال: إنه يحرم وضْع الصور في البيت
لمشابهتها الأصنام ، فهو مبنيٌّ على أصْل صحيحٍ ، وهو أن سبب النهي عن
التصوير وعن اتخاذ الصور هو منْعُ تلك الشعائر الوثنية؛ أي: تعظيم الصور أو
عباداتها؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بِهَتْكِ القرام (الستار)
الذي كان مُعَلَّقًا في بيتها لمشابهته الصوَر التي كانت في الكعبة، فلما هتك واتخذت
منه وسادةً كان صلى الله عليه وسلم يستعملها ولا يرى في ذلك بأسًا.
وحديث القرام أخرجه البخاري في صحيحه وغيرُه. وإذا كان القائل
يعترِف بأن عِلّة تحريم التصوير واتخاذ الصور هي ما ذكر ، فأي فرق يبقى عنده بين
ما سمّاه فعل الصورة وحبس الصورة؟ القصد من الأمرين واحد ، وفي كل
منهما عمل اختياري للمصور ، فإذا فرضنا أن قومًا عبدوا شخصًا أو حيوانًا أو
غيره كما عبد بعض البابية الرجل الملقب ببهاء الله ، فهل يجوز عند ذلك القائل
للمصور المسلم أن يصور لهم معبودهم بالآلة الشمسية؛ ليعظموها ، ويعبدوها بِنَاءً
على أن فِعْلَهُ حبس تلك الصورة لا فعل لها؟ إن هذا قول لا وَجْهَ له فيما نرى ،
واللهُ أعلمُ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوقف على المساجد والمدارس
(س4) مستفيد من سنغافورة:
ما قول المنار المنير في بناء المدارس للتعليم والوقف عليها ، وبناء المساجد
للصلاة ، ولا يخفى عليكم ما ورد في فضلها، فأي الأمرين من البنائين أفضل أفيدونا؟
(ج) في المسألة تفصيل ، فإقامة الجمعة والجماعة في المساجد من شعائر
الإسلام ، إذا تركها أهل بلد وَجَبَ إلزامُهم بها. قال الفقهاء: ولو بالقتال. والعلوم
منها ما هو فريضةٌ ، ومنها ما هو فضيلةٌ ، ولا بُدَّ لأهل كل بلد منها ، فإذا وجد في
بلد مسجد لإقامة الشعائر أو أكثر عند الحاجة فَبِناء المدارس والوقف عليها في ذلك
البلد أفضلُ لا محالةَ ، بل لا فَضْلَ في بناء مسجد لا حاجة إليه؛ لأن مِن أغراض
الشريعة جعْل المساجد على قدْرِ الحاجة لِمَا في كثرتها من تفرّق المسلمين ، وإذا
أمكن اجتماع أهل البلد في مسجدٍ واحدٍ فهو أفضلُ من تفرقهم في مسجدين أو أكثر ،
بل ذهب الإمام الشافعي إلى وُجُوبِ أداءِ الجُمُعَة في مسجدٍ واحدٍ إنْ أمْكَنَ في تفصيل
سبق لنا الكلام فيه في أحد مجلدات المنار. وإذا وجد في بلد مدارس للتعليم ، ولم
يوجد فيها مسجد لإقامة الجمعة والجماعة ، فلا شَكَّ أن بناء المسجد يكون حينئذٍ
أفضل؛ لتوقف إقامة الشعائر عليه.
وإنما تأتي المفاضلة في بلد لا مسجدَ فيه ولا مدرسةَ ، ويحتاج أهلُه إليهما معًا
وحينئذ يظهر أنه يجب الابتداء بالمسجدِ ، ويمكن أن يُصلى فيه ، ويُعلم ما لا بُدَّ منه
حتى يتيسرَ بِناء مكان للتعليم خاصّ به.
وقد تبين مما تقدم أن بناء المدارس أفضلُ في البلاد التي فيها مساجدُ تُقامُ فيها
الشعائرُ ، وأكثر أمصار المسلمين كذلك فبناء المساجد فيها مع عدم الحاجة إليها
مضادٌّ لمقصد الشريعة ، وهو لا يكون إلا عن رياء أو جهل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السياسة الإنكليزية الجديدة في مصر
ننشر هذه المقالة بالإمضاء الرمزي لكاتبها لِمَا فيها من البشارة بالمجلس النيابي
كان عميد الدولة الإنكليزية في عهد توفيق باشا يدير الأمر معه وما يتفقان عليه
ينفذ بهدوء وسكون ، ولكن توفيق باشا كان لضعف إرادته يواتي العميد فيما يريد ،
قَلََّمَا يُرَاجعه في شيء ، فلما ولي العباس رأى منه ذلك العميد ما لم يكن يرى من
والده من المقاومات ، فكان ينتهز فرصة كل حركة لتقوية نفوذ دولته في البلاد ،
فأكثر من المستشارين والمفتشين والقضاة وكبار العمال من الإنكليز ، وفعل ما فعل.
ثم ظهرت المقاومة في الجرائد وعلى ألسنة الناس حتى صارت تشويشًا
مزعجًا. وقد كان لورد كرومر يتمنى لو يتفق مع الأمير ، ولكن كان في طبيعة كل
منهما وطبيعة الوقت ما يحول دون ذلك ، حتى إنهما تَكَلَّمَا غيرَ مَرَّةٍ في أَمْرِ
الوفاق ، وبعد التواطؤ بزمن قصير أو طويل كان يعود التدابر كما كان أو أشد
حتى قِيلَ: إن اللورد عزم في آخِرِ مُدّتِهِ على إقناع دولته بوُجُوب عَزْل الأمير ،
ولكن جاء هذا الرأي في عهد وزارة الأحرار الحاضرة ، وهي وزارة تميلُ إلى
التساهل في المستعمرات ، وما في معناها كمصر في عرفهم ، فلم يتم للورد ما يريد
بل خرج هو من مصر وبقي أميرها فيها. ومما كان قد عزم عليه الرجوع إلى
كبار الأمة في معرفة مطالبها الحقيقية؛ لإنالتها ما يمكن منها مع الإعراض
عن الأمير.
ولا ننسى ما كان في آخر مدته من حملة الجرائد الإنكليزية على الخديو ،
لا سِيَّمَا بعد أن نشر مكاتب الطان عن الأمير ذلك الحديث الشهير ، فعالج الأمير تلك
الحملة عليه بحديث آخَرَ عهد إلى مستر ديسي الإنكليزي بنشره في جريدة الديلي
تلغراف الإنكليزية ، أهم ما فيه الإشارة إلى رغبته في الوفاق ، فكان ذلك مقدمةً
للسياسة الجديدة التي سنبينها.
وهناك مقدمة ثانية شرع فيها لورد كرومر ، وتكفل سر ألدن غورست بالمضي
فيها وهي اختيار الأَكْفَاء من المصريين للوظائف الكبرى وتحميلهم (مسئوليتها) ،
وأول ما بدأ به الأول من ذلك جعل سعد باشا زغلول وزيرًا للمعارف ، وأخيه أحمد
فتحي باشا وكيلاً للحقانية، وآخر ما قرره الثاني جعل عبد الخالق ثروت باشا نائبًا
عموميًّا.
وهناك مقدمة ثالثة جربها العميد الجديد ، فجاءت كما يراد وهي اعتماد إنكلترا
على الأمير في سياسة البلاد العامة ، وعدم الالتفات إلى مطالب الأمة وجرائدها.
فالسياسة الجديدة للإنكليز في هذه البلاد هي أن يلقوا تبعة سياستها وإدارتها
على غاربها ، فلا يحملوا منها شيئًا في مصر بل يحملوها الأمير وحكومته ومجلس
نواب الأمة، وما دونه من مجالس المديريات.
ما هو مجلس نواب الأمة؟ هل هو مجلس الشورى أم الجمعية العمومية؟ وما
معنى تحميله تبعة وهو لا يتبع رأيه؟ لا لست أعني بمجلس النواب ما ذكر وإنما
أعني أن الحكومة البريطانية عزمت على أن تمنح مصر ما تطلبه بلسان جرائدها
وأحزابها من الدستور والمجلس النيابي، وأن تجعل الفضل في هذا للأمير ، فهو
يُكاشفها بذلك ، وهي تظهر له الموافقةَ على رغبته بكيفية مخصوصة. والأمير ينفذ
لها رغائبها بمصر.
إننا نعلم من مصدر رفيع أن الإنكليز عزموا على أن يمنحوا مصر المجلس
النيابي ، وأنه ليس للإنكليز مقاصدُ في مصر تُنافي السماح للمصريين بذلك ، بل
يفتخر أحرار إنكلترا بذلك لموافقته لسنتهم في تحرير الشعوب ، وترقية الحكومات
ويكتفون في الأمن على مصالحهم بمصر باستمرار الاحتلال ، والثقة بمودة أمير
البلاد ، ولا يبالون بالجرائد والأحزاب ، بل يعتقدون أن ستسكن من نفسها ، وأن
خير علاج لها إهمالها.
هذا ما أرويه للقراء روايةً لا يشوبها رأي ولا تخرص، فما كان منه عن
شيء مضى فهو مما يعرفه العارفون، وما كان عن شيء يأتي فسيراه الناظرون، وقد
يقال من باب الرأي: إن الإنكليز مخطئون في ظنهم أن الحركة الوطنية ستسكن من
نفسها؛ فإن وراء مجلس النواب الذي سيكون محدود السلطة كلامًا كثيرًا في سلطتِه ،
ووراء ذلك مسألة الاحتلال نفسها.
نعم ، إن معظم حماسة الجرائد يمكن أن تتحول إلى نقد الوطنيين الذين يحملون تبعة
الإدارة ، وتكون الحُجَّةُ على المحتلين ضعيفةً بل ظهرت بوادرُ هذا في كلام
اللواء في أول مصري عريق حمل تبعة العمل في الحكومة ، وهو سعد باشا زغلول ،
فإن اللواء أشد عليه منه على مستشاره مستر دنلوب. فمن مثل هذا قد استنبط
الإنكليز أن السياسة الجديدة التي شرعوا فيها ستعقبهم راحة من ضوضاء مصر ،
وتشغل المصريين بأنفسهم ، والله أعلم بما تأتي به حوادث الأيام.
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
القرآن والعلم
(2)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في ردّ الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
المسألة الثالثة
(ذو القرنين ومطلع الشمس ومغربها)
قال الله تعالى في قصة ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} (الكهف: 86) إلى قوله: {حَتَّى إِذَا
بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} (الكهف:
90) .
تقول العرب: بلغ فلان مغرب الشمس ، أو وصل إلى المشرق إذا سار إلى
أقصى ما عرف لهم من المسكونة في جهتي الشرق والغرب ، فكان الكلام على تقدير
مضاف؛ أي: وصل فلان إلى أرض المغرب أو أرض المشرق ، ومعنى ذلك أنه
وصل إلى آخر أرض تغيب عنها الشمس ، أو إلى أول أرض تشرق عليها بِحَسب
علمهم ، وإلى الآن تقول جميع الأمم الراقية:(بلغ فلان الشرق الأقصى) إذا سافر
إلى بلاد اليابان أو إلى بلاد مراكش. ويسمون هذه البلاد: الشرق أو المشرق وبلاد
الغرب أو المغرب ، ولا يعنون بذلك سوى أنها أول بلاد من الدنيا القديمة تشرق
عليها الشمس ، وآخر بلاد تغرب عنها؛ فمعنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ} (الكهف: 86) أنه وصل إلى آخر أرض معروفة للعرب تغيب عنها
الشمس ويسمونها المغرب.
ومهما كان الإنسان عالمًا فإنه لا يتحاشى أمثال هذه التعابير المعهودة للبشر ،
فكذلك القرآن الشريف فإنه جرى عليها ، وكذلك كل كتاب ولو كان في الفلك أو
الجغرافيا الحديثة {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) أي: خُيّلَ له
أنها تغرب في العين ، كما يخيل ذلك لكل من وقف على ساحل البحر وَقْتَ الغروب
فإنه يرى الشمس كأنها تغيب في البحر؛ ولذلك نسب القرآن الأمر إلى وجدان ذي
القرنين؛ فقال: {وَجَدَهَا} (الكهف: 86) ولم يقل مثلاً: (حتى إذا بلغ مغرب
الشمس رآها وهي تغرب في العين) أو نحوه مما يفيد أنها تغرب فيها حقيقة.
والعين: كل ماء جارٍ ، كما في قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ} (الشعراء: 57) أي: أنهار جارية وكقوله في وصف الجنة {فِيهَا عَيْنٌ
جَارِيَةٌ} (الغاشية: 12) وقوله: {حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) معناه ذات طين
أسود ، وفي قراءة (حامية) أي: ساخنة ولعل سخونة الماء ناشئة عن وجود ينبوع
حارّ خارج من جوف الأرض بجوارها ، وإذا كان المراد مياه المحيط فقد تكون
سخونتها ناشئة عن التيارات المائية الآتية من خط الاستواء كما هو معروف
للمطلعين على علم الجغرافية ، فإن المحيط الأطلانطيقي ينطبق عليه هذان الوصفان
وهو كونه ذا طين أسود ، وكون بعض مياهه ساخنة ، فلعل ذا القرنين وصل إليه
بسيره إلى نهاية أفريقية من جهة الغرب. فإن تيار الخليج STREAM GULF
الآتي من ساحل أمريكا عند خط الاستواء ينقسم وهو ذاهب إلى الشمال إلى قسمين:
قسم يصعد إلى أوربا ، وقسم ينزل إلى ساحل أفريقيا الغربي ولون مائه أسود ، وهو
ساخن (فإن درجة حرارته لا تقل عن 85 بمقياس فرنهيت) .
ثم قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن
دُونِهَا سِتْراً} (الكهف: 90) والمعنى أنه سارٍ إلى أرض المشرق حتى وصل
إلى أول أرض تطلع عليها الشمس؛ أي: بِحَسَبِ ما تعرف العرب من المسكونة ،
ولعل ذا القرنين وَصَلَ إلى جبل عالٍ من جبال آسيا ظن أنه نهاية الأرض ، أو
وصل إلى ساحل الهند الشرقي فظن أنه نهاية العالم ، فلما وصل إلى تلك الجهة التي
تسميها العرب مطلع الشمس أو المشرق وجد الشمس أول ما تطلع تطلع على قومٍ
عُرَاة الأبدانِ ، ليس لهم من دون الشمس وقاية ، وهذا هو حال الأمم المتوحشة
الساذجة.
واعلم أن أمثال هذه السياحات أو الفتوحات الكبيرة معهودة في تواريخ القدماء
كالإسكندر المقدوني وغيره ، وكان يتيسر لهم ذلك لِعِظَمِ قوتهم ، وضعف الأمم
المجاورة لهم وبساطتهم ، وقِلّة عددهم بالنسبة لهم ، فكان يسير الفاتح العظيم منهم
بجيشه الجرار ، ولا يجد في كثير من الجهات أدنى مقاومةٍ ، أو إذا وجد تكون في
الغالب ضعيفةً.
والغالب أن ذا القرنين هذا المذكور في القرآن هو أحد ملوك اليمن الحميريين ،
فإن العرب لا يعرفون ملوك غيرهم من الأمم ، وما كانوا يسألون النبي عليه
السلام عنها ، و (ذو) لفظة عربية محضة وردت كثيرًا في ألقاب العرب أهل
اليمن كذي يزن وذي كلاع وذي نُوَاس.
ونقل عن ابن عباس أنه سئل عن ذي القرنين المذكور في القرآن ، فقال: هو
من حمير. وقال أحد شعراء الحميريين:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا
…
ملكًًا علا في الأرض غير مفندِ
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
…
أسباب ملك من كريم سيدِ
وكل ذلك يؤيد أن العرب ما سألوا النبي إلا عن ذي القرنين هذا المعروف
عندهم ، ونظرًا لانْدِرَاسِ التاريخ القديم عمومًا وخصوصًا تاريخ العرب الأقدمين ،
ولعدم الثقة بأكثر ما جاء فيه من القصص ، ولعدم اهتمام الأمم المتأخرة بشأن أهل
اليمن لم يشتهر أمْر هذا الفاتح الكبير بين الأمم الأخرى ، والمظنون أنه كان على
زمن الخليل إبراهيم عليه السلام.
قيل: إن اسمه الصعب بن الرايش. وقيل: إنه أبو كرب شمس بن عبير بن
أفريقش، وكان ملوك اليمن يَلْبَسُونَ تاجًا له قرنان الغالب أنهم اقتبسوه من ملوك
مصر. وأول من لَبِسَهُ اشْتُهِرَ بينهم بلقب ذي القرنين من أجل ذلك.
وفي التاريخ القديم آثار كثيرة يدل على أن أهل اليمن كانوا قد بلغوا شأوًا
كبيرًا من القوة والعظمة ، وأنهم تغلبوا على أقاصي البلاد ، وغَزَوْا بابل، وبلغوا
الهند، وفتحوا بلاد الفرس ويسمى غزو العرب لبلاد فارس في أحاديث الفرس
(غزو ذو حاق) ، وكان ذلك قبل الميلاد بأكثر من 2000 سنة ، وقد أغار أهل
اليمن أيضًا على بلاد المغرب، وفتحوا مصر ، واستوطنوها، ويسمون فيها
بالهكسوس.
فلا يبعد أن يكون ذو القرنين المذكور في القرآن هو أكبر ملوكهم الفاتحين ،
وقد بلغ ملكه أو سيره أقصى ما كان معروفًًا إذ ذاك من بلاد المشرق والمغرب ، وقد
بنى سدًّا بين جبلين في جهة الشمال لا يعرف الآن موضعه؛ لمنع يأجوج ومأجوج
من التعدي على الأمم المجاورة لهم ، وهما قبيلتان شهيرتان من القبائل القديمة
المتوحشة ، وقد ورد ذكرهما أيضًا في كُتُب أهل الكتاب (تك10: 2وحز38: 2
و3) .
وإذا علم الإنسان أن أكثر بقاع الأرض لم تطأها أقدام أحد مِن السائحين
الباحثين أو الجغرافيين ، وإذا تذكر ما عرض لهذا السد من التغيرات الطارئة عليه
من الصدأ ، ومن هبوب الرياح ، ونزول الأمطار ، ورسوب التراب وغيره عليه بل
ربما تغطى بأشياء كثيرة مما يحملها سيل المياه على الجبال ، إذا تذكر كل ذلك أدرك
شيئًًا من أسباب عدم عثور أحد على مثل هذا السد ، وربما إذا رآه أحد الآن لا يمكنه
أن يميزه عن سائر الجبل ، فقد يكون مغطى بطبقة حَجَرِيَّة مما أذابتها المياه ،
وحملتها إليه، فجفت عليه.
فإذا جاء يومُ القيامة انْدَكَّ هذا السّدّ كما تُدَكّ جميع الجبال كما قال القرآن
الشريف: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ} (الكهف: 98) .
هذا ومن تذكر إغارة المغول (التتار) وهم نسل يأجوج ومأجوج في القرن
السابع الهجري على بلاد المسلمين والنصارى ، وما أَتَوْهُ من الإفساد في الأرض ،
وما أوقعوه بالأمم المختلفة من القتل والسَّبْي والنَّهْب - أمكنه تصور حصول هذا منهم
مرةً أُخرى قبل مجيء الساعة ، كما قال القرآن الشريف: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء: 96-97)
ولا مانِعَ من أن يكون ما حصل منهم سابقًًا هو الذي أراده القرآن في هذه الآية
ويكون قوله: {وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ} (الأنبياء: 97) كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) على أن الانشقاق حصل في عَصْرِ النَّبِيِّ محمدٍ صلى
الله عليه وسلم ، وهو تعبير معهود في الكتب المقدسة إذا أنبأت عن الحوادث
المستقبلة.
* * *
المسألة الرابعة
(يحيى بن زكريا)
قال الله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ
سَمِيَّا} (مريم: 7) . يقولون: إن يحيى هو يوحنا عند أهل الكتاب ، ويوحنا هذا
اسم شهير عند اليهود سُمِّيَ به كثيرون قبْل ابن زكريا؛ فكيف يقول القرآن: {لَمْ
نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيَّا} (مريم: 7) ؟ ؟
ونقول لا نُسَلِّمُ بأنّ لفظ يحيى في القرآن هو تعريب لفظ يوحنا عندهم؛ لأن
يحيى من الحياة ، ويكتب في العبرية هكذا ()، وينطق: يحييه ، وأما (يوحنا) فهو
الصيغة اليونانية للفظ (يوحنان) العبري ، ومعناه:(يهوه حنون) أي: الله حنون.
فهو إذًًا من الحنان لا مِن الحياة ، وعليه يكون لفظ يحيى غير يوحنا ، ووجود
شخص مُسَمًّى باسمين كثير جدًّا ، وقد يكون الاسم الثاني لقبًا له ، وأمثلة ذلك في
كتب العهدين كثيرة جدًّا؛ منها أن اسم بطرسَ: سمعانُ واسم تداوسَ: لباوسُ ،
وهما من تلاميذ المسيح (راجع مَتَّى 10: 2و3) وكان النبي عليه السلام يغير
كثيرًا من أسماء أصحابه ، فيشتهرون بما سَمَّاهم به رسول الله ، وعند جميع الأمم
يوجد أشخاص لهم أكثر من اسم.
هذا إذا لم نقل إن تسمية ابن زكريا في العهد الجديد بيوحنا هو من خطأ
مؤلفي الأناجيل باللغة اليونانيه؛ إذ يجوز أنهم لم يحسنوا نقل اسمه الحقيقي
(يحييه) إلى لغتهم.
ويحتمل أن الاسم الذي بشر الله به زكريا هو (يحيى) ولما اشتُهِر عن
يحيى الشفقة والحنان بالناس كما قال القرآن في وصفه: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} (مريم:
13) صاروا يلقبونه بيوحنا حتى شاع بينهم ذلك أكثر من اسمه الأصلي الذي
سمّاه الله به.
وهناك وجه آخر في تفسير عبارة القرآن الشريف. وهو أن زكريا طلب من الله
وارثًًا له من نسله خوفًًا من مواليه ، فَبَشَّرَهُ الله بأن سيكونَ له ولد ، وسيكون اسمه
يحيى ، وقال له: إن هذا الاسم لم يسم به أحد قبله؛ أي: بينهم في أهله
وعشيرته ، كما قال إنجيل لُوقَا (1: 61 فقالوا لها - أي: لأمه - ليس أحد في
عشيرتك تسمى بهذا الاسم) فقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ} (مريم:
7) أي: في أهل زكريا الذين كان الكلام معه في شأنهم والخطاب له فيمن يرثه منهم
إذا سلم أن لفظ يحيى هو عين يوحنا ، وأنه تعريب له.
على أنه قد يكون المراد بالسمي السمي الحقيقي؛ أي: إنه لم يسم أحد قبل
يوحنا بهذا الاسم ، وكان مثله في صفاته العالية وأخلاقه الطاهرة ، فكل من سمي
قبله به ما كانوا يستحقونه؛ لأنهم لم يصلوا إلى درجته في الشفقة والرحمة والحنان ،
وقد ورد لفظ السمي في القرآن بهذا المعنى أيضًا في سورة مريم التي منها هذه
الآية التي نحن بصدد الكلام عليها ، فقال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مريم: 65) أي: سميًّا حقيقيًّا ،
وإلا فقد اتخذ آلهة أُخْرَى من دُونِ الله كثيرون.
* * *
المسألة الخامسة
(السَّامِرِيُّ والعِجْل)
قال الله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} (طه: 88) إلى قوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه:
95-
96) .
رجحنا في (مقالات الدين في نظر العقل الصحيح) أن لفظ السامري علم
لشخص من بني إسرائيل يسمى بلغتهم شِمري وهو اسم مشهور عند قدمائهم. انظر
مثلاً سفر أخبار الأيام الأولى (4: 37 و11: 45 و26: 10) وَلَمَّا عُرِّبَ هذا
الاسمُ أُبْدِلَتِ الشين المعجمة بالسين المهملة ، كما هي العادة في تعريب العبري ،
وأدخلوا عليه (أل) كما أدخلوها على غيره من الأعلام المُعربة كلفظ (الجودي)
وهو اسم جبل ، ولفظ (السموأل) وهو علم لأحد نابغي شعراء اليهود من العرب.
وتسمى زيادة (أل) في مثله زيادة لازمة ، كما يقول النحاة. وهو مُعَرَّبٌ من
لفظ (شموئيل) والتغيير الذي حدث فيه كالذي حدث في لفظ (شمري) فأُبْدِلَتِ
الشين سينًًا ، وزِيدَتْ عليه (أل) مع تغيير طفيف في الكلمة. وهذه التغيرات
شائعةٌ في جميع اللغات في أسماء الأعلام المنقولة إليها ، فانظر الفَرْق بين لفظ
بُخْتَنَصَّر وأصله (نبوخذ ناصر) ، ولفظ عيسى وأصله يشوع.
وغير ذلك كثير جدًّا ، يعرفه المطلعون على بعض اللغات الأجنبية ،
وما فيها التغيير والتحريف في الأعلام.
واعلم أن لفظ السامري الوارد في القرآن كانت تكتبه العرب (السمري) وكذلك كتب في مصاحف عثمان التي أرسلها إلى الآفاق. ولَعَلَّ في ذلك لإشارة إلى أصله العبري الذي ذكرناه هنا ، وإنْ كانوا ينطقونه السامري. وليست الياء فيه للنسبة بل هي كالياء في لفظ الجوديّ بالتشديد وأصله جوردي بدون تشديد.
قال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} (طه: 88) أي: صنع لهم السامري {عِجْلاً
جَسَدًا} (طه: 88) أي: تِمثال عجل ، ولكنه جسد بلا رُوحٍ ، فإن لفظ الجسد
يطلق غالبًا على الحي إذا مات أو ما كانت صورته صورة الحي ، ولكنه جماد كهذا
العجل الذي صنعه السامري من الحلي وكتماثيل الحيوانات ، فإنها كأجسادها بعد
الممات لا حياةَ فيها. {لَّهُ خُوَارٌ} (طه: 88) أي: صوت يشبه صوت العجل ،
ولعله توصل إلى ذلك بالصناعة مع الحيلة كأن يضع فيه ما يشبه المزمار ، ويسلط
عليه آلة نافخة لا يشعر بها الناظرون.
وأمثال هذه الحيل كثيرة يفعلها الدّجّالون في كل زمان ومكان.
ثم قال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} (طه: 95) أي قال له موسى:
ما شأنك؟ وما الذي حملك على ما فعلت؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} (طه: 96) أي: علمت ما لم يعلموا وأدركت ما لم يدركوا {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ} (طه: 96) أي: أخذت بشيء من تعاليم هارون الذي استخلفته فينا ،
واقتفيت أثره فيها ، فلم يرق لي شيء منها. وسمى هارون بالرسول؛ لأنه هو
وموسى كانا يسميان كذلك بين بني إسرائيل ، فإن الله قال لهما: {فَقُولا إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ} (طه: 47) ، وعدم اعتقاد السامري بصحة هذه الرسالة لا ينافي أن يقول
ذلك من باب التّهَكّم كما كانت قريش يتهكمون على رسول الله ، ويقولون له: {مَا
لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} (الفرقان: 7)، ثم قال السامري:
{فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه: 96) أي: فرفضت ما أخذته من تعاليم
هارون بعد تجربتي له ، وهذا ما مالت إليه نفسي التي علمت ما لم يعلم غيري.
هذا هو التفسير الصحيح الذي يتبادر من هذه الآيات ، ولا يمكن لأي عربي أن يفهم
منها سواه ، لولا ما حشاه به أكثر المفسرين من الخرافات ، وهو يقارب ما ذهب إليه
محقق المفسرين أبو مسلم الأصفهاني وارتضاه منه فخر الدين الرازي وعززه.
قال له موسى: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا
لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ} (طه: 97) أي:
لنبردنه. ويؤيده قراءة (لنَحرقنه) بفتح النون وكسر الراء وضمها خفيفة {ثُمَّ
لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً} (طه: 97) .
فإن قال قائل: ما بال القرآن في الكلام على هذا العِجْل يأتي بما يحتمل أنه
كان حيًّا ، وإن كان ذلك بعيدًا من عبارته؟
قُلْتُ: جرت عادة القرآن في أمثال هذه المسائل العرضية البسيطة أن يأتي
بالتعبير الذي لا يصادم اعتقاد الجمهور مصادمةً لا تقبل التأويل حتى لا يكون
ذلك صادًّا لهم عن النظر فيه أو شاغلاً لهم عن البحث فيما أتى به من جوهر الدين ،
كما هي طريقة الحكماء.
فالظاهر أن أهل الكتاب من العرب كانوا يعتقدون أن هذا العجل صار حيًّا ،
وربما كان عندهم من رواياتهم وأحاديثهم ما يحملهم على هذا الاعتقاد ، فلم يرد القرآن
أن يشتغل معهم بأمثال هذه التفاهات ، فأتى لهم بما لو سمعوه لقبلوه ، وما لو سمعه
العلماء المحققون لأدركوه ، وفهموه؛ ولذلك تراه مثلاً ينص على دوران الأرض
بقوله: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) في سياق يحتمل أن يكون ذلك مما يحصل يوم القيامة وإن
كان ظاهر الآية يبعد عن الاحتمال الذي لا يزال مقبولاً عند الجهلاء على أن
معنى الآية الصحيح لا يخفى على العلماء. فإن القرآن قد أتى للعامة والخاصة
والمنحطين والمرتقين ، فلذا تنوعت أساليبه ، وسحر بيانه عقول الجميع ، وبذلك لم
يخطئ الغرض، ولم يشتغل عن الجوهر بالعرض.
* * *
المسألة السادسة
(تكون الجنين)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 12 - 16) .
اشتملت هذه الآيات على جميع أطوار الإنسان في حياته ، وما يمر به من
التغيرات ، من أول وجوده إلى يوم بَعْثِه.
(الطور الأول)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون: 12) أول الأحياء
في هذا العالم لا شَكَّ في أنه خُلِقَ من مادة الأرض مباشرةً ، ثم ارتقت الحال بعد ذلك
فصارت الأحياء تتكاثر بانقسام الخلايا ، ثم بالتلقيح الذي يعقبه الانقسام (ومعنى
التلقيح اختلاط عنصر الذكر بعنصر الأنثى) فإن الإنسان في طوره الأول كان
طينًًا ، وإذا نظرنا إلى الإنسان من جهة أخرى وجدنا أن الحيوانات المنوية
والبويضات التي يخلق منها الإنسان مخلوقة من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء من
الحيوان والنبات ، وكلاهما من الأرض؛ أي: الطين.
(الطور الثاني)
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون: 13) النطفة: الإفراز ،
فتطلق على المَنِيِّ ، ولا مانِعَ من إطلاقها أيضًا على بويضات المرأة التي يفرزها
المبيضان [1] ، ولم يَذْكُرِ القرآنُ بويضاتِ المرأة صريحًا؛ لأن ذلك غير معروف
لجماهير الناس ، وهو لم يأْتِ لتعليمهم أمثال هذه الأشياء ، وإنما هو يؤيد قضاياه بما
يعرفونه ولا ينكرونه ، واكتفاؤه بِذِكْرِ المَنِيّ دون غيره في أكثر المواضع لا يَدُلُّ
على أن الإنسان لا يخلق من شيء آخَرَ معه؛ إذ ليس في عبارته ما يدل على
الحَصْرِ؛ فالطور الثاني طور النطفة وهي من الرجل ما فيه الحيوانات المنوية ،
ومن الأنثى ما فيه البويضات ، فإذا حصل التلقيح بدخول رأس الحيوان المنوي في
البويضة استقرت في الرحم.
والمراد بالقرار المكين: أعضاء الأنثى الداخلة (البوقان والرحم) وهي التي يحصل فيها التلقيح ثم التكوين. ولا شك أن حيوان الذكر وبويضة الأنثى يَسبحان قبل التلقيح وبعده في قليل من سائل مخصوص ومجموع ذلك هو النطفة ، وهي التي
تستقر في الرحم.
(الطور الثالث)
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون: 14) وذلك بانقسام البويضة بعد
التلقيح بالحيوان المنوي إلى أقسام كثيرة ، تكوِّن كتلةً صغيرةً تشبه العَلَقَة
وخلاياها كلها متشابهة.
(الطور الرابع)
{فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً} (المؤمنون: 14) ، وهي قطعة أكبر من العَلَقَة
قَدْرَ ما يُمْضَغُ في الفم مركبة من عِدَّة خلايا ناشئة من انقسام البويضة الأصلية
بعد تغذيتها في جدر الرحم ، وما أحيطت به من سوائل زلالية.
(الطور الخامس)
{فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا} (المؤمنون: 14) أَيْ: حوّلنا بعض خلايا المضغة
التي كانت كلها متشابهة إلى خلايا أخرى تصير بالتدريج بعد هذا التنويع عظامًا.
(الطور السادس)
{فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا} (المؤمنون: 14) أي حوّلنا الجزء الباقي من المضغة
إلى أنسجة رخوة ، ذات خلايا مغايرة في شكلها للخلايا الأصلية، وهذه الأنسجة
تكون كاسيةً للخلايا الآخذة في التحول إلى عظام ، فبينما تجد بعض الخلايا يتحول
إلى عظام تجد البعض الآخر يتحول إلى لحم وشحم وغيره يكسو هذه العظام.
(الطور السابع)
{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (المؤمنون: 14) أي: بعد تمام خلقته وولادته
يصير بالتدريج إنسانًًا عاقلاً مُدْرِكًًا مفكرًا بعد أنْ كان لا يعلم شيئًًا كما قال تعالى:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ} (النحل: 78) الآية ، فالشيء الذي كنت تراه لا يدرك وجود نفسه
يصبح محيطًًا بالكون بعقله ويخترق الحُجُب بفكره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) . وعبر هنا بِثُمَّ؛ لتراخي ذلك عن زمن تمام التكوين.
(الطور الثامن والتاسع)
{ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 15-
16) فهذه هي الأطوار الإنسانية التي تُسْتَفَاد من هذه الآيات الشريفة.
ويجب الاعتراف هنا بأن هذه الآيات لم تصف هذه الأطوار بالتفصيل كما
يصفها الفسيولوجيون ، وإنما وصفتها بإجمال خالٍ من الوهم والخطأ ، داعٍ إلى
التفكر في قدرة الله ، والتدبر في أعماله وهو ما يريده القرآن الشريف ، ولا يريد
تدريس علم تكوّن الجنين للناس ولا غيره من العلوم الدنيوية ، فلذا لا ينتظر من مثل
هذا الكتاب العزيز أن يدخل فيما ليس من غرضه الإطناب فيه؛ لأن الناس يصلون
إليه من غير طريق الوحي.
* * *
المسألة السابعة
(ميراث بني إسرائيل الأرض من بعد فرعون)
قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 57-59) ومن المعلوم أن بني إسرائيل
مِن بعدِ غرق فرعون وقومه لم يرثوا أرض مصر ، بل خرجوا منها فما معنى هذه
الآية إذًًا؟ .
ذهب محققو المؤرخين إلى أن فرعون موسى هو منفتاح بن رمسيس الثاني ،
وقد خضعت بلاد الشام لمصر في عهد رمسيس الثاني ، وكان من عادته أن يبقي
فرقة من العساكر المصرية في البلاد التي يفتحها؛ ليستوطنوها ، ولينشروا فيها
عاداتهم وأخلاقهم ، فكانت بلاد الشام مستعمرةً تابعةً لمصر ومحتلة بجزء من جيشها
وكان المصريون يجنون من خيراتها ، ويتمتعون بها ، وبعضهم يذهب إليها ليقيم
فيها تحت رعاية دولته كما يفعل الأوربيون الآن في الممالك التي يستعمرونها ، ودامَ
الحال كذلك إلى عهد منفتاح بن رمسيس هذا ، وفي عهده كان خروج بني إسرائيل
من أرض مصر.
إذا علمت ذلك؛ فاسمع تفسير ما قال الله في القرآن الشريف: {فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ} (الشعراء: 53) التابعة له كبلاد مصر والشام {حَاشِرِينَ} (الشعراء: 53) يجمعون إليه جيشه وقومه المستوطن في هذه البلاد ، قائلاً لهم:
{إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ} (الشعراء: 54 - 56)، ثم قال تعالى:{فَأَخْرَجْنَاهُم} (الشعراء: 57) أي:
المصريين {مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (الشعراء: 57-58) في
مصر والشام {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 59) أي: أورثناهم ما
كان يتمتع به المصريون من جنات الشام وعيونها وكنوزها ومقامها الكريم ، فإن ذلك
قد آل إلى بني إسرائيل؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى في هذا الموضوع:
{وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الأعراف: 137) ، والأرض
التي بارك الله فيها هي أرض الشام كما جاء في آيات أخرى كثيرة في القرآن
الشريف كقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:
71) وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) ، فأنت ترى من هذا أن آيات القرآن
في هذا الموضوع يفسر بعضُها بعضًا ، وأن المراد من ميراث بني إسرائيل لما
تركه المصريون هو ما كان ببلاد الشام.
(للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: النطفة في الأصل: الماء ، أو كل سائل فيصح إطلاقه على ماء الرجل الذي فيه الحيوانات المنوية وعلى ماء الأنثى الذي فيه البويضات إذ كل منهما سائل.
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
السنن والأحاديث النبوية
(تتمة بحث النسخ)
قال حضرة الدكتور: وإذا فتشنا الأحاديث - إلى أن قال - فالقرآن لا يجوز
أن ينسخ بالسنة ولو كانت متواترة ، وبه قال الإمام الشافعي رحمه الله ، وليس فيه
منسوخ مطلقًًا كما قال أئمة بعض المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني ، وكما دل على
ذلك الاستقراء والدليل ، وأتى بكلام ، ثم قال: والذي نراه نحن أن العقل لا يستقبح
وقوع النسخ في القرآن الشريف إذا كان القرآن يبين لنا نصًّا جميع ما نسخ، وجميع
ما لم ينسخ، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بيانًا ينقل متواترًا ويتفق
عليه عملاً بين المسلمين ، إلخ.
والناظر يرى بادئ بدء بعد المقارنة بين كلام حضرة الدكتور أن قوله (والذي
نراه نحن، إلخ) هو رجوع منه ونسخ لقوله: فالقرآن لا يجوز أن يُنسخ بالسنة
ولو كانت متواترةً؛ لأنه إذا كان النسخ هو كما ذكر إبطال حكم إلى بدل أو لغير
بدل ، وجاز أن يقبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية منسوخة ، لا إلى
بدل مثلاً في حق من علم صدور ذلك القول منه صلى الله عليه وسلم ، فما ذلك إلا
قول بجواز نسخ القرآن بالسنة ، وهو مناقض لقوله: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة.
وسيأتي لنا كلام على الأخبار التي يلزم الأخذ بها ، ويعلم صدورها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
أما ما ذكر حضرة الدكتور من اشتراط أحد الأمرين للنسخ ، إما تبيين القرآن
لنا نصًّا جميع ما نسخ وجميع ما لم ينسخ ، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم
كذلك وينقل متواتراَ ، إلخ.
فنقول فيه: إن حضرته ذكر أن النسخ لمقتض لا يستقبح عقلاً يَعْنِي أنه جائز
عقلاً ، فهل ما اشترطه للنسخ واجب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم
عقلاً ، فما هو؟ أم شرعًا، فأين هو؟ وهل يشترط ذلك فيما نسخ لفظه ومعناه لا
إلى بدل؛ لأن تعريف النسخ الذي ذكره أول الرسالة يشمله ، وليس هو داخل فيما
أنكر وقوعه من نسخ لفظ بلفظ ، أو نسخ لفظ وإبقاء حكمه؟
وما معنى اشتراط التواتر ، فإن النسخ إنما كان يقع في زمان الرسول صلى
الله عليه وسلم وَقْتَ نًُزُول الوحي ، وذلك مضى وانقضى ، والله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم لم يلزموا الأُمّة ، ولم يوجبوا عليهم أن ينقلوا الدين إلى من
بعدهم بالتواتر ، ولم نَرَ ذلك ولا في موضع من كلامهما ، ولم يجعلا ذلك شرطًا لا
للتبليغ ولا للقبول ، وسيأتي مزيد بيان لذلك.
إن اشتراط حضرته ذلك مع اشتراطه أن يتفق عليه عملاً بين المسلمين مِمّا لا
يجوز عقلاً لامتناع تأخُّر ما يلزم في وجود شيء عن وجوده ، كأسبابه وشروط
وجوده والنسخ قد وقع؛ بدليل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106)
الآية ، والتواتر واتفاق عمل المسلمين إنما هو بعد ذلك، والله تعالى لم ينصب ذلك
شرطاً لِقَبُولِنَا ذلك ، أو أن الحال لا ينكشف لنا إلا بأحدهما ، فظهر أن ذلك لا يصلح
لأن يكون سببًا للنسخ، ولا لبلوغه إلينا.
أما اشتراط حضرته في رسالتيه لبيان النسخ طريقة معينة مخصوصة ، وهي
أن يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية ناسخة ، وهذه
منسوخة ، فهو التزام لما لا يلزم ، واكتفاء بما لا يكفي ، ولا يطرد في جميع المسائل ،
فإن النسخ مشترك لفظًا يصدق على معاني مختلفة وصدقه عليها مختلف فيه ، ثم
هو في أفراد كل واحد من مَا صِدْقَاتِه قد يكون عامًّا.
ثم معرفة المراد منه قد يكون مجملاً ، فإذا قيل هذه الآية منسوخة أو هذه ناسخة
فقط. ولم يقرن ذلك بما يعين المراد احتمل ذلك نسخ كل هذه الآية أو بعضها أو
زيادة أمر في الناسخ مع بقاء المزيد ، أو رفع شرط أو قيد أو زيادتهما إلى غير ذلك
فتبين أن مجرد قوله: هذه الآية ناسخة وهذه منسوخة لا يكفي في بيان المراد
إلا بانضمام ما يبين المراد مع ذلك مما يتبين به مورد النسخ المعين ، وإذا كان الله
أجاز النسخ في شرعه بجميع معانيه كما دل عليه كلام السلف ، أو بعضها كما هو قول
المتأخرين ففي الموارد المخصوصة؛ أي: ووقت البيان لا يجوز أن يؤتى بما لا
يتبين المراد منه إلا مع مبين - والبيان: إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى
حيز التجلي ، فظهر بذلك أن معرفة الناسخ والمنسوخ لا يتوقف على خصوص ما
ذكره حضرة الدكتور بل معرفته في كل محل بما يبين المراد هو الأولى ، وإن لم يكن
بلفظ ناسخ أو منسوخ ، ومن ذلك ما ذكره العلماء في معرفة الطريق الذي يكون الناسخ
بها ناسخًا والمنسوخ منسوخًا.
وَلَيْتَ شِعْرِي ، ألا يكفي في الدلالة على النسخ تأخّر التاريخ مع التعارض
والتناقض بين الحكمين ، ككون الشيء في آية حلالاً ، وفي آية بعدها متأخرة نزولاً
حرامًا أو العكس؟ وقد ذكر علماء الأصول طرق معرفة النسخ والناسخ والمنسوخ ،
وبينوا ذلك فارجع إلى كتبهم إن شِئْتَ.
ثم لا ندري ما الموجب لطعن الطاعنين، واستهزاء الهازئين بعد ثبوت جواز
النسخ عقلاً وشرعًا ووضعًا ، ووقوعه في الشرائع فعلاً كما اعترف بذلك حضرة
الدكتور؛ فليتأمل حضرته في هذا الموضع ، وليعلم أنه بادر إلى التهكم والتعريض
بمخالفيه إلى استحقاقهم أشد العذاب قبل أوانه؛ إذ لم يقم حجة على ما قال ، ولم
يحط علمًا بما لديهم من الحجج؛ لا سِيَّمَا معاصريه ، إذ لا يمكننا إنكار اطلاعه على
ما هو مسطور في زبر الأولين ، وإنْ كنا نستبعد إمكانَ اطلاعه على الكل نقول ذلك
قياسًا على أنفسنا ، وكما قال ذلك الكبار.
ونقول أيضًا: إذا كان النسخ هو ما ذكرنا سابقًا عن السلف رضي الله عنهم ،
وما ذكره حضرته وأنه يرى أن العقل لا يستقبحه ، فلا محل للتشنيع على مَنْ
قال بوقوعه في القرآن ، وعليه فالقول بوُقُوع النسخ في القرآن أو عدم وقوعه
منحصر في الدليل النقلي ، وفي الاستقراء؛ أي: تتبع آيات القرآن ، فحضرة الدكتور
استدل على عدم وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى: {لَاّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) حيث قال: فلا يجوز أن يبدله الله بعد وعده بعدم تبديله؛ إذ
النكرة (أي لفظ مبدل) في سياق النفي تعم.
وأقول: قد اختلف في أن المتكلم هل يدخل في عموم خطابه أم لا؟ والحق أنه
لا يدخل إلا بقرينة ، وليس هنا قرينةٌ تدل على ذاك ، بل القرينة تدل على عدم
دخوله.
فالآية المذكورة ليس هي عندنا مما تدل على منع النسخ بمعناه السابق ، وإنما
تدل على صيانة القرآن عن انتحال المبطلين وعبث أعداء الدين ، وأن الله لا يجعل
لهم عليه سبيلاً ، وذلك نظير قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، وقوله: {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42)، ونقول أيضًا: نفي الشيء فرع عن ثبوته ، ولا شَكَّ
هنا أن المراد بنفي المبدل نفي جميع التبديل بجميع معانيه ، وأكثر معاني التبديل لا
يجوز أن ينسب إلى الإله؛ وعليه فلا يدخل في عموم المنفي كما خصص عموم
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 20) بما سوى الواجب
لاستحالة تعلق القدرة به - ويقرب من ذلك قوله تعالى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَداً} (الجن: 26) فإنه لولا الاستثناءُ لمن ذكره لَوَجَب أن لا يطلع على غيبه أحد
مطلقًا ، لكنه لا يجوز بحال أن يقال: إنه تعالى داخل في عموم المنفي.
فتبين بما ذكرناه أن التبديل المنفي في قوله تعالى: {لَاّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) إنما هو التبديل الذي يكون مِن البشر ، كما كان يفعله اليهود
والنصارى في كتابيهم.
أما التبديل بمعنى النسخ بأن يبدل الله آية مكان آية أو ينسخ حكمها هو أو
رسوله لا من تلقاء نفسه ، فهذا لا عَيْبَ فيه كما ذكر الدكتور ، والرسول صلى
الله عليه وسلم معصوم عن التبديل من تلقاء نفسه ، وإذا كان النسخ هو ما ذكرناه عن
السلف ، فإنكار وقوعه مكابرة، ومخالفة لما هو ثابت في الواقع كما دل على ذلك
الاستقراء؛ إذ ما من عامٍّ إلا وقد خصّ ، وما من مطلق إلا وقد قيد إلا آيات التوحيد،
وما ضاهاها.
وأيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) خاصة في
معنى من معاني التبديل ، ومحله المعين والفاعل معلوم ، فهي بلا ريبَ نصّ في
جواز النسخ الذي لا عيبَ فيه عقلاً ، أمّا قول حضرة الدكتور فما ذكرناه هنا وهناك
يدل على أن تفسير الآية هكذا: وإذا أتينا بحكم في الشريعة الإسلامية بدل حكم في
الشرائع السابقة ، ووضعناه مكانَه قالوا: إنما أنت مفتر كذّاب تختلق الأحكام ،
وتنسبها إلى الله إلى آخر الآيات - وزعم أن القول بأنه مفترٍ في قوله تعالى:
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل: 101)
إنما صدر من أهل الكتاب الموجودين بالمدينة إلخ. وأقول: إن قوله إنما صدر من
أهل الكتاب الموجودين بالمدنية هو اعتراف منه بجواز أن تكون هذه الآية مدنيةً ،
فاحفظه.
ثم إن ما ذكره حضرته، وحمل الآية عليه غير صحيح لِمَا قدمناه؛ ولأن سياق
الآية لا يدل عليه ، وإنما يدل على خلافه ، فإنه تعالى ذكر المشركين ، ثم حكى هذا
القولَ عنهم ، ورَدّ عليهم بأن أكثرهم لا يعلمون؛ لأنهم ليس معهم كتاب والمشركون
هم الذين زعموا أن الغلام النصراني يُعَلّم النبي صلى الله عليه وسلم افتراءً وكذبًا
كما كذبهم الله في هذه الآية وغيرها، ويدل على ذلك أيضًا أن الله لما بَرَّأَ رسولَه
صلى الله عليه وسلم من تُهَمهم الكاذبة ذَكَرَ أن سبب تهجمهم وإقدامهم على ما هو
واضح البطلان إنما هو ضلالهم ، وعدم إيمانهم بآياته ، فإنه تعالى لا يهديهم، وأكد في
الردّ عليهم بأن المفتري في تبديل آيات الله إنما يكون مَنْ لا يؤمن بها ، وهذا نص
أيضًا في إرادة المشركين ، فظهر أن القائل بأنه مفترٍ إنما هم المشركون ، ولأن
الآيات قبلها وبعدها إنما هي في ذكر مساوئ المشركين ، وتحذير المؤمنين من
التخلق بأخلاقهم، والاقتداء بعاداتهم ، وعن الإصغاء والالتفات إلى شُبُهاتهم عند
نزول ناسخ، أو تبديل آية مكانَ آية؛ لأنهم لا يؤمنون بآيات الله ، فلم يهدهم للصواب
في الجدل ، فهم يستدلون على كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يرون في كتابه
من النسخ لاعتقادهم أن ذلك تناقض لعدم علمهم بما في ذلك من الحكم والمصالح.
أما أهل الكتاب (اليهود) ، فلم يَأْتِ لهم ذكر حتى يعودَ الضمير إليهم وأيضًا ،
فإن الله تعالى قد عيّن هؤلاء القائلين بأنهم الذين لا يؤمنون بآياته ، وهذا لا يصحّ
صدقه على اليهود إذا كان المُراد بالآيات: الأحكام ، وبالآية الواحدة الحكم لإيمانهم
بالتوراة ، وإن أريد بالآيات الجمل من الكلام المحدود المخصوصة ، فإن أطلقت
على عبارات التوراة فكذلك ، وإن لم تطلق بَطَلَ حمْل الآية المبدلة على شيء من
عبارات التوراة، فثبت بذلك أن المراد: وإذا بدلنا آية من القرآن مكان آية منه، قال
المشركون: إنما أنت مفتر. وهم لا علم لهم بالتوراة ولا بأحكامها.
ثم نقول: لو كان التبديل؛ أي: النسخ ممنوعًا في القرآن مطلقًا ، وأن الله لا
يبدل آية مكان آية لَمَا صَحّ تقييده في جواب الكفار حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (يونس: 15) حيث أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: 15) ، فإنه لا معنى للتقييد حينئذ وبذاك وهذا
تعين عدم دخول المتكلم ، وهو الله تعالى في عموم لفظ (مبدل) من قوله: {لَاّ مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) .
إن من تتبع آيات الكتاب وجد فيه ما يلجئه إلى القول بوقوع النسخ فيه فعلاً
كما أخبر الله بوقوعه فيه مستدلاًّ على جواز ذلك ، وحسنه بارتباط الشرع بالقدر أي:
تلازمهما - لا ينكر ذلك إلا من كابر وجدانه ، وخالف ظاهر القرآن ، وخرج به عن
حدود مرامه الذي فهمه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبيَّنَه لأصحابه رضي الله
عنهم ، الذين شاهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويلَ والتفسير ، والمراد من الخطاب
لمعاينتهم الوقائع والأسباب ، فلا يجوز لمن لم يحضر الوقائع، ولم يعرف الأسباب
والموانع ولم يمارس محاورات أهل الشرائع أن يهجم على كلامهم - فضلاً عن كلام
الله - ويؤوّله بأن يحمله على معاني يفترضها ، مع ترك ما سيق الكلام فيه وله.
إنما يختار هذه الطريقة المحرفون الخرَّاصون كالقرامطة والملحدين من
المتصوفة، وسائر الطوائف المبتدعة ، الذين إذا تكلموا في القرآن يتراءى للناظر في
كلامهم أنهم كأنما يتكلمون في دين جديد نزل عليهم ابتداءً ، وكأنه لم يكن
نزل على رسول قد بين حدوده ، وأوضح أحكامه ، وفسر مرامه ، وكأنه لم تتلقه
أمة ، ولم تعمل به الطوائف حتى جاء هؤلاء بآرائهم السخيفة ، وأقوالهم الساقطة
الضعيفة - كل ذلك لم يقع من هؤلاء إلا بتركهم السنن النبوية ، وهجرهم لطريق
السلف وبالأخص آثار الصحابة رضي الله عنهم ولنعد إلى ما كنا بصدده، فنقول:
قد تقدم لنا أن قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101)
دليل واضح على جواز النسخ في القرآن كما أنه في سائر الأديان ، وأنه لا تعارض
بين هذه الآية وقوله تعالى: {لَاّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) الآية.
ومن الأدلة الناصة على جواز النسخ في القرآن ، بل على وقوعه قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) الآية ، وقد
قدمنا كلام السلف في تفسير هذه الآية نقلاً عن تفسير ابن كثير رحمه الله.
ودونك ما ذكر حضرة الدكتور في تفسيرها ، فإنه قال في رسالة له سابقة
أدرجت في الجزء الثاني من المجلد التاسع من المنار الأغر بعد أن ذكر قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) ما نصه: (الآية هنا هي ما يؤيد
الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم ، والمعنى: ما ننسخ من آية نقيمها دليلاً
على نبوة نبي من الأنبياء؛ أي: نُزيلها، ونترك تأييد نبي آخر بها ، أو ننسها الناس
لطول العهد بمن جاء بها ، فإننا بما لنا من القدرة الكاملة، والتصرف في الملك نأتي
بخير منها في قوة الإقناع، وإثبات النبوة ، أو مثلها في ذلك) .
ونحن ندعو القراء الكرام إلى المقارنة بين ما نقل عن السلف في تفسير هذه
الآية ، وما قاله حضرة الدكتور ، فإذا كان لفظ آية يدل بالاشتراك اللفظي على
معان متعددة؛ فهل يجوز لأحد كائنًا مَن كان ترْك المأثور عن العارفين بالمراد،
واختراع معنى آخَرَ مِن عندِ نفسه بعد أكثر من ثَلَاثَ عَشْرَةَ مائة سنة؟ وهل هذا إلا
تفسير بالرأي في مقابلة المأثور ، الذي توافرت الأدلّة الشرعية على منعه، والتحذير
منه كما دل العقل على قُبْح تفسير كلام أحد على غير مراده.
ونقول أيضًا: إذا كانت الآية هنا هي (المعجزة) كما يقول حضرة الدكتور ،
فما معنى إزالتها ، وترك تأييد نبي آخر بها؟ فإن المعجزات إنما هي أمور خارقة
للعادة يظهرها الله على أيدي أنبيائه لتدل على صدق دعواهم ، وقد انقضت
بانقضاء الزمن المشترط لوجودها ، وليست هي جاريةً على سنن الكون المعتادة
حتى تبقى ككل باقٍ يرى تابعًا وخاضعًا لأسبابه ونواميس جريه في بقائه وتطوراته ،
وأكثر المعجزات أعراض لا قيامَ لها بنفسها ، وإنما هي واقعات تنقلها الأمم
كسائر الأخبار.
إنه لا يمكن تأييد نبي بمعجزة هي نفس معجزة نبي آخر ، والممكن إنما هو أن
يؤيد بمثلها؛ لأنها إن كانت معجزة النبي الأول موجودة بين أيدي الناس ، فكونها
معجزة للثاني ممتنع ولأفضى ذلك إلى تحصيل الحاصل ، وإن كانت قد فقدت
فالأخرى إنما هي مثلها، والنسخ أو الإزالة أو الترك لا يكون إلا لما يجوز أن يظهر ،
أو لما هو موجود، فإذا امتنع عقلاً أن تكون نفس معجزة نبي متقدم هي نفس معجزة
نبي متأخر لم يبقَ في تفسير الآية إلا أن يُقال هكذا: ما ننسخ من آية ، أي من مثل
آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها. ومؤداه: ما نترك مثل معجزة إلا نأتِ بمثلها.
أليس هذا تناقضًا يجب أن ينزه القرآن عنه؟ ونقول أيضًا: إنه لو سلم جواز وقوع
النسخ في المعجزات فإنه لا يتصور وقوعه إلا في القرآن حين إمكان النسخ؛ أي:
وقت نزول القرآن، وقبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فثبت الاستدلال
بهذه الآية على جواز النسخ، ووقوعه في القرآن حتى على تفسير حضرة الدكتور
للآية بمعنى المعجزة ، فإن القرآن من أعظم معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم.
ونقول أيضًا: ما ذكرناه عن السلف هو المتعين ، ويلزم الأخذ به؛ لأن هذا
الدين إنما جاءنا بتوسطهم ، فلا يجوز لنا أن نخرج عن جميع أقوالهم إلا بِحُجّة
واضحة ، ومن المحال أن يوجد لأحد منهم قول موافق لها.
وأيضًا لو كان هذا الكتاب نزل علينا ابتداءً، ولم يبينه مبين لنا لَمَا جاز لنا أن
نستبد بعقولنا في مواطن الاشتباه ، وعدم وجود مرجح، ومن هنا قالوا: لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وفوق ذلك كله أن هذه الآية ذكرت في ذيل خطاب الله لعباده المؤمنين تسكينًا
لهم ، ودفعًا للشبه التي يبثها بينهم أهل الكتاب والمشركون من قولهم: إن محمدًا يأمر
بالشيء، ويمنعه غدًا. إلى غير ذلك من تشكيكاتهم الكاذبة ، فرد الله عليهم ، وأعلم
عباده المؤمنين بالحكمة في ذلك ، ونبههم على أن هذا إنما هو حسد من أعدائهم ودونك
الآية وما قبلها يتبين لك أن ما ذكرناه عن السلف هو المطابق لظاهر
سياق الآية بعد ما عرفناك فساد تفسير حضرة الدكتور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 104-106) ،
فالآية دلت على أن الذين كفروا يكرهون نزول الخير على الرسول صلى الله
عليه وسلم والمؤمنين ، ولما كان النسخ إنما هو زيادة خير، وفضل من الله كنسخ
بعض الأحكام الشاقة التي كلف بها بني إسرائيل ، وكنسخ ما فيه خير مما نزل على
محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما هو أكثر خيرًا منه ذكره تبارك وتعالى كالفرع
من قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة:
105) ، وأتبع الآية بقوله:{ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:
106) استدلالاً لصحة النسخ؛ لأنه إذا كان من المقرر لديك، ومن المسلم لَدَى
أعدائك أن الله تعالى هو خالق الخلق، واستعدادهم المختلف باختلاف الزمان
والمكان ، فمن اللازم لذلك إذا وجد المقتضى نسخ بعض الأحكام والتعاليم الأهلية إلى
ما هو أنسب بأحوال المكلفين، وأكثر خيرًا لهم، وهذا ظاهر في تلازم الخلق
والأمر ، وقوله تعالى عقب ذلك: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم
مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة: 107) هو زيادة لإيضاح الحجة
معناه أنه إذا كان هو الخالق للأشياء ، فهو يعلم المناسب والأصلح بها ، وإذا كان هو
الولي والملك فلا بُدَّ لكل ملك من أحكام، فإذا كان الملك ذا حكمة وعدل مختبرًا أحوال
الرعية فلا يليق بعدله ترك ما فيه زيادة الخير والأنسب بأحوالهم لما هو أحط
منه مع علمه بذلك.
أما قول حضرة الدكتور في رسالته السابقة بعد قوله تعالى: {أوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) : ننسها الناس لطول العهد بها (يعني: المعجزة) إلى آخره -
فيقال عليه: إن الضمير في] نُنْسِهَا [عائد على الآية ، وقد قدمنا فساد تفسيرها
بالمعجزة؛ لأنا نقول: إن الله قد وعد في هذه الآية بأنه إذا نسخ آيةً أو أنساها فهو لا
محالةَ يأتي بخير منها أو مثلها وعدًا لازمًا لتلازم الشرط والجزاء - فإذا أبى
الدكتور تفسير الآية إلا بالمعجزة فهل أتى الله بخير من كل معجزة أنسيت أو أتى
بمثل كل معجزة أنسيت كل واحد من أنبيائه؟ وما معنى قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا
تَنْسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللهُ} (الأعلى: 6 - 7) فهل كان يقرئه عدد معجزات
الأنبياء قبله عليه وعليهم الصلاة والسلام.
وأيضًا قد قرأ بعض القراء (ما ننسخ من آية أو ننسأها) بفتح النون وهمزة
بعد السين، ومعناه حينئذ: نؤخرها وحضرة الدكتور ذكر أن معنى ما ننسخ: ما
نترك. وعليه يكون المعنى هكذا: ما ننسخ؛ أي: ما نترك من آية أي: معجزة أو
ننسأها أي: نؤخرها. وهو على ما فيه من الركاكة ومخالفة ما ذكرناه عن
السلف لا يعطي ما أراده.
ذكر حضرة الدكتور في رسالته السابقة بعض الآيات المنسوخة، ورد بزعمه
على من قال بنسخها وحيث إني رأيته إنما مال إلى التأويلات الزائفة، ومع ذلك هي
لا تنتج مراده. فلم أر للتطويل فائدة بالرد عليه؛ لأن ما ذكره بين البطلان بنفسه.
ويكفي في الجواب عليه عن ذلك كله حتى بعد تسليم تأويلاته أن يقال له
بجواب مجمل: إن هذه الآيات التي زعمت أنها ليست بمنسوخة كآية تقديم الصدقة
قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك هل ترى أنها محكمة بمعنى أن
دلالتها حين نزولها وبعد نزول آيات التخفيف بعدها على السواء من كل وجه؟ فإن
قلت: نعم. فعليك البيان بشرط عدم التأويل والخروج عن الظاهر، لأنا نرى
التأويل للمنسوخ على غير ظاهره وإبقاء الناسخ على ظاهره هو القول بالنسخ عندنا لا
فرق إلا في اللفظ والعبارة.
وإن قلت بتغيير الدلالة ولو من بعض الوجوه فقد قلت بالنسخ صراحة، ووافقتنا
وهو غاية ما تتمناه.
لم يقع خلاف بين المسلمين في جواز النسخ ووقوعه من غير فرق بين كونه
في الكتاب أو السنة حتى قيل: إنه مما اتفق عليه أهل الملل - إلا اليهود فقد منعوه
للتوراة، وقالوا: إنه لا يجوز أن يرسل الله رسولاً بنسخ شيء من التوراة. قالوا ذلك
وجوزوا لأحبارهم نسخ ما شاءوا من التوراة - وإلا ما يحكى عن أبي مسلم
الأصفهاني أنه قال: لم يقع شيء من ذلك في القرآن. وهذا مما يعد من أكبر غلطاته
حتى قال الحافظ ابن كثير بعد أن حكى قوله: وقوله هذا ضعيف مردود، ومرذول.
وقال السيد صديق حسن خان ولعله نقلاً عن الإمام الشوكاني: وإذا صح هذا عنه فهو
دليل على أنه جاهل لهذه الشريعة المحمدية جهلاً قطعيًّا وأعجب من جهله بها حكاية
من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين، لا بخلاف
من بلغ في الجهل إلى الغاية. انتهى.
ولم أر أحدًا حكى قول الأصفهاني إلا وأنحى عنه باللوم. ونحن لا نرى في
الطعن فائدة [1] لأنا نعلم أنه ما من أحد غير أنبياء الله ورسله إلا ويؤخذ من قوله
ويترك، ومن تتبع الغلطات ولو كبار الرجال وجدها في كل شيء من الأشياء، وأمر
من الأمور، ولا يبقى بيديه شيء من الحق، وذلك هو الخسران المبين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: قد أحسن الكاتب في عدم إقراره لصديق حسن خان على طعنه هذا بأبي مسلم، وأين هو من أبي مسلم؟ بل أين منه شيخه الشوكاني في فهم القرآن؟ إننا نجل الشوكاني، ونعرف له فضله في علوم الحديث والآثار والفقه، ولا نظن أنه نبز أبا مسلم بالجهل ونحمد من صديق حسن اهتداءه بكتب الشوكاني، ومحاربته للتقليد وإن كان في عامة أحواله مقلدًا للشوكاني ولكننا لا نرى طعنه هذا في أبي مسلم إلا هفوة من هفوات الغرور نعم إن لأبي مسلم غلطات ولكن أي عالم كتب أو ألف أو أبدى علمًا وفهمًا فسلم من الغلط والخطأ؟ ألم ينكر هو والشوكاني على الأئمة المجتهدين، وعلى من قبلهم من علماء السلف كثيرًا من المسائل حتى بعض فروع مسألة النسخ؟ ألم يحصر الشوكاني المنسوخ في بعض آيات، ويخطئ المتقدمين في سائر ما عدوه منسوخًًا؟ فكيف يعد أبو مسلم من أجهل الناس بالشريعة إن وجد لهذه البضع الآيات معنى ينافي النسخ بالمعنى الخاص الذي ينفيه؟ .
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات
(كتاب التربية)
أَلَّفَ علماء أوربا كتبًا كثيرة في فن التربية ، فلما كتب ذلك الفيلسوف سبنسر
كان ما كتبه ناسخًا لطريقة من قبله ، ولكثير مما جاءوا به وقدوة جديدة لمن عاصره ،
ولمن يجيء بعده فهو الذي بنى قوانين التربية على أسس المنفعة ، وبين خطأ
الناس في تقديم الزينة على المنفعة كما جرى عليه المتوحشون من أقدم زمن يعرفه
التاريخ. وكتابه في التربية أشهر من أن يذكر فينوه به ، وقد ترجمه بالعربية محمد
أفندي السباعي أحد محرري الجريدة ، وطبع في مطبعتها طبعًا حسنًا على ورق جيّد
فبلغت صفحاته 143 ، وجعل ثمنه عشرون قرشًا، وهو يطلب من إدارة الجريدة.
***
(مجموعة الخطب)
تمنى كثير من أهل العلم والأدب لو تطبع الخُطَب التي تلقى في نادي دار
العلوم، وكاشفوا رئيس النادي (حفني بك ناصف) بأمنيتهم ، فوافقت رغبته رغبتهم
وقرر مجلس إدارة النادي طبع الخطب التي يكتبها أصحابها. وقد طبعت المجموعة
الأولى، فأوعت ثماني خطب في موضوع اللغة والتعريب والترجمة ، فبلغت زهاء
مائة صفحة ، وجعل ثمن النسخة منها قرشان ونصف قرش ، وهي تطلب من النادي
بشارع عبد العزيز (نمرة 5) .
***
(بلاغات النساء)
كتاب لطيف من تأليف أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المحدث المؤرخ
(المتوفى سنة280) أودعه ما رواه عن النساء من خطبهن وطرائف كلامهن ، وملح
نوادرهن ، وأخبار ذوات الرأي منهن ، وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام ،
ففيه من الخُطب خطب عائشة أم المؤمنين في فضائل أبيها ورثائه، وخطبتها السياسية
بالبصرة وخطبتها لما بلغها قتل عثمان. وفيه خطبة السيدة فاطمة الزهراء عليها
السلام لما منعها أبو بكر ميراثها، وغير ذلك من خطب وكلام أمهات المؤمنين ونساء
الصحابة رضي الله عنهن وعن أزواجهن ، وكلام غيرهن في السياسة والآداب
والمدح والرثاء ، ومن أحسنه كلام كثيرات منهن مع معاوية في تخطئته بما كان منه.
وفيه كثير من كلام النساء في الأزواج مدحًا وذمًّا، ووصاياهن لبناتهن ، والتعبير
عن سائر أغراضهن نثرًا ونظمًا، وليته خلا من أخبار مواجنهن، وأحاديث رفثهن،
إذًا لكان الكتاب جديرًا بعناية الشبان والشواب؛ لِمَا فيه من روائع الآداب
طبع الكتاب أحمد أفندي الألفي طبعًا حسنًا على ورق جيد ، وشرح في هوامشه
ما رآه خفيًّا من مفرداته حتى بعض كلم الرفث والمجون الذي كان أجدر بالخفاء منه
بالظهور، وقد بلغت صفحاته زهاء 200 من قطع المنار ، وجعل ثمن النسخة منه
عشرة قروش صحيحة ، ويطلب من المكتبات المشهورة.
***
(مطالع البدور في محاسن ربات الخدور)
هو كتاب خاص بوصف محاسن النساء نظمًا ونثرا ، جمع فيه واضعه محمد
سليم بك أبو الخير الأنسي ما اختاره ذوقُهُ من كلام المتقدمين ، وما جادت به
قريحتُه في ذلك ، ومثل هذا الوضع لا يحتاج إلى من ينوه به ، ولا يرغب فيه؛ لذاك
كتبنا عنه هذه الكلمات قبل مطالعة شيء منه ، وقد جعله جزئين لطيفين ، طَبَعَ أحدهما
وشرع في طبع الآخر ، وثمنهما عشرة قروش ، وثمن الذي طبع وحده خمسة
قروش ، ويطلب من المكتبات المشهورة.
***
(تحفة المجالس ونزهة المجالس)
كتاب لطيف في المحاضرات ، يُعْزَى إلى جلال الدين السيوطي ، جُلُّهُ حكايات
وأخبار في فضل العقل والعلم ، وأخبار الأولين من الأنبياء والخلفاء والملوك
والقضاة والمتلصصين والنساء والعشاق. طبعه الحاج محمد أفندي دربال التونسي
التاجر بسوق العطارين بالقاهرة ، وقد جعل ثمن النسخة منه خمسة قروش صاغ ،
وهو مما يرجى رواجه؛ لتوفر الرغبة في أمثاله من كتب الفكاهات والمحاضرات
عند جميع طبقات الناس ، ولِرخص ثمنه.
***
(الحمَّامات المعدنية)
رسالة موضوعها التداوي بالحمَّامات المعدنية في القطر التونسي ، وضعها
الطبيب بيورف بلغة أجنبية ، وتلقاه عنه بالعربية الشيخ محمد بن حسين بيرم في
عهد محمد بن حسين باي ، ونقلها إلى اللغة العربية ، ووضع لها مقدمة من عنده.
وقد طبعها في هذه الأيام طابع كتاب تحفة المجالس ، وقد جعل ثمن هذه الرسالة
قرشين ونصف قرش ، فنحث القُرَّاء على مطالعتها لِمَا فيها من الفوائد المتعلقة
بالاستحمام بالمياه المعدنية ، ونخص بالذكر أهل تونس لما فيها من الكلام عن
حماماتها بالتفصيل.
***
(الإسلام - والرد على لورد كرومر)
كتب أحد فضلاء المصريين مقالات دينية في الرّدّ على لورد كرومر نشرها
في جريدتي المؤيد واللواء بتوقيع (أبقراط) ، ثم جمعها وطبعها على حدتها فبلغت
64 صفحةً. منها مقالة في المقابلة بين الإسلام والنصرانية ، ومقالة في (المرأة في
الإسلام والنصرانية) ، وسائر المقالات في الرِّقِّ وتعدد الزوجات ، والطلاق ،
والعبادات ، والجنة والنار ، والجهاد. ولعلّ هذه المقالات أحسن ما نشر في
الجرائد رَدًّا على كتاب لورد كرومر (مصر الحديثة) ، وثمن النسخة منها ثلاثة
قروش.
***
(تقرير السير ألدن غورست)
كان الناس ينتظرون هذا التقرير انتظارَ مَنْ يتوقع شيئًا جديدًا في أمْر عظيم؛
لِمَا شاع وذاع، ونشرته الجرائد في جميع البقاع من أن الإنكليز غيروا سياستهم في
إدارة هذه البلاد منذ استقالة لورد كرومر إرضاءً للمصريين الذين أظهروا السّخط
من الإدارة السابقة. وكان الكثير يظنون - وهم لم يروا من السير ألدن غورست
المعتمد الجديد عملاً جديدًا يخالف طريقة سلفه اللورد - أنهم سيقرءون في تقريره عن
سنة 1907 شيئًا جديدًا ، يستنبطون منه كُنْهَ السياسة الجديدة.
وكانوا يظنون أن من فروع التغيير في سياسة الوكالة البريطانية بمصر
حرمان أصحاب المقطم من ترجمة التقرير السنوي بالعربية ، وطبعه، وإهدائه إلى
المشتركين في جريدتهم ، وبيع طائفة منه فلما جاء الموعد ، وظهر تقرير العميد
الجديد بمصر بالإنكليزية والعربية في وقت واحد كالعادة قالوا: (ما أشبه الليلة
بالبارحة) وَرَأَوْا صِدْقَ قول لورد كرومر: (يذهب إنكليزي ويجيء إنكليزي)
فقد نسج غورست على منوال كرومر ، ورمي عن قوسه. قالوا: إلا في مسألة
الصلة الشخصية بالأمير ، فإن هذا يحاسنه بقدر ما كان ذلك يخاشنه ، وصرح
بعض الأحزاب بأن هذه المحاسنة تخشى ولا ترجى ، ويقول آخرون غير ذلك ،
وسترينا مصداق أحد القولين حوادث الأيام، لا سِيَّمَا بعد زيارة الأمير لملك الإنكليز
في هذا العام، ومهما قيل في هذا التقرير وما قبله مِنْ حيثُ السياسة فلا خَوْفَ في
أن هذه التقارير تواريخ رسمية، لإدارة البلاد المصرية والسودانية.
***
(كلمات لقاسم بك أمين)
كان قاسم بك أمين الذي نعيناه إلى القراء في منار الشهر الماضي يكتب بعض
ما يسنح له من المعاني التي فيها عظة وحكمة ، وما يعن له من الآراء والخواطر ،
أو يراه من غريب المناظر. وقد ألقي إلى إدارة الجريدة ما كتبه من ذلك ، فطبعته،
وأطلقت عليه هذا الاسم (كلمات لقاسم بك أمين) ؛ فكان زهاء ستين صفحةً مثل
صفحات كتاب الإسلام والنصرانية ، وجعلت ثمنه عشرة قروش صحيحة تعظيمًا
لقيمته المعنوية ، وإننا ننقل من فرائد تلك الكلمات أحسن نموذج للقراء وهو:
الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي ، ونشر كل مذهب ، وترويج كل فكر.
أن الذي يمدحك بما ليس فيك إنما هو مخاطب غيرك.
رُبّ كلمة يتجرعها الحليم مخافة ما هو شر منها.
إذا استشارك عدوّك فأخلص له النصيحة؛ لأنه باستشارتك قد خرج من
عداوتك ودخل في مودتك.
تعصب أهل الدين وغرور أهل العلم هما منشأ الخلاف الظاهر بين الدين
والعلم ، وليس بصحيح أن يوجد بينهما خلاف حقيقي لا في الحال ولا في الاستقبال
ما دام موضوع العلم هو معرفة الحقائق المؤسسة على الاستقراء ، فمهما كثرت
معارف الإنسان لا تملأ كل فكره - بعد كل اكتشاف يتحققه العلم يبحث عن اكتشاف
آخر ، وفي نهاية كل مسألة يحلها تظهر مسألة جديدة تطالبه بحلها.
الآن وغدًا يشتغل عقل الإنسان بالعلم؛ أي: بمعرفة الحوادث الثابتة ، ولا يمنعه
ذلك من التفكر في المجهول الذي يحيط بها من كل طرف. هذا المجهول الذي كان
ويكون بعد، الذي لا قرارَ له ولا حدَّ لا في الزمان ولا في المكان هو دائرة اختصاص
الدين.
المقلد في إيمانه مقصر يحمل عقيدته كما تحمل الوردة في عروة الملابس،
والمنكر مجازف جاوز حد العقل والعلم، وأبغض منهما من يخادع بدينه ، فيقول:
إنْ كان الله غير موجود ما خسرت أكثر من غيري ، وإن كان موجودًا ربحت مع
الرابحين؛ لذلك أؤمن به. هذا هو المحتال الذي لا يصان أحد حتى الإله من نصبه.
أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته ، فيفسد عليها
لذتها ، وينغص عليها شهوتها.
وسننشر بعض آرائه في أهل عصره.
***
(شقاء المحبين)
قصة في جزئين من وضع إسكندر دوماس الفرنسي الشهير ، وترجمها
بالعربية حنا أفندي العنحوري ، الشاب الدمشقي الذي نبغ في آداب هذه اللغة في سِنّ
الصبا نبوغًا قَلَّمَا قاربه في مثله أحد من المشهورين بالترجمة والكتابة في هذا
العصر ، ولولا أن فاجأته المَنِيّة في نحو الثامنة والعشرين من سِنّه لَرَأَيْنَا من آثار
قَلَمِهِ ما يعدّ من آيات حياة العربية.
قلما رأيت ترجمة لأحد من الكتاب المعروفين كترجمة هذه القصة تكثر فيها
فرائد اللغة التي هجرها الكُتّاب لِقِلّة اطلاعهم ، وتزين بالأمثال والاقتباس والتضمين
وحل المنظوم من كلام الشعراء الأولين المجيدين ، وتقلّ فيها الأغلاط الشائعة
الآن.
طبع القصة إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في جزئين ، وأهدى
إلينا نسخةً منها وعهد إلينا أنْ لا نكتب عنها شيئًا إلا بعد قراءتها ، فقلنا: لا بُدَّ لهذا
من سبب. فَلَمّا قرأنا صفحات منها علمنا أنه عهد إلينا بذلك؛ لعلمه بأننا نعرف قيمة
هذه الترجمة البليغة، وثمن الجزئين معًا عشرون قرشًا ، وهي تطلب من طابعها.
***
(القطر المصري)
مجلة سياسية أسبوعية تؤيد سياسة الحزب الوطني بمصر أنشأها أحمد أفندي
حلمي أشهر محرري جريدة اللواء في عهد مؤسسها، وإذا كان من مروجي جريدة
اللواء بقلمه كما هو معروف ، فلا غَرْوَ أن تروج مجلته وهي كبيرة الحجم قليلة الثمن
إذ قيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في السنة.
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(3)
الفصل الخامس
(مقام خديجة عند قومها)
ما أكرم هذا المقام ، وأي بليغ لا تأخذه الهيبة إذا دعي لتصور هذه المنزلة؟
سيدة بطلعتها الفخامة والشرف يتجليان، والجمال والكمال يتآلفان،
ومزايا كالزهر نفحًا وطيبًا
…
وكزهر السما بهاءًا ونورًا
من شرف حَسَب، إلى كرم محتد، إلى سؤدد قبيل، إلى عز عشيرة، إلى
جمال ذات، إلى كمال صفات، إلى فضل حجى، إلى طهارة نفس، ذلك ما كان
تتزين به سيدتنا (خديجة) وذلك ما كانت تحل به بين قومها في المكانة العالية
والمقام الكريم.
هذه المزايا ليست بالبدع من الأشياء، ولا نبأها بغريب من الأنباء، بل هي
معهودة في كثير من النسوة، ومع ذلك لم يكن لاسمهنّ نصيب بغير الخمول، قد
طويت أعلامهن، ولم ينشر ذكرهن، ولم يسمُ في أقوامهن مقامهن، فكيف تسامى
اسم (خديجة) وعلت منزلتها؟
إنما كان لخديجة ذلك الشرف بشيء آخر غير مزاياها. ذلك الشيء هو ارتقاء
مدارك قومها ، وسلامة أذواقهم ، وحسن انتظام مجتمعهم. وليس بكافٍ لتعالي امرئ
أن يكون كاملاً بل لا بُدَّ مع ذلك من إحاطة قومه علمًا بفضائله ، ووجود ميل فيهم
للفضائل والكمال ، ومن المشهور أن الحجارة الكريمة عند من لا يعرف مزيتها لا
قيمةَ لها ، وهي عند عارفيها فوق القيم ، فالحق أن ارتفاع من يستحق الرفعة في قوم
ليس دليلاً على فضله وسعادة جده وحده ، بل هو دليل أيضًا على فضل أولئك القوم
وسعادة جدهم، فقد ربح قوم كان للأفاضل منزلة كريمة لديهم، وخسر قوم لا يعلو
بينهم إلا من استعان بجيش من الحيل والخداع، وحواشٍ من النقائص المتغلبة على
الطباع.
وإذا كنا معجبين بالسيدة (خديجة) لوفرة مزاياها الشريفة ، فنحن بقومها الذين
شرفوا هذه المزايا أشد إعجابًا. وليست (خديجة) وَحْدَها هي التي نالت مقامًا
كريمًا في قريش ، بل كثير من فضليات نسائهم نلْنَ المقامَ الكريم فيهم ، وكان لكثير
منهن آثارٌ مشكورةٌ في مساعدة الإسلام ، الذي نقل العرب وغيرهم إلى أعلى مما
كانوا فيه ، ولم يستطعن ذلك بما لهنَّ من القدر الذي يليق بإنسان ذي رأي معدود،
وعقل مذكور، ونفس مشابهة ، وَحَسْبُكَ من هذا أن الرجل العظيم عمر بن الخطاب
أبا العدل وأبا الفتوح وأبا السياسة والإدارة لم يكن إسلامُه إلا بمحاورة سيدة من
أولئك السيدات القرشيات ، هي أخته فاطمة زوجة ابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو
بن نفيل.
نحن نعلم أن أكثر الناس يمرون بالمزية يعهدون أمثالها ، فلا يلتفتون إليها ما
لم تكن رائعةً وفوق ما اعتادوا ، وهذا عندنا ضارٌّ؛ لأن فيما يعهدونه أيضًا ما
يستحق الالتفات إليه، ويغري بالانتفاع منه إن كان مفيدًا، والتغافل عن الإنسان
المفيد إذا لم يكن فوق العادة يوصل إلى الحرمان أَلْبَتَّةَ من ذلك الرائع المنشود،
والسامي الذي هو فوق المعهود.
ولا يشكنَّ القارئ في أن كثيرًا من الأشياء التي صرفتنا الألفة عن إجلال شأنها
هي في جلالة الشأن عند الإمعان فوق ما نتصور. وفي كثير مما لا نتفكر فيه منها ما
تخر الأفكار صاغرة أمام زاخر فوائده، وباهر أسراره؛ فلذلك أحببنا أن
نمر بقارئنا مرةً في تفصيل جملة تلك المزايا التي شرفها قوم (خديجة) حتى كانت
بها كريمة المقام فيهم؛ لأنه ربما اختلج في صدره التعجب من إكبارنا شأن مزايا
معهودة في كثيرين ، وقد يكون قارئنا من حزب الأكثرين الذين لا يبالون
بالمعهودات، ولا يطربون بغير الغرائب.
نعم، نعم نحن لم نطرف بما فوق المعهود، ولم نُهدِ ما وراء المشهود، ولا
عذنا بمبتدعات التصور، ولا لذنا بغرائب الحوادث، وشواذ المصادفة، وخوارق
العادة، ولم نمت إلى أفئدة القراء إلا بمعروف له أمثال، ومألوف لا تضيق بتصديقه
الأفكار، ولكن الأمر في هذه المعهودات على ما قلنا. وإذا ثبنا إليها بنظر الإمعان
غير وسنانة عين بصيرتنا ألفينا فيها عند سأم النفس من لذة الحس، أعظم ما نتوق
إليه من لذة التصور وفائدة الإدراك.
وإذا كانت الحياة واحدة كان جديرًا بنا أن نقف متذكرين هذه الوحدة أبدًا أمام
كثرة اختلاف المظاهر، وشدة احتجاب الأسرار ، ولم يكن حسنًا بنا أن ننسى أحاسن
ما تلده لنا هذه الأم من الصور التي لا تُحْصَى.
إننا بتذكرنا مَن سادوا وشادوا، وبتذكرنا من صلحوا وأصلحوا، بتذكرنا من
أوجدوا وابتدعوا - نتذكر تاريخ أمنا الحياة ، وترتاح نفوسنا باستجلاء أحسن
صورها، وتتوارد عليها اللذة باشتياقها إلى نصيب من ثروة تلك الأم التي جادت
بمقاديرَ منها عظيمة على إخواننا أصحاب تلك المظاهر، ولابسي تلك الصور، ولم لا
نتوق إلى حديث ذلك التراث وهو يملأ كنوزًا إن عجزت أفكارنا أن تحيط بكُنْهِ
جواهره خبرًا فهي لا تعجز أن تأتينا بلذة من التأمل في بديع كيانها ، والأمل ببلوغ ما
تميل إليه النفس منها.
* * *
الفصل السادس
(فضائل خديجة والفضائل عند قومها)
تبارك واهب الحياة، فقد أبدع لنا في (خديجة) المثال الأسنى منها، وأطلع
لنا في شخصها زواهر الإنسانية الفضلى، وبنور هذه الزواهر رأينا مدارك قريش
في الأفق الأعلى، وتربيتهم الأدبية والعقلية في المنزلة العليا.
نحن مَعْشَرَ بني الحياة متفاوتون كثيرًا في قوى النفوس ، وأكثرنا في الحقيقة
مغبون الحظ، منقوص النصيب من القوى التي تكون بها الحياة هنيئةً شريفةً مسعدةً
لصاحبها وغيره ، وقليل منا من رزقوا فضلاً من هذه القوى النافعة الآتية بالغبطة
والحُبُور.
ولدى التأمل نجد استعداد فطرة الشخص هو الأساس في حسن الحظ من
هذه القوى النافعة ، ثم للتربية دخل كبير ، فإذا اجتمع في الشخص استعداد حسن
وتربية حسنة كان حظه عظيمًا من فضائل النفس ، وقد اجتمعتا في (خديجة)
فرأينا في سيرتها ذلك المثال السني، والكمال السمي.
عرفنا حسن استعدادها؛ لأن التربية وحدَها لا تفعل شيئًا في جوهر النفس إذا
كان غير صالح لفعلها كما لا يصلح الماء لأن تطبع فيه ما تشاء، وعرفنا حسن
تربيتها؛ لأن الاستعداد وحده لا يسير بصاحبه إلى المرغوب في المجتمع.
ومن حسن استعداد هذه السيدة وحسن تربيتها عرفنا شيئًا آخر جديرًا بالتنويه،
وقلما رأينا من نوَّه به أو التفت إليه ، فلذلك عنينا به نحن كثيرًا في صدد هذه السيرة
وهو ارتقاء قوم (خديجة) ارتقاءً عظيمًا فإن التربية الشخصية مقتبسة في الغالب
من التربية العمومية. والمجتمع غالبًا أشبه بالمرآة يرينا من الأشياء مقبولاً ومردودًا
ومسكوتًا عنه.
وتشتهر المقبولات حتى يطلق عليها اسم المعروف، والمردودات حتى يطلقَ
عليها اسم المنكر، ويضطر الناس إلى تقرير تربية عمومية هي أن لا يخالف
المعروف، ولا يوافق المنكر، ويبقى للناس سبح في المسكوت عنه من الأشياء حتى
يرى كل منهم رأيه فيها ، فهذا يستحسن شيئًا حتى يوجبه على نفسه، وذاك يستقبح
شيئًا حتى يحرمه عليها. وأعقل الناس في هذه الأشياء المسكوت عنها من جعل
المعروف والمنكر معيارًا لها ، فكل ما قرب من المعروف كان حسنًا ، ويكون وجوبه
على حَسَب درجة قرْبه من المعروف، وكل ما قرب من المنكر كان مسترذلاً، ويكون
حظره على حسب درجة قربه من المنكر، والأصل في المنكر هو الأذى والعدوان ،
وعليه قِيسَ الأصل في المعروف قياس الضد ، فالأصل فيه العدل والإحسان.
فعلى هذين الأصلين تقوم دعامة النظريات في التربية، وعليهما تشاد الأعمال
فيها.
وأي باحث لا تأخذه هيبة إذا اطلع على ما كان لقوم (خديجة) من التعمق في
في دقائق هذا الفن من حيث النظر، وعلى بدائع النتائج فيه من حيث العمل، أي
والله إن هؤلاء القوم النازلين في ذلك البلد الصغير البعيد، وإخوانهم الآخرين
الضاربين في تلك الفيافي يدهش المطالع ما يراه لهم من الباع الطويل في فن
التربية على مقتضى مجتمعهم ذاك. فتراهم مثلاً لما كانت السماحة ضرورية ولا
سِيَّمَا لذلك الاجتماع جعلوها في المقام الأول ، ولم يأتوا بطبعها في النفوس حتى نبغ
فيهم أجواد بلغوا بهمتهم في الجود الكواكب ، وازَّينت الأرض بمناقب هممهم،
وإيثار أخيهم الإنسان على أنفسهم، كما فعل كعب بن مامة الذي آثر رفيقة بمائه ،
ومات هو عطشًا.
ولما كانت الشجاعة ضربة لازب لكل شخص ، وكل جماعة في كل زمان
وكل مكان تجدهم جعلوها شعار المحامد وتاج المناقب ، وسيروا فيما ضربوه من
الأمثال قولهم: (الشجاع موقى، والجبان ملقى) وكانوا يتمادحون بالموت قتلاً،
ويتهاجمون بالموت على الفراش ، ولما بلغ عبد الله بن الزبير - وهو ابن أخي
خديجة - قتل أخيه مصعب، خطب فقال: (إن يُقْتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه.
إننا لا نموت حتفًا ولكن قطعًا بأطراف الرماح وموتًا تحت ظلال السيوف. وإنْ
يقتل المصعب فإن في آل الزبير خلفًا منه) ذلك لأنهم كانوا يكرهون الحياة إذا لم
تشرف ، ويرون الحياة الرذيلة معرضة للعدم أكثر من الحياة الشريفة ، ولمثل هذا
يقول علي بن أبي طالب: (بقية السيف أنمى عددًا، وأطيب ولدًا) وتقول
الخنساء وهي إحدى الشهيرات في العرب:
نهين النفوس وبذل النفو
…
س يوم الكريهة أبقى لها
لا يستنكرن أحد إذا قيل له: إن الشجاعة - وهي السجية التي لا ترقى الأمم
إذا خلت منها - كانت في العرب من الأخلاق الفاشية التي لا يعتدّون بأحد منهم ما لم
تكن فيه ، وقد سهل على نفوسهم انطباع هذا الخلق فيها؛ لأن أكثر شيء كانوا
يتناقلونه هو حديث الشجعان، وإقدامهم في الشدائد حتى فضلوا، والجبناء وإحجامهم
فيها حتى رذلوا، وهنالك من الشعر في الشجاعة والشجعان ما يفعل في النفوس فعل
السِّحْر، فيستنزلها من الخوف على الحياة والهرب بها إلى الخوف على الشرف حتى
تهون النفوس في سبيله، كقول عنترة وهو أحد مشهوري شجعانهم:
بكرتْ تُخوفني الحتوف كأنني
…
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
…
لا بُدَّ أن أُسْقَى بكأس المنهل
فاقني حياء لا أبا لك واعلمي
…
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
وقد يظن ظانّ أن شجاعة العرب وبَأْسهم لم يكن إلا فيما بينهم ، ومثل هذا
الظن من قلة الاطلاع عل جملة أخبارهم ، فنحن لا نزيد أن نأتي بآية على شجاعتهم
مما فعل هؤلاء القوم بعد إسلامهم ، فإن ذلك مشهور ولكن حسبنا أن ندل القارئ على
ما كان من بأس العرب يوم ذي قار إذ أراد كسرى أن يوقع سوءًا ببني بكر بن وائل؛
لسبب لا محلَّ لتفصيله ، فجهز عليهم جيشًا كثيفًا؛ لِيهلكهم به ، وبلغهم خبرُه؛
فتجهزوا له، وأعانهم قبائل أخرى ، فتوافوا بواد اسمه ذو قار وكانت الهزيمة على
جيش كسرى حتى تبعهم العرب إلى داخل البلاد الفارسية ، وهي واقعة مشهورة
كثرت فيها الأشعار، وظهر فيها ما للشجاعة من الفضل في كسب الفخار، وحمى
الذِّمَار، واتقاء العار، وفي هذه الواقعة يقول الأعشى أعشى بني بكر:
وجند كسرى غداة الحنو صبحهم
…
منا غطاريف ترجو الموت وانصرفوا
لقوا ململمة شهباء يقدمها
…
للموت
…
لا عاجز منا ولا خرف
فرع نمته فروع غير ناقصة
…
موفق حازم في أمره أنف
فيها فوارس محمود لقاؤهم
…
مثل الأسنّة لا مِيل ولا كُشفُ
لما رأونا كشفنا عن جماجمنا
…
ليعلموا أننا بكر فينصرفوا
قالوا البقية والهنديّ يحصدهم
…
ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
لو أن كل مَعَدٍّ كان شاركنا
…
في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
لما أمالوا إلى النشاب أيديهم
…
ملنا ببيض لمثل الهام تختطف
إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت
…
حتى تولت وكاد القوم ينتصفوا
بطارق وبني ملك مرازبة
…
من الأعاجم في آذانها الشُّنُف
من كل مرجانة في البحر أحرزها
…
تيارها ووقاها طينها الصدف
كأنما الآل في حافات جمعهم
…
والبيض برق بدا في عارض يكف
ما في الخدود صدود عن سيوفهم
…
ولا عن الطعن في اللبات منحرف
وفي هذه الواقعة يقول العديل بن الفرج العجلي:
ما أوقد الناس من نار لمكرمة
…
إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يعدون من يوم سمعت به
…
للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة
…
لما استلبنا لكسرى كل أسوار
وفيها يقول شاعر آخر من بني عجل:
إن كنت ساقيةً يومًا ذوي كرم
…
فاسقي الفوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم
…
واعلي مفارقهم مسكًا وريحانا
وهي واقعة شهيرة ظهرت فيها الشجاعة العربية أكمل مظهر ، وكان المنذر
لهم بنية كسرى وعزمه لقيط الأيادي إذ كتب إلى بني شيبان يخبرهم بذلك في شعر
مشهور غاية في البلاغة والتحميس واستثارة العزائم ، وفيه يقول:
قوموا جميعًا على أمشاط أرجلكم
…
ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
وقلدوا أمركم لله درّكمو
…
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مسترفًا إن رخاء العيش ساعده
…
ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
…
يكون مُتِّبِعًا طورًا ومُتِّبَعًا
حتى استمر على شزر مريرته
…
مستحكم الرأي لا فحما ولا ضرعًا [1]
وليس يشغله مال يثمره
…
عنكم ولا ولد يبغى له الرفعا
فعلى مثل ما ذكرنا كان نصيب العرب عامَّةً ، وقبيلة خديجة خاصَّةً من
الشجاعة التي لا قوام للأمم بدونها ، وكانوا لا يعتدون بالجبان، ولا يعدونه شيئًا
مذكورا. وينبئك بذلك قول أحد شعرائهم:
خرجنا نريد مغارًا لنا
…
وفينا زياد أبو صعصعة
فستة رهط به خمسة
…
وخمسة رهط به أربعة
ثم لم يكن نصيب قوم (خديجة) في فقه النفس والحكمة والمعارف بأقل من
نصيبهم في الشجاعة؛ فقد كانوا يتناقلون المعارف، ويتدارسونها من غير كتب ،
وكان لهم إلمام قليل بحركات الكواكب والأنواء التي تتبعها. وهو يقتضي شيئًا من
معرفة الحساب ، وكان لهم معرفة غير قليلة بالطب، وحفظ الصحة سواءٌ كان طبّ
الإنسان أو طبّ الحيوان.
والطِبّ يقتضي أيضًا نصيبًا من علم الخواص ، التي أودعها الباري في المعدن
والنبات والحيوان. أما معرفتهم بالأخبار أي: التاريخ فحدث عنها ولا حرج ، وكانوا
يعبرون عن هذا العلم بعلم النسب ، فإن علم النسب في الحقيقة ليس عبارة عن معرفة
نسب الأشخاص والقبائل؛ فإن هذه معرفة بسيطة لا تستحق أن تُسمّى عِلْمًا ، وإنما
كان النسابون يعرفون أخبار أولئك الأشخاص وأخبار تلك القبائل ، وهذا هو التاريخ
وربما كان السبب في اشتهار هذه المعرفة باسم علم الأنساب أن عارفي الأخبار كان
إليهم المرجع في معرفة الأنساب التي من أهم فوائدها معرفة تفريع القبائل ،
وإلحاق الفروع بأصولها على شدة البعد بين الأصول وتلك الفروع أحيانًا.
وقد كان منهم اختصاصيون بهذا العلم يلقون منه على من يتحلقون حولهم. قال
رؤبة بن العجاج: قال لي النسابة البكري: (يا رؤبة لَعَلَّكَ من قوم إن سكت عنهم لم
يسألوني ، وإن حدثتهم لم يفهموني) يعيب بذلك على الذين لا يرغبون في تلقي
هذا العلم حق الرغبة. قال رؤبة: فقلت له: إني أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما
آفة العلم ونكرته وهجنته؟ قلت: تخبرني. قال: (آفة العلم النسيان، ونكرته
الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله) .
وأما الحكمة والآداب والبيان فقد بلغ فيها هذا الشعب العربي من الانصباب
على حفظها ودراسة الكَلِم الجوامع فيها مبلغًا عظيمًا ، ويمكنني أن أقول: إنها من
أشهر ما اشتُهِرَ عنهم.
وهل يجد الباحث معنى من المعاني التي يخطر للنفس فيها الاستحسان أو
الاستهجان إلا ويجد لهم الشافي الوافي من البيان في تصويره وإبرازه بأبدع حلة ،
ولا ينبئك ببعض ذلك شيء كالمأثور من كلمهم الجوامع التي سارت مسير الأمثال،
وكانت كالدرر الفرائد بين سائر الأقوال، ولا نستطيع أن نأتي هنا بقليل من ذلك
الكثير لِكَيْلَا نبعدَ بالقارئ عن سياق السيرة ، ولكنا نذكر خبرًا واحدًا يدل على مقدار
عناية العرب بتذاكر الحكم والآداب، وصياغتها بأبدع البيان، ومقدار ما وسعت
منها تلك الأفكار.
ذكروا أن عمْرو بن الظرب العدوانِيّ وحممة بن رافع الدَّوْسِيّ اجتمعا عند ملك من ملوك حِمْيَر، فقال: تساءلا حتى أسمعَ ما تقولان. فقال عمرو لحممة: أين تحب أن تكون أياديك؟ قال: (عند ذي الرتبة العديم، وعند ذي الخلة الكريم، والمعسر العديم والمستضعف الحليم) . قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: (الفقير المختال
والضعيف الصوَّال، والغني القوَّال) . قال: فمن أحق الناس بالمنع؟ قال:
الحريص الكاند والمستميد [2] الحاسد، والمخلف الواجد) قال: مَن أجدر الناس
بالصنيعة؟ قال: مَن إذا أُعْطِيَ شَكر، وإذا مُنِعَ عذر، وإذا مُطِل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: مَن أكرم الناس عشرة؟ قال: (مَن إذا قرب منح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح) . قال: مَن ألأَم الناس؟ قال: (من إذا سأل خضع وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع [3] ، ظاهره جشع، وباطنه طَبَع)[4] .
قال: فمَن أجلّ الناس؟ قال: (مَن عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم
تطغه عزة الظفر) قال: فمَن أحزم الناس؟ قال: (مَن أخذ رقاب الأسود بيديه،
وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب دبر أذنيه) قال: فمَن أخرق الناس؟
قال: (مَن ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار [5] )
قال: مَن أجود الناس؟ قال: (مَن بذل المجهود، ولم يأسَ على المفقود) قال: فمَن
أبلغ الناس؟ قال: (مَن حلَّى المعنى العزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل
التحزيز) . قال: من أنعم الناس عيشًا؟ قال (مَن تَحَلَّى بالعفاف، ورضي
بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف) . قال: فَمَن أشقى الناس؟ قال:
(مَن حسد على النعم، وسخط على القسم، واستشعر بالندم على ما انحتم) . قال:
فَمَن أغنى الناس؟ قال: (مَن استشعر اليأس، وأظهر التجمل للناس، واستكثر
قليل النعم، ولم يسخط على القسم) قال:(فمَن أحكم الناس؟) قال: من صمت
فادَّكر، ونظر فاعتبر ، ووُعظ فازدجر) قال:(من أجهل الناس؟) قال: (مَن رأى الخرق مغنمًا، والتجاوز مغرمًا) .
وما ذكرناه من جهة معارف القوم الذين نشأت منهم هذه السيدة كافٍ في الدّلالة
على أنه كان من جملة ما يعنون به من التربية تثقيف ناشئتهم ، بما عندهم من
المعارف على الطريقة التي ألفوها وتعودوها في التعليم ، وهي الطريقة الطبيعية
الساذجة الخالية من الاصطلاحات والتعاريف والتفاصيل التي يحتاج إليها نَفَر
قليلون ، ويستغني عليها الآخرون. ولِكل فرع أهله الذين بهم استعداد لالتقاطه
بسهولة ، ولا يكلف البليد في شيء أن يكد في تفهمه مدركته، أو ينضي في حفظه
ذاكرته، أو في توسيعه مخيلته.
ثم قد كان مما عُنِيَ به العقلاء من رهط خديجة التربية على العدل ، ولقد
أسلفنا شيئًا عن وَلَعِهِمْ بِهِ، وحِرْصِهِمْ على حماية المظلوم، ووقاية المهضوم.
وكذلك ولعوا بامتداح العفاف وتشريف الأعفاء والعفائف، وإجلال الطهارة
وأهلها ، وكان من أكرم ألقابهم وأجلها لقب الطاهر والطاهرة ، وقد حازت السيدة
(خديجة) هذا اللقب الشريف باستحقاقٍ إذ كان يقال لها: (الطاهرة) .
فإذا عرف المطالع الكريم أن لهؤلاء القوم حظًّا كبيرًا من هذه الأشياء ، التي هي
أصول الفضائل نَعْنِي: السماحة والشجاعة والحكمة والآداب والبيان والعدل والتعفف
كان جديرًا به أن لا ينظر إلى صغر شأن ذلك المجتمع إذا قُورِنَ بِبلاد الحضارة ، فإن
الفضل الإنساني الممنوح مِن يد الفاطر المبدع لا يتوقف على زخرف البيوت ، وكثرة
الدور في البلد الواحد ، بل يصل ذلك الفضل بإرسال رَبّانِي مِن يَدِهِ سبحانه إلى
الذرات الصغيرة التي في الأدمغة ، ويختص به سبحانه أفرادًا مِمّن عنوا بتوجيه
العقول والقلوب إلى تصفية النفس، وتزكيتها من النقائص، وتحليتها بالفضائل ممن
لم يجعلوا أكبر همّهم تجويد المأكل والملبس والمسكن والفراش. فإذا كثر من هؤلاء
الأفراد في أُمّة ظهرت وإن حلّ الخفاء بهم، واستوفت وإن بخس الوزن لهم، ولم
يكن الأفراد الذين تَلَقَّوْا هدية الفضل الإنساني من الإحسان الربّاني قليلين في قوم
(خديجة) الفاضلة ، بل كانت كثرتهم خير مقدمة لخير نتيجة هي ظهور ذلك الرسول
الكريم الذي كان من أكبر مميزات جماعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
أولئك الذين وافاهم الوحي ينعتهم بما هم أهله قائلاً: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المريرة: طاقة الحبل والحبل الشديد القتل والشزر: القتل عن اليسار ، والمعنى استحكم أمره وقويت شكيمته، والفحم الرجل الهرم، والضرع: الضعيف.
(2)
المستميد: هو المستعطي.
(3)
معنى كنع هنا: انكمش.
(4)
الطبع بفتحتين: هو الدنس.
(5)
يريد بالبدار: معاجلة الخصم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسلمون والقبط
سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم
أفراد أرقى من القبط في كل علم ، وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي
أرقى من المسلمين ، فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في
مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما
حمدتهم وأحمدهم عليه ، وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله ، وإن كنت أعلم أنه لو
أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية لَمَا وجدوا في
القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا ، ويجعل عنان خطابته (مصريون قبل
كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوروبا ، ويقول الجميع: إن المسلمين في
مصر يُحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية ، ويدعون إلى ارتباط بعضهم
ببعض لمقاومة النصارى في مصر ، بل في جميع الأرض.
لم تكد تقر شقشقة أحمد زكي بك من دعوة المسلمين في جمعية الرابطة
المسيحية إلى توثيق عقد الأخوة بينهم وبين القبط ، ويقنعهم بالأدلة الدينية والتاريخية
أن الإسلام في هديه وسيرة سلفه يوجب عليهم المودةَ للقبط - حتى قام بعض الكتاب
من القبط يكتبون في بعض الجرائد القبطية وغيرها أن حقوقهم مهضومةٌ بين
المسلمين ، وأنهم يطلبون المساواةَ بتعيين المديرين ومأموري المراكز منهم ،
فوافقتهم جرائد المسلمين الكبرى في مطالبهم ، فلم يقنعهم ذلك ، بل تَمَادَوْا في الكتابة
حتى جعلوا أنفسَهم أصحابَ البلاد ، وجعلوا المسلمين من قبيل المحتلين بغير حقٍّ ،
وأغلظوا القولَ للواء والحزب الوطني ، فكتب الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس
تحرير جريدة اللواء قولاً ثقيلاً في الرد على بعض كتابهم سخر فيه منهم ، وهزى
بهم، وافتخر عليهم ، فكان ذلك جل ما يبغون من حركتهم الجديدة. [1]
قامت قيامتهم ولم يكتفوا بما يكيلون كل يوم للشيخ عبد العزيز من الصيعان
الكثيرة في مقابلة صاعه ، بل أنشأوا يكتبون في جرائدهم: إن المسلمين يريدون
بتعصبهم الديني استئصال القبط وجميع النصارى من مصر ، وإنه يجب عليهم أن
يوفدوا الوفود إلى أوربا للاستغاثة بدولها وأممها المسيحية قبل أن يبيدهم المسلمون
المتعصبون ، أو يضطروهم إلى الجلاء عن بلادهم ، والهجرة إلى بلاد أخرى
يأمنون فيها على أنفسهم من المسلمين ، ثم هم يطلبون أيضًا معاقبة الشيخ عبد
العزيز شاويش الذي أهانوه أضعافَ ما أهانهم ، وأن يرد عليه ويتبرأ منه كُبَرَاء
المسلمين، ويعقدون الأندية والسّمار للبحث في هذه النازلة ، ويكتتبون بالأموال لها.
من علم أن القبط في القطر نحو نصف مليون في نحو أَحَدَ عَشَرَ مليونًا مِن
المسلمين - وأنّ العمال والمستخدمين منهم في الحكومة أكثر من المسلمين - وأنّ
المسلمين قاموا منذ سنين يدعون إلى الرابطة الوطنية ، فكان لهذه الدعوة من التأثير
في نفوس القارئين والسامعين، والأساتذة والمتعلمين أن صار يفضل كثير منهم
القبطي على المسلم الشامي والحجازي
…
، بل سمعت غير واحد من المعلمين
والمتعلمين يقول: لا فَرْقَ عندي بين أن يكون أمير البلاد مسلمًا أو قبطيًّا - وأن
المسلمين جعلوا أحزابهم وأنديتهم شُرعًا بينهم وبين القبط - وأن القبط يتعصب
بعضهم لبعض في كل مصلحة وكل عمل حتى في القضاء - وأن المسلمين على
شدتهم في انتقاد حكامهم قَلَّمَا ينتقدون القبط؛ فهم ينتقدون وزير المعارف المسلم على
إحسانه في عمله بحُجّة أنه لم يكن فيه مرغمًا للإنكليز ولا معاندًا لهم ، أو أنه يجب
عليه أن يعمل أكثر مما عمل ، ولا ينتقدون وزير الخارجية القبطي الذي هو ألصق
بالمحتلين وبالاتفاق معه سلخ لورد كرومر السودان من ملك الدولة العَلِيّة وملكه
للإنكليز ، وكان رئيس محكمة دنشواي التي ظلت الجرائد الإسلامية تعير وتسب
العضو المسلم فيها ، ولم تذكر رئيسها بسوء - من علم هذا وأمثاله يتعجب أشد
التعجب لهذه الثورة المعنوية التي أثارتها القبط في الوقت الذي يبالغ فيه المسلمون
في موادتهم وتوثيق عُرَى الإخاء بينهم وبينهم. حقًّا ، إن في الأمْر مثارًا للعَجَب،
قَلَّمَا رَأَيْنَا من بحث في حقيقة السبب.
يقول بعض الناس تبعًا لبعض الجرائد: إن قطبي الرَّحَى لهذه الحركة أُخْنُوخ
أفندي فانوس رئيس جمعية الرابطة المسيحية، ومجمع الإصلاح القبطي،
وصاحب جريدة مصر اللذان يسعى كل منهما لجعل ولده مديرًا ، فهما اللذان أَيْقَظَا
هذه الفتنةَ لحظ شخصي ، فكانت فتنة جنسية أو طائفية باتباع الجمهور لهما.
ومن رأيي أنهما بريئان من هذه التهمة ، ولو كان ذلك هفوة لهما لَمَا خفي على
جمهور طائفتهما الحازمة اليقظة، بل يغلب على ظنّي أن هذه الطائفة تجل عن أن
تتوسل إلى تقرير جعل المديرين منها بهذه الوسيلة؛ لأن ربح مدير لا يوازي خسارة
مودة المسلمين لهم، ودعوتهم إلى مساواتهم ومؤاخاتهم - هذه الخسارة التي
تعرضوا لها الآن بمنتهى ما عندهم من الجرأة والإقدام.
والراجح عندي أن القوم شعروا بالتغير الجديد في السياسة ، وعلم بعض
كبرائهم بالنبأ الذي نشرناه في الجزء الماضي قبل أن نعلم به - وهو عزم الإنكليز
على السماح لأمير البلاد بإنشاء مجلس نيابي - ومن البديهي أن جمهور القبط لا
يرغبون في أن يكون في مصر مجلس نيابي ، ولا أن يقلل المحتلون من سيطرتهم
على البلاد. فلما علموا بذلك رَأَوْا أنه لا سبيلَ إلى تحويل الإنكليز عن هذه السياسة
الجديدة إلا بإقناع أُمّتهم بانفجار بركان تعصب المسلمين على القبط، وسائر
المسيحيين؛ ليقولوا: إن هؤلاء إذا جُعِلَ لهم رأي نافذ في سلطة بلادهم
يهضمون وهم الاكثرون حقوق الأقلين. وإنني لمعظم لقدرهم بهذا الظن ،
ومعتقد فيهم الحزم والتكاتف ، وإن ترجح عندي أنهم ربما أخطئوا في اجتهادهم،
وجاء الأمر على خلاف مرادهم، وحينئذ يكون شرّ هذه الحركة أكثر من خيرها،
وإثمها أكبر من نفعها.
سمعنا غير واحد من أهل الفهم والرأي يقولون: إن تعصب القبط بعضهم
لبعض ، وتعاونهم على مصالحهم المِلِّيَّةِ يُعَدُّ مِن الأمور الطبيعية في الاجتماع ، فإن
الفئة القليلة إذا لم تعتصم بعروة التعصب فإنها تذوب وتفنى في الأُمّة الكبيرة التي
تعيش معها، فالقبط معذورون في سيرتهم التي هم عليها؛ لأنها طبيعية لا بُدَّ منها.
ونقول: نعم ، إن ذلك طبيعيّ وبديهيّ ، ولكن ما كان كذلك يجب الاعتراف به،
ويستنكر جحوده فما بالك بادعاء ضده. ثم إنه ليس من الطبيعي البديهي أن تكون
الفئة القليلة في الأمة الكبيرة مهاجمة في جهادها الاجتماعي ، فتطلب ما تبغي
بالطريقة التي جرت عليها القبط في هذه الأيام إلا إذا كان لها حدث جديد، أو أوت
إلى ركن شديد.
يعبرون عن أنفسهم في مقام مطالبة المسلمين بما يطلبون بالأمة القبطية ،
وُيدلون بأنهم أصحاب البلاد؛ لأنهم سلالة فرعون ذي الأوتاد، ويجهرون بأن
المسلم فيها أجنبي محتلّ، وأتاويّ معتدٍ، وينكرون على المسلمين أن يكون لهم فيها
حق مِنْ حيثُ هم مسلمون فاتحون، ولا ينكرون على أنفسهم أن يَدّعوا الحقوق فيها
من حيث هم قبط مسيحيون، وهم في الحقيقة رعايا ذِمِّيُّونَ، فما هو الحدث الجديد
الذي أنطقهم بهذا اللسان؟ وما هو الركن الشديد الذي يأوون إليه الآن؟
لا يظهر لنا حدث غير ما بيناه من تغير السياسة الإنكليزية في البلاد ،
وعزمها على السماح للأمير بتأليف مجلس نيابي فيها يشترك معه فيما يسمونه
مسئولية إدارتها. ولا نعرف لهم ركنًا فيما صمدوا إليه إلا رغبة السياسة الأوربية
عامة والإنكليزية خاصة في نبز نهضة المسلمين بالتعصب الديني - فهذا ما رأوه من
موقع الضعف في المسلمين والقوة لهم؛ لهذا جعلوا قول الشيخ عبد العزيز شاويش
- وهو على رأيهم دخيل في مسلمي مِصْرَ - برهانًا على أن في مصر تعصبًا
إسلاميًّا ، لا يلبث أن ينفجر بركانُه ، فيدفن القبط وسائر النصارى معهم تحت
مقذوفاته النارية.
وقد طلبوا من الحزب الوطني أن يتبرأ من هذا القول ، ففعل ، ومن العجب
أنهم لم يرضوا، ويقال: إنه قد تجددتْ لهم صلةٌ وديةٌ برئيس أساقفة الكنيسة
الإنكليزية، وإنه رغب إليهم في الرجوع إليه، والتعويل في رغائبهم عليه.
ولكن فاتهم على حذقهم أن السياسة (لا سِيَّمَا الإنكليزية منها) إذا قررت أمرًا
أنفذته لا محالة لا يصدها عنه مراعاة فئة صغيرة ولا كبيرة، ولا مسألة اختراعية
كمسألة التعصب الإسلامي، أو حقيقية كإزالة السلطة الشخصية وحماية الحرية
القومية، فنبشرهم بأن السياسة الجديدة التي بينها المنار في الجزء الماضي واقعة ما
لها من دافع. وأمر مجلس النواب في هذه البلاد صار موكولاً إلى إرادة أميرها
باختيار المحتلين ورضاهم أو كاد.
فإنْ نجحت الحركة القبطية فقصارى نجاحها أن تكون سببًا في تأخيره عامًا أو
أكثر وما ذلك بالربح الكثير في جنب ما يخسرون من مودة المسلمين بما اشتملت عليه
مقالاتهم من التّهكم بمجد الإسلام الأول ، والشماتة بزواله كالتعبير عنه (بالعظمة
البالية) ورمي المسلمين السابقين بظلمهم وظلم غيرهم، واللاحقين بالتعصب
عليهم وعلى أهل دينهم، وبمطالبة جميع كُبَراء المسلمين وكتابهم بأن يعتذروا لهم
عن مقال الشيخ عبد العزيز ، وإنْ كانوا هم البادئين بالعدوان ، وقد أصروا
عليه بجعل ذنب الشيخ عبد العزيز ذنبًا لجمهور المسلمين، وبالسعي في جمع
كلمة نصارى السوريين والروم والأرمن إليهم؛ لمقاومة المسلمين كما روي لنا،
ويؤيده ما يكتبون في الجرائد، وبترجمة الأقوال السيئة التي يكتبونها، ويكتبها
الآخرون باللغات الأوربية، لإيهام أوربا أن في البلاد تعصبًا ربما يفضي إلى ثورة
دينية.
أول خسارة خسروها بهذه المغاضبة هي اعتقاد المسلمين أن دعوة الوطنية
التي قاموا بها في هذه السنين قد كانت خسارًا عليهم، وربحًا للقبط وحدهم. فإن دعاة
هذه الوطنية من المسلمين كانوا يبغون بها أن يتحدوا بالقبط ، ويتعاونوا معهم على
مقاومة السلطة الأجنبية؛ ولذلك رضوا بأن يساووهم ويؤاخوهم مع العلم بأن
الحكومة في صفتها الرسمية إسلامية تابعة لخليفة المسلمين باتفاق الدول، بل غضوا
النظر في الغالب عن رجحانهم عليهم لهذا الغرض. فتبين لهم أن القبط لا يرضون
بهذا الاتحاد من كل وجه ، بل يستفيدون منه ويحولون دون استفادة المسلمين شيئًا
منهم، حتى نفي التعصب عنهم، ثم يبنون أعمالهم كلها على أنهم أُمّة ممتازة لا
عضو في جسم الأمة المصرية أو الشعب المصري - وأنهم لا يرضون بمقاومة
الأجنبي ولا يودون استقلال البلاد دونه - وأنهم إذا وجدوا فرصة لمواثبة المسلمين
واثبوهم من أضعف جانب فيهم ، كنبزهم بلقب التعصب ومعاداة النصارى في هذه
الأيام. فإذا كانت نتيجة دعوة المسلمين إلى الوطنية المصرية بلسان جرائدهم
وخطبائهم وأحزابهم وعد القبطي أخًا له، والمسلم غير المصري (دخيلاً) فيهم، أن
تقوم عليهم جرائد القبط وجمعياتها الدينية، وأنديتها القومية، ترميهم بالغلو في
التعصب والتواطؤ على إبادة النصارى ، فأي فائدة لهم في هذه الوطنية؟ بل أي
غائلة شر عليهم منها؟ .
أقول: إن في هذا خسارًا للقبط؛ لأنه ربما يغري المسلمين بمناظرتهم ،
والتشبه بهم في جمعياتهم الدينية ، وترجيحهم لأبناء مِلَّتِهِمْ في جميع الأعمال
والمصالح. وإذا دبّ في المسلمين الشعور بوجوب ترجيح المسلم على القبطي كما
تفعل القبط فإن ذلك يثمر حرمان ألوف من القبط من موارد الرزق السائغة في دوائر
المسلمين الخاصة، بل ربما يعوزهم معه - إذا تمادى وعظم - القيام باستغلال أرضهم
كما يستغلونها الآن بمساعدة المسلمين. دَعْ عَنْكَ مصالح الحكومة التي أكثر عمالها
من القبط ، ولولا تساهل المسلمين، وعدم عنايتهم بالمسابقة والمناظرة ، لَكَان الأمر
على غير ما هو عليه الآن.
وناهيك بالخسارة المعنوية التي هي عند أهل الآداب العالية شرّ من خسارة
المال ، وهي ما يخشى أن يكون من التقاطع والتدابر بين العُشَرَاء والخُلَطَاء
والجِيرَان والأصدقاء.
فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم
في الشكوى من المسلمين ، والقول بتعصبهم ولا من سرور بعض الإنكليز به - إنْ
كان ما قِيلَ من ذلك حقًّا - فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين فهو لا
يكون خلفًا صالحًا لمودّتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا ، ويعتذروا
عنه، ويعودوا إلى سابق شأنهم ، أو إلى خير منه إِنِ اسْتَطَاعوا، والمسلمون تغلب
عليهم سلامةُ القلب فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث
أبي هريرة عند أبي داود والترمذي: (المؤمن غِرٌّ كَرِيمٌ) أي: ليس بِذِي نكر ولا
مكر ولا خداع. ولولا أنني أحب الوفاق لَمَا نصحت لهم بهذا ، فإنني أعلمُ أنّ هذه
المشاقة لا تَزِيد المسلمين إلا قوةً في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا
لحقوقهم التي أَغَار عليها، ولكنني أفضل أن يكونَ تنبيههم لذلك بغير هذا،
أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا يتفرقوا ، وأن يكونوا مع ذلك على وفاق
ووئام مع من يعيش معهم.
وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرَّدِّ على القبط - ولو لم يكتبوا في
الماضي ما كتبوا لَكَان خيرًا لهم وأحسن إطفاءً لِتِلْكَ الفتنة وخذلانًا لموقظيها - ولكن
لا بأْسَ ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية ، وذكر الوقائع في تعصب بعضهم
لبعض، وتعاونهم المِلِّيّ المَحْض مِن باب بيان الحقيقة والاعتبار بها بشرط أن
يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب والتجريح فضلاً عن
الهجر والتقبيح.
ومما يحسن البحث فيه أيضًا بيان أن القبط لا يمتازون بحق رسمي على
غيرهم من النصارى المتجنسين بالجنسية المصرية من السوريين والأرمن والروم ،
ومن اليهود أيضًا، وإنما ميزهم المسلمون في مقالاتهم وخطبهم التي يجعلون فيها
المصريين عنصرين فقط ، ويعدون القبط إخوانهم دون غيرهم من الذين جعلوا
مصر وطنًا لهم ، ويعدهم القانون المصري مصريين؛ لولادتهم بمصر، أو لإقامتهم
فيها 15 سنةً أو أكثر، فالنسب القديم ليس شرطًا للوطنية ولا للجنسية عند أحد من
الأمم ولا في شيء من قوانينها. فإذا كان من الحق مطالبة القبطي بأن يكون مديرًا
كان من الحق أن يكون السوري الذي تجنس بالجنسية المصرية مديرًا ووزيرًا،
فالحق أنه لا فرق بين ابن أخنوخ أفندي فانوس، وابن يعقوب أفندي صروف،
فالوطنية الحقيقية هي المساواة بين جميع العناصر التي تقيم في البلاد وتحكم
بقوانينها. إلا أن يكون للطائفة الحاكمة بعض المزايا في القوانين العامة وطبيعة
الحكومة.
فمما يبحث فيه هنا طبيعة الحكومة المصرية ودينها الرسمي ، فإذا كانت لا
تزال حكومة إسلامية خلافًا لما يقول بعض القبط علم أن طلب هذه الطائفة مساواة
المسلمين في كل شيء في غير محله. وإذا كانت قد خرجت عن كونها إسلامية
وعن كون أميرها وكيلاً لخليفة المسلمين فيجب البحث في تعيينه للقضاة الشرعيين،
ولإدارته لأوقاف المسلمين، ولتعيينه للخطباء وأئمة المساجد ونحو ذلك من
المسائل الشرعية ، هل هي مع ذلك حقوق شرعية له أم هو لا يملكها الآن إلا
بالتغلب والقوة المستمدة من القبط وغيرهم دون ولاية الشرع؛ لأن البلاد خرجت
عن كونها دار إسلام؟ ؟ يهم المسلمين جدًّا أن يعرفوا ذلك؛ لأنه يترتب عليه أحكام
شرعية كثيرة منها ما هو ديني محض ، وما هو مدني شرعي.
تسمي القبط ما تطلبه الآن مساواة بالمسلمين وهو مساواة من وجه ، وامتياز
عليهم من وجه آخر. فإذا كانت حكومة مصر غير إسلامية ، وكان المسلمون فيها لا
يمتازون بشيء قط فلماذا تكون أمورهم المِلِّيَّة الخاصّة كالمحاكم الشرعية ،
والأوقاف والمدارس الدينية تحت سلطة الحكومة المشتركة ، وتكون أمور القبط
المِلِّيَّة وأوقافها في أيديها؟ أليس يكون هذا من امتياز القبط على المسلمين؟
يغلب على ظني أن زعماء الحركة القبطية إذا فكروا في الأمر من جميع
وجوهه فإنهم يفضلون السكون والسكوت على التمادي في هذا العدو والصياح إلا
أن يكون الركن الشديد الذي يأوون إليه قد ضمن لهم أن يكونوا هم الرابحين
بمشاقتهم للمسلمين ، وإثارتهم لسخطهم، وتعرضهم لمقاومتهم.
لولا أنني أظن صدق الخبر الذي أوردته في الجزء الذي قبل هذا عن السياسة
الإنكليزية الجديدة بمصر لَغَلب على ظني أن الركن الذي تأوي إليه القبط في هجتهم
هذه هي السر ألدن غورست نفسه والوزارة الإنكليزية من ورائه ، أما وأنا مصدق
لذلك الخبر فلا يبعد عندي أن يكون ركنهم بعض المحافظين من الإنكليز ورئيس
أساقفة كنيستهم (كنتربري) ، وإلا كانت القبط طائفةً حمقاء ، وما عهدتها إلا طائفة
كياسة وروية، وحزم وتدبر، وستزيل لنا الأيام بين الحقائق والأوهام.
فإذا فازت القبط في سعيها فامتنع الإنكليز عن السماح للأمير بإنشاء المجلس
النيابي ، وتقرر بالفعل أنه لا فرْقَ بينهم وبين المسلمين في الحكومة - وما ذلك
بمحال - فإنني أشهد للقبط بأنها أرقى طوائف الشرق الأدنى في السياسة والاجتماع ،
وجميع مقومات الحياة المِلِّيَّة لا أقرن بها تركيًّا ولا عربيًّا سوريًّا ، ولا غير سوري
ولا أرمنيًّا بل ولا يهوديًّا. ويتبع هذه الشهادة أنها تكون أحقّ في الواقع ونفس الأمر
بالحكم في البلاد، وتُعذر في التشوّف إلى الاستقلال، وتكون مصيبة في تسمية
نفسها (أمة) ، وحقيقة بأن تكون في المستقبل ذات دولة، ويقال: إنها تطمع في
ذلك ، فإن صحّ ما قيل كان برهانًا على عُلُوّ همّتها، وثقتها بنفسها في وحدتها.
وخلاصة القول أن طائفة القبط قامت تطلب مطالبَ لنفسها مِن حيثُ هي أمة
ومن حيث هي صاحبة الحق في حكم البلاد ، وظهر أنها فيه متكافلة متضامنة
متحدة ، فناقشها أفراد من المسلمين بصفتهم الشخصية لا باسم حزب من الأحزاب ،
ولا جمعية من الجمعيات ، ووافقها بعض آخر كما وافقتها الأحزاب ، وهي مع ذلك
تنسب مناقشة الفرد إلى الحزب أو إلى الأمة.
وقد استعمل بعض الكاتبين من الفريقين الهُجر والسباب، والتنابز بالألقاب،
فكانوا فيه سواءً، إلا ما هو من صناعة البلغاء، ولكن القبط تطلب أن يعتذر لها
الجميع عن الأفراد، وهي لا تعتذر للجميع عما تقول بلسان الجميع، فإذا قلنا: إن
الفريقين قد تعادلا في الإهانة فتساقطا، فليس لأحد حق في ذلك على آخر
بقي معنا أنه ليس في البلاد وطنية حقيقية، وأنه لا يزال يغلب على الفريقين نزعة
الرابطة الدينية (وإن تنصل من ذلك كل منهما) وأن هذه الحركة أضعفت ما قام
بعض الأحزاب والأفراد من الدعوة إلى المساواة والاتحاد، وأن القبط أعرق في
النزعة المِلِّيَّة، وأبعد عن حقيقة الوطنية؛ إذ من مقتضى الوطنية أن لا يطلبوا
لأنفسهم شيئًا مِن حيثُ هم قبط، وأن لا يسموا أنفسهم أُمّة، وأن لا يتعصبَ بعضُهم
لبعض في المصالح والأعمال، كما يعرف كل أحد منهم الآن، وأن يرضوا بما
تختاره الحكومة من التدريج في نقل البلاد من حال إلى حال، أو يكتفوا ببث
رغائبهم إلى وزيرهم الناصح لهم، الغَيُور عليهم، المتفاني في ترقيتهم، وهو لا يدع
فرصة يتمكن فيها من إعطائهم حقًّا جديدًا إلا وينتهزها انتهازًا، ويجعلها سيفًا في يده
لا عكّازًا.
وإذا كان الأمر كذلك في الوطنية، وفي هذه الحركة القبطية، فما هو تأثيره
في رَغِيبة المسلمين ، وهي المجلس النيابي، وفي رغيبة القبط ، وهي نيل ما بقي من
أعمال الحكومة بين الوزارة والقضاء، كالمديرية ومأمورية المركز؟ .
أمّا الأول ، فمِن الجَلِيّ الواضح أن ضعف الوطنية لا يقتضي أن تبقى
حكومة البلاد استبدادية؛ لأن حكومة الشورى أبعد من الحكومة الشخصية المطلقة
عن الظلم غالبًا؛ ولذلك فرح مسلمو روسيا بإنشاء مجلس النواب (الدوما) في
حكومتهم على قِلّتهم في جانب الروس المشهورين بالتعصب. على أنه إذا فرض أن
الحكومة الشخصية المطلقة خير للقبط من جهة التمتع بالوظائف فإن ذلك الحظّ
الذي يصيب أفرادًا مِن فِئَةٍ قليلة في الأمة الكبيرة لا يصلح مرجحًا لعدم ترقية
حكومتها؛ لأن ذلك ترجيح للأفراد القلائل على الجمهور الكبير، فهو من قبيل
ترجيح المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
وأما الثاني ، فإذا فرضنا أن حكومة مصر خرجت عن كونها إسلاميةً ، والبلاد
عن كونها دارَ إسلامٍ فمن السياسة والحكمة في الإدارة أن لا يكونَ القبطي الآن
مديرًا في مديرية فيها مِئات الألوف من المسلمين ، وليس فيها إلا آحاد الألوف أو
الْمِئِين من القبط ، وأن ينتظر في ذلك تكوُّن الوطنية الحقيقية التي تمتزج فيها
جميع العناصر المصرية، فلا ينزع أحد منها إلى الامتياز بجنسه ونسبه، ولا بدينه
ومذهبه، فإن استعجلنا فجعلنا القبط مديرين لأمور المسلمين، والحال على ما نعلم
منهما أو ما يدعي كل منهما - فإننا نكون قد أثرنا العدوان، وأرَّثنا الأضغان،
ووضعنا في طريق الوطنية سدًّا لا يدك ولا يظْهَر، وعقبة لا تزول ولا تقتحم، أو
قدمنا النتيجة على المقدمات، وطلبنا الثمرةَ قبل خروج الشجرة.
فالمعقول إذًا أن تكون حركة القبط الجديدة مبعدةً لهم عن مطلبهم الظاهر،
ولكن ربما لا تكون مبعدةً عن غرضهم الباطن، والله أعلمُ بالسرائر، وإنما نحن
نحكم بالظواهر، وهذا ما رآه الكاتب فيه من الصواب، فإنْ تبيَّنَ له أنه مُخطئ فيه
بادَرَ إلى المَتَاب، واسْتَغْفَرَ ربَّه ، وخَرَّ راكعًا وأَنَابَ.
_________
(1)
مما كتبوه من التحرش باللواء والحزب الوطني قبل مقالة الشيخ عبد العزيز التي جعلوها تُكَأَتَهم في إثبات ذلك الخطر المزعوم من تعصب المسلمين على النصارى ما جاء في العدد 3698 من جريدة مصر الصادر في 9 يونيو الماضي ، وهذا نصه:
اللواء والأقباط
(إننا بالنيابة عن جميع الأقباط في كافة أنحاء القطر نقابل ما جاء بصحيفة اللواء أمس من الوقاحة والسفاهة بالازدراء والاحتقار؛ فإنه إذا بلغ المرْء مبلغ اللواء من قلة الأدب والحياء نحو شعور أمة برمتها لم يجد من الناس من يصغى إلى قوله، أو يلتفت إلى وقاحته ، بل ينبذ نبذ النواة ، ويترك ينبح نبح الكلاب ، وليس من يسمع له قولاً)، ثم استشهدت جريدة مصر على أن القبط كلهم على هذا الرأي بالتلغرافات الكثيرة لما تكتبه وعبرت عنه بقولها:(في خدمة الوطنية والحق اللذين خلق (أي: اللواء) لهما عدوًّا ليخزى هو وأتباعه (أي: الحزب الوطني وسائر محبي اللواء) إذا كان من القوم المدركين) ولم يكن اللواء كتب شيئًا بلسان الحزب الوطني ولا بلسانه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
بحث (ما ومن) وتفسير سورة الكافرون 106
(س5) من محمد حسيب أفندي عامر وكيل تلغراف (بلبيس - شرقية) .
حضرة العلامة المفضال صاحب المنار
بعد السلام والتحية؛ نرجوكم إيضاحَ معنى لفظة (ما) ، وما تشير إليه في
قوله عز وجل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:
2-
3) ، فإني إنْ أعطيتها حكم غير العاقل كقاعدتها النَّحْوِيّة استحال ذلك على
المولى سبحانه وتعالى، وإن أعطيتها حكم العاقل فالأصنام وما كانوا يعبدون ليست
بذي عقل، أفيدوني مأجورين والسلام.
(ج) قالوا: إنّ لفظ (ما) هنا أُرِيد به الصفة، أي:(المعبود) وإذا أريد
بها الصفة تطلق على العاقل وغيره. وجوَّزَ بعضُهم أن يكونَ إطلاقُها على الله عز
وجل بعد إطلاقها على الأصنام من قبيل المشاكلة؛ لأجل التناسق في التعبير.
ولعل السائلَ يعلمُ أنه نقل عن سيبويه وغيره أن كون (ما) لما لا يعقل أغلبي
لا مطرد ، والشواهد عليه من التنزيل وكلام العرب معروفة، قال الزمخشري في
الكشاف: و (ما) عام في كل شيء ، فإذا علم فرق بما ومن وكفاك قول العلماء:
(من لما يعقل) اهـ أي: فأَطْلَقُوا (ما) على العاقل في نفس القاعدة التي ذكروا فيها
أنّ (مَن) خاصّة بالعاقل.
وفي حاشية الأمير على المغني بعد ذكر عبارة الكشاف: قال التفتازاني: أي يصحّ
إطلاقُ ما على ذي العقل وغيره عند الإبهام؛ لاستفهام أو غيره ، فإذا علم أن الشيء
من ذوي العلم والعقل فرق بمن وما ، فتختص (من) بالعاقل ، و (ما) بغيره. وبهذا
الاعتبار يقال: إن (ما) لغير العقلاء. واستدل على إطلاق (ما) على ذوي العقول
بإطباق أهل العربية على قولهم: (مَن لِمَا يَعقل) مِن غير تجوّز في ذلك حتّى لو قِيل: (لمن يعقل) . كان لغوًا بمنزلة أن يقال: الذي عقل عاقل. فإن قِيل: كان الواجب هنا أن يفرق بما ومن؛ لأن ما يعقل معلوم أنه من ذوي العلم. قلنا: نعم ، لكن بعد اعتبار الصلة ، أعني (يعقل) . وأما الموصول نفسه فيجب أن يعتبر مبهمًا مرادًا به شيء ما ليصح في موقع التفسير بالنسبة إلى من لا يعلم مدلول
(من) وليقع وصفه بـ (يعقل) مفيدًا غير لغو.
ومحصله أنك إنْ لاحظْتَ العاقل مِن حيثُ إنه عاقل استعملت فيه: (من)
وإن لاحظته مِن حيثُ إنه شيءٌ ما استعملت فيه (ما) كما تقول: ما الإنسان؟ .
اهـ وأنت تعلم أن (ما) في السورة ليست لبيان أن مدلولها عاقل أو عالم ، بل لبيان
أنه شيء معبود ، فاستعمل فيه اللفظ العام الذي تفسره الصلة.
هذا ، وإنني رأيتُ بعض الناس لا يفهمون معنى السورة ، وقد سألني غير
واحد بالمشافهة عن معنى ما فيها من صورة التكرار ، فأحببت أن أورد هنا ما كتبه
الأستاذ الإمام في تفسيرها تتمة للفائدة ، وهو:
الكافر هو المعاند الجاحد الذي إذا رأى ضياء الحق أغمض عينيه، وإذا سمع
الحرف من كلمته سَدَّ أذنيه، ذلك الذي لا يبحث في دليل بعد عرضه عليه، ولا
يذعن للحجة إذا اخترقت فؤاده، بل يدفع جميعَ ذلك حُبًّا فيما وجد نفسَه فيه مع
الكثير ممن حوله، واستند في التمسك به إلى تقليد من سلفه، فهذا الصِّنْف هو الذي
قال الله فيه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 22-23) .
بعض هذا الصنف بل الغالب من أفراده يقول للداعي إلى الحق أو يحدث نفسه
ليلهيها عن فهمه: إلامَ يدعونا؟ أإلى الله ، فَنَحْن نعتقد به؟ أإلى توحيده فنحن نوحده؟
وغاية ما في الأمر نتخذ شُفَعَاءَ إليه، نسأله بحقهم عنده أو بمكانتهم لديه، أإلى
عبادته فنحن نركع ونسجد له؟ وغاية ما عندنا زيادة على ذلك أننا نعظم أولياءَه ،
وأهل الشفاعة عنده، ونتوسل إليهم ليتوسلوا إليه.
هذه وساوسهم ، وهذه أَمَانِيُّهُمْ فأراد الله سبحانه أن يقطع العلاقة بينهم وبين ما
عليه الداعي إلى الحق صلى الله عليه وسلم بأصرح ما يمكن أن يصرّح به ، فقال له:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 1-2) أي: إنّ الإله الذي
تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده؛ لأنكم إنما تعبدون ذلك الذي يتخذ
الشفعاء أو الولد أو الذي يظهر في شخص أو يتجلى في صورة معينة أو نحو ذلك مما
تزعمون ، وإنما أعبد إلهًا منزهًا عن جميع ما تصفون به إلهكم {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ} (الكافرون: 3) أي: إنكم لستم بعابدين إلهي الذي أدعو إليه كما تزعمون،
فإنكم زعمتم أن الذي تعبدونه يتقرب إليه بتعظيم الوسائط لديه، فتوسلتم بها إليه،
وتعتقدون أنه يقبل توسطها عنده، فهذا الذي تعبدونه ليس الذي أعبد فلهذا لا
تعبدون ما أعبد ، بل تعصونه وتخالفون أمره، ثم لما كانوا يظنون أن عبادتهم التي
يؤدونها أمام شفعائهم، أو في المعابد التي أقاموها لهم وبأسمائهم، أو يؤدونها لله في
المعابد الخاصة به أو في خلواتهم، وهم على اعتقادهم بالشفعاء - عبادة لله خالصة،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم في شيء نفى أن تكون عبادته
مماثلةً لعبادتهم ، وأن تكون عبادتهم مماثلةً لعبادته ، فقال:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} (الكافرون: 4) فـ (ما) هذه مصدرية وليست بالموصولة ، مثل التي تقدمت
أي: ولا أنا بعابد عبادتكم {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: 5) أي: ولا
أنتم عابدون عبادتي.
فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود ، ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة ، فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزّه عن النّدّ والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، أو المحاباة لشعب أو واحد بعينه، الباسط فضله لكل من أخلص له، الآخذ قهره
بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه، والذي تعبدونه على خلاف ذلك.
وعبادتي مخلَصة لله وحدَه، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله
تعالى ، فلا تُسمى على الحقيقة عبادة فأين هي من عبادتي {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) دينكم مختص بكم لا يتعداكم إليَّ ، فلا تظنوا أني عليه أو على شيء
منه {وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6)[*] أي: ديني هو دين خاصّ بي، وهو
الذي أدعو إليه، ولا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه، ولا يخفى أن هذا المعنى الذي
بيناه هو ما يهدي إليه أسلوب السورة الشريفة خصوصًا هذه الآية الأخيرة {لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6)، فإنها صريحة في أن المراد: نفي الخلط المزعوم.
وما دلت عليه السورة هو ما دلت عليه آية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) أي: لا علاقة بينك وبينهم لا في المعبود ولا في
العبادة. وأما ما قيل من غير ذلك فإن صحّ شيء مما وردَ فيه ، فاحمله على معناه
مستقلاًّ عن معنى السورة ، ولا تَغْتَرَ بكل ما يُقال ، فأفضل ما تفهم هو أقرب ما
يفهم والله أعلم. اهـ
_________
(*) لفظ (دين) مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة لأجل الوقف.
الكاتب: محمد رشيد رضا
النقوط
(س6) ومنه:
حضرة العلامة المفضال صاحب المنار الغراء.
بعد السلام والتحية - أرشدونا أرشدكم الله: (هل ما يسمى (النقوط)
المتعارف والمستعمل بين أفراد الأمة المصرية في الأفراح وما شابهها، سواء كان
ذلك بالنقدية أو ما يقوم مقامها - محلل أم محرم وما الدليل؟ أفيدونا مأجورين)
(ج) كل ما يبذل من المال بالرضا والاختيار تبرعًا فلا حَرَجَ على باذله ، ولا
على المبذول له إلا أن يقصد به الإعانة على عمل محرم كالفسق والفساد في الأرض،
والنقوط لا يقصد به شيء من المحرمات فيما نعلم ، وإنما هو إكرام من قبيل الهدية
والأصل في جميع التصرفات المالية الإباحة ، فالقول بها لا يحتاج إلى الدليل ، وإنما
يستدل على المحرم؛ لأن التحريم خلاف الأصل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حديث من زار قبر والديه يوم الجمعة
(س7) من الشيخ أحمد شرف الدين بالأزهر:
حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا المحترم.
سلامٌ على حضرتكم ورحمة الله. أما بعد.
فقد جمعني وجماعة من أكابر علماء الأزهر الشريف مجلس، فسمعت منهم
حديثًا لم أسمَعْهُ مِن قَبْلُ ، وحيثُ لم أَرَ عليه بلاغة سيد العرب والعجم صلى الله
عليه وسلم ولحضرتكم سَعَة اطلاع على السّنّة الصحيحة أردْتُ عرْضَه على مسامع
سيادتكم حتى إذا كان صحيحًا أيَّدْتُمُوه ونشرتم ذلك بمناركم المضيء ، وإن كان
ضعيفًا أو غير حديث أَوْضَحْتُمْ سَبِيلَه ولكم الفضل ، والحديث هو: قال صلى الله
عليه وسلم: (مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا حَجَّ، ومَنْ زَارَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ أَتَى
بِعُمْرَة) وإذا صَحَّ هذا فلا لَوْمَ إذًا على مزاحمة النساء للرجال في زيارة القبور؛
لأن كلاًّ يريد أن يحج.
(ج) الحديث ظاهِرُ الوَضْعِ ، ولم أَرَ مَن خَرَّجَهُ بِهَذَا اللفظِ ، وقد عَلِمْت أنّ
مِن علامات الحديث الموضوع بناء الثواب الكبير على العمل القليل. وقال في
الفوائد المجموعة: حديث (مَن زار قبْر والديه أو أحدهما يومَ الجمعة غُفِرَ له)
في إسنادِهِ وَضَّاعٌ ، وله شاهِدٌ في إسنادِه ضَعْفٌ. ورُوِيَ: (مَن زار قبر أبيه أو أُمّه
أو عَمّته أو خالته أو أحَد أقاربه كُتِبَ له حجّة مبرورة) ولا أَصْلَ له. اهـ
ولعله يَعْنِي بحديث الشاهد: (مَن زار قبر والديه أو أحدهما في كل يوم
جمعة غُفِرَ له وكُتِبَ بَرًّا) لِمَا فيه من الزيارة. عزاه في الجامع الصغير إلى الحكيم
الترمذي ، عن أبي هريرة وَعلَّمَ عليه بالضعف ، وفي إسناده محمد بن النعمان
مجهول ، وشيخه يحيى بن العلاء الرازي البجلي متروك ، بل قال الإمام أحمد: إنه
كان يَضَعُ الحديثَ؛ فهو موضوعٌ لا ضعيفٌ، ولا شَكَّ عندي في أنّ كل ما رُوِيَ
في هذا المعنى موضوع ، اختلقه المختلقون بعد اعتياد الناس زيارةَ قبور الأقربين
في أيام الجُمَعِ ، ولم يكن ذلك من سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه
في شيء.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
زيارة الحرم النبوي
واستئذان ملك الموت على النبي
صلى الله عليه وسلم
(س8 و9) من محمد أفندي حلمي الكاتب الأول لمركز المسلمية (السودان)
حضرة سيدي الحسيب النسيب الفاضل الأفخم العلامة الكامل السيد محمد رشيد
رضا حفظه الله. عليكم منا السلام والرحمة والبركة والإكرام وبعدُ.
فأرجو من فضلكم وكرم أخلاقكم المشهورة الإجابة على السؤالين الآتيين،
وأرجو إن كان سبق لسيادتكم التكلُّم عنهما في مجلدات غابرة أن تجيبوني عليهما ،
وأكون ممنونًا جِدًّا لو تفضلتم وتكرمتم بدرجهما في أول عدد؛ لأهمية لزومهما عند
الجمهور خصوصًا في هذه الأصقاع ، ولا خلاف بأن فضيلتكم أصبحتم مشهورين
بالعلم والفضل في جو علوم العربية ، بل صرتم لنا من أركان الإسلام ، والله على
ما أقول وكيل وهو حسبي ونعم الوكيل.
س (1) هل زيارة الحَرَم المدني سُنّة؟ وهل كل أحد مُكَلّف بزيارته بعد
الحَرَم المَكي؟
س (2) هل ملك الموت قد استأذن سيدنا محمدًا في قبض روحه الشريفة؟
وكيف كان ذلك؟ وهل صحّ أنه لم يسبق له أن استأذن على أحد قبله كما يزعمون
أو يذيعون؟
هذه هي أسئلتي يا سيدي ، وقد أقنعت المجادلين لي في السؤال الأول نقلاً عن
إغاثة اللهفان للإمام الحجة ابن القيم فلم يقنعوا، وأما السؤال الثاني ، فلم أتكلم عنه
بشيء لعدم معرفتي حقيقتَهُ ، ولم أعثر في الكتاب المذكور على شيء بخصوصه ،
وجميع المجادلين لي أَبَوْا أنْ يقتنعوا حتى ينظروا جوابَكم بالمنار؛ لاعتقادهم فيه
وهم من الأهالي والمستخدمين. ومن المستخدمين مشتركون في مجلتكم الزاهرة
ولكن كَلّفوني أن أكتب أنا، وعلى أي حال فإننا ممنونون ، وتَجِدُنا منتظرين بفارغ
الصبر أفندم.
زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
أما الجواب عن الأول ، فهو أن زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
مندوبٌ إليه لا مفروضٌ على المسلمين كالحج كما يتوهم العوامُّ. وحَسْبُك في
الترغيب فيه قولُه صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَاّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) رواه أحمد والبخاري ومسلم ، وغيرهم من
حديث أبي هريرة. وأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر وغيره،
وقوله: (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَاّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي هَذَا ،
وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي
هريرة وأبي سعيد الخدري. ورواه غيرهم عنهما وعن غيرهما.
استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الجواب عن الثاني ، فهو أنّ الحديث في ذلك لا يَصِحُّ، ولا عبرة بسكوت
بعض أهل السِّيَرِ عليه ، ولا بذكره في بعض الخُطَب التي قَلَّمَا تحرى أصحابها
الصحاح من السنن والآثار ، بل أولع أكثرهم بالواهيات والموضوعات.
روى حديث استئذان مَلَك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وتخييره
بقبض رُوحِه الشريفة الطبراني في المعجم الكبير عن جابر وابن عباس في حديث
طويل قال المحدثون: إنه مُنْكَرٌ ، في إسناده عبد المنعم بن إدريس اليماني القصاص
عن أبيه ، عن وَهْب بن مُنَبِّهٍ. قال الإمام أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه.
وأبوه إدريس متروك أيضًا ، قاله الدارقطني. ورواه أيضًا من حديث الحسين بن
علي، وهو مُنْكَر أيضًا في سنده عبد الله بن ميمون القداح. قال البخاري: ذَاهِب
الحديث. وقال أبو حاتم: متروك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرد على كتاب لورد كرومر
(3)
صاحب الحق لا يسكت عنه وإن طال عليه الأمد، وإننا سننشر في المنار
بعض ما نكتبه في دفع هجمات اللورد فيما كتبه عن الإسلام ونودع جميع ما نكتبه
في مصنف خاص ونعتمد في أقواله على ترجمة المؤيد (مع تنقيح ما في العبارة)
فنبدأ بعبارته، ثم نقسم القول، ونرد على كل قسم منه بالتفصيل.
القسم الثاني
(كلامه في الإسلام والمسلمين)
قال اللورد في سياق الكلام في المقابلة بين الإنكليزي والمصري ما ترجمته:
قلت فيما تقدم: إن التقاليد الدينية هي من جملة الموانع الكائنة بين الإنكليزي
والمصري، فإن الإنكليزي على كونه أحد أفراد العائلة الأوربية من جهة التمدّن
العمومي. يحاول أكثر من كل أوربي آخر أن يصل إلى أسمى درجات الرقي من
التمدن المسيحي ، أي: إنه يحاول أن يدخل نظام آداب مسيحي صريح (في المعاملة)
ويجعله قاعدة للعلاقات بين الرجل والآخر. يحمله على ذلك تلك المبادئ القديمة
التي جاءته من أسلافه، والدم البيوريتاني الذي لا يزال يجري في عروقه.
ومن الجهة الأخرى نرى المصري متمسكًا كثيرًا بدين الإسلام ، وهو التوحيد
الشريف الذي ينوب فيه الإيمان إلى درجة قصوى عن الوطنية في البلدان الشرقية،
وهو وسيلة للاتحاد العام بين جميع المسلمين من دلهي إلى فارس ، ومن الآستانة
إلى زنجبار؛ إذ يتحولون للصلاة نحو منبع دينهم وهو قبلتهم.
فما هي القواعد الأساسية لهذا الدين الذي أثر تأثيرًا عظيمًا في الجنس البشري؟
إنها مبينة في القرآن الشريف ، وقد شرحها العلماء من جميع الأمم بلغات كثيرة ،
ولكن عظمتها الأصلية وسهولتها لم يبينا بأكثر بلاغة مما بينها به أتباع النبي الأولين
الذين انطرحوا عند قدمي ملك الحبشة المسيحي يطلبون حمايته له من اعتداء
عرب قريش؛ إذ قالوا: أيها الملك ، كنا قومًا أهلَ جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل
الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويُّ منا
الضعيفَ ، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً كما بعث الرسل إلى مَن قَبْلَنا ،
وذلك الرسول منا نعرف نسبَه ، وصِدْقَه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله تعالى
لِنعبدَه ونوحدَه ونخلعَ (أي: نترك) ما كان يعبدُ آباؤنا مِن دونِه مِن الأحجار
والأوثان ، وأمرنا أن نعبدَ اللهَ وحدَه، أمَرَنَا بالصلاة والزكاة والصيام، وأمرنا بصدق
الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الأرحام ، وحسن الجوار ، والكَفّ عن المحارم
والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقَذْف المحصنة،
فصدَّقْناه ، وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به.
هذه هي قواعد الدين الإسلامي، إن العمل بهذه القواعد قد أفاد مِئات الملايين
من الذين اعتنقوا الإسلام - وخصوصًا الفقراء بينهم - عزاء روحيًّا فضلاً عن النعم
المادية من خيرات هذا العالم وأمل الخلود في العالم الآتي، ولا ريْبَ أن الهيئة
الاجتماعية الأصلية تستفيد كثيرًا من اعتناق الدين الإسلامي، وقد قال السير جون
سيلي عما عرفه بقوله: (قوة الدين التي تنشئ الممالك) ما يأتي:
(أينما وجدت قبيلة بربرية قد رفعت نفسها يومًا ما حتى ارتقت عن حالها
الهمجية ، ونالت بعض التقدم تجد أنها فعلت ذلك عادة بواسطة اعتناقها الدين
الإسلامي) . اهـ
ولسوء الحظ نرى أن المصلح العربي العظيم الذي قام في القرن السابع (يريد
به محمدًا صلى الله عليه وسلم قد اضطرته دواعي مركزه يومئذ إلى القيام بأكثر
من تأسيس دين، إنه حاول أن يوجد نظامًا اجتماعيًّا، فكانت النتائج لهذا النظام هي
التي وصفها المستر ستانلي لاين بول - وهو الرجل الذي راقب مراقبةً دقيقةً ما في
الإسلام من وجوه القوة والضعف - إذ قال: (إن الإسلام عظيم من حيث كونه دينًا،
وقد علم الناس أن يعبدوا إلهًا واحدًا عبادة طاهرة، وقد كانوا مِن قبلُ يعبدون آلهةً
كثيرةً عبادةً غيرَ طاهرة، ولكن الإسلام أخفق إخفاقًا كاملاً بصفته نظامًا اجتماعيًّا) .
قال لورد كرومر: إنّ الأسباب التي أوجبتْ فشلَ الإسلام من حيثُ هو نظامٌ
اجتماعي متعددة.
(أولها) وأعظمها مكانةً أن الإسلام يجعل المرأةَ في مركز منحطّ جِدًّا.
(ثانيها) أن الإسلام بمراعاته التقاليد المحيطة بالقرآن أكثر من القرآن نفسه
جمع بين الدين والشرع، فجعلهما جزءًا واحدًا غيرَ قابِل للتفريق أو التغيير ، فنتج
عن ذلك أن تلاشى من النظام الاجتماعي ما فيه من المرونة. فإن المصري حتّى
الآن إذا لجأ إلى الشرع في أمور الوصاية فإن قضيته يحكم بها بمقتضى المبادئ
الضيقة ، التي وضعت لما يوافق أحوال الهيئة الاجتماعية الأولى في شبه جزيرة
العرب في القرن السابع.
ومنذ سنوات قليلة أي: سنة 1890 أوضح مُفتي الديار المصرية الأكبر كيف
تعاقب عصابات اللصوص التي يثبت ارتكابها لجريمة الاعتداء بالسلاح ليلاً على
إحدى القرى ، فقال: إنه يمكن أن يعاقب المجرم على سِتّة وُجُوهٍ مختلفة: فإما أن
تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، ثم يقطع رأسه ، أو يشوه جسمه كما تقدم ، ثم
يصلب بعد ذلك ، أو أن يقطع رأسه فقط ، أو أن يصلب فقط ، أو أن يقطع رأسه
أولاً ثم يصلب بَعْدئذ. وأفاض المفتي في تقريره عن كيفية صَلْب المجرم ، وهو أن
يربط الرجل إلى صليب في شكل معين ، ثم يوخز بِحَرْبَة في الجانب الأيسر ،
وتبقى الحَرْبَة وهي تحز في محل الجرح إلى أن يموت.
ثم إن بعض المسلمين قد عمدوا بنية حسنة إلى تشويه الشرع المقدس؛ إذ
أقلقوا خواطرهم في اختراع وسائل يريدون فيها أن يبينوا أن مبادئ القرن السابع
الشرعية ، ونظامه الاجتماعي يمكن تطبيقها على مجرّبات القرن العشرين المدنية ،
ولكن العادة المبنية على القانون الديني مؤيدة بالمغالاة في إكرام الشارع الأصلي قد
قيدت جميع المتعلقين بالإسلام بقيد من حديد لا سبيلَ إلى النجاة منه. ولقد قيل:
(إن الإنسان عاش في القرون الوسطى ملفوفًا بِقَلَنْسُوَةِ الكاهن) فالمسلم الصحيح في
الأيام الحاضرة ملتف بالشرع أكثر من الْتِفَاف الناس بِالقَلَنْسُوَةِ في القرون الوسطى.
(ثالثها) أن الإسلام لا يشجّع على الرِّقِّ ، ولكنه يتساهل في الاسترقاق، فقد
قال السيد (أمير علي) : (إن محمدًا وجد تلك العادة سارية بين الوثنيين من العرب ،
فخفض من هذا الشر) ولكنه عجز عن إلغائِهِ تمامًا ، أما أتباعه فقد تناسَوْا عدم
تشجيعه ، وأجمعوا على إباحة الرق ، وجعله عنوانًا لسلوكهم.
ويليق بنا أن نقول في هذا المقام: إن من الأمور التي تُوجب الخجل على
المسيحي أنه لم يَكْتَفِ قَبْل الآن بأن يستعبد العبيد بَلِ ارتكب أقبح من ذلك ،
فكان يتخطفهم، على أن الديانة المسيحية لم توافق مطلقًا على الرق.
وقد اشتهر أخيرًا أن الإسلام دين خالٍ من التسامح ، وهي شهرة صحيحة من
بعض الوُجُوه ، ولكن لا بُدَّ من تحديد وإيضاح لهذه التُّهْمَة العامّة. نعم ، إن أتباع
النبي شهروا الحرب على الذين اعتبروهم مِن الكافرين ، وقد علمهم دينهم أنه يجوز
استرقاق غير المؤمن مَتَى أخذوه أسيرًا في الحرب ، وزِدْ على ذلك أنّ الخصام
الطائفي كان كثيرًا ، فقام السُّنِّيُّونَ في وَجْه الشيعيين ، واضطهد السنيون الوهابيين
بدون شفقة - على أن الخروج عن الإسلام يعاقب عليه بالموت ، وقد كان هذا
العقاب ينفذ فعلاً منذ سنوات غير كثيرة. ونَرَى مِن الجِهَة الأُخْرى أن تواريخ
الإسلام لم يشوهها شيء من مثل تاريخ ديوان التفتيش ، وزِدْ على ذلك أيضًا أن
المسلم إذا لم تؤثر في نفسه طوارئ خاصة مثيرة لعواطفه فهو لا يتأخر عن أن
يعامل اليهودي والمسيحي بتساهل يَشُوبُهُ شيء من الاحتقار. ففي قُرَى الصعيد لبث
الهلال والصليب والجامع والكنيسة جَنْبًا إلى جَنْب سنوات كثيرة.
ومع ذلك نرى الإسلامَ يميل إلى بَثّ رُوح عدم التساهل ، وإنماء الحقد
والاحتقار لا للمشركين فقط ، بل يشرك معهم جميع المؤمنين الذين لا يقولون: إن
محمدًا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أخذ يصنف الإسلام؛ فقال: إن المسلم منذ قرونٍ كثيرة ما برح يؤمر أن
ينتقم لنفسه مِن أعدائه ، وأن يضرب من يضربه عينًا بعين ، وسِنًّا بِسِنّ ، وعليه
تجد أن الإسلام يختلف عن النصرانية في أنه يغرس في العقول أن الانتقام والكره
يجب أن يكونا أساسًا للعلاقات بين الرجل والآخر بدلاً من المحبة والإحسان.
ثم إن الإسلام يحدث بغضًا خاصًّا للذين لا يقبلون الدين الإسلامي. يقول
القرآن: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ
فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ
وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد
: 4) {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد
: 12) .
وقد علق اللورد على الآيات في ذيل الصحيفة قوله: ومن الجهة الأخرى تجد
في سورة البقرة قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) ، فالأقوال
المتناقضة الكثيرة وغير المتلائمة الموجودة في القرآن لا يمكن التوفيق بينها ، ولعلّ
السببَ في ذلك هو أن تعاليم محمد كانت مبنيةً في الأكثر على الحوادث الجارية ،
وعلى أحوال شخصية في حياته.
نعم ، إن محمدًا إنما أشار في طعنه على الكافرين بوجه خاصٍّ إلى الوثنيين
الذين أقاموا في زمنه في شبه جزيرة العرب ، ولكن الذين فسروا القرآن بعد ذلك
جعلوا تلك المطاعن موجهة إلى المسيحيين واليهود ، وهذا الذي يفهمه الآن جمٌّ غَفِير
من المسلمين. أليست كلمة الغازي - وهي أسمى لقب يطمع بإحرازه أي ضابط في
جيش السلطان - معناها: مَن يحارب في سبيل الإسلام ، والبطل الشجاع الذي يذبح
كافراً؟ ألا نجد أن كل عالم ألقى الخُطْبَة في الجامع يستنزل غضب الله على رءوس
غير المؤمنين بصراحة واضحة في كل زمان ، وبصراحة تزداد كثيرًا عند وجود
ظروف تضرم شعلة التعصب؟ ألا يجب أن تعتبر كل بلاد غير إسلامية (دار
حرب) ؟ فَمَتَى علمنا أن مثل هذه المبادئ ما برحت تغرس في أذهان المسلمين كل
القرون الماضية لا نجد باعثًا على الدهشة من نمو رُوح عدم التساهل فيهم.
ثم قال بعد الامتنان على المصريين بإعطاء الإنكليزي لهم ما لا طيانهم وترقيته
لعقولهم وآدابهم:
ومع ذلك فإن المسلم المصري - مع أنه يكره الباشا التركيَّ ، ويخافه إلى حد
أنه يدرك الفوائد التي أجزلها له الإنكليزي ويعترف بسموّ مداركه وكفاءته - فهو
على كل ذلك لا يقدر أن ينسى أن الإنكليزي يلبس على رأسه برنيطة وهو يلبس
طربوشًا أو عمامة. ومع أنه يقبل المنافع بمزيد الارتياح ، فهو يذكر دائمًا أن اليد
التي منحتها ليست يد مسلم ، وهذا الأمْر يؤثر في نفسه أكثر من كون الإنكليزي
أجنبيًّا عنه. مهما بذل الإنكليزي مِن وسائط التودد والعقل فهو عاجز عن هدم هذا
الحاجز الحصين - وهنا نقل اللورد قول المستر بانري: الإسلام هو كل شيء
للفلاح ، وهو يعتبر غير المؤمنين فئة قليلة حقيرة، ولا يمنعه عن الفتك بهم وإعلان
ميزة الإسلام إلا حقيقة مكدرة له هي أنه ليس في الإمكان الفتك بهم الآن.
وليس هذا وحده الحائل بين الفريقين، فانظر إلى البدع الرئيسية ، وحوادث
العبادة الإلهية المقارنة للإسلام وما يعارضها في النصرانية. وابحث في النتائج التي
تلي تحقير المرأة، وقابل بين الشرقي الأسمر والغربي الأبيض في القُوَى العقلية
والأدبية والعادات والفنون ، وعلم البِنَاء واللغة ، والملبس والأذواق، تجد أن الفرق
بين الفريقين أبعد مما بين الخافقين. حتى إنك لَتَجِد في أقلّ الأمور شأنًا في أعمال
الحياة باعثًا غير محسوس ، ولا يعرف سببه من شأنه أن يدفع الشرقي إلى جهة
مشاقته للغربي مع اتفاق أحوال الفريقين. فالمسيحي يتعلق بأهداب أمل أن يلقى في
السماء أولئك الذين رافقهم في الأرض ، وهذا الأمل من جمل مظاهر دينه وأكثرها
عزاءً له ، وأما اعتقاد المسلم بالخلود فيختلف اختلافًا تامًّا عن اعتقاد المسيحي؛ لأن
الحُوريات اللواتي يرجو المسلم نيلهن في الجنة لم يسبق لهن وجود في هذا العالم.
والمسيحي يصلي طالبًا الحصول على بعض أمور، أو أن يتمكن من إتمام أغراض
معينة ، وأما المسلم فهو على العموم يلفظ صلاة مرتبة معينة ، ويندر أن يطلب في
صلواته طلبًا معينًا.
المسيحي يصلي صلاته اليومية في الخَفَاء ، وأما المسلم فإنه يصلي جهارًا بين
الناس ، وليس لديه شيء من الخَجَل الكاذب دون اعترافه جهارًا أنه معتمد على الله
في جميع أعماله وأموره. قال المطْرَان ستانلي بعد أن دَرَسَ الأديان الشرقية: إن
الله موجود عند المسلمين وُجُودًا يندر مثله عندنا في وسط العجلة الغربية وما يَشُوبُها
من الارتباك.
ومتى صام المسيحي فهو يعمل باعتدال نهارًا وينام ليلاً ، وأما المسلم فهو في
صيامه ينقطع عن الأكل والشرب والتدخين ، ولكنه إذا جاء الليل تمتع بكل ذلك
بدون ضابط.
ثم إن الديانة المسيحية تنشط الفنون وتستفيد منها ، وأما الديانة الإسلامية فإنها
تكسر الصور والتماثيل ، وهي تحرم الصور وصناعة النقش والنحت إذا كانت تمثل
شخصًا حيًّا ، وأما الموسيقى فلا يُسْمَعُ لها صوتٌ في جامع.
قد يكون المسيحي نظيفًا بعض الأحيان اعتقادًا منه أن النظافة نافعة لصحته
وراحته ، وعنده أن النظافة تلي التقوى ، ولكنه لا يوجد جامعة بين الأمرين ، وأما
المسلم فهو نظيف على شكل معين؛ لأن دينه يأمره بذلك.
ثم انظر الآن إلى صفات الفريقين العقلية والأدبية تجد الفَرْق بينهما ظاهرًا.
ثم بَيَّنَ فروقًا أخرى بين المصري والأوربي ، والغربي والشرقي تحتمل
المناقشة ، ولكنه لم يستنبطها من الدين فنتركها له إلا قوله في إنصاف الإسلام:
وعلى ذكر الشرقي وصفاته ورِقَّة قلبه أقول: إن ما يزعج السائح في مصر
من معاملة الحيوانات بقساوة لا يزيد على ما يرونه في جنوبي أوربا، ولعلها كما قال
(لاين) في سنة 1835: ليست غرسًا منتظم النمو ، ولكنها ناشئة عن معاشرة
الطبقات السافلة من الأوربيين ، فإن الدين الإسلامي يوصي بالحيوان خيرًا؛ فقد قال
بوسرت سميت: لا يوجد دين اهتم بحياة الحيوان أعظم من اهتمام الدين الإسلامي
به؛ فقد وَرَدَ في القرآن: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ
أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام: 38) .
وكما أنصف في هذه جار وظلم في أخرى بعدها لكن عن سوء فهم لا سوء قصد
فقد ذكر قدرة الأوربي على التنظيم وإخضاع الحوادث ومناقشة الرؤساء ، ثم قال:
فقابل هذه المزايا بما في الشرق من الضعف في التنظيم واعتقاده بالقضاء والقدر
الذي يجعله قابلاً لما لا بُدَّ منه، وكذلك خضوعه لكل سلطة تتولى أموره.
ثم استشهد على ذلك بمثل حادثة (مفتحجي) سكة الحديد التي ذكرناها في أول
القسم الأول من الرّدّ عليه. وذكر أيضًا أنه سأل شيخ الأزهر: هل يُعلمون الطلبة
فيه أن الشمس تدور حول الأرض ، أم العكس؟ فأجاب بأنه لا يدري. قال اللورد:
وقد منعه أدبه الطبيعي عن التصريح لي برأيه في الكافرين كيلر وكوبرنكوس
وتعاليمهما ، إلخ.
(للكلام بقية)
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
القرآن والعلم
(3)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز [1]
(المسألة الثامنة)
(موت سليمان)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَاّ دَابَّةُ الأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ
المُهِينِ} (سبأ: 14) اعلم أنه كثيرًا ما يحدث أن الإنسان إذا لَحِقَه الموت فجأة
عقب انفعال عصبيّ ومجهود جسمانيّ يحصل له تيبس في الحال في جميع أجزاء
جسمه بحيث يحفظ بعد وفاته هيئته وشكل جسمه قبل الممات، ويبقى على هذه
الحالة من بضع ساعات إلى يومين فأكثر، وخصوصًا إذا كان الجو باردًا ، وتسمى
هذه الحالة في كتب الطب باللغة الإنكليزية Spasm Cadaveric أي:
تيبس الموت.
ولذا يشاهد في بعض الحروب أن بعض العساكر يموت ويبقى واقفًا مستندًا
على بندقيته كأنه حي إلى أن يبتدأ التعفن في الجثة ، فتزول يبوستها وتسقط.
فالظاهر أن سليمان عليه السلام كان واقفًا بعد مجهود جسماني عقلي مستندًا
على عصاه {مِنسَأَتَهُ} (سبأ: 14) ففاجأه الموت، فحصل له ما يحصل لغيره ،
وبقي قائمًا كأنه لم يَمُتْ فشاهدت الجن أنه لا يبدي حراكًا، ولا يظهر عليه أنه يتنفس
لعدم تحرك صدره؛ فداخلهم شك في حالته ، وربما اجتمع على وجهه الذباب فلم
يطرده عنه ، فازداد شكهم ، ثم دخلت فأرة (وهي من دواب الأرض) وأخذت
تلعب حوله ، وأخيرًا بدأَتْ تقرض عصاه والجنُّ إلى ذلك ينظرون فيتعجبون ،
ولكنهم خافوا أن يتركوا أعمالهم المكلفين بها ، أو أن يظهروا شكهم في حياته، ولبثوا
على هذه الحالة مترددين بِضْعَ ساعات أو يومًا أو يومين.
فلما حركت الفأرة العصا التي أخذت تقرضها عن موضعها قليلاً اخْتَلّ
التوازن فسقط على الأرض وَبِذَا أَيْقَنَتِ الجِنُّ أنه كان ميتًا ، وأن اشتباههم كان في
محله. ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا لحظةً بعد وفاته قائمين بأشغالهم الشاقة ،
ولعرفوا الوفاة حين حدوثها بلا تردد. ولفظ (لبث) يستعمل في الزمن القليل والكثير
كقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ
عَامٍ} (البقرة: 259) .
فهذا هو التفسير الصحيح لهذه الآية الذي ينطبق على العلم، ولا يوجد في تاريخ
سليمان ما ينافيه.
* * *
(المسألة التاسعة)
(الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَاّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص:
34-
35) معنى هذه الآية: أن سليمان لَمّا وَرِثَ أباه داود في مُلْكِهِ سأَلَ اللهَ أنْ يرزقَه
وَلَدًا لِيَرِثَهُ مِن بَعْدِ مَوْتِهِ ، ولِيَبْقَى المُلْكُ في نَسْلِه ، فاختبره الله تعالى ، ولم يجب
دعاءَه في أول الأمر إلا بإعطائه ولدًا ناقص الخلقة (كأن يكون لا رأسَ له ولا مخَّ ،
أو نحو ذلك مما يحصل أحيانًا لبعض المولودين) ولما كان هذا المولود أقرب إلى
الميت منه إلى الحي المدرك سمّاه الله جسدًا كأنه لا رُوحَ له ، فلمّا وجد سليمان أن
مَن رزقه الله ليخلفه في كرسيه عَدَمُهُ خَيْرٌ مِن وُجُودِهِ ضَجِرَ، وتألَّمَ، ولَمْ يَشْكُرِ اللهَ
على كل حال ، ولكنه لم يلبث إلا قليلاً ورجع إلى الله يستغفره على ما فرط منه ،
ويرجوه العفوَ عن عدم رضائه بِما قضاه تعالى ، وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكاً لَاّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} (ص: 35) أي حيثُ إنك لم تَرْزُقْنِي بِمَن يَرِثُني
في هذا المُلْك فوسعه علي، وزدني سلطانًا ، ومتعني بما لا يصل إليه أحد من الملوك
بعدي حتى تعوضني بذلك ما حرمتني من النَّسْل الصالح ، فاستجاب الله دعاءَه ،
وسَخَّرَ له الريحَ ، وسَلَّطَه على الجن والإنس والطير ، وبعد ذلك رَزَقَه الله تعالى أيضًا
بمن يرثه (وهو ابنه رحبعام) ولكنه كان ضعيف العقل سَيِّئ التدبير ، رديء
السياسة حتى خرجت عليه عَشَرَةٌ من أسباط بني إسرائيل، ووقع الانقسام بينهم
في عهده.
فمما تقدم تعلم أن قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: 34)
معناه ذاك المولود الناقص ، وهو أول مَن رُزِقَه ، وقال: ألقيناه على كرسيه؛ لأنه
بمنزلة ولي عهده كما يقولون الآن ، وتقول العرب: (أُلْقِيَ الليلةَ على كرسي
الفرس مولودٌ) مثلاً إذا رزق كسرى بالولد الذي يرثه في ملكه، ويجلس على كرسيه
من بعده.
وهذا التفسير هو الذي كان يفهمه العرب من هذه الآية؛ ولذلك ورد في بعض
الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ما يقرب منه ، ولولا حَشْوُ مفسرينا
الإسرائيلياتِ في تفسير الكتاب العزيز ما فَهِمَ أحدٌ منها خلافه؛ فاحذر مما قالوه ، ولا
تَعْبَأْ به، فإنه مَثَارٌ لشبهات كثيرة.
* * *
(المسألة العاشرة)
(اللؤلؤ والمَرْجَان)
قال الله تعالى: {مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَاّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 19-22) ، فقال كثير
من الناس: إن اللؤلؤ والمَرْجَان يخرجان من البحر المالح، ولا يوجد منهما شيء في
البحر الحلو.
واعلم أن اللؤلؤ يخرج من كثير من الأنهار ، ويوجد في بلاد أوستراليا أنهار
مشهورة باستخراج الصدف واللؤلؤ منها؛ وهاك أسماء بعضها:
نهر هنتر Hunter ، وكلارنس Clarence ، وكوك Cook's ، وكليد
Clyde ، وغيرها، وهي موجود في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة
Wales South New من أوستراليا.
* * *
(المسألة الحادية عشر)
(السماء في القرآن)
السماء: من سَمَا، أي: ارتفع ، فالسماء في اللغة كل مرتفع فسقف البيت سماء
والسحاب سماء ، والكواكب سماوات والفراغ اللانهائي الذي فوق رءوسنا هو
سماء أيضًا ، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الشريف بعِدَّةِ مَعَانٍ تُعْرَف من السياق ،
وتفسر في كل مقام بحسبه ، وإن اشتركت كلها في معنى الارتفاع والسمو. وكذلك
يوجد في اللغة العربية ألفاظ كثيرة تُستعمل في مَعَانٍ مختلفةٍ لا يعينها إلى السياق.
مثلاً (لفظ) نَجْم يُسْتعمل في الكوكب ، وفي النبات، فمثال الأول: {وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَى} (النجم: 1) ومثال الثاني: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6)
والمقام هو الذي عين كلا من المعنيين ، ويسمى هذا النوع من الألفاظ بالمشترك.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن لفظ السماء إذا ورد في القرآن يجب أن يعرف معناه
من المقام ، ويجب أن لا يحمل في جميع المقامات على معنى واحد مثلاً في قوله
تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (الرعد: 17) معناه: السحاب؛ ولذلك قال في
آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ} (النور: 43)(أي: المطر){يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) الآية ،
وفي قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (الحج: 15) يعني: سقف البيت ، وفي
قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ} (الرحمن: 7) معناه: الكواكب. والألف
واللام هنا للجنس ، وكذلك في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا} (ق: 6) أي: جعلنا أجزاءَ كل منها متماسكة ، ثم هي في مجموعها
متجاذبة بعضها إلى بعض كالبُنْيَان يشُد بعضه بعضًا {وَزَيَّنَّاهَا} (ق: 6) بأن
جعلنا أشكالها جميلة مستديرة ، وأن بعضها مع بعض لها منظر بهيج ، ثم أضأناها
بالأنوار الذاتية أو المنعكسة عليها من غيرها {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أي:
شقوق ، فلا ترى كوكبًا منها به كسور أو منشقة أجزاؤه أو متفرقة ، فهو كتأكيدٍ لِقَوْلِه:
{بَنَيْنَاهَا} (ق: 6) وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} (الملك: 5) السماء الدنيا معناها الجو ، أو الفراغ
المحيط بنا القريب منا ، وهو المزين بالكواكب ، وأما ما وراءه من الفراغ اللانهائي ،
فليس به زينة ولا شيء ، وجعلناها رجومًا للشياطين بانقضاض الشهب منها لإهلاكهم
كما في قوله: {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات: 10)
وهذه المسألة لا يوجد في العلم الطبيعي الآن ما يصدقها ، ولا ما ينفيها ، وغاية
الأمر أنها غير معروفة له ، فنحن نصدقها لإتيان النبي الصادق بها ، وقد ثبتت
نبوته عندنا بالبراهين القاطعة كما أوضحناه في مقالات الدين في نظر العقل
الصحيح.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: 3) المراد به: الأجرام
السبعة العلوية المشهورة التي كانت تعرفها العرب، وتراها بأعينها وهي القمر
وعُطَارد والزهرة والشمس والمِرِّيخ والمُشْتَرِي وزُحَل.
وإنما خصّ هذه السبعة بالذكر؛ لأنها أكبر ما تعرفه العرب وأكبر ما
تشاهده ، وإلا فالأجرام السماوية العظيمة أكثر من سبعة.
وليس في القرآن الشريف ما يدل على الحصر. على أن بعض علماء اللغة
قالوا: إن العرب إذا أرادت المبالغة في العدد تأتي بلفظ سبعة ، وما ركب منها
كالسبعين والسبعمائة ، واستشهدوا على ذلك بنحو قوله تعالى في وصف جهنم:
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر: 44) فإن المقام مقام
تهويل لا يناسبه إلا ذكر العدد الكبير. وإن لم يكن لِجَهَنَّمَ سوى هذه الأبواب السبعة
اقتضى المقام عدم ذكر العدد هنا بالمَرّة؛ لقلته، فلو لم يكن لفظ السبعة يستعمل عندهم
في مطلق الكثرة لَمَا ذكره هنا؛ ولذلك قال أئمة المفسرين في مثل هذه المواضع:
إن العدد لا مفهومَ له ، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ
أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27) .
قد يقول قائل ما بالك تَذْكُرُ هنا في تفسير السماوات السبع القمر والشمس مع
أن القمر تابع للأرض ، والشمس هي مركز العالم والسيارات تدور حولها ، ومنها
أرضنا هذه. ونقول: إن هذه المسائل الفلكية لم يتعرض لها القرآن هنا في مثل هذه
الآية ، وغاية ما ذكره أن الله خلق سبع سموات طِبَاقًا ، وقلنا: إن الأجرام التي
خلقها الله هي عالية بالنسبة لنا؛ فهي سموات وهي سبع طباق ، بعضها فوق
بعض بالنسبة لنا أيضًا ، فلا دَخْلَ لِذلك في كون بعضها تابع لغيره [1] فإن هذه
المسائل لا علاقة لها بتفسير الآية كما لا يخفى على ذِي عقل.
ويستعمل لفظ السماء في اللغات الإفرنجية أيضًا في عِدَّة معانٍ مختلفة ، ففي
الإنكليزية لفظ Heaven قد يُرَادُ به السحاب أو الجوّ أو الذات العليّة أو الجنة أو
غير ذلك ، والمقام هو الذي يعين هذه المعاني المختلفة كما هو المعهود في اللغة
العربية.
* * *
(المسألة الثانية عشرة)
(الأرض والجبال)
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ
الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12)، وقال:{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل: 15)، وقال:{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ: 7) .
لم يذكر في القرآن أن الأرض سبع إلا في الآية المذكورة هنا ، ولم يذكر فيه
مطلقًا لفظ الأرض بالجمع ولا في الآية السابقة بخلاف السماء فإنها ذكرت بالجمع
في أكثر المواضع ، فالظاهر أن الأرض شيء واحد ولكنها ذات طبقات سبع؛ فلذا
قال هنا: {وَمِنَ الأَرْضِ} (الطلاق: 12)(بالإفراد){مِثْلَهُنَّ} (الطلاق:
12) أي: في العدد ، وهي كونها سبعًا ، وفي كونها طباقًا ، ويجوز أن تكون طبقاتها
أكثرَ من سبع ، وإنما خَصّ هذه بالذكر لِكَوْنِهَا الطبقات الأصلية أو الأساسية ، فإن
الآية لا تدل على الحصر ، فلا مانِعَ مِن أن يكونَ بعض هذه الطبقات الأصلية مركبًا
من طبقات أخرى ، وقد يكون لفظ (سبع) لا مفهوم له ، ومستعمل هنا للدلالة على
الكثرة فقط ، كما بيناه سابقًا في مسألة السموات.
وقوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (لقمان: 10) . تميد
مِن مَادَتِ السفينةُ؛ أي: مَالَتْ واضطربت ، فمعنى الآية: أن الله أثقل الأرض
بالجبال لِمَنْعِهَا مِن الميدان والتزلزل الدائم ، وذلك أن الجبال بوجودها في بعض
الجهات جعلت ثقل الأرض في جميع الجهات متساويًا بالنسبة إلى المركز ، فإذا
دارت الأرض حول مركزها لا يحصل أدنى اضطراب فيها ، ولو كان بعض جهاتها
أخف من البعض الآخر لشعرنا بالاهتزاز يوميًّا من حركة الأرض حول محورها.
وأيضًا فإن الجبال بثقلها العظيم على الأرض ، وبما امتد من قواعدها
من الشعب الصخرية كونت طبقة حجرية عظيمة تقي ما بين الجبال من الوديان من
انفجار باطن الأرض الملتهب ، ونسف قشرتها أو زلزالها الدائم ، ولا يخفى أن
أغلب الأراضي المسكونة إنما هي في الحقيقة وديان بين جبال. فلولا الجبال
لتوالت الزلازل، ولما هدأ للبشر جميعًا بَالٌ، ولما كان حدوث الزلازل نادرًا كما هو
الآن، وحاصلاً لبعض البشر دون بعض.
وقوله: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} (النبأ: 7) هو كقوله بعده: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاساً} (النبأ: 10) أي: كاللباس في الستر. فالمعنى: أن الجبال كالأوتاد
المغروسة في الأرض ، وإذا لاحظنا أن الأرض تجذبها من جميع نقطها إلى مركزها
كما تشد الأوتاد بالحبال المربوطة بها أدركنا ما بينهما من الشبه العظيم ، وفهمنا
نكتة هذا التشبيه. وكما شبه الله تعالى الجبال هنا بالأوتاد كذلك شبه الأهرام المصرية
بها في قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} (الفجر: 10) .
* * *
(المسألة الثالثة عشرة)
(تفسير آيات عدم صلب المسيح)
قال الله تعالى] وَقَوْلِهِمْ [أي: اليهود {إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ} (النساء: 157) قالوا ذلك تهكمًا ، والمسيح معناه عندهم الملك؛ لأنهم كانوا يمسحون ملوكهم بالزيت عند توليتهم ، وسمي عيسى مسيحًا؛ لأنه كملك رُوحَانِيّ استولى على قلوب الناس ونفوسهم ، وخلصهم من عاداتهم الرديئة ، ومن أسر التقاليد والأوهام والعقائد السخيفة ورقى نفوسهم ، وأصلح أمورهم، فهو كالملوك العظام الذين كانوا يأتون اليهود ، فيخلصونهم من الأسر والبلايا ، ويرقون شئونهم ككورش ملك فارس الذي تقدم ذكره وكانوا يسمونه هو وغيره من الملوك النافعين لهم بالمسيح ، وكانوا يتوهمون أن
المسيح سيأتي ، ويرد لهم ما فقدوه من المجد والسلطان (عيسى) تعريب لفظ يشوع
ومعناه المُخَلِّص، وهو علم مشهور عند اليهود ، وسمي به كثيرون قبل المسيح بينهم كيشوع خليفة موسى عليهما السلام ،وكانوا يتفاءلون بهذا الاسم ويرجون أن يكون لهم بشرى خير لخلاصهم مما كانوا فيه من الرزايا والمصائب.
{ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) أي: اشتبه عليهم الأمر فأخذوا واحدًا يشبهه ظانين أنه هو المسيح ، وصلبوه وقتلوه.
واعلم أن وجود أشخاص متشابهين في الخلقة أمر مشاهد معروف ، وقد يكون
الشبه تامًّا بحيث يخدع به أهله وذووه فما بالك إذا كان القابضون على المسيح
ما كانوا يعرفونه ، ولا الذين حاكموه ، ولا الذين حضروا تنفيذ الحكم ، فقد فرّ
تلاميذُه من حوله وهربوا ، وكل ذلك صريح في نصوص العهد الجديد.
ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادثُ كثيرةٌ في باب تحقيق الشخصيات دالّة
على أنه كثيرًا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص ، ويشتبهون عليهم
بغيرهم وقد ذكر (جاي) و (قرير) مؤلِّفَا (كتاب أصول الطب الشرعي) في
اللغة الإنكليزية حادثة استحضر فيها 150 شاهدًا لمعرفة شخص يدعى (مارتين
جير) فجزم أربعون منهم بأنه هو هو ، وقال خمسون: إنه غيره ، والباقون ترددوا
جدًّا ، ولم يمكنهم أن يبدوا رأيًا ، ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غيرَ
مارتين جير ، وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون ، وعاش مع زوجة مارتين محاطًا
بأقاربه وأصحابه ومعارفه لمدة ثلاث سنوات ، وكلهم مصدقون أنه مارتين ، ولما
حكمت المحكمة عليه لظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى ،
فأحضر ثلاثون شاهدًا آخرون ، فأقسم عَشَرَةٌ منهم بأنه هو مارتين ، وقال سبعة:
إنه غيره، وتردد الباقون، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539 في فرنسا، وأمثالها
كثير.
وقد بلغ شبه بعض الأشخاص لغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم
ممن شابههم من الكسور أو الجروح أو آثارها، وغير ذلك حتى تعسر تمييز بعضهم
عن بعض ، ولذلك جدّ الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين.
فإذا كان الأمر كذلك فهل في حادثة المسيح أدنى غرابة؟
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ
اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (النساء: 157) كما في الحادثة التي سبقت ، ولذلك اختلفت طوائف
النصارى قديمًا وحديثًا في هذه المسألة ، واختلف فيها ما وجد عندهم من الكتب كما
بيناه في موضع آخر. ولو كانت حادثة الصَّلْب يقينيةً لَمَا وقعَ فيها ما وقع من
الاختلاف بينهم.
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 157-158) أي: إنه لم
يقتل ، ولكن توفّاه الله، ورفع روحه إليه ، وأسكنها عنده في جنان النعيم ، كما قال
في آية أخرى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران:
55) ، وكقوله تعالى حكايةً لقول المسيح عن نفسه في الآخرة: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي
كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) فالرفع هنا رُوحاني معنوي ، وكذلك
وَرَدَ الرفع في القرآن في مواضع كثيرة في الأمور المعنوية. قال تعالى: {وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253)، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الأَرْضِ} (الأعراف: 176)، فمعنى الآية: أنهم لم يقتلوه ، ولكن الله هو
الذي قبضه إليه بدون أن تصل إليه أيدي الأعداء بالسوء ، ورفع روحه إلى جنته ،
وأسكنه بجواره ، وذلك كله على حد قوله في مواضعَ أخرى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169) أي:
تتمتع أرواحهم في الجنة. وقوله: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 54-55)، فكل هذه العبارات: كـ (عند الله) ،
و (رفعه الله إليه) ، ونحوها مستعملة في معانيها المجازية لا الحقيقية.
فالظاهر أن المسيح عليه السلام ذهب إلى جهة من الجهات ، أو جبل من
الجبال فتوفاه الله هناك ، ولما ذهبوا ليقبضوا عليه وجدوا شخصًا يشبهه فاغتروا به
فأخذوه، وقتلوه، وصلبوه.
ولعلّ هذا الشخص هو يهوذا الإسخريوطي ، وكان يقصد خيانة المسيح ،
وأن يقبض عليه ، ويسلمه، فوقع فيما كان يدبره لسيده ، فاشتبهوا فيه، وأخذوه
أخذًا وَبِيلاً ، وأما المسيح فكان قد توفّاه الله ، وأنجاه من مثل هذا العذاب.
وذهاب بعض الأنبياء إلى بعض الجبال ووفاتهم بها أمر معهود ، كما وقع
لموسى عليه السلام (راجع سفر التثنية 34: 1 - 6) .
ثم قال الله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} (النساء: 159) أي: إن كل شخص من أهل الكتاب لا بُدَّ عند
وفاته أن تتضح له الحقيقة ، فيؤمن بالمسيح كما جاء به القرآن ، وليس معناه أنهم
يؤمنون به عند نزوله يوم القيامة كما هي عقيدة النصارى؛ فإن الآية صريحة في
أن كل شخص منهم سيؤمن به ، وأما عند نزوله فلا يؤمن به إلا الذين يحضرونه،
وهو خلاف نص الآية.
واعلم أن المسلم لا يجب عليه الإيمان بأنه سيجيء يوم القيامة ، والظاهر أن
هذه عقيدة سَرَتْ من النصارى إلى المسلمين. ولم يأت بها القرآن. والأحاديث لا
يؤخذ بها في العقائد إلا إذا تواترت، وليس في هذه المسألة حديث متواتر.
وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} (الزخرف: 61) ،
فمعناه أنه لدليل على قدرة الله على البعث ، فإن الذي خلقه بلا أب ، والذي أحيا
الموتى على يديه قادر على إحياء الموتى يوم القيامة ، وهذه الآية كقوله:
{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 91) .
ولقائل أن يقول: إذا كان المسيح مات وتفرق تلاميذه من حوله بسبب أعمال
اليهود ، وكانوا قليلي العدد؛ فما معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ
نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14)، ونقول: أما في عصر المسيح عليه
السلام فقد كانوا مؤيدين بقوة اليقين والإيمان ظاهرين على أعدائهم بالحُجّة والبُرْهان،
وبما يظهره الله تعالى على يده من المعجزات والآيات البينات ، وأما بعد وفاته فقد
سلّط الله الرومانيين على اليهود ، فشتتوهم في أقطار العالم ، وخربوا مسجدهم
المقدس ، ولم يصب المسيحيين في أثناء ذلك أدنى أذى، ثم صاروا ينتشرون في
الأرض ويزداد عددهم شيئًا فشيئًا حتى دخل قسطنطين في المسيحية ، وصارت
ديانتهم هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية، وبذلك تمّ لهم الظهور على أعدائهم
اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى الآن كما قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: 55) ، وإنما عبر تعالى بالفاء
في قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14)
مع أن ظهورهم الماضي لم يظهر إلا بعد مُضِيّ سنين طويلة؛ لأن سنيننا هنا هي
عند الله كلحظات {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47)
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} (المعارج: 6-7) وغلوّ المسيحيين في
بعض معتقداتهم ، وتأليههم لنبيهم لا ينافي أنهم مؤمنون به؛ فلذا وصفهم الله
تعالى بالإيمان في هذه الآية كما وصفهم به في آيات أخرى كقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} (الحديد:
28) الآية. فلا منافاة بين الغلوّ في العقيدة وبين أصل الإيمان.
(للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(2)
حاشية - من تذكر أن لكثير من السيارات توابع كالقمر بالنسبة للأرض، وهذه التوابع أو الأقمار تضيئها ، فهم معنى قوله تعالى:[وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً](نوح: 16) ، فإن الألف واللام هنا تصحّ أن تكونَ للجنس لا للعهد ، والمعنى: أن الله جعل الأقمارَ أنوارًا تضيء بها السموات.
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
السنن والأحاديث النبوية
بحث العمل بالحديث وبحث التواتر
يقول حضرة الدكتور: أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد ، ثم قال: ولكن ذلك
لا يوجب العمل بها على المسلمين، ولا يلحقها بالقرآن الشريف.
الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقول إن الله - جل شأنه - أرسل رسلاً أوجب على عباده تصديقهم واتباعهم
في كل ما أرسلوا به ، وليس من شرط الرسول أن يأتي بكتاب من عند الله.
وبعبارة أخرى: لم يقُلْ أحد من العقلاء بعد ثبوت رسالته: إنه يجب على الله أن
ينزل عليه كتابًا يقرأه، أو كلامًا يتلوه بلفظه - بل عرفوا الرسول بأنه بشر أوحي
إليه بشرع ، وأمر بتبليغه سواء كان التبليغ والبيان بالقول أم بالفعل ، على أن القول
مقدم على الفعل ومعرفة الشرع بالقول أكثر منه بالفعل ، والله - جل شأنه - لم
يخصص طريقًا ولا طرقًا معينة لحملة الشرائع في تبليغها إلى مَن نأى وبعد
مكانًا أو زمانًا ، ولم يذكر في موضع ما من أي كتاب من كتبه أن من رد ما بلغه من
الدين بغير تواتر معذور ، ولم يقل ذلك أحد من رسله ، أو ممن يعول عليه من
أتباعهم ، بل لم يشترط ذلك أحد من البشر في شئون دنياهم الاجتماعية.
وإنما مدار ذلك - والله أعلم - هو حصول التصديق بالنسبة إلى خصوص من
بلغه خبر ، ولم يقصر في البحث عن صِحّته وصدقه ، فحين تصديقه لا يجوز له
ردّه ، وهذا هو الذي دلّ الشرع والعقلُ عليه ، وعليه اتفق أهل المِلَلِ قاطبةً ، وهذا
مما نجل حضرة الدكتور عن مخالفته.
بعث الله رسله مبشرين ومنذرين لِئَلاّ يكون للناس عليه حُجّة ، وهو لا يأمر
بالمحال ولا يكلف نفسًا إلا وسعها ، فلو أوْجَبَ على الأمم تبليغ كل مسألة مِن شرعه
بالتواتر ، وعلى المبلغين ردّ غير التواتر لَكان ذلك تكليف ما لا يطاق مستلزمًا
لِملاشاة الأديان، ومعطلاً لسائر المواصلات ومعاملات بني الإنسان، والله منزّهٌ عن
إرادة ذلك فَبَطَلَ اشتراط التواتر لنقل مسائل الدين.
دلّ القرآن على أن من جاءته الحُجّة عن الله بتوسط رسله وردها جحدًا أو مكابرة
أو بما شاء كل ذلك وداناه - فقد كفر بالله وبرسله واستحق العقاب وشديد العذاب.
ومن بلغته الحُجّة عن رسول من رسله حين وجوب طاعته في خصوص تلك
المسألة من طريق لا يردها في جميع شئونه ، ولا ينكر صحتها بعد البحث والتنقيب
ثم ردّ ما جاء عن الرسول بتلك الطريق تشهيًا فلا شكَّ أنه معانِدٌ ومكابِرٌ ومنابذ
لطاعة ذلك الرسول ، وسواء كانت هذه الطريق متواترة أو آحادية.
فقول حضرة الدكتور: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين - يعني
الأحاديثَ الصحاح الآحادي ولو كانت مشهورة ومستفيضةً. ثم قوله: (الدين الذي
يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدلُّ بَلْ هو
ظاهِرٌ في أنّ مَن أنكَرَ واجبًا من الشرع فهو كافر؛ ولذلك احتاط في أنه لا يكون
الشيء واجبًا إلا إذا نقل بالتواتر.
والحق أن التواتر ليس شرطًا في وجوب الخبر كما أن من أنكر ما دل عليه
التواتر قد لا يكفر في بعض الصور ، بل قد لا يكفر من أنكر بعض الواجبات عند
غيره ، كما قد عرفت أن الحصر الذي ذكره غير مسلم ، وذلك لأن الشيء قد يكون
متواترًا عند شخص دون شخص ، وقد يختلف معنى التواتر وشرائطه عند أُنَاس
دون أُناس ، بل التواتر عند بعض الناس لا يفيد العلم وعند بعضهم في بعض
صوره ، وعلى قول الجمهور يمكن أن يوجد تواترٌ في أمْر ما ، ويعسر على بعض
الناس معرفته ، وتحقق وقوعه في ذلك الأمر بل يمكن أن يوافيه حمامه، قبل أن
يبلغ من ذلك مرامه، والحق أن من أنكر ما عرف وُجُوبه من دِين الإسلام ، وصار
ذلك معلومًا له ولو بخبر الآحاد كفر ، وكذلك مَن أنكر ما هو معلومٌ من الدِّين
بالضرورة ، ولم يكن قريب عهد الإسلام أو نشأ بعيدًا عن العلماء كفر ، وإن لم يكن
منقولاً بالتواتر المعروف عند التواترية.
نحن لا ننكر أن بعض أنواع التواتر يفيد العلمَ ، ولكن ننكر انحصار العلم
الخبري فيه ، أو فيما باشرَ الشخص سماعه كما أنَّا لا نسلم أنّ ما هو متواترٌ عند
أناس يلزم أن يسلم تواتره الآخرون.
إن من رمى التقليد جانبًا وتبرّأ من التعصب المشوم ، وجعل الحق مطلبه ،
والإنصاف رائدَه ، ونظر في أقوال العقلاء من هذا النوع البشري نَظَرَ الناقد البصير
علم علمًا لا يعتريه شكٌّ أنّ كل ما وجد عندهم من الحقّ فهو مطابقٌ أو مأخوذٌ مِمّا
جاء به المعصومون عليهم الصلاة والسلام عن الخلاق فاطر الأنام، وحيث كان
غرضنا في هذا المقام تحقيق الخبر المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما
يجب قبوله، وما لا يجب نقول.
* * *
العلم والطرق المؤدية إليه
الناس تكلموا على العلم وعلى الطرق المؤديّة إليه، فمنهم من شدد وضيّق ،
فلم يجعل إلى العلم سبيلاً غير ما أدركه بأحد حواسه ، وهذا مع كونه إهمالاً لأفضل
ما امتاز به الإنسان في أعلى مدارج إنسانيته هو تعطيلٌ لجميع الارتفاقات ، والتعاون
على تحصيل أنواع العلوم المختلفة المواضيع؛ إذ من المحال أن يقوم الفرد بتحصيل
جميع العلوم التي قد حققها وعرفها جميع البشر - فهؤلاء المضيقون غاية معتقدهم
تعرية الإنسان عن أكثر العلوم، والقضاء عليه بالوقوف دون مصاف كثير من الحيوان
والبهائم لما عرف من أن إحساس بعضها أقوى من إحساس الإنسان. ومِن نتائج
مذهبهم المشئوم ضياع وانحلال عُرَى التضامن الاجتماعي ، وارتفاع الوثوق
مِن بينِ أفراد الناس في أشد ضروراتهم - ولذلك ترى هؤلاء المضيّقِينَ من أكثر
الناس تناقضًا في علومهم وأقوالهم وأفعالهم؛ لأنه مِن المستحيل عليهم التزام مذهبهم
الفاسد ، ومن تتبع علومهم وأقوالهم وأفعالهم في جميع شئونهم وَجَدَهم على جانب
بعيد ، وفي غاية المناقضة لما أصلوه مما ذكرناه عنهم.
ومن الناس من وسع بعض التوسعة لكنه أنكر حصول العلم من طريق الوحي ،
وهؤلاء هم الزنادقة المنكرون لوجود واجب الوجود أو المنكرون للنبوات،
وهؤلاء يئول إنكارهم إلى تنقيصه تعالى شأنه المؤدي إلى نفيه المؤدي إلى المحال
في الضروريات، والقدح في المشاهدات ، وكون الشيء فاعلاً لنفسه أو مفعولاً
لغير فاعل.
ومن الناس من طلب الحق ، وتبين له فساد قول هؤلاء وهؤلاء ، واجتهد في
طلب الصواب، فسلم بأكثر الطرق المؤدية إلى العلوم لكنه أهمل بعضها لاشتراطه لها
شروطًا يعسر أو يتعذر وجودها ، وهذه عدوى سرت إليه من مخالطة من تقدم
ذكرهم من الملحدين السابق ذكرهم.
فمن اشترط في وُجوب قَبُول الوحي - أي الشرع - أو اعتبار الأخبار مطلقًا:
المشافهة والسماع ، أو بلوغه بالإجماع عملاً ، أو التواتر - فقد نصب في طريقه
العقبات، وأقام دونه سدّ المحالات، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ونحن نسأل
حضرةَ الدكتور: هل تشترط ذلك في جميع العلوم التي يشتغل بها الناس، وفي جميع ما يتعلق بشئونهم الاجتماعية أم لا تشترط ذلك إلا بخصوص بلاغ الأحكام والمسائل الدينية؟ أنا لا أظُنّ أنه يلتزم ذلك في الأوّل ، ولئن التزمه فالواقع
والمشاهدة تردّه ، وهي أعدل حكم بلْ يلزمه من التناقض ما لزم المضيّقِين السابق
ذكرهم.
إذا بَطَلَ في الأول اشتراط ذلك ففي الأديان كذلك لما قدمنا من تلازم القدر
بالشرع فلا فرْقَ يُعْتَدّ به.
وعليه فالذي دلت عليه الكتب والشرائع السماوية، وهو ما عليه عامّة البشر
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) هو أن من ثبت لديه
بخصوصه صِحّة خَبَر وصدقه وجبَ عليه قَبُوله ، وهو في حقّهِ علم حين تصديقه [1]
اللَّهُمَّ إِلاّ أنْ يكونَ الخبر ينتج ضررًا على أحد ، والمخبر معلوم فسقه؛ فيجب التبين
والتروي حتى يظهر وينكشف حال ذلك الخبر ، وكذلك مَن بلغَه الخبر عمن لا يعلم
حاله - والأمر ما ذكرناه - وجب عليه التنقيب ، فإن صحّ لديه ذلك الخبر من
الطُّرُق الذي يصحح بها مثله وجب عليه قبوله ، كما أنه يقبله في بقية شئونه الدنيوية،
ولا يجوز له اتباع هواه والتشهي والترجيح بلا مرجح.
لم يوجب الله علينا - مَعْشَرَ المسلمِينَ - التقيدَ بما أسس بعض الناس؛ بل
نهانا عن التقليد واتباع الآباء ، وأوجب علينا النظرَ، فما وافقَ دينَنا الذي هو الدين
المستحيل مخالفته للعقل الصحيح قبلناه ، وليس من العدل أن نترك ما لدينا مِن الحق
ونقتصر على ما لَدَى المُخالِفِين، وإنْ دلّ عليه ديننا، أمّا ما خالفَ ديننا فلا شكَّ أنه
مخالف للعدل والعقل.
وليس في الدين ولا في القرآن ولا في الحديث الصحيح ما يناقض ما دلّ العقل
الصحيح عليه [2] ، ومن زعم ذلك فعليه البيان ، نَعَم في الدين أشياء لم تستعد بعض
العقول لإدراكها ، وسببه ما قدمناه من تضييق بعض الناس ، وسَدّ أكثر أبواب
الطرق المؤدية إلى العلم ، فإذا كمل لبعض الناس استعداده العقلي ، وصار إنسانًا
بالمعنى الذي خُلِقَ لأجله فلا شكَّ أنه يدرك معلومات لا يكمل العقل إلا بإدراكها ،
فعلى مَن لم يَأْتِ هذه البيوت من أبوابها أن يسألَ أهلَ العلم.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذا ما قررناه في الرّدّ على الدكتور صدقي (ص926 م9) ، وقد ذاكرناه منذ أيام في ذلك ، فرأيناه مالَ إلى تَرْك اشتراط التواتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الآحاد دُعَاةً وعُمَّالاً فيقبلُ الناسُ منهم.
(2)
المنار: صرح بهذا شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وتصديا لبيانه بما كتبه الثاني في أعلام الموقعين من التفصيل البديع.
الكاتب: بدائع نكار ميرزا
شكر المنار على تأبين ذكاء الملك
رسالةٌ جاءَتْنا من العالم الأديب بدائع نكار ميرزا فضل الله البيهقي مدرس
العلوم الأدبية في مدرسة طهران السياسية. ورغب إلينا ميرزا محمد علي خان نجل
صديقنا رحمه الله ذكاء الملك أن ننشرها في المنار ، فنشرناها شاكرين للأديبين
فضلهما ، وهي:
هو
جدير أن يؤذن في المنار
…
معارف عنونت في المنار [1]
وكنا في محاق الجهل دهرًا
…
بغرته سلخنا من سرار
سأجعل شكر منشئها دثاري
…
وأجعل مدحه أبدًا شعاري
وما أنا في رفع خبري إلى حضرة مولاي - أدام الله بقاءه ابتداءً، ونصب وجوه
أملي لشمول عواطفه رجاءً - قبل التعرف إليه ببعض المعارف، والتقرب إليه
بطرائف اللطائف، إلا كطالب الإيناس قبل الإبساس، والماتح بلا أسباب وأمراس،
ولكني أجلّ سيدي من أن يحتاج العبد إلى تقربه بالوسائل، ويمت إليه بذرائع القبائل،
لأن داعي فضله على المنار جهارًا يدعونا إلى نار قِراه ليلاً ونهارًا، فلا أُلَامُ
على ذلك الإقدام إنْ لَبَّيْت دعوته، وصليت قبلته، وأتيت ناره، ويممت داره،
قيل بممبج مأواه ونائله
…
في الشرق يسأل عمن نيله سيلا
على أني من آل داود، ومن عاملي الشكر معدود، وكيف لا أشكر من مولاي
نِعَمَه التي أَحْيَتِ القلوبَ، وأماتت العيوب، وحسّن منا الأخلاق، وعلّق علينا
الأعلاق، فجزاه الله عن المسلمين خيرَ الجزاء، ورداه عنهم برد الثناء.
* ولو سكتوا أثنت عليه الحقائب *
…
قد وقفت على خاتمة الجزء الثانيَ عَشَرَ مِن المنار في مدرسة السياسة من
طهران، بعدما وقفت على فاتحة المجلّة في خُرَاسان.
تنورتها من أرض طوس وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وقفت على تأبين الفقيد الفريد ذكاء الملك - أطاب الله ثراه - فأخذني مِن
الأسف ما جرّ بي إلى التَّلَفِ.
فقدنا ذكاء الملك لا بل سماءه
…
وما حال ملك زال عنه ذكاؤه
فقدناه لو أن يفتدي لفديته
…
ولكن قضاء الله حتم مضاؤه
مضى رحمه الله وأصمى على قلوبنا سهام الهموم، وأحمى على أكبادنا مكاوي
الغموم، فلولا خلفاه الصالحان، وفرعاه الباسقان، وثمراه اليانعان، وقمراه الطالعان،
لَمَا صبرنا على هذه الرّزِيّة، بل هلكنا من سطوات تلك البليّة، ولكن بحمد الله
ومَنِّهِ.
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى
…
فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
فها أنا مع عُقْدَة لساني، وعُجْمَة بَيَانِي، وضِيق بَاعي، وقِلّة مَتَاعِي،
ونُقْصان بِضَاعتي، وكَلَالَة يَرَاعَتِي، أشكر مِن مَوْلاي - أدامَ اللهُ بقاه - تأبينه
على فقيدنا ذكاء الملك طاب ثراه، وأسأل الله أن يديم ظلال عواطف مولاي على
رءوس أهل الأدب، ويقيمه على تثقيف الأَوَد من العَجَم والعَرَب، وأن يجعلَ كِتابي
هذا عنده مقبولاً، لا مردود عليَّ مبذولاً، وأنهي إلى تلك الحضرة العالية من أديبنا
ذكاء الملك بن الذكاء أزكى وأوفى الثناء، أختتم كتابي معتذرًا بذلك الخطاب.
لا تنكرن وإن اهتديت نحوك من
…
علومك الغر وآدابك التقا
فقبّم الباغ قد يهدي لمالكه
…
برسم خدمته من باغه التحفا
العبد فضل الله بن داود البيهقي المدعو ببدائع نكار
للسُّدَّةِ السَّنِيَّة العَلِيّة والعتبة البهية الرضوية على راقدها آلاف الثناء والتحية.
_________
(1)
لعل الأصل، معارف عنونت باسم المنار، أو عنونت في ذا المنار، فسقط لفظ (ذا) سهوًا.
الكاتب: أحمد ترجمان
البرهان الصريح
في بشائر النبي والمسيح
عليهما السلام
بمنِّهِ تعالى سننشر كتابًا فيه بشائر النبي والمسيح عليهما السلام ، منها للنبي
عليه السلام وأُمّته من نبوة أشعيا ص 40 عدد 3 ، وص 4 عدد 2 و25 ، وص 43
عدد 16 ، ونبوة دانيال ص 2 و7 و9 الوارد فيها ختام النبوة والحساب من حرب
أدريانوس ملك الرومان لليهود سنة 132 ، وانتهاء المُدّة سنة 622 ، وهي سنة
الهجرة والإذن بالفتح والجهاد.
ونبيّن فيه صحة الترجمة في مواضع منها في التكوين بشأن سيدنا إسماعيل
ص 16 عدد 12 (إنسانًا وحشيًّا) . قال العالم الإسرائيلي: الترجمة إنسان
بري (يسكن البرية) يده في الكل ، ويد الكل فيه ، ولفظه العبراني: بيري آدام؛
أي: آدم بري ، ويده في الكل المراد به: سيدنا محمد عليه السلام؛ لأنه من
إسماعيل.
وفي مزمور 80 عدد 17 وابن آدم الذي اخترته أي: نبينا ابن إسماعيل عليهما السلام؛ لأنه سُمِّيَ إسماعيل آدم، وفي التكوين من قول الرّبِّ للخليل (ص 21 عدد 13 وابن الجارية أيضًا اجعله أُمَّة لأنه نَسْلك) والأصل العبراني أن نسلك هو
ولفظه (كي زرعخاهو) أي إنه هو زَرْعُك.
وفي المسيح عليه السلام (وخلق الرب له من غير أب) من نبوة أرميا:
(ص 31 عدد 22 خلق الربّ شيئًا حديثًا في الأرض أنثى تحيط برجل)
وفي الشروح أن هذا في المسيح وتأييد نبوة أرميا هذه في القرآن الشريف من سورة آل عمران وفي نبوة أشعيا ص 49 المختصة بالمسيح يحكى بالوحي ما يكون للمسيح ، وفيها أن له مجيئين ، والأصل العبراني لها عدد 5، قال: الرب جابلي من البطن عبدًا له لإرجاع يعقوب ، فيضم إليه إسرائيل. ولم ترجع بني إسرائيل كما في عدد 4 أمّا أنا فقلت عبثًا ولمجيئه الثاني عدد 6 قال: سهل أن
تكون لي عبدًا لتقيم أسباط يعقوب ، ورد محصوري إسرائيل ، وأجعلك نورًا لأمم
لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض.
ثم أكد ذلك في عدد 8-13 وفي عدد 6 (وأجعلك) قالوا بدلها فقد جعلتك. وما
ذكر في أعمال الرسل ص 13 عدد 47 خلاف الأصل العبراني أيضًا؛ لأن رسالته
كانت لبني إسرائيل ونبوة ميخا ص 5 عدد 3 و4 تؤيد أن له مجيئين كنبوة أشعيا هذه
ص 49 ، وتؤيدها أيضًا نبوة أشعيا ص 11 التي هي لمجيئه الثاني؛ لأن فيها
يرفع راية الأمم، ويجمع بني إسرائيل من أربعة أطراف الأرض ، وهذا معنى ما ورد
في نبوة أشعيا ص 49 عدد 6 لِتكونَ خلاصي إلى أقصى الأرض؛ أي: خلاص
بني إسرائيل ، كما في ص 12 من نبوة أشعيا أيضًا المتممة لِص 11 ، وهذا في
آخر الأيام كما في نبوة هوشع ص 3 عدد 5 ونبوة أشعيا ص 49 تؤيد مجيء
المسيح مجيئه الأول قبل انتهاء تسلط اليهود على الشعب في أرض فلسطين كما في
عدد 7 والرب يحميه منهم كما في عدد 3 (في كنانته أخفاني) وعدد 8 (وحفظتك)
وقد قلعت اليهود من أرض فلسطين سنة 132 ، ثم لَمّا دخلَ الإسلام صاروا في
حماه.
ومنها في نبوة أشعيا ص 53 عدد 8 (أنه ضرب من أجْل ذنب شعبي)
والأصل (ضربة لهم) ولفظ لهم بالعبراني (لاموا) لأن الكلام في الشعب الذين
أخذوا لِبَابِلَ وحضروا منها ، والنبي أرميا بين كثيرًا منه في مراثيه ، وفي عدد 10
(فسر) والأصل فأراد ، وفي عدد 10 أيضًا (أن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً)
ولم يكن في الأصل العبراني لفظ ذبيحة والكلام في الشعب؛ لأنه ذكر يرى نسلاً ،
وفي مزمور 22 عدد 16 ثقبوا يديَّ ، والأصل (كأسد يديَّ) مع أنهم اعترفوا في
كتبهم باعتماد الأصل العبراني، والمسيح أيد نبوات الأنبياء كما في إنجيل مَتَّى ص 5
عدد 17 ولم يؤيد التواريخ.
ونبين في الكتاب بعض الآثار المصرية والآشورية التي تؤيد التواريخَ
الإسلامية الصحيحةَ ، ونذكر نبْذَةً في فضائل الإسلام، ونطلب منه تعالى العَوْن
في البدء والختام.
(تنبيه)
في نبوة أشعيا ص 41 عدد 25 (أنهضته من الشمال) ، وقبل وضع الحركات
التي وضعت بعد قرون كان ينطق بها (أنهضته من مخبأه) وهو الغار، وعلى وضع
الحركة قام نبينا عليه السلام من الشمال ، وهي المدينة شمال مكة، ودخل مكة شرقًا ، والكلام في مساكن قيدار كما يأتي ، وفي ص 42 عدد 11 ذكر مساكن قيدار وفي عدد 13 (خروج الرب كرجل حروب) إشارة للجهاد وقيدار بن إسماعيل كما في التكوين ص 25 عدد 13.
(يا أخت هارون) ورد أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم حديث
صحيح ، وفي نبوة حزقيال ص 37 عدد 24 سمي المسيح داود ، ونبوة زكريا
ص 12 و13 تمت في يهوذا المكابي وأخيه يوناثان.
وموجود بلد اسمها سامره (شمرون بالعبراني) قبل دخول بني إسرائيل
الأرض كما في سفر يشوع 12: 20، وفي آثار توتمس الثالث وجود يهود بِفِلَسْطِين
قبل دخول بني إسرائيل.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد ترجمان
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نادي دار العلوم
لا يجهل أحد من المتعلمين في مصر أن أهل نادي دار العلوم هُمْ عماد النهضة
العلمية العربية في هذا العصر، وسيكونون بعد اجتماع شملهم بهذا النادي أنفع للبلاد،
وأقدر على القيام بأعباء التعليم والإرشاد.
فتحوا باب البحث في التعريب والترجمة فأفادوا ما أفادوا. ثم فتحوا باب
البحث في مسألة الرِّبَا عندما اشتدت العسرة المالية ، وزعم كثير من الناس أن
المسلمين لا يمكن أن يحفظوا ثروتهم، ويجاروا غيرهم في الارتقاء إلا إذا تعاملوا
بالربا، وأنشأوا المصارف (البنوك) المالية. وأن الدين إذا كان يمنعهم من كل ما
يعرف عندهم بالربا فهو لا يوافق مصالحهم الاقتصادية والسياسية في هذا العصر.
خطب غير واحد من أعضاء النادي ومِن غيرهم في الربا ، فكانت خطبهم
ينابيعَ للفوائد النقلية والاجتماعية والاقتصادية. وقد سلك كل واحد منهم مسلكًَا أَنَارَ
فيه المسألةَ مِن بعض جهاتها كما فعلوا في مسألة التعريب والترجمة ، ولم يتصد
منهم أحد للكلام فيها من جميع الوُجُوه إلا الرئيس في خطبة الختام. وقد ألقى
صاحب هذه المجلة (المنار) كلمات وجيزة في ذلك أدمجناها في التفسير من هذا
الجزء ولم يكن بحث كل خطيب في الموضوع من بعض الوجوه عجزًا عن سائرها
وإنما كان ذلك هو المجلي للمسألة، والمقرب للصواب من الأفهام.
ثم بحثوا في مسألة الزواج ، والعادات في الْخِطْبَة ، والاحتفال في العرس
فأجادوا، وأفادوا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القبور المشرفة والتماثيل للموتى
اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر
نشر في (الجريدة) اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر تنقل إليه عظام
من مات منهم ، ويدفن فيه من سيموت مِن بَعْدُ.
نشر هذا الاقتراح بتوقيع (باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في
الحاضرة أو تمني مُتَفَرْنِج في العاصمة قَدِ استعجلَ جِدًّا بِهَدْمِ تقاليد قومه الدينية ،
ونقلهم من مبادي التقاليد الأوربية إلى غاياتها.
لا أُنْكِر أنّ بعض العلل التي بني عليها الاقتراح له وجه نظري معروف لمثله
وضعت الأمم الوثنية من قبل التماثيل والنُّصُب، وبنت القبور، وشرفتها، وعظمت
هذه الآثار الماثلة حتى عبدتها، ولكن كان إثْمُها أكبرَ من نَفْعِها، وشرُّها أكثرَ من
خيرها؛ ولذلك هدمها الإسلام، وحرم نَصْب التماثيل ، وتشييد القبور، وتشريفها كما في حديث عَلِيّ - كَرَّمَ اللهُ وجهَه - في صحيح مسلم وغيره: (لا تَدَعْ تِمْثَالاً إِلاّ
طَمَسْتَهُ ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاّ سَوَّيْتَهُ) .
رُبَّمَا قالت باحثة البادية أو باحث الحاضرة: إن الإسلام ما فَعَلَ ذلك إلا
ليطمسَ رسومَ الوثنية حتى لا تنازعَ التوحيدَ في سلطانه على النفوس ، وهذه العلة
مأمونة في هذا العصر (عصر المدنية والنور وعصر المادية والعلوم) وإذا انتفت
العلة انتفى المعلول.
لقد قال مثل هذا القول أحدُ طلاب علم الحقوق من أولاد علماء الدِّين ، ونشره
في المؤيد ردًّا على مَن أنكر نصب تمثال لمصطفى باشا كامل، وسكت له الجمهور
على ذلك ، ولكنهم لم يكونوا بسكوتهم مذعنين.
ما أسهل تفنيد هذه الشبهة على الاعتراف بِصِحّة ما قِيلَ مِن سبب تحريم
الإسلام للتماثيل والنصب والقبور المُشْرِفَة! ! ولا أكتفي بأن أقول: إن هذه شعائر
وثنية منع الإسلام صورتها؛ لأنها تذكر بمعناها ولو بعد حين، ويخشى أن تعيد روح
الوثنية إلى نفوس المستعدين، فلا نعيد هذه الصورة ، وإن أمنت العلة الآن، سدًّا
لِلذَّرِيعَةِ ولو في مستقبل الزمان، بل أقول أيضًا: إنّ العلة غير مأمونة في هذه الأيام،
لا سِيَّمَا عند جماهير العوامِّ، فلو نصبت التماثيل وبنيت الهياكل الخاصّة لبعض
القبور، فإنها لا تلبث أن تصبغ بالصِّبْغَة الدينية بمصر ، ويتبرك بها أو يعبدها
الجمهور، وأستدل على ذلك بأقوال دُعَاتِهَا وأفعالهم.
جاء في مقال (باحثة البادية) ما نَصُّهُ:
والعامّة من أهل مصر بل بعض الخاصّة لهم وَلَعٌ فائِق بزيارة الأضرحة ،
واعتقاد راسخ بنفع أصحابها؛ حتى إنك لو دفنت حِمارًا وبنيتَ له ضريحًا وقُبّةً
لَزَارَهُ عددٌ من الناس يتبَرّكون به وهم يعلمون أنه حِمَارٌ، فإذا كان الأمْر كذلك في
الحِمار؛ فكيف به في الرجال ، وكيف به في عظمائهم؟ اهـ
ونحن نقول مع الباحثة: إن عظماء الرجال يكونون أجدرَ بهذا التعظيم
والتبرُّك ، وهذا ما يحرمه الإسلام ويعده معارضًا للتوحيد.
ذكرت باحثة البادية من الرجال الذين تقترح نقل عظامهم للمدفن الجديد محمد
عبده ، ومصطفى كامل ، وقاسم أمين ، فنقول: كيف نأمن أن تُعَظَّمَ أَضْرحتهم
تعظيمًا دينيًّا بعد أن يُتخذ لها مكانٌ خاصٌّ يُقْصَدُ بالزيارة ، والأول منهم إمام من أئمة
الدين ، وداعٍ مِن دُعَاة القرآن ، ومُحَامٍ عنه وعن السُّنَّة، وأقوى خاذل في عصره
للبدعة؟
كيف نأمن ذلك والثاني منهم على كونه ليس مِن رجال الدين في العلم ولا في
الإرشاد، وليس له مقالة تؤثر في الكتاب ولا في السنة، ولا في الدفاع عن أصول
الإسلام وعقائده - قد نحله أشياعه جميع الألفاظ التي يعظمون بها أئمة
الدين وأولياءه ، كقولهم: فقيد الإسلام، رضي الله عنه، قَدَّس الله سِرَّه، قدس الله
رُوحَه. بل قرن بعضهم ذكره بذكر الأنبياء ، وكاد بعضهم يفضله عليهم. وذكر
أخوه الصغير في مناجاة ناجاه بها أن رُوحَه مُشْرِفَة على العَرْش يَعْنِي أنها فَوْقَ
عرش الرحمن! ! وذكر أخوه الكبير من أنباء ولادته نحو ما رُوِيَ في ولادة النبي
صلى الله عليه وسلم مِن أنه وُلد طاهرًا مختونًا، وجعله بعضهم ثاني النبي (صلى
الله عليه وسلم) في عظمته ، وكلامه كالإنجيل والقرآن. وقال فيه شوقي شاعر
الأمير:
لو كان للذكر الحكيم بقية
…
لم تأت بعد رثيت في القرآنِ
هذا وهو يعلم أن القرآن الكريم لم ينزل منه شيء في رثاء الأنبياء والصِّدِّيقِينَ،
بل كل ما قال في شأن موت من أنزل عليه وهو خاتم النبيين {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم
مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: 30-31) أي: إنك
يا محمدُ تموت وهؤلاء المشركون الذين قالوا: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} (الطور: 30) يموتون أيضًا، وتختصمون جميعًا عند الله تعالى. وقال: {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) ؟ الآية، وقد نزلت عندما فتن بعض المسلمين، فانهزموا في
وقعة أُحُد إذ صاح صائِح: (قُتِلَ محمدٌ) .
أفرأيت من يغلو فيه الناس ذلك الغلوّ الذي أشرنا إلى قليل مما قرأناه فيه ،
ونحن لم نقرأ إلا أقلّ ما كتب - وسكتنا عما سمعنا من بعض غلاة المارقين ، وما
رُوِيَ لنا عن بعضهم مِن مِثْلِ قولهم: إنه كان أفضل من الأنبياء ، وإنه نفعنا أكثر
مما نفعنا الإسلام! - أيستغرب أن يعظم تمثاله وقبره تعظيمًا دينيًّا؟
فيا أيها المتفرنجون أربعوا على ظلعكم ، وخففوا السير ، واتَّئِدُوا بهذه الأُمّة
المسكينة؛ فإن مصابها عظيم ، والخطر الذي يحيط بها أعظم فلا تستعجلوا بهدم ما
بقي لها من العقائد والآداب والأحكام الدينية ، وأنتم لم تبنوا لها دينًا ولا شريعة
أخرى أحسن مما جاء به الإسلام، ولا تستطيعون أن تحفظوا بقية الممالك التي
فتحها لكم الإسلام، إذا فرضنا أن ما ترمون إليه بالتماثيل ونقل عظام الموتى إلى
أضرحة عظيمة يزيد في تعظيم أصحابها والتبرك بهم والاقتداء بسيرتهم هو مما يفيد
في ترقيتها، وفرضنا أنه لا يقوي نزعة الوثنية فيها؛ فدعوه الآن لمجرد نصوص
أئمة المذاهب التي تنتمي إليها الأمة في تحريم نبش الموتى ، وتحريم نصب التماثيل
مطلقًا ، وخذوا بالأمة إلى أسباب العزة والقوة التي لا خلاف فيها شرعًا ولا عقلاً،
وهي كثيرة لا يكاد يدعو إليها داعِ، وقَلَّمَا يجمع لها مال أو يؤلف لها اجتماع.
أليست المدارس العلمية والدينية، والكتب التاريخية والفنية، والجمعيات
الخيرية والدينية والأدبية هي أنفع من القبور والتماثيل الوثنية؟ فلماذا لا تبذلون
لها المال، وتدعون إلى تعميمها في البلاد؟ أليست مدرسة مصطفى كامل أفضل ما
يعزى إليه من الأعمال؟ فلماذا لا تبذلون لترقيتها ما جمعتم للتمثال، أليست آثار
الأستاذ الإمام في إصلاح حال المسلمين والإسلام هي أفضل ما يحيا به ذكره،
ويرغب في التأسي به، فلماذا لا تبذلون المال لنشرها وتعميم النفع بها؟ .
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(4)
الفصل السابع [*]
(جمال خديجة والجمال عند قومها)
الجمال محبوب لذاته عند الطبع، ومحبوب لفائدته عند العقل، ومع كثرة ما
ألفت العيون رؤيته، والآذان سماع أحاديثه لا تزال أسراره موضوع التفكر، ولا
تزال دقائق تأثيراته محل الإعجاب، كيف لا ، وهو السر الأعظم في جذب الإنسان
إلى مقاماته العلى من الإبداع، والسبب الأكبر في إبعاد ما بينه وبين الحيوان في
مراقي الوجدان والإدراك، فشرفه مجمع عليه عند بني آدم بغير خلاف بينهم، وأيما
قوم حرموه فقد باءوا بحرمان عظيم؛ ولذلك لم نجد بُدًّا مِن ذِكْر هذه المزية
الأخرى لقوم (خديجة) فإنها مَزِيَّة جديرة بالذكر لا سِيَّمَا بعد أن اشتهر عند مَن لم
يعرف هؤلاء القوم أنهم كانوا لا حَظَّ لهم من الجمال، ولا ذوق لهم في الحُسْن، ولا
نصيب من توجه النفس إلى الأحسن.
كَبُرَتْ سُبَّةً أنْ يكونَ قومُ (خديجة) على ما يظن هؤلاء الذين لا يتآلف في
ذهنهم أن يكون القوم سكان إقليم حار ، وَذَوِي شَظَفٍ مِنَ العَيْشِ ، ثم يكونوا مع ذلك
ذوي خِلْقَة جميلة وصورة بديعة.
وكَبُرَ مِنّا تقصيرًا أنْ لا نُبَيِّنَ في هذا الباب ما هو من جملة مناقب هذه السيدة
وقومها ، فإن استغرب قوم لم يعيروا أسرار الخليقة نظرة تخصيصنا فصلاً لهذا
الموضوع، فإنهم سيرونه فيما بعد مكينًا في موضعه على أنه سيجد فيه المتفكرون
صاحبهم الأنيس، ويجد هو فيهم أهله الكرام.
إن العرب قد تناسبت أجزاؤهم، وتناسقت أوضاعهم، واعتدلت أشكالهم:
بياضهم جميل، ليس فيه بَهَق بعض الأجيال، وأُدْمَتهم لطيفة ليس فيها حُلْكَة بعض
الأقوام، ولَعَلّ مَن فازت من حسانهم بحظ عظيم من الجمال تقل نظائرها في حسان
الآخرين، وتكون آية المنتهى في جمال العالمين.
والمشهور أن الجمال يختلف في أذواق الناس، ولكل جيل قياس في الحُسْن لا
يأتي عليه قياس جِيل آخر ، ولكن مَن أَمْعَنَ بما يتناقله الكل من صفات الحسن يجد
ثَمَّةَ جهة جامعة ومقياسًا واحدًا تتفق معه المقاييس كلها ، وذلك أن الحُسْن الذي لا
خلافَ فيه ليس هو بلون الأديم وإنما هو باعتدال القامة، واستواء الهامة، وتناسب
أجزاء الوجه ومقاطعه، وحلاوة المبسم، وملاحة العينين، ولطف الحاجبين، ورقة
الشفتين، ولعل هذه المذكورات تكثر في العرب حتى ندر أن نجد غير موصوف أو
موصوفة بالحسن من مشهوريهم ومشهوراتهم.
وإذا أُضِيفَ إلى ما ذكرناه بياض الأديم وتشربه بحمرة أو صفرة كان ذلك
فضلاً في الجمال قد يبلغ به منتهى الكمال، ولم يكن هذا اللون قليلاً في العرب
عامّة وقوم خديجة خاصّة.
والعرب لم يكثروا في كلامهم مِن شيء بمقدار ما أكثروا مِن وصف الجمال ،
وقد رأيناهم يستحسنون هذين اللونين كثيرًا: البياض المُشَرب بِحُمْرَة أو البياض
الضارب إلى صفرة. قال ذُو الرُّمّة أحد شعرائهم:
بيضاء صفراء قد تنازعها
…
لونان من فضة ومن ذهب
وهذا اللون هو لون اللؤلؤ، وقد جاء في القرآن المجيد تشبيه حسان الجنة
باللؤلؤ المكنون ، ولا يختلف أحد إلى عهدنا هذا في أن هذا اللون هو الذي تكون
صاحبته أقرب إلى الكمال في الجمال ، إذا أخذت بحظّ مِن تناسب بقية الأوضاع ،
فإنه عندما ينطبع فيه الاحمرار لسبب من الأسباب تكون حمرته ألطفَ من الحمرة
الملازمة لبعض البِيض ، وعن مثل هذا عَبَّرَ عَدِيّ بن زيد أحد شعراء العرب بقوله:
حمرة خلط صفرة في بياض
…
مثلما حاك حائك ديباجا
ولكثرة البياض اللطيف في العرب شبّهوه بالصبح ، واشتقوا من الصبح لونًا،
فقالوا للأبيض صبيح، واشتقوا من الزهر لونًا ، فقالوا للأبيض المشرب بحمرة
أزهر. وتشبيههم بورد الخدود دليل على كثرة هذا اللون؛ فإن هذه الحمرة لا تنطبع
إلا على أديم أبيضَ ، ورأيناهم يشبّهون الأعناقَ كثيرًا بأباريق الفِضّة ، كما قالت
قريبة بنت حرب أخت أبي سفيان في أعمامها وأخوالها.
وليس بعجيب بعد أن كان الجمال الرائع من جملة خصائص العرب أنْ نجدهم
مغرمي القلوب بمجالي تجلياته، منصرفي الوُجوه إلى مشارق أنواره، ثم لا بدع
بعد ذلك إذا وجدنا حبّ الجمال قد لطف أذواقهم، وعوّدَهم على الاستحسان، ونقلهم
من حال إلى حال، إلى أن تَهَيّأوا لِقَبُول الدعوة التي رَقَتْ بِهم مِن هذا الجمال إلى
أعلى، ومِن هذا الغرام إلى ما هو أولى، نقلتهم إلى تصور الجمال الإلهي مصدر
كل جمال، وَرَقَتْ بِهم إلى عِشْقِ الكمال المعنوي الذي هو فوق كل كمال، فلم
يصعب على أولئك الذين شغفهم الجمالُ المحسوس، أن يفهموا الجمال المعقول،
وأن يزدادوا نصيبًا منه مع نصيبهم من ذاك ، ولم يعز عليهم أن ينتقلوا إلى العالم
الجديد الذي دعوا إليه؛ لأنه تَبَدَّى لهم أجمل مما كانوا عليه.
ونحن إذْ نَرَى للعرب الحظّ الأوفر من الشغف بالحسن والاستحسان يزيد
قدرهم في اعتقادنا ، ونرى مِن غير تردّد أنهم كانوا لذلك العهد مِن أرقى الأجيال
الراقية على بعدهم عن الزخرف، وعدم تعلقهم بكل أسباب الحضارة، ولعلنا إذا
بحثنا عن المؤثر الأعظم في وفرة جمال هذا الجيل نجد ذلك لأنهم خصوا بأخذ
المعتدل من المعاش، والتنقل في المعتدل من الأقاليم، وحبب إليهم المعتدل من
المهن والأعمال، وأضافوا إلى ذلك أنهم لا يتزوجون من غير رؤية غالبًا ،
وللانتخاب دخل كبير في تحسين الجنس، وتجويد النسل.
وإن بدا لأحدهم أن يتزوج بمن سمع بجمالها سماعًا تجده لا يقصر في البحث
والتدقيق بواسطة من يثق بحسن ذوقهن، وجودة إمعانهن، والحكاية الآتية تدلُّنا على
مقدار حرصهم على اختيار الجميل ، وعلى مبلغ هذا الشعب من الجمال:
أَرَادَ مَلِكٌ مِن مُلُوكِهِمْ (هو عَمْرُو بْنُ حُجْرٍ مَلِكُ كِنْدَةَ جَدُّ امْرِئِ الْقَيْسِ) أنْ
يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَوْفِ بْنِ مُحَلِّمٍ (الَّذِي يُقالُ فِيهِ لَا حرَّ بِوَادِي عَوْفٍ لإِفْرَاطِ عِزِّهِ)
وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهَا امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا عِصَامُ لِتَنْظُرَ إِلَيْهَا، وَتَمْتَحِنَ مَا بَلَغَهُ
عَنْهَا، فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَ لَهَا الْمَلِكُ: مَا وَرَاءَكِ يَا عِصَامُ؟
قَالَتْ: رَأَيْتُ جَبْهَةً كَالْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ يُزَيِّنُهَا شَعْرٌ حَالِكٌ، إِنْ أَرْسَلَتْهُ خِلْتَهُ
السَّلَاسِلَ، وَإِنْ مَشَّطَتْهُ خِلْتَهُ عَنَاقِيدَ كَرْمٍ جَلَاّهُ الْوَابِلُ، وَمَعَ ذَلِكَ حَاجِبَانِ كَأَنَّهُمَا خُطَّا
بِقَلَمٍ، أَوْ سُوِّدَا بِحُمَمٍ، قَدْ تَقَوَّسَا عَلَى مِثْلِ عَيْنِ الْعَبْهَرَةِ، الَّتِي لَمْ يُزْعِجْهَا قَانِصٌ ،
وَلَمْ يَذْعَرْهَا قَسْوَرَةٌ، بَيْنَهُمَا أَنْفٌ كَحَدِّ السَّيْفِ الْمَصْقُولِ، لَمْ يَخْنَسْ بِهِ قِصَرٌ وَلَمْ
يَمْضِ بِهِ طُولٌ، حُفَّتْ بِهِ وَجْنَتَانِ كَالأُرْجُوَانِ، فِي بَيَاضٍ مَحْضٍ كَالْجُمَّانِ، شُقَّ فِيهِ
فَمٌ كَالْخَاتَمِ، لَذِيذُ الْمُبْتَسَمِ، فِيهِ ثَنَايَا غُرَرٍ، ذَوَاتُ أشُرٍ، يتقلب فيه لسان ذو
فصاحة وبيان، يزين به عقل وافر، وجواب حاضر، يلتقي بينهما شفتان حمراوان
كالورد، يحلبان ريقًا كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركب في صدرها
تمثال دمية، يتصل به عضدان ممتلئان لحمًا، مكتنزان شحمًا، وذراعان ليس فيهما
عظم يمس، ولا عرق يجس، ركبت فيهما كفان رقيق قصبهما، تعقد إن شئت
منهما الأنامل، نتأ في ذلك الصدر ثديان كالرمانتين يخرقان عليها ثيابَها. إلى أن
قالت حين انتهت إلى وصف ساقيها: وشيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزمرد، يحمل
ذلك قدمان كحذو اللسان، فتبارك الله! مع صغرهما كيف يطيقان حمل ما
فوقهما؟ .
ووصفهم الحسن والجمال في الشعر مشهور، كقول بعضهم من قصيدة:
ويزين فوديها إذا حسرت
…
صافي الغدائر فاحم جعد
فالوجه مثل الصبح مبيض
…
والفرع مثل الليل مسود
وجبينها صلت وحاجبها
…
شخت المخط أزج ممتد
وكأنها وسنى إذا نظرت
…
أو مدنف لما يفق بعد
فهذا مثال من أمثلة الجمال العربي الذي كان لرهط خديجة حظ منه كبير ، ولم
يكن حظها هي منه قليلاً.
* * *
الفصل الثامن
(ثراؤها والثراء عند قومها)
وكان للسيدة (خديجة) مع ما آتاها الله من الجمال وفضائل النفس حظّ مِن
الثراء أيضًا ، وثراؤها في حياة أبيها ، وكانت تاجرة ، ولَعَلَّ أباها نحلها رأس المال
بَادِئَ بَدْءٍ.
لم يكن اشتغال سيدتنا هذه بالتجارة شيئًا يعجب منه في قومها؛ فإنهم كادوا
يكونون كلهم تجارًا، تقضي بذلك طبيعة مقامهم في ذلك البلد، وشريعة تربيتهم على
طلاب المجد واتساع السئود، ومنافسة الأقرب والأبعد، ولولا شغفهم بهذا لَمَا سمعنا
بصدى همتهم في التجارة مِن بين إخوانهم الآخرين، ولولاه لاستطابوا مِن العيش ما
استطابه ذلك الأعرابي الذي سُئِلَ عن طعامهم في البادية ، فقال لسائله: بَخ بَخ!
عيشُنا عيش تعلل جاذبه [1] ، وطعامنا أطيب طعام ، وأهنؤه وأمرؤه، القَتّ [2]
والهَبِيد [3] والصليب [4] والعِلْهِز [5] والذآنين [6] والعراجين [7] والضباب [8]
واليرابيع [9] والقنافذ [10] وربما أكلنا والله القِدّ [11] واشتوينا الجِلْد، فما نعلم أحدًا
أخصب منا عيشًا، ولا أرخى بالاً، ولا أعمر حالاً، أَوَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ شاعر وكان
والله بصيرًا برقيق العيش ولذيذه:
إذا ما أصبنا كل يوم مذيقة [12]
…
وخمس تميرات صغار كوانز
فنحن ملوك الناس خصبًا ونعمة
…
ونحن أسود الناس عند الهزاهز
وكم متمنٍّ عيشنا لا يناله
…
ولو ناله أضحى به حقًّا فائزًا
فالحمد لله على ما بسط من حسن الدَّعَة، ورزق من السَّعَة، وإياه نسأَلُ تَمَامَ
النِّعْمَةِ.
هذا ما استطابه الأعرابي، وَحَمِدَ الله عليه هذا الحَمْدَ. وما الأعراب إلا بشر قد
يستطيب غيرهم من البشر ما يستطيبون إذا خلصوا إلى مثل معيشتهم ، ومارسوها
لكن من الناس مَن لا يطلبون في الحقيقة ما يقيم مادة البدن فقط كما تطلبه سائر
الحيوانات ، بل يتسابقون إلى ما به الغبطة من المقتنيات والذخائر، ويتبارون في ما
به التمايز من المستحسنات والبدائع، وبمثل هؤلاء يزيد الله الإنسان بسطة من
المعارف، وقوة في المدارك.
وقريش كما عَرَفَ القارئ كانوا ممن أعدهم الله لعمل عظيم في الأرض ولا
يتمّ ذلك بحَسَب سنته سبحانه ما لم يكن في سابق تربيتهم وطرق حياتهم ما يلائم
الطريق الذي سيستأنفونه، وما أمامهم إلا المغامرة في السيادة على شعوب العالم بقدر
ما يستطيعون ، فلم يكن لائقًا بمن هم عَتِيدُونَ لِمِثْلِ ذلك أن يقيموا في بلدهم ولا
يعرفوا العالم، ولا تميل نفوسهم إلى خيرات السماء والأرض الفائضة في مُلْك الله
الواسع، بل اللائق بهؤلاء أن يكون كل واحد منهم أنطق حاله بقول ذاك الشاعر من
أبناء ملوك العرب (امرئ القيس) :
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني -ولم أطلب- قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
…
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وحقًّا كانت حال القرشيين ناطقة بمثل هذا الكلام، وكل منهم له في المجد
أَرَبٌ، فلا بدع إذا انصرفت أنفسهم إلى تحصيل المال فإنه أعظم أدوات هذا
المطلوب ، وقد نجح فيه منهم كثيرون، ونفعوا بالغنى قومهم عند الشدائد منهم عبد الله
بن جدعان الشهير بِجَفْنَتِهِ التي كان يقدمها للفقراء والمساكين من زوّار مكة وأهلها ،
وقد أمدّ قومه بالسلاح في حرب حاربوها، وسلح مائة كميّ من غير قومه ممن حارب
معهم ، وفي هذه الحرب قتل أحد إخوة السيدة (خديجة) العوام أبو الزبير [13] ،
ومنهم أمية بن خلف بن وهب وابنه صفوان الذي أثر عن النبي (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال فيه: (إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه) أي: بلغ
ماله القناطير [14] ، وكثيرون غير هؤلاء.
فيالله ، ما أشبه قريشًا الضاربين في أغوار رمال العرب وأنجادها؛ لنقل
المتاع من هذه البرية وإليها على مراكبهم سفن البر، بالفينيقيين الضاربين في أكباد
تلك المياه وأطرافها؛ لنقل البضائع من هذا الثغر إلى ذاك على مراكبهم قلائص
البحر، فلئن كان لأبناء تلك السواحل رحلتا شتاء وصيف بين زئير الأمواج،
ومعاركة الأمواه، فلأبناء هذه البراري أيضًا رحلتا شتاء وصيف بين عواء السباع،
ومعالجة الرمال.
لَعَمْر الحق ، قد أدرك القوم أن الخير كل الخير لأنفسهم ولجيرانهم إنما هو في
أن يخفوا للتجارة؛ لأنها في الأمم أقوى الأسباب المقربة من البدائع، المبعدة عن
الحياة الوحشية، فقاموا بهذا المرغوب غير كسالى، فكان لذلك ربحهم عظيمًا من
المال، ومن ملكة الاختلاط بالأقوام في ذلك العصر السحيق والمكان البعيد.
وكان بلدهم على هذا البعد عن العمران المتصل وسطًا صالحًا للتجارة في تلك
البرية بواسطة الحج ، الذي كانت تحجه العرب إلى البيت المعظم الذي فيها
وجدير ببلدة يحج إليها العرب ذلك الحج أن تكون للأمن دارًا، وإنما تبسق شجرة
التجارة في رياض الأمن.
وكانوا يقيمون من حولها أسواقًا موقتة في العام قبيل أيام الحج ، ويفدون إليها
ليبيعوا ويشروا. أشهرها سوق عكاظ كانت تقوم في أول يوم من ذي القعدة
(وعكاظ) بين مكة والطائف ، ومن أسواقهم هذه (ذو المجاز) وهو عند عرفات،
و (مَجَنَّة) وهي موضع بأسفل مكة، و (بدر) وهي بين مكة والمدينة.
ولقد كان لسوق عكاظ من خطير الشان أن النعمان بن المنذر مَلِك الحِيرة
على اتصاله ببلاد الحضارة ، وبعده عن مكة كان يبعث كُلَّ عام إلى سوق عكاظ
جِمَالاً محمّلة بَزًّا وطيوبًا لتباع في هذه السوق ويشرى له بثمنها من أدم الطائف [15] ما
يحتاج إليه ، ولم يكن يرسلها في هذا الطريق البعيد التي تمر فيه على قبائل شتى
حتى يجيرها له شريف من شرفاء العرب.
وهذا يدلنا على أن تلك البلاد لم تكن تأتي بالحاصلات من غيرها فقط بواسطة
التجارة، بل كانت تخرج إلى غيرها حاصلاتها أيضًا ، ومع أن الشام مشهورة
بأعنابها وفواكهها، كان تُجّار مكة يأخذون إليها من زبيب الطائف، ذلك الزبيب
الذي أدهش حسنه وكثرته سليمان بن عبد الملك لَمّا رأى بيادره؛ فقال: لله دَرّ قيس
في أي عش أودع فراخه. يريد بقيس: ثقيفًا ، فكذلك كان اسمه وحسبك أن النعمان
بن المنذر كان يرسل يأخذ من أدمها.
فتجار مكة لم يكونوا يذهبون فارغي الأحمال إلى الشام وإلى غيرها أحيانًا،
بل كانوا يذهبون ببضاعة حجازية مما تخرج تلك الأرض من نبات ومعدن ،
ويرجعون ببضاعة شامية أو غيرها مما تخرج الأرض وتصنع الأيدي. وآخرون
مقيمون غير ظاعنين ليقيموا السوق الدائمة في تلك البلدة (أم القرى) .
ولا يستريح القارئ حتى يعلم ماذا كانت تخرج تلك الديار إلى غيرها من
الأشياء، فإنه كلما تصورها غير زراعية وغير صناعية يضيق ذهنه عن معرفة ما
يصلح أن يخرج منها، وله العذر في ذلك، أمّا نحن فنذهب حيرته ببيان وجيز لا
يسعنا أكثر منه لئلا ينقطع الحديث ، فنقول: إن تلك البلاد في نفسها رأس مال
طبيعي كسائر البلاد. ذلك بما تشتمل عليه من معادن ونباتات برية يصلح بعضها
للصبغ ، وبعضها للدبغ ، وبعضها للطب ، وبعضها للطيوب ، وبعضها للتنظيف،
فإذا أضفت إلى ذلك ما كانوا يجففونه من ألبان الحيوانات ، وما يستخرجونه منها من
الزبد ، ومن أصوافها وأوبارها وجلودها، وما كانوا يجففون من التمر والزبيب ،
وغيرهما تجد بضاعة غير يسيرة يحمل مثلها إلى أطراف بلاد الشام مما هو إلى
الحجاز أقرب؛ بل ربما راجَ بعضُه في العواصم.
نحن اليوم لا نتصور مجتمعًا حضريًّا إلا بأن يكون فيه أمير مسيطر وجند له
حافظون، وزراع وصناع وتجار للمعاش ضامنون، وقد رأى القارئ أن مجتمع
(خديجة) قام بغير مسيطر وجند له ، فعسى أن لا يقيس على استغنائه عن سيطرة
الأمير استغناءه عن الزراعة والصناعة والتجارة كلاّ، فإن هذه الثلاث لا قوام لقوم
بدونها.
ونحن إذا ذكرنا ما كان من النصيب لقوم (خديجة) منها لا نقصد به عدّ
مفاخر لهم إلا من جهة أنهم تغلبوا بمداركهم وهممهم على كل ما كان يحول بينهم
وبين المغامرة في إدراك شَأْوِ الأمم، والابتعاد عن البداوة مِن بعد أن أوشك جوار
البادية أن يجذبهم إليها كما جذب إخوانهم الآخرين.
فهم تحضروا في ذلك البلد بين أهل البادية، وفي منقطع عن العامرة، وأعطوا
الحضارة حقَّها على صعوبة الوفاء لها بهذا الحق، وتراهم مع هذا لم يخالفوا سنن
العرب فيما يأنفون منه ، ويترفعون عنه ، فأقاموا ما احتاجوا إليه من الصناعة في
بلدهم ، ولكن على أيدي عبيدهم؛ لأن العرب كانت تأنف من بعض الصناعة ،
وكذلك أقاموا ما احتاجوا إليه من الزراعة على أيدي عبيدهم، ولم تكن الزراعة
كثيرة في بلدهم ، ولكن لم يكن خاليًا منها أَلْبَتَّةَ، فهناك أودية يجود فيها الزرع
والغراس ، وتجري فيها العيون. وما الطائف عنهم ببعيد، وهو أبو الزراعة.
أما التجارة فلم تكن العرب تأنف منها؛ فلذلك باشرها القوم بأنفسهم، كما باشر
بعضهم بعض الصناعات التي ما كانوا يأنفون منها، فمنهم مَن كان يبيع اللباس،
ومنهم من كان يبيع الأدهان، ومنهم من يبيع اللحم، ومنهم من يبيع الأداة والماعون
والسلاح، ومنهم من يبيع الرقيق خاصَّةً.
وبالجملة كان فيهم باعة لكل الأشياء التي تدور عليها حاجة الإنسان المتحضر
مِن صنوف الأكسية المعتادة، وضروب الأطعمة والأشربة المعهودة، وصنوف
الماعون والأداة اللازمة، والعقاقير المعروفة، والحيوانات المتداولة، والأسلحة
الشائعة، ولم تكن سوقهم تلك خالية من السماسرة ويقال: إن عمر بن الخطاب الخليفة
الثاني الشهير كان بَزّازًا. ويُقال: إنه كان سمسارًا كما أن أبا بكر الخليفة الأول كان
بزّازًا رضي الله عنهما .
ومهما كان ذاك المجتمع أقلَّ تشبُّثًا بالزخرف ، وأبعد عن التسابق إلى المتاع
الزائد عن الحاجة نرى أن حاجاته التي تحتاج إلى عمل التجار لم تكن قليلة ، ونرى
أنها وحدها كافية لأن يكسب بعضهم بواسطتها كثيرًا من المال، فالتجارة ولا شكَّ
هي السبب الأول في ثراء قريش وكثرة المثرين منهم؛ لأننا لم نعهد لهم إلى ذلك
العهد وجهًا من وجوه المرابح، ونماء المال أعظم منها.
وأصناف الأموال التي كان الثراء بها عندهم هي الذهب والفضة، والإبل،
والرقيق، والأراضي للزرع والغراس، والأراضي للمعدن.
أما الذهب والفضة فهما الواسطة العظمى في تبادل العروض والأعيان ، ومن
مطالعة أخبار القوم يظهر أنه كان لديهم منهما شيء كثير.
من شواهد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صفوان بن أمية
قنطر في الجاهلية ، وقنطر أبوه) ومن شواهد ذلك أنه بعد أن ظهر الإسلام،
وانقسموا قسمين: أحدهما مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار هجرته
(المدينة) والآخر عدو له في وطنه مكة ، أدّت تصاريف العداوة إلى اشتعال حرب
بين الفريقين في المحل المسمى ببدر بين مكة والمدينة؛ فكان الظفر لأصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ووقع في أيديهم من عشيرتهم سبعون أسيرًا افتدوا أنفسهم ،
ووزنوا في فدية الواحد أربعة آلاف درهم
فتكون الجملة نحو مائتين وثمانين ألف درهم؛ أي: نحو عشرين قنطارًا مصريًّا
من الفضة ، ولم يحدث في ذلك البلد الصغير أقل ضيق من هذا المقدار الذي
وزن أهل كل أسير منه ما عليه. وما هو بالمقدار الكبير ، ولكنه يدل بالجملة على
وفرة هذه الدراهم، وتيسرها عند القوم.
ومنها ما ورد من أنهم أنفقوا على حرب النبي في أُحُد ربح العير التي جاء بها
أبو سفيان من الشام، وقدره خمسون ألف دينار.
وكانت النقود التي يتداولونها من ضرب الروم غالبًا، وبعضها كسروي ،
ولكن لم يكونوا يتداولونها إلا بالوزن ، ولعل ذلك لعدم إتقان ضربها على وتيرة
واحدة ، وقد ظلت النقود الأجنبية إلى أيام عبد الملك بن مروان، فهو الذي أحدث
النقود المكتوب عليها بالعربية.
وأما الإبل فهي أوفر أصناف أموالهم، والإبل مال كثير البركة لصاحبه،
فالقليل منها فيه الغنى والغناء، والنعمة والهناء، من درِّهَا الغذاء، ومن أوبارها
الكساء، ومن جلودها الماعون والحذاء، ومن بعرها الوقود للطبخ وكشف الظلماء،
وظهورها مراكب للظعن والحمل والنجاء [16] ، وبطونها أعظم بها واسطة للنماء،
فبعيشك أيها المطالع في أي صِنف من أصناف الأموال الحضرية يجد أحدنا مثل هذه
البركة، التي لا تحتاج إلى شيء عظيم من الحركة؟
وأما الرقيق فقد كان في ذلك العهد يعد مالاً في جميع جهات الأرض، وكان
هؤلاء القوم من أغنى الناس في الرقيق، وإذا صرفنا النظر عن استجهان هذه العادة
نرى أن لا شيء أنفع من عمل الآلة المتحركة بنفسها، النامية بطبيعتها، المدركة
بخلقتها.
وأما الأراضي للزرع والغرس فكان فيهم أفراد يملكون منها كثيرًا ، ومن
متمولي قريش من كان يملك أراضٍ في الطائف كعتبة وشيبة ابني ربيعة (من فخذ
بني عبد شمس) وغيرهما.
وكان نظر القوم إلى الزرع والضرع أعظم من نظرهم إلى الذهب والفضة،
فقد سئل بعضهم عن الذهب والفضة ، فقال: حجران يصطكان إن أقبلت عليهما
نقدا، وإن تركتهما لم يزيدا، إن أفضل المال بُرَّةٌ سمراءُ في تربة غَبْرَاءَ، أو
عين خرارة، في أرض خوارة. أشار بهذه الكلمات القليلة إلى أن الموجب لنماء
الثروة هو العمل في استخراج الخيرات الطبيعية من الأرض التي هي أول رأس
مال، أما الذهب والفضة المتداولان فواسطة لوزن حركات دولاب الأعمال فقط.
وهذا هو الأُسُّ الصحيح في عِلْم ثروة الأمم.
وأما أراضي المعدن فالظاهر أن بعضها كان مشاعًا ، وبعضها كان مملوكًا،
أمّا كونُ بعضها مشاعًا فنأخذه من عادة العرب في جاهليتهم مِن أنهم لم يكونوا
خاضعين لمثل سنن البلاد التي فيها ملوك.
والمعادن إنما يجعل لها حمًى وحرمًا الملوك الذين يعدونها من جملة الأموال
العمومية التي هي حقّ للخزانة العمومية خزانة المملكة.
وأما كون بعضها كان مملوكًا فنستفيده مما قرأناه عن ملك بعضهم لبعضها
كالحجاج بن علاط السلمي [17] الذي كان يملك معادن بني سليم. وكأنهم لشيوع مُلْكِ
بعض الناس بعض المعادن كان من الناس من يطلب من النبي بعد الفتوح أن
يقطعه شيئًا منها، فقد طلب بلال بن الحارث أن يقطعه معادن القَبَلِيّة (منسوبة إلى
قَبَل بفتحتين) وهي ناحية من ساحل البحر ، بينها وبين المدينة خمسة أيام ،
فأقطعه إياها، وأقطعه جبل قدس [18] للزرع.
هذه هي أصناف الأموال التي كان بها ثراء هؤلاء القوم يضاف إليها العروض
والأمتعة التي كانت تتداول في التجارة ، وإلى مثلها يئول اليوم كل ثراء فاز ملك
الأرض والمعادن لا يزال أيضًا ينبوعًا ثرورًا للثروة، واستخدام الفعلة بأجر بَخْسٍ
نوع من الاستعباد والاسترقاق، أعني أن فائدته المادية كفائدته، والنقود لا تزال
كثرتها وقلتها أيضًا معيارًا عظيمًا لثروة الأمم، وعلى مقدار ما تقدم كله يكون محور
التداول للعروض والأمتعة والأثاث والرياش.
وقد كان مَن لا يستطيع أن يباشر التجارة بنفسه أو السفر من أجلها يعطي مِن
ماله إلى آخر على أن يتجر به ويكون الربح بينهما أو يعطيه بالربا، وكان معهودًا
فيهم، أو يستأجر آخر ليقوم له بتجارته والأمانة هي الغالبة، فلم يكن بأس على
المال بتسليمه إلى مَن يتجر به بالمؤاجرة أو المضاربة؛ فلذلك لم تصعب التجارة
على السيدة خديجة التي كان لها ما لنساء قومها من الاستقلال في أموالهن، ولم يكن
لأبيها ولا إخوتها سلطان في ذلك المال الذي كانت تبعث به إلى التجارة مع ذوي
الأمانة ذاهبًا وآيبًا.
وفي إيثار هذه السيدة إرسال أموالها في التجارة على الإتجار بالنقود في مكة
كما يفعل المرابون دلالة على بعد نظرها، وعلو همتها، وعظيم عطفها وحنانها
على وطنها، فإن الأوطان تسمو بإقدام أرباب أموالها على نشر اسمها في العالم
بالبيع والشراء، وإظهار صنوف الثراء، ولا يكون لها مثل ذلك بشيوع المتاجرة
بالنقود.
* * *
الفصل التاسع
(زواجها قبل النبي صلى الله عليه وسلم
تزوجت خديجة قبل النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ: تزوجت أبا هالة
النَّبَّاش بن زُرَارة، وتزوجت عتيق بن عابد المخزومي. وكان الزواج المرضي في
الجاهلية كالزواج في الإسلام؛ أي: إن الرجل يخطب إلى الرجل بنته أو مَن له عليها
ولاية ، ويقدم صداقها فيزوجه. وأما ما يذكر من أنواع أنكحة الجاهلية الأخرى فهو
من باب السفاح، لا من باب الزواج المرضي، ولم يكن السفاح والمخادنة من فعل
الشرائف والكرائم، وإنما يفعل أغلب ذلك الإماء والحقائر.
وولدت هذه السيدة ولدًا من أبي هالة، وسمته (هِنْدًا) على عادة العرب إذ كانوا
يضعون للذكور أحيانًا أسماء الإناث ، فهند هذا هو ربيب النبي - صلى الله عليه
وسلم - أخو فاطمة لأمها عليهما السلام، وقد عاش، وأدرك الإسلام، وأسلم.
روى عنه ابن أخته الحسن بن علي حديث وصف النبي - صلى الله عليه
وسلم - المشهور في الشمائل ، وكان هند وصافًا وحديثه هذا أبلغ ما وصف به النبي
صلى الله عليه وسلم ، وقد قتل هند مع علي يومَ الجَمَل.
سيعجب القارئ من زيادة تعريفنا لابنها هذا ، ونحن لا نكتمه السبب، وذلك
أننا نحب أن لا ندع شيئًا مما يتعلق بسيرة هذه السيدة مغفلاً ومهملاً ولا سِيَّمَا بعد إذ
رأينا أكثر الذين كتبوا في سيرتها لم يتعرضوا لذكر وَلَدِها هذا، فكاد يضيع ويخفى
إلا على المنقبين في بطون الأسفار الواسعة ، وعذرهم في ذلك أنهم إنما يتعرضون
لسيرة هذه الفاضلة على الغالب منذ تشرفها بزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن لنا - والحق يقال - حقًّا على هؤلاء الناس الذين يريدون أن يعرفونا
بشخص ممن مضى ، فيمسكون أنفسنا بالشيء من أخباره ، ثم يقطعونه ويجذبونها
إلى شيء آخر.
على أنني لا أنكر أنه إذا سطعت الشمس لا يبقى لبصيص السراج مكان. فمن
ذا الذي يعلم أن هذه السيدة اتصلت بشمس الهدى (محمد) صلى الله عليه وسلم ،
وولدت منه (فاطمة) الزهراء أم الحسنين ثم يرجع باحثًا عن ابنها ذاك من زوجها
الأول أبي هالة.
لعمرك إذا وصلت بسيرتها إلى هذا المقام تضاءل أمام نظرك كل ما تسمع
عن أيامها الماضية ، واستشرفت نفسك إلى الاطلاع على هذا الشأن الجديد الذي
سيكون لهذه السيدة مع هذا الزوج الكريم الذي رنّ الكون كله باسمه الشريف.
فمِن هنا بدء الحياة العليا لهذه السيدة، ومِن هنا بدء خلود اسمها في لوح
الوجود، وبدء إشراق مواهبها في سماء السعود، أمامها الآن الشمس بلا حاجز،
فليستمد جوهرها القابل، وليفض نورًا وسناءً، وليتبارك كمالاً وبهاءً.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) من سيرة السيدة خديجة.
(1)
تعلل: من العلل، وهو الشرب بعد الشرب.
(2)
القت: الفصفصة، وهي الرطبة من علف الدواب.
(3)
الهبيد: الحنظل يكسر ، ويستخرج حبه، وينقع لتذهب مرارته، ويتخذ منه طبيخ يؤكل عند الضرورة.
(4)
الصليب: الودك، يستخرجونه من العظام بعد أخذ اللحم منها.
(5)
العلهز: قراد كبير، ونبات ينبت في بلاد بني سليم ، وطعام يتخذ في المجاعة من الوبر والدم.
(6)
الذآنين: جمع ذؤنون، نبت طويل ضعيف له رأس مدور.
(7)
العراجين: جمع عرجون، العود من النخال.
(8)
(9)(10) الضباب واليرابيع والقنافذ: حيوانات معروفة.
(11)
القد: جلد السَّخْلَة.
(12)
المذيقة: تصغير مذقة، وهي شربة من اللبن الممزوج بماء كثير.
(13)
تحاربت في هذه الحرب قريش وهوازن، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أربعةَ عَشَرَ عامًا ، وحضرها مع أعمامه يهيئ لهم النبل، وعبد الله بن جدعان سري شهير ومثر كبير وهو من فخذ بني جمح.
(14)
أمية من فخذ بني جمح أيضًا، وقد قتل في وقعة بدْر، وكان مع أعداء النبي صلى الله عليه وسلم أما ابنه صفوانُ فأسلم بعد فتح مكة ، وكان من المؤلّفة قلوبهم.
(15)
الأدم بضمتين وبفتحتين: الجلود المدبوغة، والواحد أديم.
(16)
النجاء: الهرب.
(17)
الحجاج بن علاط ليس بقرشي بل هو من بني سليم، ولكنه كان متزوجًا من قريش من بني عبد الدار رهط (خديجة) ، وكانت أمواله تستثمر في مكة، وكان مكثرًا من المال أسلم يومَ فتح خيبر ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: إن لي ذهبًا عند امرأتي (في مكة) ، وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي، فائذن لي لأسرع السير وأخبر أخبارًا إذا قدمت أدرأ بها عن مالي ونفسي، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وقدم مكة وأخذ أمواله بحيلة.
(18)
جبل قدس معروف في جوار المدينة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية
الجمعة 25 جمادى الآخرة - 11 تموز (24 يوليو)
في هذا اليوم السعيد استعاد العثمانيون قانونهم الأساسي ، ومجلس الأمة الذي
يكفله، استعادوهما بسعي الأحرار، وتعزيز الجيش الجرار، فهو عيد الأمة
العثمانية على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها.
في هذا اليوم استنشق العثمانيون نسيم الحياة السياسية والاجتماعية، وذاقوا
حلاوة طعم الحرية، فكان مثلهم كالمصاب بداء عُضَال عادت عليه صِحّته على حين
فجأة؛ فكان قدر الحياة عنده عظيمًا.
في هذا اليوم شعر العثمانيون كلهم بأنهم أحرار في بلادهم، يتمتعون بما
وهبهم الله من القوى العقلية والمشاعر والأعضاء، ويستعملون استعدادهم الفطري
فيما خلق له من العلم والعمل، لا يستبد في عملهم مستبد جائر، ولا يستعبدهم حاكم
قاهر، فكان رجاؤهم في الارتقاء كبيرًا.
في هذا اليوم أمن العثمانيون على حياتهم وشرفهم وأموالهم؛ مِن حَرْث ونَسْل
وتجارة وصناعة، فتوجهت نفوسُهم إلى الكسب الذي يرفه معيشتهم، وبه تنمو
ثروتهم وتنتظم مالية دولتهم.
في هذا اليوم أحسَّ العثمانيون بأنهم أُمّة لهم حقوق على دولتهم، ومصالح يقوم
عليها بناء وحدتهم، وعليهم فروض وواجبات يؤدونها لحكومتهم، ولهم قانون
يساوي بينهم في معاملاتهم، وأن لهم بذلك كله جنسية جامعة لهم على اختلاف
أنسابهم ولغاتهم، وتباين مذاهبهم ودياناتهم.
في هذا اليوم وجد العثمانيون عاطفة الإخاء والوداد، وجاذبة الولاء والاتحاد،
فصافح المسلم النصراني، وصالح الكردي الأرمني، وعانق التركي العربيَّ، بل
امتزجت العناصر كلها في بوتقة القانون الأساسي، فكانت كسبيكة واحدة مِن الذهب
لا زَغَل فيها ولا صدأ عليها.
في هذا اليوم استراح العثمانيون من ثقل وطأة الجواسيس، وأمنوا شرور
عمال السعاية والتلبيس، وعلموا أنه لا يُخْشَى عليهم إلا من سوء أعمالهم، ولا
يُظلمون إلا من قِبَل أنفسهم.
في هذا اليوم نفض العثمانيون غبار الذل عن رءوسهم، وأَلْقَوْا أوزار المسكنة
عن كواهلهم، وطردوا غول الفقر الذي نزل في ربوعهم، وهزموا جند اليأس الذي
حل بين ضلوعهم، وهبت عليهم نفحات الرجاء ببقاء شوكة دولتهم نافذةً قويةً،
وارتقاء بلادهم في معارج العلم والمدنية.
في هذا اليوم أنشأ العثمانيون المشتتون في أطراف البلاد، والهائمون من
الخوف والاضطهاد في كل وادٍ، يحنون إلى بلادهم التي هي خير بقاع الأرض
تربةً وأطيبها هواءً، وأعذبها ماءً، ويشتاقون إلى أهلها الذين هم أطيب الناس
عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأشدهم مودّةً وعطفًا، وأسخاهم نفسًا وكفًّا، وسيعودون
إليها زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا، رِجَالاً أو ركبانًا، وكانوا قد زهدوا فيها كارهين، وهجروا
أهلها مُكْرَهِين.
في هذا اليوم تستعد السجون المظلمة، والصحاري المقفرة، والجزائر
المنفردة، لردّ ما أودع فيها من الأحرار الأخيار، الذين حاربوا الظلم، وواثبوا
الاستبداد، ونشدوا القانون والحرية، ودعوا إلى العدل والمدنية، فمزقت الحكومة
الشخصية المطلقة شملهم ونكلت بهم تنكيلاً.
في هذا اليوم يخفق قلب المملكة العثمانية شوقًا إلى لقاء أبنائها الأحرار
الأبرار ، الذين طوّحت بهم السياسة فأبعدتهم عن أُمّتهم، في أشد أوقاتها حاجةً إلى
خدمتهم، وترجو أن يشتد بعودتهم إليها أزرها، ويستقيم أمرها، حتى تفاخر
أعظم البلاد مدنية وعمرانًا.
في هذا اليوم تبتسم ثغور البلاد العثمانية ، ويتهلل وجْهُ بُرُدها بلقاء كتب العلم
النافعة، وصحف الأفكار المنيرة، والأخبار الصحيحة، التي كان الاستبداد قد قضى
عليها بأن تستقبلها عابسةً باسِرَةً، ثم تجعلها وقودًا للنار، وبئس القرار.
في هذا اليوم أنشأت أفكار العثمانيين تجول في ميادين الأعمال الأدبية،
والمصالح السياسية والمالية، والآمال ملء قلوبهم، والرجاء ينير السبل أمامهم.
في هذا اليوم تنحل عُقُل الأقلام، فتجري على صفحات المهارق، وتنجلي
سحب العقول والأفهام، فتشرق شموسها على عالم الحقائق، وينكسر قفص الفكر
والخيال، فتغرّد طيورهما في فضاء الرقائق، فيتبارى العقلاء المستقلون، والكُتاب
المنشئون، والشعراء المبدعون، وكُلٌُّ في فلك الحرية يسبحون.
في هذا اليوم تَقَرُّ في البلاد العثمانية عَيْنُ الإسلام، بما يسرُّ به جميع أهل
الأديان، من الحرية التي تظهر فيها الحُجّة وتدحض الشبهة، ويتميز بها صاحب
السُّنَّة مِن صاحب البدعة، ويكون الدين كله لله، لا للسلطة ولا للجاه، فبالحرية
تنكشف الحقائق، ويُزَيَّلُ بين الصادق والمنافق، ويقذف بالحق على الباطل ، فإذا
هو زاهق.
الفضل في هذه المزايا الكثيرة التي نلناها في هذا اليوم لجمعياتنا السياسية
العاملة، ولضباطنا ذوي النباهة والغيرة والحمية والبسالة، الذين اتحدوا مع إخوانهم
السياسيين، وأنذروا الاستبداد بالوثبان عليه، والقضاء على سلطته بقوة السلاح،
إذا لم تَنَلِ الأُمَّة مطلبها مع حفظ الأرواح.
فالواجب على هذه الجمعيات المدبرة، والقوة المنفذة، أن تكفل الدستور الذي
نالته الأمة، حتى تأمنَ عليه من دسائس أعوان الاستبداد، الذين قاموا بتنظيم
حكومة الجواسيس أعظم قيام، وأول عمل يجب عليها هو السعي لإبعاد أعوان
الاستبداد عن دار السلطنة - لا عن دار السلطان فقط - ومحاكمة مَن يمكنُ أن يسترد
منهم العدل، ما وهبهم الجور والظلم، وتشكيل وزارة حُرّة تقوم بأعباء السلطنة،
وتنتقي الولاة والمتصرفين والقضاة ورؤساء العدلية من أخيار الأحرار، الذين يرجى
أن تصلح بهم الإدارة ويستقيم القضاء، ويحفظ الأمن ويستقر العدل، لتندفع الأُمّة
إلى الأعمال النافعة في ظلّ الحرية الظليل. ثم العناية بأمر انتخاب نواب الأُمّة
بانتداب عقلاء الأحرار في كل ولاية إلى تنبيه أهلها لخيار رجالهم المعروفين
بالاستقامة والاستقلال والحرية.
إذا نحن كفينا شر المستبدين الأولين، ونلنا وزارة من الأحرار المستقلين،
فالواجب علينا أن نقف عند هذا الحدّ من المطالب في العاصمة، وتعود السيوف إلى
أغمادها، وتنصرف الضباط إلى سابق شأنها، مع إحكام الروابط الخفيّة، بينها
وبين الجمعيات السياسية، ويتوجه الأحرار إلى إصلاح حال المملكة، بجميع
الوسائل الممكنة.
والحَذَرَ الحَذَرَ؛ من عواقب نشوة الظفر، الحَذَرَ الحَذَرَ مِن إهانة شخص
السلطان، والتسلق إلى عرشه بالبغي والعدوان، فمادام السلطان مستويًا على عرشه
فهو رئيس الأمة ومرجع سلطتها، ومنفذ قوانينها وشريعتها، والوزارة هي الواسطة
بينها وبينه، فاعتداء المرءوس على الرئيس بإدلال القوة، دون القانون والشريعة،
مجلبة للفوضى ومدعاة للخلل، ويخشى في مثل الحال التي نحن فيها أن يفضي إلى
الخطر.
أي الأمرين خير؟ أأن يعتقد السلطان أن ما صار إليه، خير مما كان عليه،
أم العكس؟ أأن يرى أن أولئك الذين كانوا يدلونه بغرور، ويمدونه في تلك
الوساوس والأمور، قد أخلصوا النصح له، وحفظوا شخصه وسلطته، أم أن يراهم
قد خدعوه وغشّوه، واستغلوا ما رأوه من الضعف البشري فيه، فبغَّضوا إليه أُمّته
الكريمة، وزينوا له محاربة حريتها بما أوتيه من الذكاء والعزيمة، وحببوا إليه
التجسس والاستبداد، وقبحوا في نظره الهدى والرشاد؟
إذا كان من المعقول أن السلطان يحب السلطة المطلقة ويؤثرها، فليس من
المعقول أن يريد السلطان بالدولة أو الأمة السوء ويكره لها الخير، وكل ما جرى
من السوء في تلك السنين النحسات فإن أسبابه وعلله ترجع إلى أمْر واحد وهو
خوف السلطان على نفسه وعلى منصبه مِن أحرار أُمّته، وتبع ذلك اعتقاده أن
أولئك الأشرار الذين اصطفاهم هم حماته والمخلصون له - وهم غير مخلصين إلا
لبطونهم ملأها الله نارًا - فإذا رأى اليوم نجباء الأحرار محيطين به من كل جانب،
وقابضين على زمام السلطة والقوة، ولم يَرَ منهم إلا الأدب والكمال، والعمل
بالإخلاص، ألا يقول في نفسه: إذا كانت هذه سيرة هؤلاء معي بعد أن نكلت بهم
تنكيلاً، ومزقتهم في الأرض كل مُمَزق، فليْتَ شِعْرِي كيف كانوا يكونون معي لو
سرت معهم من أول الأمر على الدستور؟ وكيف كان تقدم المملكة الآن؟
إن الحكومة الجديدة لا تستغني عن تجارب هذا السلطان، وعن ذكائه الذي
تضرب به الأمثال، وعن براعته في حل المشاكل السياسية، لا سِيَّمَا في السياسة
الخارجية، وليس بينها وبين الاستفادة منه، إلا أن يأمن هو لها وتخلص هي له.
إن أفضل ما نفاخر به الآن هو أننا نلنا الدستور من غير إراقة للدماء، ولا
إيقاع البلاد في فوضى الثورة، ولا غير ذلك مما يذمّ ويكره، فيجب أن نحافظ على
هذه الفضيلة، وأن لا يرتكب في طلب الفرع، ما عصمنا الله منه في طلب الأصل،
فعسى أن يكون تاريخنا في هذا الطور من الحياة أنظف من تواريخ جيراننا فيه.
إذا نحن اقتحمنا عقبة هذا الانقلاب بهدوء وسكينة ، فإن رجاءنا في اقتحام ما
وراءها من العقبات يكون أقوى، وأملنا في مجلس الأًمّة يكون أعظم.
نَعَم ، إن أمامنا عقبات كثيرة منها ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام الظالمين
للحرية الجميلة التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا، ويهيمون بها شغفًا، ومنها ما
هو أقرب إلى الوقوع كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين المتعصبين والمقلدين،
ومنها مسألة تكوّن الجنسية العثمانية، وما يقف في طريقها من جنسيات الشعوب
التي يتألف منها جسم الدولة العَلِيّة، فمن المُطالَبُ بالنظر في ذلك؟
وإن أمامنا من مشكلات المسائل الأدبية ما يلي المسائل السياسية في استرعاء
همتنا، واستدعاء عنايتنا، فإن الحرية التي فاجأت بلادنا، ستعبث بأخلاقنا وآدابنا،
وتحدث شيئًا من التفرّق بين جمعياتنا وأفرادنا، فمن يجني وَرْد الحرية لا بُدَّ له من
توطين النفس لوخز شوكها، ومن يشتار عسلها، لا مندوحة له عن التعرض لإبر
نحلها، فمن المطالب بتلافي ذلك ليعظم النفع ويقل الضرر؟
هذا ، ولا تنس المسائل الاقتصادية فإن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة
التربة جيدة الإنبات، غنية بالمعادن والغابات، قابلة لرواج التجارة وللصناعات،
إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها، وهناك من أبواب الرجاء للبلاد
والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا أفراد من الناس، فمن المطالب
بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها، والحذر من قضاء
الديون الأجنبية عليها؟
أليس المطالبون بكل ما سألنا عنه هم أهل العلم والرأي من الأحرار الذين
يعرفون كيف يسعد البشر بالحرية ، ويتمتعون بثمارها، ويستضيئون بأنوارها مع
الأمن من نارها؟ أليس هم المَرْجوُّون لتوحيد الجنسية، وحفظ الآداب القومية،
والمقومات المِلِّيِّة، وتأليف الشركات الأهلية، وإنشاء الجرائد الوطنية، للسير
بالأمة إلى ما فيه خيرها بالعلم والعمل؟
بلى ، إنهم لَهُمِ المطالبون بكل شيء، فلا ينبغي أن تشغلهم المسائل السياسية
عن كل شيء.
يتساءل بعض الناس بينهم: هل الدستور العثماني في هذه الكرة مكفول
مضمون؟ هل السلطان مقتنع بأن تنفيذه خير من تعطيله؟ هل طالب أولئك
الضباط به لمحض المصلحة العامة، أم لَهُمْ أغراض شخصية يسعون إليها،
فتبرد نيران حميتهم إذا هم نالوها، ألا يخشى أن يتفرق شملهم بعد أن يسكن
الاضطراب، ثم يحال بينهم وبين إمكان التألب مرّة أخرى، فتأمن السلطة العليا من
المعارضة بالقوة إذا هي ألغت الدستور مرة أخرى؟
نسمع هذا الكلام وأمثاله من بعض العثمانيين الناطقين بالعربية ، بل نسمع مِن
بعضهم ما هو أدلّ على سوء الظن باستعدادنا الحاضر ومستقبلنا الآتي: نسمع منهم
أن السلطان يقدر متى شاء أن يلغي الدستور كما ألغاه أول مرة، ويمنع الحرية وإن
كان لم يمنحها الآن مريدًا مختارًا راضيًا، ولكننا لا نسمع مثل هذه الأقوال مِن
الناطقين بالتركية ، وإن لم يكونوا تُرْكًا. ذلك بأن هؤلاء أعلم بحال مجموع الأمة
والدولة ، وبما وصلت إليه مِن الاستعداد الذي هو في الترك أقوى منه في سائر
الشعوب العثمانية.
يظن بعض أهل الدّثّ والرّجْم أن جمعيات الأحرار العثمانية قد عَنَّ لَها في هذه
الأيام أن تستخدم استياءَ بعض الضباط المتبرّمِين مِن سوء حالهم، وارتقاء مَنْ
دونهم عليهم، ففعلت فنجحت، فما عند الضباط من نزعة الحرية والدستور عَرَض
ربما يزول، لست أيها الظّانّ بالضباط ظن السوء بالغَيْدَار (الذي يظن السوء
فيصيب) فاعلم أن ضباطنا من أركان جمعياتنا السّرّيّة منذ وجدت والسلطان يعلم
هذا عَيْنَ اليَقِين ، ولهذا كان منهم الجَمّ الغفير من المنفيين والمسجونين واللاجئين إلى
بلاد الحرية (أوربا ومصر) وما كان السلطان كارهًا لمحاربة اليونان ومجتهدًا في
منعها إلا خوفًا من عاقبة اجتماع كثير من الضباط في كتائبهم وتوابيرهم المستعدّة
للحرب على مقربة مِن الآستانة.
أبشروا أيها المتطيرون، فإن الأمر على غير ما تظنون، إن الأمة مستعدة لما
نالت ، وإنْ كان الاستعداد في الأناضول أضعف مِن الاستعداد في الرومللي، وفي
الولايات العربية، دون الولايات التركية، والسبب في هذا ظاهر جَلِيّ.
الفرق بين الماضي والحاضر كالفرق بين الليل والنهار، أو الظلمة والنور،
أو الظل والحَرُور، أو الحق والباطل، أو العلم والجهل، أو القوة والضعف.
أرأيت مُسْلِمِي الأناضول الذين هم أشد من فلاحي روسيا تقديسًا للسلطة
والسلطان، الذين حدثني عنهم محمود باشا داماد رحمه الله أنهم يعتقدون أن
خلق السلطان مخالف لخلق سائر البشر: لحيته خضراء ، ووجهه يتدفق بالنور. إن
هؤلاء الأغرار السُّذَّج قد استعدوا للثورة ، وقد ظهرت في بعض بلادهم بوادرها
فكانت حكومة الجواسيس الساقطة تحشد في بعض بلادهم الجند والناس يظنون أنها
تحشده استعدادًا لمحاربة الروسية، ولولا الاعتماد على الضباط لأشعل الأحرار نار
الثورة الأهلية في الأمة، فكان عملهم عمل اليأس يرجى خيره، ولا يؤمن شره،
فللضباط الشكر والثناء الحسن، بما كفوها عاقبة تلك الفتن.
الحق أقول: إنه لا يخشى علينا من سلب الحرية، وإنما يخشى علينا من سوء
استعمال الحرية، ومن الجهل بطرق المحافظة على الحرية، يخشى أن تدفع الحمية
بعض الأحرار الظافرين، إلى مثل أعمال المستبدين، وأن تهبط العبودية الموروثة
بكثير من الجاهلين إلى أن يكونوا عونًا على أنفسهم للحُكّام الظالمين، يخشى أن
تكون الحرية متاعًا للسفهاء، يتسلقون بها مراتب العقلاء الفضلاء، إذا جرؤ أولئك
وجَبُن هؤلاء، كما جرى في بعض الأنحاء، يخشى علينا مما سبقت إليه الإشارة
من المشاكل السياسية والاجتماعية، والفوضى العلمية الأدبية، والغوائل
الاقتصادية، وإنما الاعتماد في مقاومة كل ما يخشى، ونيل كل ما يرجى،
على توفيق الله لأهل الروية والاعتدال، الذين يقومون بنشر العلوم وجلائل
الأعمال، كثر الله فينا من أمثالهم، ونفع الأمة بعلومهم وأعمالهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القانون الأساسي والخط السلطاني به
ننشر هنا أهم موادّ هذا القانون في حقوق العثمانيين ليتدبرها القراء منهم
فيعرفوا قيمتهم، وأنهم ليسوا عبيدًا لحكامهم. ثم ترجمة الخط السلطاني في الحاجة
إلى هذا القانون.
المادة 9 - إن جميع العثمانيين متمتعون بحريتهم الشخصية بشرط أنْ لا
يعتديَ أحدٌ على حقوق غيره.
10 -
إن الحرية الشخصية مصونة من جميع أنواع التعدي، ولا يجوز
مجازاة أحد بأي وسيلة كانت إلا بالأسباب والأوجه التي يعينها القانون.
11 -
إن دين الدولة العثمانية هو الإسلام ومع مراعاة هذا الأساس وعدم
الإخلال براحة الخلق والآداب العمومية تجري جميع الأديان المعروفة في الممالك
العثمانية بحرية تحت حماية الدولة مع بقاء الامتيازات المعطاة للجماعات المختلفة
كما كانت عليه.
12 -
إن المطبوعات هي حرة في ضمن دائرة القانون.
14 -
يسوغ لكل فرد من أفراد التبعة العثمانية أو الجملة منهم الشكوى إلى
جهة الاختصاص من مخالفة القوانين والنظامات أو من أفعال المأمورين.
17 -
إن العثمانيين جميعهم متساوون أمام القانون، كما أنهم متساوون كذلك
في حقوق وظائف المملكة ما عدا الأحوال الدينية والمذهبية.
21 -
كل أحد أمين على ماله وملكه الذي تحت تصرفه ، ولا يؤخذ من أحد
ملكه ما لم يثبت لزومه للنفع العام وحينئذ يدفع ثمنه الحقيقي سلفًا وفقًا للقانون.
23 -
لا يسوغ إجبار أحد على الحضور إلى محكمة غير المحكمة المنسوب
هو إليها قانونيًّا وفقًا لقانون أصول المحاكمة الذي تقرر وضعه.
24 -
المصادرة والتسخير والجريمة من الأمور الممنوعة، وإنما يستثنى من
ذلك التكاليف والأحوال التي تعين في أوقات الحرب بحسب الأحوال.
25 -
لا يجوز أن يؤخذ من أحد بارة واحدة باسم ويركو ورسوم أو بصفة
أخرى ما لم يكن ذلك موافقًا للقانون.
26 -
إن التعذيب وكل أنواع الأذى ممنوع منعًا باتًّا كليًّا.
* * *
ترجمة الخط الشريف السلطاني
بالقانون الأساسي
وهو خطاب السلطان لمدحت باشا الصدر الأعظم باعتماد القانون وأمره
بتنفيذه.
وزيري سمير المعالي مدحت باشا:
إن التدنيات العارضة منذ أزمان على قوة دولتنا العَلِيّة قد نشأت من الانحراف
عن الطريق المستقيم في إدارة الأمور الداخلية أكثر مما نشأت من الغوائل الخارجية،
ومن ميل الأسباب الكافلة أمنية التبعة من حكومتهم المتبوعة إلى الانحطاط؛ فلذا
كان والدي الماجد المرحوم عبد المجيد خان أعلن مقدمة للإصلاحات خط التنظيمات
الذي منح به جميع الرعية الأمن على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم وناموسهم موافقة
لأحكام الشرع الشريف المقدسة ، وما عشناه إلى الآن في ضمن دائرة الأمن ، وما
وفقنا به اليوم إلى وضع وإعلان هذا القانون الأساسي الذي هو ثمرة الآراء والأفكار
المتداولة بالحرية المستندة على تلك الأمنية إنما هو من جملة آثار تلك التنظيمات
الخيرية فلذلك أردد خاصّة في هذا اليوم المسعود اسم المرحوم المشار إليه وموفقيته
وأصفه بعنوان محيي الدولة ، ولا ريبَ بأنه لو كان الأوان الذي تأسست فيه
التنظيمات المذكورة موافقة لاستعداد زماننا هذا وإلجاءاته لَكَان المرحومُ المشار إليه
وضع يومئذ أحكام هذا القانون الأساسي الذي نشرناه الآن وأنفذه ، ولكن جناب الحق
علق حصول هذه النتيجة المسعودة الكافلة بالتمام سعادة حال مِلَّتنا وأرجأها إلى عهد
سلطنتنا فنقدم بِنَاءً على هذه الدلالة لجناب الرب الكريم الحمد والشكر العظيم.
على أن التغييرات التي وقعت بالطبع في أحوال داخلية دولتنا العَلِيّة
والتوسيعات التي حصلت في مناسباتها الخارجية أوصلت عدم كفاءة شكل إدارة
الحكومة لدرجة البداهة ، وَلَمّا كان أقصى مقاصدنا الخيرية إزالة الأسباب المانعة
للآن من الاستفادة الواجبة من الثروة الطبيعية لمملكتنا وأمتنا ، ومن قابليتهما
الفطرية وتقدم صنوف الرعية في طرق الترقّي بالتعاون والاتحاد اقتضى لأجل
الوصول إلى هذا المقصد أن يوضع للحكومة أساس مأمون منتظم ، وهذا أيضًا
يتوقف على تأمين هذه الفوائد وتقريرها ، بمعنى أن قوة الحكومة تحافظ على
حقوقها المقبولة والمشروعة ، وعلى منع الحركات غير المشروعة، أعني بها
منْع ومحو ضروب الخطآت ، وسوء التصرف المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي
أو حكم الأفراد القلائل ليستفيد جميع الأقوام المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية
والعدالة والمساواة بلا استثناءٍ ذلك الحق والمنفعة الحريّان بالهيئة الاجتماعية المدنية.
ولما كان ربط القوانين والمصالح القائمة بقاعدتي الشورى والحكومة المقيدة
المشروعتين ، والثابت خيرهما مما تحتاج إليه هذه الأصول أوعزنا في خطنا الذي
أذعنا به جلوسنا إلى وُجوب تأليف مجلس عمومي، وحيثُ إن القانون الأساسي
الذي وجب تنظيمه في هذا المطلب قد وضع بالمذاكرة في الجمعية المخصوصة التي
تعينت مُرَكَّبَةً مِن متحيزي الوزارة وصدور العلماء ، ومن سائر رجال وعمال دولتنا
العلية ، وجرى عليه التصديق في مجلس وكلائنا بعد إمعان نظر التدقيق ، وكانت
المواد المندرجة فيه إنما هي متعلقة بحقوق الخلافة الإسلامية الكبرى ، والسلطنة
العثمانية العظمى ، وحرية العثمانيين ومساواتهم ، وصلاحية الوكلاء والمأمورين
ومسئوليتهم ، وبما للمجلس العمومي من حق الوقوف وباستقلال المحاكم الكامل ،
وبصحة ميزانية المالية ، وبالمحافظة على مركز الحقوق في إدارة الولايات واتباع
أصول المأذونية ، وكان جميع ما ذكر مطابقًا لأحكام الشرع الشريف ولاحتياجِ
الملك والملة ، وقابليتهما في يومنا هذا ، وكانت أخص آمالنا في مطلب سعادة العامة
وترقياتها مُساعِدةً لهذا الفكر الخيري وموافقة له - فاستنادًا على عون الله ومدد
روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبلنا هذا القانون الأساسي وأرسلنا به
لطرفكم بعد أن صادقنا عليه فبادروا لإعلانه في جميع أنحاء الممالك العثمانية
وأطرافها؛ ليكون دستورًا للعمل إلى ما شاء الله وباشروا بإجراء أحكامه منذ اليوم
متخذين أسرع التدابير لتنظيم ما تقرر فيه وتسطر من النظامات والقوانين كما هو
مطلوبنا القطعي ، ونسأل جناب الحقّ المتعالي أن يجعل مساعي المجتهدين في
سعادة حال ملكنا ومِلَّتِنا مظهرًا للتوفيق في كل الأعمال.اهـ في 7 ذي الحجة
سنة 1293.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمتنا لكتاب التربية الاستقلالية
أو أميل القرن التاسع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .
فله الحمد والشكر والثناء الحسن، وعلى نبيه ورسوله الصلاة والسلام،
والرحمة والبركات لمن تزكوا بالتربية العالية، وتعلموا الكتاب والحكمة السامية،
فكان لكل منهم نصيبه من السعادة في نفسه، والسيادة في أبناء جنسه، ومنهم مَن
أعدته هذه التزكية للسعادة الآجلة، كما أعطته السيادة العاجلة {كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاءِ
وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الإسراء: 20-21) .
فبالتربية والتعليم سعادة الدنيا، وبهما سعادة الحياة الأخرى والأمور بمقاصدها.
للإنسان استعداد لا يعرف له حد ولا نهاية، ولا تظهر ثمرات استعداده إلا
بالتعاون، ولا يكون التعاون إلا بالعيشة الاجتماعية، وشئون الاجتماع لا ترتقي إلا
بالنظام، وإنما يقوم النظام بالحكام، والحكام عرضة للبغي والأثرة ، لا يصدهم
عنهما إلا سيطرة الأمم عليهم، والأمة لا تصلح للسيطرة على حكامها إلا إذا كان
أفرادها أحرارًا في أنفسهم، مستقلين في أفكارهم وإرادتهم، فالحرية والاستقلال،
هما القدمان اللذان يسير بهما الإنسان إلى منازل الكمال.
لا يصل الإنسان إلى الكمال في شيء من مقاصد الحياة إلا بالسير التدريجي
على سنن الفطرة، والسير بطيء وسريع، فمنه الهدَجان والدليف، والدألان
والوجيف [1] ؛ بل منه القهقرى، والرجوع إلى الوراء، فإذا هو أرشد إلى الغاية في
البداية، وأمدّ بما يوافق الفطرة من ضروب الهداية، يكون أبعد عن التخبط في
سيره، والضلال في طريقه، وأقرب وصولاً إلى المقاصد، بالسفر القاصد.
ولكن مضت سنة الأولين بما أبانَ لنا أن الإنسان لا يرتقي في المقاصد
الاجتماعية إلا بتوزيع الأعمال، ونوط كل عمل بطائفة من الناس، يصرفون همتهم
إليه، ويعولون في معايشهم عليه، ومن هذه الأعمال حفظ الأمن وحماية النظام،
ومنها الإرشاد والتعليم، والتربية والتأديب - وأن الصنفين القائمين بهذين العملين -
ولهما القيامة على سائر الأصناف - قد يسيئون التصرف، ويتبعون الهوى،
فيعبثون بالحرية والاستقلال، فيحولون دون ما توجه إليه الناس مِن الكمال - وأن
الأول منهم (وهو صِنْف الحُكّام) كثيرًا ما يُمْعِنُ في الاستبداد، ويغلو في الاستعباد،
حتى يفسد على الناس ما ارتقى به الاجتماع قبله، ويخرب ما أقامه من معالم
العمران من سلفه، وقد يستعين بصنف المعلمين والمربين، على إفساد النفوس
والأفكار من الناشئين، بتنشئتهم على الخنوع للمستبدين، وتقليد الميتين، فيرجع
قومه القهْقَرَى، ويسيرون في اجتماعهم إلى الوراء، حتى تكون البداوة خيرًا من
مدنيتهم، لأنها على إقفارها من نتائج العقول في الفنون والصناعات، تكون عامرة
باستقلال الفكر والإرادة وحرية التصرف، وما يتبع ذلك من عزة النفس والتحلي
بكثير من الفضائل التي هي من طبيعة الفطرة ولوازم تلك المعيشة.
فالكمال الاجتماعي الذي يُطْلَب بالمدنية عرضة لنقائص يجلبها للبشر استبداد
الوازع من الأمراء والسلاطين، وفساد القوّام على التربية والتعليم، وسوء اختيار
الأفراد الذين يعيشون في كنف السلطة والحكم، وينامون على مهاد الراحة والترف،
فتفسد فطرتهم، وتهي عزيمتهم، ويرضون أن يكونوا عالةً على غيرهم، وعبيدًا
للقوّام عليهم، بما فقدوا من الحرية والاستقلال، بل يقول الحكيم ابن خلدون: إن
التأديب والتعليم الصناعي يذهب بالبأس وعزة النفس لأن الوازع فيهما أجنبي، وأما
الأدب الشرعي ، فليس كذلك لأن الوازع فيه نفسي، وهو موافق لقول علماء العصر:
إن كمال الإنسان في أن يكون حرًّا مستقلاًّ تصدر أعماله بإرادته واختياره عن
اعتقاده ووجدانه، ولا يحكم عليه إلا الشرع والقانون الذي رضيه لنفسه، وكان له
رأي في اختيار القائمين بتنفيذه.
هذا المقصد العالي لا يُنال في الحضارة إلا بتربية وتعليم تتبع فيهما سنة
الفطرة وتُتَّقَى فيهما أهواء الوازعين الذين يرون من مصلحتهم أن يصبغوا نفوس
النابتة بصِبْغة خَاصَّة يستديمون بها السيادة عليهم، وقَوْدهم كالأنعام إلى ما يريدون
منهم.
أسرف الوازعون من رؤساء الدِّين والدنيا في الجور على الخاضعين لهم في
أوربا زمنًا طويلاً حتى لم يعد للطاقة البشرية قِبَلٌ باحتمال جورهم، فأحدث ذلك
الضغط انفجارًا عظيمًا اهتزت له الأرض، وزلزل ذلك القهر والجبروت، بل زال
واندك بهمة دعاة الحرية والاستقلال، ولكن حدث عنه بمقتضى السنة الإلهية التي
يعبر عنها (برد الفعل) إسراف في مقاومة تَيْنك السلطتين الجائرتين - سلطة
الحكومة وسلطة الكنيسة - فحدثت المذاهب المادية والاشتراكية المتطرفة والفوضوية
وكانت فرنسا أشد الشعوب والأجيال غلوًّا في ذلك وإنكلترا أشدها اعتدالاً فيه لما
جرت عليه من المحافظة على التقاليد القديمة، والتثبت في النزوع إلى الآراء
والأعمال الجديدة.
انبثت آراء الغالين في مقاومة السلطة والدين في كتب التربية والتعليم التي
ألفها كبار الحكماء والكتاب من الأوربيين لا سِيَّمَا الفرنسيين منهم حتى صار حقها
مَشُوبًا بباطلها، ونفعها معارضًا بإثمها، وكان من أشهر كتب التربية (كتاب أميل
القرن الثامن عشر) للحكيم الفرنسي الشهير (جان جاك روسو) ، ثم ارتقت
المعارف، وزخرت بحار العلم، فصار الآخرون، يستدركون على ما مضى عليه
الأولون، كما فعل (ألفونس أسكيروس) في كتابه الذي سماه (أميل القرن التاسعَ
عَشَرَ) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه فنّ التربية في ذلك القرن وما بعده. وهو
الكتاب الذي نشرنا ترجمته في بضعة مجلدات من المنار، في كل مجلد منها رسائل
معدودة، نشرت في أجزاء متصلة أو متفرقة، وقد جمعنا شمل هاتيك الرسائل
والشذرات كلها اليوم لننشرها في هذا السّفْر على قراء العربية عَامَّة، وأرباب
البيوت منهم خَاصَّة، لما في قراءتها متصلة من تمام الفائدة بما يكون القارئ أوعى
للمسائل وأضبط، وأرغب في تتبعها وأنشط.
لم أَرَ في المصنفات الحديثة ولا القديمة مصنفًا كهذا الكتاب جمع بين اللذة
والفائدة في أنفع العلوم التي تتفاضل فيها عقول البشر ، وهو علم تربية الإنسان
جسمًا وعقلاً ونفسًا؛ ليكون سعيدًا في نفسه، نافعًا لأبناء جنسه، ولهذا رغب في
نشره الأستاذ الإمام - قدّس الله رُوحه في دار السلام - وعهد إلى مريده ذي الفطرة
السليمة، والآداب القويمة: صديقنا عبد العزيز أفندي محمد القاضي بالمحاكم
الأهلية المصرية، بأن يترجمه بالعربية، لينشر في مجلة المنار الإسلامية، وحسبي
من بيان مزية الترجمة عرضها على القراء العارفين بقواعد العربية وأساليبها، فهم
الذين يشهدون لها بأنها في الذُّرْوة العليا بين المصنفات للترجمة في هذا العصر،
فالكتاب بها عون للنابتة على إحكام مَلَكَة الإنشاء والترجمة، كما أنه بمعانيه يطبع
في النفوس ملكات استقلال الفكر والإرادة، وحب الحرية، والرغبة في خدمة الأمة،
وغير ذلك من الفضائل، ويهدي العقول إلى أمثل طرق التربية والتعليم.
ألا إنّ غرض المؤلف من كتابه هذا هو هداية قارئيه إلى الحياة الزوجية
الفضلى، ومحبة الزوجين، ووفائهما في القرب والبعد، والسّرّاء والضّرّاء، ومكان
الأم من قلب الهيئة الاجتماعية، وتربية جسم الطفل على سُنّة الفطرة ليكون بدنه
سليمًا قويًّا، وتربية حواسه وخياله وفكره، ووجداناته وعواطفه، كالرحمة
والإحسان ، والعدل والمساواة ، والإيثار وغير ذلك من القوى والصفات الرُّوحية
مهتديًا في ذلك كله بالعمل والاحتكاك بالحوادث، وإلى تعليم الناشئ العلوم الكونية
بعرض المعلومات على مشاعره وإرشاده إلى كيفية النظر فيها، والحكم الصحيح
عليها، وإعداده للعلوم النظرية في الدين والفلسفة ليحكم فيها بنفسه، بعد بلوغ رشده،
وغاية ذلك كله أن يخرج المربّي حُرًّا مستقلاًّ خَيِّرًا فاضلاً لا يحكم ولا يقول إلا
عن علم وبصيرة، ولا يعمل إلا ما يرى أن فيه الخير والمنفعة.
ولما كان قوام التربية العملية القدوة والتأسّي اختار المؤلف أن يجعل تربية
(أميل) في بلاد الإنكليز؛ لأنهم أرقى الشعوب أخلاقًا وأعرقهم في الحرية
والاستقلال.
ولما كانت العلوم لا تبلغ كمالها إلا حيث يكثر الأخصائيون جعل المؤلف
التعليم العالي لأميل في مدارس ألمانيا العالية، لأن الألمانيين أرقى شعوب العالم في
تحرير العلوم.
هذا الضرب من التربية والتعليم على سنة الفطرة موافق لهداية القرآن الذي
هو دين الفطرة، وما أنكره المؤلف من تلقين الدين للناشئ كما يلقن الفنون وإلزامه
بالتقليد فيه، ومِنْ حَمْله على الآداب وعمل الخير خوفًا من العذاب في الآخرة وعدم
النجاة فيها له وجه وجيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم ولدان أصحابه
ولا كبارهم الدين كما تعلم الفنون، وإنما أدبهم وزكاهم بتلاوة القرآن عليهم،
وبسيرته (سنته) الحميدة فيهم، دعاهم بالدليل وعلمهم بالدليل وأدبهم بالدليل وليس
في الإسلام شيء تقليدي لا يستند إلى دليل.
فلا غرو إذا كنا نسلم للمؤلف ما اختاره من جعل قوام التربية الأدبية الاعتبار
بما في الفضيلة والخير من المنفعة وما في ضدهما من المضرة بالاختبار لا مجرد
القول، فإن ذلك معقول في نفسه وموافق لهداية الإسلام. ونعذره في نهيه عن
دعمها بنصوص الدين لأن ما يعرفه من هداية الأديان ينافي اتباع طريقته فالجمع
بينهما جمع بين الضدين. على أنه على اعتداله لم يسلم من السخط على دين
الكنيسة بمقتضى سنة رد الفعل التي أشرنا إليها من قبل.
ولكن طريقته تنطبق على هداية القرآن؛ لأنها موافقة للفطرة ويَزِيدها الإسلام
قوةً وتمكينًا ببيان أن الآثار الطبيعية للخير في الدنيا وهي منافعه التي يؤتى لأجلها لا
تذكر بالنسبة إلى الآثار الطبيعية التي تكون له (أي الخير) في الحياة الآخرة ،
وهذه قضية بيناها بالدلائل والنصوص في مواضِعَ كثيرة من تفسير القرآن الحكيم
ومن المنار.
فلم يَبْقَ بعد هذا إلا أن أنصح لقراء العربية بأن يجعلوا هذا الكتاب ركنًا
للتربية والتعليم ، مع مراعاة المُسْلِم منهم لهداية القرآن التي أجزم بأن المصنف لو
علمها لجعلها ركنًا للتربية فوق هدايات الحواس والعقل والوجدان.
أنصح للمتعلمات من البنات ومن ربات البيوت بأن يقرأنه المرة بعد المرة.
وأنصح للرجال أن يقرءوه لنسائهم ويفسروه لهن تفسيرًا. وأنصح للنابتة الجديدة من
تلاميذ المدارس الدنيوية، وطلاب المدارس الدينية، بأن يقدموا العناية بمطالعته
على جميع ما يطالعون من الكتب للاستعانة على تأديب النفوس وإحكام صناعة
الإنشاء وإتقان أسلوب الترجمة. وإني لعلى علم بأن الإقبال على هذا الكتاب وتوخي
العمل به سيكون مبدأً لعصر جديد يربي في نفوس قراء العربية الحرية الذاتية
والاستقلال الشخصي والنوعي ، ومَتَى كثر الأحرار المستقلون في شعب فإنهم
يحيون شعبهم حياة استقلالية يستحيل أن يعبث بها مستبدٌّ، أو يفسدها عليهم مفسد،
ولهذا سميت الكتاب بالتربية الاستقلالية، وجعلت تسمية المؤلف له ثانوية، فالاسم
الأول يدل على موضوعه وغايته، والثاني يشير إلى منهجه وطريقته، وهي تمثيل
فن التربية بالعمل في شخص المربي، وهو المنهج السوي والطريقة المثلى، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني
…
...
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار
كتبت في غاية جمادى الآخرة سنة 1326
مقدمة مترجم الكتاب بعد البسملة
الحمد لله الذي عَلَّمَ بالقلم، عَلَّمَ الإنسان ما لم يَعْلَمْ، والصلاة والسلام على
ينبوع الحكمة، ونبي الرحمة، الذي أدبه ربُّه فأحسن تأديبه، وأتمَّ له من مكارم
الأخلاق وجلائل الشيم نصيبه، فصارت سيرته المحمودة أكمل مثال للمربين،
وأفضل هدي للمرشدين، وعلى آله وأصحابه الهادين المهتدين.
أَمّا بَعْدُ؛ فقد مضت سُنّة الله سبحانه في الإنسان أن يخلق عاجزًا جاهلاً
محتاجًا إلى الكافل الذي يحوطه برعايته، ويقيمه على الصراط السوي في معيشته،
ثم يتدرج في القدرة والعلم حتى يبلغ ما أعد له من الكمال الحسي والمعنوي بِحَسَبِ
استعدادِه، وعلى مقدار عناية قيمه بتربيته.
من أجل هذا تفاوتت درجات الناس تفاوتًا عظيمًا في القدرة والعجز والعلم
والجهل ، وتنوعت آثار هذه الصفات فيهم تنوعًا لا يحده وصف ولا يشمله حصر
وتبع ذلك اختلاف الأمم بالترقي والتدلي والعزة والذلة.
فمن أُمّة عُنِيَتْ بتربية أبنائها وتهذيب أخلاقهم وتثقيف عقولهم وإنشائهم أحرارًا
عشاقًا للعلم ، يخدمونها ويخدمونه مختارين كما يخدمون أنفسهم ، فأشرقت في
ربوعها شمس العلم وكشفت لها الحجاب عما سخر لها من قوى الكون فاستخدمتها في
حاجاتها وحاجات نظرائها واستعانت بها على تحسين أحوالها وترقية معايشها.
لانَ لها الحديد على صلابته وشدة بأسه فاتخذت منه سجنًا حصينًا لعدوين
متعاندين هما الماء والنار ، فكان من كفاحهما فيه أن تصاعدت زفرات الماء وغلت
مراجل غيظه، فالتمس الخلاص فلم يَسَعْهُ إلا أن طار بسجنه، فكان ذلك سببًا
لاستعمال هذه القوة الفائقة في طيِّ المسافات السحيقة، وتقريب الأمم المتنائية،
وكسر نخوة البحار ، والتخفيض من غلوائها بامتطاء ظهورها وشقّ أحشائها والأخذ
بشكائمها. نَعَم ، وفي تحريك دواليب الصناعات المختلفة تحريكًا خفف من أوصاف
الصناع ومتاعب العمال وغمر أسواق التجارة بضروب المصنوعات البديعة فأصبح
الفقير شريكًا للغني في الاستمتاع بها، بعد أن كان محرومًا منها، واتخذت لها من
الحديد أيضًا قذافات للموت، جلابات للدمار والخراب، لا تردها شجاعة الشجعان،
ولا تغني منها مصاولة الفرسان، فملكتها نواصي الأعزاء، وبسطت لها السلطان
في جميع الأرجاء.
لفتها قصيف الرعد ووميض البرق ، وغيرهما من آثار القوى الكونية التي
طالما مَرّ عليها مَن غيروا مِن أجيال البشر وهم عنها معرضون فحدست أن فيها قوة
عظيمة لم تخلق سدى ، وأنها لو ملكت تصريف زمامها لاستفادت منها ما استفادته
من البخار فانبرى طلاب الحقائق من أبنائها الذين أثمرت فيهم التربية الصحيحة
للبحث عنها في مكامنها ، وما زالوا يصلون الليلَ بالنهار في تتبعها حتى اهتدوا إلى
ينابيعها وجمعوا شتاتها بعد أن كانت شعاعًا هملاً ، وحصروها في سبل ضيقة لا قِبَلَ
لَها بتعديها ثم ألقوا مقاليدها إلى الأمة فكان من تصريفها في مرافق الإنسان ومنافعه
ما ترى من الآيات الكبرى على كمال قدرة الخالق وسَعَة إمكان عقل المخلوق:
رعدة تحيل الماء هواءً، وتقلب الليل نهارًا، ونبض أقرب من لمح البصر يصير
تارة مناجاة كتابية بين مطوحين في مطارح الغربة تستنجز بها الأمور وتقضي بها
المآرب، وطورًا تكون مخاطبة شفهية تميز فيها أجراس أصوات المتخاطبين على
ما يكون بينهما من بعد الشّقّة، وكرة تدفع جاريات تطير طيرانًا على سطح الأرض
مقلة ما شاءت أن تقل من الناس والمتاع.
ولو رحت أعدد لك آثار التربية المثلى والعلم النافع في الأمم الراقية لاحتجت
في تفصيل ذلك إلى مجلدات فأجْتَزِئُ عنه بما لمحت إليه تلميحًا.
وأمة أخرى لم تبلغها دعوة العلم ولا رأت آثار التربية في غيرها فلازمت
حالتها الفطرية ومعيشتها الوحشية؛ فكان ذلك مدعاة إلى وقوف نمو العقل في أبنائها
وانمحاء ما فيهم من ضروب الاستعداد وكان مصيرُها خسرانَ وجودها الذاتي
وفناءها في غيرها من الأمم الحية.
وأمة ثالثة خلقت مستعدة للرقي وسارت في سبيله شوطًا بعيدًا بما نشأت عليه
من الحرية وتحققت به من أصول التربية الدينية الصحيحة فنالت في الزمن اليسير
من العزة والمجد وبَسْطة السلطان ما لم يَنَلْهُ غيرها من الأمم في الزمن الطويل.
رَبّاها مُرشِدُها الأكبر بسيرته السنية على حب العدل والإيفاء بالعهود وإنفاق
الأموال في وجوه الخير ، والتآخي في نصرة الحق والترفُّع عن سَفْسَاف الأمور ،
وأوجب طلب العلم من المهد إلى اللحد على أفرادها نساءً ورجالاً غير مخصِّصٍ
علمًا بعينه ، فنبغ فيها رجال لم تسمح الأيام بنظائرهم ولن تلد الوالدات أمثالهم -
منهم من ساسوا الرعية أفضلَ سياسية لم يعهدها التاريخ في غيرهم من السواس
حرموا أنفسهم فيها من ملاذ العيش ، وصبروها على مصلحة الناس ، وحاسبوها
على القيام بها أشد محاسبة - ومنهم من قادوا الجيوش وفتحوا البلاد ودوخوا أكبر
دول الأرض لعهدهم مع تمام العدل في معاملة المغلوبين وبذل الأمان للمستأمنين -
ومنهم العلماء والحكماء الذين صدقت عزائمهم في طلب الحقائق فلم يدعوا بابًا من
أبواب العلم إلا دخلوه على ما كانوا يلاقونه في ذلك من صعوبة التحصيل لندرة
الكتب وتباعد معاهد التعليم يشهد لهم بذلك ما خلفوه من آثارهم التي تزدان بها دور
الكتب في معظم البلدان - ومنهم مهرة الصناع الذين أقاموا من معالم الحضارة ما
يحكم لهم بالتبريز على مناسبيهم ويوجب لإخوانهم حق المفاخرة بهم.
وا أسفي على هذه الأمة أسفًا يَبْخَعُ النفسَ أسًى ، ويذيب القلبَ حسرةً! ما لبثت
أن بطرت معيشتها وكفرت بأنعم ربها، فوجد عليها الزمان، وانتابتها نوائب
الحدثان، طال عليها أمد هداية الدين، وبعد عنها عهد المرشدين، فقست القلوب
وفسدت الأخلاق، واستحكمت علة الترف من النفوس، فملكها الطمع، وتولاها
الحسد، ومنيت بالحكام المستبدين، والأمراء الغاشمين، فمزقوا وحدتها، وملكوا
عليها أمرها، وصرفوها فيما تهوي أنفسهم، فاستحالت حريتها رقًّا، وانقلب عزها
ذلاًّ، وعدلها ظلمًا وأنسها بالعلم وحشة.
لم يغب سوء حالها عمن يجاورونها من الأمم القوية بل كانوا يراقبونها مراقبة
الصائد الذي يتحين الفرص لصيده وما عتموا أن ناصبوها العداوة وكادوا لها المكايد
فوقع معظم بلادها في قبضتهم وتغلغلوا في أحشائها وأصبحوا لها حكامًا يديرون
شئونها على حسب ما تقتضيه مصالح بلادهم وفتحوا عليها أبوابًا من الترف وفساد
الأخلاق ألهتها عن الشعور بألم العبودية وصرفتها عن النظر في مصالحها القومية.
لم يصبها كل ذلك إلا من عدم محافظتها على حريتها بإغفالها التربية الصحيحة
وهجرها العلم النافع.
وإذا كان هذا شأن التربية في رفع الأمم وخفضها كان حقًّا على العقلاء من كل
أمة أن يعنوا بها ويفكروا في الوصول إليها من أقوم طرقها ويبينوا أصولها ،
ويدونوا فيها الكتب النافعة ، ويحثوا قومهم على الأخذ بما فيها. وقد خرج من عهدة
هذا الحق علماء الأمم الحية في أوربا وأمريكا فوضعوا من قواعدها ما ظهرت
آثارها في أقوامهم، وأكسبتهم حسن الذكر في بلادهم، وغفل عن ذلك غيرهم من
خواص الأمم التي تتنازعها الحياة والموت لغلبة القنوط عليهم فلم يوجد لديها من
الكتب الحديثة في موضوع التربية إلا بعض رسائل لا غناء بها فيه.
كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - طيب الله ثراه - بَرّا بقومه غَيُورًا على
حياتهم ، حريصًا على إيقاظهم من سبات الجهل، وإنهاضهم من حضيض الذل،
فكان دائم التصفح لما كتبه الأوربيون والأمريكيون في التربية والحكمة ، وكان من
كثرة اهتمامه بالتربية أن ترجم فيها كتابًا مفيدًا للحكيم الإنكليزي هربرت سبنسر غير
أنه لم يتسع وقته لتصحيحه وتهذيب ترجمته ونشره ، فبقي كما هو وقد وقع له كتاب
آخر فيها عظيم النفع لمؤلف فرنسي اسمه ألفونس أسكيروس ، فأعجب بما فيه من
الأفكار الصحيحة والمعاني الشائقة فعهد إِلَيَّ بترجمته ونشره تدريجًا في مجلة المنار
الجليلة فوفقت للإيفاء بعهده مساعدة له على ما كان بسبيله من خدمة المصلحة العَامَّة
وقيامًا ببعض المفروض عَلَيَّ منها. فالكتاب إذن أثر من آثار سعيه في ترقية بلاده،
ويد من أياديه الكثيرة عند قومه، سيشكرها له منهم الشاكرون، ويغمطها على
ديدنهم فيه الجاحدون، أجزل الله له المثوبة على حسن مقاصده، وغمره برحمته
وإحسانه على مجاهدته في إعلاء شأن أمته.
هذا الكتاب الذي أتقدم بترجمته لقراء العربية يرمي مؤلفه إلى غاية واحدة هي
إنشاء الطفل حرًّا مستقلاًّ تصدر أعماله وآراؤه عن اختيار وعلم لا عن اضطرار
وتقليد، ومن أصوله في التربية أن لا تحشر إليه قواعد العلم حشرًا ويرغم على
حفظها بل يجعل له الدرس من وسائل التسلية بأن يخلى بينه وبين ما حوله من
الأشياء والحوادث ويلفت ذهنه إليها لينتزع منها بنفسه ما تؤديه مراقبتها إليه من
العلوم.
تمكن هذا الأصل من نفس المؤلف تمكنًا حمله على أن يبعد في تأليفه عن
أساليب الكتب التعليمية المعهودة: وضعه على أسلوب يقرب من أسلوب القصص
ليكون أشهى للنفوس، وأنفى للملل عن القلوب، تخيل زوجين سمَّى أحدهما الدكتور
أراسم والثاني هيلانة، مُنِيَا بالفراق، لأول عهدهما بالاقتران، لاتِّهَام الزوج
بجريمة سياسية سجن من أجلها. ولم يلبثا بعد افتراقهما أن أحست الزوجة بالحمل
فجرت بينهما رسائل في مواضيع شتى أدمجت فيها أصول التربية الصحيحة إدماجًا
وسنحت للزوج أثناء سجنه سوانح أفكار ومرت بذهنه شوارد خواطر كان يقيدها في
جريدته اليومية، فاجتمع للمؤلف من الرسائل والصحف والشذرات المقتطفة من
جريدة الزوج هذا السِفْر الذي وسمه (بأميل القرن التاسع عشر) وقسمه أربعة أقسام
سمَّى كلاًّ منها كتابًا أولها في الأُمّ ، وثانيها في الطفل ، وثالثها في اليافع ورابعها في
الشاب.
فأما كتاب الأُمّ فمسائله هي - ما ينبغي عليها مراعاته في طور الحمل من
العناية بصحتها وتوفير عافيتها وملازمة السكينة والاستقرار والبعد عن كل ما يثير
انفعالاتها وترويح نفسها بالمناظر البديعة والمشاهد الرائعة، وبيان أن التربية الأولى
من شئون الأم خَاصَّة - وما يجب عليها مِن العِلْم بتدبير صِحّة المولود بعد الوضع
وإرضاعه بنفسها وتعويده من نعومة أظفاره على الاستقلال في حركاته وسكناته،
ووصف ما للنساء الإنكليزيات من الفضل على الفرنسيات في ذلك، وانتقاد طريقة
التربية الأولى في فرنسا، وانتقاد أخلاق الإنكليز وخضوعهم لتقاليد أسلافهم.
وأما كتاب الولد فمسائله هي - تعريف التربية ، وبيان الصعوبة في تحديد
زمني بدايتها ونهايتها، وبيان عمل الأم في الشهور الأولى من حياة الطفل، وانتقاد
ما يفعله الأمهات بأطفالهن في هذه السن، وبيان أنّ أول علوم الطفل تأتيه مِن طرق
الحواس، وطريقة تربية الحواس، وتأثير التمدن في قوى الحواس وعمل الأم في
تمرينها، ووجوب تعرف طباع الطفل وبيان إهمال المربين لهذا الواجب، وما يلزم
اتباعه في سياسة الطفل، ووجوب لفته إلى المحسوسات وتدريبه على وقاية نفسه
بنفسه، وبيان أخطاء الوالدين في إنشاء أولادهما على مثالهما في الطباع والأذواق
وكون هذا هو السبب في ندرة الرجال المستقلين استقلالاً حقيقيًّا، وبيان ماهية الطبع،
وهل الإرادة خلْقِيّة أو كَسْبِيّة.
وبيان أن ما يبديه الطفل في حال غضبه أو تألُّمه من الأصوات والحركات
لازمة لشفاء ما به ، وأن الواجب في حمله على الكف عنها أخذه بالتسلية والتلبية لا
بالتسلط والقهر، ووجوب مقاومة التربية لأهواء الطفل الفاسدة ، وذلك بطريقتين،
إحداهما: إلهاؤه عنها ، والثانية: جعله بِمَعْزِلٍ عن البواعث المثيرة لها، وضرورة
استعمال السلطة في سياسة الأطفال ، ووجوب التعجيل بالكفّ عن استعمالها مَتَى
تَيَسَّرَ ذلك.
وبيان ضرر قهر الطفل على الامتثال ووجوب اجتناب تخويفه بالعقوبات
الإلهية ، والخوض معه في المسائل الدينية ووجوب تركها له لينظر فيها متى كبر
بفكر خال من المؤثرات، وبيان عدم الفائدة من أصول علم الأخلاق للأطفال وقلة
جدوى القدوة ، ومطالعة قصص الحيوانات لهم وضرورة استقلال طبع الطفل وتعلمه
سير الحيوانات بنفسه.
وبيان الطريق إلى تربية المشاعر الباطنة، وبيان أن في التبكير بإلقاء
النصائح والمواعظ على الأطفال حَطًّا مِن كرامتها، وكيفية تفاهم الأم مع ابنها
بالأصوات، وربما كانت الأصوات أصل اللغات، ووجوب استعداد الأم للتربية
بالتعلم، وتفكر الأطفال، وأصل اللغات وتعليمها لهم وسوء طريقة المربين في ذلك،
وأن التفكر مما يتعلمه الطفل، وخطأ المربين في عنايتهم بالألفاظ دون المعاني،
وتعويد الأطفال النظر والملاحظة ليتمرنوا على التفكر ، وبيان أن الأعمال الصبيانية
ليست باطلة برمتها بل منها ما يكون مفيدًا، وأنس الطفل بالحيوانات وأنسها به ،
وتعليل انقطاع تآنس الحيوانات المتوحشة بزوال سذاجة الإنسان الفطرية التي كانت
تدعوها إلى الثقة به، وتأثير الجمال في الأطفال، واحتياجهم إلى كثرة التعلم،
وتعليمهم الصدق والمواساة والرحمة بالحيوان والعدل في المعاملة واحترام الدين
بالعمل والممارسة دون الحفظ والتلقي، ووجوب اعتراف المُرَبِّي للطفل بجهل ما
يجهله وانتقاد المربين في دعواهم العلم بكل شيء أمام الأطفال.
وانتقاد التعليم الديني والسياسي، وإن من شروط التربية أن ينسى المربي ما
تعلمه ليستأنِفَ تعلمه مع الطفل، ووجوب التدرج في تعليم العلوم للأطفال بلفت
أذهانهم إلى ما حولهم وانتقاد الكتب التعليمية، وفوائد التصوير والمعارض في
التربية، والتربية والتعليم بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض، وتعليم الأطفال
الضرب في الأرض ، ومعرفة جهاتها بالعمل ، وتعليمهم الصناعة بما يُشْتَرَى لهم
من اللعب.
وتربية خيال الصغير بالقصص والأساطير، وتعليم القراءة والخط والرسم
والتدرج الفطري في تعليمها، وأن الصحة في تغيير الهواء وتربية الخيال والذاكرة
بِمَحَاسِنِ الغَبْرَاءِ، وتعليم التاريخ الطبيعي بتمثيل الفانوس السحري، وسرعة تفاهم
الأطفال باليسير مِن الكَلِمِ، وتعليم السباحة وتربية العضلات.
وأما كتاب اليافع فمسائله هي: حب الزوجة والولد والوطن، وتعليم
المسمَّيات قبل الأسماء، وتربية الذكور مع الإناث وتعليمهما معًا، والتعليم بضرب
الأمثال، والكلام على الخط الدّيوَانِي، وتمرين المتعلمين على الأعمال المادية الشاقة
وما يجب أن تكون عليه التربية وآثارها إذا كانت كما يجب، وتجلي العلم في
العمل، وانتقاد تعليم الأطفال اليونانية واللاتينية وإقرائهم كتبهما، والكلام عن التقليد
والذاكرة، والمؤلفات المفيدة للناشئين واختيارها، وكون السفر من أركان التربية،
والتربية بركوب البحر، وما يتعلم في السفينة، وشجاعة النساء المحمودة، والتربية
بالمعاينة، وفوائد الشدائد، وكون بذل النفس للمحبوب أول الحب، ووجوب
الموازنة بين القوى والأعمال، والتربية بالتأثيرات الطبيعية.
وأما كتاب الشاب فمسائله هي: انتقاد حال الطلبة في ألمانيا، وبيان حال
العلم فيها، ووجوب نقد الطالب ما يقرؤه من أفكار غيره. ووجوب القصد في
الاشتغال بعلوم المعقولات، وأن نفع الأمة يحصل بالقيام بالواجب على قدر الطاقة،
ووجوب اختيار الطالب للعمل الذي يشتغل به في حياته، وأن لا حرية لأمة يتكالب
شُبَّانُها على تولّي أعمال الحكومة، وأن الرأي العام لا قيمةَ له إلا إذا كانت الحكومة
شورى، ووجوب أن تكون خدمة المرء لأمته لذاتها لا للجزاء، والكلام في الحب
وابتدائه وغرور الشبان بالمعشوقات ووجوب عدم تداخل الوالدين مع أولادهما في
شئون الحب وترك الفصل في تمحيص صحيحه مِن فاسده للتجربة، والكلام على
المدرسة الجامعة في ألمانيا، والاستقلال في العلم، وفلسفة الخلق والتكوين
والاجتماع والمدنية، ووجوب الاعتماد على البراهين العقلية دون الخطابة، وحب
الوطن، ووجوب أن يكون للشاب المتعلم رأي في سياسة بلاده، وأن تربية الرجال
الأحرار يجتث بها جراثيم الشرور المحزنة للأمة.
هذه هي أقسام الكتاب ومقاصده وأمهات مسائله أجملتها للقارئ إجمالاً حتى إذا قرأها
حركه الشوق إلى استشفافها في مواضعها منه فحصل الفائدة المقصودة لمؤلفه
ومترجمه إن شاء الله.
فلم يعن المؤلف بتلقيب مباحث كتابه فاضطررت إلى أن أضع لها ألقابًا
أستنبطها من سياق كل مبحث وشاركني في وضعها الأستاذ الفاضل السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية عند نشر الكتاب في مجلته، كما أنه
حفظه الله كان يصحح ما كان يعثر عليه من الأغلاط، وأنا شاكر له هذا الصنيع.
حرصت غاية الحرص على عدم التصرف في الترجمة وقوفًا بها عند حد
المعاني التي قصد المؤلف أن يعرضها على قومه ، وتحاشيًا مِن أن يتسرب إليها
بالتوسع ما ليس مقصودًا له وهذا هو سبب ما يجده القارئ في بعض المواضع من
عُجْمَة الأسلوب ، ولم أشذ عن هذا إلا في تغيير لفظ الطبيعة بلفظ الجلالة أو الفطرة
على حَسَبِ الأحوال مراعاةً لعرف التخاطب بين المتكلمين بالعربية.
للمؤلف رأي في التعليم الديني مبني على أحوال خَاصَّة بالمكان الذي عاش فيه
والقوم الذين نشأ بينهم لا محل لذكرها هنا فلا أعيبه عليه ولا أوافقه فيه ، ولا000 ،
ولا سِيَّمَا أن في مطاوي كلامه في هذا الموضوع وفي موضوعات أخرى مغامز
تبين عن سوء عقيدته ، وذلك الرأي هو: أن لا يتكلم مع الصبي في شيء من الدين
في صغره وأن يتربص به حتى يكبر ويدرس المذاهب الدينية بنفسه فيعتقد منها ما
يشاء. ويكفيني هنا أن أقول: إن كثيرًا من أبناء مَن يشايعونه في رأيه لا يبلغون
سنّ الشباب حتى تحتوشهم أهواؤهم عن النظر في الدين ، وتصرفهم شهواتهم عن
اتباع هدي النبيين فينبذوا الدين وراء ظهورهم ، ويفشو فيهم الإلحاد وما ينجم عنه
من الإباحة والفساد ، كما هو مشاهد معروف.
وعندي أنه لا شيء أمثل في هذه المسألة من اتباع هدي الدين نفسه ومن
الخطل في الرأي أن يؤخذ فيها بقول غير المتدين.
بدأْتُ في ترجمة الكتاب في اليوم الرابع من جمادى الآخرة سنة 1317هـ ،
الموافق لليوم التاسع من أكتوبر سنة 1899م ، وفرغت منها في أول جمادى الثانية
سنة 1324هـ الموافق للثالث والعشرين من يوليه سنة 1906م ، ومعذرتي في ذلك
الإبطاء المفرط أني إنما اختلست الساعات التي قضيتها في ترجمته اختلاسًا من
أوقات فراغي من عملي القضائي، وقد كانت هذه الأوقات كثيرة تسع أضعاف هذه
الترجمة لولا أني كنت كثيرَ الضّنِّ بها على صرفها فيما ينفع كغيري من الناس في
مصر.
كنت أحسب أن نشر الكتاب في المنار يكفي في تحقيق الانتفاع به ، ولكني
رأيت كثيرًا من الإخوان الذين كانوا يوالون مطالعة ما كان ينشر منه فيها شديدي
الميل إلى رؤيته مطبوعًا على حِدَة ، واتفق لي أن زرت صاحب الدولة الوزير
الجليل رياض باشا في شهر رمضان الماضي مع الأستاذ السيد محمد رشيد فألفيته
معجبًا بالترجمة أشدَّ الإعجاب حاثًّا على نشرها مجموعة؛ فكان كل هذا باعثًا لي
على نشره الآن جملةً واحدةً تعميمًا لفائدته وموافاة لرغائب الكثيرين ممن طالعوه
مُنَجّمًا.
وجُلُّ ما أبتغيه ممن أقدمه إليهم من إخواني قراء العربية أن لا يكون حظي
عندهم من عنائي في ترجمته إطراحه وإغفاله بل أرجو منهم أن يأخذوه بقوة ،
ويقبلوا على مطالعته بتأمل لقارنوا بيننا وبين غيرنا في العناية بتربية الناشئين ،
ويعلموا أين نحن مِن قوم هذه أفكارُهُم فيها حتى إذا آلمهم النقص الفاضح ، وأخجلهم
التقصير الفاحش هبوا إلى مجاراة غيرهم من الأمم الراقية ، وفكروا طويلاً في تربية
أبنائهم وتخيروا عن بصيرة ، وعلم لا عن تقليد محض كل الطرق لإنشائهم أحرارًا
جامعين بين مَلَكَات العلم وفضائل الدين ، ولن يتم لهم ذلك إلا بالإخلاص والصبر
ودوام الاشتغال، والله المستعان وبه الحول والقوة.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المترجم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد العزيز محمد
تحريرًا في 25 المحرم سنة 1326 - و27 فبراير سنة 1908.
_________
(1)
الدرجان: مشية المثقل - والدليف: مشية الشيخ رويدًا ومقاربته الخطو - والدألان: مشية النشيط - والوجيف: السريع.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
القرآن والعلم
(4)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
المسألة الرابعةَ عَشْرَةَ
(هامان وزير فرعون)
قال الله تعالى حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا} (القصص: 38) ،
وقالوا: إن هامان كان وزيرًا لأحشويروش ملك فارس، وهو متأخر عن فرعون بسنين.
وهذه الشبهة من أضعف الشبهات، فإنه لا يبعد أنْ يكونَ لفرعون وزير يسمى
هامان ، ثم سمي بهذا الاسم وزير آخر لملك الفرس ، ومن عَرَفَ علاقة المصريين
بالأمم المجاورة لهم وتغلبهم على بلادهم تارة ، وخضوعهم لهم تارة أخرى كما كان
يحصل بين ملوكهم وملوك فارس لا يتعجب من دخول بعض أسماء أهل مصر في
لغات الأمم الأخرى ، ولا من دخول بعض أسماء من هؤلاء الأمم في لغة مصر
القديمة ، على أننا لا نعرف جميع أصول ما ورد في الكتب المقدسة مِن الأسماء ،
ولا ندري جميع مصادرها، فيجوز أنْ يكونَ للفظ هامان أصل في اللغة المصرية
القديمة (الهيروغريفية) لا نعرفه. ولا يخفى أن ردّ الأعلام المنقولة من اللغات
بعضها إلى بعض عسير ، وفي بعض الأحيان يكونُ متعذرًا. وخصوصًا مثل هذه
الأسماء القديمة الواردة في كتب الأمم المقدسة. فكم في كتب العهدين مِن أعلام لا
يعرف اشتقاقها إلا رَجْمًا بالغيب! وكم فيها مِن أسماء لأشخاص من أُمّم يسمون عند
أممهم بغيرها ولا يعرف سبب لهذا الاختلاف.
فإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لتلك الشبهة. فإن الشبهة لا تدحض حُجّة إلا إذا
بنيت على أساس ثابت مقطوع به. ومادامت الشبهة وَهْمِية أو ظنية ، فلا يلتفت
إليها. ولا يعبأ بها في مقابلة الدلائل اليقينية.
* * *
المسألة الخامسة عشرة
(أموال قارون)[1]
قال الله تعالى في قصة قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ} (القصص: 76) فقال قوم: إن ذلك غير معقول؛ لأن
وجود مال بهذه الكثرة غير معروف.
ونقول: أما إنْ كانَ ماله من الذهب والفضة فربما كان قولهم صحيحًا. وأما
إنْ كانَ من غير الذهب والفضة أو كان من جنس العروض لا من جنس النقد كان
ذلك جائزًا. فمن المحتمل أنه كان عنده مخازن عديدة تحتوي على غلال ومأكولات
وملبوسات ومفروشات ومصنوعات ، وغيرها مما ادخره لنفسه أو للاتجار به،
وكان لهذه المخازن عدة أبواب ومفاتيح كثيرة تثقل العصبة أولي القوة وخصوصًا إذا
لاحظنا أن مفاتيح الأمم القديمة كانت كبيرة وضخمة. بحيث يصعب على الإنسان
حمل كثير منها.
على أن الأرجح أن لفظ (مفاتح) معناه الخزائن ، وقياس واحده مَفْتَح بفتح
الميم. وبذلك قال ابن عباس والحسن.
وقد ورد بهذا المعنى أيضًا في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ
هُوَ} (الأنعام: 59) أي خزائن الغيب ومكنونات أسراره. خزائن أموال قارون
كانت ثقيلة. وهذا أمر مشاهد مثله الآن ومعروف كما في البلاد الأوربية والأمريكية
من النقود الذهبية وغيرها.
* * *
المسألة السادسةَ عَشْرَةَ
(الوضع اللغوي)
(استعمال لفظ القلب في القرآن)
توضع الألفاظ في اللغات للمعاني والذوات لمناسبات صحيحة أو غير صحيحة ،
ثم يفشو استعمالها بين الناس ويتوسع فيها حتى يجهل كثير من الناس أصول
معانيها ، فلا يبالون في استعمالهم لها إنْ كانَ السبب الذي وضعت لأجله هذه الألفاظ
للمعاني المخصوصة صحيحًا أو غير صحيح. مثال ذلك قولهم: (فلان مجنون)
أي غير سليم العقل فلفظ (مجنون) من جُنّ الرجل أي أصابته الجِنّ ، ولما كان هذا
الاعتقاد شائعًا بين القدماء فشا بينهم استعمال لفظ مجنون ، وما كان من مادته فيمن
اختل عقله وإنْ كانَ هذا الاختلال في الحقيقة ليس ناشئًا عن الجن كما يزعمون ،
ولم تبال الناس بالبحث عن صحة هذا السبب المزعوم الذي لأجله استعمل هذا اللفظ
في هذا المعنى بل صاروا يستعملونه (بقطع النظر عن البحث في حقيقة أصله)
في كل اختلال للعقل حتى كأنه وضع في أول الأمر لهذا المعنى. ومثل ذلك لفظ
(عبقر) وهو اسم لموضع تزعُم العرب أنه مِن أرض الجن ، ثم نسبوا إليه كل شيء
تعجبوا من جودة صنعه كما في قوله تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (الرحمن: 76)
مع أن هذا الموضع لا وجود له إلا في مخيلاتهم الواهمة. وكذلك لفظ (القلب) فإنه
في الأصل موضوع لداخل الشيء ولبه ، ولذا أطلقوه على الفؤاد ولما كانوا يعتقدون
أن الفؤاد هو مكان التعقل والتفكر صاروا يسمون العقل قلبًا من باب تسمية الشيء
بمحله على سبيل المجاز المرسل ، ثم شاع بينهم هذا الاستعمال حتى صارت
الكلمتان (العقل والقلب) عندهم مترادفتين في بعض المواضع وجرى على ذلك
الأولون والآخِرون غير مبالين إنْ كانَ أصل هذا الاستعمال مبنيًّا على فكرة صحيحة
أو غير صحيحة. ومن ذلك أيضًا قولهم: (غربت الشمس، أو طلعت) فإنه تعبير
يُرَاد به احتجاب الشمس عنا أو ظهورها لنا سواء كان ذلك ناشئًا عن حركاتها أو
عن حركة الأرض ، فإن أمثال هذه المباحث يجب أنْ تكونَ بعيدةً عن الأوضاع
اللغوية التي عهدتها الناس وعن الاصطلاحات التي جروا عليها في كلامهم
وتعبيراتهم ، ولذلك تجد في جميع اللغات ألفاظًا وُضِعَتْ في الأصل لأفكار غير
صحيحة ، ثم شاعت بين الناس في معانٍ صحيحةٍ فلم تجد العلماء بُدًّا مِن الجري
عليها في كلامهم واستعمالها في عباراتهم مع علمهم بخطأ الأصل الذي بنيت عليه.
وما سمعنا بأن أحدًا منهم عاب غيره لأجل استعمالها بعد شيوعها بين الناس
ومعرفتهم لها ، ولذلك يقولون:(لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح) .
فنحن لا ننكر أن في القرآن بعض ألفاظ وضعها العرب في معانٍ مخصوصةٍ
لأفكار كانت عندهم وهي غير صحيحة ، ثم شاعت بينهم في المعاني حتى نزل
القرآن ، فلم يستَغْنِ عن استعمالها فيما استعملت فيه بينهم ، وإن كانوا في وضعها
مخطئين ، فإن ذلك مما تقتضيه الضرورة لنزوله بتلك اللغة فلا يجوز أن يتحاشى
تعبيراتها المعهودة للعرب وخصوصًا إذا كانت سَلِسَلة التركيب.
وإنما الذي ننكره بما كتبناه سابقًا أمران:
(1)
أن يضع القرآن من تلقاء نفسه لفظًا في معنى لفكرة غير صحيحة.
(2)
أن ينص على أمر من الأمور بعبارة له صريحة ، ويكون هذا الأمر
في الواقع ونفس الأمر غير صحيح. فلا ينافي ذلك ورود لفظ فيه مثل القلب،
وعبقري، ومجنون، بمعنى العقل والشيء الجميل ومختل العقل. وإن كانت العرب
في وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني قد راعوا عِلَلاً غير صحيحة. فإن ذلك معهود في
جميع اللغات وفي كلام جميع العلماء مهما أوتوا من العلم والفلسفة؛ إِذْ لا داعي
يدعوك لترك أمثال هذه الألفاظ بعد جريانها على ألسنة الناس في معانٍ صحيحة،
وإن كانت في أصل وضعها خطأً ، فإنهم لو تحاشوا لضاقت عليهم اللغات ، ولَكانت
تعابيرهم عاجزةً عن تأدية المعنى المراد ركيكةً في نظر جماهير الناس، فمن أمثلة
ذلك في اللغات الأجنبية تسميتهم بعض جزائر أمريكا باسم Indies West أي
جزائر الهند الغربية، والسبب في ذلك أن مكتشف أمريكا (كريستوفر كولومبس)
لما رأى هذه الجزائر ظنّ أنها جزائر الهند ، فسماها بذلك وجرى الناس على هذه
التسمية إلى هذا اليوم مع علمهم بأنها خطأ. ومِن ذلك أيضًا تسمية الأطباء لبعض
الديدان الشريطية المعوية باسم Solivm Taenia أي الدودة الشريطية الوحيدة؛
لتوهم الناس في الزمن السابق أنه لا يوجد منها في الأمعاء سوى واحدة ، ومع أنهم
الآن قد علموا أنه قد يوجد منها أكثر من واحدة، ترى جميع العلماء يصرون على
هذا الاسم ، وإنْ كانَ الوصف فيه خطأً؛ لشيوعه بين الناس. وكذلك تسميتهم بعض
الأمراض العصبية (بالهستيريا) من لفظ Hystera اليوناني، ومعناه (الرحم)
لظن الناس في الزمن الأول أن علَّةَ هذا المرض هي في الرحم ، ومع عِلْمِ الأطباء
بخطأ ذلك لا يزالون متمسكين به.
إذا علمتَ ذلك فاسمع الآن معنى القلب في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ
وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ، فمعنى القلوب في أول
الآية، العقول. وإنما لم يقل:(فتكون لهم عقول يعقلون بها) لِرَكَاكَةِ ذلك، ولم
يَقُلْ: (فتكون لهم أمخاخ يعقلون بها) ؛ لعدم معرفة العرب ذلك ولاستنكارهم هذا
التعبير والقرآن لم يَأْتِ لتعليمهم أمثال هذه المسائل الفسيولوجية؛ فلذا لم يهتم بها
ويصح أنْ يكونَ معنى القلوب هنا الأنفس العاقلة المفكرة والأرواح المدركة المدبرة؛
لأن قلب الشيء هو جوهره ولُبّه [2] وخلاصته ، ولا جوهر للإنسان سوى روحه
فإنها هي حقيقته وكل ما سواها قشور لها. وأما لفظ القلوب في آخر الآية فمعناه
العضو المعروف في صدر الإنسان ، ومعنى الآية أنهم لم يعموا عن المواعظ والعبر؛
لعمى أبصارهم ، بل لعمى قلوبهم التي في صدورهم؛ أي لعدم تأثرها وانفعالها
حتى كأنها قلوب أموات، فإن قلوب الأحياء تتأثر بما يحيط بالإنسان من العوامل
فتَزِيد ضرباتها أو تنقص وتقوى ، أو تضعف وتنتظم ، أو تختل إلى غير ذلك من
التغيرات التي تحصل لحركات القلب ، وهي تدل على مبلغ تأثر صاحبه وعلى
درجة الإحساس عنده، فَمَنْ لم يتأثر قلبُه كانت نفسُه جامدةً؛ لأن القلوب هي دلائل
النفوس ، ولذلك قيدها الله هنا بقوله:{فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) لمنع التجوز
في معنى القلوب، فكأنه تعالى يقول: إن الذي يدلكم على موت نفوس هؤلاء القوم
وجمود أرواحهم أنكم لو أحسستم بقلوبهم الحقيقية التي في صدورهم لَمَا وجدتموها
تنفعل أو تضطرب لِمَا تضطرب منه قلوب الأحياء المتقين إذا سمعوا ما به يتعظون ،
أو رَأَوْا ما به يعتبرون، فكأنه تعالى جعل آخر هذه الآية كدليل على ما قاله في
أولها مما معناه أن عقولهم أو نفوسهم لا تدرك شيئًا ، ولولا القيد المذكور وهو قوله:
{الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) لأَمْكَنَ حَمْل القلوب في آخر الآية على ما
حملت عليه في أولها ، وكان المراد منها العقول في الموضعين، وبذلك تخفى الفائدة
من باقي الآية ، ولا يكون ما في آخرها كالدليل على ما نسبه إليهم في أولها.
هذا وورود لفظ بمعنيين مختلفين في أول الجملة وفي آخرها كما في هذه الآية
له شواهدُ أُخْرَى كثيرةٌ مِن القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (النور: 43) - أي الأعين - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ} (النور: 44) أي العقول ، وكقول الشاعر:
لم نَلْقَ غيرك إنسانًا يلاذ به
…
فلا بَرِحْتَ لعين الدهر إنسانًا
* * *
المسألة السابعة عشرة
(التناقض في عبارات القرآن في السورة الواحدة)
ذكر بعض المتقدمين من أمثلة ذلك التناقض في السورة الواحدة ما جاء في
سورة المزمل من الأمر بالصلاة بالليل في أولها مع ما ينافي ذلك في آخرها ، ولما
كنت ممن لا يقول بجواز النسخ في القرآن وجب علي التكلم على هذه الشبهة بما لا
يخل بأصولي الآتية في تفسير القرآن الشريف ، وهي:
(1)
عدم القول بالنسخ في القرآن.
(2)
عدم توقف فهم القرآن على روايات الآحاد.
(3)
كون آيات كل سورة يلتئم بعضها مع بعض كأنها نزلت دفعةً واحدةً.
فمع مراعاة هذه الأصول الثلاثة نقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كانوا في أول الإسلام يصلّون في
الليل إلى ثُلُثِهِ أو نصفه أو ثُلُثَيْهِ، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك اتباعًا لأمر مِن الله لهم به
في غير القرآن كما كانوا يصلون إلى بيت المقدس في أول الإسلام مع أن الأمر
بذلك لم يرد في القرآن ، وأمثال هذه الأوامر هي مما نسميه الأوامر الوقتية أو
القولية (غير الكتابية أو غير الرسمية) . وكانت هذه الصلاة الليلية من أكبر ما
يقوي الرابطةَ بين جماعة المؤمنين الأولى حينما كانوا قليلي العدد، فقراء، ضعفاء،
فكانت هذه الصلاة أعظم وسيلة لتثبيتهم واتحادهم وتضامنهم ، وليزدادوا قوةً في
إيمانهم على قوتهم فيه، فلما جهر بالدعوة إلى الإسلام وبدأ الدين أنْ يكونَ أعمّ مما
كان وأخذ يدخل فيه أصناف مختلفة من الناس منهم ضعفاء الأجسام ، ومنهم ذَوُو
الأعمال الدنيوية التجارية وغيرها، ومنهم مَن لم يكن عنده من الإيمان ما يحمله
على سهر الليل كما حمل أولئك المؤمنين الأولين - لما صار الأمر كذلك أنزل الله
سورة المزمل (73) ، وفيها يأمر الله نبيه بالاستمرار على قيام الليل ويوجبه عليه
دون غيره من المؤمنين، فناداه بقوله:{يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلاً} (المزمل: 1-2) الآيات، والخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وحده كما يدل
باقي السورة. والمراد بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} (المزمل: 2) الأمر بالدوام
والاستمرار.
والذي يدل على ذلك قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} (المزمل: 20) الآية، فكأنه تعالى يقول: أنا أعلم ما تفعل ومطلع عليه ، وإنما
أمري لك به هو لطلب الاستمرار عليه، وكذلك أعلم أنه يقومه {وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ
مَعَكَ} (المزمل: 20) يعملون ما تعمل ولا يعلمون لك أمرًا في ذلك.
ثم قال تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} (المزمل: 20) أيها المؤمنون
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (المزمل: 20) بالترخيص لكم في ترك ما أمرتم به. وفي هذه
العبارة الْتِفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، فإن المخاطبين هنا هم الطائفة الذين سبق
ذكرهم ، ونكتة هذا الالتفات البلاغية هي إظهار عنايته بهم ورعايته تعالى لهم ،
وإقباله عليهم إكرامًا لهم على ما قاموا به من التهجد بالليل.
ولما بدأ أنْ يكونَ من المسلمين المرضى والمشتغلون بالتجارة وغيرها خفف
الله عنهم ، وبين أن قيام الليل لم يَبْقَ فرضًا عليهم، فلهم فيه الخيار، لأن تكليفهم به
على سبيل الوجوب أصبح شاقًّا عليهم وخصوصًا لأنهم سيضطرون يومًا ما إلى
القتال دفاعًا عن أنفسهم في سبيل الله، فقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (المزمل: 20) الآيات.
والخلاصة أن قيام الليل كان فَرَضَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على نفسه
وعلى أتباعه ، ولم ينزل قرآن في ذلك ، ولعله فعله بالاجتهاد أو بالوحي في غير
القرآن ، ثم رفع الله تعالى ذلك عن المؤمنين بسورة المزمل، وألزم به النبي صلى
الله عليه وسلم دون سواه، فالنسخ ليس للقرآن وإنما هو لِمَا كان يفعله المؤمنون
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يدلك على أن قيام الليل صار خاصًّا
برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في موضع آخر: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً
لَّكَ} (الإسراء: 79) أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة
بك دون الأمة.
فمما تقدم تعلم:
(1)
أن سورة المزمل لا نسخ فيها للقرآن.
(2)
ولا تناقض فيها بين آياتها.
(3)
وأن الأمر في أولها هو للدوام والاستمرار، وهو معهود في اللغة ،
كقولك لمن يأكل (كُلْ) . والذي دلنا على ذلك قوله فيها: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} (المزمل: 20) ، إلخ.
(4)
وأن هذه السورة تفهم بدون احتياج لروايات الآحاد ومن كان خالي
الذهن لا يفهم منها سوى ما قلناه.
(5)
وأنه لا حاجةَ للقول بأن جُزْءَها الأول نزل أولاً، وأن جزءها الأخير
نزل بعد مُدَّةٍ. بل على تفسيرنا تكون آياتها ملتئمة مع بعضها كأنها نزلت دفعةً
واحدةً. فكل من يدعي أن في عبارات القرآن تناقضًا فإنما هو جاهل غبي بليد
الذهن.
وكم من عائب قولاً صحيحًا
…
وآفته من الفهم السقيم
* * *
المسألة الثامنة عشرة
(البعث الجسماني)[3]
إذا مات الإنسان فدفن تفرقت أجزاء جسمه في الثرى، فإذا زرع الزارعون
في هذه الأرض تغذت الأشجار والنبات منها ومن أجزاء الإنسان التي دفنت فيها
وانحلت. فإذا أكل إنسان آخر من هذه الأشجار والنباتات أو من الحيوانات التي
تأكلها استحالت إلى جسمه ودخل في تركيبه بعض موادّ مما كانت في جسم الإنسان
الأول، ومن ذلك تعلم أن مادة الإنسان تشترك معه ومع غيره فلا يمكن إعادته بها
وإلا لَمَا أمكن إعادة من اشترك معه فيها.
ومِن جهة أخرى قد ثبت أن جسم الإنسان دائمًا في تبدل وتغير، فإذا أعيد
بجميع مادته التي كان بها في الدنيا كان جسمًا عظيمًا كبيرًا جدًّا وهو خلاف المنتظر
والمألوف.
هذان الاعتراضان هما أكبر ما يقال للتشكيك في البعث الجسماني ، ونجيب
عنهما بأن المسلم لا يجب أن يعتقد أن جميع ما دخل في جسمه من المواد في الدنيا
لا بُدَّ من إعادتها، ولا أنه لا بُدَّ من إعادته بجسمه الدنيوي لا بغيره، بل الواجب
عليه أن يعتقد بأن البعث رُوحَاني جسماني، وأن جسمه قد يكون فيه شيء من المادة
التي كانت له في الدنيا، وقد لا يكون فيه شيء من ذلك، فإن مادته الدنيوية إذا
دخلت في غيره فأعيد بها فلا يمكن إعادته هو أيضًا بها وهو أمر بديهي لا يحتاج
لِقِيلَ وقَالَ، فإن الإنسان لا يتوقف تحقق وجوده على هذه المادة التي هي لجوهره
وروحه كالثوب للبدن؛ ولذلك ترى أنه في الدنيا يتبدل ويتغير مع أن حقيقته هي
هي، فالمعول على روحه لا على مادته، ولذلك قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ} (النساء: 56) وهو صريح في أن
المعول عليه هو نفوسهم وأرواحهم لا أجسامهم المتبدلة المتغيرة ، ولا ينافي ذلك قوله
تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} (القيامة: 3) فإن الألف واللام
في الإنسان هي للجنس، والمعنى: أيظن الإنسانُ أنْ لَنْ يجمعَ اللهُ عظامَ الجنس
البشري يومَ القيامة ، ويخلق منها الأشخاص؟ فهو ليس نصًّا في أن كل مادة لأي
فرد إذا كانت مما دخل في غيره ، وأُعِيد بها فلا بُدَّ من إعادته هو أيضًا بها، بل إن
الله سيعيد أجسام البشر من المواد التي كانوا بها في الدنيا ولا يمنع ذلك من إضافة
جزء من مادة جديدة عليها، وكذلك لا يستلزم أن كل مادة دخلت في جسم في هذه
الدنيا لا بُدَّ أن ترجع إليه في الآخرة ، وإلَاّ لَلَزم أنْ يكونَ للمادة الواحدة عدة محال
تقوم بها ، وهو محال وليس في عبارات القرآن ما يؤدي إليه ، بل غاية ما يفهم منه
أن الله سيركب أجسام البشر من المواد التي ركبت منها في الدنيا، فإن لم تكف فلا
مانع من إضافة مادة جديدة عليها ثم إنه سيعيد المواد إلى أصحابها الذين كانوا بها في
الدنيا بقدر الإمكان ، فإذا كانت مما تداخل في عدة أشخاص اكتفى بإعادتها إلى
شخص واحد منهم. فإن الغرض إعادة الأرواح إلى أي جسم لا إلى جسم معين كما
يدل عليه قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} (النساء: 56) كما تقدم ولا ينافي ذلك
أيضًا قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 78-79) ، فإننا
لا ننكر أن الله سيُحيي عظام البشر الرميمة ، ولا ننكر أنه عالم بجميع أنواع الخلق
وطرقه، وأنه عالم بجميع الأشخاص الذين دخلت في أجسامهم أي مادة معينة، فهو
تعالى سيحيي الميت ويرد كل مادة إلى صاحبها الذي يعلمه. ولا يخرج في ذلك عن
الممكنات ، فإنه لا يأتي المستحيلات ولم يقل القرآن: إنه سيأتي شيئًا مستحيلاً.
أمّا شهادةُ أعضاء الإنسان التي كانت له في الدنيا عليه في الآخرة كما جاء به
القرآن الشريف فهي ليست مستحيلةً، فإن مادة هذه الأعضاء التي اقترف بها الآثام
في الدنيا يجوز عقلاً أن تنطق بذلك ، وتشهد به عليه سواء كانت معادة في جسمه أو
في جسم غيره. فكأن مادة هذه الأعضاء ستقوم بالشهادة على جميع الأشخاص الذين
اقترفوا بها الآثام في الدنيا، وإن كانت هذه المادة قائمة بشخص واحد منهم يوم
القيامة [4] . ومن لا يضع عقله في دائرة الأمور الضيقة أمكنه التسليم بذلك، فإنه
من المعقول أن تشهد المادة بجميع ما عملته في الأشخاص المختلفة؛ فيعذب الله
نفوسهم على ما عملته ، وهي قائمة في أي مادّة كانت.
وهناك طريق آخر في الرَّدِّ على هذه الشبهة. وهذا الطريق هو ما جرى عليه
قدماء علماء الكلام. وتقريره أننا نشاهد أن جسم الإنسان هو دائمًا في تبدّل وتغيّر؛
فتراه أولاً صغيرًا ، ثم يكبر شيئًا فشيئًا ، وينتقل من سمن إلى نحافة ، ومن نحافة
إلى سمن ، وفي جميع هذه الأطوار والأحوال ذات الشخص وحقيقته واحدة لا تتبدل
ولا تتغير ، فالشخص الصغير هو هو بعينه الكبير، والنحيف هو السمين وبالعكس؛
إِذْ لا بُدَّ أنْ يكونَ في جسم الإنسان شيئان: مادة أصلية؛ ومادة فرعية. فالمادة
الأصلية هي التي تبقى فيه مِن أول نشأته إلى آخر حياته ، لا تتبدل ولا تتغير،
وهي التي بها تتحقق شخصيته وفيها تنتقل الأمراض الوراثية والاستعدادات
والأخلاق والصفات من الآباء إلى الأبناء. ولا ينافي ذلك ما ثبت في علم
الفسيولوجيا الآن من التغيرات الكيماوية الحيوية التي تحصل في خلايا الأجسام
الحية ، فإننا لا يمكننا أن نثبت باليقين أن جميع الذرات التي تتركب منها الخلايا
الحية تتبدل وتتغير إِذْ يجوز أنْ يكونَ التبدل والتغير حاصلاً لبعض الذّرّات دون
البعض ، ولِمَا انْضَمّ إليها من المواد الغذائية أي أن كل خلية فيها جزء ثابت
وجزء متغير. وعليه فالغالب أن بعض مادة الإنسان تكونَ ثابتةً مِن أول حياته
إلى آخرها ، ولا يمنع ذلك مِن انضمام أجزاء أخرى إليها تصير ثابتة مثلها ، ولها
من الخواص ما لها وهذه الأجزاء تأتي إليها من طريق الغذاء ومجموع هذه المادة
الثابتة هي ما نسميه (المادة الأصلية) ، وأما المادة الفرعية فهي التي تتبدل وتتغير
ولا عِبْرَةَ بها في تحقق شخص الإنسان.
فإذا مات شخص وانحل جسمه فتغذت به النباتات فالحيوانات حفظ الإله القدير
العليم المادةَ الأصلية له من أنْ تكونَ مادة أصلية لشخص آخر ، وإنْ كانَ يجوز أن
تدخل في جسم الآخر وتصير مادة فرعية له لا يتوقف عليها تحقق شخصه، وأما
المادة الفرعية فقد تصير للثاني مادة أصلية بانضمامها إلى أجزائه الثابتة ، واكتسابها
خواص منها إنْ كانَ الشخص في طَوْر النمو. وعليه فالمادة الأصلية لكل شخص
تبقى له وحده إلى يوم القيامة، وإن كانت تدخل في غيره على أنها فرعية له.
وبذلك يكون البعث الجسماني ممكنًا؛ لأن هذا الغرض جائز ولا يوجد في العلم
الطبيعي ولا العقل ما يثبت استحالته.
والفرق بين هذا الطريق والطريق الأول أننا في الأول نسلم تغير وتبدل جميع
مادة الإنسان، وأما في الثاني فنقول: إن التغير والتبدل حاصل لبعض مادة الإنسان
دون البعض. والطريق الأول أقرب إلى ظاهر نواميس الوجود ، والثاني أقرب إلى
ظاهر الآيات القرآنية الشريفة. وكِلَا الطريقين معقول ولا يوجد في العلوم الطبيعية
شيء مقطوع به ينافيهما. ولا في آيات الكتاب ما لا يلتئم معهما والله أعلم.
إلى هنا أمسك بالقلم عن الجولان في ميدان الطُّرُوس، فقد زالت الشبهات،
وتجلت آيات الكتاب بجمالها كالعروس، وحصحص الحق، وظهر الصدق، فقطع
ألسنة الكاذبين، وبهر عقول الناظرين، وإن في هذا الكتاب لآيات للمؤمنين، وإنه
لَتَنْزِيل رَبّ العالمين، وليعلمنّ نبأه بعد حين.
* * *
الخاتمة
(في ذكر آيات علمية من القرآن)
قلنا: إن القرآن الشريف لم يَأْتِ لتعليم الناس شيئًا من العلوم الطبيعية، ولكن
مع ذلك لم تخلُ آياتُه مِن التعبيرات الدقيقة العلمية ، ولا مِن الإشارة إلى حقائق
كثيرة من المسائل الطبيعية ، مما يدل على أنه تنزيل العليم الحكيم، فإن هذه
المسائل ما كانت معروفة لأحد في زمنه، ولا يمكن لعربي أُمِّيٍّ في ذلك الوقت أن
يقف عليها لولا وَحْيُ الله. ولنذكر هنا شيئًا من هذه الآيات المشتملة على التعبيرات
الدقيقة والمسائل العلمية الطبيعية.
(1)
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 57)، وقال أيضًا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ
مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ
سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ} (النور: 43-44) وفيه إشارة إلى أن البرق يتولد من السحاب
وقوله: {مِن جِبَالٍ فِيهَا} (النور: 43) هو تشبيه لِقِطَعِ السحاب العظيمة بالجبال
لما بينهما من التشابه في الشكل وعدم الانتظام وعِظَم الحَجْم كما شبه أمواج الماء
بالجبال في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} (هود: 42) .
(2)
[5] قال تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88) ، وهو صريح
في حركة الأرض. وليس ذلك في شأن القيامة، فإن قوله:{تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: 88) لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة. وقال أيضًا:
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَاّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: 1-4) وهو أيضًا يشير إلى حركة الأرض.
(3)
[6] قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا
رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) وهو
صريح في أن الأرض والكواكب كانت شيئًا واحدًا ثم انفصل بعضها عن بعض،
وهو كقول العلماء الطبيعيين إنها كلها أجزاء انفصلت عن الشمس وكانت ملتهبة
فصارت تبرد شيئًا فشيئًا وإلى ذلك يشير القرآن بقوله أيضًا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) أي وهي ذات دخان لالتهاب أجزائها ولكون أكثرها في الحالة
الغازيّة.
(4)
قال الله تعالى: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: 3) وهو صريح في أن الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى، وهو أمر لم
يعرف إلا مِن عهد قريب. والقرآن نفسه هو الذي فسر الزوجين بذلك في آية أخرى
بقوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} (النجم: 45) .
(5)
قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) أي
ملقحات للأشجار.
(6)
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا
آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (الإسراء: 12) وهو يشير إلى أن القمر وهو {آيَةَ النَّهَارِ} (الإسراء: 12)
مظلم لذاته.
(7)
قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ *
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 37-40) .
(8)
[7] قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ} (الزمر: 21) الآية.
فقل لي بأبيك؛ أيُّ عربيٍّ أُمِّيٍّ يعْرِف هذه المسائل أو تخطر له على بال ،
وخصوصًا في تلك الأزمان التي كان فيها أعلم العلماء في أرقى البلاد يجهل بعض
هذه الحقائق المذكورة في القرآن كدوران الأرض، وكون جميع السيارات منفصلة
عن أصل واحد، وأنها كانت دُخَانًا. وأنّ الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى، وأن
الرياح هي التي تلقحها إلى غير ذلك من دقائق المسائل العلمية الطبيعية. وكلها
دلائل على أن هذا الكتاب ليس مِن صُنْع البشر بل هو تنزيل مِن الله العليم الحكيم.
…
...
…
...
…
...
…
الدكتور محمد توفيق صدقي
_________
(1)
المنار: وراجع الكلام عن قارون وهامان في ص 294 من المجلد السادس.
(2)
ولذلك سموا العقول أيضًا بالألباب لأنها أهم شيء في الإنسان منه اهـ.
(3)
المنار: راجع المسألة في ص 54 و412 من المجلد السابع.
(4)
المنار: لا نص في القرآن على أن هذه المواد التي تتركب منها أعضاء الإنسان في الدنيا هي التي تبعث وتشهد عليه ، بل أسند الشهادة إلى أعضائه سواء تركبت منها أو من غيرها، فهي أعضاؤه على كل حال، وهل الشهادة قولية أو حالية على حدّ: لي في محبتكم شهود أربع، إلخ البيتين؟ الله أعلم.
(5)
راجع ص 260 م 6 وص 104 وما بعدها م 8 وص 920 م 9.
(6)
راجع ص 333 م 6 و289 م 7.
(7)
راجع ص 290 م 7.
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
السنن والأحاديث النبوية
بحث العمل بأحاديث الآحاد والحديث المتواتر
وَلْنَعُدْ ، فنقول: التواتر هو وإنْ كانَ من الطرق المفيدة للعلم إذا وجد إلا أنا لا
نحصر إفادة العلم بالأخبار فيه ، كما إنا لا نلزم به كل أحد قبل أن يعرف أنه متواتر
إذا لم يقصر في الطلب أو كان معذورًا لبعده عن أهله.
قال حضرة الدكتور: لم يتواتر من أقواله صلى الله عليه وسلم إلا القليل
الذي لا شيء فيه من أحكام الدين.
أقول ما ذكره غير مسلَّم ، والتواتر هو ما نقله جَمْعٌ عَن جمع ، يبعد تواطؤهم
على الكذب، أي عن محسوس، وقد اختلفوا اختلافًا كثيرًا في تعيين هذا الجمع.
وبناءً على تعيين الجمع فيما نظنّ قال بعضهم بندرة وعزة المتواتر في الأحاديث
النبوية. وهذا أولى ما يقال في الاعتذار عن ابن الصلاح في قوله بذلك.
قال السيوطي نقلاً عن شيخ الإسلام: إن قول ابن الصلاح نشأ عن قلة
الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن
يتواطئوا على الكذب أو يجعل منهم اتفاقًا - قال: ومن أحسن ما يقرر به كون
المتواتر موجودًا وجودَ كثرةٍ في الأحاديث أن الكتب المشهورة (أي المتواترة عن
مؤلفيها) بأيدي الناس شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها إذا
اجتمعت (أي أو اجتمع بعضها كما قال ذلك جمهور أهل الحديث) على حديث ،
وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أفاد العلم اليقيني بصحته
إلى قائله. قال: ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ.
وأقول أيضًا: إن مَن تجرد عن التعصب والتقليد لا تخفى عليه الحقيقة
المنشودة في هذا الباب. وبما قدمناه وما يأتي يظهر للمنصف مكانة الخبر الذي ينقله
آحاد ثقات قد عرفوا بقوة الحفظ والذكاء والعدالة والورع والتقوى ، وعرفوا أن
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ككذب على أحد، وأن مَن
كذب عليه متعمِّدًا يتبوأ مقعده من النار ، اعتقدوا ذلك وهم بالصفات التي عَرفتَ
وتحملوا من الرواية ما اعتقدوا وُجُوب العمل به ، ثم وجوب تأديته لغيرهم كالأمانة،
وقد علموا ما في الخيانة من الوعيد والترهيب عن كتم العلم.
فإذا اتصل سند الخبر بمثل من ذكرناه فهو فيما نعتقد مفيد للعلم أي يبعد أن
يمنع العقل عن مثل من نعتناه الكذب عادة ، ورب رجل يعدل رجالاً - فإن قيل:
سلمنا أنّ مَن كان مثل هذا يبعد منه الكذب عادة إلا أنه لا يؤمن عليه النسيان ، قُلْتُ:
قد علم من عادة المحدثين كتابة ما سمعوه ، وعلى الأقل للمراجعة إلى وقت التأدية ،
وهم لا يعتمدون على المكتوبات إلا ما كان موثوقًا به ومحفوظًا بغاية الاحتياط ،
ولا يقبلون المكتوبات التي لا يُدرى حالها وإنْ كانَ كاتبها ثقة - وهذا أكبر دليل على
أن ما عندهم من الأخبار أصح ما وجد من الأخبار في العالم بعد كتاب الله - وإنما
كان تواتر القرآن مقدمًا على كل خبر؛ لأنه نقل بمثل هذه الأسانيد اليقينية متواترة.
على أنا نستبعد عادة أن الراوي الذي ذكرنا صفاته يحدث بما نسيه إذْ لو فعل
ذلك لم يكن بالمرتبة التي ذكرناها لا سِيَّمَا في أحاديث الأحكام والأعمال لشدة حاجته
وحاجة معاصريه إلى العمل بها. على أنه إذا نسي ذلك لا يحدث به ، وإن حدث
فإنه يذكر اللفظ بالشك. ويبعد كل البعد أن ينسى نسيانه لذلك وأبعد من ذلك أنْ لا
يوجد هذا الحديث عند غيره.
على أنه لو فرض وقوع ذلك وهو غاية الندور فلا نسلم أن ذلك يضر في
الدين إذْ قد اغتفر ذلك، أي النسيان والخطأ، فيما حاجة الناس إليه أكثر، وفيما
وجب فيه زيادة الاحتياط، وهما فيه أشد ضررًا وفيما هو سبب للضرر بلا واسطة
وذلك في القضاء؛ لأن أحد الخصمين قد يكون أَلْحَنَ بحُجّته من الآخر ، فلم يضر
الحاكم أن يحكم بخلاف الواقع في هذه الحالة إذا لم يقصر فلأَنْ يغتفر ذلك في
الرواية أولى لكون الضرر منها إن وجد لا يكون هو السبب المباشر للضرر غالبًا.
فتبين بذلك أن ما عسى أن يطعن به في الرواية التي وصفناها مع كونه لا يضر في
الدين هو بناء شاذ على شاذ على شاذ ، كلُّ منها يبعد وقوعه عادة - بل هو أولى
بالوثوق من خبر الجمع الفسقة غير الموثقين الذين يقال في خبرهم يمنع أو يبعد
العقل تواطؤهم على الكذب عادة. فبعد الكذب عمن ذكرناه أكثر من بعده عن جمع
التواتر الذي ذكروه.
وحَيْثُ كان الأصل في جميع العلوم سواء كانت تصورية أو تصديقية هو ما
أدركه الشخص بأحد مشاعره الظاهرة أو الباطنة ، أو ما دل العقل عليه أو الوحي
السماوي، وهذا الأخير لا يكون إلا علمًا حقًّا دائمًا، وما تقدمه يتفاوت الناس فيه
تفاوتًا لا يحصره حد ، فقد صحّ لدينا عن المتقدمين وشهدنا ورأينا ما لا يحصى في
زماننا أنه قد تصحح الجماعات ما يعدونه علمًا لديهم بتطبيقه على معلومات فرد
واحد، بل قد يتبين فساد معتقدهم في جانب معلومات الفرد الواحد - وذلك دليل
واضح على أن الفرد الواحد الممتاز بالكمال في صفاته وعاداته يعادل بل يرجح
بالأفراد الكثيرين من بني نوعه.
ونحن أيضًا نرى الشخص المنصف قد يتهم نفسه فيما سمعه بأذنه إذا خالفه فيه
من يعتقد أنه أحفظ منه فمثل هذا المنصف إذا اتهم نفسه فيما سمعه بأذن نفسه ، وقدم
على ذلك الخبر الممتاز الذي ذكرناه قد يبعد كل البعد أن يقدم على خبر سمعه بنفسه
خبر الكثيرين غير العدول - وهل يمكن أن يقال ما علمه الإنسان وسمعه لا يسمى
علمًا لجواز زواله بالنسيان؟ فتبين بطلان الخبر أو العلم بعد اعتقاد ثبوته هو عندنا
يضارع زوال العلم بالنسيان.
وأيضًا احتمال النسيان في الخبر مع الذهول عنه كما أنه لا يضر الخبر وهو
علم في حقه ما لم يتذكر أنه نسيه، فكذلك لا يضر المُخبَر بالفتح إذا كان المُخبِر
بالكسر بالصفات التي ذكرناها.
إن خبر الآحاد قد اتَّفَقَ على اعتباره جميعُ البشر كما هو مشاهد واعتبرته
الكتب السماوية في شرائعها وأنبياء الله ورسله في التبليغ عنه والله ورسوله أمر
الأمة أن يبلغوا عنهما جمعًا وفُرَادَى، وبعبارة أخرى كل فرد من الأمة مأمور
بالتبليغ ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكليم الله موسى بن عمران عليه
السلام ترك بلدًا من أمره الله بإنذارهم ، وخرج من بين أظهرهم إلى مَدْيَن معتمدًا
على خبر الواحد. وأثنى الله على من احتج بخبر الواحد كمؤمن آل فرعون إلى
غير ذلك مما لا يكفي لبسطه المجلدات.
كل ذلك معلوم بالضرورة ولا ينكره إلا مكابر، فكيف يصح قول حضرة
الدكتور: لا يجب العمل بخبر الآحاد مطلقًا ، ومِنْ ثَمَّ قال الإمام أحمد رحمه الله:
إن خبر الآحاد الصحيح يفيد العلم، وبه قال داود الظاهري والكرابيسي والمحاسبي ،
وحكي هذا عن مالك بن أنس.
فإن قيل: إن الجمهور قائلون بأن خبر الآحاد يفيد الظنّ. قلنا: أولاً إذا كان
غرض الباحث مقصورًا على طلب الحق ، وهو ضالته فلا محل لهذا الاعتراض من
أصله ، على أنه يحتمل أنْ يكونَ قولهم (خبر الآحاد يفيد الظنّ) قضية مهملة أي
وهي في قوة الجزئية [1] ، وبهذا الاعتبار يكون بعض أخبار الآحاد قد يفيد العلم.
وأيضًا المعروف من مذهب الجمهور أن المشهور والمستفيض لا يجري فيه
الخلاف ، وذهبوا أيضًا إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا تلقته الأُمّة بالقَبُول بحَيْثُ
يكونون بين عامل به ومتأول له، لأن التأويل فرع القبول وجعلوا من هذا القسم
أحاديثَ الصحيحين - بل أكثر أحاديث ما صنف فيما يحتج به من الكتب التي
صنفتْ في الصحاح والحسان لانجبار الحسان بتعدد الطرق - ولا يهولنك ما قد
تسمع به من التفرقة بين رجال الصحيح ورجال الحسن ، فإن شرائطهم في رجال
الحديث الحسن ربما لا يبلغها من وسم بأعلى سمات الفضل والعدالة في زماننا هذا -
يدلك على ذلك ما عرف عنهم من أقوالهم في الجرح حتى إنهم قد يعدون أحاديث
من سمع في بيته الغناء موضوعة - فإن قيل: إن هذا إفراط قد يؤدي إلى ضياع
كثير من السنن. قلنا: لكنه يدل على أن ما في أيديهم مما وسموه بالصحة والحسن
مُنَقّى ومبرّأ من كل احتمال يؤدي إلى عدم قَبُوله - على أنّا لا نسلّم انحصار وجود
ذلك عند من تركوه ، بل يجوز وجود ذلك عند غيره مِن الثقات إنْ كانَ هو مِن السُّنَّة
في نفس الأمر ، وإنْ كانَ مكذوبًا فلا حاجة لهم ولا لنا به.
إن أحاديث الكتب المشهورة عن مؤلفيها فيما يحتج به من السنن النبوية قد
عرفت الأمة بأسرها صحتها أو حسنها؛ لتعدد الطرُق، وصارت مقبولة عند الكل
وأكثرها قد جمعت ودونت في عهد التابعين أو تابعيهم ، أما مجرد الكتابة بلا ترتيب
للعمل أو للحفظ فقد كان في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما ثبت ذلك من
طرُق عديدة.
وعليه فما قرروا صحته فقد اتفقت الأمة على قبوله إذْ كانوا بين عامل به
ومتأول، وهو يفيد العلم، لأن سكوتهم عن الطعن فيما هو كهذا بل قبولهم له يدل
على معرفة كل واحد من العاملين به أو المتأولين له بصحته، وهم في كل طريق
وطبقة عدد كثير ، لا يُجَوِّزُ العقلُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكذب عادة.
وأيضًا يدل ذلك على أن هناك طرقًا معضدة كثيرة ألجأتهم إلى عدم الرد،
ولهذا نرى من لم يلتزم ذلك بالعمل عدل إلى التأويل - وإن ما هذه حاله لا يبعد أن
نقول: إنه أَعْلَى من بعض أنواع المتواتر - وما ذكرناه معلوم إن عرف حال
المحدثين واحتياطهم في رواية السنة.
ألا تراهم قد عمدوا حتى إلى جميع ما شاع على ألسنة العوامّ مما نسب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ثم صرحوا بتزييف الزائف وما له أصل ردوه إلى
أصله، فما بالك وما رأيك فيهم إذا وجدوا ما لا يصح مكتوبًا في كتب الهداية؟
أَتُرَاهُم يسكتون عليه ، وقد عرف من عادتهم أن ما في إسناده ولو مجهول واحد لا
يُحتجُّ به عندهم؟ إن أهل الحديث لا يعتبرون رواية من انحطت درجته عن مرتبة
رجال الحسن لاعتقادهم أن كثرة الكذابين ونحوهم لا يزيدون الخبر إلا وهنًا.
لو كانوا يأخذون برواية كل من روى حتى الكذابين والفسقة والكفار كما هي
عادة التواترية لبلغ رواة كل حديث من أحاديث الأحكام في كل طبقة إلى حدّ الكثرة
التي يعتبرها التواترية - فإنْ كانَ أحدٌ يشكّ في قولنا فليتتبع كتب الصحاح
والحسان ، وكتب الأحاديث الضعيفة ، وكتب موضوعات الحديث ، وغيرها مِن كتب
السير والمغازي والتواريخ المسندة والتفاسير وغيرها - أنا لا أشك أنه يجد أسانيدَ
متعددةً لكل حديث ، فإذا لم يتقيد بطريقة أهل الحديث في شرائط الرواية وجرى
على طريقة التواترية فهو يجزم بأن رجال هذه الأسانيد يبعد تواطؤهم على الكذب -
لا سِيَّمَا إذا لَاحَظَ من عمل بكل حديث من العلماء من عهد النبي - صلى الله عليه
وسلم - إلى حين كتابتها في كتب الحديث.
يقول التواترية: إن خبر الآحاد يفيد الظنّ ، وقد قدمنا فساده ، ويرتبون على
ذلك كبرى قياس من الشكل الأول، وهي فكل ظنّ أو كل عمل بالظنّ فهو مذموم
بنص القرآن، وقد عرفت فساد الصغرى [2] ، والحق أن بعض الآحاد يفيد العلم.
وأيضًا نحن لا نسلم الكبرى كلية؛ لأن القرآن إنما ذمّ الخرص وبعض الظنّ
لقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ، وأيضًا ما ذكره الله مِن
الظنّ المذموم إنما هو الظنّ في تأسيس الشرائع بلا اعتماد على بينة من الله في ذلك،
ومَن تتبع آياتِ القرآن في ذلك وجده إنما يذم هذا النوع من الظنّ ، أو ما هو في
معناه كما قال تعالى قبل ذلك: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (يونس: 68) ،
وقوله: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (يوسف: 40) ، وقد يذمهم الله
بمعارضتهم ما أنزل من الحق بهذا الظنّ الفاسد الذي لا يستند إلى أصل صحيح كما
يرد عليهم تعالى شأنه في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (يونس:
36) .
وهذا لا يصدق على الأحاديث الصحاح ، ولو كانت آحادًا ولا على من يعمل
بها ولو كان يعتقد أن ذلك من الظنّ؛ إذْ لا يصدق ولا نسلم أنها من الظنّ المذموم إذْ
هؤلاء لم يعارضوا بها المقطوع اليقيني، غاية ما في الباب أن بعض أهل الحديث
أو أكثرهم قد جوزوا نسخ القرآن بأحاديث الآحاد الصحاح، وقد قدمنا أن جمهورهم
يقول: إن بعض الآحاد تفيد العلم، ومن كان هذا قوله فلا إيراد عليه، وأمّا مَن
يقول بأن ذلك يفيد الظنّ ، فكذلك لا إيراد عليه لأنه يقول: إن بقاء الحكم ظنيًّا
والحكمِ المتأخرِ عنه في الحديث الصحيح أقوى وأرجح ، فهو إنما أجاز نسخ الظنّ
الضعيف بالظنّ القوي.
إن من قال بأن جميع أخبار الآحاد تفيد الظنّ، وإن كل الظنّ مذموم عند الله
وفي كتابه القرآنِ الكريم - لزمه أن القرآن متناقض متخالف ، وأنه مِن عِنْدِ غير الله؛
لأن الله أمر وأوجب الحكم بخبر الآحاد وسمّاه عدلاً في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) - وكون الشيء هناك مذمومًا ، وهنا
عدلاً تناقض وخلف، وهو في القرآن محالٌ ، وما أنتج المحال فهو مثله فلزم أن الذم
لا يتناول خبر الآحاد حتى على التسليم بأنه ظنّ ، فعلى كل تقدير خبر الآحاد
الصحيح عدلٌ ، واجب العمل به على كل من عرف أنه صحيح، والله أعلم.
وأيضًا إطلاق الظنّ مقابلاً للعلم إنما هو اصطلاح حادث مخالف لاصطلاح
القرآن وعادته في محاوراته ، لأن الله جل وعلا قد أطلق على العلم اسمَ الظنّ في
مواضعَ كثيرة مِن القرآن ، كما قال تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن
نُّعْجِزَ اللَّهَ} (الجن: 12)، وقوله:{إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} (الحاقة:
20) {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (يونس: 22){وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (يوسف: 110){فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} (الكهف: 53) إلى غير ذلك مما أطلق
في لفظ الظنّ، والمراد به العلم، فكذلك حملة القرآن مِن العلماء لا يبعد أن يطلقوا
على العلم لفظ الظنّ كلهم أو بعضهم.
فمن يقول منهم: إن بعض الأحاديث الصحاح تفيد الظنّ يمكن أن يحمل قوله
على ما ذكرنا على أنَّا قد قدمنا أنه لا تصدق على ذلك تلك الآيات الواردة في ذمِّ
بعض الظنّ لعدم العلة الجامعة - وفوق ذلك نقول: إن عملهم بالأحاديث الصحاح
إنما هو من باب الاختبار والعمل بأحسن الأمرين ، أو الأمور التي انحصر الحق
فيها وما ذلك إلا لمرجح علموه لا ظنوه كما قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم} (الزمر: 55) - {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} (الأحقاف: 16)
إلى غير ذلك، فإذا تعارضت أدلّة ، ولا سبيلَ للخروج عنها كلها لانحصار الحق
فيها - والحالة أن الاتباع فرض لازم ، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) ، فيجب على العالم أن يجتهد، وإذا
رجح أحدها فهو إنما يرجح بمرجح علمه لا ظنه ، فلا يصحُّ أنْ يقال: إن هذا
عمل بالظنّ حتى يقال: إنه مذموم.
ثم نقول للتواترية: إن كل ما ألزمتم به متبعي حديث الآحاد الصحيح هو لازم
لكم في تواتركم بمعناه عندكم ، وزيادة على ذلك تلزمكم شناعات وفظائع لا يلتزمها
إلا من نفض يديه من دين الإسلام ، بل من سائر الأديان ونحن نبرئ حضرة
الدكتور عن التزام ما يؤدي إلى ذلك لما عرفنا من كتابته السابقة التي أعلن الرجوع
عنها نعتقد أنه إنما يحب الحق وإظهاره وأنه عند تجليه له لا يتوانى عن قَبُوله بغاية
السرور والبشاشة ، بل يُظْهِر للملأ رجوعه، وإن ذلك لَمِمّا يَزِيدُهُ عند كل منصف
إجلالاً.
* * *
(بحث التواتر)
ما هو التواتر؟ هو غير معروف عند السلف من المسلمين، وإنما يعبرون
عما كثرت رواته أو ما روته الجموع بالمشهور وهو عندهم كغيره لا بُدَّ من رواية
الثقات له وإلا لم يكن مقبولاً.
أما من عرف عنه التواتر فقد اختلفت عباراتهم في تفسيره أي حدّه ، فمنهم من
قال: هو ما نقله جمع يحصل العلم بروايتهم ضرورة - ومنهم من قال خبر جمع
عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة من حَيْثُ كثرتهم - ثم اختلفوا هل
يمكن تعيين جمع يكون أقل نصاب جمع التواتر، فقال بعضهم: أقله أربعة وقيل:
خمسة ، وقيل: عشرة ، وقيل: اثنا عَشَرَ ، وقيل: عشرون ، وقيل: أربعون ،
وقيل: سبعون ، وقيل: ثلاثمائة وبضعةَ عَشَرَ ، وقيل: أربعَ عَشْرَةَ مائة ،
وقيل: جميع الأمة ، وقيل: بحَيْثُ لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد، والمرجح
عند التواتريين عدم تعيين عدد مخصوص، وإنما مداره عندهم على حصول العلم
من حَيْثُ كثرةُ العدد تارةً ، ومِن حَيْثُ القرائنُ أخرى.
أقول: مَن أحاط علمًا بما ذكرناه مِن اختلافهم في هذا التواتر ، وفي شرائطه
تحقق أن هذا شيء ليس مِن عِنْدِ الله؛ إذْ لا يمكن القطع به ، ولا يمكن طرده ، ولا
تطبيقه على كل ما في الأعيان من الوقائع طردًا على وتيرة واحدة بحَيْثُ يتفق عليه
كافة الناس ، ويكون قاعدةً يصحّ المرجع إليه لفصل النزاع.
يوضح ذلك أنه يمكن على معتمد التواترية وقول جمهورهم أنْ يكونَ خبر أهل
البلدة العظيمة متواترًا كباريس مثلاً ، وإذا كان خبر الثلاثة والأربعة أو الخمسة
يصحّ أنْ يكونَ متواترًا ، بمعنى أنه يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة ، والامتناع هذا
يكون تارةً لمجرد الكثرة ، أي بِلا اعتبار قيد من القيود المعتبرة في الرواة عند أهل
الرواية: كالبلوغ ، وكمال العقل والإسلام ، والعدالة ، إلى غير ذلك. وإذا كان
الأمر كذلك فإذا أخبر خمسة من الفَجَرَةِ بِخَبَرٍ مثلاً فنحن نناشدُ اللهَ كل ذي عقل
وبصيرة ، هل يحصل له العلم الضروري بخبرهم؟ وهل يمتنع عنده تواطؤهم على
الكذب؛ لكونهم جمعًا حتى لو كانوا كفارًا فَجَرَةً أخبروا مرة دفعة واحدة؟ فإن كابر ،
وقال: نعم، قلنا له: وهل يجب أن يحصل لكل أحد مثل علمك من خبر هؤلاء؟
وهل تعد من خالفك مكابرًا بدلاً عن تكون أنت المكابر؟ نحن نستبعد ادعاء عاقل
مثل هذه الدعاوى الباطلة.
وكذلك نقول: إن كل جمع يفرضه التواتر مفيدًا للعلم من جهة أنه جمع فقط لا
بُدَّ أن يرد عليه إيراد صحيح ينقضه إلا أنه في بعضها أبين وأظهر مِن بعض، ألا
ترى أن أعلى ما مثلوا به لذلك هو قولهم: كأن يخبر أهل باريس بقتل أو موت
كبيرهم مثلاً، قالوا: إن هذا يفيد العلم بسبب كثرتهم. ونحن نقول في الجواب عن
ذلك: هذا مثال واحد ، ولا يمكن وجود مثله دائمًا حتى يصحَّ طرده في كل موضع
مما يتنازع الناس فيه. ويُقال فيه أيضًا: يمكن أنْ يكونَ إفادة الخبر العلم في مثل
هذا المثال إنما كان لقرائن ككونهم أي أهل باريس ونحوهم لا فائدة ولا نقصان ولا
مضرة عليهم مِن إظهار مثل هذه الواقعة ، فصدقهم هنا إنما هو للقرائن لا الكثرة؛
لأنا نجد الفرق بين مثل هذا المثال وبين خبر أهل باريس أنفسهم فيما إذا كانوا
محصورين بعساكر الإنكليز مثلاً ، فأخبروا بقدوم عساكر الروس إلى بلدهم
لإمدادهم، فهل خبرهم والحالة ما ذكرنا يفيد العساكر المحاصرة العلم الضروري
بحَيْثُ لا يتشوقون إلى صحته؟ وهل يمكن كذبهم والحالة هذه أمْ لا؟ نحن لا
نستبعد الكذبَ فضلاً عن عدم إمكانه حينئذ.
فإن قيل: نحن نرى أنفسنا مطمئنةً لا ينازعها شكٌّ في وجود البلدان النائية
التي لم نَرَهَا ولا نرى سببًا لذلك إلا ما تواتر إلينا من الأخبار بوجودها.
قلنا: نعم، والأمر كذلك، لكن لا يستلزم أنْ يكونَ سبب هذا العلم مجرد
الكثرة ، وإنْ كانَوا كُفّارًا أو فَسَقَةً فُجّارًا، بل لَعَلّ ذلك من الكثرة مع انضمام
القرائن.
فإن القرائن أنواع وأصناف لا يكاد يحصرها حدٌّ أو عدٌّ، بل القرائنُ قد تقارن
خبر الواحد الكاذب المعروف بكذبه وفسقه ، فيفيد خبره العلم إذا قارنته وأيدته،
وهي تختلف باختلاف أماكن المخبرين وزمانهم ككونهم أخبروا دفعةً أو متفرقين ،
وباختلاف حالهم من خوف وأمان ، وعسر ويسر ، وحب الأوطان والإقدام والفخر
وإرهاب ورجاء ، إلى غير ذلك مما يعود على الأفراد بفائدة أو نقص ولو بتوسط
فائدة أو نقص طوائفهم وأممهم وأقوامهم وأوطانهم.
ولِمَا ذكرناه وأضعاف أضعافه مما لم نذكره ولتعسر ذلك لو سلم صحته ، ولأن
تكليف العباد به تكليف لما لا يستطاع ، بل التزامه وحصر العلم الخبري فيه تعطيل
لأكثر معارف البشر وإلغاء لأكثر أحكام الديانات إنْ لم نقل لكلها وإخراج للناس في
جميع معاملاتهم ومعاشاتهم ، وموجب لتقاطعهم فردًا فردًا كالبهائم لم يجعل الله ذلك
أصلاً ولا قاعدة ولا مناطًا لتحقيق شيء من الأمور الدينية ولا الدنيوية ولا نبه عليه
أحد من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم نعرفه عن أحد من السلف الصالح لا
الصحابة ولا تابعيهم بإحسان.
فالحق عندنا أن أخبار الجموع لا تفيد العلم إلا إذا أيدتها القرائن أو شاركهم
الثقات - وخبر الثقات المتواتر هو أعلاها كتواتر القرآن الكريم - ثم خبر الآحاد
الأثبات الضابطين بشروطهم يفيد من عرف حالهم أو حال من وثقهم العلم ويجب
على مَن بَلَغَهُ خَبَرٌ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن حاله وحال
رواته، فإذا وجدهم بالشروط المعتبرة فلا يجوز له إهمال ذلك الخبر لأجل كونه لم
يتواتر لما عرفت مما قدمناه كما هو إجماع المسلمين، والله المستعان.
(للرسالة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: أي هي بمعنى بعض خبر الآحاد يفيد الظنّ، وفيه أن المتبادر من الإضافة العموم الذي هو بمعنى الكلية وكلامهم صريح في هذا.
(2)
المنار: أي قولهم: إن خبر الآحاد يفيد الظنّ، وهي المقدمة الأولى من مقدمتي القياس أي الدليل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أهم
الأخبار والآراء
(إعادة القانون الأساسي ومجلس المبعوثان في الدولة العلية)
في صبيحة يوم الجمعة المبارك 25 جمادى الآخرة صدرت الإرادة السلطانية
بإعادة (مجلس المبعوثان) والأوامر من مقام الصدارة إلى الولايات بالانتخاب.
فشمل الفرح والسرور جميع العثمانيين في دار السلطنة وجميع الولايات ، وفي
جميع أقطار الأرض وعدوا هذا اليوم العظيم عيدًا عامًّا للأمة العثمانية على اختلاف
مِلَلِهَا ونِحَلِهَا.
أما سبب نيل هذه الأمنية التي تشوف إليها العثمانيون مِن نَحْوِ ثُلُثِ قَرْنٍ بعد ما
سلبت منهم، فهو التدبير العظيم الذي قامت به جمعيات الأحرار العثمانيين في أوربا
ومصر بعد اتحادها ودخول كبار ضباط الجيش المستنيرين فيها ، وربما نُبيّن ذلك
في وقت آخر.
وما كاد نبأ البرق يوافي مصر بهذه البشرى حتى انبثّ فيها بين العثمانيين مِن
الترك والسوريين والأرمن وغيرهم ، فأنشأ يُهَنِّئُ بعضُهم بعضًا والبِشْرُ يتدفق مِن
وجوههم. ثم طاف جمهور منهم في الشوارع الكبيرة بالقرب من الأزبكية وهم
يهتفون بالأناشيد العثمانية.
ثم اجتمع مئاتٌ منهم في رحبة قهوة (اسبلنددبار) وطفق يترنّمُ بعضُهم
بالأناشيد والآخرون يصفّقون لهم. وقام غير واحد منهم فخطبوا بالتركية ، وقام
صاحب هذه المجلة فخَطَبَ بالعربية خُطْبَة وَجِيزَة صفَّقَ لها الجمهورُ مِن حَمَلَةِ
الطرابيش والبرانيط بهجةً واستحسانًا.
كان موضوع الخطاب أن هذا اليوم عيد لجميع العثمانيين على اختلاف
مذاهبهم وأديانهم وأجناسهم، وأن الفضل في نيلنا الدستور عائد لمساعي أحرارنا
وجمعياتنا السياسية، وضباطنا ذوي البسالة والحَمِيّة، وأنه يجدر بنا مَعْشَرَ
العثمانيين أن نفاخر جميع الأمم بنيل الدستور من غير ثورات داخلية تُرَاقُ فيها دِماءُ
الألوف ويَهْلِكُ فيها الحَرْث والنَّسْل، وأنه ينبغي لنا أن ننسى الماضي ، وأن نعمل
للمستقبل فنظهر للأمم كلها أننا أهل لهذا النوع الراقي من الحكومة، فيجب أن يتحد
التركِيّ والعربِيّ والرومِيّ والأرمنِيّ وسائر الأجناس العثمانية ، ويقوموا بالأعمال
التي ترفع شأنَ البلاد على قواعد المحبة والمساواة
…
ومما قلته أيضًا أننا نشكر للحضرة السلطانية المبادرة إلى إجابة طلب الضباط
الناطقين بلسان أحرار الأمة، فَبَطَلَ التصفيقُ أو قَلَّ عند ذِكْرِ السلطان ، وأشار كثير
من الترك والأرمن إشارات الإنكار.
وفي يوم السبت التالي اجتمع في دار رفيق بك العظم جمهورٌ عظيم من
فُضَلاء العثمانيين المختلفين في الجنس المُتَحِدِينَ في العثمانية لأجل المذاكرة في
تنظيم مظاهرة بإعلان السرور ، وإرسال برقيات الشكر إلى جمعيات الأحرار في
أوربا وإلى الآستانة، وقد كانت جمعية الشورى العثمانية قررت في يوم الأربعاء
الماضي جمع أكثر هؤلاء الأحرار للمذاكرة في شئون الثورة ومطالبة الصدر الأعظم
سعيد باشا بأن يختم تاريخه بمساعدة الأمة على إعادة الدستور ، وجمع (مجلس
المبعوثان) فلما بشرنا البرق في مساء يوم الجمعة بصدور الإرادة السلطانية بذلك
تحول مقصد الاجتماع إلى ما ذكرنا.
اقترح الجمهور أن ترسل تهنئة برقية إلى الأمير صباح الدين داماد (ابن
أخت السلطان) رئيس جمعيات الأحرار بباريس يشكر له فيها سعيه وسعي الأحرار
ويكلفه فيها أن يبلغ نيازي بك رئيس الضباط الذين أظهروا الثورة العسكرية في
مكدونية وإخوانه كنوري بك وأنور بك شكرهم وسرورهم. ورسالة أخرى إلى
الصدر الأعظم.
فاقترح صاحب هذه المجلة إرسال رسالة خاصة إلى السلطان. قلت: إن
ضباطنا وأحرارنا طلبوا والسلطان أعطى فنشكر له أنه قدر الحال حقَّ قدرها وبادرَ
إلى الإجابة ولم يضطر الجند إلى سفك الدماء. فوافقني على هذا الاقتراح مَن حضر
من السوريين أكثرهم بالقول وبعضهم بالسكوت، وعارضني أكثر الترك والأرمن،
وقال واحد من أشهر أحرار الترك: إنه لم يُجِب الطلب فضلاً وإحسانًا ، ولكنه أجابه
بعد أن أشرعت في وجهه مئة وخمسون ألف حربة (سنكه) وقال بعض المعتدلين
منهم: لا بأسَ بأن يذكر في تلغراف الصدر الأعظم تبليغ السلطان سرور العثمانيين ،
وبعد طول البحث انتخب الجمهور لجنة منهم لتقرير ما يجب ، وجعلوا رئيسها
إسماعيل حقي بك القائمقام العسكريّ (لأن الدستور رجع بقوة الجند) ، فقررت أن
تحتفل في أحد دور التمثيل احتفالاً يَخْطُبُ فيه العثمانيّون بالتركيّة والعربيّة
والفرنسيّة والأرمنيّة والروميّة. وأن يعرض على الجمهور المحتفل صورة رسالتين
برقيتين إحداهما للأمير صباح الدين أفندي، والثانية للصدر الأعظم، وترسلان بعد
إقراره عليهما. وقد بذل الحاضرون ما يلزم من النقود لأجل ذلك بغير اكتتاب بل
بمجرد الأريحية.
وفي مساء ذلك اليوم اجتمع جمهور من المصريين في حديقة الأزبكية لإظهار
السرور بنيل العثمانيين للدستور ومجلس النواب (المبعوثان) حضرنا هذا الاجتماع
في أثنائه ، واقترح علينا حسين بك تيمور، الذي دعا إلى الاحتفال وبعض
العثمانيين، أن نخطُب بالحاضرين خُطْبَة تُناسب المقام ، وكان جُلُّ أقوالهم إطراء
للسلطان بأنه تفضل وتكرم بالدستور أي بغير عِلّة ولا سبب، ولا ثورة ولا طلب،
وأن جيوشه منتشرة من منابع النيل إلى سيلان! ثم رأينا الجرائد كتبت عن هذا
الاحتفال ، فوصفته الجريدة والمقطم كما حصل وذكر اللواء عنه نُبْذَة صغيرة
معظمها كذب، وهذا ما جاء في الجريدة.
* * *
(مظاهرة في حديقة الأزبكية)
أعلن حضرة حسين بك تيمور أنه سيخْطُب في حديقة الأزبكية نحو الساعة
السادسة بعد ظهر أمس؛ لإظهار السرور بمنحة الدستور لإخواننا العثمانيين. فبِنَاءً
على هذا الإعلان توافدَ الناسُ مِن خاصَّة وعامَّة إلى حديقة الأزبكية، ولما وافت
الساعة السادسة الْتَفّوا حول كوشك الموسيقى ، فافتتح الخطابة حضرة ربيع أفندي
المدرس بالمدرسة التحضيرية ، فبسط كلمة عن فوائد الدستور ، ثم قال: إننا نؤمل
البلوغ إلى غايتنا من نيل المجلس النيابي، وإن طال علينا الأمد. ثم اختتم خُطْبته
بالدعاء لجلالة السلطان والأمة العثمانية والجناب العالي. وتلاه شاب يدعى الشيخ
حسين الغزي من طلبة العلم في الأزهر الشريف فحذا حذو الخطيب الأول في
الموضوع ، ثم تلاه حضرة الشيخ صادق عمران فتلا قصيدة يمدح بها جلالة
السلطان والأمة العثمانية ، ثم طلب جماعة من رجال الصحافة والأدب إلى حضرة
الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار، أن يتكلم في الموضوع
كلمات تروي الغليل فأجاب دعوتهم ، وارتقى مكان الخطابة ، فقال ما خلاصته:
هذا اليوم هو عيد للعثمانيين عامَّةً وعيد للمسلمين خاصَّةً، فإنه عيد بحكومة
الشورى التي يتمتع بخيرها العثمانيون كافَّةً من جميع الملل والأجناس. وحكومة
الشورى التي قررها الإسلام بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى:
38) ، وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) .
مسائل الأمن والخوف من الأمور العامة المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها ، ولم
يفوض القرآن الأمر فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ وهو الإمام
المعصوم وصاحب الشريعة ومبلغها بل جعل الأمر فيها إليه وإلى أُولِي الأمْر مِن
الأُمّة يديرونها بالشورى بينهم.
من هم أولو الأمر؟ زعم بعض المحرّفين أو المخرّفين أن أُولِي الأمر هم
الملوك والسلاطين، وهو زعم ظاهر البطلان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم
يكن معه حين نزلت الآية ملوك وسلاطين ، وإنما كان يستشير أولي الرأي والمكانة
من الأمة، فهم أولو الأمر بغير نزاعٍ.
أفرأيتم هذه الهداية إلى حكومة الشورى وسلطة الأمة. هل يوجد عناية وتأكيد
في شريعة ودين أبلغ منها؟ إذا كان رب العالمين لم يَرْضَ أنْ يكون خاتم رسله
مستقلاًّ بإدارة الأمور العامة دون أهل الرأي من أمته ، فكيف يرضى أو يشرع لغيره
ممن هو دونه بذلك؟
مع هذا كله لم تلبث حكومة الإسلام بعد الخلفاء الراشدين أن صارت شخصيةً
استبداديةً ، ولا نخوض في الكلام عن الماضي ، فإنما غَرَضُنَا الكلامُ عن الحاضر.
تقلبَ الزمان، ودالتِ الدولُ، ودخل العالم الإنساني في طَوْر جديد، فسبق
غير المسلمين إلى حكومة الشورى، وكانت حكومة دولتنا العَلِيَّة، وهي شخصية
على خطر بين الحكومات النيابية الشورية المجاورة لها ، ففكر بعض أصحاب
العقول الكبيرة فيها من نحو نصف قرن في جعل الحكم بيد الأمة ، وأنفذوا ذلك من
نحو ثلث قرن ، فوضعوا القانون الأساسي وأنشأوا (مجلس المبعوثان) الذي
تعبرون عنه بمجلس النواب، ولكن لم تلبث السلطة المطلقة أن استردت هذه المنحة
أو هذا الحق منهم.
لو كانت الأمة العثمانية في ذلك الوقت مستعدةً للدستور استعدادَها اليوم لَمَا
أمكن أخذه منها، ولكنها لم تَنَلْهُ باستعداد الجمهور ، بل باستعداد أفراد مِن نابِغِي
وزرائها أصحاب الأدمغة والأفكار البعيدة، والغيرة الشديدة كمدحت باشا وإخوانه.
لم يكن العقلاء في الأمة العثمانية يعدون على الأصابع فيموت الدستور بموتهم،
بل كان في الأمة كثير من أهل التربية العالية والمعارف السامية ، ولكنهم لم
يكونوا منبثين في الأُمّة كلها ، ولا مشتغلين بإشراب رُوحِها مَعْنَى الحكم الذاتي.
فلما رأوا أنفسهم قد سلبوا ما فيه سعادة الأمة وعزة الدولة، وأنه لا سبيلَ إلى
استرجاعه من الأعلى كما جاء أولاً بتدبير مدحت باشا وحسين عوني باشا وإخوانهما
رَأَوْا أَنْ يطلبوه مِن جانب الأُمّة بتوجيه نفوس المتعلمين إليه؛ فأنشأوا الجمعيات
السِّرِّيَّة التي ظَلَّتْ تَسْعَى وَتَدْأَب وتصارع الصعوبات حتى أتيحَ لها الظَّفَرُ الآن
ونالت ما تتمناه.
ولما بلغ هذا المقام من البيان التاريخي المفيد كبر على أناس لم يفقهوا قوله
فحدث شيء من الشغب وانقطع الخطيب عن الخطابة.ا. هـ كلام الجريدة.
وأَزِيدُ على ما ذَكَرَتْهُ الجريدةُ ما جاء في بعض الصحف ، وهو أن بعض
المصريين صاحَ لِيَحْيَا السلطانُ. لِتَسْقُط تركيا الفتاة. أو حزب تركيا الفتاة. فصاح
بصياحه جمهور مِن الحاضرين فاستاء مَن كان هناك مِن فضلاء الترك وغيرهم من
العثمانيين ، وقال قائل منهم: يا شيخ رشيد ، لا تتكلم على هؤلاء الذين لا يفهمون.
فما زادهم ذلك إلا صياحًا بسقوط تركيا الفتاة أي الأمة العثمانية في حياتها الدستورية
الجديدة! ! ! وظنوا لجهلهم أنّ مِن لوازم حب السلطان أن يعيش على شيخوخته
وضعفه عمرًا طويلاً بغير أُمَّة أو بأُمّة ميتة، وُجُودُهَا كَالْعَدَمِ، فَهَكَذا يكون الاحتفال
بالدستور! !
أما العثمانيون الأخيار ، فقد جعلوا موعد احتفالهم مساء يوم الثلاثاء غُرّة
رجب ، وأن لا يذكر الخُطَباء فيه اسم السلطان بذمّ ولا مدح ، ولا تهنئة ولا شُكْر
عَمَلاً بِرَأْيِ السواد الأعظم ، وخلافًا لرأي أكثر السوريين ، وهم العدد الأقل في
جمهور المؤتمرين بالاحتفال ، وسنذكر شيئًا عن الاحتفال في الجزء الآتي.
أرسل إلينا كثير من المُحِبِّينَ رسائل التهاني بنيل أمتنا للدستور لعلمهم بما
أصابنا مِن الاستبداد، منها ما طار به البرق ومنها ما عدا به البريد، منها ما هو
بعنواننا الخاصِّ، ومنها ما هو بوصف جمعية الشورى العثمانية. فنشكر لجميع
المهنئين عاطفتهم الشريفة ، وَنَخُصُّ بالذكر لَجْنَةَ الشورى العثمانية في البرازيل
ورُبَّمَا ننشر شيئًا مما فيه العِبْرَة والفائِدَة مِن تلك الرسائل.
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(5)
الفصل العاشر [1]
(محمد عليه الصلاة والسلام قبل تزوج خديجة)
وإذا العناية صاحَبَتْ مَرْءًا فَلا
…
تُكْثِرْ سُؤَالَكَ فِيهِ كَيْفَ ولِمْ وَمَا
ودعِ الترددَ إنْ أتاك حديثُه
…
مهما حوى مهما نما مهما سما
لا تسأل كيف أبدع الإنسان من فتق الكواكب من رتق موادها، وقدر مدارات
لحركاتها، ونظامات لتقابلها، وأنشأ منهن المقسمات ليلنا ونهارنا، المدبرات صيفنا
وشتاءنا، الناظمات في أحشائهن شملنا، المادات بنسائمهن نسماتنا، وبأرواحهن
كياننا، ولا تسأل لم خلق لنا الأرض جميعًا نُشَرِّح أحشاءها، ونقطع أوصالها،
ونستخرج أفلاذها، قد حصرناها على عِظمها في يدنا، وحشرنا كل ما فيها في
ذرات صغيرة من دماغنا، إن شئنا نرفع من شأنها بما نركب من أجزائها، فيأتي
منها من البدائع ما يدهش ألبابنا، ويسحر أبصارنا، وإن شئنا لم نعبأ بها،
واستشرقت نفوسنا إلى غيرها، فاطلعنا إلى مصادر الأرواح ومواردها، ومشارق
الأسرار ومغاربها، وارتفعنا إلى ينابيع الأكوان ومظاهرها، وتلمسنا ثمة حياة لا
تحتاج فيها إلى ماء الأرض وهوائها، وترابها ونارها.
ولا تسأل كيف تقاربت صورنا معشر الإنس وتباعدت حقائقنا، ولم طالت
آمالنا وأعمالنا، وقصرت آجالنا وأعمارنا، ولم جشعت نفوسنا بتكثير الصور ، ثم
شغفت كل نفس بأنواع منها، وتخالفنا في تمييزها وترجيح بعضها على بعض،
وتدابرنا في مناهج طلابها، وتقاطعنا في سبيل اكتسابها، ولم هذا البون في
أنصبائنا، والفرق في مرامينا، والبعد في مدارجنا، والغبن في معارجنا.
ولماذا منا أناس مع الكواكب مداركهم سابحة في أفلاك الحقائق، وبروج
الرقائق والدقائق، ومع الأنوار سيرهم منتشرة في سابق الدهور ولاحقها، وبادي
الشعوب وحاضرها، وآخرون مع الديدان مشاعرهم دابة بين أوراق الآجام
وأحطابها، أو تحت دخان القفار ونقعها، ومع العصف صورهم منطوية في أحشاء
الأواكل، ومندرجة في الأواخر مع إخوانهم الأوائل.
لا تسأل عن هذا كله إن كانت نفسك قد وقفت عند مطمأنها من معرفة الأول
الآخر، الظاهر الباطن، ذي الحياة الأزلية الساري سرها في الأكوان والوجودات،
البادي خط جلالها وجمالها على لوح الآيات البينات، من الأشكال والتنوعات
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ
لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم
مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
* وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ
تَخْرُجُونَ} (الروم: 20-25) .
إذا وقفت نفسك عند هذا المطمان من المعرفة فلعلها تصل بك إلى معرفة أن ذا
الحياة الأزلية ذو حكمة ليس في وسع استعدادنا أن نحيط بأسرارها خبرًا مهما حامت
حولها آمال مداركنا، ومهما طافت في سوح قدسها صوافي سرائرنا، فأخلق بأحدنا
أن يتذكر في هذه المسابح الفكرية عجز أجنحة عقولنا عن أن تصل بنا إلى ما دون
هذا السر الأعظم، ووقوعها بنا في كثير من أشراك الأوهام في الوجودات التي هي
تحت حسوسنا، وفي جوار جسومنا ونفوسنا.
وعسى أن ترقى بك هذه المعرفة إلى الإذعان بأن هذا الحي الأزلي الحكيم ذو
عناية ربانية لا يحاسب على ما يختص بها ممن يشاء فله الأمر كله فيما يبدئ
ويصور، وله الحكمة فيما ينوع ويميز، منه كل شيء وإليه المآب.
وإن كنت في ريب من الحكمة الأزلية، والعناية السرمدية، فدع نفسك واقفة
ما شاءت في عتمة النفي، أو دائرة في سجن الشك، أو طائرة في جوّ الوهم لا
قرار لها. وإنما نحكي هنا للذين هم بربهم يؤمنون.
سبق في العناية الأزلية أن تكون هداية شعوب كثيرة إلى أقوم سبل الحياة على
يد رجل من العرب يرتفع به اسمهم في العالمين ، وكان من هذا الشرف الذي اعتده
الله للعرب أعظم نصيب لعبد المطلب الذي أخرج الله إنسان هذه الهداية من أولاده.
كان عبد المطلب [2] من كبار أشراف قريش ورزق عَشَرَة أولادٍ مِن الذكور ،
وكان ابنه عبد الله أحبهم إليه فزوجه شريفة من أشراف قريش مِن بني زهرة تُدْعَى
آمنةَ ، فحملت منه ، وقبل أن تضع حملها تُوفي ، فلمّا وضعت كفل وليدها جده ،
وكان هذا الوليد المبارك (محمدًا) صاحبَ القرآن.
فما أسعدك يا عبد المطلب! أكنتَ تدري وأنت في أبواب أبرهة الحبشي
تَتَطَّلب منه ردّ ذلك القليل من الإبل الذي لك مما استاقه من إبل مكة أن سيولد لك في
هذا العام حفيد تنثني أعناق الملوك في الأجيال المقبلة خاضعة لذكره.
أكنت تفكر إذ قصارى أملك حفظ مقامك بين قومك المنقطعين في تلك البرية
أن اسمك سترن به المحافل في الأمصار النائية والشعوب المختلفة على مدى عصور
كثيرة ، كلما ذكر نسب حفيدك العظيم الذي أعتده الله لمنصب يتبعه من أجله العالم
ويبقى ذكره فيهم إلى الأبد.
أخطر على قلبك أن بلدك المقدس الذي لم يكن يحج إليه إلا العرب ستحج إليه
كل شعوب الأرض اتباعًا لما جاءهم به حفيدُك من الهداية.
أجاء في خلدك أن كنتك آمنة الزهرية إنما ولدت من يشرف الله به قومك
ويجمع به كلمتهم ويعلي سلطانهم وينشر لغتهم ويقيم لهم مجدًا مع الدهر مذكورًا،
وفي كتاب العالم مسطورًا.
هل كنت ملهمًا إذ سميته محمدًا؟ وكنت على رجاء كبير بأن يقيم له العالمون
تحميدًا لا ينقطع، وتمجيدًا لا يزول.
أعرفتَ أنك بحفظك هذا اليتيم ، وكفالتك إياه ، وعنايتك به إنما كنت تحفظ
للعالم كله التحفة التي آتاهم الله من كرمه، والوديعة القدوسية التي اختص الله بيتك
لظهورها، وقومك لانتشار مبدأ نورها.
فأنت بما أوتيت من هذه السعادة الخالدة جدير أيها المخصوص بعناية الحي
الأزلي، فليدم ذكرك جمالاً للمحافل واسمك ساميًا مع اسم حفيدك نبي الشعوب وبركة
العالم.
كانت ولادة محمد في القرن السادس من ميلاد المسيح عليهما الصلاة والسلام،
أي حوالي سنة سبعين وخمسمائة منه ، وحوالي السنة الثامنة والأربعين من ملك
كسرى أنوشروان. ولم يكن قومه يعرفون سني الأمم وتواريخها ولا سني أنفسهم،
وإنما كانوا يحفظون الأعمار ويوقتون آجال الأشياء بالوقائع الشهيرة والحوادث
العظيمة كما هو شأن الأميين إلى عهدنا.
وُلِدَ عامَ الفِيل، وهي سنة اشتهرت بهذا الاسم لوقوع حادثة فيها عندهم تدور
صفوة حكايتها على حرن فيل القائد الحبشي وإبائه المسيرَ تلقاء مكة، فلذلك سميت
بهذا الاسم. وحادثة الفيل شديدة الشهرة ، ويصح أن نقول: إنها من التاريخ المقدس
عند المسلمين أي إنها ذكرت في القرآن ، ولكن على أسلوبه في القصص التي
يذكرها لأجل العبرة فقط لا على أسلوب المؤرخين ونقلة الأخبار.
وقد أعطي لمرضعة على عادة قريش في إعطائهم الأولاد للمراضع من القبائل
النازلة قرب مكة ابتغاء أن تتربى أجسامهم في البادية حيثُ الأرضُ النظيفة قد
كسيت من الأزاهر أبدع النمارق الطبيعية، والنسائم متحملة من ذلك العبير تهديه
إلى النفوس رائحة وغادية.
إذا بزغ رأس النهار أرسل إلى أفئدة أهل النشاط روحًا مبشرًا بطيب عقبى
العمل، وسوء منقلب الكسل، وكأن بينه وبين سكان البراري وساسة الأنعام عهدًا
أنْ لا يقبل بطلعته الباسمة إلا وهم مستقبلوه بالتحيات الطيبات من مباسم هممهم،
وثغور اجتهادهم، ورافعون إليه آيات الشكر على ما له من الأيادي البيضاء في
اخضرار عيشهم، وابيضاض وجوه آمالهم.
بزغ الفجر يومًا على نسمتين في أباطح تهامة قد أسفر عليهما البشر، ونفذت
الغبطة من أعماق جوانحهما إلى أسارير وجهيهما، ولم يكن ذلك الأنس والبشر لما
حولهما من مجالي عرائس الطبيعة؛ لأن السماء كانت شحيحة عليهم تلك السنة فلم
تترع حياضهم، ولا أونقت رياضهم، ولو لم يصن الوادي لهم القليل مما أغيثوا به
مرة لقتلهم الظمأ - ولا لما حولهما من وافر الرزق وسابغ النعم؛ لأنهما لم يكونا
يملكان إلا غنيمات قد جارت عليها السنة، وقتلها الجهد والجدب، ولكن كان ذلك
السرور بنعمة جديدة أصاباها فملأتهما فرحًا، وأشبعتهما ابتهاجًا، ولم يكونا يفتران
عن هذا الحديث الذي كانا يتغذيان به صباح مساء، ويجددان به شكرًا على هذه
النعماء، وهذا ما كانا يتحدثان به:
- حقًا يا حليمة إنك قد جئتنا بتحفة سنية ونسمة مباركة.
- إي والله يا حارث وانظر ما أَجْمَلَه، انظر إلى هذه الأشفار الهدب، انظر
إلى هذه العيون الدعج، انظر إلى هذا الجبين الأزهر، انظر ما أبهى انعكاس هذا
الضياء المقبل من الشرق على مرآة هذا الجبين.
كان هذا الحديث يجري بين امرأة وزوجها من قبيلة بني سعد صبيحة يوم كانا
قبله في مكة وكانت هذه المرأة هي التي جاءت بحفيد عبد المطلب لترضعه، وقد
حدثت هي حديثها كيف جاءت به وكيف رأت من بركته، قالت:
خرجت مع زوجي وابن لي صغير على أتان لي قمراء [3] معنا شارف [4] لنا
والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا مِن بُكائه من الجوع،
ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج،
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت [5] بالركب ضعفًا وعجفًا حتى قدمنا مكة نَلْتَمِسُ
الرُّضَعَاءَ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه
إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول
يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي
إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: (والله إني لأكره
أن أرجع مِن بينِ صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه)
قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه
فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت به إلى
رَحْلِي ، فلما وضعته في حِجْرِي أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى رَوِيَ ،
وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلى
شارفنا تلك فإذا إنها حافل [6] فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رِيًّا
وشِبَعًا ، فبتنا بخير ليلة، قالت يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة
لقد أخذت نسمة مباركة. قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا
وركبت أتاني وحملته عليها معي ، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من
حمرهم حتى إن صواحبي لَيَقُلْنَ لي: يا ابنةَ أبي ذؤيب وَيْحَكِ أَرْبِعِي علينا [7] ،
أليست هذه أتانك التي كنت خرجتِ عليها؟ فأقول لهن: بلى ، والله إنها لَهِيَ.
فيقلن: والله ، إن لها لَشَأْنًا.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد ، وما أعلم أرضًا من أرض الله
أَجْدَبَ منها ، فكانت غنمي تروح عَلَيَّ حِينَ قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنًا ، فنحلب
ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من
قومنا يقولون لرعيانهم: وَيْلَكُمْ اسرحوا حيث يسرحُ راعي بنت أبي ذؤيب. فتروح
أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمي شباعًا لبنًا ، فلم نزل نتعرف من
الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان.
فيالك من سعيدة يا حليمةُ إذ كتب لك إرضاع اليتيم الذي تربيه العناية الخاصَّة،
ولم يكشف لك من آثارها إلا هذه البركة التي ملأت بيتك وويلكن أيتها المراضع
الغبيات المعرضات عن اليتيم التماسًا للرضعاء الذين لهم آباء. لقد فاتكن الحظ وما
الحظوظ بالاختيار، وعزاء لكم أيها اليتامى، فقد عاش محمد العظيم يتيمًا.
بعد أن ربي (محمد) صلى الله عليه وسلم، في بني سعد عند السيدة
حليمة جيء به إلى أُمِّهِ ، فذهبت به وهو ممتلئ قوةً وهو ابن ست سنين إلى المدينة
لِتُزِيرَهُ أخواله مِن بني عدي بن النجار وفي عودتها إلى مكة توفيت في مكان يسمى
الأبواء. وكان عبد المطلب شديدَ العناية بحفيده ، ويتوسم فيه علوّ الشأن ، فلما بلغ
الثامنة مِن عُمُرِهِ ودَّعه مفارقًا هذه الدار وأودعه لدى الجناب الإلهي الذي من لدنه
واردات البِرّ والبركات إليه، ونوافح الرأفة والحنان عليه.
وقام مقامه ابنه أبو طالب، شقيق عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم
فأدخله في آل بيته وتعهد تربيته وتثقيفه.
وكان أبو طالب امرءًا نبيهًا شهمًا صادق المروءة، ماضي العزيمة، نصّارًا
للعدل والإنصاف، عرفنا كل ذلك فيه من تكليفه نفسه أقصى ما يمكن أن تكلف
النفس في حماية ابن أخيه لَمَّا قام بالدعوة، ومن مواقفه أمام قريش في نصره والذود
عنه. وقد خلف أبو طالب أباه عبد المطلب في المقام السامي بين قومه، فكان ابن
عبد الله ينتقل في بروج العِزّ والسؤدد والسعادة في آفاق الشرف الهاشمي، وتنطبع
في جوهره الكريم صور البر والعدل والإحسان على مثال الخلال الشريفة التي كان
يتحلى بها ذلك الرجل السامي التربية (أبو طالب) .
نحن قد رأينا من آثار العناية الأزلية بذلك اليتيم العزيز ما يصحّ القول معها:
إنه كان مستغنيًا عن تربية أحد ، ولكن لماذا لا نقول: إن إعداد ذلك العمّ الفاضل
لتربيته في الصغر كان من جملة آثار العناية الفائقة به.
أما تربيته إياه التربية الجسدية فقد كانت على غاية ما يتصور علماء الصحة،
ولذلك جاء من آثارها قوة جسدية لهذا المبارك لا نظير لها، وصار على صورة من
الجمال كانت تجعل الذين يرونه يقولون لم نَرَ مثله. ولا يتم الجمال إلا بصحة البدن
وهي إنما تتم بحسن التربية الجسدية.
وأما تربيته إياه التربية العقلية فكانت جديرة أن يسجد أمامها فلاسفة النفس
وأساطين العقل ، وهناك مِن آثارها قبل النبوة ما يجعلنا في حِيرة مِن أمر هذه القبيلة
الصغيرة المبتعدة في دارها عن مناشئ الارتقاء العقلي، ومناجم الإشراق الفكري،
لا كتب يدرسونها، ولا قوانين للمعارف يرتبونها، ولا شيء إلا غرائز طَيِّبَة
يتوارثونها، وقواعد عامة يتناقلونها، وحصافة أُوتوها في نقش أصحّ التجارب في
المدارك، والاحتفاظ بأثبت الفوائد في الذواكر.
وكذلك يفعلون في التربية الأخلاقية ينشئون الذّرّيّة على دروس المشاهدة في
مدارج العمل، ودروس القصد والاعتدال في معارج الأمل، فيأتي من تلك السلائل
التي لم تلحقها عدوى الأجيال الفاسدة نوابغ في العقول والأخلاق، أفذاذ في الهمة
والأعمال، بطبع من المربين، ونقش من المثقفين، وذلك كان شأن أبي طالب
ودأبه مع ابن أخيه العزيز، وربيبه النجيب.
نشأ (محمد) - صلوات الله عليه - في أمثل التربية بأنواعها كلها على يد
ذلك الفاضل العظيم ، فجاء منه رجل أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، أذكاهم عقلاً،
وأذكاهم نفسًا، وأصدقهم لسانًا، أنداهم في العرف يدًا، وأثبتهم في الأزم قلبًا،
أرحمهم للضعيف، وأشجعهم على القوي، أبرّهم للقريب، وأعدلهم للبعيد، أقربهم
إلى المعروف سمعًا، وأبعدهم في الأمور نظرًا، أسدهم رأيًا، وأشدهم إقدامًا،
ألينهم للصاحب جانبًا، وأكرمهم للخير صاحبًا، وحسبك أنه عُرِفَ منذ صباه بالأمين،
وما زال على هذا المنوال حتى أكرمه الله بذلك المنصب العظيم ، فزاده جمالاً
وجلالاً وكمالاً، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
نشأه ذلك المربّي على كل ما يزين الرجال من الأعمال، فلما كان ابن اثنتي
عَشْرَةَ سنةً سار به إلى الشام، وكان أبو طالب تاجرًا ، فأوقفه في هذا السفر على ما
تكن الأرض وتعلن من طبائع الأقاليم المتغيرة، وأحوال العالم المتحولة، ففي
طريقهم من مكة إلى الشام منازل أُمم كانت فَبَانَتْ. كانوا على وجه الأرض جمالاً
لها ، فلما فسقوا عن السنن التي تحيا بها الأمم شالت نعامتهم طرًا، وطارت نعمتهم
جميعًا، وأصبحوا كأن لم يكونوا {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلَاّ قَلِيلاً} (القصص: 58) ، وفي رؤية أمثال هذه المنازل الخاوية أو المنتقلة إلى غير أهلها
عِبْرَة عظيمة هي أجل ما في السفر من الفوائد. ولقد كان فيما أوحي إلى هذا المُنْعَم
عليه بعد أن صار نبيًّا قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) .
وفي طريقهم هذه أوقفه عمه على قرى الشام ودساكرها، ومزارعها ومصانعها
ومتاجرها وحكومتها، وأراه كيف يكدح الناس جميعًا ليأكل نفر منهم خبزه بعرق
جبينه، وليتمتع نفر آخرون بثمرات تلك الأرض الطيبة، ونفائس ما تعمله تلك
الأيدي الثقفة، وكيف يعمل هذا لهذا في الاجتماع ليتمّ قوامه، ويحفظ نظامه.
ومر به على الأديار والصوامع حيث ينقطع نفر آخرون عن المزاحمة في هذا
الحطام الزائل، متوجهة نفوسهم إلى الوطن الذي يليق بالروح الغريبة في هذا
الهيكل الجسماني، غير ممدودة أيديهم إلى شيء من هذه الأرض إلا إلى ما يقي
البدن من جوع وعري ، وذلك يتيسر ببعض حبوبها وأعشابها، وبعض أصواف
حيوانها وأوبارها.
في بعض تلك الأديار في (بُصْرَى) وقف به على الراهب (بَحِيرا) وكان
على حظ عظيم من علم الفراسة أو الكهانة، فأنبأه بما سيكون لابن أخيه من الشأن
العظيم ، وأوصاه بمزيد العناية به.
وفي هذه السفرة مَرَّنَهُ على أساليب التجارة، وأطلعه على ضروب البضاعة،
وصنوف الأداة والماعون التي يتعاطى التجار تبادلها ، وكيف يحمل كل منهم مِن
بلده ما لا يكون في غيره ، ثم يحمل إلى بلده ما ليس فيه ، وكيف يكون لهؤلاء
الوُسَطَاء في نقل حاج الناس من الفضل العظيم في ترقية البدائع الإنسانية ما ليس
لغيرهم.
فناهيك بما ملأ به أبو طالب ذهنه في هذه السياحة التجارية مِن صنوف
المعارف وأنواع التجارب ، وفي درس كهذا من فوائد التربية العملية ما ليس في
ألف درس من التربية الكتابية أو النظرية.
ولما كان ابن أربع عشرة سنة أحضره معه في حرب الفجار، وهي حرب
هاجت بين قريش وبين قيس، فرأى في هذه الواقعة كيف تعبأ الصفوف، وتتقابل
الأبطال، وكيف يصبر الشجعان وإن أَوْدَى بهم الصبر إلى حتفهم، وكيف تكون
نتائجَ الصبر وحسن التدبير في الحروب، وكيف عاقبة الذين تنقطع قلوبهم جبنًا،
وتخور عزائمهم جزعًا.
ولم يباشر في هذه الحرب قتالاً، وإنما كان ينبل على أعمامه، أي يناولهم
النبل أو يرد عنهم النبل. وكان ذلك كافيًا لتمرنه على مواطن النزال، ومواقف
النضال، وليس بِخَافٍ أنّ الأخذ بيد الناشئ إلى معارك أبطال المبايعات، ثم معارك
أبطال المقابلات والمقاتلات، هو أعظم الوسائل التي تجعله أهلاً للمقامات العُلَى بين
الرجال، حتى إذا أتاحه الله للأخذ بقوم إلى سوح العزّ والسؤدد والصلاح والفلاح،
كان نعم الدليل الهادي، ونعم السائق والحادي.
فلما بلغ خمسًا وعشرين سنة عرضت عليه سيدتنا (خديجة) أن يخرج في
تجارة لها إلى الشام ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مِن التجار، وأشار عليه
عمُّه بقَبُول ذلك، وطلب له أضعافًا فرضيت، وسار بتجارتها مع الركب إلى الشام
ومعه عبد لخديجة اسمه (ميسرة) ، فلما رجع بالبضائع إليها باعتها فربحت أضعافًا،
وكان هذا بدء تاريخ جديد للسيدة (خديجة) معه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
من سيرة السيدة خديجة.
(2)
اسم عبد المطلب شيبة، ولتسميته بعبد المطلب حكاية، وهي أن أباه هاشمًا كان قد تزوج أمه من بني النجار في (يثرب)(المدينة) ، فلمّا ولدته تركه عندها حتى كبر، وكان هاشم تاجرًا، فخرج بتجارة إلى الشام ، فمات في (غزة) فذهب أخوه المطلب بن عبد مناف ليأتي بابن أخيه، فأبت والدته أن تعطيه إياه حتى أقنعها بأن إقامته في بلدته وبين قومه وعشيرته خير له، ولما جاء به كان مردفه خلفه على بعير فظنت قريش أنه عبد ابتاعه، فقالوا عبد المطلب، وقال لهم المطلب: وَيْحَكُمْ ، إنما هو ابن أخي هاشم ، قدمت به من المدينة ، ولكن ذاعت كلمة عبد المطلب ، فاشتهر بها ، وصارت كأنها عَلَم له.
(3)
القُمرة: بالضم، لون إلى الخضرة، أو بياض فيه كدرة، حمار أقمر، وأتان قمراء.
(4)
الشارف: الناقة المسنة.
(5)
أذمت بالركب: أي حبستهم لانقطاع سيرها من عجفها، أي هزالها وضعفها.
(6)
حافل: كثيرة اللبن.
(7)
أربعي: أي ارفقي واقتصري.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرابطة عند النقشبندية وطاعة المريد لشيخه
(س10) من ع. س. ط. في سنغافورة.
حضرة العالم الفاضل السيد محمد رشيد رضا، صاحب (المنار) المنير
بمصر.
قد كثرت الضوضاء والأخذ والردّ في هذه الأيام بين مجلة (الإمام) بسنغافورة
ومَن يثق بها، وبين من يسمون أنفسهم أهل الطريقة وأرباب السلوك، وذلك بسبب
السؤال الآتي والجواب عنه والمجادلات فيه، ولأن المنار هنا له اعتبار عند أولي
الأبصار، أحببنا أن يكون الحَكَمَ في هذه القضية لكي تقطع جهيزة صوت كل
خطيب، حيث قد امتلأت الأسماع نقيقًا ، وأعمدة الجرائد سوادًا ، والقلوب شُبهًا
فنؤمِّل بسط الجواب وبيان الحق بأدلته ودحض الشُّبه الباطلة ولا بُدَّ أن تكونوا قد
كتبتم سابقًا في هذا الصدد؛ فنرجوكم أن لا تُحِيلُونا على ما ليس بأيدينا أثابكم الله.
أما السؤال المثير للجدال فهو: ما قولكم في الرابطة التي يلزم بها مشايخ
الطريقة النقشبندية المريدين، ومعناها أنه لا يصحّ منهم ذكر الله إلا بعد إحضار
صورة الشيخ في قلب المريد ، ثم يشرع في الذكر مع حضورها ويتركه إذا غفل
عنها؛ لأنه حينئذ باطل لتمكن الشيطان من المريد لخلوّ قلبه من صورة الشيخ، وأن
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (آل عمران:
200) دليل لهم وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) أمرٌ بها،
أي مع التفسير المذكور إلى نحو ذلك، وجاء في سؤال آخر إلى مجلة الإمام: إن
من حق الشيخ أن يمنع المريد عن إجابة أبيه وأمه المسلمَيْنِ إذا نادياه ، ولو كان في
النزع، وكذا منع الزوجة عن زوجها والعكس، وقد وقع ذلك هنا ومات المريض
حزينًا. ويقولون: إن الشيخ يربي التلميذ بذلك.
ومن السؤال أيضًا قولهم: يجب على التلميذ متابعة شيخه بدون سؤال أو تردد
ولا يجوز له أن يعترض على شيخه ولو رآه على فاحشة؛ لأنه كالنبي المرسل
بالنسبة إليه ولا ينكر عليه ولا بقلبه وإن عقوبة الإنكار حينئذ الحرمان، وأوجبوا
على المريد أن يعتقد أنه لا يمكن أن يصل إليه مدد ولا خير من ربه إلا بواسطة
الشيخ؛ لأنه الوسيلة له. وللشيخ محلات للسلوك والتلقين يحشر إليها جملة من
الرجال الشّبّان والنساء الشوابّ يجتمعون بها من غير محرمية، بل جلهم جهال
بالواجبات العينية، وإن الذكر وَحْدَهُ كافٍ للوصول والقرب من الله ولو ترك أكثر
الفروض العينية. وقد أجابتهم مجلة الإمام بالمَنْع في الجميع، وأن تلك المبادئ مما
تبع ضلال الأمة فيها مَنْ قبلهم من الأمم، وإن بعضها فيه ميل إلى جانب الشرك،
وقد نقل الإمام ما قاله المفسرون في الرباط الشرعي والوسيلة الشرعية ، وجزم بأن
عبادة الله لا تجوز بغير ما شرعه الله، وأن من زاد فيها كمن نقص منها، مبتدع
مردود عليه قوله، وأن الرابطة بالمعنى المذكور في السؤال لم يُعلّمها النبي أحدًا من
أصحابه ، ولا علمها الصحابة أحدًا من التابعين، وأن تطهير القلوب من الصور
والتماثيل ليس بأولى مِن تطهير محلات العبادة منها. وأنه يحرم متابعة الشيخ فيما
نهى الله عنه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن شرع للعباد ما لم يأذن به
الله فهو ضالّ مُضِلّ، وأن أعظم مرشد وأعلم طبيب ديني هو نبينا محمد صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد أكمل الله به الدين، فلا دواءَ ديني نافع إلا وقد
بيّنَه لنا، ومَن لم تشف أمراض قلبه أدوية القرآن لا شفى الله مرضه، وأن النبي
أرشدنا إلى دواء الوسواس، وهو ذكر الله ليخنس الشيطان، فمن لم يخنس شيطان
وساوسه بذكر الله فهو الكاذب ، ومستحيل أن يخنس لحضور صورة شيطان مثله في
قلب موسوس متهوس ، وما في السؤال من الآداب هو ضدّ الأدب في الإسلام ، ولم
يؤدبنا به النبي ، ولم يعمل به الصحابة، فعلى طالب الحقّ أن يلزم هدي محمد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ويجتنب البِدَع إلى نحو ذلك.
واعترض أهل الطريقة بزعمهم أن الجنيد والجيلاني وأضرابهما أوجدوا
الرابطة بمعناها المشروح أعلاه ، وإلزام المريد بما ذكر من الشروط، وأن لا يمنع
المريدُ الشيخَ أي شيء أراده مِن نفسه أو ماله سواء كان ذكرًا أم أنثى، وأن الإمام
وأصحابه خرجوا عن الدين ومَرَقُوا منه بإنكارهم إلى نحو ذلك.
وإنا نسأل مِن المنار المنير إبداءَ ما يراه الصوابَ في هذا الموضوع مع البيان
الشافي، فإنّا إلى ذلك محتاجون، نعدّ الأيام والساعات، والله المسئول أن يديمكم
نفعًا للعباد وشجى في حلوق أهل البدع والإلحاد آمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ع. س. ط
***
(س11) من س. س. في (كوالا لمغور) في جنوب ميلاي.
سيّدي، تصدر في سنغافورة مجلة عِلْمِيّة مِلِّيَّة بلغة الملايو، اسمها (الإمام)
يكتب فيها بعض رجال الإصلاح ، ومحررها رجل وطنِيّ اسمه عباس بن محمد طه،
وهو مِن خِيرة شُبّان هذه البلاد عِلْمًا وعَمَلاً، اشتهر أخيرًا بمحاربة البِدع
والخرافات التي ألصقت بالدين.
وفي المجلة باب للفتوى، وقد سئل منذ أشهر عن الرابطة المعروفة عند أهل
الطريقة النقشبندية، وهي إحضار المريد صورة الشيخ في القلب عند الذكر،
وبربطه من جملة الإرادة التامّة ، واستفادة علم الواقعات حتى يفنى تصرفه في
تصرف الشيخ أخذًا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200) . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) . فأفتى الإمامُ بأنّ الآمرين
بفعل هذه الرابطة والعاملين بها ليس لهم مستند من الكتاب أو السنة. وأن الآيات
التي جعلوها سندًا لهم لا تدلُّ على مرادهم ألبتة. ثم أورد أقوال المفسرين كالخازن
والجلالين في الآيات المذكورة ، إلخ ما جاء في الجواب. ثم قال: إذًا فإحضار
المريد صورة الشيخ في قلبه عند الذِّكْر هو إشراك بالله. وهذا ما جاء الإسلام لمحوه،
أو ما معناه. ثم أنحى على أهل الطرق الآن ، ونسب كثيرًا منهم للدجل والتضليل،
وأورد لنفي الرابطة آيتين آية: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء:
36) وآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5) .ا. هـ
بالمعنى.
فلما نشرت هذه الفتوى وهاته التصريحات التي لم يعهد لأحد مِن قبل هذا
الشاب التصريح بها، قامت قيامة شُيُوخ الطُّرُق في هذه المستعمرة ، ونسبوا للإمام
ومحرره تضليل عباد الله الصالحين ، وأوهموا العامَّة أن الإمام يسعى في هدم
المعتقدات ، وهم إلى الآن يحرضون العامَّة بِهجر الإمام وعدم الاطلاع فيه. أما
الحقير وكثير مِن متخرجي المدارس الأميرية فبقينا متوقفين حتى يأتينا مِنْ عِنْدِ
الأستاذ بيان شافٍ في هذه المسألة التي نعلم ويعلم الكثير أن لكم القدح المعلى في
حلها والله يبقيكم لنا.
(ج) لو قلت: إني من أجدر الناس وأحقهم ببيان الحق في هذه المسألة
لرجوت أن أكون صادقًا، وإذا بينت السبب في ذلك رجوت أن يذعن له كل عاقل
منصف، ذلك بأنني قد سلكت الطريقة النقشبندية، وعرفت الخفي والأخفى من
لطائفها وأسرارها، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر في باطنه من الدرر،
وما تقذف أمواجه من الجيف، ثم انتهيت في الدين، إلى مذهب السلف الصالحين،
وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين.
وأمهد للفصل في المسألة تمهيدًا يقرب المراد من طالب الحق، فأقول:
قد عرفنا من طباع البشر وأخلاقهم أن يألفوا ما أخذوه بالرضا والتسليم ويأنسوا
به، فإذا وجدوا لهم مخالفًا فيه تعصبوا له ، ووجهوا قواهم إلى استنباط ما يؤيده
ويثبته ويدفع عنه هجمات المخالفين لهم فيه، لا يلتفتون في ذلك إلى تحري الحق
واستبانة الصواب فيما تنازعوا فيه. ولولا فشوّ هذا الخلق في الناس لَمَا بقيت
الأديان والمذاهب والأحزاب والشيع ، والحق في كل منها واحد لا تعدد فيه.
ثم إن من أخلاق البشر أيضًا أن لا يجتمعوا على شيء إلا إذا اعتقدوا أنّ فيه
خيرًا لهم، وقد يكون هذا الاعتقاد لبعضهم عن نظر واستدلال أو تجربة واختبار
وللبعض الآخر عن اتباع وتقليد لِمَن اعتقدوا فيهم الفضل والكمال.
على هاتين القاعدتين بني التعصب للمذاهب والطرق في جميع المِلَل، وعليه
يتخرج أخذ كثير من أهل الصلاح والتقوى والعلم والعمل بالرابطة في الطريقة
النقشبنديّة وبغيرها مِن البِدَع التي لم تكن على عهد السلف في غيرها مِن الطرق ،
وبكثير من القواعد والمسائل في مذاهب الفقهاء والمتكلمين الذين جاءوا بما لم يكن
عليه السلف الصالح.
يذهب الرجل المشهور بالصلاح أو العلم إلى شيء يظهر له بِحَسَبِ اجتهادِه أنه
حقّ أو خير فيتبعه آخرون عن استحسان لما استحسنه ، ومعرفة بدليله أو عن
محض التقليد، فإذا خالفهم غيرهم فيه عدّوهم منتقصين لهم تعصّبًا لما هم عليه ،
فيقوى الخلاف ولا يزالون مختلفين إلا مَن رَحِمَ ربُّك ، وهم الذين يحكمون الدليل
ويتحرون به استبانة الحق، فإذا ظهر لهم ولو على يد الخصم ولسانه أتوا إليه
مذعنين، وقبلوه راضين مطمئنين.
إذا تدبرت هذا فاعلم أن أئمة الصوفية وكبراءهم ما وضعوا هذه القواعد مِن
الرابطة وطاعة الشيخ المسلك طاعةً عمياء مُطْلَقَةً حتى مِن قيود العقل والشرع عند
الغالين وغير ذلك من الأصول والقواعد إلا عن علم وتجربة واختبار وصلوا بها إلى
مرتبة اليقين بأن ذلك مفيد لهم وموصل إلى الغاية التي يقصدونها بطريقتهم. وأعني
بالعلم هنا عِلْم النًَّفْس مِن حيثُ إدراكُها وشعورها ووجدانها وصفاتها وأخلاقها. وقد
كان مثلهم في ذلك كمثل علماء الكلام الذين بحثوا في الموجودات وبنوا علمهم الإلهي
عليها ، وكل منهما إذا وجد في علمه ما يخالف ظواهر الشرع لجأ إلى التطبيق
بالتأويل والْتِمَاس ما يؤيِّده مِن القرآن العزيز والحديث الشريف، وقد يتمحل لذلك
ويتكلف إذا اعترض عليه. كذلك فعل المتكلمون الذين زعموا أن الأفلاك التسعة في
الهيئة اليونانية هي: السموات ، والكرسي ، والعرش ، وكذلك فعل بعض أهل
الطريق فيما ذكر في السؤال ، وما لم يذكر فيه من تأويل الآيات التي زعموا أنها
تدل على مشروعية ما يسمونه الرابطة والتوجه ، ولا دليلَ في شيءٍ منها على ذلك.
لو كان في الشرع دليلٌ على أنّ ذلك مطلوبٌ في الدين لَمَا خفي عن الصحابة
والتابعين، بل لأَمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم ، وعَمِلَ به ، وتواتر عنه؛ لأنه
مما يتعلق بجوهر الدين، وهو عبادة الله ومعرفته، فلا يقاس على ما يمكن أنْ
يستنبط من القرآن مِن أسرار الكون التي لم تؤثر عن الصدر الأول.
قال السيد الآلوسي النقشبندي في باب الإشارة مِن تفسير سورة الجُمُعَة: وذكر
بعضهم أن قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة: 2) بعد قوله سبحانه: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (الجمعة: 2) إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفاضة القلبية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكّون مُرِيدهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم، حتى تخلص قلوبُهم وتزكو نفوسُهم، وهو سِرُّ ما يقال له التوحيد عند السادة النقشبندية، وقالوا بالرابطة ليتهيّأَ ببركتها القلب لِمَا يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلاً يعوَّل عليه عن الشارع الأعظم، صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه رضي الله عنهم، وكلُّ ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدّونه دليلاً لا يخلو مِن قادح، بل أكثر تمسكاتهم فيها تُشبه التمسك بجبال القمر، ولولا خوفُ الإطناب لذكرتها مع ما فيها.
ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين - التوجه والرابطة - وقد شاهدت ذلك
من فضل الله عز وجل. وأيضًا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر ، وفوق
كل ذي علم عليم، ولعلّ أول من أرشد إليهما مِن السادة وجد فيهما ما يعول عليه،
أو يقال يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم، وإن كان
للبحث فيه مجال، ولأرباب القال في أمره مقال. ا. هـ
فأنت ترى هذا العالم الجليل الواسع الاطلاع ، الواقف على ما قال أنصار هذه
الطريقة في الاستدلال على الرابطة والتوجه لم يعثر لهما على دليل، ولم يرضه
شيء مما قيل، ولكنه قد راعته مكانة مَن جرى على ذلك مِن الصالحين، وأرضاه
ما وجد لهما من الأثر في قلبه، وكذلك كان هذا العاجز عِدّة سنين، فإنني قد وجدتُ
أثر الرابطة والتوجه في نفسي: رأيت ما لم يَرَهُ معي الناظرون، وسمعت ما لم
يسمعه مثلي المصغون، وشممت ما لم يكن يشمّ الحاضرون، ولا أحب شَرْحَ ذلك
في المنار ولا الخوض في علله وأسبابه، وما ذكرت هذه الإشارة إلا ليعلم السالكون
لهذه الطريقة بالفعل أنني لست منها كما يقال في المثل: (من جهل شيئًا عاداه)
وإنما أتكلم فيها عن عرفان، وأحكم فيها بسلطان.
أقول: إن التوجه والرابطة لَيْسَا مِن الدِّينِ في شيء، ولا يجوز أن يعدّا مِن
العبادة المشروعة في الإسلام، ولكن لا أقول بكفر كل مَن عمل أو يعمل بهما،
وإنما أخشى أن يكونَ بعض المتقلدين لهذه الطريقة تقلدًا من غير عِلْمٍ بالشرع،
وعرفان بحقيقة النفس، أقرب إلى الوثنية منهم إلى التوحيد، فيما يكون بين الشيخ
والمريد، بل أجزم بأن من ذلك ما هو شرك جَلِيّ أو خَفِيّ، وإن كنت لا أجيز رمي
شخص معين به.
يمكن للمريد العارف بعقيدة الإسلام أن يجمع بين التوحيد وبين تخيل شيخه
عند ذكر الله عز وجل ، بأن يتخيلَ أنه جالس في حضرته يراقب أدبه وحضور قلبه
في ذكره، كما يذكر الله أو يقرأ القرآن أو العلم بحضرته، وهو يعتقد أنه لا ينفع
ولا يضرّ، ولا يقصد بقبيل العمل، وإنما يصمد في ذلك إلى الله تعالى وَحْدَهُ. فمثل
هذا لا يعد مشركًا لشيخه مع ربه، وهو لا يشغله تخيّله لشيخه عن ذكره، إذ لا
يستصحب الصورة المتخيلة عند تصور معنى كلمة التوحيد، وذلك سهل على مريده
كما يقرأ القرآن أو غيره من كتب الفنون أمامَ شيخِه ولا يشغله وجوده عن فهم ما
يقرأ. ومع هذا لا يجوز له أن يحكم بأن هذا الأمر مطلوب في الشرع، بل يكتفي
بأن ينتفع بما جربه من غير مخالفة لِنَصّ مِن نصوص الشَّرْع.
وأما استمداد الهمَّة من أرواح الشيوخ، فقد ضل فيه كثيرون كضلال الذين
يعتقدون أن لشيوخهم سلطة غيبيّة يتصرفون بها في النفوس والآفاق ، وأنهم بذلك
وُسَطَاء بين الله وخلقه، يقرّبونهم إليه زُلْفَى إذا أرادوا، كما كانت تقول الجاهلية في
آلهتها. على أن للمسألة أصلاً يُعَدّ مِن مباحث علم النفس لا من الدين هو منشأ
ضلال المفتونين عن تجربة ووجدان يظن الجاهل منهم أنه من الحقيقة المخالفة
للشريعة، ويعلم العارف المحقق أنه لا خِلَافَ في الفعل، ولا منشأ للضلال إلا
الجهل.
قد جرب أهل الطريقة أن يتوجهوا بِهمّتهم وإرادتهم إلى بعض شُيُوخهم
الصالحين أو إلى بعض الصحابة أو النبيين قاصدين أن تتصل أرواحهم بأرواحهم
وتستمد منها قوة ما ، فيجدوا لذلك في نفوسهم أثرًا حقيقيًّا لا يمكن لأحد أن يكابرهم
فيه كما لا يكابر أحد ، ولا يشكك في شعوره بالفرح والسرور أو الغم والحزن. فإذا
قِيلَ لمن جرب ذلك من الجاهلين بالشريعة: إنه مخالف لها، فإنه يشكّ في حقية
الشريعة ولا يشك فيما هو فيه إلا أن يجمع له بينهما. ولمثل ذلك قالوا: إنّ سالِكَ
الطريق عرضة للزيغ والكفر إذا لم يكن له شيخ من العارفين الجامعين بين علم
النفس وعلم الشرع ، فيبين له في مثل هذه المسألة أن هذا الأثر الذي يراه في نفسه
من التوجه هو أثر طبيعيٌّ له ، ليس من الخوارق ، ولا من السلطة الغيبيّة التي لا
تكون إلا لله وَحْدَهُ ، وإذا رآه مرتقيًا في سلوكه يبيّن له أن براهمة الهند يعرفون
التوجه والرابطة ، ويؤثر عنهم كثير مِن الخوارق الصوريّة والماديّة، التي لا تخرج
عن السنن النفسيّة والخواصّ الروحانيّة، ولكنهم في توجههم ورابطتهم دون السادة
الصوفيّة، لأن الرابطة والتوجّه عندهم من المقاصد التي يقفون عندها، ويرضون
من رياضتهم بثمرتها وأثرها، وَهُمَا عند الصوفية من الوسائل التي يعرفون بها
نفوسهم، ويعرجون منها إلى أن يصلوا إلى معرفة ربهم، فالاشتغال بهما كاشتغال
العالم الطبيعيّ بمعرفة خواصّ الماء والبخار والكهرباء والضوء، فإن كان يقصد
بذلك معرفة هذه الأشياء لذاتها مما ينتفع به في هذه الحياة الماديّة، كان مثله كمثل
البرهمي في التوجه والرابطة، لا يَزِيد عن كونه عالمًا ماديًّا، وإن كان يقصد بها
مع ذلك معرفة الله بمعرفة حكمه وأسراره في خلقه كان مثله كمثل الصوفِيّ في
التوجه والرابطة ، وصار عالمًا رَبّانِيًّا، فالأمور بالمقاصد والإرادات، كما بيَّنَّا ذلك
في تفسير ما في صدر هذا الجزء من الآيات.
إذا عَرَفْتَ هذا وهو ما عليه محققو العارفين مِن الصّوفيّة تبيّن لك أن مسألة
التوجه والرابطة من المسائل التي تعدّ من وسائل علم النفس ، وليست بِحدّ ذاتها من
الدين، فيستدل عليها بالآيات والأحاديث، وإن علم النفس كعلم الآفاق قد يكون
بالإرادة طريقًا لمعرفة الله تعالى، وبالقصد والنيّة عبادة له كما تكون جميع العلوم
الدنيويّة كذلك. والأصل في ذلك عند الصوفية قوله عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
* أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) ،
ولما كان محيطًا بكل شيء كانت معرفة غاية كل شيء موصلة إليه إذا قصد بها
ذلك. ولذلك قالوا إن لله طرائقَ، بعد أنفاس الخلائق.
وههنا ثلاث مسائلَ لا بُدَّ من التصريح بها وإيضاحها إيضاحًا لا لَبْسَ فيه.
(إحداها) أن كل علم حقيقي يمكن أن يكون عبادةً محمودةً في الإسلام إذا
حسنت فيه النيّة وأريد به معرفة الله ومعرفة سننه وحكمه في خلقه، وكذلك كل عمل
نافع يُرَاد به دَفْع الأذى عن عِبَاد الله وإيصال الخير إليهم. ولكن العبادة في ذلك
قلبيّة لا صوريّة ، فلا يُقَال: إن علم الضوء والكهرباء وعمل الأدوية وصنع الآلات
مما يكون مع حُسْنِ النيّة مِن العبادات المشروعة في ذاتها التي تلتمس لها الدلائل من
الكتاب والسنة. ومثلهما في ذلك التوجه والرابطة في الطريقة.
(المسألة الثانية) أن العبادة المشروعة لذاتها التي يطالب المسلمون بها هي
ما نطق به القرآن الكريم ، أو مضت به السنة النبوية وجرى عليه جمهور السلف
وما عدا ذلك فهو بدعة، والبدعة في الدِّين لا تكون إلا ضلالةً كما ورد في الحديث،
وأما البدعةُ التي تعتريها الأحكام. ويُقَال: إنّ منها ما هو حلال وما هو حرام، فهي
البدعة في أمور الدنيا، علومها وأعمالها كما يدلّ عليه حديث مسلم: (مَنْ سَنَّ سُنَّةً
حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا) ، إلخ.
(المسألة الثالثة) أن جميع ما يبتدعه الناس مِن وسائل النفع والخير في
العلم والتربية والأعمال يشترط في جوازه أن لا يكونَ مخالفًا لِمَا هو مقطوعٌ به من
أمور الدين. فإذا فرضنا أن التوجه والرابطة ينافيان ما هو مقطوع به في الإسلام،
فإنه لا يحِلّ للمسلم العمل بهما. وقد علمت أنهما يختلفان باختلاف العالم العارف
والجاهل المقلد.
ومن هذه المسألة أَنْتَقِلُ بِكَ إلى القسْمِ الثاني مِن الاستفتاء، وهو ما يفرضون
مِن طاعة المُرِيد لشيخه ولو في المعصية، وعدم إنكاره عليه وإنْ فعل المنكر،
واعتقاد أنه لا يُقْبَلُ له عَمَلٌ ولا يصل إليه خيرٌ إلا بواسطته، ومِثل هذا مما لا
يحتاج فيه إلى سؤال ولا جَوَاب، فإنّ وُجُوبَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
صريح في القرآن والأحاديث ، ومضت به السنة فهو معلوم من الدين بالضرورة،
يحكم الفقهاء بردة منكره ، ولم يستثن الله ولا رسوله مشايخ الطريق من هذا الحكم،
بل كان الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور ينكرونها في أعمال
الدين كالسهو في الصلاة ، أو أعمال الدنيا، كالحرب وتدبيرها حتى يفسرها لهم ،
ويفرّق بين ما هو عن وحي وما هو عن سهو أو اجتهاد غيره أفضل منه.
والصوفية المحققون لا يشترطون على المريد إلا حسن الظن بشيخه، والأدب
في سؤاله وما عدا ذلك فهو من غلوّ المقلّدِينَ، أو مِن دسائس الشياطين، ولا يقولون:
إن عبادته لا تُقْبَلُ ولا يَصِلُ إليه خيرٌ مِن ربِّهِ إلا بواسطة شيخه، بل يقولون:
إنه لا يصل إلى المقصد من سلوكه إلا بتربية شيخه، وهذا صحيحٌ في الغالب.
وأَمّا ما احتجّوا به على مجلة (الإمام) مِن (أن الجنيد والجيلاني وأضرابهما
أوجبوا الرابطة) فهو بديهي البطلان عند كل أحد يعرف ما هو الإسلام، إذْ مِن
المقرر أنه ليس لأحد أن يوجب على عِبَاد الله أمْرًا دينيًّا إلا رُسُل الله بإذن الله ،
وهذا الغلوّ في إجلال المشهورين هو سبب التقليد منشأ فساد كل دِين.
وإذا كانت المسألة بديهيةً عِنْدَ كل مَن يعْرِف الإسلامَ، فهي من أعظم
المشكلات عند جهلة العوامِّ، لأن الكثيرين منهم لا يعرفون من الإسلام شيئًا له
سلطان على نفوسهم إلا ما يسمعون عن الرجال الصالحين ، ولا علاج لهؤلاء إلا
تعليمهم ما هو الإسلام مع الحكمة ، التي يجمع فيها بين بيان الحق وبين الأدب عند
ذكر أهل العلم والتقوى، وبيان أنهم غير معصومين من الخطأ، وأن كثيرًا مما ينقل
عنهم لا تصحّ نسبته إليهم، وأن أفضل ما يكرمون به هو عدم الثقة بما ينقل عنهم
إذا كان مخالفًا للشرع، لا مخالفة الشرع إذا ادّعى بعض الناس أنهم خالفوه، فإن
ذلك تقديم لهم على الله ورسوله، ثم تحسين الظّنّ بنيتهم وقصدهم فيما أخطأ
اجتهادهم فيه، وأن المجتهد المخطئ منهم يؤجر على اجتهاده، ولكن لا يتابع عليه.
وإنني أذكر شاهدًا واحدًا من خطأ أئمة الصوفية والعلماء في اجتهادهم المتعلق
بالتصوف وهو خطأ الإمام الغزالي - الذي صرحت غير مرة بأن كتابه الإحياء كان
أستاذي الأول الذي حبب إلي العلم والتصوف - ليقاس عليه خطأ من لا يشق له
غبارًا من الشيوخ الصالحين المشهورين، ومنه يعلم أن كل اجتهاد خالف الكتاب
والسنة فليس من الدين.
كان الغزالي في سياحاته أيام تصوفه يزور المشاهد، وقال: إن قبور الأنبياء
والصالحين تزار للاعتبار بتذكر الموت والآخرة وللتبرك، فزاد على ما ورد في
حديث الإذن بزيارة القبور ما سماه التبرك. ويعني به ما يجده الزائر السالك لطريق
الآخرة عند زيارة المشاهد من الخشوع، والحال التي تزيده رغبةً في الآخرة
وإعراضًا عن الدنيا. واستدل على مشروعية هذا ونحوه مما لم يرد في الشرع
كالرابطة التي نحن بصدد البحث فيها بحديث: (من بورك له في شيء فليلزمه) ،
كأنه يقول: إننا وجدنا لذلك فائدة في نفوسنا زادت في خشوعنا، ووجد أن الدين في
قلوبنا، وذلك هو البركة، لأن معناها الزيادة، وقد أمرنا الشارع بلزوم كل شيء
نرى فيه بركة لنا، فنحن عاملون بأمره في ذلك.
الخطأ في هذا من وجهين (أحدهما) أن الكلية ممنوعة، فإننا لو جعلنا
للأنبياء والصالحين صورًا وتماثيلَ تمثل لناظرها هيآتهم في الخشوع والوقار لَكَان
لها في نفوس الناظرين إليها مِن التأثير ما ليس لرؤية قبورهم المشيدة المشرفة ، كما
نرى ذلك عند غيرنا من المِلَل، وهذا التأثير هو السبب في اتخاذ النصارى للصور
والتماثيل في كنائسهم، والغزالي لا يجيز هذا في الإسلام، ومثله بناء المشاهد
للصالحين ، وتشريف قبورهم ، واتخاذ المساجد عليها نُهِيَ عنه كما نُهِيَ عن الصور
والتماثيل ، فثبت أنه لا يجوز لنا أن نُحْدِثَ في الدِّينِ ما ليس منه، وإنْ كان إحداثه
لغرض صحيح وقصد حَسَنٍ، بل نتبع فيه ما جاء به الكتاب والسنة، وجرى عليه
سَلَف الأمة، ونجعل اجتهادنا في اختيار النافع لنا محصورًا فيما فوض إلينا من
الاستقلال بأمور دنيانا.
(والوجه الثاني) أن الحديث الذي أورده يدل على ما ذكرناه من التخصيص
بأمر الدنيا دون ما استدل به عليه من جعله في أمر الدين. إنه أورد الحديث باللفظ
الذي اشتهر به على الألسنة ولم يروه به أحد. وما ذكره السيوطي في الدرر المنتثرة
من عزوه إلى ابن ماجه بعد إيراده بهذا اللفظ غير مراد ظاهره، وإنما مراده أن ابن
ماجه رواه بالمعنى، وقد ذكر نص رواية ابن ماجه في الجامع الصغير ، وهو (من
أصاب من شيء فليلزمه) ، وقال: إنه رواه عن أنس وعائشة. أقول: وقد
أخرجه ابن ماجه في أبواب التجارة والكسب من حديث أنس بهذا اللفظ الذي ذكره
في الجامع الصغير، ومن حديث عائشة بلفظ آخر وهو (عن نافع قال: كنت أجهز
إلى الشام وإلى مصر فجهزت إلى العراق ، فأتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها: يا
أم المؤمنين ، كنت أجهز إلى الشام فجهزت إلى العراق، فقالت: لا تفعل ما لك
ولمتجرك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سبب الله
لأحدكم رزقًا من وجه فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له) تقول له: ما لك
ولمتجرك القديم الذي تعودت الربح منه حتى تتركه وتقدم على ما تجهله؟ الْزَم ما
رأيت الربح فيه. ومعلوم أن الأوامر والنواهي المتعلقة بأمر الدنيا كهذا الأمر لا يعد
من التكليف الديني الذي يجب امتثاله شرعًا، وإنما يسميه علماء الأصول أمر إرشاد
يعتبر به ويعرض على المصلحة.
ولا يقال: إن حديث أنس عامّ؛ لأن عمومه في بابه على أنه روي بلفظ (مَن
أصاب مالاً مِن شيء) كما هو ظاهر حاشية ابن ماجه، ولأن هناك دليلاً يمنع
جريانه في أمر الدين ، وهو ما ذكرناه في الوجه الأول. على أن في سنده فروة أبا
يونس عن هلال. قال الذهبي في الميزان: مُخْتَلَفٌ فيه ، ليس بِقَوي ، وقد ضعفه
الأزدي. ولم يكن الغزالي في أيام تصوفه ، وزمن تأليفه الإحياء يبحث عن علل
الحديث، وإنما كان يستدل ويستنبط ما يتعلق بالفضائل من كل ما يراه في الكتب
حتى كتب الصوفية، ولذلك وقع في الإحياء كثير مِن الأحاديث المنكرة والضعيفة
والموضوعة. وقد عكف على الحديث ، واعتصم بمذهب السلف في آخر عمره،
وإن اهتدى إلى حقية مذهب السلف قبل الانقطاع إلى الحديث.
وإذا كنا معشر المسلمين نعتقد أن الأولياء والصوفية غير معصومين مِن
الخطأ، وكنا نشاهد الخطأ الصريح في كتبهم ونراهم يخالف بعضهم بعضًا، ويرد
بعضهم على بعض، فهل يصح أن نجعل أقوالهم وأعمالهم أصلاً من أصول
الدين.
وخلاصة القول أن التوجه والرابطة ليسا من عبادات الإسلام ولا دليل فيه
على كونهما مشروعين، ومن جعلهما عبادة مشروعة في ذاتها فقد دخل في عداد
الذين قال الله فيهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)، وقوله في بيان أصول المحرمات: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) وإن أئمة الصوفية
المحققين لا يجعلونهما من الدين، وإنما يجعلهما بعضهم من وسائل معرفة النفس،
فهما عندهم من قبيل الوسائل التي تتخذ الآن لما يسمونه استحضار الأرواح، وفي
كل منهما لا بُدَّ من الواسطة، وإن المقلدين في الطريقة النقشبندية وغيرها عرضة
للضلال والشرك الجليّ أو الخفيّ إذا تمسكوا بهذه الظواهر التي لا يعرفون مراد
العارفين بها؛ فيجب عليهم اتقاء ذلك ، وإحكام عقيدة التوحيد التي منها أن الشيوخ
والأولياء بل والأنبياء لا يملكون لأنفسهم ولا للناس ضرًّا ولا نفعًا ولا هداية ولا
غيرها، كما صرح به الكتاب العزيز في آيات كثيرة، وأن يحسنوا الظن بمن قال
بالرابطة من الصالحين، وقد بينا مرادهم عن علم وعرفان، وهو سر من أسرار
التصوف أفشيناه للضرورة والإرشاد، وأن يعتقد مع تحسين الظن بهم أنهم ليسوا
حجة في الدين، وأنهم لا يطاعون في معصية الله. ومن أراد أن يزداد نورًا في هذه
المباحث فلينتظر جزء الترجمة من تاريخ الأستاذ الإمام، فإن فيه بيانًا لا يجده في
كتاب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وجه المرأة الحرة
(س12) مِن محمد رحيم أفندي الشفي في (زويله باشي) بسمبر
(روسيا) .
الفاضل الجليل والعالم النبيل السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار
الأغر، دمت بالعز والكرامة. أمّا بعد فقد كثرت المباحثة والمناظرة في حق وجه
الحرة في طرفنا، فبعض العلماء قالوا: ليس بفرض ستر وجه الحرة، لحديث
عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو داود وابن مردويه والبيهقي أن أسماء بنت أبي
بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها ،
وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا
وهذا) وأشار إلى وجهه وكفه، وبعضهم قالوا: إن سَتْرَ وجه الحرة فَرْض،
وإن لم تستره تكون آثمةً عند الله، لِقَوْلِ عائشة رضي الله عنها إحدى عينيها
فحسبت لاندفاع الضرورة (كذا) أخذه القهستاني والزاهدي ، فالمأمول من سيادتكم
أن يبين الحق من الأقوال لرفع النزاع من بين الناس.
(ج) حديث عائشة لا تنهض به الحُجّة، فإنه مُرْسَل ، وفي إسناده مَن تُكُلِّمَ
فيه، والأصل في المسألة قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) فقد روي عن ابن عباس أنه قال: الظاهر منها الكحل والخدان،
وفي رواية عنه: الزينة الظاهرة: الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم.
وعن سعيد بن جبير والضحاك: الوجه والكف. وعن عَطَاء: الكفان والوجه.
وسئل الأوزاعي عن قوله تعالى: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) فقال:
الكفين والوجه، ذكر ذلك كله ابن جرير في تفسيره ، وذكر أقوالَ مَن قالوا: إنها
الثياب والحلي ، أو الوجه والثياب، ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول
مَن قال عُنِيَ بذلك الوجه والكفان يدخل في ذلك إذا كان كذلك الكحل والخاتم والسِّوَار
والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل؛ لإجماع الجميع على أن
على كل مصلّ أن يستر عورته في صلاته وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في
صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلا ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه مِن ذراعها إلى قدر النصف. فإذا كان ذلك من
جميعهم إجماعًا كان معلومًا بذلك أن لها أن تبدي مِن بدنها ما لم يكن عورةً كما ذلك
للرجال؛ لأن ما لم يكن عورةً فغير حرام إظهاره، وإذا كان لها إظهار ذلك كان
معلومًا أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) ؛
لأن كل ذلك ظاهر منها. وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور:
31) يقول تعالى ذكره: وَلْيُلْقِينَ خُمُرَهُن وهو جَمْع خِمَار على جيوبهن؛ لِيَسْتُرْنَ
بذلك شعورَهن وأعناقَهن وقرطهن اهـ كلام ابن جرير.
والجيوب جمع جيب، وهو فتحة القميص على الصدر، وكانت المرأة تضع
الخمار على رأسها وتسدله إلى الوراء؛ فيظهر عنقها وصدرها، فأُمِرْنَ بِأَنْ يَجْعَلْنَ
طرفه على الجيب لِيَسْتر العنق والصدر. ولم يؤمرن بوضعه على الوجه، فلو لم
يقل إلا ما ظهر منها لَكَان يصحّ أنْ يقال: إن كشف الوجه باقٍ على أصل الإباحة،
فكيف وقد أمر بستر الجيب ، ولم يأمر بستر الوجه! وناهيك بحكاية ابن جرير:
الإجماع على ذلك ، وهو ما كان عليه النساءُ في عهد السَّلَف، فقد كن يأتين المساجد ،
ويغشين الأسواق ، ويسعفن الجرحى في مواقع القتال ، ويخطبن على الرجال ،
ويناقشن الأمراء والحُكّام. تفعلن ذلك وأمثاله مكشوفات الوجوه.
ومن جال في أرض المسلمين في الأقطار المختلفة يرى أن أكثرهن يخرجن
مكشوفات الوجوه ، ولا يستره منهن إلا بعض نساء المدن، وهي عادة حكمت بها
غيرة الرجال عندما دخل المسلمون في الحضارة ، وانغمسوا في الترف الذي يستلزم
الفسق والفجور، ولذلك ترى أكثر الفقهاء عللوا وجوب ستر المرأة وجهها عن
الرجال بخوف الفتنة، وابتدأ هذا البحث والخلاف في القرن الثاني.
هل يمكن لمكابر أن يقول: إن النساء كن يصلين مكشوفات الوجوه في مسجد
الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ولا يراهن أحد؟ إذا كابر أحد نفسَه ،
وقال: يحتمل أن الرجال لم يكونوا يرون النساء في المسجد؛ لأنهن يصلين وراءهم ،
ولم يخشَ أن يقال له: إنهم كانوا يرونهن قبل الصلاة، إذ كن ينتظرن الجماعة
معهم وبعدها عند الانصراف كما هو مأثور مشهور - فهل يسفه نفسه ، ويقول: إن
الرجال لم يكونوا يرون وُجُوهَ النساء وأيديهن في أثناء أعمال الحجّ مِن طواف ،
وسَعْي ووقوف بعرفة وجولان في أرض الحرم ، ومعلوم لكل مَن يعرف أحكام
الحج في الإسلام أن كشف المرأة وجْهَها في الإحرام واجب ، ومن النساء من تحرم
بالحج من أول أشهره ، فتكون أكثر من شهرين محرمة مكشوفة الوجه واليدين أينما
كانت ، وحيثما حَلَّتْ ، وهي مع الرجال في جميع الأعمال.
ومن نظر إلى كلام فقهاء القرون الوسطى الذين رجّحوا تحريمَ النظر إلى
الوجه والكفين يجد أنهم لم يأتوا عليه بدليل من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل
أهل الصدر الأول، وإنما عللوه بخوف الفتنة وسدّ الذريعة، وقد قالوا بحرمة النظر
إلى وجه الأمرد ، وعللوه بتلك العلة، ومِن العَجَب أن إمام الحرمين من الشافعية
اغترّ بمنع الحكام النساء من الخروج في زمنه ، وظنّ أنّ عليه جميع المسلمين.
قال الرملي في شرح المنهاج عند تصحيح المتن لحرمة النظر إلى وجه المرأة
وكفيها حتى عند الأمن من الفتنة: (والثاني لا يحرم ، ونسبه الإمام للجمهور
والشيخان للأكثرين، وقال في المهمات: إنه الصواب. وقال البلقيني: الترجيح
بقوة المدرك والفتوى على ما في المنهاج ، وما نقله الإمام من الاتفاق على منع
النساء ، أي منع الولاة لهن ، معارض لِمَا حكاه القاضي عياض عن العلماء: إنه لا
يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة ، وعلى الرجال غضّ
البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف عنه في شرح مسلم ، وأقره عليه) ، إلخ ما
ذكره، ومنه أنه يحرم النظر إلى المرأة المتنقبة التي لا يرى منها غير عينيها
ومحاجرها ، وإلى العجوز والمشوهة.
وفي حاشية المقنع من كتب الحنابلة: (لا يجوز له النظر إلى الأجنبية قصدًا
وهو المذهب. وقال القاضي: يحرم النظر إلى ما عدا الوجه والكفين؛ لأنه عورة ،
ويباح له النظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة ، ونظر بغير شهوة وهذا مذهب
الشافعي. قال في الإنصاف: وهذا الذي لا يسع الناس غيره خصوصًا للجيران
والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم) ، ثم نظر في هذا بأن فيه تجريئًا للفساق ،
وهو مخالف لمقاصد الشرع في إصلاح أمر الدنيا والآخرة. وبمثل هذا صرح
الحنفية مع أن الجميع يَرْوُونَ عن أئمتهم أن الوجه والكفين غير عورة، وعن ابن
عباس تفسير الآية بذلك.
أقول مسألة الخوف من الفتنة العارضة أو سدّ ذريعتها لا يصحّ أن تجعل دليلاً
لتغيير حكم من أحكام الدين التي كان عليها السلف بحظر أو إباحة تغييرًا مطلقًا كأن
يقال مثلاً: إن صلاة النساء مع الرجال في المساجد حرام في الإسلام، بناءً على ما
يقولون به من فساد الزمان، ومثله كشف المرأة وجهها. وإنما يصرح بأن حكم
الإسلام هو الذي كان عليه السلف اتباعًا للكتاب والسنة، ولكن إذا عرض ما يمنع
من العمل به بِنَاءً على قاعدة دَرْءِ المفاسد، فإننا نمتنع عنه مادامت المفسدة متوقعة.
فحاصل الجواب أن كشف المرأة لوجهها هو الأصل الذي كان عليه الناس ،
وأقرّه الإسلام ، بل أوجبه في الإحرام ، وادِّعَاء حُرْمَته في أصل الدين جناية على
الدين، وتحكم فيه بالرأي أو الهوى ، وإثبات للحرج والعسر فيه، وقد نفاهما الله
عنه؛ لأن أكثر المسلمات يشق عليهن ذلك مع الحاجة إلى العمل والسفر ، وإنْ
تَحمَّله من نساء الأمصار من تَعوَّدْنَه أو من كفتهن الثروةُ مزاولةَ الأعمال. ودعوى
خوف الفتنة من كشفهن لوجوههن لا تُسلّم على إطلاقها، فإننا نعرف من نساء
الفلاحين والبدو السافرات من نقطع بأنهن أبعد عن الريبة من نساء المدن المتنقبات،
ولكن المرأة التي تعلم أن في كشف وجهها مفسدة يحرم عليها كشفه بلا شك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
احترام المسلم لشعائر غَيْرِه الوطنية والدينية
(س13 و14) من ج. ا. بمصر.
جناب الأستاذ العالم الشيخ رشيد رضا المحترم.
حَبَّذَا لو تكرّمتم بإبداء معلوماتكم السديدة ، وآرائكم المفيدة عن السؤالين الآتيين،
وما ذلك إلا حبًّا في الإفادة والاستفادة.
1-
هل يجوز لأحد المسلمين أن يراعي شعائر الدولة التابع لها أم لا؟
مثلاً إذا فرض وجود بعض المسلمين التابعين لدولة مسيحية كروسيا وغيرها،
هل يتحتم على الرعايا المسلمين في مثل هذه الأحوال أن يُجَارُوا الشعب في
شعائرهم مع وجود المغايرة في الاحتفالات الدينية، بمعنى هل يليق بهم أن يقوموا
بالاحترام اللازم للقيصر أو للحاكم إذا مرّ في الشوارع ، أو قابلوه في محله كما تفعل
الرعية التي على دين ملكها أو حاكمها. وهل يتشارك المسلمون في إقامة الاحتفالات
التي تقوم بها الدولة التابعون لها كاحتفالها بعيد ملكها أو بعيد وطني ، أو يجب تجنب
مثل هذا الاحترام وهذه الاحتفالات بغير الملوك المسلمين.
2-
هل يجوز للمسلم احترام شعائر غيره الدينية أم لا؟
مثلاً إذا أراد أحد المسلمين دخول كنيسة مسيحية أو ما شاكلها ، وطلب منه
رفع عمامة أو مجاراة الشعب في عوائده الدينية، هل له أن يفعل هذا أم يمتنع.
هذا ما أردنا الاستفهام عنه من عالم خبير مثلكم، فنرجو الإجابة، إما عموميًّا
في مجلتكم الزاهرة، أو خصوصيًّا باسمي، والسلام.
(ج) أما الاحتفالات والشعائر الوطنية ، فيباح للمسلم أن يشترك فيها مع
أهل وطنه ما لم تشتمل على محرم في الإسلام ، كشرب الخمر على اسم الملك الذي
يسمونه النخب.
وأما الشعائر الدينية فلا يجوز للمسلم أن يشارك غير المسلمين فيها كأن يصلي
معهم كصلاتهم الخاصة بهم ، كالتي تكون منهم في الكنيسة وهم مكشوفو الرؤوس
متوجهون إلى قبلتهم، وإن لم يقل قولاً يحظره الإسلام. فالمحظور في هذا المقام
يرجع إلى أمرين:
أحدهما: الإتيان بما هو ممنوع في الإسلام ، كتعظيم صور الأنبياء
والصالحين ، أو طلب الخير أو دفع الشر منهم.
وثانيهما: العمل الديني الخاص بغير المسلمين ، بحيث لو عمله المسلم لعده
رائيه منهم، هذا ما اتفق عليه الفقهاء فيما نعلم ، ولعلنا نفصل القول في ذلك بعد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
(س15) من أحمد أفندي محمد عطيوة بالقناطر الخيرية.
المرجو من حضرة الأستاذ الحكيم السيد رشيد رضا، إفادتي عن هذا الحديث:
(علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) في أي كتاب من الكتب الحديثة المعتبرة هو،
وفي أي باب هو، صحيح هو أم ضعيف؟ ولكم من الله الأجر، ومني عاطر الثناء
والشكر.
(ج) هو حديث موضوع ، تجدونه في كتب الموضوعات، وذكره الحافظ
السيوطي في الدرر المنتثرة، وقال: لا أصل له، والشيخ عبد الرحمن الدبيع في
تمييز الطيب من الخبيث، وقال: (قال الدميري والزركشي وابن حَجَر: إنه لا
أصل له) .
_________
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
السنن والأحاديث النبوية
(5)
بحث العمل بالأحاديث القولية والأحاديث الفعلية
يقول حضرة الدكتور: أمّا السُّنّة القولية (الأحاديث) فبعضها نسخ بالقرآن،
وبعضها الآخر نُسِخَ بالأحاديث الأخرى. ونحن نقول: ما الدليل الذي قام لدى
حضرة الدكتور في التفرقة بين السنة القولية والسنة الفعلية؟ ولِمَ لا يكون النسخ في
الفعلية؟ وما الدليل على ذلك؟ أليس من المُقَرّر والمسلم أن أصل كل تشريع إنما
هو القول؟ وهل يعرف الواجب والحرام ، والسنة والمكروه إلى غير ذلك إلا بالقول؟
ألم يكن من المعلوم أن الأفعال تتطرقها احتمالات كثيرة إذا لم يقارنها البيان بالقول،
وقد تبقى مجملة لا يتعين المراد منها إلا به؟
يقول حضرة الدكتور: (فبعضها نسخ بالقرآن) ويقال عليه: إن نسخ السنة
بالقرآن؛ قد قال الإمام الشافعي: إنه لا يكون، حتى حَكَى بعض الشافعية عنه أنه
قال حيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له.
حضرة الدكتور لم يذكر ذلك عنه، بل نقل بعض قوله ، وترك البعض ودونك
قول الإمام في الرسالة: (لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، ثم قال: وهكذا سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنته) فإن جاز الاستدلال بقول الإمام
هناك جاز هنا ، وإلا فلا في الموضعين.
وقوله: (وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى) يقال عليه: فهذه الأخرى
الناسخة هل هي معلومة أم لا، وهل هذه هي المدونة عند أهل الحديث أم هي
أحاديث غيرها؟ وأين هي؟ وَمَنْ أدراك بها ، فإنك قد قررْتَ أنك لا تقبل النسخ إلا
أن تجد الله أو رسوله قال هذا ناسخ وهذا منسوخ ، وينقل إلينا ذلك بالتواتر؛ فَهَلَاّ
أنصفْتَ مناظريك؟
وقوله: (وعندنا أنه لن يبقَ منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن)
الجواب عليه هنا أن يقال: إن هذه مجرد دعوى لا يستطيع حضرته أن يقيم البينة
عليها هو ولا غيره ، فإن في السنن من الأحكام والآداب أضعاف ما في القرآن ،
وهي بفضل الله تعالى لا تخالف مقاصد القرآن ، وهي مطابقة للعقل ، ولا يمكن أن
يستغني عنها البشر ، ولولا خوف الإطالة لأتينا بجمل منها ، وبيّنا ما لها وما عليها ،
ومقدار الحاجة إليها فليتتبع ذلك حضرته.
بل نقول: ولا يبعد أن القرآن محتاج إلي السنة أكثر من احتياج السنة إليه،
يوضحه أن القرآن الكريم ذو أوجه والسنة مبينة للمراد منه تارة وشارحة ومفسرة
أخرى. أو تأتي بأحكام زائدة على ما فيه يشرعها الله على لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - لشدّة حاجة البشر إليها إظهارًا لكرامة رسوله صلى الله عليه وسلم
عليه وليتعودوا طاعته واتباعه كما أَمَر بذلك في كتابه، ولئلا تجرّهم الشبهات إلى
ردّ بيانه للكتاب الكريم. ولبسط ذلك محل آخر.
يقول حضرته: (لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة
الباقية) وأقول: هذه دعوى وتعليل لما شاء بما شاء ، وكل أحد يمكنه أن يدعي،
فأين الدليل؟ أما قوله تعليلاً لذلك: نُهِيَتِ الصحابة عن كتابتها، فيقالُ عليه: إن
مسألة النهي عن الكتابة والترخيص فيها هي مسألة لا تدلّ على نسخ السنن النبوية
بأحد الدلالات مطلقًا، والقارئ يرى أن حضرة الدكتور قد ملأ الكون صياحًا بالإنكار
على العمل بالظّنّ، فما لنا نراه قد انسلّ هنا إلى هَدْم ما كان أسسه، ثم يَعْمِد إلى هدْمِ
القصور اليقينية، فيرد جميع السنن ويلغي طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
التي أمر الله بها في غير موضع من كتابه ، والأحاديث المتواترة لفظًا ومعنًى في
وُجُوب اتباعه واتباع سنته. ويرد إجماع الصحابة، بل جميع الأمة، ما له يردّ ذلك
كله بالخرص والتخمين الذي لا يبلغ إلى أضعف مراتب الظن، بل لا يصح أن
يعتبره معتبر، فليعتبر حضرته بمناقضته لنفسه بنفسه.
إن أمر النهي عن الكتابة لم ينقل إلينا متواترًا، بل قد اختلف في رفعه إلى
المعصوم صلى الله عليه وسلم وفي نسخه، وقد عارضه ما هو أقوى منه، ولم
ينصَّ فيه على أن المراد منه أن السنن موقت شرعها، أو أنها منسوخة بعد مُدّة كذا
من الزمن ، ولا أنه نُهِيَ عنها لأجل أن تندثر السنن بطول الزمن. إن أحد هذه
الأمور التي ذكرناها تمنع الاستدلال على ما قصده حضرة الدكتور، فكيف يصح أن
يكون ما هذا حاله معارضًا لجميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع
الصحابة، بل وسائر المسلمين! فطاعة الرسول ووجوب اتباع سننه معلوم
بالضرورة من دين الإسلام - لا سِيَّمَا إذا كان حديث النهي عن الكتابة مُعَلّلاً بعلة
منصوصة عن رواية، وهو خوف الالتباس بالمصحف. وكل من روي عنه من
الصحابة النهي أو الامتناع عن كتابة الحديث فهو دائر على هذه العلة، كما صرحوا
بذلك. ومنهم من خاف أن يقع في الوعيد على الكذابين، ومنهم من نهى عن كتابة
رأيه ، فاشتبه ذلك على الناظرين ، فظنوا أنه نهي عن كتابة السنة النبوية، وليس
الأمر كذلك - فالقول بأن نهيهم عن كتابة العلم أو الحديث نصّ في النهي عن كتابة
السنن النبوية هو قول بالخرص.
ثم هل يجوز لمن لا يُجَوِّز العملَ بالظن أن يأخذ أقوالهم في أمر قد صرحوا
بسببه أن يتركه ويهمله ، ثم يحمل قولهم على غير ما أرادوه، بل على ما نُهُوا عنه،
وهو ترك اتباع السنة واعتقاد وجوب اتباعها. ثم نقول: الحقُّ أن الأمور المعللة
يدور حكمها مع عللها، وحيث زالت العلة زال الحكم، وهو هنا خوف الالتباس
بالمصحف، فقد وقع الإجماع على جواز - بل استحباب - كتابة الحديث، وقال
بعضهم بالوجوب، وهو الحق. هذا كله إذا سلمنا أن حديث النهي مرفوع وأنه غير
منسوخ. ومن اطلع على القاعدة الأصولية من أنه إذا وقع التعارض بين دليلين
أحدهما مانع والآخر مرخص مثلاً ، عرف أن الإجماع على كتابة السنن غير
معارض لنص؛ لأنه بعد تساقط الدليلين المتعارضين، أعني حديث النهي عن
الكتابة وأحاديث الأمر والترخيص فيها، تبقى البراءة الأصلية ، والإجماع إن لم نقل
هو حجة، فهو مؤيد لها.
ونحن نسأل حضرة الدكتور، هل حكم حديث النهي عامّ وباقٍ أم لا؟ فإنْ قُلت
بالأخير، فقد وافقتنا، وحينئذ لا يصحّ لك الإلزام به. وإن قلت بالأول لزمك أن
تمنع عن كتابة جميع العلوم المستنبطة من القرآن بل أولى من ذلك كله أن تمنع عن
كتابة سائر العلوم.
إن كان الاختلاف في كتابة السنة قادحًا في العمل بها مسوغًا لاقتراح أن علة
ذلك وسببه كونها شريعةً مؤقتةً - فإن الاختلاف قد وقع في جميع القرآن وكتابته،
وأول من خالف في ذلك الخليفة الأول ، ثم رجع إلى قول عمر رضي الله عنه
قِيل يسوغ أن يقال: إن الصِّدِّيق رضي الله عنه لم يخالف في ذلك إلا لأن شريعة
القرآن مؤقتة؟ لا - لا - في الأمرين، فإن قيل: إن الصِّدِّيق قد وقع الإجماع عليه،
والفاروق لما سأل الصحابة رأيهم في جمع السنن أشاروا عليه بجمعها، ولكنه
خالفهم للسبب الذي ذكرناه، كما صرح بذلك هو؛ إذ لم يحن له الوقت المناسب
الذي يزول فيه خوف الالتباس، ولما كان هو إذ ذاك صاحب الأمر لم يستطع من
أشار عليه منهم أن يفعل غير ما أمضاه الخليفة.
ومن تفكر في أهل زماننا بل منذ أزمان قديمة رأى صحّة هذا التعليل
المنصوص دراية كما هو صحيح رواية ، فإنك تجد مصداق ذلك فيما نراه من
انكباب الناس وانهماكهم على كُتُب شحنت بآراء مشايخهم وأسلافهم حتى جعلوها
كالمصاحف، بل قدموها على المصحف وعلى السنة النبوية على صاحبها ألف
صلاة وتحية.
أما قوله: (ولم يعاملها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بالعناية
التي عُومِلَ بها القرآنُ لِتزول مِن بينِ المسلمين وتندثر) فأقول: أي المعاملات يريد
حضرة الدكتور؟ فإنْ كان يريد أن القرآن يمتاز بأنه كلام الله لفظًا ومعنى، وأنه
معجز متحدّى به، وأنه متعبّد بتلاوته، وأنه كلام الخالق غير المخلوق ونحو ذلك ،
فهذا صحيح وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تعامل بهذه
المعاملة كلها، فكما أن الله جلَّ وعلا هو الربّ والإله المعبود ومحمد - صلى الله
عليه وسلم - عبده ورسوله وداعٍ إليه بإذنه ، فلا يعامل بما يعامل به الإله مما يخصّ
الألوهية والربوبية ، فكذلك كلامه صلى الله عليه وسلم لا يعامل بما يعامل به
القرآن من كل الوجوه كما تقدم، وإن أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يعامل سنته بما يعامل به القرآن مِن حيثية التشريع ، كأن يأمر الأمة بما لا يجب
الائْتِمَار به ، وينهاهم عمّا لا يجب أن ينتهوا عنه ، أو أنه يعتقد ذلك ، أو أن
أصحابه يرون عدم وُجُوب اتّباعه في جميع أقواله وأفعاله ، وفيما شرع الله مِن الدِّينِ
على لسانه، فإرادة هذا منه صلى الله عليه وسلم أو منهم هو أمحل المحال،
وحضرة الدكتور نجله أن يعني ذلك، فمن زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم
أوجب ما ليس بواجب ، وحرّم ما ليس بحرام على الأمة، وأنه يعلم ذلك ويعتقده،
أو أن أصحابه يعتقدون ذلك، أو أنهم لم يأتمروا به.. إلخ، فخطؤه فوق كل خطأ،
وافتراؤه فوق كل افتراء، ومع ذلك كله هو غير مستند إلى شيء يصحّ الاعتماد
عليه حتى ولا شبهة.
فقول القائل: إن ما أوجبه أو حرمه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو
مقيّد بوقت حياته - هل يصحّ ويثْبُت بدعوى عدم الكتابة أو دعوى النهي عنها أو
أنها لم تكتب مدونة مرتبة؟ قد قدمنا أن عدم الكتابة مطلقًا لم يرد فيها إلا حديث
واحد قد اخْتُلِفَ في رفْعِه وسبب النهي منصوص كما قدمناه مع معارضته لما هو
أصحّ منه.
فهل يصح أن يكون ذلك الحديث المذكور ناسخًا للآيات الكثيرة القرآنية
المصرحة بوجوب ولزوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه؟ إنّ
طاعة الله لا ينازع أحد في وجوبها في وقته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته،
وإنها - أي طاعة الله - واجبة علينا كما هي واجبة على أول الأمة.
لكنّا نرى القرآنَ مصرّحًا بأنّ طاعة الله مشروطة بطاعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وهل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الائتمار بأمْرِه
والانتهاء لنهيه، وإلا لم تكن له طاعة ، وقد عرفت ثبوتها ودَلَّ القرآنُ عليها نصًّا
كما يأتي، وهي لا تكون إلا في سننه القولية، كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ
رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء: 79-80) أمّا الاتِّبَاع والتَّأَسِّي، فيكون في الفعلية العمليّة
والقوليّة.
مهما يمكن لأحد أن يعبّر عن وُجُوب اتّباع أحد وطاعته لا يمكنه أن يعبّر عن
ذلك بأكثر وأوضح مما عبّر الله به في وُجُوب اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فإنْ كان ذلك قابلاً للتشكيك لزم أنْ لا يوجد في العالم خير يوثق به وبدلالته.
إن الله جلّ شأنُه لم يأمر بطاعته في القرآن إلا وأمر بطاعة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - معه ، بل قد يُفْرِدُ الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
ويجعلها شرطًا لطاعته ولم يفرد طاعته عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم هو تارةً يأمر باتباعه ، وتارةً يأمر بالتحاكم إليه ، ويجعل ذلك من شرائط الإيمان ،
وكذلك تسليم ذلك له ، وعدم وجدان الحرج - وتارةً يأمر بالتأسّي به ، وتارةً يقول:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) ، وتارةً يُعْلِمنا
بأنه المبلّغ عنه المؤتمن ، وتارةً ينسب التحليل والتحريم إليه صلى الله عليه وسلم
- ثم نراه ينبّه في محلّ آخرَ بأنّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى -
وتارةً يأمره أنْ يحكم ، وأن لا يحكم إلا بما أراه الله - وتارةً يقول له: {قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) ، فجعل اتباع الرسول -
صلى الله عليه وسلم مقدمًا على طلبتهم محبة الله وبابًا لمحبة الله لهم وهذا لا يمكن
أن يخص بقوم دون قوم وزمان دون زمان - وتارة ينهى عن التقدم بين يديه بقول أو
فعل، وتارة ينهى عن التولي عنه وعن أمره - وتارة ينهى عن مخالفة أمره، وتارة
ينهى عن التسوية بين دعائه ودعاء غيره، وقد قرر أنه الداعي إلى الله حتى إنهم
كانوا يرون إجابته غير مبطلة للصلاة، وتارة وتارة يحذر عن مخالفتهم أمره:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) الآية - وتارة ينهى أن يجعلوا
لأنفسهم الخيرة من أمرهم مع أمره - وتارةً ينهى عن مشاقّته، وأن من شاقّه فقد
شاقّ الله، وتارةً يجعل من صفات الإيمان بالله المبادرة إلى طاعة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - إلى غير ذلك مِن أساليب التعبير والتفنن فيه لإيضاح وُجُوب اتّباع
الرسول صلى الله عليه وسلم فإن القرآن ملآن مِن أوله إلى آخره بذلك حتى
القصص ، فإنها إنما سِيقَت للاعتبار وليطاع الله ويطاع رسوله - صلى الله عليه
وسلم - ويتبع وليؤمن الناس بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهل يصحّ أنْ يهدم هذا كله بشبهة حديث أبي سعيد رضي الله عنه على
ما فيه مما قدمناه؟ أم هل يسوغ أن يقال: إن الصحابة رضي الله عنهم خالفوا
ذلك كله ، وإنهم لم يعتنوا بسنته إذا رأينا أحدهم احتاط في الرواية ، أو حكم بخلاف
السنة بعذر أنها لم تبلغه ، ولو بلغته لرجع إليها كما قد شوهد عنهم الرجوع إليها في
جميع أحوالهم، وهل يصحّ اعتبار قول مَن خالف ما ذكرناه كائنًا مَن كان ما لم يكن
عن الله أو عن رسوله ، وقد عرفت حكمها في ذلك.
فكيف يصح قول الدكتور إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم
يعاملوا السنن النبوية بغير ما عاملوا به القرآن إلا لتندثر وتزول من بين المسلمين
مع ما عرفت مما قدمناه عن القرآن. وَلِمَ لَمْ يصرح الله ولا رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنه بما صرح به حضرة الدكتور؟
إنّ مَن تتبع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه ومواعظه وخطبه
يجدها موافقة لِمَا دلّ القرآن عليه، ومناقضة لما زعمَه حضرة الدكتور: (إنِّي
تَارِكٌ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي) ، والأحاديث متواترة في أمْرِه
صلى الله عليه وسلم أن يبلغ عنه، وفي وجوب اتباع سننه أيضًا تواترًا معنويًا،
أما أقوال الصحابة رضي الله عنهم في اتباع الكتاب والسنة، فأكثر من أن
تستقصى، بل ذلك إجماع عنهم وعن سائر المسلمين، وكل ما خالف الكتاب والسنة ،
فإنما هو عند الصحابة رضي الله عنهم من الرأي المذموم، وهو الظن
المشئوم الذي حذر الله عنه في كتابه ، فحمله حضرة الدكتور على الرواية والمروي
بلا بيّنة، بل بناءً على اصطلاح المصطلحين. على أن كل مَن سِوَى الرسول
صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الخطأ والسهو.
هذا ولا يحيط بسنته صلى الله عليه وسلم إلا مجموع الأمة ، وما عند
الأمة من ذلك قد دوّن وها هو بين أيدينا ، فهلمّوا بنا إلى اقتفائه واتباعه - صلى الله
عليه وسلم - الذي لا حياة ولا نجاة لنا إلا به {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46){فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) الآية
{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} (النور: 52)
نسأل الله لنا ولأخينا الدكتور الهداية والتوفيق لصراط الذين أُنعم عليهم من النبيين
والصِّدِّيقِينَ والصالحين، وأن يوفق من أراد له الهداية، إنه سميع مجيب ، وآخر
دعوانا أَنِ الحمد لله ربّ العالمين ، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وآله
وأصحابه الطيبين ومتبعيهم بإحسان إلى يوم الدين آمين.
…
...
…
...
…
... كتبه بيده وقاله بفمه
…
...
…
...
…
الحقير صالح بن علي اليافعي عفا الله عنه
(المنار)
إذا أراد الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي أن يرد على هذه الرسالة، فالمرجو
منه أن يبين ما يراه منتقدًا منها بالاختصار ، ولا يطيل في أصل الموضوع، وأن
يُسلِّم بغير المنتقد عنده تسليمًا صريحًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(إرشاد الأريب، إلى معرفة الأديب)
المعروف بمعجم الأدباء، أو: طبقات الأدباء:
مؤلف هذا الكتاب هو أبو عبد الله ياقوت: الحموي المولد، البغدادي الدار ،
الروميّ الجنس ، صاحِبُ كتاب معجم البلدان المشهور. كان غلامًا لتاجر حموي
علمه ليكون عونًا له في تجارته ، ثم أعتقه وتركه مدّة ، ثم استعمله في تجارة سفره
بها ، فلما عادَ كان مولاه قد تُوُفِّيَ ، فأعطى أولاده وزوجته شيئًا مما كان بيده
فأرضاهم واتّجر بالباقي ، وجعل بعض تجارته كتبًا ، فكانت عونًا له على ما تَصْبُو
إليه نفسُه مِن العلم لا سِيَّمَا التاريخ والأدب. فألف مؤلفات كثيرة في ذلك أشهرها
معجم البلدان ، ومعجم الأدباء الذي ذكر ابن خِلِّكان أن اسمه (إرشاد الألباء إلى
معرفة الأدباء) ولكننا أهدينا منذ أشهر المجلد الأول منه مطبوعًا طبعًا متقنًا على
ورق جيد ، وإذا باسمه الذي كتب عليه (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وكان
بعض النسخ كتب عليها هذا الاسم ، وبعضها كتب عليها ذاك.
موضوع هذا المعجم تراجم مَن كانوا يعرفون بالأدباء في تلك العصور،
قال المؤلف في فاتحته (ص 5) : (وجمعْتُ في هذا الكتاب ما وَقَعَ إليّ مِن
أخبار النَّحْوِيِّين واللغويين والنّسّابِين والقُرّاء المشهورين والإخباريّين والمؤَرّخِين
والورّاقِين المعروفين، والكُتّاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدوّنة، وأرباب
الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل مَن صَنَّفَ في الأدب تصنيفًا، أو جمع في فنّه
تأليفًا، مع إيثار الاختصار والإعجاز، في نهاية الإيجاز، ولم آلُ جهدًا في إثبات
الوفيات، وتبين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم، والإخبار
بأنسابهم وشيء من أشعارهم إلخ) فالكتاب من أحسن دواوين التاريخ والأدب ،
وقد كان كنزًّا مخفيًّا فأظهرته همة أوربية. ذلك أن رجلاً من الناشئين في البلاد
الإنكليزية اسمه إلياس جب كان مغرمًا بدرس العلوم والتواريخ العربية والتركية
والفارسية ، ثم مات في الخامسة والأربعين مِن سِنِّهِ ، فوقّفَتْ أُمّه مالاً عظيمًا على
إحياء الكتب الشرقية التي كان مشتغلاً بها يصرف ريعه في ذلك ، وعهدت بالعمل
إلى لجنة من الرجال القادرين عليه ، وقد شرعت اللجنة بطبع هذا الكتاب بعدما
عُنِيَ الدكتور مرجليوث العالم المستشرق الشهير بتصحيحه ، وقد أهدتنا الجزء الأول
منه ، فإذا فيه بعد الفاتحة فصلان في علم الأدب وعلم الأخبار ، يتلوهما باب
الهمزة ، وهو يبتدئ باسم آدم بن أحمد الهرمي وينتهي باسم أحمد بن علي بن المعمر
وصفحاته تزيد على أربع مائة ، منها ترجمة أبي العلاء المعري في 43 صفحة ،
فنشكر لجميع العاملين في إحياء هذا الكتاب وأمثاله فضلهم ، ونخص بالذِّكْرِ
المُصَحِّح ، ونرجو أن يُعْنَى طابعو الكتب في مصر ولو بعض هذه العناية في
التصحيح والإتقان.
***
(الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض)
بنيت قواعد الإسلام وأقيمت أركانه على أساس العلم حتى كان من المجمع
عليه عند علمائه أن جهل المكلف بما يجب عليه من أصوله وفروعه ليس بعذر في
الدنيا ولا في الآخرة ، فالقاضي الشرعي لا يترك عقوبته إذا ارتكب موجبها جاهلاً
كما أن الله تعالى لا يَعْذِرُهُ في الآخرة إذا اقترف الفواحش والمنكرات جاهلاً
بتحريمها. قالوا: إلا إذا نشأ في شاهق جبل ، أو كان قريب عهد بالإسلام. والعلم
ما كان بالدليل، فالعالم لا يكون إلا مجتهدًا ، ولذلك أجمعوا على أن المقلد لا يسمى
عالمًا كما صرح به ابن القيم في أعلام الموقعين ، وقد بقي الفقهاء إلى القرون
الوسطى يطلقون لفظ العالم ويريدون به المجتهد ، كما ترى في كلامهم عن القاضي
والمفتي ، ولكن وجد في هذه القرون من المؤلفين الجاهلين من ادَّعَى أن الاجتهاد
طوي زمنه وأن العلم بالإسلام أي بالكتاب والسنة صار متعذرًا ، وأن الواجب على
جميع المسلمين هو الأخذ بما كتب في المصنفات الفقهية التي ألفها المنتسبون إلى
أحد المذاهب المشهورة فقام المدافعون عن العلم يردون هذه الدعوى ويبينون وجوه
بطلانها حتى أفردوا ذلك بالتأليف.
من هؤلاء الحافظ الشهير جلال الدين عبد الرحمن السيوطي فقد وضع فيها
كتابًا سمّاه (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر
فرض) ، وقد أورد فيه النقول الكثيرة عن أكابر علماء المذاهب الأربعة لأن كلامهم
يقنع المقلدين المنكرين ما لا يقنعهم الدليل المؤيد بنصوص الكتاب العزيز وما جرت
به السنة السَّنِيّة. وقد طبع هذا الكتاب طبعًا حسنًا في المطبعة الثعالبية بالجزائر ،
وهو يطلب من صاحبها أحمد أفندي بن مراد التركي وأخيه فنشكر لهما إحياء هذا
الكتاب النافع ونحثّ القراء على الإقبال عليه.
***
(ليالي سطيح)
طبع الجزء الأول من هذا الكتاب الذي شرع في تأليفه حافظ أفندي إبراهيم
وجعله في انتقاد الأخلاق والعادات، ووصف حال الاجتماع في مصر، وجعله
حوارًا مع سطيح الكاهن الجاهلي، ذلك الكتاب الصغير الكبير، الذي تبارى في
تقريظه عالم الكتابة والتحرير، فسالت أنهار الجرائد بمدد آياته، وجرت أقلام
الكتاب في فلك حسناته، ولهجت ألسنة الفصحاء بوصف ما في مبانيه من المتانة
والإحكام، وما أودعه أسلوبه من الرّقّة والانسجام، وتغلغلت أفكار الحكماء في
التأمّل بما انطوى عليه من الحِكَم والعِظات، وما بينه من الأمثال والمثلات،
وتلطف الناقدون في الإيماء إلى ما فيه مما لم يَخْلُ من مثله كلام الناس، كالتفاوت
بين بعض الجمل أو عصيان قوانين القياس، فلو جمع ما كتب في تقريظ كتاب
ليالي سطيح، من الثناء والمديح لَكَان معه كليالي هجر الملال، مع ليالي الوصال،
على أن ليالي التقريض هي من ليالي الوصال البيض، جمع فيها الأدب بين
جمهور من الأدباء المنشئين، وبين محبوبهم حافظ أفندي إبراهيم.
أخذ أولئك الكاتبون مسالك القول على من يحاول بعدهم وصف الكتاب أو نقده،
فما على المنار إلا أن يجعل الوفاء بذمة حافظ عَرْض شيء من حِكَم كتابه على
قارئيه، لعلهم يهتدون إلى فضله بكواكب لياليه، فمن ذلك قول سطيح في الحث
على العناية باللغة العربية ونصر دولتها وذِكر إمامي المصلحين: حكيم الإسلام،
والأستاذ الإمام (ص 62) :
فما ضركم لو تساندتم جميعًا وأنتم تتجازون زمن القمر عدًّا، فرفعتم من شأن
هذه الدولة، وحركتم من الخامدين، وهززتم من الجامدين، فإني أراكم بين متفصح
على أخيه، ومتنبل على قرينه، وليس هذا صنع من يريد ما تريدون، تحاولون ردّ
هذه الدولة إلى شبابها، بعد أن خلا من سنها، ولو لم يتداركها الله بذلك الأفغاني
لقضت نحبها ولقيت ربها، قبل أن يمتعها بكم ويمتعكم بها، أدركها الأفغاني ولم يبق
فيها إلا الذماء، فنفخ فيها نفخة حركت من نفسها، وشدت من عزمها، أدركها وهي
شمطاء قد نهض منها بياض المشيب في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب
ناصية القرن الخامس، فسودت يده البيضاء ما بيضت من شعرها سود الليالي،
وتعهدتها همته بصنوف العلاج حتى استقامت قناتها، وبدا صلاحها، وقد كان الناس
في ذلك العهد يدينون باللفظ ويكفرون بالمعنى، فمازال بهم حتى أبصروا نور الهدى،
وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى، وقام بعده نفر ممن تأدبوا عنه ،
فكانوا كالسيوف فرجت للرماح ضيق المسالك ، فانفسح للمتأدبين المجال وجَالَ كُلٌّ
جَوْلَتَهُ، وتنبه الوجدان وتيقظ الشعور وتحرك الفكر حتى أفضى إلى حركة النفس،
وظهر أثر جمال الدين في النفوس العالية، وأصبحت تبتدر كلامه الأسماع الواعية،
فكان من ذلك أن انطوى أَجَلُ التقليد، وأن بعث الله على يديه ميت اللغة وأحيا
رُفَات الإنشاء، وغادر رحمة الله عليه مصر ولم يضع لنا كتابًا نأخذ عنه، أو مؤلفًا
نغترف منه، ولكنه ترك لنا رءوسًا تؤلف، وأفكارًا تصنف، وكأنه أحس بذلك حين
أحسّ بالموت ، فكان يقول وهو يجود بنفسه: خرجنا منها ولم ندع لنا أثرًا ظاهرًا
بين السطور، ولكننا لم نغادرها حتى نقشنا ذلك الأثر على صفحات الصدور، فإن
لم ترثوا عنا في بطون الكتب فقد ورثتم عنا في صدور الرجال، فإذا حثوتم التراب
على رجل الأفغان فعليكم برجل مصر.
خرج من الدنيا كما خرج سقراط لم يغادر كلاهما مؤلفًا، ولم يدع مصنفًا،
فلولا محمد عبده ما عُرِفَ رجلُ الأفغانِ، ولولا أفلاطون ما ذكر رأس فلاسفة
اليونان.
ولما سكنت أنفاس الأفغاني بعد أن تجددت بذكره الأنفاس، خلفه حكيم الشرق
في دولته، ووطّن نفسه على المضي في طريقته، فأسمع الناس في الحق وأسمعوه،
وأخافوه في ذات الإله وخافوه، ولم يزل بهم حتى غلب حقّه على باطلهم ثم مضى
لسبيله رحمه الله.
فتفتقت الأذهان، وتطلعت العقول إلى البحث، وبرزت اللغة من خبائها،
تجر مطارف آدابها، وأطل علم الأدب Literature من مناره مشرقًا على النفوس
فأرسل نورَه إلى الضمائر، ونفذت أشعته إلى السرائر، فنمى تحت نظره الشعور
كما ينمو النبات جادته الشمس بالنظر، أو كسته أشعة القمر، فلطف من كثافة
النفوس، وهذب من مرارة الأرواح، حتى شفت الأولى وعذبت الثانية وبدأ دور
هذه الحياة الجديدة بفضل الأدب وعلمه. ا. هـ المراد منه هنا.
ثم ذكر سطيح ومحاوره الأستاذ الإمام وتلاميذه في مقام ما يرجى من الإصلاح
فقال (ص 144) .
قال (أي سطيح) وأين مكانك من العلم، وأين منك منزلة الحِلم؟ قال حسبي
أني من تلاميذ حكيم الإسلام، الأستاذ الإمام، طيّب الله ثراه، وجعل النعيم مثواه،
قال: إني لأرى رأيًا حصيفًا، وأسمع قولاً شريفًا، فمن أي تلاميذه تكون؟ فقد
سمعنا أنهم فريقان ، فريق قد اختصه بسياسته، وفريق قد اختصه بعلمه، وقد أثنى
عليهما العميد، وتنبأ لهما بالطالع السعيد، قال: لا عِلْمَ لي بما تقول. ولقد كنت
ألصق الناس بالإمام أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره، فما سمعته يخوض
في ذكر السياسة قبّحها الله، ولكنه كان يملأ علينا المجلس سحرًا من آياته وينتقل بنا
بين مناطق الأفهام، ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار
الخلائق، وحكمة الخالق، وكان ربما ساقه الحديث إلى ذكر أحوال هذا المجتمع
البشري ، فأفاض في شئون الاجتماع وحاج العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة
ولم يزل ذاك همه رحمه الله يلقي في الأزهر دروس التفسير ، وفي داره دروس
الحِكمة حتى مضى لسبيله، فإن كانوا يسمون تلاميذه أحزابًا، ويقسمون تعاليمه
أبوابًا، فتلاميذه حزب العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران، على أنه
كان من أشد الناس تبرُّمًا بالسياسة وأهلها، حتى أعلن براءته من الالتصاق بها،
فقال عنها في كتاب الإسلام والنصرانية ما قال.
لكنه كان يحتكّ بها ما دعت إلى ذلك الحاجة ويرصد حركاتها رصدًا، ويصد
غاراتها صدًّا خشيةَ أن تقطع على العلم سبيله، أو أن تقف عثرة في طريق الفضيلة،
ولولا ذلك لقطعت عليه سلك أمانيه، وحالت بينه وبين ما كان يبتغيه، فكم تلطف
في ابتزاز قواها، وتحامى جهده طريق أذاها، حتى إذا ظفر بطلبته، وفاز برغبته،
واستمد منها ما شاء، تحت حماية الإفتاء، عطف على العلم بذلك الإمداد، ورد
عليه ما سلبت يد الاستبداد، ولعله أوهم العميد، بيقظة حزب جديد، ليرد عاديته،
ويفسد عليه سياسته، في مصادرة العلم، ومصارعة الحلم، أما ترى بربك أثر ذلك
في المدارس، وما عبثت به يد ذلك السائس، ولولا أن الإمام مادَّهم حبل الوداد،
وجاذبهم فضل النصح والإرشاد، لأصابه ما أصاب حكيم الأفغان، وقضي على هذه
الأمة بالحرمان، فلقد كان يغدو على الوكالة ويروح عنها ليدفع عنا شِرَّة القوم،
ويصلح ما يفسده أهل الدسائس، فكم زحزح عنا حادثا، ودفع كارثًا، ولو كان حيًّا
يوم دار الفلك لنا بالنحوس في دنشواي، لَرأيت غير الذي رأيت من ذلك القصاص،
ولما ارتفع صوت العميد، بذلك التهديد والوعيد، ولما نزع إلى كتابة ذلك التقرير،
الذي جاء أبلغ ما تملي الضغينة على الموتور، فكان فيه كثير جموح اليراع،
ضعيف ضعيف جانب الإقناع، كأنه يكتب مقالة خيالية، إلى مجلة سياسية، وقف
فيها وقفة المدافع عن نفسه.
لحق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى فارتدّتْ طائفة من جفاة
العرب، وكادوا يفتنون الناس، لولا حكمةُ الصِّدِّيقِ وعزمة الفاروق، فما غضت
الردة من شرف النبوة، ولا نالت من عصمة الرسالة، ولبث الإسلام إسلامًا - ومات
الأستاذ الإمام فَصَبَأَ بعض حزبه كما يدعون، وأستغفر الله لهم مما يقولون، فما
غضّ ذلك من كرامة حكيم الإسلام، ولا مسَّ مِن سيرة ذلك الإمام.
أراد بعض مريديه أن يغني غناءه وأن يفعل شرواه في التوفيق بين صوالح
القوم وصوالحنا، فرمى بنفسه في أحضانهم، وليست له مكانة الإمام من نفوسهم،
ولا منزلته في قلوبهم، فقصر ولا بدع، وأخفق ولا عجب، فإن الفراغ الذي تركه
الإمام لا يشغله الألوف من أولئك الذين يرفعون العقيرة بالصياح، وينعون عليه
مذهبه في الإصلاح، ولمّا ظهر ذلك المريد بمظهر الاتصال بالقوم أنكر الناس منه
ذلك فطارت حوله الشبهات، وانبسطت فيه الألسن وأخذته سهام الأقلام، على أنه
وإن أخطأه التوفيق في عمله فما أخطأه حسن القصد ولا جازته سلامة الطوية، فوجد
بعض المرائين السبيل إلى تشويه سمعة الإمام بعد موته، وبالغوا في ذم حزبه،
وزادهم ضغنًا أن قرءُوا في تقرير العميد ما قرءُوا وظنوا أن هناك حزبًا يعمل، ولو
أراد الله خيرًا لهذه الأمة لسخر لها من تلاميذ الإمام من يقوم بالدعوة إلى الْتِئَام ذلك
الحزب الذي أودع فيه الإمام مِن أسرار حكمته ما كشف لهم عن حقيقة المصير الذي
أصبحنا نساق إليه سوقًا أعجلنا عن النظر في أمورنا فأمسينا أتباعًا لكل ناعق.
قال صاحبي وقد هاله ما سمعه أكان يكون بين ظهرانيكم أمثال أولئك الأمناء
على تعاليم ذلك الحكيم ولا تتعلقون بأذيالهم، على أني لا أرى فيكم إلا ناعيًا عليهم
مشهرًا بهم، فإن كنت لم تكذبني القول، فتلاميذ الإمام حقيقون باللّوْم؛ لأنهم يعلمون
الحق ولا يَدْعُون إليه. علموا أن لا حياة لهذه الأمة بغير الجامعة فما لهم لا
يواصلون قرع أنوف الأغنياء بالمواعظ ، ويوالون الصياح بطلب تأسيسها فتلتقي
أصواتهم بالنداء في أنحاء القُطْر؟ ولكنهم سكتوا ، اللهم إلا شاعرًا منهم قد قرض
قصيدة ، وقاضيًا قد حبر مقالة في سبيل الجامعة ، درج كلاهما في أثناء النسيان ،
فجمد الأغنياء عن البذل؛ لجمود أولئك الوعّاظ عن الكلام وتدفقوا في إنشاء الكتاتيب
حين ساقتهم الحكومة إلى ذلك ولو علموا أن انتشار التعليم الناقص شر على الناس
من بقاء الجهل لَمَا بذلوا في سبيله ما بذلوا فكان مثلهم في ذلك كمن يحاول النجاة من
أنياب النمر ليقع تحت براثن الليث؛ لأنهم إنما يستبدلون بانتشار الكتاتيب داء
الجهل ولكن بداء الغرور فسبيل الإصلاح أن تنشأ الكُتّاب وتُبنى الجامعة في وقت ما
حتى إذا أخرج الأولُ نصفَ إنسان أطلعت الثانية إنسانًا كاملاً فتكفل هذا الكامل
بصلاح ذلك الناقص فتتماسك الأمة ويكثر فيها الدعاة إلى الخير فليس بينها وبين
الحياة إلا أن يُخرج لها العلم الصحيح رجالاً يقودون الأفكار ويسلكون بها سبيل
الرّقي، ومن رأى أن هذه الأمة لا تنهض إلا بتعليم مجموعها وتهذيب أفرادها فقد
أخطأ مواقع الرأي فكم نهضت أُمّة بفرد ، وأسست دعائم دولة على عزائم آحاد وفوا
قسطهم من العلم الصحيح وأخذوا نصيبهم من الإقدام.
وقد انصرف الناس إلى الصياح بطلب انتشار العلم ونسوا أن ذلك لا يغني
عنهم شيئًا إذا أعوزتهم تربية القادة وعزهم بناء الزعماء؛ فاعلم أن بناءة الرجال لا
تكون إلا في بناء الجامعة.
قال الأديب: وهل يكفي العلم وَحْدَهُ لصلاحنا ونحن على ما ترى من الخلق
والدين: فسوق عن أمر الكتاب، وطاعة للهوى، فلا وازع من الدين، ولا زاجر
من الخلق، فإذا تزعزعت العقيدة ولم يطمئن الطبع قلّ أن ينجع في الناس علاج
العلماء، أو تأخذهم صيحة الخطباء.
قال صاحبي: صدقت ولكن ما تراه أنت خطبًا كبيرًا، لم يكن في نظر الحكمة
إلا أمرًا يسيرًا، وإني أذكر لك دواء هذا الداء ، وهو أيسر مما في نفسك، فلا تنزل
أمري معك على المزاح، ولا يصغرن في عينيك مأتي ما ألقي عليك، فرب مؤرَّب
من العقد ضلت حلّه الحكماءُ ، واهتدت إليه خطرة من الفكر يرمي بها أحد العامّة،
وتغفل عنها عقول الحامة، ولعلك إذا سمعت أن الدواء الناجع، والعلاج النافع، لا
يحتاج إلى مقدمات طويلة، أو فلسفة جليلة، أصغرت ما كنت تكبر، واستنزرت ما
كنت تستغزر، فاعلم أنه إذا أقفلت أبواب المنتديات، وأطفئت أنوار الحانات، قبل
مَنْصَف من الليل، انحرف عنكم جارف هذا السيل.
هذه لندرة لا تكاد ترى في حوانيتها ساهرًا، ولا تجد في طرقاتها عابرًا، إذا
انقضى الثُّلُث الأول من دولة الظلام، وتلك (فينا) يجمع فيها الليل بين الجفون
والكرى، ويحول الظلام بين الأرجل والسرى، فإذا شب الليل أو كاد، سكنت
حركة العباد، فما لكم لا تأخذون نفسكم بتقليد تلك الخلائق، وقد ائتمروا بأوامر
الخالق، وما لكم لا ترجعون إلى الفطرة البشرية، أو تخضعون لنواميس السُّنَّة
الكونيّة، فتجمعوا في ذلك بين الدنيا والدين، ولا تعقوا أوامر الكتاب المُبِين، يا
وَيْلَكم أحييتم ليالي العُمُر بالآثام، وأَمَتُّمْ أيامه بالمنام، فعكستم الفطرة ، ولا بدع إذا
عكست آمالكم، وخابت أعمالكم، خذوا مضاجعكم إذا طر شارب الظلام، واهجروها
إذا تنفس الصباح، ففي ذلك صحة لأبدانكم، وسلامة لأديانكم.
إذا شئت أن تعرف ما وراء ذلك من المنافع فإني أعد لك منها ولا أعددها منها
الرجوع إلى المعيشة المنزلية التي انحلت بزوالها روابط الأهل والأقارب، ويبس ما
بين البُيُوتَات، فتناكر الإخوان، وتدابر الجاران، وأقفرت المنازل من أنس السمر
وألف الناس الجلوس في المنتديات حتى إنهم ليوحشون في ديارهم، لقلّة زوّارهم،
وأصبح المرء في داره حاضرًا كالغائب، مقيمًا كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه،
ما لا يعلم مِن حال القريب منه.
ومنها اجتياز العقبات، التي أقامتها المنتديات والحانات، في سبيل
الاجتماعات - كان المصريون في العهد القديم الذي نسميه اليوم عهد الظلام يجتمعون
في الدُّور والقصور ، وكانت سراتهم وذَوُوا اليسار منهم يجلسون في بيوتهم للسمر ،
فيغشاها العالم ويؤمها الكاتب ويقصدها التاجر وينتجعها الأديب ، فتجري بينهم
الأحاديث وتقوم سُوق المناقشات - يحدث الحادث فيخوضون في ذكره، وتنزل
النازلة فيجمعهم الألم على العمل على إزالتها، وتطل رءوس المشروعات فلا
يفتئون يتبينون معارفها، حتى يقتلوا شئونها بحثًا، ويقفوا على وقائعها جدالاً،
وينزل بأحدهم المكروه فلا يزالون يتلطفون بالسعي له حتى يأخذوا بيده، وينهضوا
به من عثرته - عقدت بينهم الزيارات، عُرَى المودّات، فتراهم وهم كأنهم أهل
بيت واحد: يألم الجار للجار، ويأخذ الناهض بيد ذي العثار، بربك هل نهضت أُمّة
بغير إدمان المجتمعات، وهل أخصبت مودة إذا هي لم يتعهدها أهلها بالزيارات،
لقد جار في حكمه من قضى على المصريين باستحالة الاتفاق، وجعل تلك الكلمة
التي رمى بها حكيم الأفغان أساسًا لحكمه، فصرفه التقليد عن النظر إليها بعين عقله،
فمن أين للمصريين أن يتفقوا إذا هم لم يجتمعوا.
ومنها اقتصاد المال وأنت ترى أن هذه الستة الأفدنة (أي بقعة الأزبكية) تكاد
تبلع ما تخرجه أرض وادي النيل من الخيرات ، ولا يغرنّك ما ترى في عاصمة
الفرنسيس ، فإن أهلها من الأكياس الذين يَصِلُون سهر الليل بالنهار لاصطياد الذهب ،
ولكن من جيب الغريب ، ونحن إنما نفعل ذلك ليذهب الغريب بأموالنا ويسخر من
جهالنا. اهـ
وهو خاتمة الجزء الأول من الكتاب.
***
(رسائل البلغاء)
من مزايا مجلة المقتبس، التي يطابق بها اسمها مسماها، نشر رسائل بلغاء
الكتاب المتقدمين، وقد استحسن صاحبها أن يجمع أحاسن هذه الرسائل من مجلته
ويطبعها مجموعة على حدتها، ليسهل تناولها على غير قراء المجلة، ففعل وقد
أحسن فيما فعل.
صدرت المجموعة الأولى من هذه الرسائل في مائة صفحة، كلها من كلام
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى، وهما ممن تُضْرَب ببلاغتهما الأمثال ،
وتشدّ إلى كلامهما الرِّحَال، ومن أطرف هذه الرسائل رسالة ابن المقفع في سياسة
الدولة وصحابة السلطان ورجاله، ورسالة عبد الحميد في نصيحة ولِيّ العهد وتعبئة
الجيش، وقد عُنِيَ الناشر بتصحيح هذه الرسائل معارضةً على أصلِها ، ولم يتبع
سُنَّة أكثر طابعي الكتب بمصر من إهمال التصحيح، فما يوجد فيها من الغلط،
فالذنب فيه ذنب النُّسّاخ المحرّفين، مع فقر بلادنا من النسخ التي يُعَارَض عليها
الأصل، وثمن هذه المجموعة أربعة قروش، وأُجْرَة البريد قرش واحد، فنحثّ
مُحِبّي الآداب والحكم وطلاب الإنشاء العربي البليغ على قراءتها.
***
(سر تقدم الإنكليز السكسونيين)
قد أصبح هذا الكتاب أشهر من نار على عَلَم، وترجم بأشهر لغات الأمم، ولا
غَرْوَ، فإن تقدم الإنكليز السكسونيين وسبقهم لغيرهم من الأمم العزيزة التي تساويهم
أو تفوقهم في العلم والمدنية مما لا يُمَاري فيه أحد إلا من يجهل أن الشمس لا تغيب
عن سلطتهم، وأن مئات من الملايين خاضعة لسيادتهم، فمن جهل هذا التقدم لأميته،
أو تجاهله لغروره وغباوته، فإن الأمم الحية التي تسابق الإنكليز في ميدان
الاستعمار، وتجاريها في تلك الجواري المنشآت في البحار، هي الجديرة بأن تعرف
سر تقدمهم، وسبب فوزهم وسبقهم، فإنه لا يعرف قيمة الشيء من كان بعيدًا عنه،
كما يعرفه من هو على مقربة منه، لذلك كان علماء فرنسا أسبق الناس إلى معرفة
قيمة ما امتاز به الإنكليز على غيرهم مِن الأمم في تربيتهم وتعليمهم، وأخلاقهم
وآدابهم، وقد ألفوا في ذلك الأسفار الكثيرة التي يعد كتاب سرّ تقدم الإنكليز من
أشهرها، وكان من حسنات أحمد فتحي باشا زغلول في قومه وخدمته للغة أمته أن
ترجم هذا الكتاب بالعربية. ويسرنا أن طبعته الأولى قد نفدت، وأن خليل بك
صادق، صاحب مطبعة الشعب عُنِيَ بإعادة طبعه بإذن المترجم، ويَزِيدنا سرورًا أن
طبعته هذه أبهج من الأولى وأشد إتقانًا. وقد أبقى ثمنه كما كان وهو عشرون قرشًا،
بل هو يهديه إلى الذين يؤدون قيمة الاشتراك في مجلته (مسامرات الشعب) ،
ولا ينسين القارئ في هذا المقام رفيق هذا الكتاب في غايته ومقصده وأعني به كتاب
(التربية الاستقلالية - أو - أميل القرن التاسعَ عَشَرَ) ، فإن مؤلفه العالم الفرنسي قد
اختار فيه أن تكون تربية الأخلاق واستقلال النفس تربية إنكليزية، وتعليم العلوم
العالية على الطريقة الألمانية، وإنني أرى أن المصريين وجميع العثمانيين أحوج
الناس الآن إلى مثل هذين الكتابين، لأنهم في طور انتقال من حال اجتماعية إلى
حال، وهو طور محفوف بالأخطار، التي يُستعان على تلافيها بالتأسي والاعتبار،
ولا ينفعنا التأسي بأمة كما ينفعنا التأسي بالأمة الإنكليزية، التي هي أَقْوَمُ أمم المدنية
أخلاقًا وأشدها محافظةً على ما كان عليه سلفها من الخير والدين وتثبتًا في التشبث
بالجديد.
***
(مجلة مسامرات الشعب)
قد أتقنت هذه المجلة ، وصارت أحسن اختيارًا للقصص مما كانت عليه مِن
قبلُ، ومِن آخر ما نشرته قصة لصوص باريس، وهي قصة تفيد المتفرنجين من
أهل هذه البلاد، إن اعتبروا بها ما لا تفيدهم كتب الأخلاق والوعظ بما تمثل لهم من
حيل الأوربيين المقامرين على سلب أموال الأغنياء الأغبياء، لا سِيَّمَا الغرباء،
وفيها حرب عوان بين الفضيلة والرذيلة ينتهي بانتصار الفضيلة. ومثلها في هذا
قصة سلطان الغرام، وهي آخر قصة نشرت في هذه المجلة.
***
(مجلات جديدة)
مجلة التذكرة يصدرها بمصر السيد أحمد خليل، في كل أسبوعين مَرّة،
وهي مجلة دينية اجتماعية، ونزعتها صوفية اجتهادية ممزوجة بشيء من
الاصطلاحات العلمية عند الحاجة، وسننقل منها نموذجًا للقراء في جزء آخر؛
ليكون خير معرف لها. وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا في السنة لأهل مصر،
ونصف ليرة إنكليزية لغيرهم، فنتمنى لها التوفيق والنجاح.
(شورا) مجلة علمية إصلاحية، تصدر في أورنبورغ من بلاد روسيا،
محررها صديقنا في الغيب الشيخ رضا الدين أفندي بن فخر الدين، وهو من علماء
الإسلام المصلحين. وقد عرف قُرّاء المنار شيئًا من أفكاره العالية، وفقهه في
الإصلاح مما نشرناه من ترجمة رسالة له في مطالب مسلمي روسيا من حكومتهم،
ولنا الرجاء في أن تكون هذه المجلة هُدًى ونورًا للمسلمين في تلك البلاد.
(النصيحة) مجلة علمية أدبية تصويرية، تصدر بتونس في نصف كل شهر
عربيّ مرة، لمنشئها (الصادق بن إبراهيم) ، صاحب جريدة النصيحة. وقيمة
الاشتراك فيها لأهل القطر التونسي خمسة فرنكات، ولغيرهم ستة فرنكات، فنتمنى
لها التوفيق والثبات.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأمة العثمانية والدستور
إذا كان المنار لا يسع عشر معشار ما نعلم من أسباب هذا الانقلاب الذي حدث
في بلادنا ومقدماته ونتائجه وما نراه في أمر استفادة الشعوب العثمانية من الحرية
والدستور - فذلك لا يصدف بنا عن نشر بعض الآراء والأخبار التي تُذكِّر الكاتبين
في الصحف اليومية والأسبوعية ببعض ما ربما يذهلون عنه، وتُنَبّه القارئين إلى ما
ينفع التنبه له، وإنني أشير الآن إلى ثلاث مسائلَ هي أركان العبرة في هذا الباب:
(1)
أول شيء يجب على المنار التنبيه إليه والتنويه به هو ما يؤيد خطته
في إقناع المسلمين بوجوب حسن المعاملة بينهم وبين من يعيش معهم من غير أهل
دينهم ، وتعاون الجميع على ما يرقي البلاد ويرفع شأن الدولة، وفي رد طعن
الطاعنين في الإسلام بأنه دين تعصب وعدوان، وفي المسلمين بأنهم لا يلتئمون
مع أحد ممن لا يدين بدينهم، لا سِيَّمَا الذين يزعمون أن العلماء المُعُمَّمِين، هم الذين
يبثون الشقاق بين العالمين.
أؤيد هذه الخطة من الجهة الإيجابية والجهة السلبية بما ظهر للعالم أجمع من
أن عقلاء المسلمين هم الذين قاموا بهذا العمل الجليل للاتحاد والمساواة بينهم وبين
غيرهم، وأن شيخ الإسلام قد كان ومازال ركنهم الذين يلجأون إليه، وقطبهم الذي
يدورون حواليه.
إن أحرار المسلمين هم الذين بدءوا بدعوة الأحرار العثمانيين من النصارى
واليهود في مصر وأوربا وفي الولايات العثمانية إلى مشاركتهم في جهادهم، وهم
الذين أعلنوا هذا الجهاد ووطّنوا أنفسهم على قتال إخوانهم من الجند ، إذا هم حاولوا
تأييد السلطة المستبدة، ثم إنهم بعد الظفر بالدستور قد كانوا هم السابقين إلى
مصافحة الأرمن والروم وغيرهم من الشعوب الموافقين لهم في العثمانية المخالفين
في الاعتقاد، وهم الذين رفعوا أصواتهم في كل مكان بأننا لا نجعل الدين مفرقًا بيننا
وبين إخواننا العثمانيين، بل نكون معهم كما أمرنا الإسلام بالقول المشهور فيه:
(لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ؛ بل منهم مَن بالغ في قوله وغلا في رأيه ، فاستحسنوا
التنازل عن بعض حقوقنا إرضاءً لعاطفة بعض شعوبنا، كالذين يرون أن يجعل
جامع أيا صوفيا مجلسًا للمبعوثين، ويخرج عن كونه مسجدًا للمسلمين، وهم من
الترك الذين يذكرهم هذا الجامع بذلك الفتح المبين.
هذا ما فعله مسلمو العثمانيين مِن البدء في الدعوة إلى الاتفاق والعمل بها في
كثير من البلاد، وهذا ما ينبغي أن يفعله الباقون، فإن المسلمين هم العنصر الأكبر
والأقوى، فإذا هو علم أن الخير في الوفاق وعمل بذلك تبعه غيره بالضرورة ، ولو
قام أحد الشعوب القليلة الضعيفة يدعو الشعب الكثير القوي إلى المساواة وهو غير
مقتنع بها لما كانت دعوته مجابة ولا مقبولة.
فأدعو المسلمين في جميع البلاد العثمانية إلى أن يكونوا هم البادئين بِبِرّ غيرهم
والاتفاق معهم واشتراك الجميع في الأعمال التي توثق الرابطة العثمانية وتعمر بها
البلاد التي يمتع بعمرانها الجميع، بهذا تتكون الأمة العثمانية، وتعتز الدولة العَلِيّة،
وبهذا يقطع المسلمون ألسنة القادحين فيهم من الأوربيين، ويكونون مهتدين في ذلك
بهدي الدين المبين.
أدعو إلى هذا مذكرًا بالاعتدال فيه، لئلا يفضي الغلو فيه إلى ضد ما يراد به،
بأن يعتقد الجمهور أن كرتهم بالدستور خاسرة، أو أنهم يعمرون الدنيا بخراب
الآخرة، فيحملهم ذلك على الشنآن، أو يدفعهم إلى العدوان، فعلى المرشد أن يكون
حكيمًا في نصحه، مراعيًا لاستعداد الأكثرين في هديه.
وأُذكّر الجميع بأن الطفرة مُحَالٌ، وأن ما يحصل بالتدريج يكون أولى بالبقاء
والثبات، فإذا ترك أحد الفريقين للآخر ما كان يراه حقًّا له، فلا يستعجل عليه
بطلب سائر ما يراه مِن الحقوق لنفسه، حتى التقاليد القديمة، والعادات الراسخة،
فإن المصلح في القوم لَيَدْعُو أبناءَ جِنْسِهِ ودِينِه ووطنه إلى ترْكِ بِدْعة مِن البدع أو
ضلالة من الضلالات، ويقيم على دعوته الحجج القيمة والآيات البيّنات، ثم لا
يستجيب له قومه إلا بالتدريج، وأرى أن من الحكمة في تلافي الشذوذ والتقصير،
أن يبادر العقلاء والصحافيون من كل أهل دين إلى انتقاد أهل دينهم ولو بالعنف،
والسكوت عن غيرهم أو الاعتذار عنهم ولو بالتأويل ، هذا إذا كان الشذوذ صريحًا
في مناوأة أحد الفريقين الآخر، وإلا اتفق الجميع على انتقاد المسيء مِن حيثُ إنه
مسيءٌ، مِن غير ذِكْر لِدِينِهِ ومذهبه، ولا اتهام قومه بمشايعتهم له.
(2)
أنتقل بالقارئ من المسألة الدينية، إلى المسألة الجنسية، فقد كان
التعصب للجنس أشد خطرًا على الدولة من التعصب للدين، فإن الشقاق الديني إذا
كان يقدّ جِسم الأمة فيجعله نصفين، فإن الشقاق الجنسي يمزقه فيجعله أجزاءً كثيرة
ويصيب شره الجميع، فالمسلم التّركِيّ، يعادي المسلم العربِيّ، والنصرانيّ اليونانِيّ
يعادي النصرانيَّ البلغاريَّ، وعلى ذلك فَقِسْ.
لو بدأ بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية العربي أو الكردي أو الألباني أو
الأرمني أو الرومي أو البلغاري لَمَا سمعت للبادئ من هؤلاء دعوة ، ولَمَا كان لها من
الوقع والتأثير عشر معشار ما كان لمجاهرة التركي بها؛ لأن الترك هم أصحاب
السلطة في الدولة فهم من هذه الجهة كالمسلمين من سائر الملل ، فلما قال أحرارهم
هلُمّوا أيها العثمانيون نترك التعصب للجنس ونشترك بلقب واحد لا يقصد به امتياز
جنس على آخر لباهم الجميع حامدين شاكرين. فوجب أن نخصّ الجنس التركي
بالثناء الحسن قبل أن نتناسى أو ننسى أننا أجناس مختلفة. ولا بدع في جهر الترك
بذلك فإنهم كما صرحنا منذ بضع سنين أرقى العثمانيين تربيةً وتعليمًا، وأعلاهم أدبًا
وتهذيبًا.
(3)
بعد ذكر مسألتي الدين والجنس أذكر شيئًا من عمل الجمعية التي تلافت
ضررهما ، وسعت مع غيرها لخير العثمانيين كافّةً. ينضم العثمانيون الأحرار إلى
هذه الجمعية - جمعية الاتحاد والترقي - ويعمل الجميع لحفظ الدستور الذي نالوه بعد
السعي الحثيث إليه حتى اندمجت الجمعيات فيها أو كادت، وتدامجت معها كما
أرادت، وإن هؤلاء الأحرار المتحدين في هذه الجمعية هم الذين يديرون نظام
المملكة الآن، وقد ظهر من كفاءتهم واعتدالهم ما جعلهم موضِعَ إعجاب الأمم والدول
الأوربية كما تنطق جرائدها بلغاتها المختلفة. وقد مرّ على إعلان الدستور شهر أو
أكثر ولم يبلغنا أن أحدًا انتقد على الجمعية عملاً من الأعمال أو أدبًا من الآداب على
أن أوربا تراقبها مراقبةَ الناقد البصير الذي لا يحابي ولا يداهن حتى قلنا: إن
(مجلس المبعوثين) لا يرجى أن يكون خيرًا منها في الإدارة والإصلاح، ولا أقرب
إلى العدل والإنصاف.
ينحصر عمل الجمعية الآن في ثلاثة مقاصد:
(1)
تطهير الدولة ملكيتها وعسكريتها من المفسدين الذين ناط بهم الاستبداد
السابق أمورها.
(2)
تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوري.
(3)
تحسين الصلات بين الدولة العَلِيّة، وبين جميع الدول الأوربية، لا
سِيَّمَا ذوات السبق إلى الحرية كإنكلترا وفرنسا.
أما تطهير الحكومة من رجس أعمال الاستبداد السابق، فالمبادرة إليه من أهم
الضروريات قبل أن يجتمع مجلس المبعوثين وتلقي إليه الجمعية مقاليد السيطرة
والمراقبة، فإنه ليعجز أن يعمل في عِدّة سنين ما تعمله هي في هذه الأشهر التي
تتقدم اجتماعه كما يظهر لنا من الطريق السويّ الذي سارَتْ عليه في ذلك. فقد بدأت
بتطهير المابين والباب العالي ونظارة الحربية وأكثر الولايات في وقت واحد؛
فأخرجت من المابين رؤساءَ الفتنة والفساد ، وعزلت السر عسكر رضا باشا وناظر
الداخلية ممدوح باشا ، وسجنتهما مع تحسين باشا رئيس كتاب السلطان والشيخ أبي
الهدى أحد مستشاريه ، وفَرَّ مِن رؤساء المابين عزّت باشا ونجيب باشا ملحمه
وسليم باشا ملحمه إلى أوربا. وأخرجت من المابين أكثر الحجاب والكتاب والخَدَم
وممثلي الروايات وأجواق المويسيقات من النساء ، وحددت نفقات السلطان وراتبه
الشهري ، ونفقات قصره وجعلت جميع بطانته من الأحرار أعضاء جمعية الاتحاد
والترقي ، فآل الأمر إلى أن وضع هو على صدره شارة الجمعية ، وقال: إنه
رئيسها.
وكثر العزل والنقل في المعسكرات ، وهذا ضروري جدًّا؛ لتكون الجمعية
واثقةً من القوة التي هي سياج الدستور وعماد الأمن. وكذا في الدوائر الملكية. ولَمّا
رأى كثير من الخائنين أن إخوانهم في الفساد والتخريب يُعْزَلُونَ بادروا إلى الاستقالة
فكثرت بذلك الأعمال التي ليس لها الآن عمال، واختيار الأبدال عسر جدًّا مع
تحرّي الأَكْفَاء أصحاب النزاهة، فلذلك ترى أنه يجب على الجمعية أن تقبل من
عمال الاستبداد مَن لم يُعْرَفْ بالتجسس ولا بالرِّشْوَة، وإن كان ممن جروا على
مصانعة القوة، وأن تجري في ذلك على سنة التدريج فإن في العجلة مفاسدَ كثيرة.
وأما تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوريّ ، ومقت الاستبداد فقد سارت الجمعية
فيها على الطريقة المثلى بتأسيس شُعَب لها في كل مدينة ، يرتبطون باللجان العليا
في الآستانة وسلانيك وأوربا، وبحمل الشعب على المظاهرات وتجريئه على
الخُطَب الحماسية في تقبيح الحكومة السابقة حتى أفرط بعض الناس في ذلك إفراطًا
لا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ.
ثم إننا نرى بعين البصيرة ونسمع من أخبار البلاد أن كثيرًا من المنافقين
أعوان الاستبداد السابق ومُحِبّيه يتهافتون على الدخول في شعب الجمعية تعززًا
بالقوة واكتسابًا من السلطة، لا حُبًّا في الدستور وحِرْصًا على الحرية، ولكن قَلَّمَا
يرتقي هؤلاء بأنفسهم إلى أن يكونوا أعضاءً عاملين في الجمعية، كما صار يدعي
كل مَن كان يطعن في الدولة أنه مِن الأحرار طلاب الدستور. ونرجو أن يوفق
الأعضاء الصادقون إلى تمحيص شوائب هؤلاء الأوشاب ، أو إلى محقهم وتزكية
الجمعية مِن نفاقهم.
هذا ، وإن في البلاد نوعًا مِن جراثيم الفساد لم يبلغنا أن الجمعية قررت إزالته
على شدّة خطره على الحرية. ألا وهو عصابات الفساد من أشقياء الأهالي الذين
يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ، ويأوون إلى بعض الوجهاء
فينقذونهم من الحكام بالرشوة حتى بلغ من استهانتهم بالحكومة في بعض البلاد أن
زالت هيبتها من قلوبهم ، وصاروا يأتون المنكرات على مَرْأًى مِن شرطتها وهم
آمنون مطمئنون، فيجب على الجمعية أن ترشد الحكام الأحرار الذين تقيمهم الآن
إلى تعقب هؤلاء الأشقياء وتربيتهم بالشدة التي لا يطمعون معها في عودتهم إلى مثل
ما كانوا عليه في أيام الحكومة السابقة ، وإلاّ كانت فائدة الحرية للأشرار وغائلتها
على الأبرار.
وأما المقصد الثالث من مقاصد الجمعية ، وهو موادة الدول الأوربية، فقد
كانت فيه أحزم وأحكم منها في سائر أعمالها الحسنة، ولا نرى فيه شائبة نذكر بها
إلا الاحتراس من جفوة ألمانيا والنمسا، والله الموفق؛ فنسأله حسن الختام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المجلس النيابي لمصر
ذكرنا في الجزء الرابع من منار هذه السنة أن إنكلترا عازمة على إنشاء
مجلس نيابي في مصر وقد تلقى جمهور المصريين هذا الخبر بالدهشة والاستغراب ،
وعدّوه مناقضًا لما يستنتج من سيرة المحتلين في مصر وتصريحات لورد كرومر
في تقاريره وناظر خارجيتهم في مجلس النواب بلندره. وكنا نظنّ أنّ حركة القبط
التي شرحناها في الجزء الخامس مما يحتمل أن يحمل الإنكليز على إرجاء السماح
بإنشاء هذا المجلس إلى أجل حتى جاءنا نبأ جديد من أنباء أوربا السّرّيّة العالية بأن
القوم لا يزالون على عزمهم وأن مجلس النواب المصرِيّ يوشك أن ينعقد في السنة
القابلة.
لا أقول: إن كتابات القبط التي تتابعت على لندره لم يكن لها أثر فيها ، وإنما
أقول: إنه قد عارضها إعلان الدستور في الدولة العَلِيَّة ، واضطرار حكومة بريطانيا
لإظهار الرضا والابتهاج به ، وما اضطرها إلى ذلك إلا أخلاق شعبها وتقاليدها
القديمة الراسخة في حبّ الحرية ، ونصر الأحرار أينما كانوا وحيثما وجدوا، فرأت
وزارة الأحرار الإنكليزية أنه لا يليق بها أن تظهر الميل إلى الدستور في مكان ،
والميل عنه في مكان آخر على أن الإنكليز قوم يجارون الطبيعة ولا يقاومونها ،
ويعملون في كل حال ما يرونه يليق بها.
ويوشك أن يكون للوفد المصري الذي سافر إلى لندرة بزعامة إسماعيل باشا
أباظة تأثير حسن في المسألة، فإن إنكلترا يصعب عليها أن تؤدي هذه الخدمة لمصر
بطريقة يسهل فيها غمط حقها ، وإنكار فضلها ، وإسناد عملها إلى غيرها مع أنه لا
يمكن أن يتم في مصر أمر عظيم بدون رضاها مادامت جيوشها محتلة فيها.
_________
الكاتب: حسين وصفي رضا
كيف نستعمل الحرية [*]
أيها السادة الأحرار:
وقفت غير مرة مثل هذا الموقف بعد إعلان الحرية، وكنت في مواقفي الأُوَل
أرسل القول إرسالاً؛ لأن المواضيع متوفرة، والشعور بالحال أطلق اللسان من
عقاله، وفكّ الأفكار من أصفادها، بعد أن لبثت مُدّة ترسف فيها، حتى كدنا نيأس
من انتهائها، مع علمنا بأن لكل بداية نهاية.
ولكنني الآن أتلو عليكم خطبتي تلاوةً، لأنني سئلت أن أتكلم في موضوع لا
أتعداه، ومرتجل الكلام لا يستطيع حصره في موضوع واحد، لأن الخطب
الارتجالية حُرّة مثلكم أيها السادة فهي تَأْبَى التقييد، وقد جعلت موضوع خطابي هذا
(كيف نستعمل الحرية) لأننا أحوج إلى هذا الموضوع الآن من سائر المواضيع.
خاض الخطباء في تعريف الحرية وحدودها، حتى كادوا يضعون لها قيودًا،
ويخرجونها عمّا وجدت له، ولو كانت ذات شعور لعجبت كيف يحاول تقييدها
طلقاؤها! .
وكاد قوم بهذه النواحي يشوهون وجهها الجميل، ويشوشون مفهومها المستبين،
فظنوا أن الحرية تبيح للناس امتهان حكامهم، والنعي على صالحهم وطالحهم.
سادتي: إن من يدفع عن مركزه بقوة، إنما يرجع إليه مثل القوة التي دفع بها،
فإذا كانت المظالم زحزحتنا بقوتها الوحشية عن مكاننا، فنحن لا نرتكز في نقطة
إلا إذا دفعنا تلك المظالم في صدرها، وأنحينا باللائمة على القائمين بها.
الشعب الذي يغلو الحكام في ظلمه، يجب أن يتطرف في الحرية متى نالها.
الحاكم المسترسل بالظلم، الملوث بالرشوة، لا يفيقه من سكرة الاستبداد إلا
التقريع الفظيع، والتنديد الشديد، فهو كالعضو المخدر، لا يحس إلا بالوخز المؤلم
وربما لا يحس به.
كل هذا أيها الإخوان لازم بل واجب، ولكن لا يسوغ أن نجعله دينًا لنا حتى
كأنه هو المقصود بكلمة الحرية، إذًا نكون صرفنا الحرية عن معناها، ولم نعرف
كيف نستعملها، وحاشا ثم حاشا، وكلاّ ثم كلاّ.
أيها الشعب السوري العظيم، يا سلالةَ الفينيقيين الذين أدهشوا العالم، الذين لم
تَهَبْ سفنهم هجمات أمواج المحيط الأعظم، الذين ملأ ذكرهم بطون التواريخ، إنني
أحييك وأهش لك، أُحيّيك باسم الحريّة، وأناديك بملء ماضغيّ: أنت أسمى من أن
تضع الحرية في غير موضعها، وأنت أحق بها وأهلها، بل إنما وجدت لتكون لك
قبل كل البشر.
الحرية هي تمتع الشخص بما لا يضير به سواه، وصيانة الأفراد من عبث
الحاكمين، وسهولة سلوك السبل التي من شأنها إعلاء شأن الأمة، وتبسط أبنائها في
الحضارة والعمران، وعدم استكانتهم للظلم والهوان.
أبيح لنا القول أيها الإخوان، فاسترسلنا في القول، والقول مقدمة للعمل فيجب
أن نعمل أيضًا.
وضح لنا نهج المعين الذي ارتوى منه الإفرنج قبلنا، فلا يحسن بنا أن
نرتشف منه ارتشافًا، بل يجب أن نبتلعه ابتلاعًا إذا قدرنا.
أتيح لنا أن نعمل ما نشاء، فلا يليق بنا أن نعمل ما من شأنه إضعاف قُوَانا
وإنهاك جسومنا، بل يجب أن نعمل على ما يرفع شأننا، ويجعلنا في مَصَافّ الأمم
الحيّة الراقية، وبذلك نحسن استعمال الحرية.
الجمعيات هي أساس النجاح، ودعائم الرّقيّ، فيجب أن نؤسس جمعيات، لا
يسوغ أن تكون جمعياتنا لطائفة من الناس، لا يجوز أن تكون إسلامية أو مسيحية
أو يهودية مهما كانت وجهتها، وأنّى كان قصدها، بل يجب أن تكون عثمانية بحتة،
أنتم عثمانيون أيها الإخوان، فيجب أن تكون جمعياتكم عثمانية، الجامعة التي
تنضمّون تحت لوائها هي العثمانية، فاجعلوها جمعياتكم كذلك تحسنوا استعمال
الحرية.
عاشرت اثنين أيها الناس منذ بضع سنين اسمهما مشترك بين المسلمين
والنصارى، وأنا للآن لا أعرف إنْ كانا مسلمَيْنِ أو نَصْرَانِيَّيْنِ، ويجب أن
تكونوا أنتم كذلك أيضًا، يجب أن تتعارفوا بعثمانيّتكم لا بمذهبكم ونحلتكم، أليس
كذلك؟ بَلَى ، بَلَى.
المدارس الوطنية هي كل ما نحتاجه الآن؛ لننهض من كبوتنا، ونُقَال من
عثرتنا، وليس عندنا الآن مدارس وطنيّة بالمعنى الذي أريده، أريد بالوطنيّة التي
تضمّ الفِرَق والنِّحَل، وتنشئ طلاّبَها تنشئة واحدة، غايتها إعلاء شأن الوطن،
ووقاية الحرية بالمهج والأرواح، والمدارس هي نبت الجمعيات وبنتها ، فمتى
أنشئت الجمعيات فقد أسست المدارس، فأنشئوا الجمعيات أنشئوا الجمعيات تحسنوا
استعمال الحرية.
الجرائد هي القوة الكبرى والمدرسة التهذيبية، وهي ميزان أعمال الأمة،
وعنوان حالها، وهي المسيطر الرقيب على الحكومة ، بل إن رقابتها تتناول كل
شيء، وهي قائد الأمة إلى مواطن السعادة والهناء، والصادقة بها عن معاطن البوار
والشقاء، فيجب أن تكثر الجرائد بيننا ويعمّ انتشارها وبذلك نحسن استعمال الحرية.
الخطابة هي مدرسة الشعوب الثانية بعد الجرائد، ولها من العوامل في التأثير
الكبير، ومن البواعث على العمل المفيد، ما يرفع ويعلي، وينتاش الأمم من
الحضيض الأسفل، وينيف بها على يفاع المجد والسؤدد، وإذا كانت الجرائد للقراء
فقط فإن الخطب يتناولها سمع القارئ والأمي، ويستفيد منها العامل والجاهل،
والنشيط والخامل، والصانع، والزارع، بل هي لكل أحد، والخطابة الحرة كانت
ولا تزال من الدعائم التي يشاد عليها بناء التمدن الباهر، ويرتفع بها صرح المجد
الحقيقي، فالمنابر المنابر! ! ! لا تهملوا شأنها، ارفعوا أعوادها، ليرنّ صوت
خطبائها، ليهتفوا فلتدم الحرية، فبذلك نحسن استعمال الحرية.
التآلف بين الفِرَق والنِّحَل هو الضامن الوحيد لبقاء وَحْدَتنا، واجتماع قوانا،
والمحافظة على حريتنا، وبه نرد عادية المظالم، وندفع غائلة الظالم، وهو الذي
يجعل مجموع أفراد الأمة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى، أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، كما ورد في
الحديث الشريف، فيجب أن نتآلف، يجب أن نتآلف، يجب أن نتآلف، لنحسن
استعمال الحرية، فليدم التآلف.
إن استعمال الحرية يكون بالسير على النهج الذي أشرعته لكم أيها السادة،
وثَمَّة شئون أخرى، يضيق مثل هذا الموقف عن استيعابها، ولنا من حزم رجالنا
خير كفيل للسير على النهج السوي، والطريق المعبّد، والأمل معقود على أن
يبينوها بالعمل لا بالقول.
بقيت لي كلمة أُرَانِي مُلْجَأً إلى الجهر بها، قبل نزولي عن هذا المنبر، تلك
الكلمة هي إعلان استيائي واستياء العقلاء، ممن يذهبون إلى أن الحريّة منحة أو
هبة من شخص معلوم، إن هذا القول لا يليق صدوره من الأحرار، إنه كذب
وخيانة ونفاق، وليست هذه الخصال من الحرية في شيء، إن الحرية هي حق
للشعب يسلبه منه بعض الظالمين سلبًا، فنيل الشعب له إنما هو استرداد لحقه
المغتصَب منه، وليس من الهبات والمنح، الحرية ليست ملكًا للحاكم ولا للسلطان
فكيف يهب الإنسان ما ليس بملك له.
هذا ، وإنني أشكر لجيشنا الباسل سعيه الكبير، وعمله العظيم، الذي خالف به
كل جيوش العالم، منذ وجد الجيش وأسست الجندية، فإن الجيوش في كل الأدوار
والأجيال، كانت يد الظالم القوية، يستعين بها على قتل روح الحرية، ولا أذهب
بالاستشهاد بكم بعيدًا أيها السادة، بل أُلْفِتُ أنظارَكم إلى فظائع جيش العجم،
ومنكرات جيش روسيا، وكيف يمثلون بطلاب الحرية أقبح تمثيل عملاً بإرادة
المستبدّين، وتنفيذًا لمقاصد الظالمين، فليمت المستبدّون، وليسحق الظالمون.
وأشكر أيضًا لرجال جمعية الاتحاد والترقي العثماني، ولكل رجال الإصلاح
الذين وقفوا حياتهم، وخاطروا بأرواحهم، في سبيل استرجاع الحرية، وأصرح بأن
جمعيتهم قامت بما لم تقم به جمعية في العالم منذ أسست الجمعيات، فإنها كانت سببًا
في إحياء شعب بأسره، لأن الشعب المستعبَد هو والميت شرع، هذا مع اعترافي
بما للجمعيات من الأثر المحمود في خدمة النوع الإنساني.
وأسأل الله أن يوفقنا للسير على ما يُعْلِي شأنَ أُمَّتِنا، ويرفع مقام دولتنا،
ويحفظ علينا نعمة الحرية مادامت السموات والأرض. اهـ.
(المنار)
جاءنا من بيروت أن الجمع المحتفل قد صفق للخطيب تصفيقا شديدًا،
وهتف بالدعاء له وللمنار هتافًا كثيرًا.
_________
(*) خطبة من الخطب التي ألقاها في إحدى احتفالات الحرية ببيروت السيد حسين وصفي رضا، شقيق صاحب هذه المجلة (المنار) .
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(6)
الفصل الحادي عشر [*]
(الحب الشريف)
إن أشرف السِّيَر سِيَر أهل الفضيلة، وما الفضيلة إلا من خصائص النفوس،
فمن كان من عشّاق الفضائل حسن به أن لا تفتر نظرات بصيرته إلى النفس، فهي
مستقرّ الخوارق، ومستودع العجائب.
النفس مَجْلَى الآيات الكُبَر، ومهبط الفيوضات العُلَى، والمرآة العظمى التي
ينكشف بها الأزل والأبد، والمطبعة العظمى التي ترتسم بها الأشياء وتتكثر الصور.
هي السلك الممدود بين مبدع الطبائع، ومقيم الشرائع، وبين الجواهر المتألفة
الصامتة، والظواهر المسخرة المطيعة، فهي خليفة عليها، واقفة على خطواتها،
مشرفة على حركاتها، وهي مجذوبة من طرف إليها بجاذبية الأنس والعادة،
ومجذوبة من طرف آخر إلى مصدر بوارقها بجاذبية الحبّ والشوق، فبانجذاب
النفس إلى الظواهر تأخذ الظواهر حظّها من الانكشاف، وبانجذاب النفس إلى مانح
الظهور تأخذ النفس حظّها من الشهود والإشراف، فيحق لها في الحالتين أن تتمجد
بما ميّزها به فاطِرُها تَباركَتْ عظمتُه، وتعالى شأنه.
أعظم خصائص النفس الحب والبغض، بل إن هاتين الطبيعتين المتضادّتين
أعظم نواميس الأكوان والموجودات كلها، لكن اختلفت المحبات، وتباينت الأشواق،
وأُوتِيَتِ النفس الإنسانية أعظم نصيب من هاتين الطبيعتين لاتساع المحيط الذي
تدور فيه، ولاتصالها بعالم الحسّ وعالم الغيب، وترددها بالانجذاب بينهما فهي إن
وقفت يومًا مع الظواهر أنست بها ، فعشقتها لما رشّ عليها مبدعها من الحسن الذي
هو وصفه، وإن ارتفعت إلى المبدع دهشت فتولهت لما هنالك من المجالي الأزلِيّة
التي تطير السرائر شوقًا إلى التمتع بها.
الفضائل والرذائل، الخيرات والشرور، الحزن والسرور، الرغبة والرهبة،
الإقدام والإحجام، الكسل والنشاط، الارتفاع والهبوط، كل ذلك من مبتدعات الحب
والبغض وآثارهما، وكل درجة من هذه الأشياء فإنما هي على مقاييسهما، هما
بالاختصار رُكْنَا السعادةِ والشقاء، فمن هُدِيَ إلى تصريفهما والجري بهما على سُنَّة
مُثْلَى فقد أهديت إليه السعادة ، وأُوتِيَ بالحب الشريف والبغض الشريف حظًّا مِن
الخير عظيمًا.
كانت السيدة (خديجة) ذاتَ قلب طاهر، والقلب الطاهر مركز الحب
الشريف، فماذا أحبّت سيدتنا هذه؟ كان قلبها تواقًا إلى معالي الأمور، عظيم الشنف
بمحاسن الأخلاق، وقد أمدّ الله فطرتها إمدادًا عظيمًا فقويت معرفتها بالمكارم،
وعظم علمها بأن الفضائل هي التي تليق بالإنسان، سواءٌ وقفت نفسه مع هذه
المحسوسات ، أم أرادت أن تندرج في زُمْرَة عُشّاق المجالي الأزليّة.
عرفت هذه السيدة صلة النفس الإنسانية بمن منه انشقت أسرارها، وانفتقت
أنوارها، فكان لها تشوف إلى جود عظيم يفيض عليها من العناية الربّانِيّة، كما هو
شأن ذوي السرائر الصافية، وحصل لها من هذه الحالة الطيبة قوة فراسة،
والفراسة نور، فكانت تهتدي بها فيما هي حائمة الروح عليه من الفضائل، ومن
أحب شيئًا أحبّ أهله من أجله، فلما عرفت ابن عبد الله ووجدت فيه ما يعشق من
المزايا العَلِيّة، انتثرت حَبَّةٌ من تلك المحبة الشريفة التي كانت بها تنشد المكارم ،
فوقعت في محلّ مِن قلبها لتنبت شوقًا إلى هذا الرجل الصالح الذي ألفت المكارم كلها
لديه، وأيقنت أن معرفتها هذا السعيد بمزاياه العظيمة هو أعظم الآثار التي كانت
تتشوف إليها من لَدُن العناية المرجوة.
الآن وجدَتْ مُحِبَّةُ الفضائلِ والمحامد أعظم مَن تتجلى الفضائلُ والمحامِدُ فيه،
فكيف ينفر منه قلبها؟ بل كيف لا يميل إليه فؤادها؟ فالأمانة هو ذلك الشهير فيها
وقد سبرته في متجرها فربحت بواسطته أضعافًا، والشجاعة هو المنشأ فيها على يد
عظيم الهمة أبي طالب، والنباهة هو الذي تسطع في محيَّاه طوالعها، والحكمة هو
الذي تقرأ في سيماه آياتها، والعفة هو ربها، والمروءة هو مجمع شواردها،
ومحاسن الخلقة هو النسخة الصحيحة منها، فأي الفضل تنشد بعد هذا مُحِبَّةُ الفضل،
وأي المحامد تريد بعد هذه مريدةُ المحامد؟ كمال خَلْق وكمال خُلُقٍ، جمال شخص
وجمال نفس، حنكة لم يظفر بمثلها أقرانه مِن الشُّبَّان، ووقار لم يحظ بأقلّه الكبار،
وهمّة لا تقف أمامها الصعاب، وعزيمة لا تني أمام الثقال، قوي شديد، حليم رشيد،
كما يقول فيه عمه أبو طالب وهو به جدير:
فمن مثله في الناس أي مؤمّل
…
إذا قاسه الحكام عند التفاضل؟
حليم رشيد عادل غير طائش
…
يوالي إلهًا عنه ليس بغافل
لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ
…
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة
…
تقصر عنه سَوْرَة المتطاول
فما أكثر غبطة السيدة (خديجة) إذ عرفت هذا السيد الجليل، وما كان
أجدرها بأن يتعلق قلبُها الطاهر به، وما أقوى نور فراستها إذ علمت أنه لا نظير له،
وأن سعادتها لا تتمّ إلا به، وما أحقها أن تغتنم الفرصة وتسبق إلى تزوّج هذا
الشريف الذي جمع إلى شرف النسب شرف الخلال.
* * *
الفصل الثاني عَشَرَ
(تفاؤلٌ هذا وقتُه)
كانت الكهانة شائعة في ذلك الزمان كما هو شأنها في كل الأزمنة إلى زماننا
هذا، وكان علماء التوراة ينبئون دائمًا بظهور نبيّ مُنْتَظَر، وبعضهم كان يقول:
إنه سيظهر مِن العرب، والراهب بَحِيرَا تفرّس بابن أخي أبي طالب إذ كان معه
صغيرًا ، وقال له: سيكون لابن أخيك هذا شأن! ولم يكن بعيدًا عن المألوف أن
يخبر بعض الناس بالمغيبات ، ولكن لم يكونوا يصدقون كل شيء من هذا القبيل ولا
يكذبون كل شيء كما هو الشأن في أهل زماننا أيضًا.
وقد كثر التكهّن قبيل ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أكثر الناس
لم يكونوا يبالون بتلك الأخبار؛ لأنهم تَعَوّدوا أن يروا شيئًا من كذب الكهانة مع
مصادفة صدقها أحيانًا، فلم تكن الثقة بها في الحقيقة تامّة، ولا سِيَّمَا في الأمور
العظيمة.
وبينما نساء من قريش مجتمعات في عِيدٍ لهُنّ في الجاهلية، إذ تمثل لهن رجلٌ،
فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساءَ مَكَّة، سيكون في بلدكن نبيٌّ يُقال له أحمد،
فمن استطاع منكن أن تكون زوجًا له فلتفعل. فَكَذَبْنَهُ وَرَمَيْنَهُ بالحصى، وكانت
فيهن (خديجة) فلم تَرْمِه كما رَمَيْنَه.
لم يكن هذا المنبئ كاهنًا معروفًا، فلذلك احتقره النساء؛ لأنهن لا يعبأن في
الغالب إلا بأهل الشهرة. ولكن كان قومهن يعتقدون بالهاتف، وهو على اعتقادهم
روح ينطق بالشيء مِن حيثُ لا يُرى، أو يتمثل بصورة بشرية فيقول قولاً من هذا
القبيل ثم يغيب، فكأن السيدة (خديجة) اعتقدت أن هذا المنادي هاتف، فلم ترمه
كما رماه ترائِبُها، ولعلّها صدقت إذ ذاك وتفاءلت خيرًا، ورجت أن تكون صاحبة
هذا الحظ.
وإن صحّ ظننا هذا بالسيدة كان لنا دليل جديد على عظيم تطلعها إلى بركات
الجناب القُدُسِيّ، فإنّ الرغبة في تزوج المنعم عليهم بالنبوة لا تعظم إلا من العارفة
بذلك الجناب الأَعْلَى الذي يتفضل بخلعة النبوة على مَن يشاء.
كانت النبوة معروفة عند قومها بما سمعوه من أخبار أنبياء جيرانهم بني
إسرائيل، ومعروف أن النبي رجل كالرجال ، ولكن يصطفيه الله ويرفع درجة نفسه
على درجات سائر نفوس البشر، حتى يطلعه على ما لم يطلع عليه أحدًا من أسرار
عالم الغيب، وليست النبوة ملكًا أو حظوظًا زائدة مِن نعيم الدنيا، بل جلّ الأنبياء
الذين سلفوا كانوا مقلين ، ولم يكن حظهم إلا مقاومة الناس إياهم وتعذيبهم،، والنساء
إنما يرغبن بالنعيم والرفاهية ورغد العيش وكثرة الحلل والحلي، وكل هذا لا يرجى
لدى الأنبياء الذين تنصرف أنظارهم عن متاع الغرور، ويلتفتون إلى ما فيه غِبْطَة
الرُّوح، فلا تَتَصوّر السعادةَ من النساء عند الأنبياء إلا اللاتي أنعم الله عليهن بسلامة
الفطرة وقوة الاستعداد كالسيدة (خديجة) .
ولما رجع عبدها (ميسرة) من الشام في تلك السفرة التي ذهب بها مع
الهاشمي (محمد) أخبرها بأحوال غريبة رآها منه لا يكون أمثالها إلا لمن سمعت
أخبارهم من الصالحين المباركين، فما لبث أن رنّ في قلبها صدى ذلك الصوت
الذي سمعته بأذنها، صوت ذلك المنادي في النساء المجتمعات اللاتي كانت معهن في
العيد، وكان هذا الصدى الذي رنّ في قلبها تتألف منه هذه الكلمات:
(تفاؤل هذا وقته) .
* * *
الفصل الثالث عشر
(الخواطر في قلب خديجة)
كانت (خديجة) تعرف أن ليست النبوة بالكسب والاجتهاد، وإنما هي محض
عطاء واختصاص من الحيّ الأزلي الدائم، ولكن كانت تعيد على خواطرها ما حكاه
لها عبدها (ميسرة) ويرنّ على أثره ذلك الصدى في قلبها فتقول في نفسها: أيّ
مانع يمنع رجائي بفضل الله بأن أكون صاحبةَ الحظِّ مِن الرجل المبارك الذي أنبأ به
الهاتف؟ أيّ مانع يمنع فضل الله عن قومي إذا أراد أن يخرج منهم ذلك الإنسان
الذي يقول عنه علماء التوراة، وكان لها ابن عم من جملة علماء هذا الكتاب.
ثم إذا مر بقلبها خاطر آخر يقطع عليها هذه الآمال وينهاها عن هذه الأحلام -
التي كانت تراها في اليقظة - ترجع إلى الشيء المحقق الذي لا ينازع فيه خاطر ولا
يماري فيه حِجًى وهو ما تحلّى به ابن عبد الله من صفات الكمال، فتتمثل في فكرها
تلك الطلعة السّنِيّة ، ويلمع أمامها برق من تلك العينين الدعجاوين، وتنسى الشمس
وسائر الدراري حين تذكر دائرة ذلك الوجه المتألق، ويَقْوَى إيمانها بالملائكة إذ ترى
في هذا الشخص البشريّ آياتِ القُدُس والطهارة، فتقول في نفسها: أفليس حسبي أن
أكون ربة النصيب من فتى قريش الوحيد الذي كَمَّلَه الله، إن لم أكن صاحبة الحظ
من الصالح الذي أنبأ به الهاتف.
ثم تتراجع إليها الخواطر ويقلبها ذلك الحب الشريف الذي نَمَتْ حَبّته في قلبها
على ضروب من الحيرة ، فتقول في نفسها مرَّةً أخرى: مَن لي بهذا المكمل الذي
مَالَ إليه قلبي، وحامت حوله خواطري، وعكفت في دائرة محاسنه نفسي، أليست
تمنع العادات بأن أكون أنا الخاطبة؟ أفّ للعادات ما أثقلَ أحكامَها! وما أظلمَ
قضاءَها! وما أشدَّ عتمةَ مسالكها! وما أسوأ عواقبَ الجمود عليها! وما أبخس
صفقة الذين لا يتزحزحون عنها!
نعم، نعم، أُفٍّ للعادات، فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة
من التقليد الضارّ ، وحجبت عنهم أنوار التبصير والتدبّر والتفكّر ، فانطمست عليهم
سُبُل الارتقاء في معارج الاستحسان والتحسين ، وغمت عليهم مطالع السعادة
الحقيقية للنفوس.
أُفٍّ ثم أُفٍّ للعادات؛ فهي قاطعة الطريق على نتائج العقول ، تزجّ بها في مهاوي
العدم، أو تذرها في سجن أقفر ممنوعًا عنها كل ما يربها، ويا عجبًا لبني آدم الذين
يضعون العادة في هذا المكان من الحكم على نفوسهم والقضاء على عقولهم وقلوبهم،
أليس لهم ما يذكرهم بأن العادة من صنعة أيديهم وتصوير أحلامهم، أليس لهم ما
يبصرهم بأن العادة يجب أن تكون تابعة لا متبوعة، ومنقادة لا قائدة، حتى إذا
فتحت أمام بصائرهم أبواب أُخَر لما هو خير وَدَّعُوا عادتهم تلك محمودة على قدر ما
نفعت، ومذمومة على مبلغ ما أضرت، واستقبلوا أخرى مصاحبيها على مقدار ما
يدوم من أسبابها، وينفع من أبوابها.
تبرمت (خديجة) بالعادة كثيرًا، وتأففت من تقلبها طويلاً، وسردت كل
سيئات الجمود عليها في نفسها التي هي أعلى من نفوس الغافلين عن المقدمات
والنتائج، لما خصها الله من سلامة الفطرة، وفضل الفطنة، وقوة آلة المعرفة،
ومزيد حرارة الهمة.
ثم عادت تعذر الضعفاء الذين لا يستطيعون التغلب على الثابت الراسخ وهم
الأكثرون، وتذكرت أسباب رسوخ بعض العادات، ومنها وفرة فوائدها في أوقات
سلفت، وأحوال مضت، ورأت أن الناس يرثون من السالفين كل شيء ولا يميلون
إلى التغيير حتى يميل بهم الدهر ميلة شديدة على يد عاصف من الحوادث، أو هبة
شديدة من إرادة بعض الأشخاص، وكم دكت الإرادات القوية أطودًا من العادات،
ربما كانت هذه السيدة تستطيع التغلب على العادة فلا تجد بأسًا بأن تخطبه
بنفسها، لأنها كانت قوية الإرادة، ولكن من لها بأنه لا يرد خطبتها وهي أرملة في
الأربعين من العمر، وهو في الخامسة والعشرين ، يَشِفّ مُحيَّاه عن ماء الفتوة،
وينشر شذى الشباب، والمرأة مهما قويت إرادتها تتذكر الخيبة فيغلب إحجامها
إقدامها، وهذا بعض أسباب العادة في أن تكون هي المخطوبة.
ما أصعب الخواطر على المرأة التي تجد ضالتها من السعادة ولا تستطيع
الإقدام على تحصيلها! هي صعبة على الرجل أيضًا، ولكنها على المرأة أصعب،
لأنها أضعف على كل حال. بَيْدَ أن ضعفها الذي زينها الله به في عين الرجل به
تمت نعمتها وعلت كرامتها لديه. فقوة الخفر والحياء من ضعفها، وذلك أعظم حلية
طبيعية تزدان بها، ومن عطل من هذه الحلية منهن رغب عنها الكرام من الرجال،
وشدة الرحمة من ضعفها وما أعلى وأجمل وأزين هذا الضعف الذي بدونه تمقت
المرأة. والجبن من ضعفها ولولاه لما حصل الاعتدال في اقتسام الأعمال بينها وبين
الرجل.
فماذا تصنع قوة إرادة السيدة (خديجة) أمام شدة خفرها وحيائها، وماذا تنفع
شجاعتها أمام خشيتها من الخيبة، وماذا تجدي قوة عزيمتها وصبرها عند المزعجات
من خواطر الحب الشريف الذي ملأ قلبها الطاهر بعد أن كان حبة صغيرة ألقيت فيه.
اللهم رحماك ، فليست القلوب من حديد، ولم تقدّ من صخر، إن نسيم
الخواطر فيها يصدع إن جاءها برائحة اليأس، ويرأب إن أتاها برائحة الرجاء،
وكذلك كانت خواطر السيدة (خديجة) صادعةً ورائبة، بَيْد أن رجاءها كان أغلب،
ولو كشف لها الغطاء عمّا يحف بها من السعادة المغيبة عنها إذ ذاك لانقلب رجاؤها
يقينًا؛ ولكن لتستكمل الغرائز حظها من النفوس كُتِبَ على الإنسان أن يُغيَّب عنه
آتيه من السعادة والشقاء فترى منحوسًا يضحك ويلعب والشقاء يساوره عما قريب
يأخذه بياتًا أو يصبحه وعاء صباحًا. وترى مسعودًا يتململ ويمسي ويصبح على
مضاجع الحيرة والأرق واجمًا سادمًا والسعادة من حوله مرفرفة بأجنحتها ستقف عما
قريب على رأسه وتشمله ويتبارك بها بيته.
فما أشد حاجة هذه السيدة السعيدة في مواقف حيرتها تلك إلى هاتف يبشرها
بقرب اتصال السعادة التامّة بها. ما أشد حاجتها إلى من ينبئها بأنها هي الجوهرة
النفيسة التي أعدت لذلك الذي ميزته العناية الأزلية أكمل تمييز. ولكن ليظهر مزيد
فضلها في الميل إلى رب الفضائل والمكارم التي لا تُبارَى حُجِبَ عنها كل هاتف
وحُبِسَتْ عنها البشرى حتى أخذت الخواطر حظها من قلبها الكريم وتمكن منه كل
التمكن ذلك الحب الشريف لذاك الذي أجمعت فيما بعد قلوب الملايين التي لا تحصى
على حبه.
* * *
الفصل الرابع عشر
(الزواج)
لا بدع إذا قلب الشوق نفوس المحبين في يد الخواطر، كالكرة بيد اللاعب،
فإن قوام الكائنات بشوق ذراتها بعضها إلى بعض، وكان جديرًا أن يتجلى هذا
المعنى بزيادة في غريزة خليفة الله في الأرض، نعني الإنسان. كيلا يكون بنو آدم
وحواء أنقص من الجمادات حظًّا في هذا الناموس الكبير الفائدة.
فبعد أن تمكن من (خديجة) الشوق الشريف هذا التمكن أصبحت جديرة أن
تتناول هدية سعادتها، وتنكشف لها الحجب عن الرحمة التي ترعاها، فهبط على
قلبها خاطر جديد كان به الوصول إلى النعمة الجديدة.
خطر لها أن تبعث إلى الذي سكنت مكارمُه ومعاليه فؤادها رسولاً تسبر به
رغبته وتستنبئ به سعدها مما ينزل على قلبه من الإلهام بهذا الشأن وساقها إلى هذا
الخاطر قوةُ رجائها بالله سبحانه وحسن ظنها بأن هذا المكمل لا يرد رغبة مثلها ،
وهي الجامعة لصنوف من المعالي يقل اجتماعها في سواها.
كانت لها صديقة اسمها (نفيسة)(وهي أخت يعلى بن أمية) فقصت عليها
حديثها وائتمنتها على هذه الرسالة، ولم يكن بالصعب أن تؤدي الصديقة هذه الأمانة؛
لأنها ستتكلم كأنها صاحبة رأي تشير به حتى إذا وجدت مجالاً كانت وكيلة بإبداء
القبول.
لم تكن النسوة إذ ذاك محتجبات ولم يَكُنَّ ممنوعات من مكالمة الرجال، فلم
تكن رسول (خديجة) محتاجة إلا لشيء من قوة الجنان أمام ذلك المهيب العظيم،
وقد أمدت من سعد مرسلتها بحظ منه.
ومن يكن راعيه السعد فقل
…
ما شئت في تيسير ما يرجوه
جاءت (نفيسة) هذه ابن عبد الله، وفي القبيلة الواحدة يعرف الناس بعضهم
بعضًا، فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج، فاعتذر لها بقلة المال اللازم للقيام بشئون
العائلة، قالت له: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة، قال لها:
(ومن؟) قالت له: (خديجة) .
قالت هذه الكلمة وصمتت تنتظر ما سيبدو منه، وأحدث هذا الكلام حركة في
فؤاده، وبأي شيء يتحدث هذا الفؤاد الطاهر حينئذ إلا بقوله: خديجة الشريفة
المعروفة بالطاهرة؟ هي المناسبة، هي الموافقة، هي الصالحة، اذهبي يا نفيسة
فإني سأخطبها.
فرجعت تحمل هذه البشرى، وكانت ميمونة النقيبة في هذه الرسالة، فالله يعلم
كيف أجزلت السيدة خديجة كرامتها ولم تنتظر كثيرًا حتى أتى خاطبًا ومعه عمه
حمزة، فقال عمها عمرو بن أسد بن عبد العُزّى:(هو الفحل لا يقدع أنفه) وهو
مَثَل عربي، يقال للكفؤ الذي لا يُرَدّ إن خطب.
ما كان هذا الخاطب الكفؤ غنيًّا إذ ذاك، ولكنه لم يكن أيضًا معدمًا فهو من آل
عبد المطلب العامرة بيوتهم بقرى الضيفان وإغاثة اللهفان، ففي هذا السبيل تذهب
أموالهم ، ثم يخلف الله عليهم من وجوه المكاسب وأبواب المرابح بما أوتوا من الهمم
والشمم، ولم يكن اعتذاره ذلك اعتذار المعدمين، وإنما هو اعتذار المتربص أن
يتوفر له مقدار أكبر. فمع قلة ماله في ذلك الحين أصدقها عشرين بَكْرة؛ لأن
إعطاء الرجل للمرأة صداقًا سُنّة عربية، لم يكن ليحسن تركها.
والزواج العربي ليس محتاجًا إلى رؤساء ديانات، ولا تلاوة الرؤساء صلوات،
بل هو عقد كسائر العقود المدنية يتوثق برضا المرأة وأوليائها ورضا الرجل،
فبخطبة من الرجل وتقديمه الصداق وإجابة من المرأة وأوليائها تصبح المرأةُ زوجةً
شرعيةً للخاطب. وهكذا أصبحت (خديجة) الطاهرة زوجة (محمد) الأمين بكلمة
أعلنها عمها عمرو بن أسد، فما أعظمها مِن كلمة جمعت بين القمرين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) من سيرة السيدة خديجة.